نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
إن المدرسة مؤسسة اجتماعية تربوية تمثل جزء من النظام الاجتماعي ،لا يمكن أن تقوم
بعملية التطبيع الاجتماعي بمفردها أو بمعزل عن بقية المؤسسات التربية الأخرى ،وحتى
تؤدي المدرسة واجباتها في تحقيق أهدافها لا بد أن تتفاعل مع المجتمع فتربية النشء لن
تتحقق دون تعاون وثيق بين مؤسساته.
ويرى (متولي وآخرون1415،هـ) أن عبء التنشئة الاجتماعية تتحمله جميع
الوسائط التربوية فالفرد يتأثر في تربية وتنشئه بالمحيط الاجتماعي كله ،وهذا يتطلب التعاون
والتنسيق بين كافة هذه الوسائط التربوية من أجل تحقيق التكامل في عملية التربية ،وتعمل
المدرسة على تنسيق الجهود التي تبذلها الوسائط التربوية في المجتمع.
وبما أن الانحراف الفكري وهو نقيض الأمن الفكري يؤدي إلى التفرقة والانقسام
الاجتماعي لذا تتحمل مؤسسات المجتمع مسؤولية تحقيق التكامل الاجتماعي في التنشئة
الفكرية ،بتحقيق النمو المتوازن الشامل للطلاب إيمانياً وعلمياً وجسمياً ونفسياً واجتماعياً
وفكرياً ،ليتحقق التكيف الاجتماعي في عصر يتسم بالانفجار الثقافي لأخذ المفيد
ومقاومة الضار والمتعارض مع مقتضيات الدين الإسلامي.
ولا يمكن أن تؤدي المدرسة دورها التربوي بمعزل عن المؤسسات التربوية الأخرى،
ولذا يتوجب على المدرسة تذليل الصعوبات في سبيل تعزيز الأمن الفكري من خلال
التواصل والتفاعل مع مؤسسات المجتمع التربوية الآتية:
(أ) الأسرة:
تعتبر الأسرة المؤسسة التربوية الأولى لما لها من خصائص أساسية مميزة لها عن سائر
المؤسسات الاجتماعية ،فهي كما تعد أساس التكوين العقدي عند الطفل لقول الرسول
« :ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه »...
الحديث (البخاري ،ج ،4ص ،)1792فهي تتحمل أيضاً مسؤولية تربيتها لقول الله
تعالى﴿ :يا أيها اللذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ﴾..الآية [التحريم ،]6:وقول الرسول
« :كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (البخاري ،ج ،1ص.)1981
336
الفصل السابع عشر
وإذا كانت الأسرة "تعمل على الاستمرار المادي للمجتمع بإمداده بأعضاء جدد عن
طريق التناسل ،وبهذا تحفظ كيانه العضوي ،فإنها تتولى أيضا الاستمرار المعنوي لهذا المجتمع
وذلك بتأصيل قيمة ومعايير سلوكه واتجاهاته وعوائده وطرائقه عند الأطفال هذا المجتمع،
بهذا تحفظ كيانها الثقافي" (الرشدان .)304 ،2005 ،ويعتبر الخطيب ( )2005الأسرة
هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تحقق أول وأبرز وأقوى صورة للأمن لدى أفرادها،
وبقدر ما تكون صورة الأمن في الأسرة قوية بقدر ما يتأثر أفرادها باستيعاب وامتثال وتمثل
الحالة الأمنية في نفوسهم ،لذلك فإن الأسرة المفككة والأسرة المستهترة والأسرة الجانحة
تحتاج إلى التدخل السريع من مؤسسات المجتمع كلها ،ولا ينبغي تركها بعيداً عن متناول
التنظيم الاجتماعي القانوني ،ومن ضمن هذه المؤسسات المدرسة التي تستطيع كشف
ذلك من خلال التعامل مع أبنائهم وعملية التواصل مع أولياء الأمور ،وحتى لا يصل
الأمر إلى تأثير على الأبناء لا بد من تحصين فكر الطلاب ،بمعالجة أي جنوح لدى الأسرة
،ومن ثم يتم السعي لتحقيق الأسرة لدورها في مجال وقاية أفرادها من الانحراف والجريمة
من خلال أسس منها ما ذكره الشقحاء (:)2004
▪ تحقيق العدالة والمساواة واحترام الحقوق.
▪ الارتقاء بالأحوال الشخصية والاجتماعية والارتقاء بمستوى الحياة.
▪ تعليم الأدوار الاجتماعية والإيجابية.
▪ تعزيز وتثقيف الأفراد باللغة والقيم والأعراف والتقاليد والسلوك المقبول.
▪ تحقيق الضبط الاجتماعي والتماسك والتزام الأفراد بالمعايير الاجتماعية.
وتشترك المدرسة مع الأسرة في "تثقيف الأبناء ثقافة متزنة ،لأن الجهل بالدين قد يوقع
الكثير من الناس في مخالفات شرعية وعقدية ،وبالتالي على الأسرة والمدرسة العمل على
تحصين الأبناء في مواجهة الانحرافات الفكرية ،بشرح تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة
حيالكل منها " (المالكي .)2002 ،2006،
لذا يؤكد البقمي ( )2008على أهمية قيام المدرس بالتنسيق والتكامل مع
الأسرة والتواصل المستمر من خلال الاجتماعات الفردية ،ومجالس أولياء الأمور بشكل
337
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
فعال وتفهم ظروف الطلاب الاجتماعية والأسرية ومساعدتهم ،والتعاون مع الإرشاد
الطلاِب من حيث المتابعة والعمل على حل مشكلاتهم ورفع مستوى وعي الأسرة وثقافتها
في جميع المجالات وخصوصا الدينية من خلل تنظيم محاضرات لأولياء الأمور بالتنسيق مع
دعاة الدين والخطباء والتربويين والمثقفين ،وحثهم على التواصل مع إمام الحي وحضور
المحاضرات الدينية المقامة في المؤسسات الدينية ،بالإضافة إلى توعية أولياء الأمور ،بضرورة
متابعة أبنائهم وتحذيرهم من متابعة القنوات الفكرية ومواقع الانترنت المنحرفة لئلا ينجرفوا
إلى غياهب الفساد.
(ب) المسجد:
يرى سرحان ( )1981أنه لا غناء لنا عن الاستفادة من التأثير العظيم الذي تحدثه القيم
الروحية في نفوس الأفراد ومن قدرتها على تطويع الشخصية الإنسانية تطويعاً يضم خير
الفرد وسلامة المجتمع ،ثم إننا لا غناء للمجتمع عن تأثير هذه القيم في تحقيق أهدافه
ومبادئه وقيمة التربوية التي يسعى إليها.
ولقد تطورت المؤسسة الدينية في العصر الراهن تطورا كبيرا في النواحي الفنية،
ومن حيث المرافق والتجهيزات إلا أنها لم تتطور بما يكفي في الوظائف والمسؤوليات
والأدوار ،حيث تركزت جهود المؤسسات الرئيسة على جوانب الصلاة وجمع الأموال
لصالح المحتاجين أسبوعيا .ويعتبر النحلاوي ( )2006المسجد مؤسسة تربوية تسهم في
تكوين المجتمع المسلم والتأليف بين أفراده ،وجمع شملهم ،وتكوين ثقافتهم الاجتماعية
وتصوراتهم المشتركة فصلاه الجماعة في المسجد رمز لوحدة القلوب وحرص على وحدة
الجماعة.والمسجد يلعب دورا بارزا بالغ الأهمية في ضمان الأمن الفكري من خلال جوانب
عدة منها ما أورده الخطيب ( :)2005تقديم التربية الدينية لمختلف الفئات المجتمعية
بشكل عام أو متخصص .ونقل الحدث العالمي إلى شرائح المجتمع وفق المنظور الديني
الذي يعبر عن الثقافة السائدة أو الفائدة فيه دون مغالاة ودون تقليل من أهميته .والتنوير
الديني الذي يتجاوب مع ظروف الحياة المتغيرة ،ومع الأحداث المعاصرة ،وفق منهجية
معتدلة ترتكز على مبادئ الوسيطة وتطبيقاتها.ومجابهة الحملات الفكرية المضللة أو المشوهة
338
الفصل السابع عشر
أو المغرضة على الثقافة المحلية ومصادرها ونظمها .وحماية الفكر المحلي من الانحراف
ومجابهة التيارات الفكرية الدخيلة التي لا تخدم البيئة المحلية ،أو قد تتعارض مع مصادر
التشريعات الدينية القائمة .وتوفير الوقاية الاجتماعية لكافة فئات المجتمع وشرائحه من
الوقوع في براثن الفكر المتطرف أو الإلحاد أو الفتن .وتوجيه الرأي العام نحو المسائل
الدينية ،وضرورة تطبيق الأحكام الشرعية في الدين بما يخدم الصالح العام .والتكامل مع
أجهزة المجتمع الأخرى كالأسرة والمدرسة والإعلام وغيرها.
كما أن المسجد يشترك مع المؤسسات التربوية للوقاية من التطرف والانحراف
الفكري ،بل إنه قد يكون المسئول عن مسببات الانحراف الفكري الدينية ،من ناحية
الجهل بالشريعة وأحكامها وتوعية الأمة بها ،لذا يجب أن تتواصل المدارس مع إمام الحي
ومناقشته فيما يخص التصورات والأفكار المنحرفة والتيارات الهادمة لتضمينها في المجتمع
الدراسي والحي من خلال عقد اللقاءات وإقامة المحاضرات والندوات الدينية المتعلقة بها
(البقمي.)2008 ،30 ،
ويمكن القول بأن للمسجد دورا كبيرا في تحقيق أهداف المؤسسات التعليمية في
تعزيز الأمن الفكري إذ يمثل رافداً مهماً للمعرفة والعديد من المعلومات والتي تجيب على
العديد من الأسئلة التي يطرحها النشء أو تتبادر في أذهانهم ،لذا يمثل المسجد شريك مهم
في تحقيق وتعزيز الأمن الفكري.
(ج) الإعلام:
يعرف الإعلام بأنه "تزويد الجمهور بأكبر قدر ممكن من المعلومات الصحيحة أو الحقائق
الواضحة ،وبقدر ما تكون هذه الصحة أو السلامة في المعلومات أو الحقائق يكون
الإعلام في ذاته سليماً وقويماً (العليوات والشبيب .)1993 ،17 ،ويرى الجابري
( )1997أن الإعلام بمؤسساته المختلفة وأساليبه له آثاره على الناس وسلوكهم ،ولذلك
فإن مجالات الإعلام في أي بلد تتناول القضايا الفكرية والدينية وأساليب السلوك
التقليدي والقيمي ،بل إن ما يعرضه الإعلام قد يكون له أثر تدميري على المجتمع والفكر،
وذلك بسبب جهله لقيم الراسخة وأخلاق المجتمع ودينه وعلاقته بل وتشجيعه للفردية
339
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
على حساب التماسك والوحدة الاجتماعية .وأجهزة الإعلام ومؤسساته المقروءة
والمسموعة والمرئية أقوى وأشد تأثير منها في الأزمنة السابقة من أوجه عدة أبرزها ما ذكره
الخطيب (:)2005
▪ المقدرة على ربط الفكرة المطروحة ببعدي الزمان والمكان.
▪ المقدرة على ترسيخ استيعاب الفكرة المطروحة.
▪ المقدرة على توسيع دائرة الفكرة المطروحة من زوايا وأبعاد أخرى.
▪ المقدرة على الاحتفاظ بمضمون الفكرة المطروحة على مدى زمني ممتد.
▪ مساعدة الرسالة الإعلامية على اكتساب المهارة أو تكوين الاتجاه حول فكره ما
بشكل أسرع.
ويشير العبد الغفور ( )1996إلى حاجة الإعلام للتربية والتربية للإعلام وحاجة
التربوي للإعلامي ،فغياب الإعلام عن التربية يجعل تقدم التربية بطيئاً وتأثيرها محدوداً في
الطلبة ،أما غياب التربية عن الإعلام فهو الأخطر والذي من شأنه أن يجعل للإعلام تأثيرا
سلبيا على الأفراد لذلك فإن التربوي بحاجه أكبر إلى الإعلامي في سبيل أن لا يهدم البناء
الذي بدأه .ويعتبر الغامدي (2005م) الإعلام داعماً من دعائم الأمن الفكري مؤثراً فيه
إذا قام بما يلي:
▪ تلبية احتياجات الجمهور الفكرية.
▪ توفير برامج علمية لتوعية الجمهور فكرياً.
▪ التوعية الثقافية والتنوير الديني بأسلوب عصري متطور.
▪ التواصل مع مؤسسات المجتمع الأخرى كالأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية وغيرها.
لذا تتحمل المدرسة مسؤولية تحقيق وتجسيد العلاقة مع الإعلام من خلال التواصل مع
أجهزة الإعلام بمختلف أنواعها ،وتذليل الصعوبات لمناقشة قضايا الشباب وتفعيل
مشاركتهم ،وخصوصاً القضايا الدينية ،وحث الطلاب على المشاركة الإيجابية في الإعلام
العام ،وتشجيع الطلاب على متابعة البرامج التوعوية والدينية التي تناقش الفكر وأمور
340
الفصل السابع عشر
الدين والداعية إلى الوسطية في الإسلام ،وتوضيح مخاطر الإنترنت والقنوات الفضائية
المنحرفة على الطلاب.
دور المؤسسة التربوية (المدرسة) في تعزيز الأمن الفكري:
ويرى الباحث بأنه يمكن تلخيص دور المؤسسة التعليمية في تعزيز الأمن الفكري بالآتي:
-اختيار الأكفاء المشهود لهم بالنضج المعرفي والسلامة الفكرية ليكونوا قدوة للطلاب.
-استضافة العلماء والمفكرين والمختصين في المادة الأمنية لإلقاء المحاضرات على الطلاب
ضمن الأنشطة اللامنهجية وإَتحة الفرصة لهم للسؤال عما يدور بأذهانهم.
-تنمية روح المواطنة لدى التلاميذ من خلال إبراز الخصائص الدينية والاقتصادية
والاجتماعية والسياسية التي تحظى بها أوطانهم مما يلقي على الشباب الكثير من
المسؤوليات في مجال المحافظة على أمن واستقرار وتماسك مجتمعهم.
-تفعيل دور المرشد الطلاِب في المدرسة إلى أبعد من الأدوار التي يقوم بها حالياً ليتناسب
دوره مع المشاكل والمخاطر والمستجدة مع محاولة التأثير على الطلاب إيجابياً بعدم الوقوع
في براثن المخاطر.
-يجب أن تعمل المدرسة بكل طاقتها على احتواء مشاكل التلاميذ ،والعمل على إيجاد
الحلول المناسبة لذلك مع الجهات المعنية إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.
