| 4مختصر السيرة النبوية
مختصر السيرة النبوية|7
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بموسوعة محمد رسول الله ﷺ)()1
الحم ُد لله ،والصلا ُة والسلا ُم على نب ِّينا وحبيبِنا محم ٍد رسول الله ﷺ ،وعلى
آلِه وصحبِه ،و َمن اقت َفى أث َره وعم َل بهد ِيه واست َّن بسنتِه ،أ َّما بع ُد:
فتمتا ُز هذه الموسوع ُة -التي استغ َر َق العم ُل فيها نح ًوا ِمن عامي ِن -بجم ِعها
لأه ِّم علو ِم السير ِة النبوي ِة الشريف ِة وفنونها في وعا ٍء واح ٍد ،وانتقا ِء أفض ِل ما كت َبه أئم ُة
سل ِفنا الصال ِح وعلماؤهم في كل ف ٍّن ِمن فنونِها ،مما لق َي شهر ًة وقبو ًلا لدى الأم ِة ،وقد
قم ُت باختصا ِر هذه الكت ِب وتهذيبِها ،نسأل الله الإخلاص والقبول.
وكان منهجي في اختصا ِر كت ِب هذه الموسوع ِة أن تكو َن على أفض ِل الطبعا ِت
المعتمد ِة لك ِّل كتا ٍب ،مع حذ ِف الضعي ِف وما دو َنه ،والاستطرادا ِت ،وما أغنَى عنه
غي ُره ،أو كان مك َّر ًرا سب َق ذك ُره ،وكذلك أساني ُد الأحادي ِث إلا الصحاب َّي أو َمن دو َنه
مما يحتا ُج الكلا ُم إليه ،وقد حافظ ُت على لف ِظ المصن ِف وترتيبِه ،فإن زد ُت في عنواناته
شي ًئا وضع ُته بين معقو َفي ِن ،وكذا ما كان ِمن طبع ٍة أخرى غي ِر التي اعتمد ُتها.
وكان هدفي ِمن هذا المنه ِج تقري َب سيرة النبي ﷺ وتيسي َرها؛ لنتع َّل َم جمي ًعا
علو َمها وفنونَها من كت ِب علما ِء سل ِفنا الصال ِح الأصيل ِة ،لنح ِّق َق الاقتدا َء به ﷺ في
عقيد ِته وعبادا ِته ومعاملاتِه وأخلا ِقه؛ فنسع ُد في الدنيا ونفو ُز بالآخر ِة.
وقد اقتصر ُت في الحاشي ِة على التخري ِج الموج ِز للأحادي ِث النبوي ِة الشريف ِة
والآثا ِر ،وبيا ِن غري ِب ألفاظها.
(*) هذا تعريف موجز بالموسوعة ،وقد تق َّدم التعريف بها مف َّص ًلا في صدر المجلد الأول.
| 8مختصر السيرة النبوية
وقد جا َء هذا الإصدا ُر الأ َّو ُل ِمن «موسوعة محمد رسول الله ﷺ» جام ًعا لست ِة
علو ٍم ِمن علو ِم السير ِة النبوي ِة الشريف ِة وفنونِها في ست ِة جللدا ٍت ،عب َر اختصا ِر ثماني ِة
كت ٍب ،وهي على النحو التالي:
المجلد الأول -1 :في علم الدلائل [كتاب «دلائل النبوة» لأبي نعيم (ت034هـ)]
المجلد الثاني -5 :في علم السيرة النبوية [كتاب «السيرة النبوية» لابن هشام
(ت552هـ)]
المجلد الثالث -3 :في علم الخصائص [كتاب «غاية ال ُّسول في خصائص الرسول»
لابن الملقن(ت240هـ)]
-4في علم الشمائل ،وفيه ثلاثة كتب ،هي:
[ -كتاب «شمائل النبي ﷺ» للترمذي (ت572هـ)]
[ -كتاب «محمد رسول الله ﷺ والحقوق والقيم والأخلاق
وعلاج مشكلات العالم المعاصر» ،لـ أ.د .أحمد بن عثمان المزيد]
المجلد الرابع[ - :كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية
(ت 715هـ)]
المجلد الخامس -5 :في علم حقوق النبي ﷺ[ :كتاب «الشفا بتعريف حقوق
المصطفى» للقاضي عياض (ت100هـ)]
المجلد السادس -6 :في علم الحديث النبوي الشريف[ :كتاب «رياض
الصالحين» للنووي (ت676هـ)]
مختصر السيرة النبوية|9
في علم السيرة النبوية
تعريفه:
ُيعنى عل ُم السيرة النبوية بذك ِر وقائ ِع حيا ِة النب ِّي ﷺ ِمن مول ِده إلى وفاتِه.
أهميته:
سير ُة محم ٍد رسو ِل الله ﷺ هي تطبي ٌق لكتا ِب الله تعالى وسنتِه ﷺ ،فهي
سج ٌل حاف ٌل لكل تفاصي ِل حياتِه ﷺ :عقيد ًة ،وعباد ًة ،ومعامل ًة ،وأخلا ًقا ،سل ًما
وحر ًبا ،دعو ًة وجها ًدا ،يس ًرا وعس ًرا ،في بيته ،وبين أصحابه ومع أعدائه ،فيه
الأسو ُة الحسن ُة لمن رام سياس َة قو ِمه أو قام على شؤو ِن بيتِه ،ص َّلى الله على صاح ِب
هذه السير ِة الشريف ِة ،وآلِه وصحبِه وس َّلم.
ثمراته:
يق ِّد ُم ِع ْل ُم السير ِة للبشري ِة جمعا َء نموذ ًجا يُحت َذى به في مكار ِم الأخلا ِق،
ومظاه ِر الكما ِل الإنسان ِّي ،ويق ِّد ُم للمسل ِم الأسو َة والقدو َة التام َة في حياتِه،
والذي ُأ ِمرنا بمحبتِه ﷺ فو َق محبتِنا لأنف ِسنا وأولا ِدنا والنا ِس أجمعين ،و ُيوقِفنا
على دعو ِة رسو ِل الله محم ٍد ﷺ ومراحلِها وفق ِهها ،وتمثُّلِها في الحيا ِة المعاصر ِة،
و ِمن معينِها نستقي الدرو َس التربوي َة النبو َّي َة في تعاملِه ﷺ مع صحابتِه خاص ًة،
والنا ِس عام ًة.
| 01مختصر السيرة النبوية
ترجمة ابن هشام (ت552هـ)
اسمه ونسبه:
هو عب ُد الملك ب ُن هشا ِم ب ِن أيو َب ،أبو محم ٍد الذهل ُّي ،السدوس ُّي -وقيل:
الحمير ُّي -ال ُم َعافِ ِر ُّي ،البصر ُّي ،نزي ُل مص َر.
نشأته وطلبه للعلم:
بد َأ اب ُن هشا ٍم طل َبه للعل ِم في البصر ِة ،ثم انت َق َل منها إلى مص َر ،و ُتو ِّفي بها،
وقد َس ِم َع اب ُن هشام «السير والمغازي لابن إسحاق» ِمن زياد البكائ ِّي صاح ِب اب ِن
إسحاق ،و ِمن شيو ِخه الإما ُم الشافع ُّي.
قال الدارقطن ُّي :عن المزني قالَ « :ق ِد َم علينا الشافع ُّي ،وكان بمص َر
عب ُد الملك ب ُن هشا ٍم صاح ُب (المغازي) ،وكان علام َة أه ِل مص َر بالعربي ِة والشع ِر،
فقيل له في المصي ِر إلى الشافع ِّي ،ف َتثا َق َل ،ثم َذ َه َب إليه ،فقال :ما ظنن ُت أن الله يخل ُق
مث َل الشافع ِّي»(.)1
وقال عنه اب ُن كثير« :أبو محم ٍد عب ُد الملك ب ُن هشا ٍم ،راوي السير ِة ،وإنما ُتنس ُب
إليه ،فيقال :سير ُة اب ِن هشام؛ لأنه ه َّذ َبها وزا َد فيها ونق َص منها ،وح َّرر أماك َن
واستد َرك أشيا َء ،وقد كان إما ًما في اللغ ِة والنح ِو والعربي ِة ،وقد كان مقي ًما بمص َر ،وقد
اجت َم َع به الشافع ُّي حي َن و َر َدها وتناش َدا ِمن أشعا ِر العر ِب أشيا َء كثير ًة»( .)2
وفاتهُ :توِِّّف اب ُن هشام في 53ربيع الآخر ،سنة (552هـ) بمص َر(.)3
( )1سير أعلام النبلاء للذهبي (.)052 /54
( )2البداية والنهاية لابن كثير (.)342 /54
( )3سير أعلام النبلاء للذهبي ( ،)052/54وانظر :تاريخ ابن يونس المصري (.)537/5
مختصر السيرة النبوية|00
التعريف بكتاب السيرة النبوية لابن هشام (ت552هـ)
أهميته:
يع ُّد كتا ُب «السيرة النبوية» لابن هشام مختص ًرا لكتا ِب محم ِد ب ِن إسحا َق ب ِن
يسار (ت514هـ) ،ويعتب ُر كتا ُب اب ِن إسحاق ِمن أه ِّم وأو ِل الكت ِب المؤ َّلف ِة في
السير ِة النبوي ِة ،ومؤل ُفه إما ُم هذا الف ِّن بلا مناز ٍع ،إلا أن كتا َبه لم ي ِص ْلنا كام ًلا حتى
الآن ،وقد ُو ِج َد ِمن الكتا ِب قطع ٌة ،حق َّقها د .محمد حميد الله ،بعنوا ِن« :المبتدأ
والمبعث والمغازي» ،و ُطبعت بتحقيق آخر للدكتور :سهيل زكار ،بعنوا ِن «السيرة
النبوية لابن إسحاق برواية يونس بن بكير».
وقد تل َّقى أه ُل العل ِم كتا َب اب ِن إسحا َق بالقبو ِل والثنا ِء ،فقال اب ُن شها ٍب
(ت550هـ) -وقد ُس ِئ َل عن مغازي اب ِن إسحاق :-هذا أعل ُم النا ِس ،يعني اب َن
إسحاق(.)1
وقال الشافع ُّي (ت540هـ)َ :من أرا َد أن يتب َّح َر في المغازي فهو عيا ٌل على محم ِد
ب ِن إسحاق(.)2
وقال اب ُن سعد (ت562هـ) :كان اب ُن إسحاق أو َل َمن ج َم َع مغازي رسو ِل الله
ﷺ وأ َّل َفها(.)3
( )1تهذيب الكمال للمزي(.)053 /50
( )2الطبقات الكبرى لابن سعد (.)014/1
( )3السابق (.)036 /52
| 02مختصر السيرة النبوية
وقال اب ُن عدي (ت361هـ) :ولو لم يكن لاب ِن إسحاق ِمن الفض ِل إلا أنه
ص َر َف الملو َك عن كت ِب لا يحص ُل منها شي ٌء ،ف َص َر َف أشغاََلم حتى اشتغلوا
بمغازي رسول الله ﷺ ومبتدأِ الخلق ومبع ِث النبي ﷺ ،فهذه فضيل ٌة لابن
إسحا َق س َب َق بها ،ثم بع َده صنَّفه قو ٌم آخرون ولم َيبلغوا مبل َغ اب ِن إسحا َق فيه(.)1
وقال الذهب ُّي (ت702هـ) :قد كان في المغازي علام ًة(.)2
وقد قام اب ُن هشام البصر ُّي (ت552هـ) باختصا ِر ما يتع َّلق بالنب ِّي ﷺ من
كتا ِب اب ِن إسحا َق مه ِّذ ًبا ومن ِّق ًحا ومضي ًفا إليه ،وس َّماه« :السيرة النبوية»؛ فحفظ
بذلك جز ًءا مه اما ِمن كتا ِب اب ِن إسحا َق المفقو ِد.
