( )51دليل صدؽ النبي صلى ا﵁ عليو وسلم في قولو " أوتيت
جوامع الكلم " فإف ىذا ابغديث على وجازتو اشتمل على فوائد
كثيرة ،وعوائد وفيرة ،حَّت اعتبر أصلا لعلوـ الشريعة .
قاؿ القرطبي :ىذا ابغديث يصلح أف يقاؿ لو أـ السنة ,بؼا
تضمنو من بصل علم السنة .
وقاؿ الطيبي :بؽذه النكتة استفتح بو البغوي كتابيو " ابؼصابيح "
و " شرح السنة " اقتداء بالقرآف في افتتاحو بالفابرة ,لأنها
تضمنت علوـ القرآف إبصالا .
وقاؿ القاضي عياض :اشتمل ىذا ابغديث على بصيع وظائف
العبادات الظاىرة والباطنة من عقود الإبياف ابتداء وحالا ومآلا
ومن أعماؿ ابعوارح ,ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات
251
الأعماؿ ,حَّت إف علوـ الشريعة كلها راجعة إليو ومتشعبة منو
(إكماؿ ابؼعلم بفوائد مسلم .)204/1
هسائل تتعلق تهزا الحذيج
الوسألة الأٍلى :تكويل ها سثق هي هثاحج القذس.
قاؿ الإماـ النوو ّي ربضو ا﵁ تعالذ في " شرحو" ( :واعلم) :أف
مذىب أىل ابغ ّق إثبا َت القدر ،ومعناه أف ا﵁ تبارؾ وتعالذ قَّدَر
الأشياء في الِق َدـ ،وعلم سبحانو أنها ستقع في أوقات معلومة عنده
سبحانو وتعالذ ،وعلى صفات بـصوصة ،فهي تقع على حسب
ما قََّدَرىا سبحانو وتعالذ ،وأنكرت القدرية ىذا ،وزعمت أنو
سبحانو وتعالذ لد يػَُقّْدرىا ،ولد يتقدـ علمو سبحانو وتعالذ ّٔا،
وأنها ُم ْستَأنَفةُ العلم ،أي إبما يعلمها سبحانو وتعالذ بعد وقوعها،
وَك َذبُوا على ا﵁ نسبحانو وتعالذ وج ّل عن أقوابؽم الباطلة عُلُِّوا
كبيرًا ،وبُْظّيت ىذه الفرقة قدرية ،لإنكارىم القدر.
252
قاؿ أصحاب ابؼقالات من ابؼتكلمين :وقد انقرضت القدرية
القائلوف ّٔذا القوؿ الشنيع الباطل ،ولد يػَْب َق أحٌد من أىل القبلة
عليو ،وصارت القدرية في الأزماف ابؼتأخرة تعتقد إثبات القدر،
ولكن يقولوف :ابػير من ا﵁ ،والشر من غيره ،تعالذ ا﵁ عن قوبؽم.
وقد َح َكى أبو بؿمد بن قتيبة في كتابو "غريب ابغديث" ،وأبو
ابؼعالر ،إماـ ابغرمين في كتابو "الإرشاد" في أصوؿ الدين أف بعض
القدرية قاؿ :لسنا بقدرية ،بل أنتم القدرية؛ لاعتقادكم إثبات
القدر ،قاؿ ابن قتيبة ،والإماـ :ىذا بسويوٌ من ىؤلاء ابعهلة،
ومباىتة ،وتواقُ ٌح ،فإف أىل ابغق يػَُفّْوضوف أمورىم إلذ ا﵁ سبحانو
وتعالذ ،ويُ ِضيفوف القدر والأفعاؿ إلذ ا﵁ سبحانو وتعالذ ،وىؤلاء
ابعهلة يضيفونو إلذ أنفسهم ،وُمَّد ِعي الشيء لنفسو ومضيفو إليها
أولذ بأف يُن َسب إليو ،بفن يعتقده لغيره وينفو عن نفسو.
قاؿ الإماـ :وقد قاؿ رسوؿ ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم :-
"القدرية بؾوس ىذه الأمة"َ ،شَبّػَههم ّٔم؛ لتقسيمهم ابػير والشر
في حكم الإرادة ،كما قَ َّس َمت آّوس ،فصرفت ابػير إلذ "يزداف"،
253
والشر إلذ "أىرمن" ،ولا خفاء باختصاص ىذا ابغديث بالقدرية،
ىذا كلاـ الإماـ ،وابن قتيبة.
وحديث " :القدريةُ بؾو ُس ىذه الأمة" ،رواه أبو حازـ ،عن ابن
عمر -رضي ا﵁ عنهما ، -عن رسوؿ ا﵁ -صلى ا﵁ عليو
وسلم ،-أخرجو أبو داود في "سننو" ،وابغاكم ،أبو عبد ا﵁ في
"ابؼستدرؾ على الصحيحين" ،وقاؿ :صحيح على شرط الشيخين،
إف ص ّح بظاع أِب حازـ ،من ابن عمر.
قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو :أبو حازـ لد يسمع من ابن عمر -
رضي ا﵁ عنهما ،-قاؿ ولده ليحيى بن صالح :من ح ّدثك أف أِب
بظع من أحد الصحابة ،غير سهل بن سعد -رضي ا﵁ عنو -
فقد كذب ،قالو في "التهذيب" ("تهذيب التهذيب" ٕ.).ٚٔ /
وعليو فابغديث منقطع ،لكن أخرجو الطبرانيّ في " الأوسط" من
طريق بضيد الطويل ،عن أنس -رضي ا﵁ عنو -قاؿ :قاؿ رسوؿ
ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم " :-صنفاف من أمتي لا يرداف
ابغوض ،ولا يدخلوف ابعنة :القدريّة ،وابؼرجئة" ،وفي لفظ:
254
"القدريّة ،وابؼرجئة بؾوس ىذه الأمة ،فإف َمِر ُضوا فلا تعودوىم ،وإف
ماتوا فلا تشهدوىم".
وقد ح ّسنو الشيخ الألباني ربضو ا﵁ُ ،وأحسن في ذلك ،راجع:
"السلسلة الصحيحة" ٘ٙٗ - ٖ٘ٙ /ٙرقم (.)ٕٚٗٛ
وابغاصل أف ابغديث صحيح لغيره ،وا﵁ تعالذ أعلم.
قاؿ ابػطاِب ربضو ا﵁ تعالذ :إبما جعلهم -صلى ا﵁ عليو وسلم -
بؾو ًسا بؼضاىاة مذىبهم مذىب آّوس في قوبؽم بالأصلين :النوِر
والظلمة ،يزعموف أف ابػير من فعل النور ،والشّر من فعل الظلمة،
فصاروا ثػُنَِويّةً ،وكذلك القدرية يُضيفوف ابػير إلذ ا﵁ تعالذ ،والشّر
إلذ غيره ،وا﵁ سبحانو وتعالذ خالق ابػير والشر بصيًعا ،لا يكوف
شيء منهما إلا بدشيئتو ،فهما مضافاف إليو سبحانو وتعالذ خلًقا
وإبهاًدا ،وإلذ الفاعلين بؽما من عباده فعلًا واكتسابًا .وا﵁ أعلم.
وقاؿ ابػطاِّب ربضو ا﵁ أي ًضا :وقد بَوس َب كثير من الناس أف معنى
القضاء والقدر إجبار ا﵁ سبحانو وتعالذ العب َد وقهره على ما قدره
وقضاه ،وليس الأمر كما يتوبنونو ،وإبما معناه الإخبار عن تق ّدـ
255
علم ا﵁ سبحانو وتعالذ بدا يكوف من اكتساب العبد ،وصدورىا
عن تقدير منو ،وخلق بؽا ،خيِرىا وشّرىا ،قاؿ :والقدر اسم لَِما
َص َدَر ُمَقَّدًرا عن فعل القادر ،يقاؿ :قََدر ُت الشيءَ ،وقََّدرتو
بالتخفيف والتثقيل ،بدعنى واحد ،والقضاء في ىذا معناه ابػلق،
كقولو تعالذ { :فَػَق َضا ُى َّن َسْب َع بَظَاَوا ٍت} [ فصلت :]ٕٔ :أي
خلقه ّن.
قاؿ النوو ّي ربضو ا﵁ :وقد تظاىرت الأدلة القطعيات ،من الكتاب
والسنة ،وإبصاع الصحابة ،وأىل ابْغَ ّْل والَْعْقد ،من السلف وابػلف
على إثبات قدر ا﵁ سبحانو وتعالذ ،وقد أكثر العلماء من
التصنيف فيو ،ومن أحسن ابؼصنفات فيو وأكثرىا فوائد ،كتا ُب
ابغافظ الفقيو أِب بكر البيهق ّي ربضو ا﵁ تعالذ ،وقد قَػَّرر أئمتنا من
ابؼتكلمين ذلك أحسن تقرير ،بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية،
وا﵁ أعلم .انتهى (" شرح صحيح مسلم" للنوو ّي ٔ- ٔ٘ٗ /
٘٘ٔ.).
256
عن مالك ربضو ا﵁ أنو القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ :وقد روي وقاؿ
سبق من أنو تعالذ َعلِ َم مذىب القدريّة بنحو ذلك (يعِن ما ف ّسر
مقادير الأشياء ،وأحوابؽا ،وأزمانها قبل إبهادىا ،ثم أوجد منها ما
سبق في علمو أنو يوجد على بكو ما سبق في علمو ،فلا بُؿْ َد َث في
العالد العلو ّي والسفل ّي إلا وىو صادر عن علمو تعالذ ،وقدرتو،
وإرادتو ،).وىذا ابؼذىب ىو الذي وقع لأىل البصرة ،وىو الذي
أنكره ابن عمر -رضي ا﵁ عنهما ، -ولا ش ّك في تكفير من
يذىب إلذ ذلك ،فإنو َج ْح ُد معلوـ من الشرع ضرورةً ،ولذلك تبرّأ
منهم ابن عمر ،وأفَّت بأنهم لا تُقبل منهم أعمابؽم ،ولا نفقاتهم،
إَِّلا ِمنْػُه ْم
نػََفَقاتُػُه ْم َككَفمُراواقابِالؿَلّاِو﵁َوبِتَرعُسالولِذِو }:ا{لَوآَمياة َم[نَػالَعتُهوبْمةأْ َ:فٗتُػْ٘قبَ]َ.ل وأنهم
أََنػُّه ْم
وىذا مذىب طائفة منهم تُس ّمى ال ُّسكبيّة ( ىذه الفرقة ىكذا
ذكرىا القرطبّي ّٔذا الاسم في "ابؼفهم" ٔ ،ٖٕٔ /ولكن لد يذكرىا
أصحاب كتب النحل وابؼلل ّٔذا الاسم ،ولا يُدرى من ىي؟ وا﵁
تعالذ أعلم .راجع :ىامش "ابؼفهم" ٔ،)ٖٕٔ /
257
وقد تُرؾ اليوـ ،فلا يُعرؼ من يُنسب إليو من ابؼتأ ّخرين ،من أىل
البدع ابؼشهورين.
