The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.
Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by thoriqul, 2022-07-09 05:11:43

syarah hadits Jibril

syarah hadits Jibril

‫(‪ )51‬دليل صدؽ النبي صلى ا﵁ عليو وسلم في قولو " أوتيت‬
‫جوامع الكلم " فإف ىذا ابغديث على وجازتو اشتمل على فوائد‬

‫كثيرة ‪ ،‬وعوائد وفيرة ‪ ،‬حَّت اعتبر أصلا لعلوـ الشريعة ‪.‬‬
‫قاؿ القرطبي ‪ :‬ىذا ابغديث يصلح أف يقاؿ لو أـ السنة ‪ ,‬بؼا‬

‫تضمنو من بصل علم السنة ‪.‬‬
‫وقاؿ الطيبي ‪ :‬بؽذه النكتة استفتح بو البغوي كتابيو " ابؼصابيح "‬
‫و " شرح السنة " اقتداء بالقرآف في افتتاحو بالفابرة ‪ ,‬لأنها‬

‫تضمنت علوـ القرآف إبصالا ‪.‬‬
‫وقاؿ القاضي عياض ‪ :‬اشتمل ىذا ابغديث على بصيع وظائف‬
‫العبادات الظاىرة والباطنة من عقود الإبياف ابتداء وحالا ومآلا‬
‫ومن أعماؿ ابعوارح ‪ ,‬ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات‬

‫‪251‬‬

‫الأعماؿ ‪ ,‬حَّت إف علوـ الشريعة كلها راجعة إليو ومتشعبة منو‬
‫(إكماؿ ابؼعلم بفوائد مسلم ‪.)204/1‬‬

‫هسائل تتعلق تهزا الحذيج‬
‫الوسألة الأٍلى‪ :‬تكويل ها سثق هي هثاحج القذس‪.‬‬

‫قاؿ الإماـ النوو ّي ربضو ا﵁ تعالذ في " شرحو"‪ ( :‬واعلم)‪ :‬أف‬
‫مذىب أىل ابغ ّق إثبا َت القدر‪ ،‬ومعناه أف ا﵁ تبارؾ وتعالذ قَّدَر‬
‫الأشياء في الِق َدـ‪ ،‬وعلم سبحانو أنها ستقع في أوقات معلومة عنده‬
‫سبحانو وتعالذ‪ ،‬وعلى صفات بـصوصة‪ ،‬فهي تقع على حسب‬
‫ما قََّدَرىا سبحانو وتعالذ‪ ،‬وأنكرت القدرية ىذا‪ ،‬وزعمت أنو‬
‫سبحانو وتعالذ لد يػَُقّْدرىا‪ ،‬ولد يتقدـ علمو سبحانو وتعالذ ّٔا‪،‬‬
‫وأنها ُم ْستَأنَفةُ العلم‪ ،‬أي إبما يعلمها سبحانو وتعالذ بعد وقوعها‪،‬‬
‫وَك َذبُوا على ا﵁ نسبحانو وتعالذ وج ّل عن أقوابؽم الباطلة عُلُِّوا‬

‫كبيرًا‪ ،‬وبُْظّيت ىذه الفرقة قدرية‪ ،‬لإنكارىم القدر‪.‬‬

‫‪252‬‬

‫قاؿ أصحاب ابؼقالات من ابؼتكلمين‪ :‬وقد انقرضت القدرية‬
‫القائلوف ّٔذا القوؿ الشنيع الباطل‪ ،‬ولد يػَْب َق أحٌد من أىل القبلة‬
‫عليو‪ ،‬وصارت القدرية في الأزماف ابؼتأخرة تعتقد إثبات القدر‪،‬‬
‫ولكن يقولوف‪ :‬ابػير من ا﵁‪ ،‬والشر من غيره‪ ،‬تعالذ ا﵁ عن قوبؽم‪.‬‬

‫وقد َح َكى أبو بؿمد بن قتيبة في كتابو "غريب ابغديث"‪ ،‬وأبو‬
‫ابؼعالر‪ ،‬إماـ ابغرمين في كتابو "الإرشاد" في أصوؿ الدين أف بعض‬
‫القدرية قاؿ‪ :‬لسنا بقدرية‪ ،‬بل أنتم القدرية؛ لاعتقادكم إثبات‬
‫القدر‪ ،‬قاؿ ابن قتيبة‪ ،‬والإماـ‪ :‬ىذا بسويوٌ من ىؤلاء ابعهلة‪،‬‬
‫ومباىتة‪ ،‬وتواقُ ٌح‪ ،‬فإف أىل ابغق يػَُفّْوضوف أمورىم إلذ ا﵁ سبحانو‬
‫وتعالذ‪ ،‬ويُ ِضيفوف القدر والأفعاؿ إلذ ا﵁ سبحانو وتعالذ‪ ،‬وىؤلاء‬
‫ابعهلة يضيفونو إلذ أنفسهم‪ ،‬وُمَّد ِعي الشيء لنفسو ومضيفو إليها‬

‫أولذ بأف يُن َسب إليو‪ ،‬بفن يعتقده لغيره وينفو عن نفسو‪.‬‬
‫قاؿ الإماـ‪ :‬وقد قاؿ رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪:-‬‬
‫"القدرية بؾوس ىذه الأمة"‪َ ،‬شَبّػَههم ّٔم؛ لتقسيمهم ابػير والشر‬
‫في حكم الإرادة‪ ،‬كما قَ َّس َمت آّوس‪ ،‬فصرفت ابػير إلذ "يزداف"‪،‬‬

‫‪253‬‬

‫والشر إلذ "أىرمن"‪ ،‬ولا خفاء باختصاص ىذا ابغديث بالقدرية‪،‬‬
‫ىذا كلاـ الإماـ‪ ،‬وابن قتيبة‪.‬‬

‫وحديث‪ " :‬القدريةُ بؾو ُس ىذه الأمة"‪ ،‬رواه أبو حازـ‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر ‪ -‬رضي ا﵁ عنهما ‪ ، -‬عن رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو‬
‫وسلم ‪ ،-‬أخرجو أبو داود في "سننو"‪ ،‬وابغاكم‪ ،‬أبو عبد ا﵁ في‬
‫"ابؼستدرؾ على الصحيحين"‪ ،‬وقاؿ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‪،‬‬

‫إف ص ّح بظاع أِب حازـ‪ ،‬من ابن عمر‪.‬‬
‫قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو‪ :‬أبو حازـ لد يسمع من ابن عمر ‪-‬‬
‫رضي ا﵁ عنهما ‪ ،-‬قاؿ ولده ليحيى بن صالح‪ :‬من ح ّدثك أف أِب‬
‫بظع من أحد الصحابة‪ ،‬غير سهل بن سعد ‪ -‬رضي ا﵁ عنو ‪-‬‬

‫فقد كذب‪ ،‬قالو في "التهذيب" ("تهذيب التهذيب" ٕ‪.).ٚٔ /‬‬

‫وعليو فابغديث منقطع‪ ،‬لكن أخرجو الطبرانيّ في " الأوسط" من‬
‫طريق بضيد الطويل‪ ،‬عن أنس ‪ -‬رضي ا﵁ عنو ‪ -‬قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ‬
‫ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ " :-‬صنفاف من أمتي لا يرداف‬
‫ابغوض‪ ،‬ولا يدخلوف ابعنة‪ :‬القدريّة‪ ،‬وابؼرجئة"‪ ،‬وفي لفظ‪:‬‬

‫‪254‬‬

‫"القدريّة‪ ،‬وابؼرجئة بؾوس ىذه الأمة‪ ،‬فإف َمِر ُضوا فلا تعودوىم‪ ،‬وإف‬
‫ماتوا فلا تشهدوىم"‪.‬‬

‫وقد ح ّسنو الشيخ الألباني ربضو ا﵁ُ‪ ،‬وأحسن في ذلك‪ ،‬راجع‪:‬‬
‫"السلسلة الصحيحة" ‪ ٘ٙٗ - ٖ٘ٙ /ٙ‬رقم (‪.)ٕٚٗٛ‬‬

‫وابغاصل أف ابغديث صحيح لغيره‪ ،‬وا﵁ تعالذ أعلم‪.‬‬

‫قاؿ ابػطاِب ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬إبما جعلهم ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪-‬‬
‫بؾو ًسا بؼضاىاة مذىبهم مذىب آّوس في قوبؽم بالأصلين‪ :‬النوِر‬
‫والظلمة‪ ،‬يزعموف أف ابػير من فعل النور‪ ،‬والشّر من فعل الظلمة‪،‬‬
‫فصاروا ثػُنَِويّةً‪ ،‬وكذلك القدرية يُضيفوف ابػير إلذ ا﵁ تعالذ‪ ،‬والشّر‬
‫إلذ غيره‪ ،‬وا﵁ سبحانو وتعالذ خالق ابػير والشر بصيًعا‪ ،‬لا يكوف‬
‫شيء منهما إلا بدشيئتو‪ ،‬فهما مضافاف إليو سبحانو وتعالذ خلًقا‬

‫وإبهاًدا‪ ،‬وإلذ الفاعلين بؽما من عباده فعلًا واكتسابًا‪ .‬وا﵁ أعلم‪.‬‬
‫وقاؿ ابػطاِّب ربضو ا﵁ أي ًضا‪ :‬وقد بَوس َب كثير من الناس أف معنى‬
‫القضاء والقدر إجبار ا﵁ سبحانو وتعالذ العب َد وقهره على ما قدره‬
‫وقضاه‪ ،‬وليس الأمر كما يتوبنونو‪ ،‬وإبما معناه الإخبار عن تق ّدـ‬

‫‪255‬‬

‫علم ا﵁ سبحانو وتعالذ بدا يكوف من اكتساب العبد‪ ،‬وصدورىا‬
‫عن تقدير منو‪ ،‬وخلق بؽا‪ ،‬خيِرىا وشّرىا‪ ،‬قاؿ‪ :‬والقدر اسم لَِما‬
‫َص َدَر ُمَقَّدًرا عن فعل القادر‪ ،‬يقاؿ‪ :‬قََدر ُت الشيءَ‪ ،‬وقََّدرتو‬
‫بالتخفيف والتثقيل‪ ،‬بدعنى واحد‪ ،‬والقضاء في ىذا معناه ابػلق‪،‬‬
‫كقولو تعالذ‪ { :‬فَػَق َضا ُى َّن َسْب َع بَظَاَوا ٍت} [ فصلت‪ :]ٕٔ :‬أي‬

‫خلقه ّن‪.‬‬
‫قاؿ النوو ّي ربضو ا﵁‪ :‬وقد تظاىرت الأدلة القطعيات‪ ،‬من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وإبصاع الصحابة‪ ،‬وأىل ابْغَ ّْل والَْعْقد‪ ،‬من السلف وابػلف‬
‫على إثبات قدر ا﵁ سبحانو وتعالذ‪ ،‬وقد أكثر العلماء من‬
‫التصنيف فيو‪ ،‬ومن أحسن ابؼصنفات فيو وأكثرىا فوائد‪ ،‬كتا ُب‬
‫ابغافظ الفقيو أِب بكر البيهق ّي ربضو ا﵁ تعالذ‪ ،‬وقد قَػَّرر أئمتنا من‬
‫ابؼتكلمين ذلك أحسن تقرير‪ ،‬بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية‪،‬‬
‫وا﵁ أعلم‪ .‬انتهى (" شرح صحيح مسلم" للنوو ّي ٔ‪- ٔ٘ٗ /‬‬

‫٘٘ٔ‪.).‬‬

‫‪256‬‬

‫عن مالك ربضو ا﵁ أنو‬ ‫القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬وقد روي‬ ‫وقاؿ‬
‫سبق من أنو تعالذ َعلِ َم‬ ‫مذىب القدريّة بنحو ذلك (يعِن ما‬ ‫ف ّسر‬
‫مقادير الأشياء‪ ،‬وأحوابؽا‪ ،‬وأزمانها قبل إبهادىا‪ ،‬ثم أوجد منها ما‬

‫سبق في علمو أنو يوجد على بكو ما سبق في علمو‪ ،‬فلا بُؿْ َد َث في‬
‫العالد العلو ّي والسفل ّي إلا وىو صادر عن علمو تعالذ‪ ،‬وقدرتو‪،‬‬
‫وإرادتو‪ ،).‬وىذا ابؼذىب ىو الذي وقع لأىل البصرة‪ ،‬وىو الذي‬

‫أنكره ابن عمر ‪ -‬رضي ا﵁ عنهما ‪ ، -‬ولا ش ّك في تكفير من‬

‫يذىب إلذ ذلك‪ ،‬فإنو َج ْح ُد معلوـ من الشرع ضرورةً‪ ،‬ولذلك تبرّأ‬
‫منهم ابن عمر‪ ،‬وأفَّت بأنهم لا تُقبل منهم أعمابؽم‪ ،‬ولا نفقاتهم‪،‬‬
‫إَِّلا‬ ‫ِمنْػُه ْم‬
‫نػََفَقاتُػُه ْم‬ ‫َككَفمُراواقابِالؿَلّاِو﵁َوبِتَرعُسالولِذِو‪ }:‬ا{لَوآَمياة َم[نَػالَعتُهوبْمةأ‪ْ َ:‬فٗتُػْ٘قبَ]‪َ.‬ل‬ ‫وأنهم‬
‫أََنػُّه ْم‬

