The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

صرخة سلام. بيتر أرمانيوس

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by Ahmed Amin, 2020-01-11 02:05:51

صرخة سلام. بيتر أرمانيوس

صرخة سلام. بيتر أرمانيوس

‫بحظره!‪ ،‬فهل يا ترى حقيقية هي جعفرية أم مجرد خيال‪ ،‬وإان كانت حقيقية فهيي‬
‫محظوظة جد ًا بحب شريف لها "!‪.‬‬

‫تب ًا لها!‪ ،‬لقد تغير كل شيء بعدما ظهرت‪ ،‬لم أقل لشريف يوم ًا أنني أحبه وهو لم يذكر‬
‫لي ذلك‪ ،‬لم يكن مجرد صديق ولكنه شيء ما بين الصديق والحبيب أو ربما هو أكثر‬
‫من ذلك بكثير‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬لم يجد أي منا الوقت للتفكير في كنية وماهية علاقتنا‪ ،‬كنا مكتفين ببعضنا‬
‫جد ًا إالى الحد الذي لم تهم عنده المسميات‪ ،‬ولكن بعد ظهور فريدة حدث التغيير‪.‬‬

‫ربما بسببها وربما بسبب ا إلنترنت وربما بسبب كرهه لي لنني ضاجعت رجل ًا ل يربطني‬
‫به شيء‪ ،‬وربما لكل هذه السباب مجتمعة‪.‬‬

‫لم اكن أؤمن يوم ًا بالقصص الخيالية‪ ،‬أميرة تحب ضفدع ًا وتقبله فيتحول لمير‪ ،‬فيونا‬
‫الملكة تعشق غول قبيح الوجه فتضحي بأدميتها لتتحول إالى غول مثله ليعيشا إالى‬

‫البد مع ًا‪.‬‬
‫الكثير من القصص الخيالية التي لم أكن أؤمن بها رغم إانني كنت أشعر بتلك الحالة من‬

‫الرومانسية التي تنتاب أي أنى عندما تسمع أو تقرأ مثل تلك الحكايات‪ ،‬إالى أن‬
‫عرفت صلاح‪ ،‬زوجي الحالي‪.‬‬

‫لم أكن أؤمن بعشق الميرات للضفادع ولكن أصابتني عدواها‪ ،‬ربما لنني أعيش في‬
‫لندن منذ زمن‪ ،‬ولندن هي موطن الكثير من القصص الخيالية‪.‬‬

‫صلاح رجل مصري عادي يعمل كمدير مالي وإاداري في إاحدى الشركات الكبيرة‪ ،‬هو‬
‫ليس جميل ًا وليس قبيح ًا جد ًا أيض ًا أو هكذا أراه الن لنني أحبه جد ًا!‪.‬‬
‫أعشقه حد الجنون هذا الغبي!‪.‬‬

‫صلاح كان يتابعني على تويتر منذ زمن بعيد‪ ،‬لم نكن نتكلم في الخاص‪ ،‬كان كل‬
‫تعاملنا في العام وكان كل شيء عادي ًا ولكن بعد إانشغال شريف مع فريدة وقلة ظهوره‬

‫‪201‬‬

‫في حياتي وهو في البلد يبدو أن صلاح علم بأنني أمر بمرحلة صعبة في حياتي‪ ،‬ربما هو‬
‫الفراغ العاطفي‪ ،‬فبدأ في التقرب مني‪.‬‬

‫لم يقترب بسرعة مثلما حدث مع شريف‪ ،‬لنني لست على وشك الموت الن وربما‬
‫لنني لم أتقبل شكله في باديء المر‪ ،‬ولكن الحب يغير الوجوه‪ ،‬يحول القبيحة منها‬

‫إالى أية في الجمال‪ ،‬ل نكف أو نسأم من التأمل فيها دائم ًا‪ ،‬وهذا هو ما حدث!‪.‬‬
‫كان صلاح مرهف الحس‪ ،‬شعرت برجولته على العكس من شريف الذي كان مازال‬
‫طفل ًا في داخله‪ ،‬ضعيف بائس مفلس‪ ،‬أما صلاح فهو ل يهتم باليام ول يقلقه الغد‪،‬‬
‫يشعر بالثقة والقوة‪ ،‬والهم من ذلك أنه ل يحتاج لي من أجل الحصول على فيزا إالى‬