والقدريّة اليوـ مطبقوف على أف ا﵁ تعالذ عالد بأفعاؿ العباد قبل
وقوعها ،ومعنى القدر عند القائلين بو اليوـ أف أفعاؿ العباد مقدورةٌ
بؽم ،وواقعة منهم على جهة الاستقلاؿ ،وىو مع كونو مذىبًا
باطلًا أَخ ّف من ابؼذىب الأوؿ ،وأما ابؼتأخروف منهم ،فأنكروا
تعلق الإرادة بأفعاؿ العباد؛ فراًرا من تعلق القدًن با﵀دث ،وىم
بـصوموف بدا قاؿ الشافعي :إف َسَلّم القدر ُّي العل َم ُخ ِصم -يعِن
يقاؿ لو :أبهوز أف يقع في الوجود خلاؼ ما تضمنو العلم ،-فإف
منع وافق قوؿ أىل السنة ،وإف أجاز لزمو نسبة ابعهل لَِلّو ،تعالذ
ا﵁ عن ذلك .انتهى ( راجع " :ابؼفهم" ٔ ٖٖٔ - ٖٕٔ /مع
"الفتح" ٔ.).ٖٔٙ - ٕٔٙ /
وقاؿ القرطبّي أي ًضا :والإبياف بالقدر :ىو التصديق بدا تق ّدـ ذكره،
علٙيو]ٜق،ولووقتولعاول:ذ {:إَِنّ{اَوالَلُّكوَُّل َخلََشَقْيُكٍءْم ََخولََمْقانَاتَػهُْع بَِمَقلَُودٍَفر ىو ما دّؿ وحاصلو
[ الصافّات: (})ٜٙ
258
([ })ٜٗالقمر ،]ٜٗ :وقولوَ{ :وَما تَ َشاءُو َف إَِّلا أَ ْف يَ َشاءَ الَلّوُ}
[الإنساف .]ٖٓ :وإبصاع السلف وابػلف على صدؽ قوؿ القائل:
ما شاء ا﵁ كاف ،وما لد يشأ لد يكن ،وقولو -صلى ا﵁ عليو
وسلم " :-ك ّل شيء بقدر حَّت العجز والكيس" .رواه مسلم.
وقاؿ شيخ الإسلاـ ابن تيميّة ربضو ا﵁ تعالذ في " العقيدة
الواسطيّة" :وتؤمن الفرقة الناجية من أىل السنة وابعماعة بالقدر
خيره وشّره ،والإبياف بالقدر على درجتين ،ك ّل درجة تتض ّمن
شيئين:
فالدرجة الأولذ بأف ا﵁ تعالذ عليم بابػلق ،وىم عاملوف بعلمو
القدًن الذي ىو موصوؼ بو أزلًا وأب ًدا ،وعلم بصيع أحوابؽم من
الطاعات ،وابؼعاصي ،والأرزاؽ ،والآجاؿ ،ثم كتب ا﵁ في اللوح
ا﵀فوظ مقادير ابػلق ،فأوؿ ما خلق ا﵁ القلم ،قاؿ لو :اكتب،
قاؿ :ما أكتب؟ قاؿ :اكتب ما ىو كائن إلذ يوـ القيامة ،فما
أصاب الإنساف لد يكن ليُخطئو ،وما أخطأه لد يكن ليصيبو،
جّفت الأقلاـ ،وطُويت الصحف ،كما قاؿ تعالذ{ :أَلَدْ تَػْعلَ ْم أََّف
259
َعلَى ِفي كِتَا ٍب إِ َّف َذلِ َك َذلِ َك َما ِفي ال َّس َماِء َواْلأَْر ِض إِ َّف يػَيَْعِلَسيُمرٌ الَلّوَ
ِم ْن تعالذَ { :ما أَ َصا َب وقاؿ (ٓ [ })ٚابغج،]ٚٓ : الَلِّو
اْلأَْر ِض َوَلا ِفي أَنْػُف ِس ُك ْم إَِّلا ِفي كِتَا ٍب ِم ْن ُم ِصيبٍَة ِفي
قَػْب ِل أَ ْف نػَبْػَرأََىا َعلَى الَلِّو يَ ِسيرٌ ( ٕٕ)} [ ابغديد،]ٕٕ : إِ َّف ذَلِ َك
وىذا التقدير
التابع لعلمو سبحانو وتعالذ يكوف في مواضع بصلة وتفصيلًا ،فقد
كتب في اللوح ا﵀فوظ ما شاء ،وإذا خلق جسد ابعنين قبل نفخ
الروح فيو بعث إليو مل ًكا ،فيؤمر بأربع كلمات ،فيقاؿ لو :اكتب
رزقو ،وأجلو ،وعملو ،وشق ّي ،أـ سعيد ،وبكو ذلك ،فهذا التقدير
قد كاف ينكره ُغلاة القدريّة قدبيًا ،ومنكروه اليوـ قليل.
وأما الدرجة الثانية :فهي مشيئة ا﵁ النافذة ،وقدرتو الشاملة ،وىو
الإبياف بأف ما شاء ا﵁ كاف ،وما لد يشأ لد يكن ،وأنو ما في
السموات ،وما في الأرض من حركة ولا سكوف إلا بدشيئة ا﵁
سبحانو وتعالذ ،لا يكوف في ملكو ما لا يُريد ،وأنو سبحانو وتعالذ
على كل شيء قدير من ابؼوجودات ،وابؼعدومات ،فما من بـلوؽ
في الأرض ولا في السماء إلا ا﵁ خالقو سبحانو وتعالذ ،لا خالق
260
غيره ،ولا ر ّب سواه ،ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعتو ،وطاعة
رسلو ،ونهاىم عن معصيتو ،وىو سبحانو وتعالذ بو ّب ابؼتّقين،
وا﵀سنين ،وابؼقسطين ،ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصابغات،
ولا بُو ّب الكافرين ،ولا يرضى عن القوـ الفاسقين ،ولا يأمر
بالفحشاء ،ولا يرضى لعباده الكفر ،ولا بو ّب الفساد ،والعباد
فاعلوف حقيقة ،وا﵁ خالق أفعابؽم ،والعبد ىو ابؼؤمن ،والكافر،
والبرّ ،والفاجر ،وابؼصلّي ،والصائم ،وللعباد قدرة على أعمابؽم،
قاؿ تعالذ: أَخْفاليقَهْستَمِق،ي َموق(دَٛرتهٕم)َ،وَمواإراتََدَتشَهاءمُ،و َف إِكَّلماا وا﵁ وبؽم إرادة،
أَ ْف يَ َشاءَ الَلّوُ ِمنْ ُك ْم {لَِم ْن َشاءَ
َر ُّب الَْعالَِميَن ([ })ٕٜالتكوير.]ٕٜ - ٕٛ :
وىذه الدرجة من الق َدر يُ َك ّذب ّٔا عاّمة القدريّة الذين بظّاىم النبّي
-صلى ا﵁ عليو وسلم -بؾوس ىذه الأمة ،ويغلو فيها قوـ من
أىل الإثبات حَّت سلبوا العبد قدرتو ،واختياره ،وبىرجوف عن
أفعاؿ ا﵁ ،وأحكامو حكمها ،ومصابغها .انتهى كلاـ شيخ
261
الإسلاـ ربضو ا﵁ تعالذ ،وىو نفي ٌس .وا﵁ تعالذ أعلم بالصواب،
وإليو ابؼرجع وابؼآب87.
الوسألة الخاًية :في اختلاف أهل العلن في حكن القذسّيةًٍ ،حَهن هي
أهل الأهَاء.
قد حّقق شيخ الإسلاـ ابن تيميّة ربضو ا﵁ تعالذ ىذا ابؼوضوع
برقيًقا بالغًا أحببت إيراده ىنا لكونو مستوعبًا شرح مذاىبهم،
وحكم أىل العلم في ك ّل طائفة منهم:
سئل ربضو ا﵁ُ عن قولو -صلى ا﵁ عليو وسلم " :-تفترؽ أمتي
ثلاثة وسبعين فرقة" ما الِفَرؽ؟ وما معتقد ك ّل فرقة من ىذه
الصنوؼ؟
فأجاب ربضو ا﵁ تعالذ:
ابغمد ﵁ ،ابغديث صحيح مشهور في السنن وابؼسانيد ،كسنن
أِب داود ،والترمذ ّي ،والنسائ ّي ،وغيرىم ،ولفظو" :افترقت اليهود
87البحر ا﵀يط ٖٖٔٔ-ٕٔٛ/
262
على إحدى وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدًة ،وافترقت
النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدةً،
وستفترؽ ىذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا
واحدة" ،وفي لفظ" :على ثلاث وسبعين ملّةً" ،وفي رواية :قالوا :يا
رسوؿ ا﵁ من الفرقة الناجية؟ قاؿ" :من كاف على مثل ما أنا عليو
اليوـ وأصحاِب" ،وفي رواية قاؿ " :ىي ابعماعة ،يد ا﵁ على
ابعماعة"ٔ٘ٔ .
وبؽذا َو َص َف الفرقةَ الناجيةَ بأنها أىل السنّة وابعماعة ،وىم
ابعمهور الأكبر ،والسواد الأعظم.
وأما الِفَرُؽ الباقية ،فإنهم أىل الشذوذ ،والتفّرؽ ،والبدع ،والأىواء،
ولا تبلغ الفرقة من ىؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلًا عن أف
تكوف بقدرىا ،بل قد تكوف الفرقة منها في غاية القلّة ،وشعار ىذه
الِفَرؽ مفارقة الكتاب والسنّة والإبصاع ،فمن قاؿ بالكتاب والسنة
والإبصاع كاف من أىل السنة وابعماعة.