وقد تل َّقى العلما ُء كتا َب اب ِن هشام بالحفاو ِة والإيثا ِر ،فتناولوه قر ًنا بع َد قر ٍن
بالشر ِح والاختصا ِر والتعلي ِق والحواشي ،و ِمن أه ِّم هذه الأعما ِل:
-الروض الأنف شرح سيرة ابن هشام ،لأبي القاسم عبد الرحمن بن
عبد الله بن أحمد السهيلي (ت 125هـ).
-المواهب الل ُد ِّنــــــ َّية بالمنح المحمدية ،للعلامة شهاب الدين أبي العباس
أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي المصري (ت 253هـ).
-وقد اخت َص َر الإما ُم الشي ُخ محم ُد ب ُن عب ِد الوهاب (ت5546:هـ) كتاب
«السيرة النبوية» لابن هشام في كتابه« :مختصر سيرة الرسول ﷺ».
( )1الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (.)574/7
( )2سير أعلام النبلاء للذهبي (.)37/7
مختصر السيرة النبوية|03
ترتيبه ومنهجه:
يذكر اب ُن هشام في مقدم ِة كتابِه معالمَ منه ِجه حيث يقو ُل« :وأنا إن شاء الله
مبتد ٌئ هذا الكتا َب بذك ِر إسماعي َل ب ِن إبراهي َم ،و َمن َو َل َد رسو َل الله ص َّلى الله عليه
وآله وس َّلم ِمن ول ِده ،وأولا ِدهم لأصلابِهم ،الأو َل فالأو َلِ ،من إسماعي َل إلى
رسو ِل الله ص َّلى الله عليه وآله وس َّلم ،وما يعر ُض ِمن حديثِهم ،وتار ٌك ذك َر غي ِرهم
ِمن ول ِد إسماعي َل ،على هذه الجه ِة للاختصا ِر ،إلى حدي ِث سير ِة رسو ِل الله ﷺ،
وتار ٌك بع َض ما ذك َره اب ُن إسحا َق في هذا الكتا ِب ،ممَّا ليس لرسو ِل الله ص َّلى الله
عليه وآله وس َّلم فيه ذك ٌر ،ولا ن َز َل فيه ِمن القرآ ِن شي ٌء ،وليس سب ًبا لشي ٍء ِمن هذا
الكتا ِب ،ولا تفسي ًرا له ،ولا شاه ًدا عليه؛ لما ذكر ُت ِمن الاختصا ِر ،وأشعا ًرا
ذك َرها لم أ َر أح ًدا ِمن أه ِل العل ِم بالشع ِر َيع ِرفها ،وأشيا َء بعضها َي ْشنُ ُع الحدي ُث به،
وبع ٌض َي ُسو ُء بع َض النا ِس ذك ُره ،وبع ٌض لم ُي ِق َّر لنا البكائ ُّي بروايتِه ،ومستق ٍص -
إن شاء الله تعالى -ما ِس َوى ذلك منه بمبل ِغ الرواي ِة له ،والعل ِم به»(.)1
قل ُت :وقد راعي ُت في اختصا ِر «السيرة النبوية» لاب ِن هشام :الإيجا َز غي َر
المخ ِّل ،فح َذ ْف ُت ما لا يتع َّل ُق بسير ِة النب ِّي ﷺ ولا يؤث ُر على السيا ِق العام ،كإسلا ِم
بع ِض الصحاب ِة ،وتتب َعه للأعلا ِم وحص َرهم ،وكذا لم أذ ُك ْر ِمن الغزوا ِت والسرايا
إلا أه َّمها وأج َّلها.
(( )1ص.)52
| 04مختصر السيرة النبوية
الطبعة المعتمدة في هذا المختصر:
ُطبِ َع كتا ُب اب ِن هشا ٍم عد َة طبعا ٍتِ ،من أه ِّمها :طبعة مكتبة الحلبي بمصر،
الطبعة الثانية5371 ،هـ5211 /م ،تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري
وعبد الحفيظ الشلبي ،وقد اعتمدوا على أربع مطبوعات :مطبوعة بولاق
(5512هـ) ،ومطبوعة ألمانيا (5576هـ) ،ومطبوعة المطبعة الخيرية بمصر
(5352هـ) ،ومطبوعة المكتبة الجمالية بمصر (5335هـ) ،كما اعتمدوا على أربع
نسخ خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ،إحداها كاملة ،وهذه الطبعة هي التي
اعتمدنا عليها في هذا المختصر.
مختصر السيرة النبوية|05
موســـــــوعة محمــــــــــد رســـــــول الله ﷺ
دلائل نبوته وسيرته وخصائصه وشمائله وهديه وحقوقه وقبس من حديثه
مختصر السيرة النبوية لابن هشام
لابن هشام البصري عبد الملك بن هشام بن أيوب (ت 838هـ)
اختصره
أ.د .أحمد بن عثمان المزيد
أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة الملك سعود
| 06مختصر السيرة النبوية
مختصر السيرة النبوية|07
[القسم الأول :العهد المكي]
| 08مختصر السيرة النبوية
مختصر السيرة النبوية|09
[أولا :قبل الرسالة والنبوة]
ِ -1ذكرُ سرد النسب الزك ِيّ
قال أبو محم ٍد عب ُد الملك ب ُن هشام النحو ُّي :هذا كتا ُب سير ِة رسو ِل الله صلى
الله عليه وآله وسلم ،محم ِد ب ِن عب ِد الله بن عب ِد المطلب ،واس ُم عبد المطلب :شيب ُة
ب ُن هاشم ،واس ُم هاش ٍم :عمرو بن عبد َمناف ،واسم عب ِد مناف :المُغيرة بن ُقصي،
واسم قصي :زي ُد بن ِكلاب بن ُم َّر َة بن كعب بن ُلؤي بن غالب بن فِهر بن مالك
بن الن ْض بن ِكنان َة بن ُخزيم َة بن ُمد ِر َكة ،واسم مدرك َة :عامر بن إليا َس بن ُم َض
بن نِزار بن َم ْعد بن عدنا َن.
وأنا إن شاء الله مبتد ٌئ هذا الكتا َب بذك ِر إسماعي َل ب ِن إبراهي َم ،و َمن َو َل َد
رسو َل الله ص َّلى الله عليه وآله وس َّلم ِمن ول ِده ،وأولا ِدهم لأصلابِهم ،الأو َل
فالأو َلِ ،من إسماعي َل إلى رسو ِل الله ص َّلى الله عليه وآله وس َّلم ،وما يعر ُض ِمن
حدي ِثهم ،وتار ٌك ذك َر غي ِرهم ِمن ول ِد إسماعي َل ،على هذه الجه ِة للاختصا ِر ،إلى
حدي ِث سير ِة رسو ِل الله ﷺ ،وتار ٌك بع َض ما ذك َره اب ُن إسحا َق في هذا الكتا ِب،
ممَّا ليس لرسو ِل الله ص َّلى الله عليه وآله وس َّلم فيه ذك ٌر ،ولا ن َز َل فيه ِمن القرآ ِن
شي ٌء ،وليس سب ًبا لشي ٍء ِمن هذا الكتا ِب ،ولا تفسي ًرا له ،ولا شاه ًدا عليه؛ لما
ذكر ُت ِمن الاختصا ِر ،وأشعا ًرا ذك َرها لم أ َر أح ًدا ِمن أه ِل العل ِم بالشع ِر َيع ِرفها،
وأشيا َء بعضها َي ْشنُ ُع الحدي ُث به ،وبع ٌض َي ُسو ُء بع َض النا ِس ذك ُره ،وبع ٌض لم ُي ِق َّر
لنا البكائ ُّي بروايتِه ،ومستق ٍص -إن شاء الله تعالى -ما ِس َوى ذلك منه بمبل ِغ
الرواي ِة له ،والعل ِم به
| 21مختصر السيرة النبوية
ِ -2ذكرُ نذر عبد المطلب ذب َح ولدِه
كان عب ُد المطلب بن هاشم -فيما يز ُعمون والله أعلم -قد نذر حين ل ِقي من
قريش ما لق َي عند حفر زمز َم :لئن ُولِ َد له ع َشر ُة نفر ،ثم بلغوا معه حتى يمنعوه،
ل َينحر َّن أح َدهم لله عند الكعب ِة.
فلما َتواِّف بنوه عشر ًة ،وع َرف أنهم سيمنعونه ،جَ َمعهم ثم أخب َرهم بنذ ِره،
ودعاهم إلى الوفا ِء للهِ بذلك ،فأطاعو ُه وقالوا :كيف نصن ُع؟ قال :ليأخذ ُك ُّل رجل
منكم ِق ْد ًحا ثم يكتب فيه اس َمه ،ثم ائتوني.
فف َعلوا ،ثم أتوه ،فدخل بهم على ُه َبل في جو ِف الكعبة ،وكان ُه َبل على بئر
في َجو ِف الكعبة ،وكانت تلك البئ ُر هي التي يُجمع فيها ما ُ ُْ َدى للكعبة.
فقال عب ُد المطلب لصاحب ال ِقداح :ا ِض ْب على َبنِ َّي هؤلاء ب ِقداحهم هذه
-وأخ َب َره بنذره الذي نذ َر -فأعطاه ُك ُّل رجل منهم ِق ْد َحه الذي فيه اس ُمه ،وكان
عب ُد الله ب ُن عبد المطلب أصغ َر بني أبيه.
قال اب ُن إسحاق :وكان عب ُد الله -فيما يزعمون -أح َّب ول ِد عبد المطلب
إليه ،فكان عب ُد المطل ِب يرى أن السه َم إذا أخطأ ُه فقد َأ ْش َوى( ،)1وهو أبو رسو ِل
الله ﷺ.
فلما أخذ صاح ُب ال ِقدا ِح القدا َح ل َيض َب بها ،قام عب ُد المطلب عند ُه َبل
يدعو الله ،ثم ضب صا ِح ُب القداح ،فخرج ال ِق ْد ُح على عب ِد الله ،فأخذه عب ُد
المطلب بيده وأخذ الش ْف َر َة ،ثم أقبل به إلى إسا َف ونائل َة ليذ َب َح ُه ،فقامت إليه
قري ٌش من أنديتِها ،فقالوا :ماذا ُتريد يا عب َد المطلب؟
(َ )1أ ْش َوى :أبقى.
مختصر السيرة النبوية|20
قال :أذ َب ُحه.
فقالت له ُقريش وبنوه :والله لا تذ َب ُحه أب ًدا حتى ُتعذ َر فيه ،لئن فعل َت هذا
لا يزا ُل الرجل يأتي بابنه حتى يذ َب َحه ،فما بقا ُء النا ِس على هذا؟!
وقال له المُغير ُة ب ُن عب ِد الله بن عمرو بن مَخزو ِم بن َي َقظ َة ،وكان عب ُد الله اب ُن
أخت القوم :والله لا تذبحه أب ًدا حتى ُتعذ َر فيه ،فإن كان فدا ُؤه بأموالِنا فديناه.