‫وىذا مذىب طائفة منهم تُس ّمى ال ُّسكبيّة ( ىذه الفرقة ىكذا‬
‫ذكرىا القرطبّي ّٔذا الاسم في "ابؼفهم" ٔ‪ ،ٖٕٔ /‬ولكن لد يذكرىا‬
‫أصحاب كتب النحل وابؼلل ّٔذا الاسم‪ ،‬ولا يُدرى من ىي؟ وا﵁‬

‫تعالذ أعلم‪ .‬راجع‪ :‬ىامش "ابؼفهم" ٔ‪،)ٖٕٔ /‬‬

‫‪257‬‬

‫وقد تُرؾ اليوـ‪ ،‬فلا يُعرؼ من يُنسب إليو من ابؼتأ ّخرين‪ ،‬من أىل‬
‫البدع ابؼشهورين‪.‬‬

‫والقدريّة اليوـ مطبقوف على أف ا﵁ تعالذ عالد بأفعاؿ العباد قبل‬
‫وقوعها‪ ،‬ومعنى القدر عند القائلين بو اليوـ أف أفعاؿ العباد مقدورةٌ‬
‫بؽم‪ ،‬وواقعة منهم على جهة الاستقلاؿ‪ ،‬وىو مع كونو مذىبًا‬
‫باطلًا أَخ ّف من ابؼذىب الأوؿ‪ ،‬وأما ابؼتأخروف منهم‪ ،‬فأنكروا‬
‫تعلق الإرادة بأفعاؿ العباد؛ فراًرا من تعلق القدًن با﵀دث‪ ،‬وىم‬
‫بـصوموف بدا قاؿ الشافعي‪ :‬إف َسَلّم القدر ُّي العل َم ُخ ِصم ‪ -‬يعِن‬
‫يقاؿ لو‪ :‬أبهوز أف يقع في الوجود خلاؼ ما تضمنو العلم ‪ ،-‬فإف‬
‫منع وافق قوؿ أىل السنة‪ ،‬وإف أجاز لزمو نسبة ابعهل لَِلّو‪ ،‬تعالذ‬

‫ا﵁ عن ذلك‪ .‬انتهى ( راجع‪ " :‬ابؼفهم" ٔ‪ ٖٖٔ - ٖٕٔ /‬مع‬

‫"الفتح" ٔ‪.).ٖٔٙ - ٕٔٙ /‬‬

‫وقاؿ القرطبّي أي ًضا‪ :‬والإبياف بالقدر‪ :‬ىو التصديق بدا تق ّدـ ذكره‪،‬‬
‫عل‪ٙ‬يو‪]ٜ‬ق‪،‬ولووقتولعاول‪:‬ذ‪ {:‬إَِنّ{اَوالَلُّكوَُّل َخلََشَقْيُكٍءْم ََخولََمْقانَاتَػهُْع بَِمَقلَُودٍَفر‬ ‫ىو ما دّؿ‬ ‫وحاصلو‬
‫[ الصافّات‪:‬‬ ‫(‪})ٜٙ‬‬

‫‪258‬‬

‫(‪[ })ٜٗ‬القمر‪ ،]ٜٗ :‬وقولو‪َ{ :‬وَما تَ َشاءُو َف إَِّلا أَ ْف يَ َشاءَ الَلّوُ}‬
‫[الإنساف‪ .]ٖٓ :‬وإبصاع السلف وابػلف على صدؽ قوؿ القائل‪:‬‬
‫ما شاء ا﵁ كاف‪ ،‬وما لد يشأ لد يكن‪ ،‬وقولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو‬

‫وسلم ‪" :-‬ك ّل شيء بقدر حَّت العجز والكيس"‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وقاؿ شيخ الإسلاـ ابن تيميّة ربضو ا﵁ تعالذ في " العقيدة‬
‫الواسطيّة"‪ :‬وتؤمن الفرقة الناجية من أىل السنة وابعماعة بالقدر‬
‫خيره وشّره‪ ،‬والإبياف بالقدر على درجتين‪ ،‬ك ّل درجة تتض ّمن‬

‫شيئين‪:‬‬

‫فالدرجة الأولذ بأف ا﵁ تعالذ عليم بابػلق‪ ،‬وىم عاملوف بعلمو‬
‫القدًن الذي ىو موصوؼ بو أزلًا وأب ًدا‪ ،‬وعلم بصيع أحوابؽم من‬
‫الطاعات‪ ،‬وابؼعاصي‪ ،‬والأرزاؽ‪ ،‬والآجاؿ‪ ،‬ثم كتب ا﵁ في اللوح‬
‫ا﵀فوظ مقادير ابػلق‪ ،‬فأوؿ ما خلق ا﵁ القلم‪ ،‬قاؿ لو‪ :‬اكتب‪،‬‬
‫قاؿ‪ :‬ما أكتب؟ قاؿ‪ :‬اكتب ما ىو كائن إلذ يوـ القيامة‪ ،‬فما‬
‫أصاب الإنساف لد يكن ليُخطئو‪ ،‬وما أخطأه لد يكن ليصيبو‪،‬‬
‫جّفت الأقلاـ‪ ،‬وطُويت الصحف‪ ،‬كما قاؿ تعالذ‪{ :‬أَلَدْ تَػْعلَ ْم أََّف‬

‫‪259‬‬

‫َعلَى‬ ‫ِفي كِتَا ٍب إِ َّف َذلِ َك‬ ‫َذلِ َك‬ ‫َما ِفي ال َّس َماِء َواْلأَْر ِض إِ َّف‬ ‫يػَيَْعِلَسيُمرٌ‬ ‫الَلّوَ‬
‫ِم ْن‬ ‫تعالذ‪َ { :‬ما أَ َصا َب‬ ‫وقاؿ‬ ‫(ٓ‪ [ })ٚ‬ابغج‪،]ٚٓ :‬‬ ‫الَلِّو‬
‫اْلأَْر ِض َوَلا ِفي أَنْػُف ِس ُك ْم إَِّلا ِفي كِتَا ٍب ِم ْن‬ ‫ُم ِصيبٍَة ِفي‬
‫قَػْب ِل أَ ْف نػَبْػَرأََىا‬ ‫َعلَى الَلِّو يَ ِسيرٌ ( ٕٕ)} [ ابغديد‪،]ٕٕ :‬‬ ‫إِ َّف ذَلِ َك‬
‫وىذا التقدير‬

‫التابع لعلمو سبحانو وتعالذ يكوف في مواضع بصلة وتفصيلًا‪ ،‬فقد‬

‫كتب في اللوح ا﵀فوظ ما شاء‪ ،‬وإذا خلق جسد ابعنين قبل نفخ‬

‫الروح فيو بعث إليو مل ًكا‪ ،‬فيؤمر بأربع كلمات‪ ،‬فيقاؿ لو‪ :‬اكتب‬

‫رزقو‪ ،‬وأجلو‪ ،‬وعملو‪ ،‬وشق ّي‪ ،‬أـ سعيد‪ ،‬وبكو ذلك‪ ،‬فهذا التقدير‬
‫قد كاف ينكره ُغلاة القدريّة قدبيًا‪ ،‬ومنكروه اليوـ قليل‪.‬‬

‫وأما الدرجة الثانية‪ :‬فهي مشيئة ا﵁ النافذة‪ ،‬وقدرتو الشاملة‪ ،‬وىو‬

‫الإبياف بأف ما شاء ا﵁ كاف‪ ،‬وما لد يشأ لد يكن‪ ،‬وأنو ما في‬

‫السموات‪ ،‬وما في الأرض من حركة ولا سكوف إلا بدشيئة ا﵁‬

‫سبحانو وتعالذ‪ ،‬لا يكوف في ملكو ما لا يُريد‪ ،‬وأنو سبحانو وتعالذ‬
‫على كل شيء قدير من ابؼوجودات‪ ،‬وابؼعدومات‪ ،‬فما من بـلوؽ‬

‫في الأرض ولا في السماء إلا ا﵁ خالقو سبحانو وتعالذ‪ ،‬لا خالق‬

‫‪260‬‬

‫غيره‪ ،‬ولا ر ّب سواه‪ ،‬ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعتو‪ ،‬وطاعة‬
‫رسلو‪ ،‬ونهاىم عن معصيتو‪ ،‬وىو سبحانو وتعالذ بو ّب ابؼتّقين‪،‬‬
‫وا﵀سنين‪ ،‬وابؼقسطين‪ ،‬ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصابغات‪،‬‬

‫ولا بُو ّب الكافرين‪ ،‬ولا يرضى عن القوـ الفاسقين‪ ،‬ولا يأمر‬
‫بالفحشاء‪ ،‬ولا يرضى لعباده الكفر‪ ،‬ولا بو ّب الفساد‪ ،‬والعباد‬
‫فاعلوف حقيقة‪ ،‬وا﵁ خالق أفعابؽم‪ ،‬والعبد ىو ابؼؤمن‪ ،‬والكافر‪،‬‬

‫والبرّ‪ ،‬والفاجر‪ ،‬وابؼصلّي‪ ،‬والصائم‪ ،‬وللعباد قدرة على أعمابؽم‪،‬‬
‫قاؿ تعالذ‪:‬‬ ‫أَخْفاليقَهْستَمِق‪،‬ي َموق(د‪َٛ‬رتهٕم)‪َ،‬وَمواإراتََدَتشَهاءمُ‪،‬و َف إِكَّلماا‬ ‫وا﵁‬ ‫وبؽم إرادة‪،‬‬
‫أَ ْف يَ َشاءَ الَلّوُ‬ ‫ِمنْ ُك ْم‬ ‫{لَِم ْن َشاءَ‬
‫َر ُّب الَْعالَِميَن (‪[ })ٕٜ‬التكوير‪.]ٕٜ - ٕٛ :‬‬

‫وىذه الدرجة من الق َدر يُ َك ّذب ّٔا عاّمة القدريّة الذين بظّاىم النبّي‬
‫‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬بؾوس ىذه الأمة‪ ،‬ويغلو فيها قوـ من‬

‫أىل الإثبات حَّت سلبوا العبد قدرتو‪ ،‬واختياره‪ ،‬وبىرجوف عن‬

‫أفعاؿ ا﵁‪ ،‬وأحكامو حكمها‪ ،‬ومصابغها‪ .‬انتهى كلاـ شيخ‬

‫‪261‬‬

‫الإسلاـ ربضو ا﵁ تعالذ‪ ،‬وىو نفي ٌس‪ .‬وا﵁ تعالذ أعلم بالصواب‪،‬‬
‫وإليو ابؼرجع وابؼآب‪87.‬‬

‫الوسألة الخاًية ‪:‬في اختلاف أهل العلن في حكن القذسّية‪ًٍ ،‬حَهن هي‬

‫أهل الأهَاء‪.‬‬

‫قد حّقق شيخ الإسلاـ ابن تيميّة ربضو ا﵁ تعالذ ىذا ابؼوضوع‬
‫برقيًقا بالغًا أحببت إيراده ىنا لكونو مستوعبًا شرح مذاىبهم‪،‬‬

‫وحكم أىل العلم في ك ّل طائفة منهم‪:‬‬
‫سئل ربضو ا﵁ُ عن قولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ " :-‬تفترؽ أمتي‬
‫ثلاثة وسبعين فرقة" ما الِفَرؽ؟ وما معتقد ك ّل فرقة من ىذه‬

‫الصنوؼ؟‬
‫فأجاب ربضو ا﵁ تعالذ‪:‬‬
‫ابغمد ﵁‪ ،‬ابغديث صحيح مشهور في السنن وابؼسانيد‪ ،‬كسنن‬
‫أِب داود‪ ،‬والترمذ ّي‪ ،‬والنسائ ّي‪ ،‬وغيرىم‪ ،‬ولفظو‪" :‬افترقت اليهود‬

‫‪87‬البحر ا﵀يط ٔ‪ٖٖٔ-ٕٔٛ/‬‬

‫‪262‬‬

‫على إحدى وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدًة‪ ،‬وافترقت‬
‫النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدةً‪،‬‬
‫وستفترؽ ىذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا‬
‫واحدة"‪ ،‬وفي لفظ‪" :‬على ثلاث وسبعين ملّةً"‪ ،‬وفي رواية‪ :‬قالوا‪ :‬يا‬
‫رسوؿ ا﵁ من الفرقة الناجية؟ قاؿ‪" :‬من كاف على مثل ما أنا عليو‬
‫اليوـ وأصحاِب"‪ ،‬وفي رواية قاؿ‪ " :‬ىي ابعماعة‪ ،‬يد ا﵁ على‬

‫ابعماعة"‪ٔ٘ٔ .‬‬

‫وبؽذا َو َص َف الفرقةَ الناجيةَ بأنها أىل السنّة وابعماعة‪ ،‬وىم‬
‫ابعمهور الأكبر‪ ،‬والسواد الأعظم‪.‬‬

‫وأما الِفَرُؽ الباقية‪ ،‬فإنهم أىل الشذوذ‪ ،‬والتفّرؽ‪ ،‬والبدع‪ ،‬والأىواء‪،‬‬
‫ولا تبلغ الفرقة من ىؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلًا عن أف‬
‫تكوف بقدرىا‪ ،‬بل قد تكوف الفرقة منها في غاية القلّة‪ ،‬وشعار ىذه‬
‫الِفَرؽ مفارقة الكتاب والسنّة والإبصاع‪ ،‬فمن قاؿ بالكتاب والسنة‬