‫أوروبا لنه ميسور الحال‪.‬‬
‫أنا أحتاجه وهو ل يحتاج إالى شيء مني!‪.‬‬
‫تلك العلاقة التي كنت أبحث عنها منذ زمن‪ ،‬ربما كان لديه كل شيء إال جسد إامرأة‬
‫الذي هو أنا كما أخبرني شريف بكل حدة عندما أخبرته أنني قد وقعت في غرام‬

‫شخص ما!‪.‬‬
‫ولكن ل يهم ‪..‬‬
‫ألم يكن شريف نفسه يرغب في هذا الجسد أيض ًا؟؟‬
‫إان كان شريف قد إابتعد بعض الشيء بعد ظهور فريدة في حياته إال إانه إابتعد كثيرًا‪،‬‬
‫ل بل نهائي ًا بعدما أخبرته وعرف من تغريداتي إانني أحب شخص ًا أخر!‪.‬‬
‫لم نعد أصدقاء‪ ،‬رحل صديقي وتركني أجدف في قاربي الضعيف في محيط حياتي‬
‫وحدي‪ ،‬لم نعد أصدقاء!‪.‬‬
‫هل تعرفون ماهي مشكلتي؟‬
‫إانني بلا هوية‪ ،‬فلسطينية تربت وكبرت في ا إلمارات كوافدة عربية بلا وطن ولكني‬
‫ظللت غريبة أنا وأسرتي‪ ،‬فلسطينية وطني مغتصب وا إلمارات لن تعترف بي أبد ًا‬
‫كمواطنة مهما عشت فيها من العمر‪ ،‬لهذا هاجر أهلي إالى بريطانيا واستفادوا من‬

‫‪202‬‬

‫خدمة اللجوء التي كانوا يمنحوها للفلسطينيين‪ ،‬ولكن رغم كل هذا أنا مازلت غريبة‪،‬‬
‫أنا مختلفة حتى هنا!‪.‬‬

‫عيناي الخضراء التي يظن شريف أنها زرقاء تميزني عن أهل بريطانيا‪ ،‬عيناي مصبوغة‬
‫بلون الزيتون رمز السلام الذي صار موطنه مرتع ًا لحرب أبدية‪ ،‬حجابي ولون بشرتي‪،‬‬

‫لكنتي التي مازالت تحمل البصمة العربية‪ ،‬كل تفصيلة من تفاصيلي تخبرني بأنني‬
‫غريبة‪ ،‬حتى عندما حاولت ا إلندماج مع الناس وجدت أهلي يقفون في وجهيي‪ ،‬أن ِت‬

‫عربية!‪ ،‬أن ِت فلسطينية!‪.‬‬
‫بالله عليكم أين هي فلسطين؟‪ ،‬أين فلسطين؟‪ ،‬أعيدوني إاليها ولو كانت عودتي‬
‫ستعني موتي‪ ،‬أعيدوني إاليها جثة لحتضن ترابها ويحتضنني لعلي أشعر لمرة في حياتي‬
‫أن لي كيان‪ ،‬أن لي هوية‪ ،‬أني لست بغريبة‪ ،‬أريد لمرة في حياتي أن أصرخ‪ " :‬هذا‬
‫هو وطني‪ ،‬هذه أرضي‪ ،‬سأفعل كل ما يحلو لي لني راسخة فيها إالى البد‪ ،‬لن‬
‫تستطيعوا إاقتلاعي منها لنني كشجرة زيتون‪ ،‬حتى وإان اقتلعتموها ستظل جذورها‬
‫الدقيقة تعطر التربة برائحتها الجميلة‪ ،‬إازرعوا مكانها ما شئتم ولكن ستظل رائحة الزيتون‬
‫تعبق وتعطر التربة‪ ،‬أعيدوني إالى وطني وادفنوني في ترابه عل جسدي ينبت إامرأة‬
‫حرة تملك إارادتها بدل المسخ الذي أنا عليه الن "‪ ،‬ولكنني للسف ل أملك مثل‬
‫حظ تلك االشجرة‪ ،‬بلا وطن‪ ،‬بلا هوية‪ ،‬أخبروني أنني فلسطينية‪ ،‬ولكن فلسطين لم‬