263
وأما تعيين ىذه الِفَرؽ ،فقد صنّف الناس فيهم مصنّفات،
وذكروىم في كتب ابؼقالات ،لكن ابعزـ بأف ىذه الفرقة ابؼوصوفة
ىي إحدى الثنتين والسبعين لا ب ّد لو من دليل ،فإف ا﵁ حّرـ القوؿ
بلا علم عموًما ،وحّرـ القوؿ عليو بلا علم خصو ًصا ،فقاؿ تعالذ:
َتُرَِّْْشبِرُكالْواَفَوباِاِلحَلِّوَشَماَمالَدْظَيػَُهنَػَّْرزْؿِمنْػبَِِوها ُسَولَْماطَابنًَاطَََونأَ ْفَواْتلَػِإُقثْموَلُواَوالْبَػَعغْلَ َيى َحَّرَـ إَِبّمَا {قُ ْل
َوأَ ْف ابْغَ ّْق بِغَْيِر
ااإِتَػَللنََّنُّلقّوُاِوولُلَُوسَاماُك َْعمُلَكلَالُوىاتَعَػْاعُِدبللََّفَّّلّواُمِوِوفُمَمَيفبِايا(لٌَْلناأَْٖ(رتَػْٖعِ)ٛلَضُم}ٙوَحٔ[َفالَ)لاأ(لًإِاَبعّٜمَرااٙطَْيّيبًَٔؼأْا)ُ:مَُر}وُكَلٖاْم[اٖلتَػَبب]تِّباِق،لُعرةُوّاوس:قاوِءُٛخؿطتَُٙواَعولْأاَفلِذتْح:-اَلشاِّ{َٜشءيَيْٙاأَطََُٔيػّوأاَ]َهِْ،ففا
وقاؿ تعالذَ { :وَلا تَػْق ُف َما لَْي َس لَ َك بِِو ِعْل ٌم} [الإسراء،]ٖٙ :
وأي ًضا فكثير من الناس بىبر عن ىذه الفرؽ بحكم الظ ّن وابؽوى،
فيجعل طائفتو ،وابؼنتسبة إلذ متبوعو ابؼوالية لو ىم أىل السنّة
وابعماعة ،وبهعل من خالفها أىل البدع ،وىذا ضلاؿ مبين ،فإف
أىل ابغ ّق والسنة لا يكوف متبوعهم إلا رسوؿ ا﵁ -صلى ا﵁
عليو وسلم -الذي لا ينطق عن ابؽوى{ ،إِ ْف ُىَو إَِّلا َو ْح ٌي يُو َحى
264
(ٗ)} [النجم ،]ٗ :فهو الذي بهب تصديقو في كل ما أخبر،
وطاعتو في كل ما أمر ،وليست ىذه ابؼنزلة لغيره من الأئمة ،بل
كل أحد من الناس يؤخذ من قولو ويُترؾ إلا رسوؿ ا﵁ -صلى
ا﵁ عليو وسلم ،-فمن جعل شخ ًصا من الأشخاص غير رسوؿ
ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم -من أحبو ووافقو كاف من أىل السنة
وابعماعة ،ومن خالفو كاف من أىل البدع والفرقة -كما يوجد
ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلاـ في الدين ،وغير ذلك
-كاف من أىل البدع والضلاؿ والتفّرؽ.
ؤّذا يتبّين أف أح ّق الناس بأف تكوف ىي الفرقة الناجية أىل
ابغديث والسنة الذين ليس بؽم متبوع يتعصبوف لو إلا رسوؿ ا﵁ -
صلى ا﵁ عليو وسلم ، -وىم أعلم الناس بأقوالو وأحوالو،
وأعظمهم بسييًزا بين صحيحها وسقيمها ،وأئمتهم فقهاء فيها،
وأىل معرفة بدعانيها ،واتباعها ،تصديًقا ،وعملًا ،وحِبّا ،وموالاة بؼن
والاىا ،ومعاداةً بؼن عاداىا ،الذين يرووف ابؼقالات آّملة إلذ ما
جاء بو من الكتاب وابغكمة ،فلا ينصبوف مقالة وبهعلونها من
265
أصوؿ دينهم ،وبُصَِل كلامهم إف لد تكن ثابتة فيما جاء بو الرسوؿ
-صلى ا﵁ عليو وسلم ،-بل بهعلوف ما بُعث بو الرسوؿ -
صلى ا﵁ عليو وسلم -من الكتاب وابغكمة ىو الأصل الذي
يعتقدونو ،ويعتمدوف عليو ،وما تنازع فيو الناس من مسائل
الصفات والقدر والوعيد والأبظاء والأمر بابؼعروؼ والنهي عن
ابؼنكر وغير ذلك يرّدونو إلذ ا﵁ ورسولو -صلى ا﵁ عليو وسلم -
،ويُف ّسروف الألفاظ آّملة التي تنازع فيها أىل الفرؽ والاختلاؼ،
فما كاف معانيها موافًقا للكتاب والسنة أثبتوه ،وما كاف بـالًفا
للكتاب والسنة أبطلوه ،ولا يتبعوف الظ ّن ،وما تَهَوى الأنفس ،فإف
اتّباع الظ ّن جهل ،واتّباع ىوى النفس بغير ىدى من ا﵁ ظلم،
وبصاعُ الشّر ابعهل والظلم ،قاؿ ا﵁ تعالذَ { :وبَضَلََها اْلِإنْ َسا ُف إَِنّوُ
َكا َف ظَلُوًما َجُهولًا} [ الأحزاب ]ٕٚ :إلذ آخر السورة ،وذكر
التوبة لعلمو سبحانو وتعالذ أنو لا ب ّد لكل إنساف من أف يكوف فيو
جهل وظلم ،ثم يتوب ا﵁ على من يشاء ،فلا يزاؿ العبد ابؼؤمن
دائ ًما يتبتن لو من ابغ ّق ما كاف جاىلًا بو ،ويرجع عن عمل كاف
اَلّ ِذي َن َوِلُّر { الَلّوُ تعالذ: قاؿ كما لنفسو، ظلمو وأدناه فيو، ظابؼًا
266
آَمنُوا بُىِْرُجُه ْم ِم َن ال ُظّلَُما ِت إِلَذ الُنّوِر} [ البقرة ،]ٕ٘ٚ :وقاؿ
اتأَلنْػعَاُزظلّْلنلَُاذَمهُ:اإِلَِيْ{ت ُىَإكَِولَلِذتُاَلّْاخِذلُِرنَّجويِرالَينػُّ}نَاػّْز[َُسؿابِمغَعلََدنياىدلُ:ظَّعلُْبَمِدٜاِه]ِ،تآيَإِاولَقذٍاتاؿلُنبّػَْيّػوتنَِرعاا}لٍذت[:إلِبيُرا{ْخىاِرليَرجمُ:ك ْمكِٔتَا]ِمٌَ.نب
وبفا ينبغي أي ًضا أف يُعرؼ أف الطوائف ابؼنتسبة إلذ متبوعين في
أصوؿ الدين والكلاـ على درجات ،منهم من يكوف قد خالف
السنة في أصوؿ عظيمة ،ومنهم من يكوف إبما خالف السنة في
أمور دقيقة.
ومن يكوف قد رّد على غيره من الطوائف الذين ىم أبعد عن
السنة منو فيكوف بؿموًدا فيما رّده من الباطل ،وقالو من ابغ ّق،
لكن يكوف قد جاوز العدؿ في رّده بحيث جحد بعض ابغ ّق ،وقاؿ
بعض الباطل ،فيكوف قد رّد بدعةً كبيرة ببدعة أخ ّف منها ،ورّد
باطلًا بباطل أخ ّف منو ،وىذه حاؿ أكثر أىل الكلاـ ابؼنتسبين
إلذ السنة وابعماعة ،ومثل ىؤلاء إذا لد بهعلوا ما ابتدعوه قولًا
يفارقوف بو بصاعة ابؼسلمين ،يوالوف عليو ،ويعادوف عليو كاف من
267
نوع ابػطأ ،وا﵁ سبحانو وتعالذ يغفر للمؤمنين خطأىم في مثل
ذلك ،وبؽذا وقع في مثل ىذا كثير من سلف الأمة وأئمتها ،بؽم
مقالات قالوىا باجتهاد ،وىي بزالف ما ثبت في الكتاب والسنّة،
بخلاؼ من والذ موافقو ،وعادى بـالفو ،وفّرؽ بين بصاعة
ابؼسلمين ،وكّفر ،وف ّسق بـالفو دوف موافقو في مسائل الآراء
والاجتهادات ،واستح ّل قتاؿ بـالفو دوف موافقو ،فهؤلاء من أىل
التفّرؽ والاختلاؼ.
وبؽذا كاف أوؿ من فارؽ بصاعة ابؼسلمين من أىل البدع ابػوارج
ابؼارقوف ،وقد ص ّح ابغديث في ابػوارج عن النبّي -صلى ا﵁ عليو
وسلم -من عشرة أوجو ،خّرجها مسلم في " صحيحو" ،وخّرج
البخار ّي منها غير وجو ،وقد قاتلهم أصحاب النبّي -صلى ا﵁
عليو وسلم -مع أمير ابؼؤمنين عل ّي بن أِب طالب -رضي ا﵁ عنو
،-فلم بىتلفوا في قتابؽم كما اختلفوا في قتاؿ الفتنة يوـ ابعمل
وصّفين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناؼ :صنف قاتلوا مع ىؤلاء،
268
وصنف قاتلوا مع ىؤلاء ،وصنف أمسكوا عن القتاؿ وقعدوا،
وجاءت النصوص بترجيح ىذه ابغاؿ.
فابػوارج لَّما فأرقوا بصاعة ابؼسلمين ،وكّفروىم ،واستحلّوا قتابؽم
عليو وسلم ا﵁ -صلى -جا:ء" بتَواِقلرسنّأةحبدداكمجاءصفلياتهوم،معكقوصؿلاالتنهبمّي،
صيامهم، مع وصيامو
وقراءتو مع قراءتهم ،يقرأوف القرآف لا بُهاوز حناجرىم ،بَيُرقوف من
الإسلاـ كما بيرؽ السهم من الَّرِميّة ،أينما لقيتموىم فاقتلوىم،
فإف في قتلهم أجًرا عند ا﵁ بؼن قتلهم يوـ القيامة".
وقد كاف أوبؽم خرج على عهد رسوؿ ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم
،-فلما رأى قسمة النبي -صلى ا﵁ عليو وسلم -قاؿ :يا بؿمد
اع ِدؿ ،فإنك لد تعدؿ ،فقاؿ لو النبي -صلى ا﵁ عليو وسلم :-
"لقد خب ُت وخسر ُت إف لد أعدؿ" ،فقاؿ لو بعض أصحابو :دعِن
"إنو بىُرج من ِضئضئ يا رسوؿ ا﵁ أضرب عنق ىذا ابؼنافق ،فقاؿ:
وصيامو مع صيامهم، ىذا أقواٌـ بَوِقر أحدكم صلاتو مع صلاتهم،
وقراءتو مع قراءتهم " ...ابغديث.