وقالت له قري ٌش وبنوه :لا تفع ْل ،وانطل ْق به إلى الحجا ِز ،فإن به ع َّرافة َلا
تاب ٌع ،فس ْلها ،ثم أنت على رأ ِس أم ِرك ،إن أم َر ْتك بذب ِحه ذبح َته ،وإن أم َر ْتك بأم ٍر
لك وله فيه َف َر ٌج قبلته.
فانط َلقوا حتى ق ِدموا المدين َة ،فوجدوها -فيما يزعمون -ب َخيب َر ،فركبوا حتى
جاءوها ،فسألوها ،و َق َّص عليها عب ُد المطلب خب َره وخب َر ابنِه ،وما أراد به ون ْذ َره
فيه ،فقالت َلم :ار ِجعوا ع ّنِي اليو َم حتى يأتِ َيني تابعي فأسأ ُله.
فرجعوا من عندها ،فلما خرجوا عنها ،قا َم عب ُد المطل ِب يدعو الله ،ثم َغ َدوا
عليها ،فقالت َلم :قد جاءني الخب ُر ،كم الدي ُة فيكم؟ قالوا :عش ٌر من الإب ِل،
وكانت كذلك.
قالت :فارجعوا إلى بلا ِدكم ،ثم ق ِّربوا صاح َب ُكم ،وقربوا عش ًرا من الإب ِل،
ثم ا ِضبوا عليها وعليه بال ِقدا ِح ،فإن خرجت على صاحبِكم فزيدوا من الإب ِل
حتى َيرضى ر ُّبكم ،وإن خر َجت على الإب ِل فان َحروها عنه ،فقد رضي ر ُّبكم ،ونجا
صاح ُب ُكم.
فخرجوا حتى ق ِدموا م َّك َة ،فلما أجمعوا على ذلك من الأم ِر ،قام عب ُد المطل ِب
يدعو الل َه ،ثم ق َّربوا عب َد الله وعش ًرا من الإب ِل ،وعب ُد المطلب قائ ٌم عند ُهب َل يدعو
اللهَ ،ثم ضبوا فخرج ال ِقد ُح على عب ِد الله.
| 22مختصر السيرة النبوية
فزادوا عش ًرا من الإب ِل؛ فبلغت الإب ُل عشرين ،وقام عب ُد المطلب يدعو الل َه
،ثم َضبوا فخر َج ال ِقد ُح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإب ِل؛ فبلغت الإب ُل ثلاثين ،وقام عب ُد المطلب يدعو الل َه،
ثم َضبوا ،فخر َج ال ِقدح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإب ِل؛ فبلغت الإب ُل أربعين ،وقام عب ُد الم َّطلب يدعو الله،
ثم َضبوا ،فخرج ال ِقد ُح على عبد الله.
فزادوا عش ًرا من الإب ِل؛ فبلغت الإب ُل خمسين ،وقام عب ُد المطلب يدعو اللهَ،
ثم ضبوا فخر َج ال ِقد ُح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإبل؛ فبلغت الإب ُل ستين ،وقام عبد المطلب يدعو الل َه ،ثم
ضبوا فخر َج ال ِقد ُح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإبل؛ فبلغت الإب ُل سبعين ،وقام عب ُد المطل ِب يدعو الله،
ثم ضبوا فخر َج القد ُح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإبل؛ فبلغت الإب ُل ثمانين ،وقام عب ُد المطل ِب يدعو الله ،ثم
ضبوا ،فخر َج ال ِقد ُح على عبد الله.
فزادوا عش ًرا من الإب ِل؛ فبلغت الإبل تسعين ،وقام عب ُد المطلب يدعو الله،
ثم ضبوا ،فخر َج ال ِقد ُح على عب ِد الله.
فزادوا عش ًرا من الإبل ،فبلغت الإبل مئ ًة ،وقا َم عب ُد المطلب يدعو الله ،ثم
ضبوا فخر َج ال ِقد ُح على الإبل؛ فقالت قري ٌش ومن َح َ َض :قد انتهى رضا ر ِّبك يا
عب َد المطلب.
مختصر السيرة النبوية|23
فزعموا أن عب َد المطلب قال :لا والله ،حتى أض َب عليها ثلاث مرا ٍت،
فضبوا على عب ِد الله وعلى الإب ِل ،وقام عب ُد المطل ِب يدعو الل َه ،فخرج ال ِقد ُح على
الإب ِل ،ثم عادوا الثاني َة ،وعبد المطلب قائ ٌم يدعو الله ،فضبوا ،فخرج ال ِقد ُح على
الإب ِل ،ثم عادوا الثالث َة ،وعب ُد المطلب قائم يدعو الله ،فضبوا ،فخرج ال ِقدح على
الإب ِل؛ فنُ ِح َرت ،ثم ُت ِركت لا ُيص ُّد عنها إنسا ٌن ولا ُيمن ُع.
-3زواجُ عب ِد الله من آمنةَ بنتِ وهب
خر َج عب ُد المطل ِب بعب ِد الله حتى أتى به وه َب بن عب ِد َمناف بن زهر َة بن
ِكلاب بن ُم َّرة بن كعب بن لؤ ِّي بن غالب بن فِهر ،وهو يومئذ س ِّي ُد بني زهر َة نس ًبا
وشر ًفا ،فزوجه ابنته آمن َة بن َت وه ٍب ،وهي يومئذ أفض ُل امرأة في قريش نس ًبا
و َموض ًعا.
-4مو ُت عبدِ الله
ثم لم يلبث عب ُد الله ب ُن عب ِد المطلب أبو رسو ِل الله ﷺ أ ْن هل َك وأ ُّم رسو ِل
الله ﷺ حام ٌل به.
-5ولادُة رسولِ الله ﷺ ورضاعتُه
قال ابن إسحاقُ :ول َد رسو ُل الله ﷺ يو َم الاثنين ،لاثنتي ع ْش َر َة ليل ًة َخ َلت
من شه ِر ربي ٍع الأول ،عا َم الفي ِل.
قال ابن إسحاق :فلما وض َعت ُه أ ُّم ُه ﷺ ،أر َس َلت إلى ج ِّده عب ِد المطلب :أنه قد
ُول َد لك غلا ٌم ،فأتِه فانظر إليه ،فأتاه فنظ َر إليه ،وح َّدثته بما رأت حين حملت به،
وما ِقيل َلا فيه ،وما ُأمرت به أن ُتس ِّم َيه.
فيز ُعمون أن عب َد المطل ِب أخذه ،فدخ َل به الكعب َة ،فقا َم يدعو الله ،ويشك ُر
له ما أعطا ُه ،ثم خر َج به إلى أمه فدف َع ُه إليها.
| 24مختصر السيرة النبوية
والتمس لرسو ِل الله ﷺ ال ُّر َضعا َء ،فاس َتر َضع له امرأ ًة من بني سع ِد بن
بك ٍر ،يقال َلا :حليم ُة ابنة أبي ُذؤيب.
-6نس ُب أبيه ﷺ في ال َّرضاع:
واس ُم أبيه الذي أرضع ُه ﷺ :الحار ُث بن عبد ال ُع َّزى بن رفاعة بن َم َّلا َن بن
ناصر َة بن ُفص َّية بن نص ِر بن سعد بن بك ِر بن هواز َن.
-7إخوتُه ﷺ من ال َرّضاع:
قال اب ُن إسحاق :وإخو ُته من الرضاع ِة :عب ُد الله بن الحارث ،و ُأنيس ُة بنت
الحارث ،و ُحذاف ُة بن ُت الحارث وهي الشيما ُء ،غلب ذلك على اس ِمها فلا ُتعر ُف في
قومها إلا به ،وهم لحليم َة بن ِت أبي ُذؤي ٍب عب ِد الله بن الحار ِث ،أ ِّم رسول الله ﷺ.
-8حدي ُث حليمةَ عما رَأت ُه من الخيرِ بعد َتسُلّمها له ﷺ
قال اب ُن إسحاق :عن عب ِد الله بن جعفر ب ِن أبي طالب ،أو عمن ح َّدثه عنه
قال :كانت حليم ُة بنت أبي ُذؤي ٍب السعدي ُة -أ ُّم رسول الله ﷺ التي أرضعت ُه-
ُتح ِّدث :أنها خرجت من بل ِدها مع زو ِجها ،واب ٍن َلا صغي ٍر ُترضعه في نِسو ٍة من بني
سعد بن بك ٍر ،تلتمس ال ُّرضعا َء ،قالت :وذلك في سن ٍة شهبا َء ،لم ُتب ِق لنا شي ًئا.
قالت :فخرج ُت على أتا ٍن لي َق ْمراء( ،)1معنا شار ٌف( )2لنا ،والله ما تبِ ُّض()3
بقطر ٍة ،وما ننام ليلنا أجم َع من صب ِّينا الذي معنا ،من بكا ِئه من الجو ِع ،ما في َثد َي َّي
(َ )1ق ْمراء :بيضاء.
( )2ال َّشا ِرف :الناقة المسنة.
( )3ما َتبِ ُّض :ما تنشغ ولا ترشح.
مختصر السيرة النبوية|25
ما ُيغنيه ،وما في شا ِرفنا ما ُيغ ِّديه ،ولكنا كنا نرجو الغي َث والفر َج؛ فخرج ُت على
أتاني تلك فلقد أ َذ َّمت( )1بال َّرك ِب حتى ش َّق ذلك عليهم ضع ًفا و َع َج ًفا( ،)2حتى
قدمنا مكة نلتم ُس الرضعا َء ،فما منا امرأ ٌة إلا وقد ُعر َض عليها رسو ُل الله ﷺ
فتأبا ُه إذا ِقيل َلا :إنه يتي ٌم؛ وذلك أنا إنما كنا نرجو المعرو َف من أبي الصب ِّي ،ف ُكنا
نقول :يتي ٌم! وما عسى أن تصنع أ ُّمه و َج ُّده! فكنا نكر ُه ُه لذلك ،فما َبقيت امرأ ٌة
ق ِد َمت معي إلا أخ َذت رضي ًعا ،غيري.
فلما أجمعنا الانطلا َق ُقل ُت لصاحبي :والله إني لأك َر ُه أن أرج َع من بين
صوا ِحبي ولم آ ُخذ رضي ًعا ،والله لأذه َب َّن إلى ذلك اليتي ِم فلآخذ َّنه ،قال :لا عليك
أن تفعلي ،عسى الله أن يجع َل لنا فيه برك ًة.
قالت :فذهب ُت إليه فأخذ ُته ،وما حملني على أخ ِذه إلا أني لم أجد غي َره.
قالت :فلما أخذ ُته ،ر َجع ُت به إلى رحلي ،فلما وضع ُته في ِحجري أقبل عليه
ثديا َي بما شا َء من لب ٍن ،فش ِر َب حتى روي ،وشر َب معه أخوه حتى ُروي ،ثم ناما،
وما كنا ننا ُم معه قبل ذلك ،وقام زوجي إلى شا ِرفِنا تلك ،فإذا إنها لحاف ٌل ،ف َح َل َب
منها ما شر َب ،وش ِر ْب ُت معه حتى انتهينا ر ايا وشب ًعا ،فبتنا بخي ِر ليل ٍة.
قالت :يقول صاحبي حين أصبحنا :تع َّلمي والله يا حليم ُة ،لقد أخذ ِت
نسم ًة مبارك ًة ،قالت :فقلت :والله إني لأرجو ذلك.