‫أراها وعلي أن أزرع في أولدي حبها وأخبرهم أن هذه الرض مقدسة وأنها وطنهم‬
‫مثلما فعل أهلي معي!‪.‬‬

‫أنا غريبة بلا هوية‪ ،‬لم تعطيني ا إلمارات هويتها رغم أنها كانت أقرب شيء لفلسطين‪،‬‬
‫أعطتني بريطانيا هويتها ولكني لم أفرح بها كثيرًا‪ ،‬شدني الطوق الذي ربطني به أهلي‬

‫بفلسطين‪ ،‬ولم تعطني صداقة شريف هويته المصرية‪ ،‬ولهذا كان لبد من كسر‬
‫العادات والتقاليد والعراف مرة أخرى مثلما كسرتها عندما ضاجعت أندرياس الملحد‪،‬‬
‫يجب أن أكسرها مرة أخرى وأهرب إالى مصر‪ ،‬إالى صلاح لنتزوج‪ ،‬سأهرب دون علم‬

‫أهلي‪ ،‬سأتزوجه وأمضي معه أسبوع ًا وأعود إالى سجني من جديد!‪.‬‬

‫‪203‬‬

‫عندما تحب المرأة حب ًا حقيقي ًا صادق ًا ف إانها تضحي بكل شيء في سبيل ذلك الحب‪ ،‬أو‬
‫هكذا أظن!‪.‬‬

‫ضحيت بكل شيء عندما فكرت في الهرب إالى مصر للزواج من صلاح‪ ،‬ضحيت‬
‫بروحي‪ ،‬أخبرت أهلي بأنني سأعمل في الشيفت المسائي هذا السبوع وأولدي كانوا‬

‫في رحلة مع أبيهم‪ ،‬طليقي لمدة أسبوع‪ ،‬أنا متفرغة هذا السبوع‪ ،‬وحجزت وكلمت‬
‫صلاح وأخبرته إانني قادمة‪،‬أخبر زوجته أنه ذاهب في رحلة عمل لمدة أسبوع لحضور‬

‫مؤتمر مهم لتوقيع عقود جديدة للشركة‪ ،‬ووصلت واستقبلني في المطار‪.‬‬
‫لم تكن الرحلة من لندن إالى مطار القاهرة سهلة‪ ،‬كنت أشعر نفس شعور الطفل‬
‫المولود حديث ًا‪ ،‬يخرج من بطن أمه يصرخ‪ ،‬يمد يديه ورجليه الصغيرتين إالى أخرهما‪،‬‬

‫ولكنها ل تلمس شيء سوى الفراغ!‪.‬‬
‫كل ما يحيط به هو الفراغ‪ ،‬لحظات مرعبة لذلك الصغير الضعيف الذي اعتاد على‬
‫الضيق منذ أن تكونت حواسه وهو في بطن أمه‪ ،‬إاعتاد أن تصطدم يديه بجدار إاذا‬
‫ما حركهما‪ ،‬أن يشعر بضيق شديد إاذا ما ركل بطن أمه بقدمه‪ ،‬لم يشعر باللم الذي‬
‫يشعر به الن بسبب التنفس‪ ،‬يصرخ صرخات رعب من الضوء الذي لم يكن يراه‬
‫وهو في بطن أمه‪ ،‬ألم وخوف ول يعلم أن تلك هي الحياة‪ ،‬تلك هي الحرية وليست‬
‫ذلك الرحم الذي كان مسجون ًا فيه‪ ،‬ولكن كيف تطمئن رضيع ًا ضعيف ًا ل يعي ويشعر‬

‫بالخوف من كل شيء بما فيه الفراغ والحرية إال بالحضن؟؟‬
‫يهدأ الطفل وينام بعدما يتم تقميطه وتأخذه أمه في حضنها‪ ،‬يبكي كلما شعر بأنه وحيد‬