-محاربة الأفكار الضالة على الصعيدين الداخلي والخارجي عن طريق إقامة معارض في
المدارس وإدارات التعليم ومن خلال المنشورات والمجلات والصحف الحائطية بالمدرسة.
-تفعيل مبدأ الحوار والمناقشة من خلال البرامج التي تقيمها المدرسة لغرض بيان أهمية
الأمن الفكري ،وكذلك بيان خطورة الانحراف الفكري وإرساء روح الحوار والمناقشة
الهادفة.
-تقديم برامج أمنية تثقيفية تعنى بالشباب ومشاكلهم واحتياجاتهم من خلال الأنشطة
اللاصفية التي تقيمها المدرسة.
-التوعية بأهمية الحفاظ على تماسك المجتمع ووحدته وتوازنه.
341
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
-تدريب التلاميذ على استخدام المنهج العلمي في البحث والتطبيق والتجريب والطرح
والحوار واحترام الرأي الآخر وتنمية مهارات التفكير العلمي لديهم.
-إقامة شراكة مستمرة وفاعلة مع كافة مؤسسات المجتمع المدني كالأسرة والمسجد
والإعلام لبناء وتنفيذ برامج مشتركة تسهم في تحقيق وتعزيز الأمن الفكري.
النتائج:
بناء على ما سبق يمكن القول بأن الدراسة توصلت إلى النتائج التالية:
.1أن مفهوم الأمن الفكري مفهوم واسع ويتطلب العديد من الأمور ومن أبرزها تحقيق
الوقاية والتحصين ومن ثم التهيئة والغرس المناسب.
.2أن تعزيز وتحقيق الأمن الفكري في المؤسسات التعليمية يتطلب تضافر جهود كافة
مؤسسات المجتمع وتعاونها المستمر مع المؤسسات التعليمية.
.3أن لمؤسسات المجتمع المدني كالأسرة والإعلام والمسجد دور كبير في تحقيق وتعزيز
كافة الأساليب والبرامج التي تقدمها المؤسسات التعليمية.
.4أن المناهج الدراسية في المدارس السعودية في كوالالمبور تحقق تعزيز الأمن الفكري
بفاعلية من خلال توافر أنشطة وبرامج الحوار الطلاِب.
.5أن مقررات التربية الإسلامية تضمنت العديد من النقاط الأساسية التي تسهم في
تحقيق تعزيز الأمن الفكري ومن أبرز تلك النقاط التالية:
-الدعوة إلى الوسطية.
-الأخذ بمنهج الحوار.
-طاعة أولياء الأمور.
-لزوم الجماعة وعدم شق الصف.
-دعت إلى التعايش السلمي مع غير المسلمين.
-احترام الثقافات والشعوب الأخرى.
-3تسهم أنشطة وبرامج الإرشاد الطلاِب في تحقيق تعزيز الأمن الفكري للطلاب.
-4تنفيذ العديد من الأنشطة والفعاليات لدى المجتمع المحلي للمدارس السعودية.
342
الفصل السابع عشر
التوصيات:
بناء على نتائج الدراسة السابقة يوصي الباحث بما يلي:
▪ عقد ندوات ومحاضرات عن الأمن الفكري لكافة شرائح المؤسسات التعليمية والمجتمع
▪ اتلمحشلجيي لعلمودداعرمسالبتحستوهدث وافل ِأّديراضساًاالتطلفاي مبجاوألولايلاأءمأنم اولرفهمك.ري ،وترسيخ مق ِّوماتها ،على أن
يتم ذلك في ضوء معايير وضوابط تأخذ في الاعتبار.
▪ تحديد مق ِّومات ومتطلبات الفكر الآمن وعوامل ترسيخه ونشره بين شرائح المجتمع.
▪ تأسيس قاعدة معلومات تحوي مختلف مصادر المعلومات حول التعامل مع الفكر
بالفكر ،ووضع آلية للتواصل بين الجامعات ومراكز التدريب والمؤسسات الفكرية
والعلمية ،ومواقع الشبكة العالمية.
▪ تفعيل دور مؤسسات المجتمع الحكومية والمدنية وبيان مسؤولياتها في هذا المجال.
▪ التأكيد على دور وأهمية الأمن الفكري ضمن منظومة الأمن الشامل للحفاظ على
وحدة وتماسك المجتمع وتنمية الوطن.
المقترحات:
وبناء على النتائج التي توصل إليها الباحث فإنه يوصي بمشروع (أسبوع الأمن الفكري):
منطلقات المشروع:
▪ سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية والقائمة على احترام الحقوق العامة
التيكفلها الإسلام وشرع حمايتها حفاظاً على الأمن وتحقيقاً لاستقرار المجتمع.
▪ تنشئة الطلاب تنشئة فكرية تضمن شعورهم بالمسؤولية تجاه مجتمعهم للحفاظ
على أمن الوطن ومكتسباته ومقدراته.
▪ أهمية دور المؤسسات التربوية ومنها المدارس في بناء وصقل شخصية الناشئة
وحماية فكرهم لتشكل سداً منيعاً ضد التيارات المنحرفة.
343
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
▪ أهمية مساهمة المؤسسات التربوية في المنظومة الأمنية خصوصاً التعليمية وذلك
باعتبارها من أهم محصنات الأمن وأكبرها شأنا لتثقيف الطلاب ورعايتهم.
أهداف المشروع:
▪ تعميق الولاء لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الأمر.
▪ تحصين عقول الناشئة ووقايتها من الانحرافات الفكرية.
▪ رصد مظاهر الانحراف الفكري في المدارس ومعالجتها.
▪ ضمان فاعلية المؤسسات التعليمية في تحقيق الأمن الفكري وتقويمها لضمان
استمرارية فاعليتها بدرجة تحقق الطمأنينة على مستقبل الأجيال الأمني الفكري.
آلية تنفيذ المشروع:
-1اللجنة المدرسية لتعزيز الأمن الفكري:
تكون هذه اللجنة برئاسة قائد المدارس وبإشراف رئيس مجلس إدارة المدارس سفير خادم
الحرمين الشريفين في كوالالمبور ،وعضوية كل من ووكيل المدارس ،والمرشد الطلاِب ،ورائد
النشاط ،ومشرف التوعية الإسلامية ،واثنان من المعلمين المتميزين.
تقوم اللجنة المدرسية بمراجعة إدارة المدارس السعودية في الخارج في وزارة التعليم وسفارة
المملكة فيكوالالمبور وتزودهما بالتقارير والأعمال المنفذة.
-2البرامج والفعاليات:
يتضمن أسبوع الأمن الفكري مجموعة من البرامج والفعاليات من أبرزها ما يلي:
أ -إقامة ندوة عن سبل تحقيق الأمن الفكري.
ب -استضافة محاضرين يتحدثون عن أهمية تحقيق الأمن الفكري.
ت -إقامة مسابقة بحثية في موضوع الأمن الفكري وسبل تعزيزه.
ث -إقامة معرض لأسبوع الأمن الفكري.
-3استدامة برنامج التربية الأمنية:
344
الفصل السابع عشر
ويعني هذا البرنامج بتثقيف الطلاب وأولياء أمورهم بالمخاطر التي قد تواجههم بشكل دائم
ومستمر.
-4الشراكة المجتمعية المستمرة:
تعمل اللجنة على عقد شراكة مجتمعية مستمرة ومتواصلة مع كافة مؤسسات المجتمع المؤثرة
في تعزيز الأمن الفكري وأبرزها ما يلي:
▪ الإعلام.
▪ المسجد.
▪ الأسرة.
▪ الجامعات.
-5التركيز على الجوانب الوقائية:
إذ أن الوقائية وبناء الحصانة الذاتية والمجتمعة تعد أفضل إستراتيجية لمواجهة خطر
التهديدات الفكرية.
345
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
* مشروع (أسبوع الأمن الفكري):
قائمة المراجع:
-البقمي ،سعود بن سعد (2008م) .درجة إسهام مديري المدارس الثانوية في تعزيز
الأمن الفكري من وجهة نظر طلاب الصف الثالث الثانوي بمنطقة الرياض
التعليمية .رسالة ماجستير غير منشورة ،جامعة مؤتة ،الأردن.
-الجابري ،خالد فرج (1997م) .دور مؤسسات الضبط في الأمن الاجتماعي ندوة
الأمن الاجتماعي ،مجلة بيت الحكمة ،بغداد )7( ،حزيران.
-الخطيب ،محمد شحات (2005م) .الانحراف الفكري وعلاقته بالأمن الوطني
والدولي ،مكتبة الملك فهد الوطنية ،الرياض.
-الدعجة ،حسن عبد الله (2013م) .نظرية الأمن الفكري ،مركز الدراسات
والبحوث ،جامعة نايف العربية ،الرياض.
346
الفصل السابع عشر
-الرشدان ،عبد الله (2005م) .التربية والتنشئة والمجتمع .دار وائل ،عمان.
-سرحان ،منير (1991م) .في اجتماعيات التربية .دار النهظة ،بيروت.
-السعدون ،عبد الله صالح (2001م) .دراسة السلوك العدواني في المدارس الثانوية
بمدينة الرياض ،قسم البحوث التربوية ،إدارة تعليم الرياض.المملكة العربية السعودية.
-الشقحاء ،فهد بن محمد (2004م) .الأمن الوطني تصور شامل .مركز البحوث
والدراسات جامعة نايف العربية ،الرياض.
-العبد الغفور ،محمد (1996م) .دراسة تحليلية لآراء التربويين والإعلاميين حول
طبيعة العلاقة بين افعلام والتربية وسبل تدعيمها .المجلة التربوية ،العدد (.)33
-العليوات ،محمد والشيب ،عبد الطيف (1993م) .الإعلام في الإسلام ،دار
الصفوة ،بيروت.
-الغامدي ،سعيد محمد (2005م) .الانحراف الفكري وأثره على الأمن الوطني لدول
مجلس التعاون الخليجي ،مركز الدراسات والبحوث ،جامعة نايف العربية ،الرياض.
-القرارعة ،جميل عبيد (2005م) .الأمن الفكري في الإسلام ،قسم الدراسات
الإسلامية والعربية ،جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ،الدمام.
-الزهراني ،إبراهيم عبد الله (2011م) .الأمن الفكري :مفهومه ضرورته مجالاته ،ورقة
عمل مقدمة للاجتماع الدوري الخامس للهيئة متاح على موقع:
http://www.assakina.com/news/news4/6302.htm1
-المالكي ،عبد الحفيظ عبد الله (2006م) .نحو بناء إستراتيجية وطنية لتحقيق الأمن
الفكري في مواجهة الإرهاب ،رسالة ماجستير غير منشورة ،جامعة نايف العربية،
الرياض.
-صبطي زهرة عثمان وعبيدة (2013م) ،أساليب التربية الاجتماعية بين الأسرة
والمدرسة وكفاءة المتعلم الابتدائي ،رسالة ماجستير ،بسكرة -الجزائر :كلية العلوم
الإنسانية والاجتماعية ،متاحة على http://dspace.univ-
biskra.dz:8080/jspui/bitstream
347
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
-النحلاوي ،عبد الرحمن (2006م) .التربية الاجتماعية في الإسلام ،دار الفكر،
دمشق.
-فايز بن عبد العزيز الفايز ،المدرسة والتنشئة الاجتماعية (الطبعة الأولى) ،جامعة
الملك سعود:كلية التربية ،صفحة ،24 - 19جزء .1بتصرف.
-محمد ،الفاتح عبد الرحمن ( .)2016تعزيز الأمن الفكري بين الواجب والضرورة،
مقال على الانترنت http://www.islamtoday.net
-السلطان ،فهد سلطان (2009م) .التربية الأمنية وإمكانية تطبيقها في المؤسسات
التعليمية ،مركز البحوث التربوية ،جامعة الملك سعود.
-المشاط ،محمد (1989م) .معالم الحضارة الإسلامية ،القاهرة ،دار الشعب للنشر.
-مصطفى إبراهيم وآخرون (1986م) .المعجم الوسيط ،إسطنبول ،المكتبة الإسلامية
للطباعة والنشر.
-الجحني ،علي فايز1999( .م) .رؤية للأمن الفكري وسبل مواجهة الفكر المنحرف.
المجلة العربية للدراسات الأمنية ،جامعة نايف العربية ،الرياض ،العدد (.)27
-الحيدر ،حيدر عبد الرحمن (2001م) .الأمن الفكري في مواجهة المؤثرات الفكرية،
رسالة دكتوراه منشورة ،جامعة القاهرة ،القاهرة.
-منصور ،عصام محمد (2010م) .دور المدرسة في تعزيز الأمن الفكري دراسة ميدانية
عن طلبة المرحلة الأساسية العليا في تربية عمان الأولى من وجهة نظر المدراء
والمعلمين والطلاب ،عالم التربية ،مصر.
-اللويحق ،عبد الرحمن بن معلا (2005م) .الأمن الفكري :ماهيته وضوابطه .ندوة
الأمن الفكري ،مركز الدراسات والبحوث ،جامعة نايف العربية ،الرياض.
-اليوسف ،عبد الله بن عبد العزيز (2001م) .الدور الوقائي للمدرسة في المجتمع
السعودي ،كلية الملك فهد ،مركز البحوث والدراسات ،الرياض.
ربى ششتاوي ،مقال على الانترنت ،استرجع بتاريخ - 2018/3/2
http://mawdoo3.com/
348
الفصل السابع عشر
- ovwata، BB. 2000 A Modren Sociology of Education،
(2nd.ed). Berekely: University of California.
349
الفصل الثامن عشر
دور التصوف في نشر الإسلام ومحاربة التكفير
الدكتور عيسى عبد الله
مقدمة
يعيش العالم الإسلامي حالة ضعف مستمرة ،وهو ضعف فكري ديني ،قبل أن يكون
سياسيا عسكريا ،فالحالة الفكرية أدت للضعف السياسي ،وهذا هو الخطر ،حيث يتعرض
الإسلام والمسلمون لمخاطر عالمية وإقليمية ،كما انتشر التكفير الديني ،فتعرضت المنطقة
الإسلامية لهجمات تكفيرية ،نسبت نفسها للإسلام ،فحدثت حالة فزع من الإسلام في
العالم كله ،أو ما يُس ّمى الإسلاموفوبيا ،1وصارت صورة المسلم ،أنه إرهابي على طول
الخط.
وتساءل كثيرون عن السبب في نمو التكفير وانتشاره ،ووجود جماعات داعش
وبوكو حرام والقاعدة ،وغيرها من الجماعات التكفيرية ،ولماذا ينضم الشباب المسلم لها،
وهي تساؤلات مشروعة يجب البحث عنها ،لحماية الأمة من الأخطار التي تحيط بها.