قالت :ثم خرجنا وركب ُت أنا أتاني ،وحمل ُته عليها معي ،فوالله ل َق َط َعت
بال َّرك ِب ما يقد ُر عليها شي ٌء من حُ ُمرهم ،حتى إن صوا ِحبي لي ُقلن لي :يا ابن َة أبي
(َ )1أ َذ َّمت :تأخرت.
( )2ال َع َجف :اَلزال.
| 26مختصر السيرة النبوية
ذؤيب ،وي َحك! ار َبعي علينا( ،)1أليست هذه أتا ُنك التي كنت خرجت عليها؟!
فأقول َل َّن :بلى والله ،إنها َل َي ِه َي ،فيقلن :والله إن َلا لشأ ًنا.
قالت :ثم ق ِدمنا منازلنا من بلا ِد بني َسع ٍد ،وما أعلم أر ًضا من أر ِض الله
أجد َب منها ،فكانت َغنمي ترو ُح عل َّي حين ق ِدمنا به معنا شبا ًعا ُل َّبنًا ،فنح ِلب
ونشر ُب ،وما يحلب إنسا ٌن قطر َة لب ٍن ،ولا يج ُدها في ض ٍع ،حتى كان الحاضون
من قو ِمنا يقولون ل ُرعيانِهم :وي َل ُكم اسرحوا حيث يسر ُح راعي بن ِت أبي ذؤيب،
فترو ُح أغنا ُمهم جيا ًعا ما َتبِ ُّض بقطر ِة لب ٍن ،وتروح غنمي شبا ًعا ُل َّب ًنا.
فلم نزل نتع َّر ُف من الله الزياد َة والخي َر حتى مضت سنتا ُه وفص ْل ُته ،وكان
ي ِش ُّب شبا ًبا لا يش ُّبه ال ِغلمان ،فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلا ًما َج ْف ًرا(.)2
قالت :فق ِدمنا به على ُأ ِّمه ونحن أحر ُص شيء على ُمكثِه فينا ،لمِا كنا نرى من
بركتِه؛ فك َّلمنا أ َّمه وقلت َلا :لو ترك ِت ُبنَ َّي عندي حتى َيغ ُل َظ ،فإني أخشى عليه
وبأ مك َة ،قالت :فلم َن َزل بها حتى َر َّدته معنا.
-9حديث المَلكين اللذين ش َّقا بطنَه ﷺ
قالت :فرجعنا به ،فوالله إنه بعد َمق ِدمنا به بأش ُه ٍر مع أخيه لفي َب ْه ٍم( )3لنا
خل َف بيو ِتنا ،إذ أتانا أخوه يش َت ُّد ،فقال لي ولأبيه :ذاك أخي ال ُقرش ُّي قد أخ َذ ُه
رجلان عليهما ثيا ٌب بي ٌض ،فأضجعا ُه ،فش َّقا بطنَ ُه ،فهما َيسوطانِه(.)4
( )1ار َب ِعي :أقيمي وانتظري.
(َ )2ج ْف ًرا :غلي ًظا شدي ًدا.
(َ )3ب ْهم :جمع بهيمة ،وهي أولاد الضأن.
(َ )4يسوطانه :أي يدخلان يدُما في بطنه.
مختصر السيرة النبوية|27
قالت :فخرج ُت أنا وأبوه نحوهَ ،ف َو َجدناه قائ ًما ُمنت ِق ًعا وج ُهه .قالت:
فالتزم ُته والتز َم ُه أبوه ،فقلنا له :ما لك يا ُبني؟
قال :جاءني رجلان عليهما ثيا ٌب بِي ٌض ،ف َأضجعاني ،وش َّقا بطنِي ،فالتم َسا
فيه شي ًئا لا أدري ما هو؟! قالت :فر َجعنا به إلى ِخبا ِئنا.
-11رجوع حليم َة به ﷺ إلى أُِمّه
قالت :وقال لي أبوه :يا حليم ُة ،لقد خ ِشي ُت أن يكون هذا الغلا ُم قد ُأصي َب
فأل ِحقيه بأهله قبل أن يظه َر ذلك به ،قالت :فاح َتملناه ،فق ِدمنا به على ُأ ِّمه ،فقالت:
ما أق َد َم ِك به يا ظِئ ُر( )1وقد كن ِت حريص ًة عليه ،وعلى ُمكثِه عندك؟ قالت :فقلت:
قد بلغ الله بابني و َقضي ُت الذي عل َّي ،وتخ َّوفت الأحدا َث عليه ،فأ َّديته إليك كما
ُتح ِّبين ،قالت :ما هذا شأ ُنك؟! فاصدقيني خب َرك .قالت :فلم تدعني حتى
أخبر ُتها .قالت :أف َتخ َّوفت عليه الشيطا َن؟ قالت :قلت :نعم .قالت :كلا ،والله ما
للشيطا ِن عليه من سبي ٍل ،وإن لِ ُبنَ َّي لشأ ًنا ،أفلا أخب ُرك خب َره؟ قالت :قلت :بلى.
قالت :رأي ُت حين ح َملت به ،أنه َخ َر َج مني نو ٌر أضا َء لي قصو َر ُب ْص َرى( )2من
أرض الشأ ِم ،ثم حملت به ،فوالله ما رأي ُت من ح ْم ٍل قط كان أخ َّف عل َّي ولا أيس َر
منه ،ووقع حين ولد ُته وإنه لواض ٌع يديه بالأرض ،راف ٌع رأ َسه إلى السما ِء ،دعيه
عنك وان َط ِلقي راشد ًة.
-11هو والأنبيا ُء قبَله َر َعوا الغنمَ
قال ابن إسحا َق :وكان رسو ُل الله ﷺ يقول« :ما من نبي إلا وقد رعى
الغن َم» .قيل :وأنت يا رسو َل الله؟ قال« :وأنا».
( )1ال ِّظئر :المرضعة.
(ُ )2ب ْص َرى :مدينة بالقرب من دمشق بالشام.
| 28مختصر السيرة النبوية
-12اعتزاُزه ﷺ ب ُقرشَّيته واسترضاعِه في بني سعدٍ
قال اب ُن إسحاق :وكان رسو ُل الله ﷺ يقو ُل لأصحابِه« :أنا أعر ُب ُكم؛ أنا
قر يش ،واس ُت ِضع ُت في بني سع ِد بن بك ٍر».
-13وفاة آمن َة وحالُ رسولِ الله ﷺ مع ج ِّده عبدِ المطلب بعدها
قال اب ُن إسحاق :وكان رسو ُل الله ﷺ مع ُأ ِّمه آمن َة بنت وهب ،وج ِّده عب ِد
المطلب بن هاش ٍم في كلاءة الله وحفظِهُ ،ينبته الله نبا ًتا حسنًا لما يري ُد به من كرامته.
ح َّدثني عبد الله بن أبي بك ِر بن محم ِد بن عمرو بن حز ٍم :أن ُأ َّم رسو ِل الله ﷺ
آمن َة ُتو ِّفيت ورسو ُل الله ﷺ اب ُن س ِّت سنين بالأبوا ِء ،بين م َّك َة والمدين ِة ،كانت قد
ق ِد َمت به على أخوالِه من بني َعد ِّي بن النجا ِرُ ،ت ِزي ُره إ َّياهم ،فماتت وهي راجع ٌة
به إلى م َّك َة.
قال اب ُن إسحاق :فكان رسو ُل الله ﷺ مع ج ِّده عب ِد الم َّطلب بن هاشم،
وكان ُيو َضع لعب ِد المطلب فِرا ٌش في ظ ِّل الكعبة ،فكان َبنوه يَجلسون حو َل فِراشه
ذلك حتى يخر َج إليه ،لا يجل ُس عليه أح ٌد من بنيه إجلا ًلا له ،قال :فكان رسو ُل الله
ﷺ يأتي وهو غلا ٌم َجف ٌر ،حتى يجلس عليه ،فيأخ َذه أعما ُمه ليؤ ِّخروه عنه ،فيقول
عب ُد المطلب ،إذا رأى ذلك منهمَ :دعوا ابني ،فوالله إن له لشأ ًنا ،ثم يُجلِ ُسه معه على
ال ِفرا ِش ،و َيمس ُح ظه َره بيده ،و َي ُس ُّره ما يراه يصن ُع.
-14وفاُة عبدِ المطلب
فل َّما بل َغ رسو ُل الله ﷺ ثماني سنين هل َك عب ُد الم َّطلب بن هاشم ،وذلك بعد
الفي ِل بثماني سنين.
مختصر السيرة النبوية|29
-15ولايةُ العَبّاس على ِسقاية زمز َم
قال اب ُن إسحاق :فلما هلك عب ُد المطل ِب بن هاشم َو ِل َي زمز َم والسقاي َة عليها
بعده العبا ُس ب ُن عب ِد المطلب ،وهو يومئ ٍذ من أحد ِث إخوتِه سناا ،فلم تز ْل إليه
حتى قام الإسلا ُم وهي بي ِده ،فأق َّرها رسو ُل الله ﷺ له على ما مضى من ِولايتِه،
فهي إلى آ ِل العبا ِس ،بولاية العبا ِس إ َّياها.
-16كفال ُة أبي طالبٍ لرسولِ الله ﷺ
فكان رسو ُل الله ﷺ بعد عب ِد المطلب مع ع ِّمه أبي طالب ،وكان عب ُد المطلب
-فيما َيزعمون -يوصي به ع َّمه أبا طال ٍب؛ وذلك لأ َّن عب َد الله أبا رسول الله ﷺ
وأبا طال ٍب أخوان لأ ٍب وأ ٍّم.
-17نزولُ أبي طالبٍ ورسولِ الله ﷺ ببَ ِح ْي َرى
قال اب ُن إسحاق :ثم إ َّن أبا طالب َخ َر َج في رك ٍب تاج ًرا إلى الشأم ،فلما ته َّيأ
للرحي ِل ،وأجمع ال َمسير صب به( )1رسو ُل الله ﷺ -فيما َيزعمونَ -فر َّق له أبو
طال ٍب وقال :والله لأخرج َّن به معي ،ولا ُيفار ُقني ،ولا أفار ُقه أب ًدا ،أو كما قال.
فخرج به معه فل َّما َن َز َل الرك ُب ُبصرى من أر ِض الشأم ،وبها راه ٌب ُيقال له:
َبحيرى في صومع ٍة له ،وكان إليه ِعل ُم أهل النصراني ِة ،ولم يزل في تلك الصومع ِة
منذ قط( )2راه ٌب ،إليه يصير عل ُمهم عن كتا ٍب فيها -فيما يزعمون -يتوارثو َنه
كاب ًرا عن كاب ٍر.
( )1صب به :مال إليه.
( )2منذ َق ُّط :أي منذ دهر.
| 31مختصر السيرة النبوية
فلما نزلوا ذلك العام ب َبحيرى وكانوا كثي ًرا ما يمرون به قبل ذلك فلا
يك ِّلمهم ولا يعر ُض َلم حتى كان ذلك العا ُم ،فلما نزلوا به قري ًبا من صومعتِه
صن َع َلم طعا ًما كثي ًرا ،وذلك -فيما يزعمون -عن شيء رآه وهو في صو َمعتِه،
َيزعمون أ َّنه رأى رسو َل الله ﷺ -وهو في صومعتِه -في الرك ِب حين أق َبلوا،
و َغمام ٌة ُتظ ُّله من بين القوم.