‫والإبصاع كاف من أىل السنة وابعماعة‪.‬‬

‫‪263‬‬

‫وأما تعيين ىذه الِفَرؽ‪ ،‬فقد صنّف الناس فيهم مصنّفات‪،‬‬
‫وذكروىم في كتب ابؼقالات‪ ،‬لكن ابعزـ بأف ىذه الفرقة ابؼوصوفة‬

‫ىي إحدى الثنتين والسبعين لا ب ّد لو من دليل‪ ،‬فإف ا﵁ حّرـ القوؿ‬
‫بلا علم عموًما‪ ،‬وحّرـ القوؿ عليو بلا علم خصو ًصا‪ ،‬فقاؿ تعالذ‪:‬‬
‫َتُرَِّْْشبِرُكالْواَفَوباِاِلحَلِّوَشَماَمالَدْظَيػَُهنَػَّْرزْؿِمنْػبَِِوها ُسَولَْماطَابنًَاطَََونأَ ْفَواْتلَػِإُقثْموَلُواَوالْبَػَعغْلَ َيى‬ ‫َحَّرَـ‬ ‫إَِبّمَا‬ ‫{قُ ْل‬
‫َوأَ ْف‬ ‫ابْغَ ّْق‬ ‫بِغَْيِر‬
‫ااإِتَػَللنََّنُّلقّوُاِوولُلَُوسَاماُك َْعمُلَكلَالُوىاتَعَػْاعُِدبللََّفَّّلّواُمِوِوفُمَمَيفبِايا(لٌَْلناأَْٖ(رتَػْٖع‪ِ)ٛ‬لَضُم‪}ٙ‬وَحٔ[َفالَ)لاأ(لًإِاَبعّ‪ٜ‬مَراا‪ٙ‬طَْيّيبًَٔؼأْا)‪ُ:‬مَُر}وُكَلٖاْم[اٖلتَػَبب]تِّباِق‪،‬لُعرةُوّاوس‪:‬قاوِءُ‪ٛ‬خؿطت‪َُٙ‬واَعولْأاَفلِذتْح‪:-‬اَلشا‪ِّ{َٜ‬شءيَيْ‪ٙ‬اأَطََُٔيػّوأاَ]َهِْ‪،‬ففا‬
‫وقاؿ تعالذ‪َ { :‬وَلا تَػْق ُف َما لَْي َس لَ َك بِِو ِعْل ٌم} [الإسراء‪،]ٖٙ :‬‬
‫وأي ًضا فكثير من الناس بىبر عن ىذه الفرؽ بحكم الظ ّن وابؽوى‪،‬‬
‫فيجعل طائفتو‪ ،‬وابؼنتسبة إلذ متبوعو ابؼوالية لو ىم أىل السنّة‬

‫وابعماعة‪ ،‬وبهعل من خالفها أىل البدع‪ ،‬وىذا ضلاؿ مبين‪ ،‬فإف‬

‫أىل ابغ ّق والسنة لا يكوف متبوعهم إلا رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁‬
‫عليو وسلم ‪ -‬الذي لا ينطق عن ابؽوى‪{ ،‬إِ ْف ُىَو إَِّلا َو ْح ٌي يُو َحى‬

‫‪264‬‬

‫(ٗ)} [النجم‪ ،]ٗ :‬فهو الذي بهب تصديقو في كل ما أخبر‪،‬‬
‫وطاعتو في كل ما أمر‪ ،‬وليست ىذه ابؼنزلة لغيره من الأئمة‪ ،‬بل‬
‫كل أحد من الناس يؤخذ من قولو ويُترؾ إلا رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى‬
‫ا﵁ عليو وسلم ‪ ،-‬فمن جعل شخ ًصا من الأشخاص غير رسوؿ‬
‫ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬من أحبو ووافقو كاف من أىل السنة‬
‫وابعماعة‪ ،‬ومن خالفو كاف من أىل البدع والفرقة ‪ -‬كما يوجد‬
‫ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلاـ في الدين‪ ،‬وغير ذلك‬

‫‪ -‬كاف من أىل البدع والضلاؿ والتفّرؽ‪.‬‬
‫ؤّذا يتبّين أف أح ّق الناس بأف تكوف ىي الفرقة الناجية أىل‬
‫ابغديث والسنة الذين ليس بؽم متبوع يتعصبوف لو إلا رسوؿ ا﵁ ‪-‬‬
‫صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ ، -‬وىم أعلم الناس بأقوالو وأحوالو‪،‬‬
‫وأعظمهم بسييًزا بين صحيحها وسقيمها‪ ،‬وأئمتهم فقهاء فيها‪،‬‬
‫وأىل معرفة بدعانيها‪ ،‬واتباعها‪ ،‬تصديًقا‪ ،‬وعملًا‪ ،‬وحِبّا‪ ،‬وموالاة بؼن‬
‫والاىا‪ ،‬ومعاداةً بؼن عاداىا‪ ،‬الذين يرووف ابؼقالات آّملة إلذ ما‬
‫جاء بو من الكتاب وابغكمة‪ ،‬فلا ينصبوف مقالة وبهعلونها من‬

‫‪265‬‬

‫أصوؿ دينهم‪ ،‬وبُصَِل كلامهم إف لد تكن ثابتة فيما جاء بو الرسوؿ‬
‫‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ ،-‬بل بهعلوف ما بُعث بو الرسوؿ ‪-‬‬
‫صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬من الكتاب وابغكمة ىو الأصل الذي‬

‫يعتقدونو‪ ،‬ويعتمدوف عليو‪ ،‬وما تنازع فيو الناس من مسائل‬

‫الصفات والقدر والوعيد والأبظاء والأمر بابؼعروؼ والنهي عن‬

‫ابؼنكر وغير ذلك يرّدونو إلذ ا﵁ ورسولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪-‬‬
‫‪ ،‬ويُف ّسروف الألفاظ آّملة التي تنازع فيها أىل الفرؽ والاختلاؼ‪،‬‬
‫فما كاف معانيها موافًقا للكتاب والسنة أثبتوه‪ ،‬وما كاف بـالًفا‬

‫للكتاب والسنة أبطلوه‪ ،‬ولا يتبعوف الظ ّن‪ ،‬وما تَهَوى الأنفس‪ ،‬فإف‬
‫اتّباع الظ ّن جهل‪ ،‬واتّباع ىوى النفس بغير ىدى من ا﵁ ظلم‪،‬‬
‫وبصاعُ الشّر ابعهل والظلم‪ ،‬قاؿ ا﵁ تعالذ‪َ { :‬وبَضَلََها اْلِإنْ َسا ُف إَِنّوُ‬
‫َكا َف ظَلُوًما َجُهولًا} [ الأحزاب‪ ]ٕٚ :‬إلذ آخر السورة‪ ،‬وذكر‬
‫التوبة لعلمو سبحانو وتعالذ أنو لا ب ّد لكل إنساف من أف يكوف فيو‬

‫جهل وظلم‪ ،‬ثم يتوب ا﵁ على من يشاء‪ ،‬فلا يزاؿ العبد ابؼؤمن‬

‫دائ ًما يتبتن لو من ابغ ّق ما كاف جاىلًا بو‪ ،‬ويرجع عن عمل كاف‬
‫اَلّ ِذي َن‬ ‫َوِلُّر‬ ‫{ الَلّوُ‬ ‫تعالذ‪:‬‬ ‫قاؿ‬ ‫كما‬ ‫لنفسو‪،‬‬ ‫ظلمو‬ ‫وأدناه‬ ‫فيو‪،‬‬ ‫ظابؼًا‬

‫‪266‬‬

‫آَمنُوا بُىِْرُجُه ْم ِم َن ال ُظّلَُما ِت إِلَذ الُنّوِر} [ البقرة‪ ،]ٕ٘ٚ :‬وقاؿ‬
‫اتأَلنْػعَاُزظلّْلنلَُاذَمهُ‪:‬اإِلَِيْ{ت ُىَإكَِولَلِذتُاَلّْاخِذلُِرنَّجويِرالَينػُّ}نَاػّْز[َُسؿابِمغَعلََدنياىدل‪ُ:‬ظَّعلُْبَمِد‪ٜ‬اِه]‪ِ،‬تآيَإِاولَقذٍاتاؿلُنبّػَْيّػوتنَِرعاا}لٍذت[‪:‬إلِبيُرا{ْخىاِرليَرجم‪ُ:‬ك ْمكِٔتَا]ِم‪ٌَ.‬نب‬
‫وبفا ينبغي أي ًضا أف يُعرؼ أف الطوائف ابؼنتسبة إلذ متبوعين في‬
‫أصوؿ الدين والكلاـ على درجات‪ ،‬منهم من يكوف قد خالف‬
‫السنة في أصوؿ عظيمة‪ ،‬ومنهم من يكوف إبما خالف السنة في‬

‫أمور دقيقة‪.‬‬

‫ومن يكوف قد رّد على غيره من الطوائف الذين ىم أبعد عن‬
‫السنة منو فيكوف بؿموًدا فيما رّده من الباطل‪ ،‬وقالو من ابغ ّق‪،‬‬
‫لكن يكوف قد جاوز العدؿ في رّده بحيث جحد بعض ابغ ّق‪ ،‬وقاؿ‬
‫بعض الباطل‪ ،‬فيكوف قد رّد بدعةً كبيرة ببدعة أخ ّف منها‪ ،‬ورّد‬
‫باطلًا بباطل أخ ّف منو ‪ ،‬وىذه حاؿ أكثر أىل الكلاـ ابؼنتسبين‬
‫إلذ السنة وابعماعة‪ ،‬ومثل ىؤلاء إذا لد بهعلوا ما ابتدعوه قولًا‬
‫يفارقوف بو بصاعة ابؼسلمين‪ ،‬يوالوف عليو‪ ،‬ويعادوف عليو كاف من‬

‫‪267‬‬

‫نوع ابػطأ‪ ،‬وا﵁ سبحانو وتعالذ يغفر للمؤمنين خطأىم في مثل‬
‫ذلك‪ ،‬وبؽذا وقع في مثل ىذا كثير من سلف الأمة وأئمتها‪ ،‬بؽم‬
‫مقالات قالوىا باجتهاد‪ ،‬وىي بزالف ما ثبت في الكتاب والسنّة‪،‬‬
‫بخلاؼ من والذ موافقو‪ ،‬وعادى بـالفو‪ ،‬وفّرؽ بين بصاعة‬
‫ابؼسلمين‪ ،‬وكّفر‪ ،‬وف ّسق بـالفو دوف موافقو في مسائل الآراء‬
‫والاجتهادات‪ ،‬واستح ّل قتاؿ بـالفو دوف موافقو‪ ،‬فهؤلاء من أىل‬

‫التفّرؽ والاختلاؼ‪.‬‬
‫وبؽذا كاف أوؿ من فارؽ بصاعة ابؼسلمين من أىل البدع ابػوارج‬
‫ابؼارقوف‪ ،‬وقد ص ّح ابغديث في ابػوارج عن النبّي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو‬
‫وسلم ‪ -‬من عشرة أوجو‪ ،‬خّرجها مسلم في " صحيحو"‪ ،‬وخّرج‬
‫البخار ّي منها غير وجو‪ ،‬وقد قاتلهم أصحاب النبّي ‪ -‬صلى ا﵁‬
‫عليو وسلم ‪ -‬مع أمير ابؼؤمنين عل ّي بن أِب طالب ‪ -‬رضي ا﵁ عنو‬
‫‪ ،-‬فلم بىتلفوا في قتابؽم كما اختلفوا في قتاؿ الفتنة يوـ ابعمل‬
‫وصّفين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناؼ‪ :‬صنف قاتلوا مع ىؤلاء‪،‬‬

‫‪268‬‬

‫وصنف قاتلوا مع ىؤلاء‪ ،‬وصنف أمسكوا عن القتاؿ وقعدوا‪،‬‬
‫وجاءت النصوص بترجيح ىذه ابغاؿ‪.‬‬

‫فابػوارج لَّما فأرقوا بصاعة ابؼسلمين‪ ،‬وكّفروىم‪ ،‬واستحلّوا قتابؽم‬
‫عليو وسلم‬ ‫ا﵁‬ ‫‪ -‬صلى‬ ‫‪-‬جا‪:‬ء" بتَواِقلرسنّأةحبدداكمجاءصفلياتهوم‪،‬معكقوصؿلاالتنهبمّي‪،‬‬
‫صيامهم‪،‬‬ ‫مع‬ ‫وصيامو‬

‫وقراءتو مع قراءتهم‪ ،‬يقرأوف القرآف لا بُهاوز حناجرىم‪ ،‬بَيُرقوف من‬
‫الإسلاـ كما بيرؽ السهم من الَّرِميّة‪ ،‬أينما لقيتموىم فاقتلوىم‪،‬‬

‫فإف في قتلهم أجًرا عند ا﵁ بؼن قتلهم يوـ القيامة"‪.‬‬

‫وقد كاف أوبؽم خرج على عهد رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم‬

‫‪ ،-‬فلما رأى قسمة النبي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬قاؿ‪ :‬يا بؿمد‬
‫اع ِدؿ‪ ،‬فإنك لد تعدؿ‪ ،‬فقاؿ لو النبي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪:-‬‬

‫"لقد خب ُت وخسر ُت إف لد أعدؿ"‪ ،‬فقاؿ لو بعض أصحابو‪ :‬دعِن‬
‫"إنو بىُرج من ِضئضئ‬ ‫يا رسوؿ ا﵁ أضرب عنق ىذا ابؼنافق‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫وصيامو مع صيامهم‪،‬‬ ‫ىذا أقواٌـ بَوِقر أحدكم صلاتو مع صلاتهم‪،‬‬