صارت الحاجة إلى فكر إسلامي يتصدى للفكر التكفيري ،الذي يدعي أنه
يمثل الإسلام ،رغم بعده البعيد عن روح الإسلام ،كما جاء به محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،عن ربه من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة ،وروح الإسلام تقتضي نشر
التسامح ،ورفض العنف والإرهاب ،وعدم إكراه غير المسلم فضلا عن المسلم على الدخول
في الدين بالعنف.
وعند البحث عن الروح الإسلامية الحقيقية ،نجد مدارس متعددة ،فقهية
وفكرية ،روحية وإيمانية ،جميعها ترفض القتل والقهر والنيل من كرامة الإنسان ،والمذاهب
الفقهية الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ،تمثل خير دليل على روح الإسلام،
الفصل الثامن عشر
ومعها يوجد الفكر الصوفي ،وهو ما يتفق والمذاهب الأربعة ،والفكر الصوفي يمثل الروح
للفقه ،يمثل الوجدان والضمير ،ومن خلال الفكر الصوفي يمكن التصدي للخطر
التكفيري ،لأن التصوف لا يملك فتاوى قتل الغير ،ولا يتحدث إلا عن التسامح ،وحب
النبي ،وعدم إكراه الغير على الانضمام سواء للإسلام أو للطريقة التي ينتمي لها المريد،
التصوف الإسلامي يمثل الحالة الروحية والإيمانية الوجدانية للإسلام ،أو هو ل ّب الإسلام،
ومن ثمّ نكتب هذا البحث للحديث عن دور التصوف من نشر الإسلام قديما ،ودوره
المعاصر في محاربة التكفير حديثا.
فقد نجحت الفتوحات الإسلامية قديما في نشر الإسلام في من المحيط الأطلسي
غربا وحتى ما وراء النهر شرقا ،ولكن الأغلبية الإسلامية الحالية تدين بالفضل لإسلامها
للتصوف ،حيث انتشر بفضلها في غرب الصحراء الأفريقية وجنوبها وتحت حزام الصحراء
وفي السودان ،وفي إندونيسيا وماليزيا وبنجلاديش والصين والفلبين ،وغيرها من بلاد
المسلمين ،وصلها الإسلام مع أهل الطرق الصوفية ،ومع الت ّجار المسلمين ،وهم أيضا من
أهل التصوف ،وتعيش هذه الشعوب الإسلامية على الميراث القرآني المستمد من الرسول
صلى الله عليه وسلم ،ومن خلال الوجدان الصوفي ،ولكن حدث خلال العقود السابقة
انتشار الفكر المتطرف المتشدد ،ويُعتبر هذا الفكر المتطرف ،الذي ينسب نفسه للسلف
الصالح ،هو الوعاء الذي يستمد منه المتطرفون أفكارهم وفتاويهم ،وهنا كان لابد من
العودة للفكر الإسلامي الصحيح ،الذي مثّله النبي وصحابته ،فنحتاج للفكر الصوفي في
التصدي للخطر التكفيري الذي انتشر في العالم بأسره ،وأخاف غير المسلمين من
الإسلام.
هدف البحث:
يكمن هدف البحث في نشر ثقافة التصوف ،والعودة من خلاله للجذور الإسلامية
القرآنية ،وكذلك جمع روابط الأمة ،لأن التصوف هو الحالة الوسط لكل المسلمين ،يدين
بحب أهل بيت النبي ،وفي نفس الوقت يحب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ،فيكون
عامل تجميع بين أبناء الأمة بأسرها ،مع التأكيد على أن التصوف ضد التكفير على طول
351
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
الخط ،فلا يؤثر عن أي شيخ طريقه أو مريد أن أفتى بفتوى تكفير ،وهذا البحث
فكري|ثقافي ،ولكنه يتماس مع السياسة ،التي نحاول أن نبتعد عنها ،لأن بحثنا فكري،
فيبتعد عن السياسة إلا بقدر ما هو متعلق بالفكر ،هذا هو هدف البحث.
محاور البحث
يدور البحث حول ثلاثة محاور رئيسية ،وخاتمة ،تتفرع منها محاور تفصيلية.
المحور الأول :ثقافة التصوف وتاريخه
المحور الثاني :دور التصوف في نشر الإسلام
المحور الثالث :دور التصوف في التصدي للفكر التكفيري
المحور الأول :ثقافة التصوف وتاريخه
التصوف الإسلامي هو الروح الدافعة للإيمان ،ونشر التسامح والأريحية ،فالتصوف قيم
أخلاقية إيمانية ،يمتلك ثقافة اللاعنف ،ونكتب عن ثقافة التصوف ،وتاريخه وأشهر
علمائه ،وذلك بإيجاز لا يخل بروح البحث .ولكن ما هو التصوف ،لغة واصطلاحا،
علماء وعلماء ،وهو ما نكتب فيه وعنه.
مفهوم التصوف:
وجدت بعض الأقوال في تعريف التصوف ،قيل إن كلمة التصوف تُشتق من فعل صّوف،
أي جعله صوفيا ،وتصّوف صار صوفيا ،أي تخلق بأخلاق الصوفية ،والصوفية فئة من
المتعبدين ،واحدهم الصوفي2
وقال ابن خلدون في كتابه (المقدمة)" :قال القشيري" :ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من
جهة العربية ولا قياس والظاهر أنه لقب ،ومن قال اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعيد
من جهة القياس اللغوي ،قال :وكذلك من الصوف ...قلت :والأظهر إن قيل بالاشتقاق
إنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس
فاخر الثياب إلى لبس الصوف.3
352
الفصل الثامن عشر
وتحيل الدلالات الاشتقاقية لكلمة التصوف على صوفيا ،والصوفة ،وأهل
الصفة ،والصوف ،والصفاء أو الصفو ،كلمة صوفيا الدالة على الحكمة مستبعدة في هذا
النطاق المعجمي ،لأن كلمة صوفيا التي تحيل على العقل والمنطق تتناقض مع العرفان
الروحاني والذوق الوجداني ،كما أن التصوف بعيد عن كل اشتغال حسي وعقلي وذهني
وأميل إلى الحدس العرفاني والتجربة الباطنية.4
وهناك من يربط التصوف بصوفة كابن الجوزي ،قال" :إذ كان هناك قوم من
الجاهلية انقطعوا إلى العبادة والطواف حول الكعبة ،ويعود نسبهم إلى الغوث بن مر الذي
كان يعرف باسم صوفة أطلقته أمه عليه ،لأنها لم يكن يعيش لها أولاد ،فنذرت لئن رزقت
بولد لتجعلن برأسه صوفة وتهبه للكعبة فولدت الغوث ،وعرف باسم صوفة وظلت الصفة
عالقة بأولاده من بعده" 5وهذا الرأي فيه تكلف وتمحل وتصنع ،ولا يمكن الأخذ به دليلا
على اشتقاق التصوف من الصوفة.
وهناك من ربط التسمية بزهد الرسول ،وورع أصحابه رضوان الله عليهم ،إذ
كان النبي يلبس الصوف كما ورد في قول أنس فيما رواه ابن ماجة" :أن الرسول أكل
خشنا ،ولبس خشنا ،لبس الصوف واحتذى المخصوف".6
بيد أن هذا ليس دليلا قاطعا على ارتباط التصوف بحياة النبي وتقشفه في الحياة
وزهد صحابته ،لأن الرسول كان يلبس الصوف وغير الصوف ،وكان يدعو كذلك إلى
الإقبال على الحياة والتزين بكل ما يحقق الجمال للإنسان ويريحه نفسانيا وعضويا ،ويوفر
له السعادة الدنيوية والأخروية ،ويحث الناس كذلك على التمتع بالدنيا والتلذذ بمباهجها
والتنعم بنعمها ،ولكن بدون إسراف ولا تبذير ولا خيلاء ،وهذا الحكم ينطبق على حياة
صحابته العدول على حد سواء.
وقيل :إن كلمة التصوف تشير إلى أهل الصفة من الفقراء الزهاد المهاجرين
الذين كانوا يسكنون صفة المسجد في المدينة ،وكانوا يقلون تارة ويكثرون تارة أخرى ،فمن
استغنى منهم ترك المسجد وذهب لحال سبيله ليكد في الحياة ،ومن لم يجد التزم بالصفة
حتى تتحسن أحواله المادية.7
353
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
والذين يربطون التصوف بأهل الصفة فإنهم يقرنون التصوف بالمهاجرين لا
الأنصار ،فهذا رأي غير صحيح لا منطقيا ولا واقعيا ولا لغويا ،لأن المنسوب إلى الصفة
في علم الصورهنافك"مصنف ّييق"رونليالتسص"وصفوفّبيل"ب.س الصوف الذي كان علامة أيقونية بصرية تحيل
على الممارسة العرفانية والتزهد في الحياة والتقشف في الدنيا والاعتكاف على العبادة
والصلاة والدعاء.8
وكثير من الصحابة والتابعين كانوا يلبسون الصوف ،فالحسن البصري يقول:
"أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف" ،والبدريون هم الذين شاركوا مع الرسول في
معركة بدر ،ولكن ليس الصوف دائما يدل على التقوى والصلاح في الثقافة العربية
الإسلامية ،فقد كان الكثير من الناس يلبسون الصوف ليقال لهم بأنهم أتقياء ورعون،
ولكنهم في الجوهر لا علاقة لهم بذلك ،ويورد ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد" بيتين
قالهما الشاعر محمود الوراق في هؤلاء المتصوفة:9
وما يعني التصوف والأمانــة تصوف كي يقال له أمين
أراد به الطريق إلى الخيانــة ولم يرد الإله به ولكـــن
وهناك من قال بأن التصوف يرتبط أشد الارتباط بالصفاء والصفو ،فالمتصوفة
ليس لهم من شغل سوى تصفية قلوبهم من أدران الجسد وشهوات الحياة قصد تحقيق
الصفو الروحاني ،ولكن كلمة الصفاء أو الصفو تنسب إلى "صفو ّي" وليس إلى "صوفي"،
وعلى أي حال ،ربما اشتقت كلمة "التصوف" من الصوف وهي أقرب دلالة اشتقاقية
يقبلها العقل والمنطق.
يقول أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام"" :وقد اختلف الناس في نسبة الكلمة
هل هي من الصفة ،أو من الصفاء ،أو من صوفيا وهي باليونانية بمعنى الحكمة ،أو من
الصوف ونحن نرجح أنها نسبة إلى الصوف ،لأنهم في أول أمرهم كانت هذه الفرقة تلبس
الصوف اخشيشانا وزهاده ،كما نرجح أنها كانت ترتكن في أول أمرها على أساس
إسلامي.10
354
الفصل الثامن عشر
والدليل على ارتباط التصوف بالصوف قصة محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم
الباهلي عامل خراسان ،فقد دخل محمد على قتيبة وعليه مدرعة صوف خشنة وربما بالية
فقال له قتيبة" :ما يدعوك على لباس هذه؟ فسكت لم يحر جوابا ،فقال له قتيبة فيما يشبه
الغضب :أكلمك فلا تجيبني؟ فأجاب محمد في خشوع وهدوء :أكره أن أقول زهدا فأزكي
نفسي ،أو أقول فقرا فأشكو ربي.11
وهذا يبين لنا مدة ارتباط التصوف بالصوف ،وهذا هو نفس رأي ابن خلدون
الذي قال" :قلت والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون
بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب على لبس الصوف.12
هذا هو رأي بعض العلماء والفقهاء والمفكرين في نسبة أهل التصوف.
ولكن الصوفيين أنفسهم يرون شيئا آخر ،ولابد من الأخذ بها ،أو على الأقل
الانتباه إليها.
قول عبد الوهاب الشعراني" :إن علم التصوف عبارة عن علم أنقدح في قلوب
الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة ،فكل من عمل يهما انقدح له من ذلك
علوم وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسنة عنها نظير ما أنقدح لعلماء الشريعة من
الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها ،فالتصوف إنما هو زبده عمل العبد بأحكام
الشريعة إذا خلا من عملة العلل وحظوظ النفس".13
ونرى بوضوح ما في تعريف الشعراني للتصوف من إشارات نثرية تحمل دلالات
رمزية مثل آداب وأسرار وحقائق ،وهو ما أكده أبو حامد الغزالي بقوله عن الصوفية
بأنهم" :14أرباب أحوال لا أصحاب أقوال" ،فالأحوال التي يقصدها الغزالي هي درجات
الترقي الروحاني عن الصوفية ،أو ما يسمونها بمقامات الأولياء ،وما يختص به كل مقام من
أول تمام الابتداء وحتى مقام التجلي مرورا بمقامات المكاشفات والمشاهدات ،ويعبر
الصوفية عن حالاتهم بالحب ،والحب لديهم لا يتعلق بالأجساد وصور المادة ،بل هو حب
للمعاني العقلية الكاملة وتعلق بالمثل وهيام بمصدر الكمال والجمال ،فالحب لديهم طريق
إلى الزهد في متع الدنيا جميعا وحرب علي النفس وسبيل إلى العزوف عن مغرياتها ،وأن
355
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
العبادة ليس من أجل الجنة أو النار ،ولكن للتقرب إلى الله جل وعلا ،كما عبر الشبلي
عن التصوف شعرا بقوله:
علم التصوف علم لا نفاذ له علم سني سماوي ربوبي15
وهو تعريف لا يخلو مما يشير إليه المتصوفة من علوم الباطن وأسرار المعاني ،سواء في
الكلمات أو في الإشارات ،ومعظم الصوفية يرفضون نسبة أصل تسميتهم إلى غير ما قاله
الشعراني في طبقاته ،مثل ما يقولون بأن التصوف يرجع إلى لبس خرقة من الصوف أو من
الصفاء ،وان كانوا يقولون بأن أول من لبس خرقه الصوف هو الأمام علي بن أبي طالب.
ولكنهم يستدركون بأن التصوف كعلم ينفردون به ،هو علم الإشارة الذي يضم
الخواطر وعلوم المكاشفات ،لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة
عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد.16
هذا هو التصوف في أبسط معانيه ،ونأخذ بتعرفيهم لأنفسهم ،لأنهم أدرى
بفكرهم ،مع العلم ،بأنه يمكن القول إن التصوف من الصفاء أو الصوف أو الصفة ،كلها
علامات تشير إلى نقاء القلوب وتطهيرها ،ومحاربة النفس والزهد.
معنى التصوف اصطلاحا
التصوف اصطلاحا رحلة روحانية تعتمد على التحلية والخلوة والتجلي الرباني أو اللقاء
العرفاني المتوج بالوصال والكشف الإلهي ،وبعني هذا أن المريد السالك كي يحقق مراده ألا
وهو الوصول إلى الحضرة الربانية ،عليه أن يتجرد من أوساخ الدنيا ويتوب إلى الله وأن
يتطهر من كل أدران الجسد ويبتعد عن ملذات الدنيا ويترك جانبا شهوات الحياة ومتعها
الزائفة الواهمة.