‫في هذه الدنيا ويسكت ويهدأ كلما إاحتضنته أمه‪ ،‬وهكذا كنت أنا‪ ،‬خفت إالى حد‬
‫الرعب وأنا أتجه إالى المطار‪ ،‬سال العرق مني رغم أن المطار مكيف‪.‬‬

‫" ليس وقت عرق الن!‪ .‬ل ينقصني سوى رائحة عرقي حتى يكرهني صلاح إالى‬
‫البد وتظل رائحتي في عقله هي العرق "!‪.‬‬

‫خفت خوف ذلك الوليد‪ ،‬خفت من أن ل أجد صلاح في المطار‪ ،‬من أل أعجبه‪ ،‬من‬
‫أل يعجبني‪ ،‬من أن يكون مجرد نصاب ًا! ‪.‬‬

‫‪204‬‬

‫نعم‪ ،‬أنا أعرفه منذ فترة طويلة‪ ،‬أحببته جد ًا حد الجنون‪ ،‬حد مجازفتي بسمعتي‬
‫وإامكانية أن يكتشف أهلي أنني خدعتهم ولكن تظل حقيقة إاني عرفته من ا إلنت نرت‬

‫قائمة‪.‬‬
‫حاولت التغلب على خوفي بالنوم‪ ،‬نوم متقطع‪ ،‬يوقظني كل مطب هوائي‪ ،‬كل إارتفاع‬

‫وانخفاض للطائرة‪ ،‬نمت واستيقظت خمسة مرات في هذه الرحلة القصيرة ولكن ل‬
‫يهم‪ ،‬المهم إانني كنت أنام وإال ف إاني كنت سأجن‪.‬‬
‫كان التفكير يقتلني‪...‬‬
‫" أي غباء أفعله؟‪.‬‬

‫أو ًل ‪ ..‬أهرب لمقابلة مجهول وحيدة دون أن أخبر أحد بمكاني؟‬
‫ماذا إان خطفني أو إاغتصبني أو قتلني؟؟‬

‫وثاني ًا ‪ ..‬أشك وأفكر بأفكار سوداوية في الرجل الذي أنا هاربة إاليه!‪.‬‬
‫" يا لي من مجنونة "!‪.‬‬

‫ووصلت المطار ووجدته‪ ،‬أخذني وذهبنا إالى محامي‪ ،‬تزوجنا زواج ًا مدني ًا وشهد‬
‫صديقاه على العقد‪ ،‬ثم ذهبنا إالى فندق قضيت به أجمل أربعة أيام في حياتي ومن ثم‬

‫عدت بعدها إالى لندن‪ ،‬وحيدة من جديد!‪.‬‬
‫وشريف؟؟‪ ،‬ماذا عنه؟؟‬

‫لقد سمعت أنه نشر كتاب‪ ،‬فأرسلت له رسالة أبارك له فيها‪ ،‬فرد علي بطريقة رسمية‪:‬‬
‫" الله يبارك في حضرتك يا فندم "!‪.‬‬

‫تب ًا لغلاظته!‪ ،‬تب ًا له!‪ ،‬فليذهب إالى الجحيم !‬

‫***********‬

‫‪205‬‬

‫في تلك الزاوية البعيدة المظلمة في عقلك‪ ،‬هناك حيث تكمن وتنام كل أفكارك‬
‫السوداء والمخيفة‪ ،‬في تلك البقعة العقلية الملعونة‪ ،‬هناك حيث تخاف أن تنظر أو حتى‬

‫تقترب بالتفكير فيها‪ ،‬هناك حيث نضع الكثير من السيجة حتى ل تجذبنا دوامتها‪،‬‬
‫هناك حيث الوحدة‪ ،‬حيث ل أحد يراك في ظلمتك أو يسمعك‪ ،‬هناك حيث تُنسى‬

‫كنسيان الموتى‪ " ،‬لقد كان هناك يوم ًا شخص يدعى فلان والن قد مات "!‪.‬‬
‫في تلك الجزيرة المنفية التي ل تشرق شمس المل والتفاؤل عليها تقبع جعفرية‪ ،‬هناك‬
‫فقدت كل طاقتها واستنفذت قوتها‪ ،‬ل تقوى حتى على طلب ا إلستغاثة أو الصراخ‪،‬‬