‫وقراءتو مع قراءتهم ‪ " ...‬ابغديث‪.‬‬

‫‪269‬‬

‫فكاف مبدأ البدع ىو الطعن في السنة بالظ ّن وابؽوى‪ ،‬كما طعن‬
‫إبليس في أمر ربو برأيو وىواه‪.‬‬

‫وأما تعيين الِفَرؽ ابؽالكة‪ ،‬فأقدـ من بلغنا أنو تكلّم في تضليلهم‬
‫يوسف بن أسباط‪ ،‬ثم عبد ا﵁ بن ابؼبارؾ‪ ،‬وبنا إماماف جليلاف من‬
‫أجلاء أئمة ابؼسلمين قالا‪ :‬أصوؿ البدع أربعة‪ :‬الروافض‪ ،‬وابػوارج‪،‬‬
‫والقدريّة‪ ،‬وابؼرجئة‪ ،‬فقيل لابن ابؼبارؾ‪ :‬وابعهميّة؟ فأجاب بأف‬
‫أولئك ليسوا من أمة بؿمد‪ ،‬وكاف يقوؿ‪ :‬إنا لنحكي كلاـ اليهود‬

‫والنصارى‪ ،‬ولا نستطيع أف بككي كلاـ ابعهميّة‪.‬‬
‫وىذا الذي قالو اتّبعو عليو طائفة من العلماء من أصحاب أبضد‬
‫وغيرىم‪ ،‬قالوا‪ :‬إف ابعهميّة كّفار‪ ،‬فلا يدخلوف في الاثنين والسبعين‬
‫فرقة‪ ،‬كما لا يدخل فيهم ابؼنافقوف الذين يُبطنوف الكفر‪ ،‬ويُظهروف‬

‫الإسلاـ‪ ،‬وىم الزنادقة‪.‬‬

‫وقاؿ آخروف من أصحاب أبضد وغيرىم‪ :‬بل ابعهميّة داخلوف في‬
‫الاثنين والسبعين فرقةً‪ ،‬وجعلوا أصوؿ البدٍع بطسةً‪ ،‬فعلى قوؿ‬

‫‪270‬‬

‫ىؤلاء يكوف ك ّل طائفة من ابؼبتدعة ابػمسة اثنا عشر فرقة‪ ،‬وعلى‬
‫قوؿ الأولين يكوف كل طائفة من ابؼبتدعة الأربعة بشانية عشر فرقة‪.‬‬

‫وىذا ينبِن على أصل آخر‪ ،‬وىو تكفير أىل البدع‪ ،‬فمن أخرج‬
‫ابعهميّة منهم لد يُكّفرىم‪ ،‬فإنو لا يكفر سائر أىل البدع‪ ،‬بل‬
‫بهعلهم من أىل الوعيد بدنزلة الف ّساؽ والعُصاة‪ ،‬وبهعل قولو‪" :‬ىم‬
‫في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب‪ ،‬مثل أكل ماؿ اليتيم‬
‫يَوأْغُكيلُرهو‪َ،‬ف ِكفيمابُقطُاونِؿهِتْمعانَالًذرا‪ }:‬ا{لإِآَّيفةاَلّ[ِاذلينَنسياَأْء‪ُ:‬كلُٓو َفٔ أ]َْم‪َ.‬وا َؿ الْيَتَاَمى ظُلْ ًما إَِبّمَا‬

‫ومن أدخلهم فيهم‪ ،‬فهم على قولين‪:‬‬
‫منهم من يكّفرىم كلهم‪ ،‬وىذا إبما قالو بعض ابؼتأخرين ابؼنتسبين‬
‫إلذ الأئمة أو ابؼتكلّمين‪ ،‬وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدـ‬
‫تكفير ابؼرجئة والشيعة ابؼف ّْضلَة‪ ،‬وبكو ذلك‪ ،‬ولد بزتلف نصوص‬
‫أبضد في أنو لا يكّفر ىؤلاء‪ ،‬وإف كاف من أصحابو من َح َكى في‬
‫تكفير بصيع أىل البدع من ىؤلاءوغيرىم خلافًا عنو‪ ،‬أو في مذىبو‬

‫‪271‬‬

‫حَّت أطلق بعضهم بزليد ىؤلاء وغيرىم‪ ،‬وىذا غلط على مذىبو‪،‬‬
‫وعلى الشريعة‪.‬‬

‫ومنهم من لد يكّفر أح ًدا من ىؤلاء إبغاقًا لأىل البدع بأىل‬
‫ابؼعاصي‪ ،‬قالوا‪ :‬فكما أف من أصوؿ أىل السنة وابعماعة أنهم لا‬
‫يكّفروف أح ًدا بذنب‪ ،‬فكذلك لا يكّفروف أح ًدا ببدعة‪ .‬وابؼأثور‬
‫عن السلف‪ ،‬والأئمة إطلاؽ أقواؿ بتكفير ابعهميّة ا﵀ضة الذين‬
‫يُنكروف الصفات‪ ،‬وحقيقة قوبؽم‪ :‬إف ا﵁ لا يتكلم‪ ،‬ولا يػَُرى‪ ،‬ولا‬
‫يباين ابػلق‪ ،‬ولا لو علم‪ ،‬ولا قدرة‪ ،‬ولا بظغ‪ ،‬ولا بصٌر‪ ،‬ولا حياةٌ‪،‬‬
‫بل القرآف بـلو ٌؽ‪ ،‬وأىل ابعنّة لا يرونو كما لا يراه أىل النار‪،‬‬

‫وأمثاؿ ىذه ابؼقالات‪.‬‬

‫وأما ابػوارج‪ ،‬والروافض‪ ،‬ففي تكفيرىم نزاعٌ وترّدد عن أبضد‬
‫وغيرىم‪.‬‬

‫وأما القدريّة الذين يَنُفوف الكتابة والعلم‪ ،‬فكّفروىم‪ ،‬ولد يكّفروا من‬
‫أثبت العلم‪ ،‬ولد يُثبت خلق الأفعاؿ‪.‬‬

‫وفصل ابػطاب في ىذا الباب بذكر أصلين‪:‬‬

‫‪272‬‬

‫[أحدبنا]‪ :‬أف يعلم أف الكافر في نفس الأمر من أىل الصلاة لا‬

‫يكوف إلا منافًقا‪ ،‬فإف ا﵁ منذ بعث بؿم ًدا ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم‬
‫‪ ،-‬وأنزؿ عليو القرآف‪ ،‬وىاجر إلذ ابؼدينة صار الناس ثلاثة‬

‫أصناؼ‪ :‬مؤمن بو‪ ،‬وكافٌر بو مظهر الكفر‪ ،‬ومناف ٌق مستخف‬
‫بالكفر‪ ،‬وبؽذا ذكر ا﵁ ىذه الأصناؼ الثلاثة في أوؿ سورة البقرة‪،‬‬

‫ذكر أربع آيات في نعت ابؼؤمنين‪ ،‬وآيتين في الكّفار‪ ،‬وبضع عشرة‬

‫آيةً في ابؼنافقين‪ ،‬وقد ذكر ا﵁ الكّفار وابؼنافقين في غير موضع من‬
‫{َجَاوَلِماُعتُالِْطُِمعنَاافِلِْقَكياَنفِِريَواَلنْ َكَاوافلِِْرُيمنََانفِِقِفييَن َ}جَهَن[ّاَملأبَحِصيزاًعاب}‪:‬‬
‫القرآف‪ ،‬كقولو تعالذ‪:‬‬
‫ٔ]‪ ،‬وقولو‪{ :‬إِ َّف الَلّوَ‬
‫[النساء‪ ،]ٔٗٓ :‬وقولو‪ { :‬فَالْيَػْوَـ لَا يػُْؤ َخ ُذ ِمْن ُك ْم فِ ْديَةٌ َوَلا ِم َن‬
‫اَلّ ِذي َن َكَفُروا} [ ابغديد‪ ،]ٔ٘ :‬وعطفهم على الكّفار ليميّزىم‬
‫عنهم بإظهار الإسلاـ‪ ،‬وإلا فهم في الباطن شّر من الكّفار‪ ،‬كما‬
‫ققَعاا٘لَؿؿٗى‪:‬تٔعقَ]ػا{ْب‪،‬قلُِرهِذْلو‪:‬كإَِأنَػّمنْا{ُهِفإُِقْقمَّافواؿاَكلْ‪:‬طََفُمُْونرَاًع{وافَِاوَِلقبأاَِياَْولنتَُلِّوِفََصكيْْرّلَوًىاَرلاََعُّسدللََْورلِْنِىِوؾ أَيػُ}اتَػْلَحَقأاََبٍّدلْسآَليَِفمةنْػِِملُْنه[ْمُِاكملتْمَنَموابإِاَنّةلَنَّ‪:‬تُاك ِرْأمَبَٗ}ًداُ‪ٛ‬كْن[]تُاَو‪،‬لَلْمنا قَػستوَػْكاوُقًءممْماا‪:‬‬
‫‪273‬‬

‫أََينػػُّنُْهِفُْقمو ََفكَفإُِرَّلواا‬ ‫إَِّلا‬ ‫نػََفَقاتُػُه ْم‬ ‫َمنَػَعُه ْم أَ ْف تػُْقبَ َل ِمْنػُه ْم‬ ‫بفَِاالَِلّسِوِقيََنوبَِر(ُسٖولِِ٘و) َوََلواَما‬
‫َوَلا‬ ‫ُك َسالَذ‬ ‫يَأْتُو َف ال َّصلَاَة إَِّلا َوُى ْم‬
‫َوُى ْم َكا ِرُىو َف (ٗ٘)} [التوبة‪.]٘ٗ - ٖ٘ :‬‬

‫وإذا كاف كذلك فأىل البدع فيهم ابؼنافق الزنديق فهذا كافر‪،‬‬

‫ويكثر ىذا في الروافض وابعهميّة‪ ،‬فإف رؤساءىم كانوا منافقين‬
‫زنادقة‪ ،‬وأوؿ من ابتدع الرفض كاف منافًقا‪ ،‬وكذلك التجّهم‪ ،‬فإف‬
‫أصلو زندقة ونفاؽ‪ ،‬وبؽذا كاف الزنادقة ابؼنافقوف من القرامطة‬

‫الباطنيّة ابؼتفلسفة‪ ،‬وأمثابؽم بييلوف إلذ الرافضة وابعهمية لقرّٔم‬
‫منهم‪.‬‬

‫ومن أىل البدع من يكوف فيو إبياف باطنًا وظاىًرا‪ ،‬لكن فيو جهل‬
‫وظلم حَّت أخطأ ما أخطأ من السنة‪ ،‬فهذا ليس بكافر ولا منافق‪،‬‬
‫ثم قد يكوف منو عدواف وظلم يكوف بو فاسًقا أو عاصيًا‪ ،‬وقد‬
‫يكوف بـطئًا متأوًلا مغفوًرا لو خطؤه‪ ،‬وقد يكوف مع ذلك معو من‬
‫الإبياف والتقوى ما يكوف معو من ولاية ا﵁ بقدر إبيانو وتقواه‪،‬‬

‫فهذا أحد الأصلين‪.‬‬

‫‪274‬‬

‫[والأصل الثاني]‪ :‬أف ابؼقالة تكوف كفًرا‪ ،‬كجحد وجوب الصلاة‬
‫والزكاة والصياـ وابغ ّج‪ ،‬وبرليل الزنا وابػمر وابؼيسر‪ ،‬ونكاح ذوات‬
‫ا﵀ارـ‪ ،‬ثم القائل ّٔا قد يكوف بحيث لد يبلغو ابػطاب‪ ،‬وكذا لا‬
‫يكفر بو جاحده‪ ،‬كمن ىو حديث عهد بالإسلاـ‪ ،‬أو نشأ ببادية‬
‫بعيدة لد تبلغو شرائع الإسلاـ‪ ،‬فهذا لا بُوكم بكفره‪ ،‬بجحد شيء‬
‫بفا أنزؿ على الرسوؿ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬إذا لد يعلم أنو‬

‫أُنزؿ على الرسوؿ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪.-‬‬

‫ومقالات ابعهميّة ىي من ىذا النوع‪ ،‬فإنها جحد بؼا ىو الر ّب‬
‫تعالذ عليو‪ ،‬وبؼا أنزؿ ا﵁ على رسولو‪ ،‬وتُغلّظ مقالاتهم من ثلاثة‬

‫أوجو‪:‬‬

‫[أحدبنا]‪ :‬أف النصوص ابؼخالفة لقوبؽم في الكتاب والسنّة‬
‫والإبصاع كثيرة جِّدا مشهورة‪ ،‬وإبما يرّدونها بالتحريف‪.‬‬

‫[الثاني]‪ :‬أف حقيقة قوبؽم تعطيل الصانع‪ ،‬وإف كاف منهم من لا‬
‫يَعلَم أف قوبؽم مستلزـ تعطيل الصانع‪ ،‬فكما أف أصل الإبياف‬