وبعد ذلك يختلي بالله مدة طويلة ،وبعد الاختلاء والمجاهدات الرياضية الوجدانية
ينكشف له الوجه الرباني ،ويعني هذا أن المريد لكي يصبح قطبا أو شيخا أو يصل إلى
المعشوق الرباني ،لابد أن يسافر في معراجه النوراني عبر مجموعة من المقامات المتدرجة
والأحوال الموهوبة لكي يتحقق له الوصال والتجلي الرباني.
356
الفصل الثامن عشر
ويلاحظ أيضا أن التصوف ليس فرقة مستقلة كما يقول أحمد أمين ،بل هو
عبارة عن نزعة من النزعات الوجدانية ورغبة روحانية من مجموعة من الميولات الإنسانية
تجاه حدث أو فعل أو شيء ما .ومن ثم ،يمكن الحديث عن معتزلي صوفي ،وأشعري
صوفي ،وفقيه صوفي ،وشيعي صوفي ،ومسيحي صوفي.17
ومن هنا يعرف ابن خلدون التصوف بقوله هو" :العكوف على العبادة،
والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه
الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.18
فالتصوف إذن عرفان وجداني وشوق ذوقي ومجاهدة ربانية ،تقوم على الزهد في
الحياة وترك الدنيا الواهمة ،ويعرف رويم البغدادي التصوف بقوله" :التصوف مبني على
خصال :التمسك بالفقر والافتقار ،والتحقق بالبذل ،وترك الغرض والاختيار" ،وقال
الكرخي" :التصوف هو الأخذ بالحقائق ،واليأس مما في أيدي الخلائق" ،وقال الجنيد" :أن
تكون مع الله بلا علاقة" ،وقال ذو النون المصري" :أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء"،
وقيل للحصري" :من الصوفي عندك ...؟ فقال :الذي لا تقله الأرض ولا تظلله
السماء.19
مواضيع التصوف:
تنحصر مواضيع التصوف حسب ابن خلدون في أربعة أغراض أساسية:
-1المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال
لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره.
-2الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل :الصفات الربانية والعرش
والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب
الأكوان في صدورها عن موجودها وتكونها.
-3التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات.
-4ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في
اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول.20
357
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
ويعني هذا أن التصوف ينبني على أربعة مقومات جوهرية ،وهي :المجاهدات،
والتجليات الغيبية ،والكرامات ،والشطحات ،وقد دافع ابن خلدون عن أصحاب
المجاهدات والتجليات الغيبية والكرامات الخاصة بالمتصوفة والأولياء الصالحين وميزها عن
المعجزات الخاصة بالأنبياء ،كما اعتبر صاحب الشطحات معذورا ،لأنه يكون في حالة
سكر وانتشاء ذوقي لا يعي ما يقوله أو ما يردده من أقوال أو ألفاظ أو مرويات.21
ويمكن القول بأن التصوف عبارة عن رحلة روحانية أو سفر معراجي له بداية
ونهاية ووسط ،فالبداية هي التطهير والهروب من الدنيا الزائفة ،والوسط هي الخلوة والرياضة
الروحية والمجاهدة الصوفية ،أما النهاية فهي اللقاء والوصال اللدني.
مراحل التصوف الإسلامي:
ظهر الزهد مع بداية الدعوة الإسلامية في القرن الهجري الأول ،وكان هذا السلوك يقوم
على دعامتين أساسيتين ،وهما :الزهد في الدنيا والابتعاد عن ملذات الحياة الزائفة الواهمة،
والإقبال على الآخرة الباقية الخالدة ،والدعامة الثانية تتمثل في حب الله بدون واسطة
بشرية.
وهناك العديد من نصوص القرآن والحديث النبوي التي كانت تحث على الزهد والتقشف
في الحياة والاستعداد للموت وترك الدنيا ،لأنها دار غرور وزينة وخداع وخيلاء .يقول
تعالى﴿ :ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر﴾ [التكاثر ،]1:ويقول أيضا﴿ :المال والبنون زينة
الحياة الدنيا﴾ [الكهف ،]46:ويقول أيضا﴿ :واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه
من السماء فاختلط به نبات الأرض﴾ [الكهف.]45:
ومن الآيات الدالة على الحب الإلهي ما قاله تعالى﴿ :والذين آمنوا أشد حبا
لله﴾ [البقرة ،]165:وفي الحديث النبوي الشريف« :نعم العبد صهيب! لو لم يخف الله لم
يعصه»﴿ ،22فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه﴾ [المائدة.]54:
ومن أهم الزهاد في القرن الأول الهجري الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله
عليهم الذين كانوا يقتدون بحياة الرسول ،فضلا عن الصحابة والتابعين ،وتبع التابعين ،فقد
كان هناك زّهاد من الصحابة أكثر من غيرهم ،مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب
358
الفصل الثامن عشر
وأبي ذر الغفاري وغيرهم ،ولكن الجميع متساوون في الصحبة والإيثار والأريحية ،رضي الله
عن الجميع.
أشهر شيوخ وعلماء الصوفية:
لم يظهر التصوف في العالم الإسلامي إلا في القرن الثاني الهجري وخاصة بعد الفتوحات
الإسلامية وانتشار الرخاء والغنى والجاه في البيئة الإسلامية التي كثر فيه التمدين العمراني
والحضاري ،وشيدت فيها القصور والبساتين ،وانتشر اللهو والمجون وكثر الطرب وازدهر
شعر الخلاعة ،فاختلط الناس بالحياة وأقبلوا على متع الدنيا وزينتها الزائفة ،فظهر كثير من
العلماء والأتقياء الذين يخافون الله ويطمعون في رحمته وغفرانه وتوبته النصوحة ،فتركوا
الدنيا وانعزلوا عن الناس والسلاطين ،وابتعدوا عن إغراءات الدنيا ومباهجها الفاتنة
فاختاروا الخلوة الربانية وتمثلوا طريق الشرع الرباني وساروا على نهج الهدي النبوي وجعلوه
مسلكا لهم في التعبد والمحاسبة والعبادة والاعتكاف.
ومن أهم كتاب التجربة الصوفية وجامع نصوصها في هذه المرحلة نستحضر
القشيري في رسالته وفريد العطار في "تذكرة الألباب" والطوسي في كتابه "اللمع" ...ويبقى
الحارث المحاسبي هو العميد الأول للتصوف ،حسب الدكتور محمد عابد الجابري ،لكونه لم
ينحرف في عملية التأويل ولم يغال فيها كما فعل المتصوفة ،زد على ذلك أنه وقف صامدا
في وجه التشيع الباطني.23
ومن أهم المتصوفة الذين يذكرهم التاريخ نلفي :المحاسبي والقشيري والحسن
البصري والغزالي والسراج والجنيد وابن المبارك وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وأحمد
الرفاعي ورابعة العدوية التي تقول في الحب الإلهي:24
أحبــك حبيــن :حب الهوى وحبـا لأنـك أهــل لـــذاكا
فأما الذي هو حـــب الهوى فشغـل بذكرك عمن سواكـا
وأما الذي أنــــت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لـي ولكـن لك الحمد في ذا وذاكا
359
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
وإذا كان الحسن البصري معروفا بنزعة الخوف حتى قال معاصروه" :إنه كان
دائما كأنه عائد من جنازة ،25فإن رابعة العدوية معروفة بنزعة الحب ،وقالت شعرا كثيرا في
الحب الرباني منه هذان البيتان.26
إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوســي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيــــب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقد روى القشيري في رسالته أن رابعة العدوية قالت في مناجاتها" :إلهي تحرق
بالنار قلبا يحبك؟" ،فهتف بها هاتف يقول" :ما كنا نفعل هذا ،فلا تظني بنا ظن
السوء.27
ومن أهم المتصوفة الآخرين الذين استحضروا الشرع الرباني في تجاربهم العرفانية
نذكر :إبراهيم بن الأدهم وداود الطائي والفضيل بن عياض وشقيق البلخي وكلهم توفوا في
القرن الثاني الهجري ،ومعروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ ،وابن سليمان الداراني المتوفى
سنة 215هـ ،وسري السقطي المتوفى 253ه صاحب فكرة الحقائق الإلهية والتوحيد،
والجنيد المتوفى سنة 297هـ الذي يعد أول من صاغ المعاني الصوفية وكتب في شرحها،
والغزالي في القرن الخامس الهجري الذي حاول التوفيق بين الشرع والتصوف ،وقام بعقد
الصلة بين الخطاب الفقهي الذي كان يحارب المتصوفة والخطاب العرفاني الذي كان يؤمن
بالباطن .وقد تجلى هذا التوفيق واضحا في كتابيه" :المنقذ من الضلال" ،وكتابه" :إحياء في
علوم الدين" .ومن أهم قواعد التصوف التي يرتكن إليها احترام مبادئ القرآن والسنة
والإجماع ،وتطبيق شعائر الدين والسعي في الدنيا بحثا عن الرزق وتمجيد العمل والشغل،
لأنه زاد الدنيا والآخرة ،علاوة على احترام خصوصيات الشرع في تأويل الظاهر والباطن
وعدم إظهار ذلك لعامة الناس.
كما يبتعد هذا النوع من التصوف عن الشطحات الصوفية والكرامات الخارقة
التي تخالف الشرع الرباني .ويعلي المتصوفة من قيمة الأنبياء بالمقارنة مع الأولياء والشيوخ
والأقطاب.
360
الفصل الثامن عشر
وفي الأخير ،يمنح التصوف مبادئه وتعاليمه ومجاهداته الذوقية من المصادر
الداخلية للفكر الإسلامي أي من القرآن والسنة.
وبعد أن كان التصوف سلوكا فرديا انتقل ليكون مسلكا جماعيا ،وسيكون
للمريد العارف قطبا يهديه ويرشده ،لأنه من الصعب أن يتعلم المريد في غياب الشيخ
والقطب أو يسافر بعيدا في حضرته الصوفية وتعراجه الذوقي دون مرافق يساعده على
تحمل مشقة السفر أو الحج.28
ومن هنا ،ظهرت طرق ومذاهب صوفية كثيرة تنسب إلى شيخ بعينه أو قطب
بارز له أتباع كثيرون يتبعون مسلكه في المعرفة اللدنية ،وبعد ذلك ،ينتقل مشعل الوراثة
الصوفية أو سبحة الولاية من شيخ إلى آخر بعد الإجازة والتوصية.
وقد انتشرت في العالم الإسلامي كثير من الطرق الصوفية قديما وحديثا واقترنت
بالزوايا والروابط والمساجد ،فهناك الطريقة الأحمدية التي تنسب إلى أحمد البدوي وانتشرت
في مصر إبان الظاهر بيبرس ،وهناك طريقة صوفية أخرى تنسب إلى أبي العباس أحمد بن
عمر المرسي من مرسية بالأندلس ،وهي بدورها انتشرت بمصر.
كما توجد عدة طرق صوفية مشهورة كالطريقة التيجانية والطريقة الشاذلية
والطريقة العلوية والطريقة القادرية والطريقة البودشيشية والطريقة الدلائية والطريقة الجيلانية
والطريقة العيسوية والطريقة الناصرية والطريقة الحراقية.
مناهج التصوف:
إذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي
والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي ،فإن المتصوفة يعتمدون
على الذوق والحدس والوجدان والقلب.
أي إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة وترفض الحسية وتتجاوز نطاق الحس
والعقل إلى ما هو غيبي وجداني وذوقي ،ومن ثم ،فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية،
لذلك يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة ،وهذه المصطلحاتكثيرة
يصعب حصرها استقيت من مجالات عدة ،ومن هنا يمكن الحديث عن اللفظ المشترك
361
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
داخل الحقل الصوفي .ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية نذكر:
علوم الشريعة ،وعلوم العقيدة ،والآداب ،وعلوم اللغة ،والفلسفة ،وعلوم الآلة فضلا عن
القرآن والسنة وعلم الحروف والكيميا.
ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ والتعدد في المعاني
والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما ،وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من
تجربة إلى أخرى.29
وعليه ،فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها وهي:
قضية العرفان وثنائية الظاهر والباطن وإشكالية التأويل ،لأنها هي التي ستميز الخطاب
الصوفي عن الخطاب الفلسفي والخطاب الفقهي والخطاب الكلامي .فهذا أبو نصر
السراج الطوسي ،وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام ،يعتبر المتصوفة من
علماء الباطن وبالتالي ،فالتصوف هو علم الباطن ،بينما الفقه هو علم الظاهر.
وفي هذا يقول في كتابه "اللمع"" :إن العلم ظاهر وباطن .وهو علم الشريعة
الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة .والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي
العبادات والأحكام ...وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال،
ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد ...
فإذا قلنا :علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي
القلب ،وأما إذا قلنا :علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة
وهي الأعضاء ،وقد قال تعالى﴿ :وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾ [لقمان.]20:
فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات،
والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات ،ولا يستغني الظاهر
عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر ،وقد قال الله عز وجل﴿ :ولو ردوه إلى الرسول وإلى
أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ [النساء ،]83:فالعلم المستنبط هو العلم
الباطن ،وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك ...
362
الفصل الثامن عشر
فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن ،وحديث رسول ظاهر وباطن والإسلام ظاهر
وباطن.30
ومن هنا ،فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب واستنطاق
مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية وتأصيل حضرة ربانية قوامها العشق والمحبة والزهادة
وتأويلها عرفانيا ولدنيا ،بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص وسياقاتها
السطحية مخافة من التأويل وإثارة الفتنة في المجتمع.
خلاصة القول:
تختلف وتتعدد الطرق الصوفية حول شيوخها ،ولكنها تتفق حول أصولها ،فأهل التصوف
في الطرق المختلفة مثل من يدسون منهجا واحدا على يد معلمين متعددين ،ومن ضمن
أهم مواطن الاتفاق بين الطرق الصوفية ،أنهم يستنكرون العنف ويدينون الإرهاب ،حيث
تحفل أدبيات الصوفَيّة باستنكار العنف ورفضه أَيّاً كان مصدره ،وحَتّى قراءتهم للنصوص
المتضمنة لكلام على القتال أو الضرب أو العذاب ،تُدفع عبر التأويل في اتجاه نبذ العنف
وتوجيهه وجهة التربية والتعديل والإصلاح والرياضة ،أو تفصل بين منطق العلم ومنطق
السر أو بين الفقه والعرفان أو الظاهر والباطن.