269
فكاف مبدأ البدع ىو الطعن في السنة بالظ ّن وابؽوى ،كما طعن
إبليس في أمر ربو برأيو وىواه.
وأما تعيين الِفَرؽ ابؽالكة ،فأقدـ من بلغنا أنو تكلّم في تضليلهم
يوسف بن أسباط ،ثم عبد ا﵁ بن ابؼبارؾ ،وبنا إماماف جليلاف من
أجلاء أئمة ابؼسلمين قالا :أصوؿ البدع أربعة :الروافض ،وابػوارج،
والقدريّة ،وابؼرجئة ،فقيل لابن ابؼبارؾ :وابعهميّة؟ فأجاب بأف
أولئك ليسوا من أمة بؿمد ،وكاف يقوؿ :إنا لنحكي كلاـ اليهود
والنصارى ،ولا نستطيع أف بككي كلاـ ابعهميّة.
وىذا الذي قالو اتّبعو عليو طائفة من العلماء من أصحاب أبضد
وغيرىم ،قالوا :إف ابعهميّة كّفار ،فلا يدخلوف في الاثنين والسبعين
فرقة ،كما لا يدخل فيهم ابؼنافقوف الذين يُبطنوف الكفر ،ويُظهروف
الإسلاـ ،وىم الزنادقة.
وقاؿ آخروف من أصحاب أبضد وغيرىم :بل ابعهميّة داخلوف في
الاثنين والسبعين فرقةً ،وجعلوا أصوؿ البدٍع بطسةً ،فعلى قوؿ
270
ىؤلاء يكوف ك ّل طائفة من ابؼبتدعة ابػمسة اثنا عشر فرقة ،وعلى
قوؿ الأولين يكوف كل طائفة من ابؼبتدعة الأربعة بشانية عشر فرقة.
وىذا ينبِن على أصل آخر ،وىو تكفير أىل البدع ،فمن أخرج
ابعهميّة منهم لد يُكّفرىم ،فإنو لا يكفر سائر أىل البدع ،بل
بهعلهم من أىل الوعيد بدنزلة الف ّساؽ والعُصاة ،وبهعل قولو" :ىم
في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب ،مثل أكل ماؿ اليتيم
يَوأْغُكيلُرهوَ،ف ِكفيمابُقطُاونِؿهِتْمعانَالًذرا }:ا{لإِآَّيفةاَلّ[ِاذلينَنسياَأْءُ:كلُٓو َفٔ أ]َْمَ.وا َؿ الْيَتَاَمى ظُلْ ًما إَِبّمَا
ومن أدخلهم فيهم ،فهم على قولين:
منهم من يكّفرىم كلهم ،وىذا إبما قالو بعض ابؼتأخرين ابؼنتسبين
إلذ الأئمة أو ابؼتكلّمين ،وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدـ
تكفير ابؼرجئة والشيعة ابؼف ّْضلَة ،وبكو ذلك ،ولد بزتلف نصوص
أبضد في أنو لا يكّفر ىؤلاء ،وإف كاف من أصحابو من َح َكى في
تكفير بصيع أىل البدع من ىؤلاءوغيرىم خلافًا عنو ،أو في مذىبو
271
حَّت أطلق بعضهم بزليد ىؤلاء وغيرىم ،وىذا غلط على مذىبو،
وعلى الشريعة.
ومنهم من لد يكّفر أح ًدا من ىؤلاء إبغاقًا لأىل البدع بأىل
ابؼعاصي ،قالوا :فكما أف من أصوؿ أىل السنة وابعماعة أنهم لا
يكّفروف أح ًدا بذنب ،فكذلك لا يكّفروف أح ًدا ببدعة .وابؼأثور
عن السلف ،والأئمة إطلاؽ أقواؿ بتكفير ابعهميّة ا﵀ضة الذين
يُنكروف الصفات ،وحقيقة قوبؽم :إف ا﵁ لا يتكلم ،ولا يػَُرى ،ولا
يباين ابػلق ،ولا لو علم ،ولا قدرة ،ولا بظغ ،ولا بصٌر ،ولا حياةٌ،
بل القرآف بـلو ٌؽ ،وأىل ابعنّة لا يرونو كما لا يراه أىل النار،
وأمثاؿ ىذه ابؼقالات.
وأما ابػوارج ،والروافض ،ففي تكفيرىم نزاعٌ وترّدد عن أبضد
وغيرىم.
وأما القدريّة الذين يَنُفوف الكتابة والعلم ،فكّفروىم ،ولد يكّفروا من
أثبت العلم ،ولد يُثبت خلق الأفعاؿ.
وفصل ابػطاب في ىذا الباب بذكر أصلين:
272
[أحدبنا] :أف يعلم أف الكافر في نفس الأمر من أىل الصلاة لا
يكوف إلا منافًقا ،فإف ا﵁ منذ بعث بؿم ًدا -صلى ا﵁ عليو وسلم
،-وأنزؿ عليو القرآف ،وىاجر إلذ ابؼدينة صار الناس ثلاثة
أصناؼ :مؤمن بو ،وكافٌر بو مظهر الكفر ،ومناف ٌق مستخف
بالكفر ،وبؽذا ذكر ا﵁ ىذه الأصناؼ الثلاثة في أوؿ سورة البقرة،
ذكر أربع آيات في نعت ابؼؤمنين ،وآيتين في الكّفار ،وبضع عشرة
آيةً في ابؼنافقين ،وقد ذكر ا﵁ الكّفار وابؼنافقين في غير موضع من
{َجَاوَلِماُعتُالِْطُِمعنَاافِلِْقَكياَنفِِريَواَلنْ َكَاوافلِِْرُيمنََانفِِقِفييَن َ}جَهَن[ّاَملأبَحِصيزاًعاب}:
القرآف ،كقولو تعالذ:
ٔ] ،وقولو{ :إِ َّف الَلّوَ
[النساء ،]ٔٗٓ :وقولو { :فَالْيَػْوَـ لَا يػُْؤ َخ ُذ ِمْن ُك ْم فِ ْديَةٌ َوَلا ِم َن
اَلّ ِذي َن َكَفُروا} [ ابغديد ،]ٔ٘ :وعطفهم على الكّفار ليميّزىم
عنهم بإظهار الإسلاـ ،وإلا فهم في الباطن شّر من الكّفار ،كما
ققَعاا٘لَؿؿٗى:تٔعقَ]ػا{ْب،قلُِرهِذْلو:كإَِأنَػّمنْا{ُهِفإُِقْقمَّافواؿاَكلْ:طََفُمُْونرَاًع{وافَِاوَِلقبأاَِياَْولنتَُلِّوِفََصكيْْرّلَوًىاَرلاََعُّسدللََْورلِْنِىِوؾ أَيػُ}اتَػْلَحَقأاََبٍّدلْسآَليَِفمةنْػِِملُْنه[ْمُِاكملتْمَنَموابإِاَنّةلَنَّ:تُاك ِرْأمَبَٗ}ًداُٛكْن[]تُاَو،لَلْمنا قَػستوَػْكاوُقًءممْماا:
273
أََينػػُّنُْهِفُْقمو ََفكَفإُِرَّلواا إَِّلا نػََفَقاتُػُه ْم َمنَػَعُه ْم أَ ْف تػُْقبَ َل ِمْنػُه ْم بفَِاالَِلّسِوِقيََنوبَِر(ُسٖولِِ٘و) َوََلواَما
َوَلا ُك َسالَذ يَأْتُو َف ال َّصلَاَة إَِّلا َوُى ْم
َوُى ْم َكا ِرُىو َف (ٗ٘)} [التوبة.]٘ٗ - ٖ٘ :
وإذا كاف كذلك فأىل البدع فيهم ابؼنافق الزنديق فهذا كافر،
ويكثر ىذا في الروافض وابعهميّة ،فإف رؤساءىم كانوا منافقين
زنادقة ،وأوؿ من ابتدع الرفض كاف منافًقا ،وكذلك التجّهم ،فإف
أصلو زندقة ونفاؽ ،وبؽذا كاف الزنادقة ابؼنافقوف من القرامطة
الباطنيّة ابؼتفلسفة ،وأمثابؽم بييلوف إلذ الرافضة وابعهمية لقرّٔم
منهم.
ومن أىل البدع من يكوف فيو إبياف باطنًا وظاىًرا ،لكن فيو جهل
وظلم حَّت أخطأ ما أخطأ من السنة ،فهذا ليس بكافر ولا منافق،
ثم قد يكوف منو عدواف وظلم يكوف بو فاسًقا أو عاصيًا ،وقد
يكوف بـطئًا متأوًلا مغفوًرا لو خطؤه ،وقد يكوف مع ذلك معو من
الإبياف والتقوى ما يكوف معو من ولاية ا﵁ بقدر إبيانو وتقواه،
فهذا أحد الأصلين.
274
[والأصل الثاني] :أف ابؼقالة تكوف كفًرا ،كجحد وجوب الصلاة
والزكاة والصياـ وابغ ّج ،وبرليل الزنا وابػمر وابؼيسر ،ونكاح ذوات
ا﵀ارـ ،ثم القائل ّٔا قد يكوف بحيث لد يبلغو ابػطاب ،وكذا لا
يكفر بو جاحده ،كمن ىو حديث عهد بالإسلاـ ،أو نشأ ببادية
بعيدة لد تبلغو شرائع الإسلاـ ،فهذا لا بُوكم بكفره ،بجحد شيء
بفا أنزؿ على الرسوؿ -صلى ا﵁ عليو وسلم -إذا لد يعلم أنو
أُنزؿ على الرسوؿ -صلى ا﵁ عليو وسلم .-
ومقالات ابعهميّة ىي من ىذا النوع ،فإنها جحد بؼا ىو الر ّب
تعالذ عليو ،وبؼا أنزؿ ا﵁ على رسولو ،وتُغلّظ مقالاتهم من ثلاثة
أوجو:
[أحدبنا] :أف النصوص ابؼخالفة لقوبؽم في الكتاب والسنّة
والإبصاع كثيرة جِّدا مشهورة ،وإبما يرّدونها بالتحريف.
[الثاني] :أف حقيقة قوبؽم تعطيل الصانع ،وإف كاف منهم من لا
يَعلَم أف قوبؽم مستلزـ تعطيل الصانع ،فكما أف أصل الإبياف
الإقرار با﵁ ،فأصل الكفر الإنكار ﵁.