قال :ثم أق َبلوا ،فنزلوا في ظِ ِّل شجر ٍة قري ًبا منه ،فنظر إلى الغمام ِة حين أظ َّلت
الشجر َة ،و َت َه َّصرت( )1أغصا ُن الشجر ِة على رسو ِل الله ﷺ حتى استظ َّل تحتها،
فل َّما رأى ذلك َبحيرى نزل من صومعتِه ،ثم أرس َل إليهم ،فقال :إ ِّني قد صنع ُت
لكم طعا ًما يا معش َر قري ٍش ،فأنا أ ِح ُّب أن تح ُضوا ك ُّلكم ،صغي ُركم وكبي ُركم
وعب ُدكم و ُح ُّركم.
فقال له رجل منهم :والله يا َبحيرى إن لك لشأ ًنا اليو َم ،فما كنت تصن ُع هذا
بنا ،وقد ك َنّا نمر بك كثي ًرا ،فما شأ ُنك اليوم؟ قال له َبحيرى :صدقت ،قد كان ما
تقول ،ولكنكم ضي ٌف ،وقد أحبب ُت أن أكرمكم وأصن َع لكم طعا ًما فتأكلوا منه
ك ُّلكم.
فاجتمعوا إليه ،وتخ َّلف رسو ُل الله ﷺ من بين القو ِم ،لحدا َث ِة ِسنِّه ،في رحال
القوم تحت الشجر ِة ،فلما نظر َبحيرى في القو ِم لم ي َر ال ِّصف َة التي يع ِرف ويجد عنده،
فقال :يا معش َر ُقري ٍش ،لا يتخ َّلف َّن أح ٌد منكم عن طعامي ،قالوا له :يا َبحيرى ،ما
تخل َّف عنك أح ٌد ينبغي له أن يأت َيك إلا غلا ٌم ،وهو أحد ُث القو ِم ِسناا ،فتخلف في
رحاَ ِلم.
(َ )1ت َه َّصرت :مالت وتدلت.
مختصر السيرة النبوية|30
فقال :لا تفعلوا ،ادعوه فل َيح ُض هذا الطعا َم معكم ،قال :فقال رج ٌل من
ُقري ٍش مع القو ِم :واللا ِت وال ُع َّزى ،إن كان ل ُل ْؤ ٌم بنا أن يتخل َف اب ُن عب ِد الله بن
عب ِد الم َّطلب عن طعام ِمن بيننا ،ثم قام إليه فاحت َضن ُه وأج َلسه مع القو ِم.
فلما رآه َبحيرى جعل يل َح ُظه لح ًظا شدي ًدا وينظ ُر إلى أشيا َء من جس ِده ،قد
كان يج ُدها عن َده من صفتِه ،حتى إذا فر َغ القو ُم من طعا ِمهم وتف َّرقوا ،قام إليه
َبحيرى ،فقال له :يا غلا ُم ،أسألك بحق اللا ِت وال ُع َّزى إلا ما أخبرتني عما أسأ ُلك
عنه ،وإنما قال له َبحيرى ذلك ،لأ َّنه سمع قو َمه يَحلفون بهما.
فزعموا أن رسو َل الله ﷺ قال له :لا تسألني بال َّلات وال ُع َّزى ،فوالله ما
أبغض ُت شي ًئا ق ُّط ُبغ َضهما ،فقال له َبحيرى :فبالله إلا ما أخبر َتني عما أسأ ُلك عنه،
فقال له :س ْلني ع َّما بدا لك.
فجعل يسأ ُله عن أشيا َء من حاله في نو ِمه وهيئتِه وأمو ِره ،فجع َل رسو ُل الله
ﷺ يُخبره ،ف ُيواف ُق ذلك ما عند َبحيرى من صفتِه ،ثم نظر إلى ظهره ،فرأى خات َم
النبو ِة بين كتِفيه على مو ِضعه من صفتِه التي عن َده.
قال اب ُن إسحاق :فل َّما فر َغ ،أقبل على ع ِّمه أبي طالب ،فقال له :ما هذا الغلا ُم
منك؟ قال :ابني .قال له َبحيرى :ما هو بابنِك ،وما ينبغي َلذا الغلا ِم أن يكون
أبو ُه ح ايا ،قال :فإنه اب ُن أخي ،قال :فما فعل أبو ُه؟ قال :مات و ُأ ُّمه ُحبلى به ،قال:
ص َدق َت ،فارج ْع بابن أخيك إلى بل ِده ،وا ْح َذ ْر عليه ُو َد ،فوالله لئن رأوه وعرفوا
منه ما عرفت ل َي ْب ُغنَّه ش ارا ،فإنه كائ ٌن لابن أخيك هذا شأ ٌن عظي ٌم ،فأس ِرع به إلى
بلا ِده.
| 32مختصر السيرة النبوية
فخرج به ع ُّمه أبو طال ٍب سري ًعا حتى أقدمه م َّك َة حين فرغ من ِتارتِه
بالشأم.
ف َش َّب رسو ُل الله ﷺ ،والله تعالى َيكلؤه ويحف ُظه ويَحوطه من أقذا ِر الجاهلي ِة ،لما
يريد به من َكرامتِه ورسالته ،حتى بلغ أن كان رج ًلا ،وأفض َل قو ِمه ُمروء ًة ،وأحسنَهم
ُخل ًقا ،وأكرمهم ح َس ًبا ،وأحسنَهم ِجوا ًرا ،وأعظ َمهم ِحل ًما ،وأصد َقهم حدي ًثا،
وأع َظ َمهم أمان ًة ،وأبع َدهم من ال ُفح ِش والأخلا ِق التي ُتد ِّنس الرجا َل ،تن ُّز ًها
وتكر ًما ،حتى ما اس ُمه في قومه إلا الأمي ُن ،لمِا جم َع الله فيه من الأمو ِر الصالح ِة.
-18حديثُه ﷺ عن عصم ِة الله له في طفولتِه
وكان رسو ُل الله ﷺ -فيما ذكر لي -يُح ِّد ُث عما كان الله يحف ُظه به في ِص َغره
وأم ِر جاهليته ،أنه قال« :لقد رأي ُتني في ِغلمان قريش نن ُقل حجارة لبعض ما َيلعب
به ال ِغلما ُن ،كلنا قد َتع َّرى ،وأخذ إزا َره فجعله على رق َبته ،يحمل عليه الحجار َة ،فإ ِني
لأُقب ُل معهم كذلك و ُأدب ُر ،إذ لكمني لاكم ما أراه ،لكمة وجيعة ،ثم قالُ :ش َّد
عليك إزا َرك» قال« :فأخذ ُته وشددته ع َّل ،ثم جعلت أحم ُل الحجارة على رق َبتي
وإزاري ع َّل من بين أصحابي»(.)1
-19حربُ ال ِفجاِر
قال اب ُن هشام :فلما بل َغ رسو ُل الله ﷺ أرب َع ع َشرة سن ًة أو خم َس عشر َة سن ًة
-فيما حدثني أبو ُعبيد َة النحو ُّي ،عن أبي عمرو ب ِن ال َعلاء -هاجت حرب ال ِف َجار
بين قري ٍش ومن معهم من ِكنان َة ،وبين قيس َعيلا َن.
( )1قال السهيلي في التعليق على هذه القصة :وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في حين بنيان
الكعبة.
مختصر السيرة النبوية|33
وش ِه َد رسو ُل الله ﷺ بع َض أيامهم ،أخر َجه أعما ُمه معهم.
وقال رسو ُل الله ﷺ« :كنت ُأ َن ِب ُل على أعمامي» أي :أ ُر ُّد عليهم َنب َل عد ِّوهم
إذا رموهم بها.
-21حديثُ تزوي ِج رسولِ الله ﷺ خديجةَ
قال اب ُن هشام :فلما بل َغ رسو ُل الله ﷺ خم ًسا وعشرين سن ًة تز َّوج خديج َة
بنت خويلد.
قال اب ُن إسحا َق :وكانت خديج ُة بنت خويل ٍد امرأ ًة تاجر ًة ذات شرف
وما ٍل ،تستأجر الرجا َل في ماَلا و ُتضا ِر ُبهم إياه بشي ٍء تع ُله َلم ،وكانت قريش
قو ًما ُتا ًرا ،فلما بلغها عن رسول الله ﷺ ما بل َغها ،من ِصدق حديثِه ،و ِع َظ ِم
أمانتِه ،وكر ِم أخلاقهَ ،بعثت إليه فعر َضت عليه أن يَخ ُرج في ما ٍل َلا إلى الشأ ِم
تاج ًرا ،و ُتعطيه أفض َل ما كانت ُتعطي غي َره من التجا ِر ،مع غلا ٍم َلا ُيقال له:
َميسر ُة ،فقبِله رسو ُل الله ﷺ منها ،وخر َج في ماَلا ذلك ،وخر َج معه غلا ُمها
َميسر ُة حتى ق ِدم الشأ َم.
فنزل رسول الله ﷺ في ِظ ِّل شجرة قري ًبا من صومعة راه ٍب من ال ُّرهبان،
فا َّطلع الراهب إلى ميسر َة ،فقال لهَ :م ْن هذا الرج ُل الذي نز َل تحت هذه الشجر ِة؟
قال له َميسر ُة :هذا رجل من قري ٍش من أهل الحر ِم.
فقال له الراه ُب :ما نزل تحت هذه الشجر ِة َق ُّط إلا َنبي.
ثم با َع رسو ُل الله ﷺ ِسلعته التي خرج بها ،واشترى ما أرا َد أن َيشتر َي ،ثم
أقب َل قاف ًلا إلى م َّك َة ومعه َميسر ُة.
| 34مختصر السيرة النبوية
فكان َميسر ُة -فيما َيز ُعمون -إذا كانت اَلاجر ُة واشت َّد الح ُّر ،يرى َملكين
ُيظلانه من الشم ِس وهو يسير على َبعير ِه ،فلما قدم م َّك َة على خديج َة بماَلا ،باعت ما
جاء به ،فأض َع َف أو قري ًبا.
وحدثها َميسر ُة عن قول الراه ِب ،وعما كان يرى من إظلا ِل المَلكين إياه.
وكانت خديج ُة امرأ ًة حازم ًة شريف ًة لبيب ًة ،مع ما أرا َد الله بها من كرام ِته ،فلما
أخبرها َميسر ُة بما أخب َرها به بعثت إلى رسو ِل الله ﷺ ،فقالت له -فيما يزعمون:-
يا اب َن َع ِّم ،إني قد ر ِغب ُت فيك ل َقرابت َك ،و ِس َطتِك( )1في قومك ،وأمانتك ،و ُحس ِن
ُخلقك ،و ِصدق حديثِك.
ثم َع َر َضت عليه نف َسها ،وكانت خديج ُة يومئذ أوس َط نسا ِء قريش نس ًبا،
وأعظ َمهن شر ًفا ،وأكث َرهن ما ًلاُ ،ك ُّل قو ِمها كان حري ًصا على ذلك منها لو يقد ُر عليه.
فلما قالت ذلك لرسو ِل الله ﷺ ذك َر ذلك لأعما ِمه فخر َج معه ع ُّمه حمز ُة بن
عب ِد المطلب حتى دخل على ُخويل َد بن أس ٍد ،فخط َبها إليه ،فتز َّوجها.