ولك َّن أخبارهم ومقالاتهم تشرعه في وضعيات ومقامات مختلفة ،سواء كان ذلك
في علاقة بالذات الفردَيّة أو بسياقات جماعَيّة ،فالصوفي في سلوكه يبيح لنفسه ممارسة
أشكال مختلفة من العنف في صلة بنفسه وجسده مثلاً ،ويتبَنّى مقولة "الجهاد" فيشارك في
مواجهات مسلحة قد تكون مع عدو أو سلطان ،بل يختار الرباط وينأى عن دنيا الناس
ليحمي الثغور ويحفظ نفسه باختبارها المستمر وإخضاعها لأشكال من التربية لا تخلو من
ش َّدة وقسوة ،يرى الصوفي أَنّه فيها تجاوز عتبة الرياضة والمجاهدة وترقى في المقامات
والأحوال فبلغ مرتبة ،لم يعد للعنف فيها معنى أو دور في صلته بذاته بعد أن تملكه الحب
وأضحى عقيدته وموجهه ،وهنا قد نظفر بحضور مختلف للعنف يلج من بوابة المتخيّل،
ففي بعض أدعية الصوفَيّة الموجهة نحو عدو ما نعثر على صور كثيرة تبين عن تمثل الصوفي
لمصير هذا العدو وأشكال التفُّوق عليه ودحره أو سحقه والتخلص من شّره .فيكون
363
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
العنف المتخيّل هنا حاملاً لمعنى العدالة الربانَيّة التي انتصر فيها الله للخا َّصة من خلقه مَمّن
اصطفاهم وقَّربهم إليه.
إ َّن العنف ،وإن غيّب في مقالات الصوفَيّة واستهجن ،فإَنّه لم يمنع من محاولة
فهمه والبحث في دوافعه وسبل التص ّدي له وتوجيهه.
ومرجعَيّات العنف في الخيال الصوفي "يهتم بتأويل الصوفَيّة للن ّص القرآني
والحديث الَنّبوي وبعض الأقوال المأثورة عن الصحابة أو التابعين أو شيوخ التصُّوف،
تحديداً ما ورد فيها كلام عن القتال والضرب والعقاب البدني أو الاضطهاد ،فضلاً عن
تناول مفاهيم الرغبة والتخلية والتحلية والعداوة ،والبحث في الأطراف المستهدفة بالعنف
وأشكاله لتبين الخلفَيّة المعرفَيّة المحركة لفهم الصوفَيّة للعنف سواء في نظرتهم للطبيعة عاَّمة أو
الطبيعة البشرَيّة على وجه التخصيص ،أو كذلك رؤيتهم لصلة الفرد بالجماعة".31
هذا هو التصوف في أبسط معانيه ،ليس فيه عنف أو قتل أو حرق ،أو غير
ذلك مما يفعله المتطرفون من سلفيي هذا الزمان.
المحور الثاني :دور التصوف في نشر الإسلام
خلال أقل من ثمانين عاما من وفاة النبي الكريم ،تمكن المسلمون من فتح شمال أفريقيا،
وشرق ووسط آسيا ،وكان الصحابة وأبناءهم يتسابقون في المشاركة في الفتوحات
الإسلامية ،واستقر الإسلام في الدول والشعوب التي اعتنقت الإسلام ،ما عدا الأندلس،
فيما لا مجال للكتابة عنه في هذا البحث.
ولكن وعبر القرون التالية انتشر الإسلام في إفريقيا في شمال الصحراء الكبرى
وجنوبها وفي السودان الأعظم وفي غرب إفريقيا ،وفي إندونيسيا وماليزيا والفلبين والصين
وغيرها من البلاد من خلال الطرق الصوفية والت ّجار المسلمين.
ومما ينبغي أن يسجل للصوفية من فضل هو إنهم كانوا ممن حملوا راية الإسلام
ودعوا إليه بصدق وإخلاص ودافعوا عنه بكل وسيلة فأينما حلوا كانوا يشيدون الزوايا
لنشر الدين والعلم ورعاية الفضيلة والسجايا الكريم.
364
الفصل الثامن عشر
ومن الحق والإنصاف أن يذكر بفضلهم بالدفاع عن الإسلام ونشر علومه وآدابه
وأخلاقه وإظهاره للناس في صفائه على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم
وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم في الزهد والعدل ونشر الفضائل
قد أورد الكاتب محمد كرد علي في كتابه "الإسلام والحضارة العربية" قول بعض
رجال الطرق الصوفية في إفريقية"" :32إن الطرق الصوفية أداة التهذيب الديني ،التي يُعاد
بواسطتها إلى حظيرة الدين كل من انسلخوا منه أو كادوا" ،وهو قول صادق ،خاصة من
مسلمين أخذوا على أنفسهم عهودا أن يكونوا ُمثلا عليا للإسلام ،ثم نشره بين الناس،
بالحسنى والقدوة الحسنة.
دور الصوفية في نشر الإسلام في إفريقيا
في محاضرات العالم الإسلامي الأستاذ المرحوم شكيب أرسلان ،قال :إن الأستاذ صبري
مجابذي ذكر في ندوة الإسلام ،ما كتب الشيخ البكري نقلا على المبشرين فقال" :ما
ذهبنا إلى أقاصي البلاد البعيدة عن الحضارة والمدينة في إفريقيا وأقاصي أسيا إلا وجدنا
الصوفي سبقنا إليها وانتصر علينا".33
ويقول الدكتور حسين مؤنس في كتابه "المساجد" من سلسلة عالم الفكر "بعد
أن دخل الإسلام المغرب انتشر انتشارا واسعا فأقبلت عليه جماهير الناس لا يعرف لها
مثيل فيما فتح المسلمون من أراضي ،وقد ظهر الإيمان العميق في صدور أهله والسعي
الحثيث لدراسة الإسلام والعلم به ،كما ظهر في هيئة جماعات من العبّاد والزّهاد من
المتصوفة الذين قاموا بنشر الطرق الصوفية في المغرب كله ،حتى إننا لا نبالغ إذ قلنا :لم
يكن في المغرب أحد في العصور الوسطى غير منتسب إلى طريقة ،ما طكالشاذلية
والتيجانية والسنوسية" ،وكانوا لهم الأثر الواضح على مقومات المجتمع المغربي وبفضلها
أصبح الإسلام محور الحياة المغربية كلها وأصبحت أخلاقه أساس المعاملات ثم اتسع نطاق
هذه الطرق ،فامتد إلى خارج المغرب خلال الصحراء ووصلت إلى افريقية المدارية
والاستوائية فكان لها الأثر في انتشار الإسلام فيها".34
365
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
ويقول" :الكسندر بينيغيس شنتال كيلك جابي" في كتابه "المسلمون المنسيون":
"حلت بالعالم الإسلامي كارثة كبيرة في مطلع القرن الثالث عشر ،بسبب غزو المغول
الذين غزوا أسيا الوسطى ،ثم اتخذ الغزو اتجاها صليبيا معاديا للإسلام مع الحروب
الصليبية ،غير أن نشاط الجماعات الصوفية أنقذ الإسلام وأضفى عليه طابعا أكثر شعبية
وعمق جذوره أكثر بين الطبقات الفلاحية".35
وانتشار الإسلام في إفريقية جنوبي الصحراء :السينغال ومالي والنيجر وغينيا
وغانا ونيجيريا وتشاد ،إنما يرجع الشطر الأكبر من الفضل فيه إلى الطرق الصوفية
خصوصا التيجانية والسنوسية والشاذلية.36
كانت الزوايا التي أسسها شيوخ هذه الطرق الصوفية بؤر لنشر الدعوة
الإسلامية بين الشعوب الوثنية في غرب القارة الإفريقية وقلبها ،ومرد هذا خصوصا إلى
اختلاط الصوفية بالطبقات الشعبية في هذه البلاد بين العامة والفقراء ،مما أبدى لهؤلاء
نماذج حية تتصف بالتقوى والصلاح إلى جانب ما تقوم به هذه الطرق من خدمات
اجتماعية وألوان من البر والإحسان والمساواة والمؤاخاة.
ارتبط نشاط الدعوة إلى الإسلام لاسيما في غرب إفريقيا وشرقها بانتشار الطرق
الصوفية ،وخاصة بين المشتغلين بالتجارة ،وكانت هذه الطرق قد بزغ نجمها في الأفق منذ
أن تعرض العالم الإسلامي لخطر الاستعمار الأوروبي الحديث ،بدءًا من القرن السادس
عشر الميلادي ،واستطاعت الطرق الصوفية أن تُسهم إسهاًما كبيًرا في الدعوة إلى مقاومة
الاستعمار ،وكذلك في الدعوة إلى الوحدة الدينية ،وفى نشر الإسلام بين من لم يعتنقه،
ونتيجة لذلك جذبت هذه الطرق إليها كثيًرا من الشباب الأفارقة.37
ففي شرق إفريقيا وبلاد «سودان وادي النيل» ظهرت «الطريقة الميرغنية» في القرن التاسع
عشر للميلاد والتي كان لها تأثيرها الكبير على الناس هناك ،وكانت قد ظهرت قبلها بعدة
قرون "الطريقة القادرية والشاذلية والرفاعية" ،وانتشر أتباع هذه الطرق على طول الساحل
الشرقي لإفريقيا ،وفى الجزر المواجهة له وكذلك في المناطق الداخلية.38
366
الفصل الثامن عشر
وفى سنة (1253هـ = 1837م) ظهرت في شمال إفريقيا الطريقة السنوسية على
يد الفقيه الجزائري "محمد بن على السنوسي" ،الذي استطاع أن يقيم دولة دينية في
الأراضي الليبية ،دون أن يريق قطرة دم واحدة ،وتمكنت هذه الطريقة من خلال أتباعها
وزواياها التي انتشرت في إفريقيا جنوب الصحراء أن تنشر الإسلام بين العديد من القبائل
الإفريقية الوثنية ،مثل قبيلة «بيلى» التي كانت تسكن منطقة «إنيدى» شرق «بوركو» في
شمال «نيجيريا» ،وع ّمقت الإسلام بين جماعات «التَّدا» فى شمال بحيرة تشاد.
وكان للسنوسيين فضل كبير في نشر الإسلام في «واداى» ،التي تقع شرق
«بحيرة تشاد» ،وبين قبائل «الجلا» في «الحبشة»؛ حيث كانوا يشترون العبيد أو الأطفال
ثم يحررونهم ويرسلونهم إلى مركز الطريقة الرئيسي في «واحة جغبوب» في الصحراء الكبرى
بين «مصر» و«ليبيا» ،فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم دعاة للإسلام.
كذلك كان لأتباع «الطريقة القادرية» التي انتشرت في شمال إفريقيا وغربها أثر
كبير في نشر الإسلام في هذه البلاد ،فقد اتخذ أتباعها من مدينة «ولاتة» بموريتانيا أول
مركز لهم في تلك البلاد منذ القرن الخامس عشر الميلادي ،ثم لجئوا إلى «تمبكتو» ،وانتشر
أتباعهم ودعاتهم في أنحاء «السودان الغربي» ،وكذلك في منطقة «القرن الإفريقي» وساحل
«شرق إفريقيا» ،ووصل أتباعها في الداخل حتى «الكونغو» ،وكان أتباع هذه الطريقة
يقومون بتأسيس المدارس لتعليم الدين ونشر الإسلام ،ويرسلون نوابغ الطلاب إلى مدارس
«القيروان» و«تونس» و «فاس» و«الأزهر» ،وغيرها ،فإذا ما أتموا دراستهم عادوا إلى
أوطانهم دعاة للإسلام.
ومن الطرق الأخرى التي انتشرت في القارة «الطريقة التيجانية» التي أنشأها
«أبو العباس أحمد بن محمد المختار بن سالم التيجانى» المتوفى عام (1231هـ =
1815م) ،وقد قام أتباعه بنشر هذه الطريقة بين رجال القوافل والتجار ،فانتشرت
تعاليمها في حوض «السنغال» وفى «تمبكتو» وفى سائر أنحاء غرب إفريقيا ،وظهرت هذه
الطريقة أي ًضا في «السودان النيلى» وشرق إفريقيا على يد بعض التيجانية القادمين من
غرب إفريقيا .وقد انخرط في سلك هذه الطريقة علية القوم في «الحبشة» ،مثل سلطان
367
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
«جمة» «أبى جفار» ،و«الرأس على» نائب الإمبراطور الحبشي ،وعمل هذان الرجلان
على نشر الإسلام بين الوثنيين من الأحباش ،ونجحا في ذلك نجا ًحا عظي ًما فتحول معظم
سكان الولايات الوسطى والشمالية في «الحبشة» إلى الإسلام.39
ذلك أن الإسلام لم يُفرض كما رأينا على الشعوب الوثنية الإفريقية فر ًضا ،إنما
حمله قوم من أهل إفريقيا نفسها ،اتخذوا صفة التجار أو المعلمين أو الدعاة أو الصوفية،
فليس غريبًا أن يلقى قبولا منهم ،فهو في نظرهم دين إفريقي غير دخيل ،والدعوة إليه تتم
بالطرق السلمية وليس بالغزو المسلح كما فعل الاستعمار الأوربي في العصر الحديث.40
كما أن الإسلام لم يستعبد هذه الشعوب ،إنما أشعرها بالعزة والكرامة ،فخلق
منها دولا كبرى وقوى فيها النزعة إلى الحرية والاستقلال ،ولم يقض على نظمها المحلية بل
تواءم معها وخلق منها ومن تقاليده تقاليد إسلامية الطابع إفريقية الروح.
ومن ثم تَقَبّله الأفارقة ،خاصة أن الإسلام لم يكن دينًا أخرويا فحسب ،وإنما
كان دينًا وحضارة تقوم على أساس تعمير الدنيا والفوز بالآخرة ،ومن ثم لزم أن يَنشر
الإسلام نور العلم والثقافة بين أتباعه ومعتنقيه ،فارتبط الإسلام بالعلم والتعليم منذ البداية،
وكان الإفريقي لا يكاد يسلم حتى يتعلم القراءة والكتابة ويرتفع قدره اجتماعيا كلما زادت
ثقافته ،ولذلك سمعنا عن عدد كبير من العلماء الأفارقة الذين ظهروا في مختلف ميادين
العلم والثقافة ،ولم يكونوا في ذلك أقل من إخوانهم علماء المغاربة أو المشارقة ،زد على
ذلك أن الإسلام لم يعترف بالتفرقة العنصرية ،فهو لا يعرف حواجز الطبقات أو العرق أو
اللون ،ولا يميز بين إنسان وآخر على أساس اللون أو الثروة ،لأن معيار التفاضل في
الإسلام هو التقوى والعمل الصالح ،ولذلك أقبل الأفارقة على اعتناقه ،فو َّحد بينهم وقضى
على عناصر الفرقة والتشرذم ،كما وحد بينهم لغويا؛ إذ انتشرت اللغة العربية بين كثير من
شعوب القارة ،وصارت هي أداة الفكر والعلم والمخاطبة ،أما الشعوب التي احتفظت
بلغاتها ،فقد كانت العربية هي وسيلة العلم والتعامل كما كانت اللغة الرسمية ،لأن اللغات
الإفريقية لم تكن لغات مكتوبة.