275
[الثالث] :أنهم بىالفوف ما اتّفقت عليو ابؼلل كلّها ،وأىل الفطر
السليمة كلها ،لكن مع ىذا قد بىفى كثير من مقالاتهم على
كثير من أىل الإبياف حَّت يظ ّن أف ابغ ّق معهم؛ بؼا يوردونو من
الشبهات ،ويكوف أولئك ابؼؤمنوف مؤمنين با﵁ ورسولو باطنًا
وظاىًرا ،وإبما التبس عليهم واشتبو ىذا كما التبس على غيرىم من
أصناؼ ابؼبتدعة ،فهؤلاء ليسوا كّفاًرا قطًعا ،بل قد يكوف منهم
الفاسق والعاصي ،وقد يكوف منهم ابؼخطئ ابؼغفور لو ،وقد يكوف
معو من الإبياف والتقوى ما يكوف معو بو من ولاية ا﵁ بقدر إبيانو
وتقواه.
وأصل قوؿ أىل السنة الذي فارقوا بو ابػوارج وابعهميّة وابؼعتزلة
وابؼرجئة أف الإبياف يتفاضل ويتبغض ،كما قاؿ النبّي -صلى ا﵁
عليو وسلم " :-بىرج من النار من كاف في قلبو مثقاؿ ذّرة من
إبياف" ،وحينئ ٍذ فتتفاضل ولاية ا﵁ ،وتتبّعض بحسب ذلك.
وإذا ُعرؼ أصل البدع ،فأصل قوؿ ابػوارج أنهم يكّفروف بالذنب،
ويعتقدوف ذنبًا ما ليس بذنب ،ويروف اتّباع الكتاب دوف السنّة التي
276
بزالف ظاىر الكتاب ،وإف كانت متواترًة ،ويكقروف من خالفهم،
ويستحلّوف منو لارتداده عندىم ما لا يستحلّونو من الكافر
الأصل ّي ،كما قاؿ النبّي -صلى ا﵁ عليو وسلم -فيهم" :يقتلوف
أىل الإسلاـ ،وي َدعُوف أىل الأوثاف" ،وبؽذا كّفروا عثماف وعلِيّا
وشيعتهما ،وكّفروا أىل صّفين الطائفتين في بكو ذلك من ابؼقالات
ابػبيثة.
وأصل قوؿ الرافضة أف النبّي -صلى ا﵁ عليو وسلم -ن ّص على
عل ّي ن ِّصا قاطًعا للعذر ،وأنو إماـ معصوـ ،ومن خالفو كفر ،وأف
ابؼهاجرين والأنصار كتموا الن ّص ،وكفروا با لإماـ ابؼعصوـ ،واتّبعوا
أىواءىم ،وب ّدلوا الدين ،وغيّروا الشريعة ،وظلموا ،واعتدوا ،بل
كفروا إلا نفًرا قليلًا ،إما بضعو عشر ،أو أكثر ،ثم يقولوف :إف أبا
بكر وعمر وبكوبنا ما زالا منافقين ،وقد يقولوف :بل آمنوا ،ثم
كفروا ،وأكثرىم يكّفر من خالف قوبؽم ،ويُس ّموف أنفسهم
ابؼؤمنين ،ومن خالفهم كّفاًرا ،وبهعلوف مدائن الإسلاـ التي لا
تُظَهر فيها أقوابؽم دار ِرّدة أسوأ حالًا من مدائن ابؼشركين
277
والنصارى ،وبؽذا يوالوف اليهود والنصارى وابؼشركين على بعض
بصهور ابؼسلمين ،ومعاداتهم وبؿاربتهم ،كما عُرؼ من موالاتهم
الكفار ابؼشركين على بصهور ابؼسلمين ،ومن موالاتهم الإفرنج
النصارى على بصهور ابؼسلمين ،ومن موالاتهم اليهود على بصهور
ابؼسلمين.
ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاؽ ،كزندقة القرامطة الباطنة
وأمثابؽم ،ولا ريب أنهم أبعد طوائف ابؼبتدعة عن الكتاب والسنّة،
وبؽذا كانوا ىم ابؼشهورين عند العامة بابؼخالفة للسنة ،فجمهور
العامة لا تعرؼ ض ّد السِّن إلا الرافض ّي ،فإذا قاؿ أحدىم :أنا
سِّّن ،فإبما معناه لست رافضيّا ،ولا ريب أنهم شّر من ابػوارج،
لكن ابػوارج كاف بؽم في مبدئ الإسلاـ سيف على أىل ابعماعة،
وموالاتهم الكّفار أعظم من سيوؼ ابػوارج ،فإف القرامطة
والإبظاعيليّة وبكوىم من أىل ا﵀اربة لأىل ابعماعة ،وىم منتسبوف
إليهم ،وأما ابػوارج فهم معروفوف بالصدؽ ،والروافض معروفوف
بالكذب ،وابػوارج َمَرقُوا من الإسلاـ ،وىؤلاء نابذوا الإسلاـ.
278
وأما القدريّة ا﵀ضة ،فهم خير من ىؤلاء بكثير ،وأقرب إلذ الكتاب
والسنّة ،لكن ابؼعتزلة وغيرىم من القدريّة ىم جهميّة أي ًضا ،وقد
يكّفروف من خالفهم ،ويستحلّوف دماء ابؼسلمين ،فيقربوف من
أولئك.
وأما ابؼرجئة فليسوا من ىذه البدع ابؼغلّظة ،بل قد دخل في قوبؽم
طوائف من أىل الفقو والعبادة ،وما كانوا يػَُعُّدوف إلا من أىل
السنّة حَّت تغلظ أمرىم بدا زادوه من الأقواؿ ابؼغلّظة.
ولَّما كاف قد نُسب إلذ الإرجاء والتفضيل قوـ مشاىير مَتّبَعوف
تكلّم أئمة السنة ابؼشاىير في ذّـ ابؼرجئة ابؼف ّضلة تنفيًرا عن
مقالتهم ،كقوؿ سفياف الثور ّيَ :من ق ّدـ علِيّا على أِب بكر
والشيخين فقد أزرى بابؼهاجرين والأنصار ،وما أدري يصعد لو إلذ
ا﵁ عمل مع ذلك ،وبكو ىذا القوؿ ،قالو بؼا نُسب إلذ تقدًن عل ّي
بع ُض أئمة الكوفيين ،وكذلك قوؿ أيوب السختيانيّ :من ق ّدـ علِيّا
على عثماف فقد أزرى بابؼهاجرين والأنصار ،قالو بؼا بلغو ذلك عن
بعض أئمة الكوفيين ،وقد روي أنو رجع عن ذلك ،وكذلك قوؿ
279
الثور ّي ومالك والشافع ّي وغيرىم في ذّـ ابؼرجئة بؼا نُسب إلذ
الإرجاء بعض ابؼشهورين.
وكلاـ الإماـ أبضد في ىذا الباب جا ٍر على كلاـ من تق ّدـ من
أئمة ابؽدى ،ليس لو قوٌؿ ابتدعو ،ولكن أظهر السنة وبيّنها ،وذ ّب
عنها ،وبّين حاؿ بـالفيها ،وجاىد عليها ،وصبر على الأذى فيها
قَواَكاؿنُواا﵁بِآتيَاعتِانَلاذ:يُوق{ِنَُووََجفَعلْ(نَاِٗمٕنْػ)ُه ْم} والبدع ،وقد لَّما أُظهرت الأىواء
لََّما َصبَػُروا أَئَِّمةً يػَْه ُدو َف بِأَْمِرنَا
[السجدة ،]ٕٗ :فالصبر واليقين ّٔما تناؿ الإمامة في الدين ،فلما
قاـ بذلك قُرنت بابظو الإمامة في السنة ما ُشهر بو ،وصار متبوًعا
بؼن بعده ،كما كاف تابًعا بؼن قبلو.
وإلا فالسنّة ىي ما تلَّقاه الصحابة عن رسوؿ ا﵁ -صلى ا﵁ عليو
وسلم ،-وتلّقاه عنهم التابعوف ثم تابعوىم إلذ يوـ القيامة ،وإف
كاف بعض الأئمة ّٔا أعلم ،وعليها أصبر .وا﵁ سبحانو وتعالذ
أعلم وأحكم .انتهى كلاـ شيخ الإسلاـ ربضوُ ا﵁ُ (" بؾموع
الفتاوى" ٖ.)ٖ٘ٛ - ٖٗ٘ /
280
قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو :كلاـ شيخ الإسلاـ ىذا برقيق
نفيس ،وبحث أنيس ،فتم ّسك بو ،فإنك لا بذده بؾموًعا بؿّقًقا في
كلاـ غيره .وا﵁ تعالذ أعلم بالصواب ،وإليو ابؼرجع وابؼآب ،وىو
حسبنا ونعم الوكيل88.