‫الإقرار با﵁‪ ،‬فأصل الكفر الإنكار ﵁‪.‬‬

‫‪275‬‬

‫[الثالث]‪ :‬أنهم بىالفوف ما اتّفقت عليو ابؼلل كلّها‪ ،‬وأىل الفطر‬
‫السليمة كلها‪ ،‬لكن مع ىذا قد بىفى كثير من مقالاتهم على‬
‫كثير من أىل الإبياف حَّت يظ ّن أف ابغ ّق معهم؛ بؼا يوردونو من‬
‫الشبهات‪ ،‬ويكوف أولئك ابؼؤمنوف مؤمنين با﵁ ورسولو باطنًا‬
‫وظاىًرا‪ ،‬وإبما التبس عليهم واشتبو ىذا كما التبس على غيرىم من‬
‫أصناؼ ابؼبتدعة‪ ،‬فهؤلاء ليسوا كّفاًرا قطًعا‪ ،‬بل قد يكوف منهم‬
‫الفاسق والعاصي‪ ،‬وقد يكوف منهم ابؼخطئ ابؼغفور لو‪ ،‬وقد يكوف‬
‫معو من الإبياف والتقوى ما يكوف معو بو من ولاية ا﵁ بقدر إبيانو‬

‫وتقواه‪.‬‬

‫وأصل قوؿ أىل السنة الذي فارقوا بو ابػوارج وابعهميّة وابؼعتزلة‬
‫وابؼرجئة أف الإبياف يتفاضل ويتبغض‪ ،‬كما قاؿ النبّي ‪ -‬صلى ا﵁‬
‫عليو وسلم ‪ " :-‬بىرج من النار من كاف في قلبو مثقاؿ ذّرة من‬

‫إبياف"‪ ،‬وحينئ ٍذ فتتفاضل ولاية ا﵁‪ ،‬وتتبّعض بحسب ذلك‪.‬‬
‫وإذا ُعرؼ أصل البدع‪ ،‬فأصل قوؿ ابػوارج أنهم يكّفروف بالذنب‪،‬‬
‫ويعتقدوف ذنبًا ما ليس بذنب‪ ،‬ويروف اتّباع الكتاب دوف السنّة التي‬

‫‪276‬‬

‫بزالف ظاىر الكتاب‪ ،‬وإف كانت متواترًة‪ ،‬ويكقروف من خالفهم‪،‬‬
‫ويستحلّوف منو لارتداده عندىم ما لا يستحلّونو من الكافر‬
‫الأصل ّي‪ ،‬كما قاؿ النبّي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬فيهم‪" :‬يقتلوف‬
‫أىل الإسلاـ‪ ،‬وي َدعُوف أىل الأوثاف"‪ ،‬وبؽذا كّفروا عثماف وعلِيّا‬
‫وشيعتهما‪ ،‬وكّفروا أىل صّفين الطائفتين في بكو ذلك من ابؼقالات‬

‫ابػبيثة‪.‬‬

‫وأصل قوؿ الرافضة أف النبّي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬ن ّص على‬
‫عل ّي ن ِّصا قاطًعا للعذر‪ ،‬وأنو إماـ معصوـ‪ ،‬ومن خالفو كفر‪ ،‬وأف‬
‫ابؼهاجرين والأنصار كتموا الن ّص‪ ،‬وكفروا با لإماـ ابؼعصوـ‪ ،‬واتّبعوا‬
‫أىواءىم‪ ،‬وب ّدلوا الدين‪ ،‬وغيّروا الشريعة‪ ،‬وظلموا‪ ،‬واعتدوا‪ ،‬بل‬
‫كفروا إلا نفًرا قليلًا‪ ،‬إما بضعو عشر‪ ،‬أو أكثر‪ ،‬ثم يقولوف‪ :‬إف أبا‬
‫بكر وعمر وبكوبنا ما زالا منافقين‪ ،‬وقد يقولوف‪ :‬بل آمنوا‪ ،‬ثم‬
‫كفروا‪ ،‬وأكثرىم يكّفر من خالف قوبؽم‪ ،‬ويُس ّموف أنفسهم‬
‫ابؼؤمنين‪ ،‬ومن خالفهم كّفاًرا‪ ،‬وبهعلوف مدائن الإسلاـ التي لا‬
‫تُظَهر فيها أقوابؽم دار ِرّدة أسوأ حالًا من مدائن ابؼشركين‬

‫‪277‬‬

‫والنصارى‪ ،‬وبؽذا يوالوف اليهود والنصارى وابؼشركين على بعض‬
‫بصهور ابؼسلمين‪ ،‬ومعاداتهم وبؿاربتهم‪ ،‬كما عُرؼ من موالاتهم‬
‫الكفار ابؼشركين على بصهور ابؼسلمين‪ ،‬ومن موالاتهم الإفرنج‬
‫النصارى على بصهور ابؼسلمين‪ ،‬ومن موالاتهم اليهود على بصهور‬

‫ابؼسلمين‪.‬‬

‫ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاؽ‪ ،‬كزندقة القرامطة الباطنة‬
‫وأمثابؽم‪ ،‬ولا ريب أنهم أبعد طوائف ابؼبتدعة عن الكتاب والسنّة‪،‬‬
‫وبؽذا كانوا ىم ابؼشهورين عند العامة بابؼخالفة للسنة‪ ،‬فجمهور‬
‫العامة لا تعرؼ ض ّد السِّن إلا الرافض ّي‪ ،‬فإذا قاؿ أحدىم‪ :‬أنا‬
‫سِّّن‪ ،‬فإبما معناه لست رافضيّا‪ ،‬ولا ريب أنهم شّر من ابػوارج‪،‬‬
‫لكن ابػوارج كاف بؽم في مبدئ الإسلاـ سيف على أىل ابعماعة‪،‬‬
‫وموالاتهم الكّفار أعظم من سيوؼ ابػوارج‪ ،‬فإف القرامطة‬
‫والإبظاعيليّة وبكوىم من أىل ا﵀اربة لأىل ابعماعة‪ ،‬وىم منتسبوف‬
‫إليهم‪ ،‬وأما ابػوارج فهم معروفوف بالصدؽ‪ ،‬والروافض معروفوف‬

‫بالكذب‪ ،‬وابػوارج َمَرقُوا من الإسلاـ‪ ،‬وىؤلاء نابذوا الإسلاـ‪.‬‬

‫‪278‬‬

‫وأما القدريّة ا﵀ضة‪ ،‬فهم خير من ىؤلاء بكثير‪ ،‬وأقرب إلذ الكتاب‬
‫والسنّة‪ ،‬لكن ابؼعتزلة وغيرىم من القدريّة ىم جهميّة أي ًضا‪ ،‬وقد‬
‫يكّفروف من خالفهم‪ ،‬ويستحلّوف دماء ابؼسلمين‪ ،‬فيقربوف من‬

‫أولئك‪.‬‬

‫وأما ابؼرجئة فليسوا من ىذه البدع ابؼغلّظة‪ ،‬بل قد دخل في قوبؽم‬
‫طوائف من أىل الفقو والعبادة‪ ،‬وما كانوا يػَُعُّدوف إلا من أىل‬

‫السنّة حَّت تغلظ أمرىم بدا زادوه من الأقواؿ ابؼغلّظة‪.‬‬
‫ولَّما كاف قد نُسب إلذ الإرجاء والتفضيل قوـ مشاىير مَتّبَعوف‬
‫تكلّم أئمة السنة ابؼشاىير في ذّـ ابؼرجئة ابؼف ّضلة تنفيًرا عن‬
‫مقالتهم‪ ،‬كقوؿ سفياف الثور ّي‪َ :‬من ق ّدـ علِيّا على أِب بكر‬
‫والشيخين فقد أزرى بابؼهاجرين والأنصار‪ ،‬وما أدري يصعد لو إلذ‬
‫ا﵁ عمل مع ذلك‪ ،‬وبكو ىذا القوؿ‪ ،‬قالو بؼا نُسب إلذ تقدًن عل ّي‬
‫بع ُض أئمة الكوفيين‪ ،‬وكذلك قوؿ أيوب السختيانيّ‪ :‬من ق ّدـ علِيّا‬
‫على عثماف فقد أزرى بابؼهاجرين والأنصار‪ ،‬قالو بؼا بلغو ذلك عن‬
‫بعض أئمة الكوفيين‪ ،‬وقد روي أنو رجع عن ذلك‪ ،‬وكذلك قوؿ‬

‫‪279‬‬

‫الثور ّي ومالك والشافع ّي وغيرىم في ذّـ ابؼرجئة بؼا نُسب إلذ‬
‫الإرجاء بعض ابؼشهورين‪.‬‬

‫وكلاـ الإماـ أبضد في ىذا الباب جا ٍر على كلاـ من تق ّدـ من‬

‫أئمة ابؽدى‪ ،‬ليس لو قوٌؿ ابتدعو‪ ،‬ولكن أظهر السنة وبيّنها‪ ،‬وذ ّب‬
‫عنها‪ ،‬وبّين حاؿ بـالفيها‪ ،‬وجاىد عليها‪ ،‬وصبر على الأذى فيها‬
‫قَواَكاؿنُواا﵁بِآتيَاعتِانَلاذ‪:‬يُوق{ِنَُووََجفَعلْ(نَاِٗمٕنْػ)ُه ْم}‬ ‫والبدع‪ ،‬وقد‬ ‫لَّما أُظهرت الأىواء‬
‫لََّما َصبَػُروا‬ ‫أَئَِّمةً يػَْه ُدو َف بِأَْمِرنَا‬
‫[السجدة‪ ،]ٕٗ :‬فالصبر واليقين ّٔما تناؿ الإمامة في الدين‪ ،‬فلما‬

‫قاـ بذلك قُرنت بابظو الإمامة في السنة ما ُشهر بو‪ ،‬وصار متبوًعا‬
‫بؼن بعده‪ ،‬كما كاف تابًعا بؼن قبلو‪.‬‬

‫وإلا فالسنّة ىي ما تلَّقاه الصحابة عن رسوؿ ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو‬
‫وسلم ‪ ،-‬وتلّقاه عنهم التابعوف ثم تابعوىم إلذ يوـ القيامة‪ ،‬وإف‬

‫كاف بعض الأئمة ّٔا أعلم‪ ،‬وعليها أصبر‪ .‬وا﵁ سبحانو وتعالذ‬

‫أعلم وأحكم‪ .‬انتهى كلاـ شيخ الإسلاـ ربضوُ ا﵁ُ (" بؾموع‬
‫الفتاوى" ٖ‪.)ٖ٘ٛ - ٖٗ٘ /‬‬

‫‪280‬‬

‫قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو‪ :‬كلاـ شيخ الإسلاـ ىذا برقيق‬
‫نفيس‪ ،‬وبحث أنيس‪ ،‬فتم ّسك بو‪ ،‬فإنك لا بذده بؾموًعا بؿّقًقا في‬
‫كلاـ غيره‪ .‬وا﵁ تعالذ أعلم بالصواب‪ ،‬وإليو ابؼرجع وابؼآب‪ ،‬وىو‬

‫حسبنا ونعم الوكيل‪88.‬‬

‫الوسألة الخالخة ‪:‬سد على الوعتضلة‪ٍ ،‬الوتكلّويي‬

‫أف ىذا ابغديث أص ٌل عظي ٌم‪ ،‬ودلي ٌل عمي ٌم‪ ،‬يقطع دابر أىل‬
‫الأىواء ابؼضلّة‪ ،‬وأرباب ال َّسَفو والّْذلّة من ابؼعتزلة‪ ،‬وابؼتكلّمين الذين‬
‫ىم أذناب الفلاسفة ابْعََهلَة‪ ،‬أرباب الغواية ال َّسَفلَة‪ ،‬الذين لا يروف‬
‫ابؼؤمن مؤمنًا إلا الذي آمن بالقواعد التي أ ّسسوىا‪ ،‬ود ّسوىا بين‬
‫أىل الإسلاـ‪ ،‬وأوبنوا أنها ابؼعنيّة بنصوص الكتاب والسنّة‪ ،‬وأف من‬
‫لد يسلك سبيلها فقد ض ّل ضلالًا بعي ًدا‪ ،‬وىذا زور ؤّتاف‪ ،‬وكذب‬
‫وافتراء على ا﵁ تعالذ وعلى رسولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ ،-‬وقد‬
‫قاـ ا﵀ّققوف من ابؼتق ّدمين وابؼتأخرين من أىل السنة بتفنيد آرائهم‬
‫الزائفة‪ ،‬ودحض ُح َج ِجِه ْم الكاسفة‪ ،‬وألقموىم ابغجر ابْعُْل ُمود‪،‬‬

‫‪88‬البحر ا﵀يط ٔ‪ٔٙٓ-ٔ٘ٔ/‬‬

‫‪281‬‬

‫ونػَبَػُزوىم بأنهم أىل الضلاؿ وابعحود‪ ،‬وأنا أذكر ‪ -‬بعوف ا﵁ تعالذ‬
‫‪ -‬خلاصة أقوابؽم‪ ،‬ولباب أَفْػَهاِمِه ْم التي دّؿ عليها الكتاب‬
‫وصحاح السنّة‪ ،‬وعرفها وحققها العقلاء‪ ،‬وإف جحدىا ونبذىا‬
‫ابعهلاء ‪ -‬اللهم اىدنا فيمن ىديت‪ ،‬وعافنا فيمن عافيت‪ ،‬وتولّنا‬