‫فممن ستطلبها وهم الصم والبكم والعميان؟‬
‫هناك جلست بمفردها تبكي‪ ،‬ليس لها ونيس سوى أشباحها وأخطاء حياتها التي‬
‫أجبروها عليها‪ ،‬هناك ماتت ولم يدفن جثتها أحد‪ ،‬بل تُركت لطيور الندم والتبكيت‬
‫تنهشها‪ ،‬ماتت في كهف أفكارها المظلمة‪ ،‬بلا قبر ول شاهد‪ ،‬بلا شيخ يدعو لها‬
‫بالغفران أو يلقنها إاجاباتها التي ستتلوها على الملاك إاذا ما سألها ما هو إاسمك؟ ما هو‬

‫دينك؟ من هو نبيك؟‬
‫ل أحد!‪ ،‬فهيي عاشت مجهولة حتى ممن تعرفهم‪ ،‬عاشت دون أن يراها أحد وهي‬

‫تجلس في هذه البقعة المظلمة لسنوات وسنوات حتى فنيت‪.‬‬
‫هي الجعفرية‪ ،‬سيدة الفراشات وملكة النجوم‪..‬‬
‫هي أنا وأنتم ‪..‬‬
‫هي نحن‪..‬‬

‫هي كل من عاش الوحدة وسط صخب الحياة وزحامها‪..‬‬
‫هي كل شخص ل يشعر به أحد ول يفهمه أحد وخاصة هؤلء المقربين‪.‬‬

‫*************‬

‫‪206‬‬

‫‪40‬‬

‫سلام ‪...‬‬

‫هي إامرأة لم يخلق الله في جمالها إاثنان‪ ،‬إامرأة محظوظ جد ًا من يراها‪ ،‬وكان أحدهم‬
‫الكثر حظ ًا بأنها كانت زوجته كالفحم‪ ،‬ل يعي قيمة الماس الذي بداخله‪ ،‬كذلك كان‬

‫هو‪.‬‬
‫أدرك الجميع أنه مميز بأنها له‪ ،‬حسدوه بسببها وكانوا كمن حسد القرد على ماله‪،‬‬
‫حسدوه على إامرأة لم يعرف أبد ًا كيف يمتلكها‪ ،‬إامتلك جسدها ولكنه لم يمتلك قلبها‪.‬‬
‫كان لظهرها سوط ًا وكان جمالها له شوكة تدمي رجولته الضعيفة كلما سارا في الشارع‬
‫سوي ًا‪ ،‬حبسها‪ ،‬عذبها‪ ،‬قتل نفسها‪ ،‬ولكنها أبت أن تموت‪ ،‬تمردت‪ ،‬عصت‪ ،‬ولكنها لم‬

‫تخطيء‪.‬‬
‫كان صمودها قوة ل يملكها الكثير من الخلق‪ ،‬صمدت لجل أبنائها‪ ،‬وحتى ل يقال أنه‬

‫كسرها غبي‪.‬‬
‫من هي ؟؟‬
‫هي سيدة النجوم وملكة الفراشات‪ ،‬وتتبعها الفراشات حيثما ذهبت‪..‬‬
‫هي الجعفرية!‪.‬‬

‫*************‬

‫‪207‬‬

‫في المستشفى‪ ،‬مستلق على سريره وغارق في أفكاره‪ ،‬في كل تلك الصرخات‬
‫والحكايات التي وصل بسببها إالى ما هو فيه الن ‪..‬‬
‫حكايات يصرخ أصحابها طلب ًا للسلام ‪..‬‬

‫ذلك السلام الغائب عن أرواحنا‪ ،‬ذلك السلام الذي نبحث عنه في أعماقنا قبل أن‬
‫نبحث عنه فيما يحيطنا ‪..‬‬

‫سلامنا الداخلي الذي فقدناه في خضم الحياة ومحنها وصعابها ‪..‬‬
‫يفكر فيه وفيها ‪..‬‬

‫في سلامهم وسلامها ‪..‬‬
‫ذلك السلام الذي فقده حين إاستجاب لصرخاتهم ولم يستمع أحد لصرخته هو ‪..‬‬