الوسألة الخالخة :سد على الوعتضلةٍ ،الوتكلّويي
أف ىذا ابغديث أص ٌل عظي ٌم ،ودلي ٌل عمي ٌم ،يقطع دابر أىل
الأىواء ابؼضلّة ،وأرباب ال َّسَفو والّْذلّة من ابؼعتزلة ،وابؼتكلّمين الذين
ىم أذناب الفلاسفة ابْعََهلَة ،أرباب الغواية ال َّسَفلَة ،الذين لا يروف
ابؼؤمن مؤمنًا إلا الذي آمن بالقواعد التي أ ّسسوىا ،ود ّسوىا بين
أىل الإسلاـ ،وأوبنوا أنها ابؼعنيّة بنصوص الكتاب والسنّة ،وأف من
لد يسلك سبيلها فقد ض ّل ضلالًا بعي ًدا ،وىذا زور ؤّتاف ،وكذب
وافتراء على ا﵁ تعالذ وعلى رسولو -صلى ا﵁ عليو وسلم ،-وقد
قاـ ا﵀ّققوف من ابؼتق ّدمين وابؼتأخرين من أىل السنة بتفنيد آرائهم
الزائفة ،ودحض ُح َج ِجِه ْم الكاسفة ،وألقموىم ابغجر ابْعُْل ُمود،
88البحر ا﵀يط ٔٔٙٓ-ٔ٘ٔ/
281
ونػَبَػُزوىم بأنهم أىل الضلاؿ وابعحود ،وأنا أذكر -بعوف ا﵁ تعالذ
-خلاصة أقوابؽم ،ولباب أَفْػَهاِمِه ْم التي دّؿ عليها الكتاب
وصحاح السنّة ،وعرفها وحققها العقلاء ،وإف جحدىا ونبذىا
ابعهلاء -اللهم اىدنا فيمن ىديت ،وعافنا فيمن عافيت ،وتولّنا
فيمن تولّيت ،آمين .-
قاؿ العلامة القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ :مذىب السلف وأئمة الفتوى
من ابػلف ،أف من ص ّدؽ ّٔذه الأمور تصديًقا جزًما ،لا ريب فيو
ولا ترّدد ،ولا توقّف ،كاف مؤمنًا حقيقة ،وسواء كاف ذلك عن
براىين ناصعة ،أو عن اعتقادات جازمة ،على ىذا انقرضت
الأعصار الكربية ،ؤّذا صّرحت فتاوى أئمة ابؽدى ابؼستقيمة،
حَّت حدثت مذاىب ابؼعتزلة ابؼبتدعة ،فقالوا :إنو لا يص ّح الإبياف
الشرع ّي إلا بعد الإحاطة بالبراىين العقليّة وال َّس ْمعِيَة ،وحصوؿ
العلم بنتائجها ومطالبها ،ومن لد بو ُصل إبيانو كذلك فليس
بدؤمن ،ولا بهزئ إبيانو بغير ذلك ،وتبعهم على ذلك بصاعة من
متكلّمي أصحابنا ،كالقاضي أِب بكر ،وأِب إسحاؽ الإسفراييِّن،
282
وأِب ابؼعالر في أوؿ قوليو ،والأوؿ ىو الصحيح؛ إذ ابؼطلوب من
ابؼكلّفين ما يقاؿ عليو :إبياف ،كقولو تعالذ{ :آِمنُوا بِالَلِّو َوَر ُسولِِو}
[النساءَ { ،]ٖٔٙ :وَم ْن لَدْ يػُْؤِم ْن بِالَلِّو َوَر ُسولِِو} [الفتح،]ٖٔ :
والإبياف ىو التصديق لغةً وشرًعا ،فمن ص ّدؽ بذلك كلّو ،ولد بهّوز
نقيض شيء من ذلك ،فقد عمل بدقتضى ما أمره ا﵁ تعالذ بو
على بكو ما أمره ا﵁ تعالذ ،ومن كاف كذلك ،فقد تَػَف َّصى عن
عهدة ابػطاب؛ إذ قد عمل بدقتضى السنّة والكتاب؛ ولأف رسوؿ
ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم -وأصحابو بعده حكموا بص ّحة إبياف
ك ّل من آمن وص ّدؽ بدا ذكرناه ،ولد يفّرقوا بين من آمن عن برىاف،
أو غيره؛ ولأنهم لد يأمروا أجلاؼ العرب بترديد النظر ،ولا سألوىم
عن أدلّة تصديقهم ،ولا أرجأوا إبيانهم حَّت ينظروا ،وبراشوا عن
إطلاؽ الكفر على أحد منهم ،بل ب َظّوىم ابؼؤمنين ،وابؼسلمين،
وأجروا عليهم أحكاـ الإبياف والإسلاـ؛ ولأف البراىين التي حّررىا
ابؼتكلّموف ،ورتّبها ابعدليّوف ،إبما أحدثها ابؼتأ ّخروف ،ولد بَىُض في
شيء تلك الأساليب السلف ابؼاضوف ،فمن ا﵀اؿ وابْؽََذيَاف أف
يُشترط في ص ّحة الإبياف ما لد يكن معروفًا ولا معمولًا بو لأىل
283
ذلك الزماف؟ وىم من ىم؟ فه ًما عن ا﵁ تعالذ ،وأخ ًذا عن رسوؿ
ا﵁ -صلى ا﵁ عليو وسلم ، -وتبليغًا لشريعتو ،وبيانًا لسنّتو
وطريقتو .انتهى كلاـ القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ ،وىو نفي ٌس جِّدا
("ابؼفهم" ٔ.).ٔٗٙ - ٔٗ٘ /
وقد ذكر ابغافظ ربضو ا﵁ تعالذ في " الفتح" عند شرح حديث
بػَْع ِث معاذ -رضي ا﵁ عنو -إلذ اليمن ،فقاؿ عند قولو" :فليكن
أوؿ ما تدعوىم إلذ أف يو ّْحدوا ا﵁ ،فإذا عرفوا ذلك " ...
ابغديث ،ما ن ّصو :وقد بسسك بو من قاؿ :أوؿ واج ٍب ابؼعرفةُ،
كإماـ ابغرمين ،واستََدّؿ بأنو لا يتأتى الإتياف بشيء من ابؼأمورات
على قصد الامتثاؿ ،ولا الانكفاؼ عن شيء من ابؼنهيات على
قصد الانزجار ،إلا بعد معرفة الآمر والناىي.
واعتُِرض عليو بأف ابؼعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلاؿ ،وىو
مقدمة الواجب ،فيجب ،فيكوف أوؿ واج ٍب النظُر ،وذىب إلذ
ىذا طائفة كابن فورؾ.
284
وتُػعُّقب بأف النظر ذو أجزاء ،يترتب بع ًضا على بعض ،فيكوف أوؿ
واجب جزأ من النظر ،وىو بؿك ّي عن القاضي أِب بكر بن
الطيب ،وعن الأستاذ أِب إسحاؽ الإسفراييِّن :أوؿ واجب القصد
إلذ النظر ،وبصع بعضهم بين ىذه الأقواؿ ،بأف من قاؿ :أوؿ
واجب ابؼعرفة ،أراد طلبًا وتكليًفا ،ومن قاؿ :النظر ،أو القصد أراد
امتثاًلا؛ لأنو يُ َسلّم أنو وسيلة إلذ برصيل ابؼعرفة ،فيدؿ ذلك على
سبق وجوب ابؼعرفة.
قاؿ :وقد ذكر ُت في " كتاب الإبياف" من أعرض عن ىذا من
أصلو ،وبَسَ َّس َك بقولو تعالذ { :فَأَقِ ْم َو ْجَه َك لِلّْدي ِن َحنِيًفا فِطَْر َت
الَلِّو اَلِّتي فَطََر الَنّا َس َعلَيْػَها} [الروـ ،]ٖٓ :وحديث" :ك ُّل مولود
يولد على الفطرة ، " ...فإف ظاىر الآية وابغديث أف ابؼعرفة
حاصلة بأصل الفطرة ،وأف ابػروج عن ذلك يطرأ على الشخص؛
لقولو -صلى ا﵁ عليو وسلم " :-فأبواه يػَُهّودانو ،وينصرانو".
وقد وافق أبو جعفر السمناني ،وىو من رؤوس الأشاعرة على ىذا،
وقاؿ :إف ىذه ابؼسألة بقيت في مقالة الأشعري ،من مسائل
285
ابؼعتزلة ،وتفرع عليها أف الواجب على كل أحد معرفة ا﵁ بالأدلة
الدالة عليو ،وأنو لا يكفي التقليد في ذلك .انتهى.
قاؿ :وقرأت في جزء من كلاـ شيخ شيخنا ابغافظ صلاح الدين
العلائي ما ملخصو :إف ىذه ابؼسألة بفا تناقضت فيها ابؼذاىب،
وتباينت بين ُمَفّْرط ،وُمْفِرط ،ومتوسط:
فالطرؼ الأوؿ :قوؿ من قاؿ :يكفي التقليد ا﵀ض في إثبات
وجود ا﵁ تعالذ ،ونفي الشريك عنو ،وبفن نسب إليو إطلاؽ ذلك
عبيد ا﵁ بن ابغسن العنبري ،وبصاعة من ابغنابلة ،والظاىرية،
ومنهم من بالغ ،فَ َحَّرـ النظر في الأدلة ،واستند إلذ ما ثبت عن
الأئمة الكبار ،من ذـ الكلاـ كما سيأتي بيانو.
قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو :ىذا ابؼذىب ىو ابغ ّق الذي كاف
عليو السلف الصالح ،كما سبق في كلاـ القرطبّي ،ويأتي أي ًضا،
فليس فيو تفريط ،كما يدّؿ عليو كلاـ العلائ ّي ىذا ،فتب ّصر
بالإنصاؼ ،ولا تتهّور بتقليد ذوي الاعتساؼ ،ونسأؿ ا﵁ تعالذ
أف يهدينا إلذ سواء السبيل.
286
قاؿ :والطرؼ الثاني :قوؿ من وقَ َف صحة إبياف كل أحد على
معرفة الأدلة ،من علم الكلاـ ،ونُسب ذلك لأِب إسحاؽ
الإسفراييِّن ،وقاؿ الغزالر :أسرفت طائفة ،ف َكَّفروا عواّـ ابؼسلمين،
وزعموا أف من لد يعرؼ العقائد الشرعية ،بالأدلة التي حّرروىا ،فهو
كافر ،فضيّقوا ربضة ا﵁ الواسعة ،وجعلوا ابعنة بـتصة بشرذمة يسيرة
من ابؼتكلمين ،وذكر بكوه أبو ابؼظفر ابن السمعانيّ ،وأطاؿ في الرد
على قائلو ،ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا :لا بهوز أف
تكلف العواّـ اعتقاد الأصوؿ بدلائلها؛ لأف في ذلك من ابؼشقة
أش ّد من ابؼشقة في تعلم الفروع الفقهية.
قاؿ :وأما ابؼذىب ابؼتوسط ،فذكره ،وسأذكره ُملَ َّخ ًصا بعد ىذا.