‫فيمن تولّيت‪ ،‬آمين ‪.-‬‬

‫قاؿ العلامة القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬مذىب السلف وأئمة الفتوى‬
‫من ابػلف‪ ،‬أف من ص ّدؽ ّٔذه الأمور تصديًقا جزًما‪ ،‬لا ريب فيو‬
‫ولا ترّدد‪ ،‬ولا توقّف‪ ،‬كاف مؤمنًا حقيقة‪ ،‬وسواء كاف ذلك عن‬
‫براىين ناصعة‪ ،‬أو عن اعتقادات جازمة‪ ،‬على ىذا انقرضت‬
‫الأعصار الكربية‪ ،‬ؤّذا صّرحت فتاوى أئمة ابؽدى ابؼستقيمة‪،‬‬
‫حَّت حدثت مذاىب ابؼعتزلة ابؼبتدعة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنو لا يص ّح الإبياف‬
‫الشرع ّي إلا بعد الإحاطة بالبراىين العقليّة وال َّس ْمعِيَة‪ ،‬وحصوؿ‬
‫العلم بنتائجها ومطالبها‪ ،‬ومن لد بو ُصل إبيانو كذلك فليس‬
‫بدؤمن‪ ،‬ولا بهزئ إبيانو بغير ذلك‪ ،‬وتبعهم على ذلك بصاعة من‬
‫متكلّمي أصحابنا‪ ،‬كالقاضي أِب بكر‪ ،‬وأِب إسحاؽ الإسفراييِّن‪،‬‬

‫‪282‬‬

‫وأِب ابؼعالر في أوؿ قوليو‪ ،‬والأوؿ ىو الصحيح؛ إذ ابؼطلوب من‬
‫ابؼكلّفين ما يقاؿ عليو‪ :‬إبياف‪ ،‬كقولو تعالذ‪{ :‬آِمنُوا بِالَلِّو َوَر ُسولِِو}‬
‫[النساء‪َ { ،]ٖٔٙ :‬وَم ْن لَدْ يػُْؤِم ْن بِالَلِّو َوَر ُسولِِو} [الفتح‪،]ٖٔ :‬‬
‫والإبياف ىو التصديق لغةً وشرًعا‪ ،‬فمن ص ّدؽ بذلك كلّو‪ ،‬ولد بهّوز‬
‫نقيض شيء من ذلك‪ ،‬فقد عمل بدقتضى ما أمره ا﵁ تعالذ بو‬

‫على بكو ما أمره ا﵁ تعالذ‪ ،‬ومن كاف كذلك‪ ،‬فقد تَػَف َّصى عن‬
‫عهدة ابػطاب؛ إذ قد عمل بدقتضى السنّة والكتاب؛ ولأف رسوؿ‬
‫ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬وأصحابو بعده حكموا بص ّحة إبياف‬
‫ك ّل من آمن وص ّدؽ بدا ذكرناه‪ ،‬ولد يفّرقوا بين من آمن عن برىاف‪،‬‬
‫أو غيره؛ ولأنهم لد يأمروا أجلاؼ العرب بترديد النظر‪ ،‬ولا سألوىم‬

‫عن أدلّة تصديقهم‪ ،‬ولا أرجأوا إبيانهم حَّت ينظروا‪ ،‬وبراشوا عن‬
‫إطلاؽ الكفر على أحد منهم‪ ،‬بل ب َظّوىم ابؼؤمنين‪ ،‬وابؼسلمين‪،‬‬

‫وأجروا عليهم أحكاـ الإبياف والإسلاـ؛ ولأف البراىين التي حّررىا‬
‫ابؼتكلّموف‪ ،‬ورتّبها ابعدليّوف‪ ،‬إبما أحدثها ابؼتأ ّخروف‪ ،‬ولد بَىُض في‬
‫شيء تلك الأساليب السلف ابؼاضوف‪ ،‬فمن ا﵀اؿ وابْؽََذيَاف أف‬
‫يُشترط في ص ّحة الإبياف ما لد يكن معروفًا ولا معمولًا بو لأىل‬

‫‪283‬‬

‫ذلك الزماف؟ وىم من ىم؟ فه ًما عن ا﵁ تعالذ‪ ،‬وأخ ًذا عن رسوؿ‬
‫ا﵁ ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ ، -‬وتبليغًا لشريعتو‪ ،‬وبيانًا لسنّتو‬
‫وطريقتو‪ .‬انتهى كلاـ القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ‪ ،‬وىو نفي ٌس جِّدا‬

‫("ابؼفهم" ٔ‪.).ٔٗٙ - ٔٗ٘ /‬‬
‫وقد ذكر ابغافظ ربضو ا﵁ تعالذ في " الفتح" عند شرح حديث‬
‫بػَْع ِث معاذ ‪ -‬رضي ا﵁ عنو ‪ -‬إلذ اليمن‪ ،‬فقاؿ عند قولو‪" :‬فليكن‬
‫أوؿ ما تدعوىم إلذ أف يو ّْحدوا ا﵁‪ ،‬فإذا عرفوا ذلك ‪" ...‬‬
‫ابغديث‪ ،‬ما ن ّصو‪ :‬وقد بسسك بو من قاؿ‪ :‬أوؿ واج ٍب ابؼعرفةُ‪،‬‬
‫كإماـ ابغرمين‪ ،‬واستََدّؿ بأنو لا يتأتى الإتياف بشيء من ابؼأمورات‬
‫على قصد الامتثاؿ‪ ،‬ولا الانكفاؼ عن شيء من ابؼنهيات على‬

‫قصد الانزجار‪ ،‬إلا بعد معرفة الآمر والناىي‪.‬‬
‫واعتُِرض عليو بأف ابؼعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلاؿ‪ ،‬وىو‬
‫مقدمة الواجب‪ ،‬فيجب‪ ،‬فيكوف أوؿ واج ٍب النظُر‪ ،‬وذىب إلذ‬

‫ىذا طائفة كابن فورؾ‪.‬‬

‫‪284‬‬

‫وتُػعُّقب بأف النظر ذو أجزاء‪ ،‬يترتب بع ًضا على بعض‪ ،‬فيكوف أوؿ‬
‫واجب جزأ من النظر‪ ،‬وىو بؿك ّي عن القاضي أِب بكر بن‬
‫الطيب‪ ،‬وعن الأستاذ أِب إسحاؽ الإسفراييِّن‪ :‬أوؿ واجب القصد‬
‫إلذ النظر‪ ،‬وبصع بعضهم بين ىذه الأقواؿ‪ ،‬بأف من قاؿ‪ :‬أوؿ‬
‫واجب ابؼعرفة‪ ،‬أراد طلبًا وتكليًفا‪ ،‬ومن قاؿ‪ :‬النظر‪ ،‬أو القصد أراد‬
‫امتثاًلا؛ لأنو يُ َسلّم أنو وسيلة إلذ برصيل ابؼعرفة‪ ،‬فيدؿ ذلك على‬

‫سبق وجوب ابؼعرفة‪.‬‬

‫قاؿ‪ :‬وقد ذكر ُت في " كتاب الإبياف" من أعرض عن ىذا من‬
‫أصلو‪ ،‬وبَسَ َّس َك بقولو تعالذ‪ { :‬فَأَقِ ْم َو ْجَه َك لِلّْدي ِن َحنِيًفا فِطَْر َت‬
‫الَلِّو اَلِّتي فَطََر الَنّا َس َعلَيْػَها} [الروـ‪ ،]ٖٓ :‬وحديث‪" :‬ك ُّل مولود‬
‫يولد على الفطرة ‪ ، " ...‬فإف ظاىر الآية وابغديث أف ابؼعرفة‬
‫حاصلة بأصل الفطرة‪ ،‬وأف ابػروج عن ذلك يطرأ على الشخص؛‬

‫لقولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪" :-‬فأبواه يػَُهّودانو‪ ،‬وينصرانو"‪.‬‬
‫وقد وافق أبو جعفر السمناني‪ ،‬وىو من رؤوس الأشاعرة على ىذا‪،‬‬
‫وقاؿ‪ :‬إف ىذه ابؼسألة بقيت في مقالة الأشعري‪ ،‬من مسائل‬

‫‪285‬‬

‫ابؼعتزلة‪ ،‬وتفرع عليها أف الواجب على كل أحد معرفة ا﵁ بالأدلة‬
‫الدالة عليو‪ ،‬وأنو لا يكفي التقليد في ذلك‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫قاؿ‪ :‬وقرأت في جزء من كلاـ شيخ شيخنا ابغافظ صلاح الدين‬
‫العلائي ما ملخصو‪ :‬إف ىذه ابؼسألة بفا تناقضت فيها ابؼذاىب‪،‬‬

‫وتباينت بين ُمَفّْرط‪ ،‬وُمْفِرط‪ ،‬ومتوسط‪:‬‬
‫فالطرؼ الأوؿ‪ :‬قوؿ من قاؿ‪ :‬يكفي التقليد ا﵀ض في إثبات‬
‫وجود ا﵁ تعالذ‪ ،‬ونفي الشريك عنو‪ ،‬وبفن نسب إليو إطلاؽ ذلك‬
‫عبيد ا﵁ بن ابغسن العنبري‪ ،‬وبصاعة من ابغنابلة‪ ،‬والظاىرية‪،‬‬
‫ومنهم من بالغ‪ ،‬فَ َحَّرـ النظر في الأدلة‪ ،‬واستند إلذ ما ثبت عن‬

‫الأئمة الكبار‪ ،‬من ذـ الكلاـ كما سيأتي بيانو‪.‬‬

‫قاؿ ابعامع عفا ا﵁ تعالذ عنو‪ :‬ىذا ابؼذىب ىو ابغ ّق الذي كاف‬
‫عليو السلف الصالح‪ ،‬كما سبق في كلاـ القرطبّي‪ ،‬ويأتي أي ًضا‪،‬‬
‫فليس فيو تفريط‪ ،‬كما يدّؿ عليو كلاـ العلائ ّي ىذا‪ ،‬فتب ّصر‬
‫بالإنصاؼ‪ ،‬ولا تتهّور بتقليد ذوي الاعتساؼ‪ ،‬ونسأؿ ا﵁ تعالذ‬

‫أف يهدينا إلذ سواء السبيل‪.‬‬

‫‪286‬‬

‫قاؿ‪ :‬والطرؼ الثاني‪ :‬قوؿ من وقَ َف صحة إبياف كل أحد على‬
‫معرفة الأدلة‪ ،‬من علم الكلاـ‪ ،‬ونُسب ذلك لأِب إسحاؽ‬
‫الإسفراييِّن‪ ،‬وقاؿ الغزالر‪ :‬أسرفت طائفة‪ ،‬ف َكَّفروا عواّـ ابؼسلمين‪،‬‬
‫وزعموا أف من لد يعرؼ العقائد الشرعية‪ ،‬بالأدلة التي حّرروىا‪ ،‬فهو‬
‫كافر‪ ،‬فضيّقوا ربضة ا﵁ الواسعة‪ ،‬وجعلوا ابعنة بـتصة بشرذمة يسيرة‬
‫من ابؼتكلمين‪ ،‬وذكر بكوه أبو ابؼظفر ابن السمعانيّ‪ ،‬وأطاؿ في الرد‬
‫على قائلو‪ ،‬ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا‪ :‬لا بهوز أف‬
‫تكلف العواّـ اعتقاد الأصوؿ بدلائلها؛ لأف في ذلك من ابؼشقة‬

‫أش ّد من ابؼشقة في تعلم الفروع الفقهية‪.‬‬

‫قاؿ‪ :‬وأما ابؼذىب ابؼتوسط‪ ،‬فذكره‪ ،‬وسأذكره ُملَ َّخ ًصا بعد ىذا‪.‬‬
‫وقاؿ القرطبي في "ابؼفهم" في شرح حديث‪" :‬أبغض الرجاؿ إلذ ا﵁‬
‫الألد ابػصم"‪ ،‬وىو في أوائل "كتاب العلم" من "صحيح مسلم"‪:‬‬
‫ىذا الشخص الذي يبغضو ا﵁‪ ،‬ىو الذي يقصد بخصومتو مدافعة‬
‫ابغق‪ ،‬ورده بالأوجو الفاسدة‪ ،‬وال ُّشبَو ابؼوبنة‪ ،‬وأشد ذلك ابػصومة‬
‫في أصوؿ الدين‪ ،‬كما يقع لأكثر ابؼتكلمين‪ ،‬ابؼعرضين عن الطرؽ‬

‫‪287‬‬

‫التي أرشد إليها كتاب ا﵁ وسنة رسولو ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪،-‬‬

‫وسلف أمتو‪ ،‬إلذ طرؽ مبتدعة‪ ،‬واصطلاحات بـترعة‪ ،‬وقوانين‬

‫جدلية‪ ،‬وأمور صناعية‪ ،‬مدار أكثرىا على آراء سوفسطائية‪ ،‬أو‬
‫مناقضات لفظية‪ ،‬ينشأ بسببها على الآخذ فيها ُشبَوٌ‪ ،‬ربدا يَع ِجز‬
‫عنها‪ ،‬وشكوؾ يذىب الإبياف معها‪ ،‬وأحسنهم انفصالًا عنها‬
‫أجدبؽم‪ ،‬لا أعلمهم‪ ،‬فكم من عالد بفساد الشبهة‪ ،‬لا يقوى على‬

‫حلها‪ ،‬وكم من منفصل عنها‪ ،‬لا يدرؾ حقيقة علمها‪ ،‬ثم إف‬

‫ىؤلاء ابؼتكلّمين قد ارتكبوا أنوا ًعا من ا﵀اؿ‪ ،‬لا يرتضيها الْبُػْلوُ ولا‬
‫الأطفاؿ‪ ،‬لََّما بحثوا عن بَرَُيّز ابعواىر‪ ،‬والأكواف‪ ،‬والأحواؿ‪ ،‬ثم إنهم‬
‫أخذوا يبحثوف فيما أمسك عنو السلف الصالح‪ ،‬ولد يوجد عنهم‬