‫فهو أكثرهم صراخ ًا‪..‬‬
‫أكثر رجاء ًا ‪..‬‬

‫وأكثرهم ضعف ًا ‪..‬‬
‫وبينما هو غارق في بحثه عن سلامه وهو يعبث في صفحته‪..‬‬
‫صفحته التي أنشاها ليسمع العالم صراخ البشرية‪ ،‬أثارته رسالة غريبة‪ ،‬صرخة أخرى‬
‫جديدة من شخص إاسمه حامد‪ ،‬طلب منه أن ينشرها على صفحته‪ ،‬كان هذا نصها‪:‬‬

‫" أستاذ شريف المحترم‪ ،‬أعرف أنك ربما تكون الن في المستشفى‪ ،‬ولكن كتبت لك‬
‫صرختي لتنشرها في صفحتك‪ ،‬أعلم أنك لم تعد تنشر المزيد من الصرخات على‬

‫صفحتك ولكني أتمنى أن تجعلني إاستثناء‪ ،‬لنني فعل ًا مكلوم‪ ،‬ثكلت بزوجتي وحب‬
‫عمري‪ ،‬حنان‪....‬‬

‫حنان‪ ،‬كان إاسمها وصفتها‪ ،‬زوجتي ماتت يا شريف‪ ،‬قتلتها أمها لنها ل تنجب!‪.‬‬
‫قتلتها أمها لنها عاقر كالدبة التي قتلت صاحبها‪...‬‬

‫زوجتي التي تحملت الكثير والكثير من الذل والمهانة ل لشيء إال لن الله لم يرد لها‬
‫أن تحبل‪ ،‬تحملت دعوات النساء الشامتة لها بالذرية‪ .‬تحملت إاخفاءهم لطفالهم حين‬

‫‪208‬‬

‫تدخل إالى بيوتهم‪ ،‬تحملت أن يستعيذوا بالله منها ومن عيونها إاذا ما أثنت على جمال‬
‫طفل وكنها ستلعنه إاذا ما قالت بسم الله ماشاء الله ما أجمله‪ ،‬تحملت أن ل تزور‬
‫أختها إال بعد ولدتها بشهر حتى ل تؤذي عينيها رضيع أختها وحتى ل تقطع أختها "‬
‫الخلفة أو اللبن " إاذا ما رأت أختها العاقر!‪ ،‬تحملت أن تكون في نظر الناس لعنة‪ ،‬لم‬

‫تتكلم‪ ،‬لم تحتد‪ ،‬أو حتى تحتج‪ ،‬فهيي إابنة هذه القرية وتعرف عاداتنا وتقاليدنا‬
‫وموروثاتنا‪ ،‬ولكن رغم هذا لم تتحمل أن تكون هي حاملة اللعنة لنها ثقيلة جد ًا‪.‬‬
‫كثيرًا ما كنت أجدها متكومة على نفسها كجنين في بطن أمه على سريرها‪ ،‬كانت‬
‫تتكور وتتصنع النوم‪ ،‬لم تبكي أو تتكلم‪ ،‬ولكني كنت أعلم أن روحها تنزف‪ ،‬كنت‬
‫أخذها في حضني وهي في تكورها كجنين‪ ،‬كنت أحتضنها كطفلتي‪ ،‬لم أحادثها في‬
‫شيء لني أعلم أن ل كلمات قادرة على شفاء جرحها‪ ،‬كنت أقبل عنقها ورأسها‪،‬‬
‫وأخبرها أنني ل أريد أولد ًا لنه إان كان ولد سيغار عليها مني ولن أستطيع إاحتضانها‬
‫كما أفعل الن‪ ،‬وإان كانت بنت سنخدش حيائها بأفعالنا قليلة الحياء تلك‪ ،‬كانت‬
‫تضحك‪ ،‬وكنت أخبرها أنني قسماً بالله ل أريد أولد‪ ،‬ل أريد سوى رؤية إابتسامتها‪،‬‬
‫كانت تبتسم وترقص وتفرح إالى أن يحدث موقف جديد يدمي جرح روحها من‬