368
الفصل الثامن عشر
وكما و َّحد الإسلام بينهم دينيا ،و ّحد بينهم سياسيا ،وقضى على التشرذم القبلي
والنزاعات القبلية ،وأنشأ دولا كبرى ،بل إمبراطوريات عظمى مثل «إمبراطورية مالي» ،التي
ضمت معظم منطقة غرب إفريقيا بالكامل ،وكانت مساحتها تفوق مساحة دول غرب
أوربا مجتمعة ،ليس هذا فحسب ،بل إن الإسلام جعل الإفريقي يشعر بانتمائه ليس إلى
بلاده فقط ،بل إلى عالم إسلامي واسع ،يستطيع أن ينتقل بين أرجائه سواء كان تاجًرا أو
حاجا أو طالب علم ،وفى كل مكان يجد هذا الإفريقي القوت والمأوى والمساعدة
والاستقبال الودود ،على أساس من أخوة الإسلام التي جمعت بين أفراد هذا العالم
الإسلامي الواسع ،الذي يمتد من الصين شرقًا حتى المحيط الأطلسي غربًا.
ومن هنا اعتبر الأفارقة الإسلام دينًا إفريقيا قام بنشره بينهم قوم منهم ،اتخذوا
الدعوة أو التجارة أو التصوف وسيلة إلى ذلك ،وطبقوا مبادئ الإسلام السمحة وأخلاقه
الحميدة وقيمه السامية من إخاء ومساواة وتكافل وتعاون ،ومن ثم انتشر الإسلام في هذه
البقاع الواسعة في القارة ،حتى إنه يمكن القول بأن قارة إفريقيا هي القارة المسلمة الوحيدة
في عالم اليوم ،على اعتبار أن غالبية سكانها يعتنقون الإسلام .ويتبين ذلك بوضوح من
خلال حديثنا عن السلطنات والممالك الإسلامية التي قامت بالقارة في جنوب الصحراء
في العصور الوسطى.41
دور التصوف في نشر الإسلام في آسيا
قصة انتشار الإسلام في جنوب وشرق آسيا تـَُع ُّد من أعظم قصص انتشار الإسلام في
العالم؛ فالمسلمون لم يذهبوا إلى هذه المناطق الشاسعة المساحة العظيمة السكان بجيوش
فاتحة ،ولم يخوضوا مع أهلها حروبًا تُذكر ،وإنما ذهبوا إليها كُتّجار يحملون أخلا َق الإسلام،
وَهَّم الدعوة إلى الله ،وذلك بالحسنى والمعاملة الحسنة ،فحَّققوا القاعدة الأصيلة التي تؤكد
أن الإسلام إنما يغزو القلوب لا الأراضي أو البُلدان.
يقول "الكسندر بينيغيس شنتال كيلك جابي"" :ظهرت الجماعة الصوفية من
طرق النقشبندية في شمال القوقاز ،فكان أن سجل الموجة الثانية من انتشار الإسلام في
الإمبراطورية الروسية ،وفي نهاية القرن 15م ظهر في داغستان وبلاد الشيشان أوائل دعاة
369
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
النقشبندية من شيروان واسيا الوسطى ،وظهرت في شمال القوقاز جماعة صوفية أخرى من
الطرق القادرية واليها يرجع الفضل في نشر الإسلام بين الأنكوش نحو عام 1880م.42
وقال أيضا في كتابه "تاريخ التصوف الإسلامي"" :ونأخذ مثالا على ما حدث
في الهند فكما قال مانسينيون بحق إن الإسلام لم ينشر في الهند بواسطة الحروب ،بل انتشر
بفضل الصوفية والطرق الكبرى وهي الجشتية والكبروية والشطارية والنقشبندية ،ذلك لأن
التوفيق الاجتماعي بين الظافرين والمقهورين لا يتم إلا بواسطة أولئك الذين يعطون ولا
يطالبون ويقرضون ولا يأملون في شيء".43
وقد كان للتصوف الإسلامي في الهند الفضل في المصالحة بين الطوائف كما
يتجلى ذلك في تصوف "ابا كيور’" المتوقي سنة 979هـ الموافق لسنة 1571م.44
لقد قام الصوفية بجهود عظيمة في نشر الإسلام منذ القرون الأولى من عمل
الإسلام إلى تاريخنا الحديث ،وفي الحفاظ عن الهوية الإسلامية للأمة ،وواجهوا الاستعمار
وقاوموه فلقد انتشر الإسلام في ’’المليبا’’ و"المويلا’’ و"المالديف" من بلاد الهند ،بجهود
الصوفي الورع "مالك بن دينار" ،وجهود أخيه وآخرين من أسرته ومريديه كما انتشر في
كجورات من الهند أيضا كذلك في بلاد الفليبيين وفي ’’ترنشيولي’’ بجهود الصوفي "ثرشاة"
المتوفى سنة 431هـ وقام بنفس الجهد الصوفي يوسف الدين السندي في القرن السابع
الهجري في السند وملتان وكشمير.
وقد حمل التجار المسلمون بضائعهم ،ورحلوا من المشرق الإسلامي إلى تلك
البلاد النائية عن طريق البحر ،وكان لعرب جنوب الجزيرة العربية اليمنيّين والُع َمانيّين
النصيب الأوفى في ذلك ،فأخذوا يبيعون ويبتاعون ،ووجد أهل تلك البلاد النائية فيهم
الصدق ،وعَرفوا فيهم العَّفة والأمانة ،ثم علموا أن هذا كله من أثر العقيدة التي يحملونها؛
ف ُحبّب الإسلام إلى نفوسهم؛ الأمر الذي لم يظلوا عليه طويلاً حتى باتوا يَدينُون بالإسلام،
وأصبحوا من أبنائه المخلصين.
وأسلم "أونج" حاكم بروناي على يد السلطان محمد شاه ،واَتّسع نفوذها
فشملت جزر صولو والفلبين ،ثم فرضت إنجلترا الحماية عليها ،ودخلتها اليابان ثم
370
الفصل الثامن عشر
انسحبت منها ،واتفق سلطانها مع البريطانيين على الانسحاب على أن تبقى إدارتهم
المدنية ،ولم تنضم بروناي إلى الاتحاد الماليزي ،الذي انتشر فيه الإسلام عن طريق أسلام
ملك (مالاقا) فصارت مالاقا دولة إسلامية ،فاحتلتها البرتغال ثم هولندا ،وتابعوا سياستهم
في قتل المسلمين ،ثم احتلتها بريطانيا ،وقامت ثورات في الملايو ،منها ثورة الشيخ الهادي،
تلميذ الشيخ محمد عبده ،ثم احتلتها اليابان؛ ووقع التخريب حتى هزيمة اليابان ،فقام اتحاد
الملايو ،و ُحّولَ ْت مسئوليات الاتحاد إلى المجلس الشعبي ،وفي مؤتمر لندن تقرر استقلال اتحاد
الملايو.45
ودخل الإسلام الصين في أسرة "تانج" ،التي عاصرت البعثة النبوية ،وانتشر
الإسلام فيها عن طريق الفتوحات ،وظهر القائد "السيد الأجل" فأصبح حاك ًما ،فازدهر
الإسلام ،ثم سيطرت الأسرة "المانشورية" فاضطهدت المسلمين ،واحتفظ الكثير منهم
بدينهم خفية.
أما تركستان فدخلها الإسلام عن طريق الإيجور "ستاتوك بوجرخان" ،الذي
اعتنق الإسلام قبل أن يتوَلّى العرش ،واحتَلّها الصينيون ،واَتّبعوا سياسة اضطهاد المسلمين،
فقامت الثورات.
وظهرت إمارة "رجا سليمان" المسلمة في الفلبين ،وبدأ ماجلان بنشر المسيحية،
فتصدى له حاكم جزيرة ماكتنان ،ثم احتلتها إسبانيا ،باستثناء منطقة "مورو" ،وأجرت
اتّفاقًا مع الولايات المتحدة لتتركها لها ،فاستمَّرت الثورات ،ثم احتَـَلّتها اليابان ،وحصلت
على الاستقلال ،وأصبح الحُكم فيها رئاسًيّا ،وطالب النصارى بتطبيق القانون المدني على
المسلمين؛ أفميُاْمبكورنمالهفملمأنت يكتزنَّوجشواوا الطمئهسالمماح َطّتا،توبللدأسفتن؛حرفوبصاللإبإالديةه.ا مسلمو الصين والهند،
فنشروا الإسلام ،واحتلتها إنجلترا ،فتج َّمع غالبية المسلمون في أراكان ،حتى أصبحت دولة
مسلمة مستقلة ،ثم احتلتها إنجلترا فاستقلت عنها ،وتم ضمها إلى بورما ،فبدأ التطهير
العرقي ض َّد المسلمين ،وأصدرت السلطات قراًرا بحظر تأسيس مساجد جديدة.46
371
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
أما تشامبيا ومنطقة الهند الصينية ،التي تشمل :فيتنام ،وكمبوديا ،ولاوس،
فمعظم شعوبها كانت تَدين بمعتقدات كالبراهمية ،فوصل إليها الإسلام في ساحل مملكة
أنام مناسبًا لانتشار الإسلام ،ويُطْلَ ُق في تشامبيا اسم "هوي هوي" على المسلمين،
فدخلت في صراع مع الصين وكمبوديا ،وغزتها فيتنام.47
كان الفيتناميون يَ ُشُنّون حرب إبادة ض َّد المسلمين ،فترك معظمهم البلاد إلى
كمبوديا ،ويُطْلَ ُق عليهم "خمير إسلام" ،أي الكمبوديون المسلمون ،وعانت هذه المناطق
من الشيوعية ،فوقع المسلمون فريسة للجهل الكبير بدينهم ،وَغ َدت المساجد لا تـُْفتَح إلا
يوَم الجمعة ،ويقوم الأئمة بالعبادات نيابة عن الشعب ،وعَّم الفقر حتى إنهم لا يجدون ما
يُ َكّفنُون به موتاهم ،ولا ما يسترهم ،ويرفض المسلمون إلحاق أبنائهم بالمدارس الحكومية
خوفًا على عقيدتهم.48
تلك قصة الفتوحات الربّانية لأهل الطرق الصوفية ،تتوحد مع الإسلام ،وتتألق
مع الإيمان ،ولم يحدث أن قتل صوفي رجلا مسلما أو غير مسلم ،أو حتى أفتى بقتله.
ويكفي القول إن الفلبين ،كان المسلمون العرب يس ّموها بلاد "واق الواق" ،نظر
لبعدها ،ومع ذلك سافر إليه المسلمون ،ونشروا فيها الإسلام ،ويحمل مسلمون الفلبين
اسم "مورو" ،وهو اسم اسباني للدلالة على المسلم.د أو العربي.
المحور الثالث :دور التصوف في التصدي للفكر التكفيري
لا يمكن الحديث عن دور الصوفية في التصدي للفكر التكفيري ،دون التطرق للخطر
الذي يمثله الفكر السلفي ،وهو الفكر الذي يمثل الإطار الأيديولوجي لفكر التكفير ،وهو
ما نكتب عنه.
الإطار الفكري للسلفية:
من أين جاء هؤلاء التكفيريون ،المعروفين باسم السلفية ،والسلف منهم براء ،بفقه
الكراهية ،وكيف مارسوا القتل وهم يزعمون أنهم يدافعون عن نقاء التوحيد ،لم يفهم أحد
منهم قول الله في كتابه الكريم ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾
372
الفصل الثامن عشر
[سبأ ،]24:وقوله تعالى﴿ :ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ [المائدة ،48:وتكررا في
النحل.]93:
ولقد حاور الله مخلوقا ملعونا هو إبليس ،فقال إبليس﴿ :فبعزتك لأغوينهم
أجمعين﴾ [ص ]82:ويرد عليه الخالق جل شأنه﴿ :إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان[ ﴾...الحجر.]42:
فالحوار هو الأصل وأن التمايز بين البشر ضرورة للتعارف بين الثقافات،
فالأديان تلتقي على التراحم والمحبة ،ولكن السلفيين يلتقون على الخصومة ،والغريب أنهم
يقولون خصومة في الله ،فظاهرة العنف عندهم مرده الفهم القاصر للنصوص الدينية عن
الجهاد التي تشرع للعنف وترفعه إلى مرتبة الواجب ،ويتجاهل هؤلاء كل آيات التسامح،
ويختارون من النصوص ما يؤيد فكرة معدة مسبقا ولا يذهبون في التأمل ،وعندما تنامت
فتنة التكفير التي اجتاحت العالم الإسلامي ،حاصدة أرواح آلاف الأبرياء من المسلمين
وغيرهم ،في تجاوز صريح لكل القيم الإنسانية وانتهاك فاضح لكل الحرمات وتشويه غير
مسبوق للإسلام.
إن سيوف السلفيين لم تقتل في تاريخها القديم والحديث إلا رقاب المسلمين في
الحجاز وعمان واليمن والعراق والشام ومصر والجزائر ،ولهذا السبب ،فالسلفية حركة مريبة
في أهدافها ومشاريعها ،فكيف بحركة دينية تكفر عموم المسلمين وغير المسلمين ،ولا ترى
إلا نفسها الوحيدة المسلمة.
إن الإيمان لدى السلفية المعاصرة بأنهم يحوزون الحقيقة المطلقة ،وهو الطاقة
الحيوية التي تتزود بها فكرة التكفير وتستمد منها الشرعية ،وبسببها نعيش تدهورا حادا في
رؤية الفكر الإسلامي الصحيح ،ونشأ جيل إسلامي جديد مقطوع الصلة بالتراث
الإسلامي الإصلاحي ،وتشكل لدى السلفيين جموح متزايد للدفاع عن ممارستين شاذتين:
ممارسة السياسة في الدين بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع،
وممارسة الدين في السياسة عن طريق بقاء موقع قوي فيها باسم المقدس.