وقاؿ القرطبي في "ابؼفهم" في شرح حديث" :أبغض الرجاؿ إلذ ا﵁
الألد ابػصم" ،وىو في أوائل "كتاب العلم" من "صحيح مسلم":
ىذا الشخص الذي يبغضو ا﵁ ،ىو الذي يقصد بخصومتو مدافعة
ابغق ،ورده بالأوجو الفاسدة ،وال ُّشبَو ابؼوبنة ،وأشد ذلك ابػصومة
في أصوؿ الدين ،كما يقع لأكثر ابؼتكلمين ،ابؼعرضين عن الطرؽ
287
التي أرشد إليها كتاب ا﵁ وسنة رسولو -صلى ا﵁ عليو وسلم ،-
وسلف أمتو ،إلذ طرؽ مبتدعة ،واصطلاحات بـترعة ،وقوانين
جدلية ،وأمور صناعية ،مدار أكثرىا على آراء سوفسطائية ،أو
مناقضات لفظية ،ينشأ بسببها على الآخذ فيها ُشبَوٌ ،ربدا يَع ِجز
عنها ،وشكوؾ يذىب الإبياف معها ،وأحسنهم انفصالًا عنها
أجدبؽم ،لا أعلمهم ،فكم من عالد بفساد الشبهة ،لا يقوى على
حلها ،وكم من منفصل عنها ،لا يدرؾ حقيقة علمها ،ثم إف
ىؤلاء ابؼتكلّمين قد ارتكبوا أنوا ًعا من ا﵀اؿ ،لا يرتضيها الْبُػْلوُ ولا
الأطفاؿ ،لََّما بحثوا عن بَرَُيّز ابعواىر ،والأكواف ،والأحواؿ ،ثم إنهم
أخذوا يبحثوف فيما أمسك عنو السلف الصالح ،ولد يوجد عنهم
بح ٌث واضح ،وىو كيفية تعلقات صفات ا﵁ تعالذ ،وتعديدىا،
وابرادىا في نفسها ،وىل ىي الذات أو غيرىا؟ وفي الكلاـ ،ىل
ىو متحد ،أو منقسم؟ وعلى الثاني ،ىل ينقسم بالنوع ،أو
الوصف؟ وكيف تعلق في الأزؿ بابؼأمور ،مع كونو حادثًا؟ ثم إذا
انعدـ ابؼأمور ،فهل يبقى ذلك التعلق؟ وىل الأمر لزيد بالصلاة
مثلًا ،ىو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلذ غير ذلك من الأبحاث
288
ابؼبتدعة ،التي لد يأمر الشارع بالبحث عنها ،وسكت عنها
الصحابة -رضي ا﵁ عنهم -ومن سلك سبيلهم ،بل نهوا عن
ابػوض فيها؛ لعلمهم بأنو بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيتو
بالعقل ،لكوف العقوؿ بؽا حد تقف عنده ،وىو العجز عن
التكييف ،لا يتع ّداه ،ولا فرؽ بين البحث عن كيفية الذات،
فَوولكُىييَعوفليةمال اأَلنّسوِمصيإفُعاذا اتلْبَ،كاِصفويلرُذلُ}ح ِكج[ القباشؿوعرانلىع:ليكيمفٔياةٔبػ]نب،يفر:سووم{نلمَيْعتَسوقوجَكفودِمثْىفلِايِو،
َش ْيءٌ
ىذا،
وعن
كيفية إدراؾ ما يدرؾ بو ،فهو عن إدراؾ غيره أعجز.
وغاية علم العلماء ،وإدراؾ عقوؿ الفضلاء ،أف يقطعوا بوجود
فاعل بؽذه ابؼصنوعات ،منزه عن الشبيو ،مقدس عن النظير،
متصف بصفات الكماؿ.
ثم مَّت ثبت النقل أخبرنا الصادقوف عنو بشيء من أوصافو وأبظائو
قبلناه واعتقدناه ،وما لد يتعّرضوا لو ،سكتنا عنو ،وتركنا ابػوض
فيو ،وىذه طريقة السلف ،وما سواىا َمَها ٍو وتَػلَف ،ويكفي في
289
الردع عن ابػوض في طرؽ ابؼتكلمين ،ما قد ورد في ذلك عن
الأئمة ابؼتقدمين ،فمن ذلك قوؿ عمر بن عبد العزيز ربضو ا﵁
تعالذ :من جعل دينو َغَر ًضا للخصومات ،أكثر الشغل ،والدين قد
فُرغ منو ،ليس بأمر يؤتكف على النظر فيو .وقاؿ مالك بن أنس
ربضو ا﵁ تعالذ :ليس ىذا ابعداؿ من الدين في شيء ،وقاؿ :كاف
يقاؿ :لا بُسَ ّْك ْن زائ َغ القلب من أُذُنك ،فإنك لا تدري ما يَعلق من
ذلك .وقاؿ الشافعي ربضو ا﵁ تعالذ :لأف يُبتلَى العبد بك ّل ما نهى
ا﵁ عنو ما عدا الشرؾ خير لو من أف ينظر في علم الكلاـ ،وإذا
بظعت من يقوؿ :الاسم ىو ابؼس ّمى ،أو غير ابؼس ّمى ،فاشهد أنو
من أىل الكلاـ ،ولا دين لو .قاؿ :وحكمي في أىل الكلاـ أف
يُضربُوا بابعريد ،ويُطاؼ ّٔم في العشائر والقبائل ،ويقاؿ :ىذا
جزاء من ترؾ الكتاب والسنّة ،وأخذ في الكلاـ .وقاؿ الإماـ أبضد
بن حنبل ربضو ا﵁ تعالذ :لا يُفلح صاحب الكلاـ أب ًدا ،علماء
الكلاـ زنادقة .وقاؿ ابن عقيل :قاؿ بعض أصحابنا :أنا أقطع أف
الصحابة -رضي ا﵁ عنهم -ماتوا وما عرفوا ابعوىر والعرض،
فإف ر ِضيت أف تكوف مثلهم فكن ،وإف رأيت طريقة ابؼتكلّمين
290
أولذ من طريقة أِب بكر وعمر ،فبئسما رأيتو .قاؿ :وقد أفضى ىذا
الكلاـ بأىلو إلذ الشكوؾ ،وبكثير منهم إلذ الإبغاد ،وببعضهم إلذ
التهاوف بوظائف العبادات ،وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص
الشارع ،وتطلبهم حقائق الأمور من غيره ،وليس في قوة العقل ما
يدرؾ ما في نصوص الشارع من ابغكم التي استأثر ّٔا ،ولو لد
يكن في ابعداؿ إلا أف النبّي -صلى ا﵁ عليو وسلم -قد أخبر
أنو الضلاؿ ،كما قاؿ فيما َخَّرَجوُ الترمذ ّي " :ما ض ّل قوـ بعد
ُى ًدى كانوا عليو إلا أوتوا ابْعََدؿ" ،وقاؿ :إنو صحيح ( حسن.
انظر" :صحيح ابعامع الصغير" ٕ.)ٜٛٗ /
قاؿ :وقد رجع كثير من أئمة ابؼتكلّمين عن الكلاـ ،بعد انقضاء
أعمار مديدة ،وآماد بعيدة ،لَّما لطف ا﵁ تعالذ ّٔم ،وأظهر بؽم
آياتو ،وباطن برىانو ،فمنهم :إماـ ابؼتكلّمين أبو ابؼعالر إماـ
ابغرمين ( ت ٗٚٛىػ) ،فقد َح َكى عنو الثقات أنو قاؿ :لقد
خلّيت أىل الإسلاـ وعلومهم ،وركبت البحر الأعظم ،وُغصت
في كل شيء ،نػََهى عنو أىل العلم رغبةً في طلب ابغق ،وىربًا من
291
التقليد ،والآف فقد رجعت عن الك ّل إلذ كلمة ابغ ّق ،عليكم بدين
العجائز ،وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ،والويل
لابن ابْعَُويِّن.
وفي رواية عنو أنو قاؿ عند موتو :لقد ُخض ُت البحر ابػِ َض ّم،
وخلّي ُت أىل الإسلاـ وعلومهم ،ودخل ُت فيما نػََهْوني عنو ،والآف
إف لد يتداركِن رِب بربضتو فالوليل لابن ابعويِّن ،وىا أنا ذا أموت
على عقيدة أمي ،أو قاؿ :عقيدة عجائز نيسابور.
وقاؿ لأصحابو عند موتو :يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلاـ ،فلو
عرفت أنو يبلغ ِب ما بلغ ُت ،ما تشاغلت بو ( راجع " :بؾموع
الفتاوى" ٗ.).ٖٚ /
وقاؿ أبضد بن سناف :كاف الوليد بن أباف الكرابيس ّي خالر ،فلما
حضرتو الوفاة قاؿ لبنيو :تعلموف أح ًدا أعلم مِن؟ قالوا :لا ،قاؿ:
فتََتِّهموني؟ قالوا :ا ،قاؿ :فإني أوصيكم ،أفتقبلوف؟ قالوا :نعم ،قاؿ:
عليكم بدا عليو أصحاب ابغديث ،فإني رأيت ابغ ّق معهم.
292
وىذا أبو حامد الغزالرّ مع فَػْرط ذكائو وتأبّؽو ،ومعرفتو بالكلاـ
والفلسفة ،و ُسلوكو طريق الزىد والرياضة والتصّوؼ ،ينتهي في ىذه
ابؼسائل إلذ الَوقْف وابْغَْيرة ،وبُويل في آخر أمره على طريقة أىل
الكشف ،وإف كاف بعد ذلك رجع إلذ طريقة أىل ابغديث،
وصنّف "إبعاـ العواّـ عن علم الكلاـ") بؾموع الفتاوى" ٗ(ٕٚ /
لقد تأمل ُت الطرؽ الكلاميّة ،وابؼناىج الفلسفيّة ،فما رأيتها تَ ْشِفي
َعلِيلًا ،ولا تْروي َغليلًا ،ورأي ُت أقرب الطرؽ طريقة القرآف ،اقرأ في
الٓ٘{إَ]ثؤَلب،اا]،وبُتِووايقق{إِطُرأولَليْووِوفَفييَعباِلزِوْصنَعفوُِعديجلْ اًمقللْا:وَلك}لوُِ{:ما[لَاّرل{طبْلَوَضْيَطّْيُّ:نَسُبَٓعلَََكٔوالِْىمٔثَْعلِا]َلمِْوَ،عُلْرَشاوِلشْي َ{ءّصٌااَلِْى}ستَػُْلحَ[واليػَتَػىْرْعفشَػلَ(عُوُمروُ٘)ىل}َ:وُ}[فبٔ[اَِظِئّططاو]ر}:،:
[مرًن ،]ٙ٘ :ثم قاؿ :وَم ْن جّرب مثل بذربتي َعَرؼ مثل معرفتي.
قاؿ الإماـ ابن القيّم ربضو ا﵁ُ بعد نقل كلاـ الراز ّي ىذا ما ن ّصو:
فليتأّمل اللبيب ما في كلاـ ىذا الفاضل من الْعِبَر ،فإنو لد يأت في
ابؼتأ ّخرين من ح ّصل من العلوـ العقليّة ما ح ّصلو ،ووقف على نهاية
293
أقداـ العقلاء ،وغايات مباحث الفضلاء ،وضرب بعضها ببعض،
وبَـَ َضها أش ّد الْ َم ْخض ،فما رآىا تشفي علّة داء ابعهالة ،ولا تروي
غُلّة ظمإ الشوؽ والطلب ،وأنها لد بَرُ ّل عنو عُْقدة واحدة من ىذه
الُعَقد الثلاث التي عقدىا أرباب ابؼعقولات على قافية القلب ،فلم
يستيقظ بؼعرفة ذات ا﵁ ولا صفاتو ولا أفعالو ،وصدؽ وا﵁ ،فإنو
شا ّؾ في ذات ر ّب العابؼين ىل لو ماىيّة غير الوجود ابؼطلق بىت ّص
عقدتها، نِولَدس تٌنب إح ّلضافليّوة الواجب؟ ومات ماىيّتو نفس وجوده ّٔا أـ
عدميّة؟ أمور وجوديّة ،أـ في صفاتو ،ىل ىي وشا ّؾ
ومات ولد تنح ّل لو عقدتها ،وشا ّؾ في أفعالو ،ىل ىي مقارنة لو
أزلًا وأب ًدا لد تزؿ معو أـ الفعل متأ ّخر عنو تأ ّخًرا لا نهاية لأمده،
فصار فاعلًا بعد أف لد يكن فاعلًا؟ ومات ولد تنح ّل لو عقدتها،
فننظر في كتبو الكلاميّة قوؿ ابؼتكلّمين ،وفي كتبو الفلسفيّة قوؿ
الفلاسفة ،وفي كتبو التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقواؿ
ىؤلاء ّٔؤلاء ،وىؤلاء ّٔؤلاء ،وبهلس بينهم حائًرا ،لا إلذ ىؤلاء ولا
إلذ ىؤلاء.