‫جديد‪.‬‬
‫هذه كانت حياتنا ولكن كان لمها رأي أخر‪ ،‬رغم أننا زرنا الكثير من الطباء وأجرينا‬
‫العمليات التي لم نكن نملك ثمنها‪ ،‬إال أن والدتها كانت تؤمن أن الشفاء ليس بالطب‬

‫بل بالماورائيات!‪.‬‬
‫حاولت أن تقنع زوجتي مرارًا برؤية أحد الشيوخ فرفضت‪ ،‬ورفضت أنا‪ ،‬وفي عيد‬
‫الفطر جاءت أمها إالى البيت وإاستاذنتني أن تأخذ إابنتها معهم إالى المقابر كعادة أهلنا‬
‫زيارة القبور أيام العيد‪ ،‬سمحت لها دون أن أعلم أنها تنوي فعل فعلتها القذرة تلك‪،‬‬
‫كانت تبيت النية مع إابنتها الخرى وكناتها أن يلقوا بزوجتي في أحد القبور المفتوحة‬

‫لتنفك عقدتها!‪.‬‬
‫كانوا يؤمنون أنه إاذا سقطت عاقر في قبر وخافت وفزعت ف إان عقدتها ستنفك!‪.‬‬

‫‪209‬‬

‫وبالفعل‪ ،‬وبلا سابق إانذار لمحت قبر قديم عبارة عن حفرة في الرض سقفها عبارة‬
‫عن قبة من الطوب اللبن تهدم عقدها ولم يعيد أصحابه بنائه‪ ،‬ربما لن العائلة فنت عن‬

‫بكرة أبيها أو ربما لن الحياء منهم لم يعد يهمهم عظم أباءهم وأجدادهم الموتى!‪.‬‬
‫أصبح القبر كالبئر السود ‪،‬وهنا غمزت أمها لمن معها فدفعوها إالى الحفرة‪ ،‬هرج ومرج‬

‫وصرخة رعب صدرت عنها فجأة‪ ،‬وغبار كثيف طار في الجو نتيجة تلك الجلبة‪.‬‬
‫ضحكات متقطعة ‪..‬‬

‫الضحكات تتقطع أكثر ‪..‬‬
‫ترقب ‪..‬‬

‫ضحكة تخرج بالمر لمحاولة كسر التوتر الذي ساد وتبدده ‪..‬‬
‫صمت ‪..‬‬

‫إانتظرن وقت ليس بقصير‪ ،‬وقت رغم قصره الفعلي لن لحظات الترقب تمر وكنها‬
‫ساعات ‪..‬‬

‫إانتظرن صرخة أخرى تعقب صرخة الفجأة التي صرختها حنان‪ ،‬إانتظروا أن تصرخ‬
‫طالبةالنجدة‪ ،‬ولكنهم لم يسمعوا لها صوت مثلما لم يسمعوا صوت بكاء روحها طوال‬

‫حياتها‪...‬‬
‫ماتت حنان يا شريف‪...‬‬
‫ماتت الشمعة التي تضيء حياتي وتدفئها‪...‬‬
‫سقطت على قفص أحدهم الصدري ف إانكسر وانغرست عظامه في لحمها‪ ،‬لم يحتضنها ل‬
‫أهلها ول أقرباؤنا‪ ،‬خافوا على أولدهم منها رغم أنها لم تؤذي أحد‪ ،‬ولكن هذه الهياكل‬
‫العظمية رغم أنها سقطت عليهم بعنف مهشمة إاياهم إال أنهم إاحتضنوها بصمت‪ ،‬لم‬

‫يتأففوا منها!‪.‬‬
‫ماتت حنان يا شريف دون أن أخبرها أنني السبب في معاناتها‪...‬‬

‫أنا السبب‪ ،‬وكل ما أنا فيه الن هو من رغد ‪...‬‬

‫‪210‬‬

‫جارتي التي هربت معها وبعد أن أخذت ما أريده منها خفت وهربت‪ ،‬عدت إالى بيتي‬
‫وكن شيئ ًا لم يكن!‪.‬‬

‫رأيت أمها تموت قهرًا ولم أخبرهم الحقيقة‪ ،‬سمعت ورأيت معايرة الناس لبيها وإاخوتها‬
‫ولم أملك الشجاعة لخبرهم بأنني أنا العاهر وليست إابنتهم‪ ،‬أنا الداعر لنني أقنعتها أن‬