‫بح ٌث واضح‪ ،‬وىو كيفية تعلقات صفات ا﵁ تعالذ‪ ،‬وتعديدىا‪،‬‬
‫وابرادىا في نفسها‪ ،‬وىل ىي الذات أو غيرىا؟ وفي الكلاـ‪ ،‬ىل‬

‫ىو متحد‪ ،‬أو منقسم؟ وعلى الثاني‪ ،‬ىل ينقسم بالنوع‪ ،‬أو‬

‫الوصف؟ وكيف تعلق في الأزؿ بابؼأمور‪ ،‬مع كونو حادثًا؟ ثم إذا‬
‫انعدـ ابؼأمور‪ ،‬فهل يبقى ذلك التعلق؟ وىل الأمر لزيد بالصلاة‬

‫مثلًا‪ ،‬ىو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلذ غير ذلك من الأبحاث‬

‫‪288‬‬

‫ابؼبتدعة‪ ،‬التي لد يأمر الشارع بالبحث عنها‪ ،‬وسكت عنها‬

‫الصحابة ‪ -‬رضي ا﵁ عنهم ‪ -‬ومن سلك سبيلهم‪ ،‬بل نهوا عن‬

‫ابػوض فيها؛ لعلمهم بأنو بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيتو‬

‫بالعقل‪ ،‬لكوف العقوؿ بؽا حد تقف عنده‪ ،‬وىو العجز عن‬

‫التكييف‪ ،‬لا يتع ّداه‪ ،‬ولا فرؽ بين البحث عن كيفية الذات‪،‬‬
‫فَوولكُىييَعوفليةمال اأَلنّسوِمصيإفُعاذا اتلْبَ‪،‬كاِصفويلرُذلُ}ح ِكج[ القباشؿوعرانلىع‪:‬ليكيمفٔياةٔبػ]نب‪،‬يفر‪:‬سووم{نلمَيْعتَسوقوجَكفودِمثْىفلِايِو‪،‬‬
‫َش ْيءٌ‬
‫ىذا‪،‬‬
‫وعن‬

‫كيفية إدراؾ ما يدرؾ بو‪ ،‬فهو عن إدراؾ غيره أعجز‪.‬‬

‫وغاية علم العلماء‪ ،‬وإدراؾ عقوؿ الفضلاء‪ ،‬أف يقطعوا بوجود‬
‫فاعل بؽذه ابؼصنوعات‪ ،‬منزه عن الشبيو‪ ،‬مقدس عن النظير‪،‬‬

‫متصف بصفات الكماؿ‪.‬‬

‫ثم مَّت ثبت النقل أخبرنا الصادقوف عنو بشيء من أوصافو وأبظائو‬
‫قبلناه واعتقدناه‪ ،‬وما لد يتعّرضوا لو‪ ،‬سكتنا عنو‪ ،‬وتركنا ابػوض‬
‫فيو‪ ،‬وىذه طريقة السلف‪ ،‬وما سواىا َمَها ٍو وتَػلَف‪ ،‬ويكفي في‬

‫‪289‬‬

‫الردع عن ابػوض في طرؽ ابؼتكلمين‪ ،‬ما قد ورد في ذلك عن‬

‫الأئمة ابؼتقدمين‪ ،‬فمن ذلك قوؿ عمر بن عبد العزيز ربضو ا﵁‬

‫تعالذ‪ :‬من جعل دينو َغَر ًضا للخصومات‪ ،‬أكثر الشغل‪ ،‬والدين قد‬
‫فُرغ منو‪ ،‬ليس بأمر يؤتكف على النظر فيو‪ .‬وقاؿ مالك بن أنس‬
‫ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬ليس ىذا ابعداؿ من الدين في شيء‪ ،‬وقاؿ‪ :‬كاف‬
‫يقاؿ‪ :‬لا بُسَ ّْك ْن زائ َغ القلب من أُذُنك‪ ،‬فإنك لا تدري ما يَعلق من‬
‫ذلك‪ .‬وقاؿ الشافعي ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬لأف يُبتلَى العبد بك ّل ما نهى‬
‫ا﵁ عنو ما عدا الشرؾ خير لو من أف ينظر في علم الكلاـ‪ ،‬وإذا‬

‫بظعت من يقوؿ‪ :‬الاسم ىو ابؼس ّمى‪ ،‬أو غير ابؼس ّمى‪ ،‬فاشهد أنو‬
‫من أىل الكلاـ‪ ،‬ولا دين لو‪ .‬قاؿ‪ :‬وحكمي في أىل الكلاـ أف‬

‫يُضربُوا بابعريد‪ ،‬ويُطاؼ ّٔم في العشائر والقبائل‪ ،‬ويقاؿ‪ :‬ىذا‬
‫جزاء من ترؾ الكتاب والسنّة‪ ،‬وأخذ في الكلاـ‪ .‬وقاؿ الإماـ أبضد‬
‫بن حنبل ربضو ا﵁ تعالذ‪ :‬لا يُفلح صاحب الكلاـ أب ًدا‪ ،‬علماء‬
‫الكلاـ زنادقة‪ .‬وقاؿ ابن عقيل‪ :‬قاؿ بعض أصحابنا‪ :‬أنا أقطع أف‬

‫الصحابة ‪ -‬رضي ا﵁ عنهم ‪ -‬ماتوا وما عرفوا ابعوىر والعرض‪،‬‬
‫فإف ر ِضيت أف تكوف مثلهم فكن‪ ،‬وإف رأيت طريقة ابؼتكلّمين‬

‫‪290‬‬

‫أولذ من طريقة أِب بكر وعمر‪ ،‬فبئسما رأيتو‪ .‬قاؿ‪ :‬وقد أفضى ىذا‬
‫الكلاـ بأىلو إلذ الشكوؾ‪ ،‬وبكثير منهم إلذ الإبغاد‪ ،‬وببعضهم إلذ‬
‫التهاوف بوظائف العبادات‪ ،‬وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص‬
‫الشارع‪ ،‬وتطلبهم حقائق الأمور من غيره‪ ،‬وليس في قوة العقل ما‬
‫يدرؾ ما في نصوص الشارع من ابغكم التي استأثر ّٔا‪ ،‬ولو لد‬
‫يكن في ابعداؿ إلا أف النبّي ‪ -‬صلى ا﵁ عليو وسلم ‪ -‬قد أخبر‬
‫أنو الضلاؿ‪ ،‬كما قاؿ فيما َخَّرَجوُ الترمذ ّي‪ " :‬ما ض ّل قوـ بعد‬
‫ُى ًدى كانوا عليو إلا أوتوا ابْعََدؿ"‪ ،‬وقاؿ‪ :‬إنو صحيح ( حسن‪.‬‬

‫انظر‪" :‬صحيح ابعامع الصغير" ٕ‪.)ٜٛٗ /‬‬

‫قاؿ‪ :‬وقد رجع كثير من أئمة ابؼتكلّمين عن الكلاـ‪ ،‬بعد انقضاء‬
‫أعمار مديدة‪ ،‬وآماد بعيدة‪ ،‬لَّما لطف ا﵁ تعالذ ّٔم‪ ،‬وأظهر بؽم‬
‫آياتو‪ ،‬وباطن برىانو‪ ،‬فمنهم‪ :‬إماـ ابؼتكلّمين أبو ابؼعالر إماـ‬
‫ابغرمين ( ت ‪ ٗٚٛ‬ىػ)‪ ،‬فقد َح َكى عنو الثقات أنو قاؿ‪ :‬لقد‬
‫خلّيت أىل الإسلاـ وعلومهم‪ ،‬وركبت البحر الأعظم‪ ،‬وُغصت‬
‫في كل شيء‪ ،‬نػََهى عنو أىل العلم رغبةً في طلب ابغق‪ ،‬وىربًا من‬

‫‪291‬‬

‫التقليد‪ ،‬والآف فقد رجعت عن الك ّل إلذ كلمة ابغ ّق‪ ،‬عليكم بدين‬
‫العجائز‪ ،‬وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص‪ ،‬والويل‬

‫لابن ابْعَُويِّن‪.‬‬
‫وفي رواية عنو أنو قاؿ عند موتو‪ :‬لقد ُخض ُت البحر ابػِ َض ّم‪،‬‬
‫وخلّي ُت أىل الإسلاـ وعلومهم‪ ،‬ودخل ُت فيما نػََهْوني عنو‪ ،‬والآف‬
‫إف لد يتداركِن رِب بربضتو فالوليل لابن ابعويِّن‪ ،‬وىا أنا ذا أموت‬

‫على عقيدة أمي‪ ،‬أو قاؿ‪ :‬عقيدة عجائز نيسابور‪.‬‬
‫وقاؿ لأصحابو عند موتو‪ :‬يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلاـ‪ ،‬فلو‬
‫عرفت أنو يبلغ ِب ما بلغ ُت‪ ،‬ما تشاغلت بو ( راجع‪ " :‬بؾموع‬

‫الفتاوى" ٗ‪.).ٖٚ /‬‬
‫وقاؿ أبضد بن سناف‪ :‬كاف الوليد بن أباف الكرابيس ّي خالر‪ ،‬فلما‬
‫حضرتو الوفاة قاؿ لبنيو‪ :‬تعلموف أح ًدا أعلم مِن؟ قالوا‪ :‬لا‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫فتََتِّهموني؟ قالوا‪ :‬ا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فإني أوصيكم‪ ،‬أفتقبلوف؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قاؿ‪:‬‬

‫عليكم بدا عليو أصحاب ابغديث‪ ،‬فإني رأيت ابغ ّق معهم‪.‬‬

‫‪292‬‬

‫وىذا أبو حامد الغزالرّ مع فَػْرط ذكائو وتأبّؽو‪ ،‬ومعرفتو بالكلاـ‬
‫والفلسفة‪ ،‬و ُسلوكو طريق الزىد والرياضة والتصّوؼ‪ ،‬ينتهي في ىذه‬
‫ابؼسائل إلذ الَوقْف وابْغَْيرة‪ ،‬وبُويل في آخر أمره على طريقة أىل‬
‫الكشف‪ ،‬وإف كاف بعد ذلك رجع إلذ طريقة أىل ابغديث‪،‬‬
‫وصنّف "إبعاـ العواّـ عن علم الكلاـ") بؾموع الفتاوى" ٗ‪(ٕٚ /‬‬
‫لقد تأمل ُت الطرؽ الكلاميّة‪ ،‬وابؼناىج الفلسفيّة‪ ،‬فما رأيتها تَ ْشِفي‬
‫َعلِيلًا‪ ،‬ولا تْروي َغليلًا‪ ،‬ورأي ُت أقرب الطرؽ طريقة القرآف‪ ،‬اقرأ في‬
‫الٓ٘{إَ]ثؤَلب‪،‬اا]‪،‬وبُتِووايقق{إِطُرأولَليْووِوفَفييَعباِلزِوْصنَعفوُِعديجلْ اًمقللْا‪:‬وَلك}لوِ‪ُ{:‬ما[لَاّرل{طبْلَوَضْيَطّْيّ‪ُ:‬نَسُبَٓعلَََكٔوالِْىمٔثَْعلِا]َلمِْو‪َ،‬عُلْرَشاوِلشْي َ{ءّصٌااَلِْى}ستَػُْلحَ[واليػَتَػىْرْعفشَػلَ(عُوُمروُ٘)ىل}َ‪:‬وُ}[فبٔ[اَِظِئّططاو]ر‪}:،:‬‬

‫[مرًن‪ ،]ٙ٘ :‬ثم قاؿ‪ :‬وَم ْن جّرب مثل بذربتي َعَرؼ مثل معرفتي‪.‬‬
‫قاؿ الإماـ ابن القيّم ربضو ا﵁ُ بعد نقل كلاـ الراز ّي ىذا ما ن ّصو‪:‬‬
‫فليتأّمل اللبيب ما في كلاـ ىذا الفاضل من الْعِبَر‪ ،‬فإنو لد يأت في‬
‫ابؼتأ ّخرين من ح ّصل من العلوـ العقليّة ما ح ّصلو‪ ،‬ووقف على نهاية‬

‫‪293‬‬

‫أقداـ العقلاء‪ ،‬وغايات مباحث الفضلاء‪ ،‬وضرب بعضها ببعض‪،‬‬

‫وبَـَ َضها أش ّد الْ َم ْخض‪ ،‬فما رآىا تشفي علّة داء ابعهالة‪ ،‬ولا تروي‬
‫غُلّة ظمإ الشوؽ والطلب‪ ،‬وأنها لد بَرُ ّل عنو عُْقدة واحدة من ىذه‬
‫الُعَقد الثلاث التي عقدىا أرباب ابؼعقولات على قافية القلب‪ ،‬فلم‬
‫يستيقظ بؼعرفة ذات ا﵁ ولا صفاتو ولا أفعالو‪ ،‬وصدؽ وا﵁‪ ،‬فإنو‬

‫شا ّؾ في ذات ر ّب العابؼين ىل لو ماىيّة غير الوجود ابؼطلق بىت ّص‬
‫عقدتها‪،‬‬ ‫نِولَدس تٌنب إح ّلضافليّوة‬ ‫الواجب؟ ومات‬ ‫ماىيّتو نفس وجوده‬ ‫ّٔا أـ‬
‫عدميّة؟‬ ‫أمور وجوديّة‪ ،‬أـ‬ ‫في صفاتو‪ ،‬ىل ىي‬ ‫وشا ّؾ‬