قال اب ُن هشام :وأص َد َقها رسو ُل الله ﷺ عشرين َبكر ًة ،وكانت أ َّو َل امرأ ٍة
تزوجها رسو ُل الله ﷺ ،ولم يتز َّو ْج عليها غي َرها حتى ماتت .
-21أولا ُده ﷺ من خديجةَ
قال اب ُن إسحا َق :فولد ْت لرسو ِل الله ﷺ ول َده ُك َّلهم -إلا إبراهي َم:-
القاس َم ،وبه كان ُيكنى ﷺ ،والطاه َر ،والطي َب ،وزين َب ،ورقي َة ،وأ َّم كلثو ٍم،
وفاطم َة عليهم السلام.
(ِ )1س َطتك :شرفك.
مختصر السيرة النبوية|35
قال اب ُن هشام :أكب ُر بنيه :القاس ُم ،ثم الطي ُب ،ثم الطاه ُر ،وأكب ُر بناته :رقي ُة،
ثم زين ُب ،ثم ُأ ُّم كلثو َم ،ثم فاطم ُة.
قال ابن إسحا َق :فأما القاس ُم ،والطي ُب ،والطاه ُر فه َلكوا في الجاهلي ِة ،وأما
بنا ُته ف ُك ُّلهن أدركن الإسلا َم ،فأسلم َن وها َجرن معه ﷺ.
-22أُ ُمّ إبراهيمَ
قال اب ُن هشام :وأما إبراهيم فأ ُّمه ماري ُة القبطية.
عن ابن ََليع َة قال :أم إبراهي َم :مارية ُس ِّر َّي ُة النبي ﷺ التي أهداها إليه
ال ُمقوق ُس من ح َفن من كورة أن ِصنا.
| 36مختصر السيرة النبوية
[ثانيا :إرهاصات النبوة]
-1حديث خديج َة مع ورقةَ وصِدقِ نبوءة ورق َة فيه ﷺ
قال اب ُن إسحا َق :وكانت خديج ُة بنت خويل ٍد قد ذكرت لورق َة بن نوفل بن
أس ِد بن عبد ال ُع َّزى -وكان اب َن ع ِّمها ،وكان نصران ايا قد تتبع الكتب و َع ِلم من
علم الناس -ما َذكر َلا غلا ُمها َميسر ُة من قول الراه ِب ،وما كان يرى منه إذ كان
المَلكان ُيظ َّلانِه ،فقال ورق ُة :لئن كان هذا ح اقا يا خديج ُة ،إن محم ًدا لنب ُّي هذه الأمة،
وقد عرفت أنه كائ ٌن َلذه الأم ِة نبي ُينت َظر ،هذا زما ُنه ،أو كما قال.
-2حديث ُبنيان الكعبة و ُحكم رسول الله ﷺ بين ُقري ٍش في وضع الحجرِ
قال اب ُن إسحا َق :فلما بل َغ رسو ُل الله ﷺ خم ًسا وثلاثين سن ًة ،اجتمعت
قريش ل ُبنيان الكعب ِة.
فلما أجمعوا أم َرهم في هد ِمها وبنا ِئها ،قام أبو وه ِب ب ُن عمرو بن عائذ بن
عب ِد بن ِعمران بن مَخزوم -قال اب ُن هشام :عائ ُذ بن عمران بن مخزوم -فتناو َل من
الكعب ِة حج ًرا ،فو َث َب من يده ،حتى رج َع إلى مو ِض ِعه ،فقال :يا معش َر ُقري ٍش ،لا
ُتد ِخلوا في بنا ِئها من كسبِكم إلا ط ِّي ًبا ،لا يدخ ُل فيها َمه ُر َبغ ٍّي ،ولا بي ُع ر ًبا ،ولا
مظلم ُة أح ٍد من الناس.
والناس ين ِحلون هذا الكلا َم الولي َد ب َن المغير ِة ب ِن عبد الله بن عم َر بن مخزوم.
مختصر السيرة النبوية|37
قال اب ُن إسحاق :ثم إن القبائ َل من قري ٍش جمعت الحجار َة لبنا ِئهاُ ،ك ُّل قبيلة
تم ُع على حد ٍة ،ثم بنوها ،حتى بل َغ ال ُبنيا ُن موض َع الرك ِن( ،)1فاختصموا فيهُ ،ك ُّل
قبيل ٍة تريد أن تر َف َعه إلى مو ِض ِعه دون الأخرى ،حتى َتحاوزوا وتحالفوا وأع ُّدوا
للقتا ِل.
فزعم بع ُض أهل الرواية :أن أبا أمي َة ب َن المغيرة ب ِن عبد الله بن عم َر بن
مَخزوم ،وكان عامئ ٍذ أس َّن قري ٍش ُك ِّلها ،قال :يا معش َر قري ٍش ،اجعلوا بينكم فيما
تختلفون فيه أ َّو َل من يدخ ُل من باب هذا المسج ِد َيقضي بينكم فيه؛ ف َفعلوا ،فكان
أ َّو َل داخ ٍل عليهم رسو ُل الله ﷺ ،فلما رأوه قالوا :هذا الأمي ُن ،رضينا ،هذا محم ٌد،
فلما انتهى إليهم وأخبرو ُه الخب َر ،قال ﷺَ « :ه ُل َّم إ َّل ثوبا» ،ف ُأتي به ،فأخذ الرك َن
فوضع ُه فيه بي ِده ،ثم قال« :لتأ ُخ ْذ ُكل قبيل ٍة بناحي ٍة من الثو ِب ،ثم ارفعوه جميعا»
حتى إذا بلغوا به موض َع ُه ،وضعه هو بي ِده ،ثم بنى عليه.
-3إخباُر الك َّها ِن من العرب ،والأحباِر من يهودٍ ،والرهبانِ من النصارى
قال اب ُن إسحاق :وكانت الأحبا ُر من ُو ٍد ،والرهبا ُن من النصارى ،وال ُك َّها ُن
من العرب ،قد تح َّدثوا بأمر رسول الله ﷺ قب َل َمبعثِه ،لما تقار َب من زمانه.
أما الأحبا ُر من ُو ٍد ،والرهبا ُن من النصارى ،فع َّما وجدوا في ُك ُتبهم من
صفته وصفة زمانِه ،وما كان من عه ِد أنبيا ِئهم إليهم فيه.
وأما الك َّهان من العرب فأ َت ْتهم به الشياطي ُن من الج ِّن فيما تست ِر ُق من
السم ِع ،إذ كانت وهي لا تح ِجب عن ذلك بال َقذف بالنجوم.
( )1أي :موضع الحجر الأسود.
| 38مختصر السيرة النبوية
وكان الكاه ُن والكاهن ُة لا يزا ُل يق ُع منهما ِذك ُر بعض أمو ِره ،لا ُتلقي العر ُب
لذلك فيه با ًلا ،حتى بع َثه الله تعالى ،ووقعت تلك الأمو ُر التي كانوا َيذكرون؛
فع َرفوها.
فلما تقار َب أم ُر رسول الله ﷺ وح َض َمبع ُثهُ ،ح ِج َبت الشياطي ُن عن السم ِع،
و ِحيل بينها وبين المَقاع ِد التي كانت تق ُعد لاستراق السم ِع فيها ،ف ُرموا بالنجو ِم،
ف َعرفت الج ُّن أن ذلك لأم ٍر حدث من أم ِر الله في ال ِعباد.
-4إنذاُر يهو ٍد برسو ِل الله ﷺ
قال اب ُن إسحا َق :وحدثني عاصم بن ُعمر بن قتاد َة ،عن رجا ٍل من قو ِمه،
قالوا :إ َّن مما دعانا إلى الإسلا ِم -مع رحم ِة الله تعالى و ُهدا ُه لنا -لما كنا نسم ُع رجا َل
ُو ٍد ،وكنا أه َل شر ِك ،أصحا َب أوثا ٍن ،وكانوا أه َل كتاب ،عندهم عل ٌم ليس لنا،
وكانت لا تزا ُل بيننا وبينهم ُشرو ٌر ،فإذا نِلنا منهم بع َض ما يكرهون ،قالوا لنا :إنه
قد تقارب زما ُن نب ٍّي ُيبعث الآ َن نق ُت ُلكم معه قتل عا ٍد وإرم .فكنا كثي ًرا ما نسمع
ذلك منهم.
فلما بعث الل ُه رسو َله ﷺ أجبناه ،حين دعانا إلى الله تعالى ،وع َرفنا ما كانوا
يتو َّعدوننا به؛ فبا َدرناهم إليه ،فآم َّنا به ،وكفروا به ،ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيا ُت
من البقرة( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬ) [البقرة.]22:
مختصر السيرة النبوية|39
[ثالثا :من البعثة إلى الهجرة]
[أ -الدعوة السرية]
َ -1مبع ُث النب ِّي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسلي ًما
قال اب ُن إسحاق :فلما بل َغ محم ٌد رسو ُل الله ﷺ أربعي َن سن ًة بعثه الله تعالى
رحم ًة للعالمين ،وكاف ًة للنا ِس بشي ًرا ،وكان الل ُه تبارك وتعالى قد أخ َذ الميثا َق على ُك ِّل
نبي بعثه قب َله بالإيما ِن به ،وال َّتصدي ِق له ،والنص ِر له على َم ْن خالفه.
وأخذ عليهم أن ُيؤ ُّدوا ذلك إلى ُك ِّل من آمن بهم وص َّدقهم ،فأدوا ِمن ذلك
ما كان عليهم من الح ِّق فيه.
يقول الل ُه تعالى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم( :ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ
ﯞﯟﯠ) [آل عمران.]25:
-2أ َوّلُ ما بُدئَ به الرسولُ ﷺ الرؤيا الصادقةُ
قال اب ُن إسحاق :فذكر ال ُّزهر ُّي عن عرو َة بن الزبي ِر ،عن عائش َة
أنها ح َّدثته :أن أ َّو َل ما ُبد َئ به رسو ُل الله ﷺ من النُب َّو ِة ،حين أرا َد الله كرام َته
ورحم َة العبا ِد به ،الرؤيا الصادق ُة ،لا َيرى رسو ُل الله ﷺ رؤيا في نومه إلا جاءت
ك َفل ِق الصب ِح.
قالت :و َح َّب َب الله تعالى إليه الخلو َة ،فلم يكن شي ٌء أح َّب إليه من أن يخلو
وح َده.
| 41مختصر السيرة النبوية
-3تسليمُ الحجارة والشجرِ عليه ﷺ
قال اب ُن إسحا َق :عن أه ِل العلم :إن رسو َل الله ﷺ حين أراده الله بكرامتِه،
وابتدأه بالنبو ِة ،كان إذا خر َج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيو ُت و ُيفضي إلى
شعا ِب مك َة وبطون أوديتها ،فلا يم ُّر رسول الله ﷺ بحج ٍر ولا شج ٍر إلا قال:
السلا ُم عليك يا رسو َل الله.
قال :فيلتف ُت رسول الله ﷺ حو َله وعن يمينه وشمالِه وخل َفه ،فلا يرى إلا
الشج َر والحجارة ،فمكث رسو ُل الله ﷺ كذلك يرى ويسمع ما شاء الل ُه أن
يمكث ،ثم جاءه جبري ُل عليه السلام بما جاءه من كرام ِة الله ،وهو ب ِحرا ٍء في شهر
رمضان.