‫الحب تضحية‪ ،‬فضحت هي بحياتها وعائلتها وكنت أنا الجبان "‪.‬‬

‫قرأ شريف الصرخة وفهمها‪ ،‬وفهم ما كان‪ ،‬وفهم الخبايا التي لم يحكيها حامد ‪..‬‬
‫لكنه سئم وضج مما يحدث حوله‪..‬‬
‫فاليوم هو مطعون‪ ،‬ومن يدري؟!‬

‫لعله إان تابع النشر‪ ،‬غد ًا سيكون تحت التراب مدفون!‪.‬‬
‫فلم ينشرها‪..‬‬

‫مسحها وقام بحظر حامد وكن شيئ ًا لم يكن!‪.‬‬
‫" وهذه هي طبيعة الطين ‪" ! ...‬‬

‫‏"والعلاقات ا إلنسانية يا صديقي كا إلنسان ‪..‬‬
‫من طين ‪..‬‬

‫علاقاته أيضا تشبه الطين إالى حد كبير‪..‬‬
‫فبسهولة الطين تتشكل وتتخذ أي شكل يريده أصحابها‪ ،‬وكالطين الذي يكتسب‬
‫صلابته بنار التون‪ ،‬كذلك العلاقات تكتسب قوتها بنار التجارب والصعاب التي تمر‬
‫عليها فتخرج العلاقات ا إلنسانية منها أكثر قوة‪ ،‬وأكثر ثقة من ذي قبل‪ ،‬وبعد أن‬

‫تقوى تتحمل صعاب وتجارب الحياة ومحنها‪.‬‬
‫ولكن الطين بعدما يخرج من التون يكون هش ًا ضد الصدمات‪ ،‬ربما ينجو من سقطة‬
‫أو حتى عشرة‪ ،‬و لكن كل سقطة وصدمة نجا منها تولد داخله شروخ ًا صغيرة ل تُرى‬
‫بالعين المجردة‪ ،‬كالخزف تمام ًا‪ ،‬فينهار بعدها ا إلناء من لمسة بسيطة عندما تنتشر‬

‫وتتشعب هذه الشروخ الدقيقة والتي لم يراها وتعشش في جسده‪.‬‬

‫‪211‬‬

‫كذلك العلاقات القوية‪ ،‬إاذا ما توالت عليها الصدمات أفقدتها قوتها ومتانتها حتى وإان‬
‫ظهرت جميلة براقة كعادتها ‪...‬‬

‫فتنهار بعدها عند أول تجاهل عادي أو لحظة عناد أو نظرة إاستحقار غير مقصودة‪،‬‬
‫أو عند إاختلاف طبقة صوت أو عند سؤال غير مبرر!‬
‫علاقات قوية تتهشم ك إاناء خزفي ‪...‬‬
‫وكا إلنسان ‪...‬‬
‫كالخزف ‪..‬‬
‫كالطين المحروق بنار التون‪..‬‬

‫هي كذلك العلاقات المُتيّنة بشدائد الزمن‪ ،‬إاذا ما إانهارت وتهشمت يكون ا إلصلاح‬
‫شبه مستحيل ك إاستحالة بقاء أدم في الجنة بعد نزوله ‪...‬‬
‫فأبذل ما إاستطعت من جهد ‪..‬‬

‫فأنت قد تستطيع أن تعيد ا إلناء إالى شكله الول‪ ،‬ولكنك لن تستطيع أن تستخدمه‬
‫بنفس الكفاءة مثلما كان حين صنعته لول مرة ‪...‬‬
‫وهذه هي طبيعة الطين ‪..‬‬

‫هذه هي طبيعة " البشـر " ‪.‬‬

‫" تمت بحمد الله "‬

‫"جميع أحداث هذا الكتاب هي من وحي خيال الكاتب إاستناد ًا إالى الواقع الذي‬
‫نعيشه‪ ،‬وأي تشابه في أسماء أو أحداث إان ُو ِجدت‪ ،‬فهيي صدفة فقط ل غير "‪.‬‬

‫‪212‬‬

213


Click to View FlipBook Version