373
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
ولا مقام للسلفية بدون تميّز عن الآخر ،ولا يوجد تميّز للوهابية السلفية إلا
تكفير الآخر ،فمن هذا التكفير تستمد مشروعيتها ،وتميّزها وزخم عدوانها ،المهم أن فكر
الحركة السلفية اعتمد على أرضية التكفير والقتل التي مهدت السبيل إلى توسيع فقه إدانة
المخالف وتحقيره وتهميشه وتكفيره وقتله ،مما جّر على الأمة ويلات من التمزق والتناحر
والاختلاف ،وطيلة عدة عقود تقريباً ،والسلفية تحاول أن تكيّف نفسها مع محيطها
الإسلامي ،الذي لم تعترف بإسلامه ،وهو أيضا ،أي المحيط المسلم ،وكرد فعل ،شكك في
أبعادها الإسلامية ،يقول الوهابيون السلفيون 49مثلا:من قال :لا اله إلا الله لا يخلو أن
يكون واحدا من اثنين ،إما أن يقولها دون أن يشرك بالله شيئا ،أي لا يزور قبرا ولا يبنيه
ولا يصلي عنده ولا يطوف حوله ،وأما أن يقولها ويفعل شيئا من ذلك ،والأول لا يسأل
عن شي ولا يحاسب على شي وان أتى بملي الأرض ذنوبا ،وجاء في فتح المجيد في شرح
كتاب التوحيد "إن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ،لأنه يتضمن
محبة الله ،ورجاءه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض ،والثاني هو
الذي يزور القبور فهو مشرك كافر ،لا يقبل منه عمل ولا صلاة ولا صوم"،50
ومن أجل التوحيد الخالص في زعمهم ،قاموا بهدم الآثار في مكة المكرمة والمدينة
المنورة ،لم يتركوا أي أثر يدل على الوجود التاريخي للنبي أو لأهل بيته أو صحابته دون أن
يردعهم دين أو ضمير أو ثقافة ،فقد هدموا في مكة البيت الذي ُولد فيه النبي وهدموا
مهبط الوحي وهو بيت السيدة خديجة والذي كان يسكنه معها ،كما ودمروا دار الأرقم
بن أبي الأرقم ،وطمسوا شعب أبي طالب الذي يثبت قصة الحصار الذي أقامته قريش
للنبي ،كما هدموا أضرحة السيدة عائشة وقبر عبد الله والد النبي ومسجد شق الصدر في
بادية بني سعد ،وقبر أم النبي آمنة بنت وهب في الأبواء ،وهو القبر الذي زاره النبي بعد
الهجرة وبكى عنده وأبكى صحابته ،وهدموا البقيع وقطعوا النخل الذي ظل مثمرا والذي
غرسه النبي بيده الشريفة لسلمان الفارسي ليفدي نفسه به ،ظل مثمرا حتى طالته يد
القطع عام ،1926وردموا الخندق الذي ُحفر في حرب الأحزاب ،وأزالوا معظم جبل
الرماة الذي شهد موقعة أحد ،وأزالوا أضرحة حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير،
374
الفصل الثامن عشر
وباقي شهداء أحد ،وهدموا العريش الذي ظل مقاما في مكانه قرب آبار بدر ،وأزالوا
سقيفة بني ساعدة التي شهدت خلافة أبي بكر الص ّديق ،وغيرها من المشاهد الإسلامية
التي تنمتي لفترة النبوة.
أما الحجرة النبوية فقد كانت تحوي على أسياف النبي ودروعه وحرابه وأسّرته،
كلها أخذت ودمرت في سابقة ،وتلك الآثار ظلت باقية حتى عام 1926والتي كانت
شاهد عيان حي على الوجود التاريخي للإسلام.
وقد ظلت تلك الآثار لم يفكر أحد من المسلمين في إزالتها حتى جاء الغزو
السلفي ليدمر الآثار ويطمس الهوية.
وبسبب كل ذلك ،قامت داعش الحركة الإرهابية ،بتطبيق الفتاوى السلفية،
فهدموا قبر النبي يونس في نينوى بالعراق ،وهدموا قبر الصحابي حجر بن ُعدي في الشام،
بالإضافة إلى حرق الكنائس والمساجد التي لا تتبع ملتهم ،كما سبوا النساء وباعوهن في
أسواق النخاسة المعاصرة.
وهكذا وجدنا المسلمون أنفسهم في صراعات داخلية ،ولا ننسى أنه نقلوا
الحرب إلى الغرب الأوربي والأمريكي ،فهلع الغرب ،واعتبروا كل مسلم مشروعا لإرهابي،
كما نجد أن السلفية تحرم السلام على المسيحي ،وترفض تهنئتهم بأعيادهم ،وتكفر من
يزور حتى قبر النبي محمد عليه السلام ،فانتشر ما يمكن تسميته بفقه الكراهية الذي يجلب
الفرقة والتشرذم ،وهو ما لا نجده عند التصوف.
خطورة السلفية
السلفية هي خطر على الأمة الإسلامية من جهتين :الأولى أنها فكر هدام ،ينشر الفتن،
ويذيع الأحاديث غير المتفق عليها ،واعتبروا أن كل آيات التسامح منسوخة بآية السيف،
وأن المسلم مطالب بأن يكره غيره ويقتلهم ويضيّق عليهم في طرقهم ،والفكر السلفي يحّرم
الموسيقى وتحية العلم ويحرم قراءة القرآن بصوت عذب ،ويحّرمون السينما والتلفاز ،يحرمون
السلام الوطني ،ويعتبرون الأوطان ترابا نجسا ،وهكذا خطورتهم تنبع من الفتن التي ينشروها
بين المسلمين قبل غير المسلمين.
375
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
والثانية يزعمون أنهم ينتسبون للسلف الصالح والسلف منهم براء ،إذ السلف
الصالح لم يكن ينشئ البدع ولم يكفر مخالفه مهما عارضه في فكر أو عقيدة ،ونضرب
مثالا رائعا في ذلك من العلماء الأتقياء ،كتلك العلاقة المتينة التي كانت تربط بين الإمام
جابر بن زيد رحمه الله والإمام الحسن البصري رغم اختلافهما في بعض المسائل.51
فهذا التعايش كان سمة أولئك الصالحين ،أما السلفية فهي فئة نشأت بعيدا عن
السلف الصالح ،لأنها ترفض الآخر وتتهمه بالكفر وتعتدي عليه ،واستعملت المال
سلاحا.
مميزات الصوفية بالمقارنة مع السلفيين
أول ما يميز الصوفية عن السلفية ،إنسانية الأولى وقسوة الأخَريين ،فالأولى لشدة احترامها
للإنسان تضعه في مقام القرب من الله بدون وسائط السماسرة وتجار الإيمان ،عبر
الاتصال المباشر أو "الحلول" و"الاتحاد" أو "المواجد" و"الأحوال" وغير ذلك من المفاهيم
العرفانية الروحية.
أما السلفية فتصلان بالإنسان درجة من الاحتقار ،تجعل منه آلة مبرمجة لتطبيق
وصفة يومية من التعاليم الفقهية ،بحيث تلجم عقله وتطمس جذوه روحه وتحوله إلى كائن
أبله لا يعرف من الألوان إلا الأسود والأبيض ،بينما تزخر الطبيعة بالألوان الزاهية البهية
والجميلة.
وثاني ما يميز الصوفية عن السلفيين ،هو انشغال الصوفية بمتعهم الروحية
الشخصية ،التي لا يسعون من ورائها لا إلى سلطة ولا منصب ولا ترأس أو غلبة ،واحتراق
السلفيين وعجلتهم من أجل بلوغ مناصب السلطة والغلبة لإحكام قبضتهم على الدولة
وممارسة الوصاية على عقول الناس وإحكام الطوق على رقابهم.
وثالث ما يميزهما عن بعضهما سعة أفق الصوفية وضيق السلفية ،فللصوفية
تأويلاتهم للنصوص الدينية تأخذهم إلى مشارف الروح ،وتستكنه مواطن الحلم والجمال في
الإنسان ،وفي الكون وما وراء الموجودات ،بينما يُحول السلفيون والإخوان نصوص الدين
376
الفصل الثامن عشر
إلى عبارات نمطية ماحقة وفقه مغلق ،يفقر الحياة ويقتل ومضة الإبداع ،وهم يفعلون هذا
كله باسم السماء ،دون أن يكون الر ّب قد اتخذهم وكلاء أو محامين.
ورابع ما يفصلهما عن بعضهما البعض جمالية الصوفية روحا وجسدا ولغة
وتصورا وتخيلا ،وقبح السلفية مظهرا ومخبرا وخيالا وكلاما ،فالأوائل لا يتكلمون إلا
ليحدثوك عن فنائهم في عشق المطلق ،وعن متعتهم الروحية التي يجدونها في الجدية والذكر،
دون أن يعتبروك أقل آدمية وأهمية منهم ،ودون أن يلزموك بما هم فيه من تجربة ،بينما لا
ينطق الأواخر إلا ليصرخوا بأصوات منكرة ،فمنهم المتملق والمتحذلق ،ومنهم الفظ الغليظ
القلب الذي لا يبشر إلا لينفر ،وهم لا يرون في غيرهم إلا خطرا داهما وشرا مستطيرا،
فتراهم يكيدون للكل حتى تنقلب مكائدهم عليهم ،ولهذا يلازمهم الخراب حيثما حلوا
وارتحلوا.
إن الفرق بين الصوفية من جهة والسلفية من جهة أخرى ،هو مثل الفرق بين المحبّة
والكراهية ،بين الموّدة والجفاء ،بين العشق والنقمة ،بين الحلم والانتقام ،بين الحضارة
والبداوة ،وأننا لو نزعنا قلوب السلفيين ،ووضعنا بدلها قلوب الصوفية لقلّت البلوى
وخمدت الفتن ،وعاش الناس في أمن وأمان.
إن تاريخ الحركات الصوفية في إطار الحضارة الإسلامية تاريخ حافل بالومضات
المضيئة نقف فيها أمام محطات مهمة ،لعل أبرزها إسهاًما "جلال الدين الرومي"،
والصوفية ليست بدعة ولكنها استغراق في التدين الصحيح والمضي في رحلة العشق الإلهي
إلى حيث يمكن الوصول إلى مرحلة الطرح الصوفي الكبير ،الذي يضع صاحبه في مكانة
رفيعة يختلط فيها التعبد بالزهد وتمتزج فيها بساطة الدين وروعته بطقوس روحية ،لا
تتعارض مع الأصول الثابتة للعقيدة ولا الشريعة ،كما أنها تخرج من عباءة الجدل الفقهي
لتصل إلى حالة من التوحد مع الذات الصافية ،والمضي في ذكر الله بطرق مختلفة ،فيها
إيقاع حي يربط المخلوق بالخالق ،بينما التطرف هو نمط بائس ويائس من الهجرة الزمانية
إلى كتابات بعض فقهاء القرن الثالث الهجري في محاولة لتطويع النصوص في خدمة
377
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
أهداف لا تمت لصحيح الدين من قريب أو من بعيد ،وهى تأتى نتيجة جرعات من
الشعور بالعزلة وتكفير الآخر ورفض حياة العصر.
إن التطرف داء لعين إذا أصاب شخ ًصا هوى به إلى الحضيض ،وإذا أصاب
جماعة أخرجها من زمرة المسلمين ،إن التطرف امتداد طبيعي للتعصب والغلو والتشدد في
غير موضعه ،ولأن المتطرف يسعى إلى تغيير طبيعة المجتمع ونظام الدولة وإيجاد نمط يريده
هو ويتعايش معه دون غيره ،لذلك ظهر الإسلام السياسي لكي يكون ابنًا شرعيًا للتطرف
والمغالاة ومحاولة توظيف الدين لخدمة أغراض دنيوية ومصالح سياسية.52
ونخوض في أعماق المقارنة بين التصوف والتطرف:53
أوًلا :لعل أبرز ما يميز تاريخ الصوفية عن غيرها من الجماعات الإسلامية هي أنها لا
تسعى نحو ركوب موجة الإسلام السياسي ،فهي تتوازى أحيانًا مع الرهبنة المسيحية برغم
الاختلافات الكبيرة بينهما ،ولكن نزعة الزهد والانصراف عن طيبات الحياة تجعل للصوفية
شأنًا خا ًصا في التاريخ الإسلامي كله ،وهى جماعات كثيرة العدد ،قوية التأثير ،ولكنها لا
تميل إلى استعراض عضلاتها ،لأنها وجدان روحي وليست قوة سياسية ،لذلك كان أقطاب
الصوفية دائ ًما محل احترام عن بعد ،لا يحملون عداوة ،ولا يبشرون بأيديولوجية معينة ،ولا
يتدخلون في حياة الناس ،فالفارق بين الصوفية والسلفية كبير وواضح ،فالصوفية علاقة بين
الإنسان وخالقه ،أما السلفية فهي اشتباك مع المجتمع بالقبول أو الرفض .
ثانيًا :إن الصوفية تمثل جي ًشا سلميًا لخدمة الإسلام وليست جماعة مغلقة
بالمنطق الماسوني للكلمة ،إنها روح متجددة وحب للآخر واحترام لخيارات الغير ،لذلك
اتظالسمًام رغم أن بعضها كان السلطات الحاكمة، صدام يذكر مع القرون دون عاشت عبر
الحياة والناس .ولقد النظرة الشفافة تجاه الزهد وأصحاب على رجال يجور أحيانًا
الطابع الصوفي دائ ًما بقبول التعايش المشترك مع أصحاب الديانات الأخرى ،فضلًا عن
نزعة متأصلة تدعو إلى احترام خيارات الغير ،وإذا كانت الصوفية قد ارتبطت بالأعلام
الخضراء والإيقاع الموسيقى الراقي ،فإنها قد عرفت أي ًضا التعددية والتشعب بين طرق
378
الفصل الثامن عشر
صوفية مختلفة ومدارس متعددة في ذكر الله ،قد تختلف في الأسلوب ولكنها تتوحد أمام
الغاية وهي الاندماج في ذاته والانصياع لجلاله وعزته.
ثالثًا :لا بد أن يتذكر علماء الفلسفة الإسلامية أن الحركات الصوفية كانت
مكونًا رصينًا في تاريخ الفلسفة عموًما باعتبارها أم العلوم ،وفى الفلسفة الإسلامية
خصو ًصا ،لما تميزت به من تأثير عميق في اتجاهاتها المختلفة ومدارسها المتعددة ،فالصوفية
فلسفة قبل أن تكون عقيدة أو مذهبًا ،إنها سلوك إنساني يصل بالفرد إلى حالة من السمو
الأخلاقي والارتفاع عن المباذل والرذائل والخصومات.
رابًعا :إن الأزهر الشريف كان ولا يزال قلعة إسلامية صافية احتضنت مدارس
التصوف وتفاعلت معها وسعت إلى نقائها ،وما زال الأزهر يذخر بشيوخ التصوف ،وما
زال قادرا على مجابهة السلفية بكل صورها التكفيرية.
خام ًسا :إن الصوفية سلاح إسلامي معتدل نرفعه في وجه محاولات الغلو
والتطرف المشوبة بالعناد الذي يستند إلى الجهل ويعتمد على الخرافة ولا يدرك الدلالة
الحقيقية لصحيح الدين.