-4ابتداءُ نزولِ جبري َل عليه السلام
قال اب ُن إسحاق :وحدثني وه ُب بن كيسا َن مولى آل الزبير قال :سمعت
عب َد الله بن الزبي ِر وهو يقول ل ُعبيد بن ُعمير بن قتاد َة الليثي :ح ِّدثنا يا عبي ُد ،كيف
كان بد ُء ما اب ُت ِد َئ به رسو ُل الله ﷺ من النبو ِة ،حين جاءه جبري ُل عليه السلام؟
قال :فقالُ :عبي ٌد -وأنا حا ٌض يحد ُث عب َد الله ب َن الزبير و َم ْن عنده من
الناس :-كان رسو ُل الله ﷺ يُجاور( )1في ِحراء من ُك ِّل سنة شه ًرا ،وكان ذلك مما
تحنَّ َث به قري ٌش في الجاهلية .والتحنُّث :التب ُّرر.
قال اب ُن إسحاق :وحدثني وه ُب بن كيسا َن قال :قال عبي ٌد :فكان رسو ُل
الله ﷺ يُجاور ذلك الشهر من ُك ِّل سنةُ ،يطعم من جا َءه من المساكين ،فإذا قضى
( )1يُجا ِور :يعتكف.
مختصر السيرة النبوية|40
رسو ُل الله ﷺ ِجواره من شه ِره ذلك ،كان أ َّو ُل ما يبدأ به ،إذا انصرف من ِجواره
الكعب َة قبل أن يدخل بي َته ،فيطوف بها سب ًعا أو ما شاء الل ُه من ذلك ،ثم يرجع إلى
بيته ،حتى إذا كان الشه ُر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرا َمته ،من السنة
التي َبع َثه الله تعالى فيها ،وذلك الشه ُر شه ُر رمضان ،خرج رسول الله ﷺ إلى
ِحراء ،كما كان يَخرج ل ِجواره ومعه أه ُله ،حتى إذا كانت اللي َل ُة التي أكرمه الل ُه فيها
برسالتِه ،ور ِح َم العبا َد بها ،جاءه جبري ُل عليه السلام بأم ِر الله تعالى.
قال رسو ُل الله ﷺ« :فجاءني جبري ُل ،وأنا نائم ب َن َم ٍط( )1من ديبا ٍج فيه كتاب،
فقال :اقرأ» ،قال« :قلت :ما أقر ُأ؟» قال« :ف َغ َّتني( )2به حتى َظننت أنه المو ُت ،ثم
أرسلني فقال :اقر ْأ» ،قال« :قلت :ما أقرأ؟» قال« :ف َغ َّتني به حتى ظننت أنه المو ُت ،ثم
أرسلني ،فقال :اقر ْأ» ،قال« :قلت :ماذا أقرأ؟» قال« :فغ َّتني به حتى ظننت أنه المو ُت،
ثم أرسلني ،فقال :اقرأ» ،قال« :فقلت :ماذا أقر ُأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعو َد
ل بمث ِل ما صنع بي ،فقال( :ﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮆﮇﮈ
ﮉ ﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓ) [العلق.»]5-1 :
قال« :فقرأ ُتا ثم انتهى فانِص ََ ع ِني وهببت من نومي ،فكأنما ُكتب ْت في
قلبي كتابا».
قال« :فخرج ُت حتى إذا كنت في و َس ٍط من الجب ِل سمع ُت صوتا من السما ِء
يقول :يا محم ُد ،أنت رسو ُل الله ،وأنا جبري ُل» قال« :فرفع ُت رأسي إلى السما ِء أنظ ُر،
فإذا جبري ُل في صور ِة رج ٍل صاَ قدميه في أ ُف ِق السماء يقول :يا محم ُد ،أنت رسو ُل
الله ،وأنا جبري ُل».
( )1النَّ َمط :ضب من ال ُب ُسط.
(َ )2غ َّتني :شدني.
| 42مختصر السيرة النبوية
قال« :فوقفت أنظ ُر إليه فما أتق َّد ُم وما أتأ َّخ ُر ،وجعل ُت أصر َُ وجهي عنه في
آفا ِق السما ِء ،قال :فلا أنظ ُر في ناحي ٍة منها إلا رأي ُته كذلك ،فما ِزلت واقفا ما أتقدم
أمامي وما أرج ُع ورائي حتى َبع َثت خديج ُة ُرسلها في طلبي ،فبلغوا أعلى مك َة
ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ،ثم انِص ََ عني».
-5رسولُ الله ﷺ َيقُ ُصّ على خديج َة ما كان من أمر جبري َل معه
«وانِصف ُت راجعا إلى أهل حتى أتي ُت خديج َة فجلس ُت إلى ف ِخذها ُم ِضيفا
إليها( :)1فقالت :يا أبا القاس ِم ،أين كنت؟ فوالله لقد َبعث ُت ُرسل في طلبك حتى
بلغوا مك َة ورجعوا ل ،ثم حدث ُتها بالذي رأي ُت ،فقالت :أ ْب ِ ْش يا ابن ع ِم واث ُبت،
فوالذي نف ُس خديج َة بيده إني لأرجو أن تكون نب َّي هذه الأم ِة».
-6خديجةُ بين يدي ورقةَ تُح ِدّثه حدي َث رسول الله ﷺ
ثم قامت فجم َعت عليها ثيا َبها ،ثم انطل َقت إلى ورق َة ب ِن نوفل بن أسد بن
عبد ال ُع َّزى بن قصي -وهو اب ُن ع ِّمها -وكان ورقة قد تن َّصر وقرأ الكتب ،وسمع
من أه ِل التوراة والإنجيل ،فأخب َرته بما أخب َرها به رسو ُل الله ﷺ ،أنه رأى وس ِم َع،
فقال ورق ُة بن نوفلُ :ق ُّدو ٌس ُق ُّدو ٌس ،والذي نف ُس ورق َة بيده ،لئن كنت صدقتِيني
يا خديج ُة لقد جاءه النامو ُس الأكبر الذي كان يأتي موسى ،وإنه لنب ُّي هذه الأم ِة،
فقولي له :فليث ُبت.
فرجعت خديج ُة إلى رسو ِل الله ﷺ فأخبرته بقو ِل ورق َة بن َنوف ٍل ،فلما قضى
رسول الله ﷺ ِجوار ُه وانصر َف ،صن َع كما كان يصن ُع :بدأ بالكعب ِة فطاف بها،
(ُ )1م ِضي ًفا إليها :ملتص ًقا بها.
مختصر السيرة النبوية|43
فلقيه ورق ُة بن نوفل وهو يطوف بالكعب ِة فقال :يا اب َن أخي ،أخ ِبرني بما رأي َت
وسمعت ،فأخبره رسو ُل الله ﷺ.
فقال له ورق ُة :والذي نفسي بيده ،إنك لنب ُّي هذه الأم ِة ،ولقد جاءك
النامو ُس الأكب ُر الذي جاء موسى ،ول ُتك َّذ َبنَّ ْه ول ُتؤ َذ َي َّن ْه ول ُتخ َر َج َّن ْه ول ُتقا َت َلنَّ ْه ،ولئن
أنا أدركت ذلك اليوم لأنصر َّن الله نص ًرا يعل ُمه ،ثم أدنى رأسه منه ،فق َّبل
يافو َخه( ،)1ثم انصر َف رسو ُل الله ﷺ إلى منزلِه.
-7ابتدا ُء تنزيلِ القرآن
قال اب ُن إسحاق :فاب ُتد َئ رسو ُل الله ﷺ بالتنزي ِل في شه ِر رمضان ،بقول الله
( :ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ
ﮣ) [البقرة ،]521:وقال الله تعالى( :ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ) [القدر.]1-5:
قال اب ُن إسحا َق :ثم َتتا َّم الوح ُي إلى رسو ِل الله ﷺ ،وهو مؤم ٌن بالله ُمص ِّد ٌق
بما جاءه منه ،قد قبِله ب َقبولِه ،وتح َّمل منه ما حُ ِّم َله على رضا العباد وس َخطهم،
والنُّب َّوة أثقا ٌل و ُمؤن ٌة ،لا َيحملها ولا يستطي ُع بها إلا أه ُل ال ُق َّوة والعز ِم من ال ُّرسل
بعون الله تعالى وتوفيقه ،لما َيلقون من الناس وما ُي َر ُّد عليهم مما جاءوا به عن الله
سبحانه وتعالى.
قال :فمضى رسو ُل الله ﷺ على أم ِر الله ،على ما َيلقى من قو ِمه من الخلا ِف
والأذى.
( )1ال َيا ُفوخ :وسط الرأس.
| 44مختصر السيرة النبوية
-8إسلا ُم خديج َة بنتِ خُويلدٍ
وآمنت به خديج ُة بنت ُخويلد ،وص َّدقت بما جاءه من الله ،وواز َرت ُه على
أم ِره ،وكانت أ َّو َل من آمن بالله وبرسوله ،وص َّد َق بما جاء منه ،فخفف الله بذلك
عن نب ِّيه ﷺ ،لا َيسمع شي ًئا مما يكر ُهه من َر ٍّد عليه وتكذي ٍب له ،فيحزنه ذلك ،إلا
ف َّر َج الله عنه بها إذا رج َع إليهاُ ،تث ِّبته و ُتخفف عليه ،وتص ِّدقه و ُتهون عليه أم َر
الناس ،رحمها الله تعالى.
قال اب ُن إسحا َق :عن عب ِد الله بن جعف ِر بن أبي طالب قال :قال
رسو ُل الله ﷺُ « :أمرت أن أ َب ِ َش خديج َة ببي ٍت من قص ٍب ،لا صخ َب فيه ولا
نص َب».
قال اب ُن هشام :الق َص ُب هاهنا :اللؤل ُؤ المُج َّوف.
-9فترةُ الوح ِي ونزو ُل سورِة الضحى
قال اب ُن إسحا َق :ثم ف َتر الوحي عن رسول الله ﷺ فتر ًة من ذلك ،حتى َش َّق
ذلك عليه فأح َزن ُه ،فجاءه جبري ُل بسور ِة الضحىُ ،يقس ُم له ر ُّبه ،وهو الذي أكرم ُه
بما أكر َمه به ،ما و َّد َعه وما قلاه ،فقال تعالى( :ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [ال ُّضحى ]3-5:يقول :ما ص َر َمك فتر َكك ،وما أب َغضك منذ
أح َّبك( ،ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [ال ُّضحى ]0:أي :ل َما ِعندي في َمرجعك
إل َّي خي ٌر لك مما ع َّجلت لك من الكرام ِة في الدنيا( ،ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ) [ال ُّضحى ]1:من ال ُف ْل ِج في الدنيا ،والثوا ِب في الآخرة (ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ) [ال ُّضحىُ ]2-6:يع ِّرفه
الله ما ابتدأه به من كرامتِه في عاج ِل أمره ،و َمنِّه عليه في ُيتمه و َعيلتِه وضلالته،
واستنقا ِذه من ذلك ُك ِّله برحمتِه.
مختصر السيرة النبوية|45
-11ابتدا ُء فر ِض الصلاِة
قال اب ُن إسحا َق :عن عائش َة قالت :اف ُت ِر َضت الصلا ُة على رسو ِل
الله ﷺ أ َّو َل ما اف ُترضت عليه ركعتي ِن ركعتي ِن ُك َّل صلاة ،ثم إن الل َه تعالى أتمَّها في
الح ِض أرب ًعا ،وأق َّرها في السف ِر على فرضها الأ َّول ركعتين.