‫ومات ولد تنح ّل لو عقدتها‪ ،‬وشا ّؾ في أفعالو‪ ،‬ىل ىي مقارنة لو‬
‫أزلًا وأب ًدا لد تزؿ معو أـ الفعل متأ ّخر عنو تأ ّخًرا لا نهاية لأمده‪،‬‬
‫فصار فاعلًا بعد أف لد يكن فاعلًا؟ ومات ولد تنح ّل لو عقدتها‪،‬‬
‫فننظر في كتبو الكلاميّة قوؿ ابؼتكلّمين‪ ،‬وفي كتبو الفلسفيّة قوؿ‬
‫الفلاسفة‪ ،‬وفي كتبو التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقواؿ‬

‫ىؤلاء ّٔؤلاء‪ ،‬وىؤلاء ّٔؤلاء‪ ،‬وبهلس بينهم حائًرا‪ ،‬لا إلذ ىؤلاء ولا‬
‫إلذ ىؤلاء‪.‬‬

‫‪294‬‬

‫وكذلك أفضل أىل زمانو ابن أِب ابغديد‪ .89‬فإنو مع بحثو ونظره‬
‫وتص ّديو للرّد على الراز ّي حَّت يقوؿ في قصيدة لو [من الطويل]‪:‬‬
‫َو َحّْق َك لَْو أَْد َخْلتَِن الَنّاَر قػُْل ُت لِْلػ ‪ ...‬لَ ِذي َن َِّٔا قَْد ُكنْ ُت ِبَفّ ْن أُِحُبّوُ‬
‫َوأَفْػنَػيْ ُت ُع ْمِري ِفي فػُنُوٍف َدقِيَقٍة ‪َ ...‬وَما بػُغْيَِتي إَِّلا ِر َضاهُ َوقػُْربُوُ‬
‫أََما قػُلْتُ ُم َم ْن َكا َف فِينَا بُؾَا ِى ًدا ‪َ ...‬سيُ ْكَرُـ َمثْػَواهُ َويػَْع ُذ ُب ُشْربُوُ‬

‫أََما َرَّد َش َّك ابْ ِن ابْػَ ِطي ِب َوَزيْػَفوُ ‪َ ...‬وبَسِْويَهوُ ِفي الّْدي ِن إِْذ َح َّل َخطْبُوُ‬
‫يعترؼ بأف ابؼعقولات لد تُعطو إلا َحْيرًة‪ ،‬وأنو لد يَ ِصل منها إلذ‬

‫يقين‪ ،‬ولا علم حيث يقوؿ [من ابؼديد]‪:‬‬
‫فِي َك يَا أُ ْغلُوطَةَ الِْف َكِر ‪َ ...‬ضاعَ َد ْىِري َوانْػَق َضى عُ ُمِري‬

‫َسافَػَر ْت فِي َك الْعُُقوُؿ فََما ‪َ ...‬ربحَ ْت إَِّلا أَذَى ال َّسَفِر‬

‫‪( 89‬ىو عبد ابغميد بن ىبة ا﵁ بن بؿمد بن بؿمد بن ابغسين ابؼدائِّن‪ ،‬أبو حامد ابؼعروؼ بابن أِب ابغديد‪ُ ،‬ولد‬
‫سنة (‪ ٘ٛٙ‬ىػ) في ابؼدائن‪ ،‬وىو من غلاة الشيعة‪ ،‬وأعياف ابؼعتزلة‪ ،‬كاتب شاعر‪ ،‬لو كتب‪ ،‬منها‪" :‬شرح نهج‬
‫البلاغة"‪ ،‬و"السبع العلويات"‪ ،‬و"شرح الآيات البينات" للفخر الراز ّي‪ ،‬توفي ببغداد سنة (‪ ٙ٘ٙ‬ىػ)‪ .‬راجع "البداية‬

‫والنهاية" ٖٔ‪ ،ٜٔٓ /‬و"فوات الوفيات" ٔ‪ ،ٕ٘ٓ - ٕٗٛ /‬و"الأعلاـ" ٖ‪).ٕٜٛ /‬‬

‫‪295‬‬

‫قَاتَ َل ا﵁ُ الأُولَذ َزَع ُموا ‪ ...‬أََنّ َك الْ َمْعُرو ُؼ بِالَنّظَِر‬
‫َك َذبُوا إِ َّف اَلّ ِذي ذََكُروا ‪َ ...‬خا ِرٌج َع ْن قػَُّوِة الْبَ َشِر‬
‫وقاؿ بعض الطالبين من ابؼتأ ّخرين‪ ،‬وقد سافر في طلب ربو على‬
‫ىذه الطريق فلم يزدد إلا حيرًة وبػُْع ًدا من مطلبو حَّت قيّض ا﵁ لو‬
‫من أخذ بيده‪ ،‬وسلك بو على الطريق التي سلك عليها الرسل‬
‫وأتباعهم‪ ،‬فجعل يػَْهتِف بصوتو لأصحابو ىل ّموا فهذه وا﵁ الطريق‪،‬‬
‫وىذه أعلاـ مكة وابؼدينة‪ ،‬وىذه آثار القوـ لد تنسخها الرياح‪ ،‬ولد‬

‫تُزبؽا الأىوية‪ ،‬ثم قاؿ [من الطويل]‪:‬‬
‫َوُكنْ ُت َو َص ْحِبي ِفي ظَلَاِـ ِم َن الُّد َجى ‪ ...‬نَ ِسيرُ َعلَى َغْيِر ال َطِّريِق َوَلا‬

‫نَْد ِري‬
‫َوُكَنّا َحيَاَرى ِفي الِْقَفا ِر َولَدْ يَ ُك ْن ‪َ ...‬دلِي ٌل لَنَا نػَْرُجوا ابْػَلَا َص ِم َن‬

‫ال َق ْف ِر‬
‫ِظ َماءُ إِلَذ ِوْرٍد يػَبُ ُّل َغلِيلَنَا ‪َ ...‬وقَْد قَطَ َع الأ ْعنَا َؽ ِمَنّا لَظَى ابْغَّْر‬

‫‪296‬‬

‫فََما ُىَو إَِّلا أَ ْف تَػبََّدى لِنَا ِظِري ‪َ ...‬سنَا بَا ِرٍؽ يػَْب ُدو َك َخيْ ٍط ِم َن‬
‫الَْف ْجِر‬

‫ال َّسَرا ُب‬ ‫ذَا َؾ‬ ‫اَتّئِ ْد‬ ‫فَػَقالُوا‬ ‫‪...‬‬ ‫أََرى‬ ‫اَلّ ِذي‬ ‫تَػَرْو َف‬ ‫َى ْل‬ ‫فَػُقلْ ُت لِص ْحِبي‬
‫اَلّ ِذي بَْهِري‬

‫فَ َخَلّْفتُػُه ْم َخلِْفي َوأَقْػبَػلْ ُت بَكَْوهُ ‪ ...‬فَأَْوَرَدِني َعْيَن ابْغَيَاةِ لََدى الْبَ ْحِر‬
‫فَػنَاَديْ ُت أَ ْص َحاِب فََما بَِظُعوا الْنَّدا ‪َ ...‬ولَْو بَِظُعوهُ َما ا ْستَ َجابُوا إِلَذ‬
‫ابْغَ ْشِر‬

‫فهذا اعتراؼ ىؤلاء الفضلاء في آخر سيرىم بدا أفادتهم الأدلّة‬

‫العقليّة من ض ّد اليقين‪ ،‬ومن ابغيرة وال ّش ّك‪ ،‬فمن الذي شكا من‬
‫القرآف والسنّة‪ ،‬والأدلّة اللفظيّة ىذه الشكاية؟ ومن الذي ذكر أنها‬
‫حيّرتو ولد تهده؟ أو ليس ّٔا َى َدى ا﵁ أنبياءه ورسلو وِخيرَة خلقو؟‬
‫قاؿ تعالذ لأكمل خلقو وأوفرىم عقلًا‪{ :‬قُ ْل إِ ْف َضلَْل ُت فَِإَبّمَا أَ ِض ُّل‬
‫َعلَى نػَْف ِسي َوإِ ِف ا ْىتََديْ ُت فَبِ َما يُوِحي إِلََّر َرِّْب} الآية [سبأ‪.]٘ٓ :‬‬

‫‪297‬‬

‫فهذا أكمل ابػلق عقلًا صلوات ا﵁ وسلامو عليو بُىبر أف اىتداءه‬
‫بالأدلة اللفظيّة التي أوحاىا ا﵁ إليو‪ ،‬وىؤلاء ابؼتهّوكوف ابؼتحيّروف‬
‫يقولوف‪ :‬إنها لا تفيد يقينًا ولا عل ًما‪ ،‬ولا ىدى‪ ،‬وىذا موضع ابؼثَل‬
‫ابؼشهور‪" :‬رمتِن بدائها وانسلّت"‪ .‬انتهى كلاـ ابن القيّم ربضو ا﵁‬

‫("الصواعق ابؼرسلة" ٔ‪،).ٔٚٓ - ٔٙ٘ /‬‬

‫وىو شا ٍؼ كا ٍؼ بؼن أراد ابؽدى والرشاد‪ ،‬وا﵁ تعالذ ابؽادي إلذ‬
‫سواء السبيل‪.‬‬

‫وقاؿ القرطبي ربضو ا﵁‪ :‬ولو لد يكن في الكلاـ شيء يُذُّـ بو إلا‬
‫مسألتاف‪ ،‬بنا من مبادئو‪ ،‬لكاف حقيًقا بالذّـ‪ ،‬وجديًرا بالذكر‪:‬‬

‫[إحدابنا]‪ :‬قوؿ طائفة منهم‪ :‬إف أوؿ الواجبات الشك في ا﵁‬
‫تعالذ؛ إذ ىو اللازـ عن وجوب النظر‪ ،‬أو القصد إلذ النظر‪ ،‬وإليو‬

‫أشار الإماـ بقولو‪ :‬ركبت البحر‪.‬‬

‫[والثانية]‪ :‬قوؿ بصاعة منهم إ ّف من لد يعرؼ ا﵁ تعالذ بالطرؽ التي‬
‫طّرقوىا‪ ،‬والأبحاث التي حّرروىا‪ ،‬فلا يصح إبيانو‪ ،‬وىو كافر‪،‬‬
‫فيلزمهم على ىذا تكفير أكثر ابؼسلمين‪ ،‬من السلف ابؼاضين‪،‬‬

‫‪298‬‬

‫وأئمة ابؼسلمين‪ ،‬وأف من يبدأ بتكفيره أبيو وأسلافو‪ ،‬حَّت لقد أُورد‬
‫على بعضهم أف ىذا يلزـ منو تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك‪،‬‬
‫فقاؿ‪ :‬لا تُ َشْنّع علي بكثرة أىل النار‪ .‬قاؿ‪ :‬وقد َرّد بعض من لد‬
‫يقل ّٔاتين ابؼسألتين من ابؼتكلّمين على من قاؿ ّٔما‪ ،‬بطريق من‬
‫النظر والاستدلاؿ؛ بناء منهم على أف ىاتين ابؼسألتين نظريّتاف‪،‬‬
‫وىذا خطأ فاح ٌش‪ ،‬فالك ّل بُىَ ْطّئوف‪ :‬الطائفة الأولذ بأصل القوؿ‬
‫بابؼسألتين‪ ،‬والثانية بتسليم أف فسادىا ليس بضرور ّي‪ ،‬ومن ش ّك‬
‫في تكفير من قاؿ‪ :‬إف الش ّك في ا﵁ تعالذ واجب‪ ،‬وأف معظم‬
‫الصحابة وابؼسلمين كّفار‪ ،‬فهو كافر شرًعا‪ ،‬أو بُـت ّل العقل وضًعا‪،‬‬
‫إذ ك ّل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة ابغاصلة‬
‫بالأخبار ابؼتواترة القطعيّة‪ ،‬وإف لد يكن كذلك‪ ،‬فلا ضرور ّي يُصار‬
‫إليو في الشرعيّات‪ ،‬ولا العقليّات‪ ،‬عصمنا ا﵁ تعالذ من بَِدع‬

‫ابؼبتدعين‪ ،‬وسلك بنا طُرؽ السلف ابؼاضين‪.‬‬
‫وإبما طّولت في ىذه ابؼسألة الأنفاس بؼا قد شاعَ من ىذه البدع في‬
‫الناس‪ ،‬ولأنو قد اغترّ كثير من ابعهاؿ بزخرؼ تلك الأقواؿ‪ ،‬وقد‬

‫‪299‬‬

‫بذلت ما وجب عل ّي من النصيحة‪ ،‬وا﵁ تعالذ يتولّذ إصلاح‬
‫القلوب ابعربوة‪ .‬انتهى كلاـ القرطبّي ربضو ا﵁ تعالذ‪ ،‬وىو بح ٌث‬
‫نفي ٌس‪ ،‬وبرقي ٌق أني ٌس ("ابؼفهم" ‪ ،ٜٙٗ - ٜٙٓ /ٙ‬ببعض تغيير‬

‫من "الفتح"‪90.).‬‬

‫‪90‬البحر ا﵀يط ٔ‪ٔٗٗ-ٖٔٗ/‬‬

‫‪300‬‬


Click to View FlipBook Version