ومن هنا فإن تشجيع بعض الطرق الصوفية والفلسفات الوسطية يمكن أن يؤدى إلى انتزاع
فتيل الإرهاب وإنهاء فيروس العنف تحت مظلة الإسلام الصحيح الخالي من الشوائب
والمتجه نحو الوسطية والاعتدال والذي يتواصل مع أهل الكتاب ويحترم الذين يختلفون معه
في الرأي ،فالداعية الصوفي الصالح يمكن أن يكون نموذ ًجا حيًا للإسلام النقي والصافي.54
الخاتمة
توصيات للمؤسسات العلمية الإسلامية:
كما رأينا الخطر التكفيري ،عبر التعّرف على أيديولوجيته ونط تفكيره ،وكما نرى جماعات
العنف السلفي ،الذي ينسب نفسه للإسلام ،فلابد من تكاتف المسلمين للخروج من
الشر التكفيري المستطير ،من خلا تبني النهج الصوفي ،وذلك من أجل تبني الفكر الصوفي
رسميا وشعبيا ،والتصدي للثقافة التكفيرية ،لمنع الشباب المسلم من الانضمام للجماعات
379
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
التكفيرية ،ومن ثمّ انحسار تلك الجماعات تدريجيا ،وبعدها تهدأ الأمور ،وتستقر الأحوال،
ولو بعد فترة متوقعة.
فلا يمكن القضاء على فكر في يوم وليلة ،بل تحتاج ربما لجيل كامل ليتحقق
المراد في نشر ثقافة التسامح وقبول الغير ،ونعلم جيدا أن الأمر خطير ،وليس بتلك
البساطة ،وهو طريق طويل ،ولكن في النهاية هو الطريق الآمن الوحيد ،لنهضة الأمة.
وقد تواصلت بالفعل الهيئات الإسلامية للوقوف ضد الفتاوى التكفيرية ،من كل
المذاهب الإسلامية ،ما عدا شيوخ السلفية ،واتفقوا على ضرورة مواجهة فكر التكفير.
ولقد دعا على سبيل المثال "مرصد الفتاوى الشاذة والتكفيرية" ،التابع لدار
الإفتاء المصرية إلى نشر التصوف الصحيح وتفعيل دوره فئ مواجهة التطرف والإرهاب،
مشيراً إلى أن الصوفية الصحيحة مثلت في فترات تاريخية واسعة خاصة في أوقات الأزمات
وحفظ استقلال واستقرار الأوطان وبث الطمأنينة والسلام في المجتمعات ،55وأكد المرصد
في تقريره الثلاثين الصادر تحت عنوان "التصوف الصحيح ودوره في مواجهة التطرف"،56
أن التصوف الصحيح لديه إمكانات كبيرة في المعركة ضد الإرهاب والتطرف دفا ًعا عن
صحيح الدين وصورته الحقيقية ،وعن الدولة ككيان جامع لأمال مواطنيها وحامية لأمنهم
ومستقبلهم ،وكذلك عن المجتمع وسلمه الأهلي وتعايشه السلمي ،وأن الصوفية تعد ساحة
كبيرة وممتدة لجذب الشباب الطامح لبذل الجهد والطاقة في سبيل خدمة دينه ووطنه ،بعد
أن أدرك خواء التنظيمات الإرهابية والمتطرفة ،التي لا هَّم لها سواء الاستيلاء على السلطة
والحكم في العديد من البلاد العربية والإسلامية.57
يمكن البدء بتلك الفتوى وغيرها مما ُصدر في جامع القرويين بالمغرب وجامع
الزيتونة بتونس ،ويمكن تعميمها ومناقشتها بين علماء الأمة من كافة المذاهب وكافة
المدارس الفكرية والفقهية ،حتى الوصول لرسالة عمل موحدة للوقوف ضد التكفير ،ولا
نجد أفضل من أهل التصوف ،كما ذكرنا لتسامحهم وثقافتهم غير الإجبارية لغيرهم ،وهو ما
كتبنا عنه في هذا البحث.
380
الفصل الثامن عشر
إن المجتمع وخاصة الشباب المسلم في أشد الاحتياج للعديد من قيم التصوف في
مواجهته للتطرف والإرهاب والتي يأتي في مقدمتها المحبة لله ورسوله وللمجتمع والإنسانية
ككل ،باعتبار أن الإنسان بنيان الرب عز وجل ،وأن هذه القيم تمثل زاداً حقيقياً في
مواجهة قوى الإرهاب والتطرف التي انحرفت عن دين الله وسنة نبيه الكريم وأساءت إلى
الإسلام ونفرت منه.
1الإسلاموفوبيا Islamophobiaهو لفظ او مصطلح يتكون من كلمتين :إسلام وفوبيا .الفوبيا في
السايكولوجيا هي خوف مرضى يسيطر على وجدان الإنسان الذي يعاني منه ،والخوف من الإسلام
مرض أصاب غير المسلمين بسبب موجات التكفير ،المنتسبة ظلما للإسلام .يستحسن قراءة كتاب ريا
قحطان الحمداني " الإسلاموفوبيا .جماعات الضغط الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية" ،دار
العربي للنشر والتوزيع ،القاهرة ،2011 ،وتوجدكتبكثيرة وبلغات مختلفة حول نفس الموضوع.
2لويس معلوف ،المنجد في اللغة والأعلام( ،بيروت :دار الشرق2000 ،م) ،ص.441
3ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون( ،بيروت :دار الفكر ،)2009 ،ص.468-467
4المصدر السابق ،ص.487
5المصدر السابق ،ص.498
6محمد بن يزيد بن ماجه ،السنن( ،القاهرة :دار الريان للنشر ،)1986 ،ج ،1ص .175قال الشيخ
الألباني :ضعيف.
7فيروز فراحتية ،التصوف عند المسلمين :الحلاج أنموذجا( ،الجزائر :منشورات كلية العلوم الإنسانية
والاجتماعية ،قسم الفلسفة ،سنة ،)2017ص 115وما بعدها بتصرف.
8المصدر السابق.
9ابن عبد ربه الأندلسي ،العقد الفريد( ،بيروت :دار العلم للملايين ،)1997 ،ج ،6ص.201
10أحمد أمين ،ظهر الإسلام( ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط ،)1969 ،5ج ،2ص.150
11ابن عبد ربه ،العقد الفريد ،ج ،6ص.226 -225
12ابن خلدون ،مصدر سابق ،ص.467
13عبد الوهاب الشعراني ،الطبقات الكبرى( ،القاهرة :دار البابي الحلبي ،طبعة قديمة ،بدون سنة نشر)،
ص.41
381
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
14أبو حامد الغزالي ،المنقذ من الضلال ،تحقيق :جميل إبراهيم حبيب( ،بغداد :دار القادسية للطباعة،
،)1984ص.45
15محمد بن إسحاق الكلاباذي ،التعرف على مذهب أهل التصوف( ،طبعة القاهرة الأميرية،
،)1933ص.58
16عبد الرحمن بدوي ،تاريخ التصوف الإسلامي( ،حلب :الشعاع للنشر والتوزيع ،)2008 ،ص.132
17أحمد أمين ،ظهر الإسلام( ،بيروت :دار الكتاب العربي ،ط ،)1969 ،5ج ،2ص.149
18ابن خلدون ،مصدر سابق ،ص.467
19أحمد أمين ،ظهر الإسلام ،ص.153-152
20ابن خلدون ،مصدر سابق ،ص.474
21نفس المصدر ،ص.475-474
22ابن هشام ،السيرة النبوية( ،بيروت :دار الفكر1998 ،م) ،ج ،2ص.147
23فاروق شوشة ،أحلى 18قصيدة في الحب الإلهي( ،القاهرة ،مكتبة الأسرة ،)2002 ،ص.55
25أحمد أمين ،ظهر الإسلام ،ص.150
26فاروق شوشة ،أحلى 18قصيدة في الحب الإلهي ،ص.60
27أحمد أمين ،ظهر الإسلام ،ص.154
28محمد عابد الجابري ،بنية العقل العربي :دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية،
(بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،)2015 ،ص ،75بتصرف.
29محمد المصطفى عزام ،المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل( ،الرباط :مطبعة ندا كوم للصحافة
والطباعة2000 ،م) ،ص.210
30أبو نصر السراج الطوسي ،اللمع ،تحقيق :د .عبد الحليم محمود وطه عبد القادر( ،بغداد :مطبعة
المثنى ،والقاهرة :دار الكتب الحديثة ،)1960 ،ص.43
31علي أبو الخير ،النغم في الفكر الصوفي ،بحث منشور في مجلة المحجة ،بيروت ،شتاء ،2005بدون
رقم صفحة.
382
الفصل الثامن عشر
32محمد كرد علي ،الإسلام والحضارة العربية ،نسخة من علي الكمبيوتر ،يجب قراءة الكتاب كاملا،
وهو متوفر على شبكة المعلومات الدولية ،موقع
/http://www.alukah.net/culture/0/82008
33المصدر السابق.
34حسين مؤنس ،المساجد ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت ،198 ،ص.85
35نقلا عن كتاب الطريقة البوبكرية ،تأليف الشيخ عبد الغني بوبكر ،عن مخطوطة مصورة من دار
الكتب المصرية ،2011 ،بتصرف من عدة صفحات.
36المصدر السابق.
37عبد الله سالم بازينة ،انتشار الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء ،جامعة 7أكتوبر ،مصراتة ،ليبيا،
،2010ص.76
38المصدر السابق ،ص.78
39محمد عبد الله النقيرة ،انتشار الإسلام في شرقي أفريقية ومناهضة الغرب له ،كلية دار العلوم،
القاهرة ،1974 ،ص.113
40المصدر السابق ،ص.114
41المصدر السابق ،ص.80
42محمد عبد الله النقيرة ،انتشار الإسلام في شرقي أفريقية ومناهضة الغرب له ،مصدر سابق،
ص.117
43المصدر السابق.121 ،
44هدى درويش ،دور التصوف في انتشار الإسلام في آسيا الوسطى والقوقاز( ،القاهرة :دار عين
للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ،)2004 ،ص .214
45المصدر السابق ،ص.220
46مصطفى رمضان ،الإسلام والمسلمون في جنوب شرق آسيا ،بدون دار نشر ،2006 ،ص ،1
ويبدو أن الكتاب تم طبعه على نفقة المؤلف.
47محمود أحمد قمر ،الإسلام والمسلمون في شرق وجنوب شرق آسيا( ،القاهرة :دار عين للدراسات
والبحوث الإنسانية والاجتماعية ،)2015 ،ص.153
48المصدر السابق ،ص157؟
383
نحو تجديد الفكر الإسلامي والمؤسسات التعليمية والإسلامية
49نعلم جيدا أن مصطلح الوهابية يغضب إخواننا في بعض البلاد الإسلامية ،ولكن الحقيقة الواضحة
هي أن التراث الوهابي مستمد من تراث فكر أحمد بن تيميه ،وأخذ منه أمراء التكفير وجماعات الإسلام
المتطرفة ،يلاحظ هنا أن بحثنا علمي أكاديمي ،والحق لا يُعلى عليه.
50عبد الرحمن بن حسن آل شيخ ،فتح المجيد شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد،
مكتبة الملك فهد الوطنية للنشر ،2011 ،وهو كتاب تم طبعه مئات المرات ،وُوّزع على حجاج بيت الله
الحرام ،ويُعتبر هو المنهج والدستوركل حركات السلفيين والإسلام السياسي.
51محمد بن عثمان الذهبي ،سير أعلام النبلاء( ،بيروت :مؤسسة الرسالة ،)2001 ،ج ،2ص.162
52مصطفى الفقهي ،التصوف في مواجهة التطرف ،مقال منشور في جريدة الأهرام القاهرية -
2018/10/18العدد 47433بتصرف.
53المصدر السابق.
54المصدر السابق.
55شوقي علام مفتي مصر ،في فتوى صادرة عن الدار اسمها "التصوف الصحيح خيار لمواجهة التطرف
والإرهاب" .2015/9/3
56المصدر السابق.
57المصدر السابق.
384
الفصل التاسع عشر
مفهوم العلم في القرآن الكريم في ضوء مفردتي (الجهل) و(الهوى)
طه محمد آدم
ملخص البحث:
لو نظرنا إلى كلمة (الجهل) مثلا ندرك بداهة أنها تحمل المعنى المخالف (للعلم) ،ولكن
بدراسة هذه الكلمة قي القرآن الكريم يتبين أنها لا تقف عند هذا المعنى البسيط ،بل تتعداه
لتحمل مفهوما متكاملا لحياة من يوصف بهذه الكلمة ،فأما أن تصف حياته (بالذاتية)،
أو أن تصفها (بالعرقية) أو أن تصفها (بالعقلانية)( .فالذاتية) تتبدى حين يميل الفرد إلى
إشباع أحد شهوتيه – البطن أو الفرج – ومثاله ما جاء على لسان يوسف حين قال:
وأما (العرقية) [يوسف.]33: متَا ْصوِرردْففيَعِِّقنولَكهْي تَدعُهالانىأْ َ:ص﴿َُوبنَاإَِلدَْيِهى اننُوَوأٌَحُكاربانهُِِمفََنَقااَللْجَاَرِهلِِِبيَنإِ ان﴾ ﴿َوإِلاا
[هود،]45: ابِّْن ِم ْن أَْهلِي﴾ فمثلا
في هذه الآية تحركت عاطفة الأبوة لدى نوح عليه السلام ،وغلب عليه التحيز (للعرق)،
ونسي التحيز لقانون الله الموضوعي الذي ينظر إلى جميع الذين أُغرقوا من منظور واحد ألا
وأنهم هم عباد الله الذين لم يؤمنوا بهذه العبودية؛ ولهذا لما اراد نوح استثناء ابنه من هذه
القاعدة وقع في العرقية ،ولذلك نصحه ربه بالإقلاع عن ذلك والرجوع إلى الموضوعية قائلا:
تمَاُكوجَانءِمفَنيالقْجَولاهِهلِتيعَنال﴾ى[:ه﴿وَودأَقْ6َ :س ُم]4وا.بِاَوأّالمِلا (َجالْهعَدقلأَيْامنَاينِةهِ)ْم لَ–ئِنوه َجيا إءَْعتُتْمداآديَةٌاللاإيُنْؤِسمناُ انن أَ ِعظُ َك أَن ﴿إِِِّن
– فمثالها بعقله
[الأنعام ،]109:هؤلاء يزعمون أن عندهم من المقدرة العقلية التي تجعلهم يفهمون بِهَا﴾
الله ،ومن ثم يحصلون بسبب هذا الفهم على الإيمان .ولكن الله تعالى يك ِِذب هذا آيات
الزعم ،ويؤِكِد أنه مهما جاءهم من آيات تتحدث عن الغيب أو الشهادة فإنه ليس بالضرورة
َعحلَيْصِهوْملهمُك العل َشى ْايلٍءإيقمُابُلناً ،اماكمَكاانُقواا لِليُتْؤعِمانُلواى:إِلا﴿أََولَنْويَأَنَاشنَااءَنَاَازّلْالنَلُا َإوِلَلَْيِكِهاُنم سببا في أن يكون فهمهم إياها
َو َح َشْرنَا المَلائِ َكةَ َوَكلاَمُهُم المَْوتَى