قال اب ُن إسحا َق :وحدثني بع ُض أه ِل العلم :أن الصلا َة حين اف ُترضت على
رسو ِل الله ﷺ ،أتاه ِجبري ُل وهو بأعلى مك َة ،فه َمز له بع ِقبه في ناحي ِة الوادي،
فان َف َجرت منه عي ٌن ،فتو َّض َأ جبري ُل عليه السلا ُم ،ورسو ُل الله ﷺ ينظ ُر إليه ،ل ُير َيه
كيف ال َّطهور للصلا ِة ،ثم تو َّض َأ رسو ُل الله ﷺ كما رأى جبري َل توض َأ ،ثم قام به
جبري ُل فصلى به ،وصلى رسو ُل الله ﷺ بصلاتِه ،ثم انصر َف ِجبري ُل عليه السلام.
َ -11تعيينُ جبري َل أوقاتِ الصلاِة للرسو ِل ﷺ
قال اب ُن إسحا َق :عن ابن عبا ٍس قال :لما اف ُتر َضت الصلا ُة على رسو ِل الله
ﷺ أتاه ِجبري ُل عليه السلام ،فص َّلى به ال ُظه َر حين مالت الشم ُس ،ثم صلى به
العص َر حين كان ظِ ُّله مث َله ،ثم صلى به المَغر َب حين غاب ِت الشم ُس ،ثم صلى به
العشا َء الآخر َة حين ذهب الشف ُق ،ثم صلى به الصب َح حين طل َع الفج ُر ،ثم جاءه
فص َّلى به الظه َر من َغ ٍد حين كان ظِ ُّله مث َله ،ثم صلى به العص َر حين كان ظِ ُّله ِمث َليه،
ثم صلى به المغر َب حين غاب ِت الشم ُس لوقتِها بالأم ِس ،ثم صلى به ال ِعشا َء الآخر َة
حين ذهب ُثل ُث اللي ِل الأ َّو ِل ،ثم صلى به الصب َح ُمسف ًرا غي َر مش ِر ٍق ،ثم قال :يا
محم ُد ،الصلا ُة فيما بين صلاتِك اليو َم وصلاتك بالأمس.
| 46مختصر السيرة النبوية
ِ -12ذكرُ أن عل َيّ بن أبي طالب أ َّولُ َذ َك ٍر أسلمَ
قال اب ُن إسحا َق :ثم كان أ َّو َل َذ َك ٍر من الناس آم َن برسو ِل الله ﷺ ،وصلى
معه وص َّد َق بما جاءه من الله تعالى :عل ُّي ب ُن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم،
ِرضوان الله وسلا ُمه عليه ،وهو يومئ ٍذ اب ُن عشر سنين.
وكان مما أنع َم الله به على عل ِّي بن أبي طال ٍب ،أنه كان في ِحج ِر رسول
الله ﷺ َقب َل الإسلا ِم.
-13إسلا ُم زي ِد بن حارث َة ثانيًا
قال اب ُن إسحا َق :ثم أسل َم زي ُد بن حارث َة بن ُشر ْحبي َل ب ِن كعب بن عبد
ال ُع َّزى بن امرئ القيس الكلب ِّي ،مولى رسول الله ﷺ ،وكان أ َّو َل َذ َكر أسل َم،
وص َّلى بع َد عل ِّي بن أبي طالب.
-14إسلا ُم أبي بكرٍ الص ِّدي ِق وشأُنه
قال ابن إسحاق :ثم أسل َم أبو بك ِر بن أبي ُقحاف َة ،واس ُمه َعتي ٌق.
قال اب ُن إسحا َق :فلما أسل َم أبو بك ٍر :أظه َر إسلا َمه ،ودعا إلى الله
وإلى رسولِه.
وكان أبو بك ٍر رج ًلا َمأل ًفا لقو ِمه ،مُح َّب ًبا سه ًلا ،وكان أنس َب قريش ل ُقري ٍش،
وأعل َم قري ٍش بها ،وبما كان فيها من خي ٍر و َش ٍّر ،وكان رج ًلا تاج ًرا ،ذا ُخل ٍق
و َمعرو ٍف ،وكان رجا ُل قومه يأتون ُه ويألفونه لغي ِر واح ٍد من الأمر ،ل ِعلمه و ِتارتِه
وحس ِن جُلالستِه ،فجع َل يدعو إلى الله وإلى الإسلا ِم من َوثِ َق به من قو ِمه ،ممن
َيغشاه ويَجل ُس إليه.
مختصر السيرة النبوية|47
ِ -15ذ ْكرُ من أسلمَ من الصحابةِ بدعوِة أبي بكرٍ
قال :فأسل َم بدعا ِئه -فيما بلغني -عثما ُن بن ع َّفان ،والزبي ُر بن العوا ِم،
وعب ُد الرحمن بن عو ٍف ،وسع ُد بن أبي و َّقاص ،وطلح ُة بن ُعبيد الله ،فجاء بهم إلى
رسو ِل الله ﷺ حين استجابوا له فأس َلموا و َصلوا ،وكان رسو ُل الله ﷺ يقو ُل -
فيما بلغني« :-ما دعو ُت أحدا إلى الإسلا ِم إلا كانت فيه عنده َكبوة ،و َنظر وتردد،
إلا ما كان من أبي بك ِر بن أبي ُقحاف َة ،ما َع َك َم عنه حين ذكر ُته له ،وما تر َّد َد فيه».
قال اب ُن هشا ٍم :قولهَ :ع َك َمَ :تل َّب َث.
ثم أسلم أبو ُعبيد َة ب ُن الجرا ِح ،وأبو سلم َة ،والأرق ُم بن أبي الأرق ِم ،وعثما ُن
بن َمظعو ٍن ،وأخواه ُقدام ُة وعب ُد الله ابنا مظعون ،و ُعبيد ُة بن الحار ِث ،وسعي ُد بن
زي ِد بن عمرو ،وامرأ ُته فاطم ُة بنت الخطا ِب ،وأسما ُء بنت أبي بك ٍر ،وعائش ُة بنت
أبي بك ٍر ،وهي يومئ ٍذ صغير ٌة ،وخ َّباب بن الأ َر ِّت.
قال اب ُن إسحا َق :و ُعمي ُر بن أبي و َّقاص ،أخو سعد بن أبي وقا ٍص ،وعب ُد الله
ب ُن مسعود ،ومسعو ُد بن القاري.
| 48مختصر السيرة النبوية
[ب -الدعوة الجهرية]
-1مباداُة رسولِ الله ﷺ قومَه ،وما كان منهم
قال اب ُن إسحا َق :ثم دخل النا ُس في الإسلام أرسالا من الرجا ِل والنساء،
حتى فشا ِذك ُر الإسلا ِم بمك َة ،و ُت ُح ِّدث به ،ثم إن الله أم َر رسو َله ﷺ أن
يصد َع بما جاءه منه ،وأن ُيبادي النا َس بأم ِره ،وأن يدعو إليه ،وكان بين ما أخفى
رسو ُل الله ﷺ أم َره واس َت َت َر به إلى أن أم َره الله تعالى بإظها ِر دينِه ثلا ُث سنين -فيما
بلغني -من مبعثِه ،ثم قال الله تعالى له( :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)
[ال ِحجر ،]20:وقال تعالى( :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ) [الشعراء.]556-550:
قال اب ُن إسحا َق :وكان أصحا ُب رسو ِل الله ﷺ إذا صلوا ،ذهبوا في
الشعا ِب ،فاستخ َفوا بصلاتِهم من قو ِمهم ،فبينا سع ُد بن أبي وقا ٍص في نف ٍر من
أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ في ِشع ٍب من شعاب م َّك َة ،إذ ظه َر عليهم نف ٌر من
المشركين وهم ُيص ُّلون ،فنا َكروهم ،وعابوا عليهم ما َيصنَعون حتى قا َتلوهم،
فض َب سع ُد بن أبي وقا ٍص يومئ ٍذ رجلا من المشركين بِ َلحي بعي ٍر()1؛ فش َّجه،
فكان أ َّو َل د ٍم ُهري َق في الإسلا ِم.
قال اب ُن إسحا َق :فلما بادى رسو ُل الله ﷺ قو َمه بالإسلا ِم وصد َع به كما
أم َر ُه الل ُه ،لم يبعد منه قو ُمه ،ولم ير ُّدوا عليه -فيما بلغني -حتى َذ َك َر آَل َتهم وعا َبها،
فلما فعل ذلك أع َظموه ونا َكروه ،وأجمعوا خلا َفه و َعداو َته ،إلا من عص َم اللهُ تعالى
منهم بالإسلا ِم ،وهم قلي ٌل ُمس َتخفون.
( )1بِ َلحي بعير :تثنية لحي واللحي هو العظم الذي عليه الخد.
مختصر السيرة النبوية|49
و َح ِدب( )1على رسول الله ﷺ ع ُّمه أبو طال ٍب ،ومنعه وقام دو َنه ،ومضى
رسو ُل الله ﷺ على أم ِر اللهُ ،مظه ًرا لأم ِره ،لا ير ُّده عنه شيء ،فلما رأت قري ٌش ،أن
رسو َل الله ﷺ لا يعتِ ُبهم من شي ٍء( )2أنكرو ُه عليه ،من فرا ِقهم و َعيب آَلتِهم،
ورأوا أن ع َّمه أبا طال ٍب قد َح ِدب عليه ،وقام دو َنه ،فلم ُيسلِمه َلم ،مشى رجا ٌل
من أشرا ِف قري ٍش إلى أبي طال ٍب :عتب ُة وشيب ُة ابنا ربيع َة بن عبد شم ٍس ،وأبو
سفيا َن ب ُن حر ٍب ،وأبو ال َبختري ،والأسو ُد بن الم َّطلب ،والولي ُد بن المغيرة ،و ُنبيه
و ُمنبه ابنا الحجاج بن عامر ،والعا ُص بن وائل ،أو من مشى منهم.
فقالوا :يا أبا طالب ،إن ابن أخيك قد س َّب آَل َتنا ،وعا َب دينَنا ،وس َّفه
أحلا َمنا ،وض َّلل آبا َءنا ،فإما أن تك َّفه عنا ،وإما أن ُتخ ِّل َي بيننا وبينه ،فإنك على مث ِل
ما نحن عليه من خلافِه ،ف َنكفي َك ُه.
فقال َلم أبو طالب قو ًلا رفي ًقا ،وردهم ر ًدا جمي ًلا ،فانصرفوا عنه.
ومضى رسو ُل الله ﷺ على ما هو عليهُ ،يظه ُر دي َن الله ،ويدعو إليه ،ثم
َش َرى( )3الأم ُر بينه وبينَهم حتى تبا َع َد الرجا ُل و َتضا َغنوا( ،)4وأكثرت قري ٌش ِذك َر
رسو ِل الله ﷺ بينها ،ف َتذا َمروا( )5فيه ،وح َّض بع ُضهم بع ًضا عليه ،ثم إنهم مشوا
إلى أبي طال ٍب م َّر ًة أخرى.
(َ )1ح ِدب :حدب على فلان إذا كان عاط ًفا عليه ومان ًعا له.
( )2لا يعتِ ُبهم من شيء :أي لا يرضيهم.
(َ )3ش َرى :كثر.
(َ )4تضا َغنوا :تعادوا.
(َ )5تذا َمروا :أي حض بعضهم بع ًضا.