294
وكذلك أفضل أىل زمانو ابن أِب ابغديد .89فإنو مع بحثو ونظره
وتص ّديو للرّد على الراز ّي حَّت يقوؿ في قصيدة لو [من الطويل]:
َو َحّْق َك لَْو أَْد َخْلتَِن الَنّاَر قػُْل ُت لِْلػ ...لَ ِذي َن َِّٔا قَْد ُكنْ ُت ِبَفّ ْن أُِحُبّوُ
َوأَفْػنَػيْ ُت ُع ْمِري ِفي فػُنُوٍف َدقِيَقٍة َ ...وَما بػُغْيَِتي إَِّلا ِر َضاهُ َوقػُْربُوُ
أََما قػُلْتُ ُم َم ْن َكا َف فِينَا بُؾَا ِى ًدا َ ...سيُ ْكَرُـ َمثْػَواهُ َويػَْع ُذ ُب ُشْربُوُ
أََما َرَّد َش َّك ابْ ِن ابْػَ ِطي ِب َوَزيْػَفوُ َ ...وبَسِْويَهوُ ِفي الّْدي ِن إِْذ َح َّل َخطْبُوُ
يعترؼ بأف ابؼعقولات لد تُعطو إلا َحْيرًة ،وأنو لد يَ ِصل منها إلذ
يقين ،ولا علم حيث يقوؿ [من ابؼديد]:
فِي َك يَا أُ ْغلُوطَةَ الِْف َكِر َ ...ضاعَ َد ْىِري َوانْػَق َضى عُ ُمِري
َسافَػَر ْت فِي َك الْعُُقوُؿ فََما َ ...ربحَ ْت إَِّلا أَذَى ال َّسَفِر
( 89ىو عبد ابغميد بن ىبة ا﵁ بن بؿمد بن بؿمد بن ابغسين ابؼدائِّن ،أبو حامد ابؼعروؼ بابن أِب ابغديدُ ،ولد
سنة ( ٘ٛٙىػ) في ابؼدائن ،وىو من غلاة الشيعة ،وأعياف ابؼعتزلة ،كاتب شاعر ،لو كتب ،منها" :شرح نهج
البلاغة" ،و"السبع العلويات" ،و"شرح الآيات البينات" للفخر الراز ّي ،توفي ببغداد سنة ( ٙ٘ٙىػ) .راجع "البداية
والنهاية" ٖٔ ،ٜٔٓ /و"فوات الوفيات" ٔ ،ٕ٘ٓ - ٕٗٛ /و"الأعلاـ" ٖ).ٕٜٛ /
295
قَاتَ َل ا﵁ُ الأُولَذ َزَع ُموا ...أََنّ َك الْ َمْعُرو ُؼ بِالَنّظَِر
َك َذبُوا إِ َّف اَلّ ِذي ذََكُروا َ ...خا ِرٌج َع ْن قػَُّوِة الْبَ َشِر
وقاؿ بعض الطالبين من ابؼتأ ّخرين ،وقد سافر في طلب ربو على
ىذه الطريق فلم يزدد إلا حيرًة وبػُْع ًدا من مطلبو حَّت قيّض ا﵁ لو
من أخذ بيده ،وسلك بو على الطريق التي سلك عليها الرسل
وأتباعهم ،فجعل يػَْهتِف بصوتو لأصحابو ىل ّموا فهذه وا﵁ الطريق،
وىذه أعلاـ مكة وابؼدينة ،وىذه آثار القوـ لد تنسخها الرياح ،ولد
تُزبؽا الأىوية ،ثم قاؿ [من الطويل]:
َوُكنْ ُت َو َص ْحِبي ِفي ظَلَاِـ ِم َن الُّد َجى ...نَ ِسيرُ َعلَى َغْيِر ال َطِّريِق َوَلا
نَْد ِري
َوُكَنّا َحيَاَرى ِفي الِْقَفا ِر َولَدْ يَ ُك ْن َ ...دلِي ٌل لَنَا نػَْرُجوا ابْػَلَا َص ِم َن
ال َق ْف ِر
ِظ َماءُ إِلَذ ِوْرٍد يػَبُ ُّل َغلِيلَنَا َ ...وقَْد قَطَ َع الأ ْعنَا َؽ ِمَنّا لَظَى ابْغَّْر
296
فََما ُىَو إَِّلا أَ ْف تَػبََّدى لِنَا ِظِري َ ...سنَا بَا ِرٍؽ يػَْب ُدو َك َخيْ ٍط ِم َن
الَْف ْجِر
ال َّسَرا ُب ذَا َؾ اَتّئِ ْد فَػَقالُوا ... أََرى اَلّ ِذي تَػَرْو َف َى ْل فَػُقلْ ُت لِص ْحِبي
اَلّ ِذي بَْهِري
فَ َخَلّْفتُػُه ْم َخلِْفي َوأَقْػبَػلْ ُت بَكَْوهُ ...فَأَْوَرَدِني َعْيَن ابْغَيَاةِ لََدى الْبَ ْحِر
فَػنَاَديْ ُت أَ ْص َحاِب فََما بَِظُعوا الْنَّدا َ ...ولَْو بَِظُعوهُ َما ا ْستَ َجابُوا إِلَذ
ابْغَ ْشِر
فهذا اعتراؼ ىؤلاء الفضلاء في آخر سيرىم بدا أفادتهم الأدلّة
العقليّة من ض ّد اليقين ،ومن ابغيرة وال ّش ّك ،فمن الذي شكا من
القرآف والسنّة ،والأدلّة اللفظيّة ىذه الشكاية؟ ومن الذي ذكر أنها
حيّرتو ولد تهده؟ أو ليس ّٔا َى َدى ا﵁ أنبياءه ورسلو وِخيرَة خلقو؟
قاؿ تعالذ لأكمل خلقو وأوفرىم عقلًا{ :قُ ْل إِ ْف َضلَْل ُت فَِإَبّمَا أَ ِض ُّل
َعلَى نػَْف ِسي َوإِ ِف ا ْىتََديْ ُت فَبِ َما يُوِحي إِلََّر َرِّْب} الآية [سبأ.]٘ٓ :
297
فهذا أكمل ابػلق عقلًا صلوات ا﵁ وسلامو عليو بُىبر أف اىتداءه
بالأدلة اللفظيّة التي أوحاىا ا﵁ إليو ،وىؤلاء ابؼتهّوكوف ابؼتحيّروف
يقولوف :إنها لا تفيد يقينًا ولا عل ًما ،ولا ىدى ،وىذا موضع ابؼثَل
ابؼشهور" :رمتِن بدائها وانسلّت" .انتهى كلاـ ابن القيّم ربضو ا﵁
("الصواعق ابؼرسلة" ٔ،).ٔٚٓ - ٔٙ٘ /
وىو شا ٍؼ كا ٍؼ بؼن أراد ابؽدى والرشاد ،وا﵁ تعالذ ابؽادي إلذ
سواء السبيل.
وقاؿ القرطبي ربضو ا﵁ :ولو لد يكن في الكلاـ شيء يُذُّـ بو إلا
مسألتاف ،بنا من مبادئو ،لكاف حقيًقا بالذّـ ،وجديًرا بالذكر:
[إحدابنا] :قوؿ طائفة منهم :إف أوؿ الواجبات الشك في ا﵁
تعالذ؛ إذ ىو اللازـ عن وجوب النظر ،أو القصد إلذ النظر ،وإليو
أشار الإماـ بقولو :ركبت البحر.
[والثانية] :قوؿ بصاعة منهم إ ّف من لد يعرؼ ا﵁ تعالذ بالطرؽ التي
طّرقوىا ،والأبحاث التي حّرروىا ،فلا يصح إبيانو ،وىو كافر،
فيلزمهم على ىذا تكفير أكثر ابؼسلمين ،من السلف ابؼاضين،
298
وأئمة ابؼسلمين ،وأف من يبدأ بتكفيره أبيو وأسلافو ،حَّت لقد أُورد
على بعضهم أف ىذا يلزـ منو تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك،
فقاؿ :لا تُ َشْنّع علي بكثرة أىل النار .قاؿ :وقد َرّد بعض من لد
يقل ّٔاتين ابؼسألتين من ابؼتكلّمين على من قاؿ ّٔما ،بطريق من
النظر والاستدلاؿ؛ بناء منهم على أف ىاتين ابؼسألتين نظريّتاف،
وىذا خطأ فاح ٌش ،فالك ّل بُىَ ْطّئوف :الطائفة الأولذ بأصل القوؿ
بابؼسألتين ،والثانية بتسليم أف فسادىا ليس بضرور ّي ،ومن ش ّك
في تكفير من قاؿ :إف الش ّك في ا﵁ تعالذ واجب ،وأف معظم
الصحابة وابؼسلمين كّفار ،فهو كافر شرًعا ،أو بُـت ّل العقل وضًعا،
إذ ك ّل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة ابغاصلة
بالأخبار ابؼتواترة القطعيّة ،وإف لد يكن كذلك ،فلا ضرور ّي يُصار
إليو في الشرعيّات ،ولا العقليّات ،عصمنا ا﵁ تعالذ من بَِدع
ابؼبتدعين ،وسلك بنا طُرؽ السلف ابؼاضين.
وإبما طّولت في ىذه ابؼسألة الأنفاس بؼا قد شاعَ من ىذه البدع في
الناس ،ولأنو قد اغترّ كثير من ابعهاؿ بزخرؼ تلك الأقواؿ ،وقد
299
بذلت ما وجب عل ّي من النصيحة ،وا﵁ تعالذ يتولّذ إصلاح
القلوب ابعربوة .انتهى كلاـ القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ ،وىو بح ٌث
نفي ٌس ،وبرقي ٌق أني ٌس ("ابؼفهم" ،ٜٙٗ - ٜٙٓ /ٙببعض تغيير
من "الفتح"90.).
90البحر ا﵀يط ٔٔٗٗ-ٖٔٗ/
300