The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by Syuhada Ibrahim, 2020-12-15 08:28:41

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

‫‪ | 51‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فقالوا له‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إن لك سناا وشر ًفا ومنزل ًة فينا‪ ،‬وإنا قد استنهيناك‬
‫من ابن أخيك فلم َتنْ َهه عنا‪ ،‬وإنا والله لا َنصب ُر على هذا من َش ْت ِم آبائنا‪ ،‬وتسفيه‬
‫أحلا ِمنا‪ ،‬و َعي ِب آَلتنا‪ ،‬حتى ت ُك َّفه عنا‪ ،‬أو نناز ُله وإياك في ذلك‪ ،‬حتى ُل َك أح ُد‬

‫الفريقين‪ ،‬أو كما قالوا له‪.‬‬
‫ثم انصرفوا عنه‪ ،‬ف َع ُظم على أبي طالب فرا ُق قومه وعداو ُتهم‪ ،‬ولم ي ِطب نف ًسا‬

‫بإسلا ِم رسو ِل الله ﷺ َلم ولا ِخذلانِه‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني يعقو ُب بن عتب َة ب ِن المغيرة بن الأخن ِس أنه‬
‫ُح ِّدث‪ :‬أن قري ًشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقال َة‪ ،‬بعث إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال‬
‫له‪ :‬يا اب َن أخي‪ ،‬إن قو َمك قد جاءوني‪ ،‬فقالوا لي كذا وكذا ‪-‬للذي كانوا قالوا له‪-‬‬

‫فأ ْب ِق عل َّي وعلى نف ِسك‪ ،‬ولا ُتح ِّملني من الأم ِر ما لا أطي ُق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فظن رسو ُل الله ﷺ أنه قد بدا ل َع ِّمه فيه َبدا ًء أنه خاذ ُله و ُمسل ُمه‪ ،‬وأنه‬

‫قد ضع َف عن ُنصرتِه والقيا ِم معه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا َع ِم‪ ،‬والله لو َوضعوا الشم َس في يميني‪،‬‬
‫والقم َر في َيساري على أن أت ُر َك هذا الأم َر حتى ُيظه َره اللهُ‪ ،‬أو أهلِك فيه‪ ،‬ما‬

‫ترك ُته»‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم استع َبر رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فبكى ثم قا َم‪ ،‬فلما و َّلى ناداه أبو طال ٍب فقال‪:‬‬
‫أقب ْل يا اب َن أخي‪ ،‬قال‪ :‬فأقب َل عليه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب يا اب َن أخي‪ ،‬ف ُقل‬

‫ما أحبب َت؛ فوالله‪ ،‬لا ُأسل ُمك لشيء أب ًدا‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن قري ًشا حين عرفوا أن أبا طال ٍب قد أبى ِخذلان‬
‫رسو ِل الله ﷺ وإسلا َمه‪ ،‬وإجماعه لفرا ِقهم في ذلك وعداوتِهم‪ ،‬مشوا إليه ب ُعمار َة‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪50‬‬

‫بن الولي ِد بن ال ُمغيرة‪ ،‬فقالوا له ‪-‬فيما بلغني‪ :-‬يا أبا طالب‪ ،‬هذا ُعمارة بن الوليد‪،‬‬
‫َأنْهَ ُد(‪ )1‬ف ًتى في قريش وأجم ُله‪ ،‬فخذه ف َلك عق ُله ونص ُره‪ ،‬واتخذه ول ًدا فهو لك‪،‬‬
‫وأسلِم إلينا اب َن أخيك هذا‪ ،‬الذي قد خال َف دي َنك ودي َن آبائك‪ ،‬وف َّرق جماع َة‬

‫قومك‪ ،‬وس َّفه أحلامهم‪ ،‬فنق ُتله‪ ،‬فإنما هو رج ٌل برج ٍل‪.‬‬
‫فقال‪ :‬والله لبئس ما َتسومونني(‪ !)2‬أ ُتعطونني ابنَكم أغ ُذوه لكم‪ ،‬وأعطيكم‬

‫ابني تقتلو َنه! هذا والله ما لا يكون أب ًدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال المُطعم بن عدي بن َنوفل بن عب ِد مناف بن ُقصي‪ :‬والله يا أبا‬
‫طال ٍب لقد أنص َفك قو ُمك‪ ،‬وجهدوا على التخ ُّلص مما تكر ُهه‪ ،‬فما ُأراك تري ُد أن‬

‫تقب َل منهم شي ًئا!‬
‫فقال أبو طالب لل ُمطعم‪ :‬والله ما أنصفوني‪ ،‬ولكنَّك قد أجمع َت ِخذلاني‬

‫و ُمظاهر َة القو ِم عل َّي‪ ،‬فاصنع ما بدا لك‪ ،‬أو كما قال‪.‬‬
‫ف َح َق َب(‪ )3‬الأم ُر‪ ،‬وحَمِيت الحر ُب‪ ،‬وتنا َب َذ القو ُم‪ ،‬وبادى بع ُضهم بع ًضا‪.‬‬

‫‪ِ -2‬ذك ُر ما َفتنت به قريشٌ المؤمنين وع َذّبتهُم على الإيما ِن‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن قري ًشا تذامروا بينهم على من في القبائ ِل منهم من‬
‫أصحا ِب رسول الله ﷺ الذين أسلموا معه‪ ،‬فو َثبت ُك ُّل قبيل ٍة على َم ْن فيهم من‬
‫المسلمين ُيع ِّذبونَهم‪ ،‬و َيفتِنونهم عن ِدينِهم‪ ،‬ومن َع الله رسو َله ﷺ منهم بع ِّمه أبي‬
‫طالب‪ ،‬وقد قام أبو طالب حين رأى قري ًشا يصنعون ما يصنعون في َبني هاش ٍم‬

‫(‪َ )1‬أنْهَد‪ :‬أشد وأقوى‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ت ُسو ُمو َننِي‪ :‬تكلفونني‪.‬‬

‫(‪َ )3‬ح َق َب‪ :‬زاد واشتد‪.‬‬

‫‪ | 52‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وبني الم َّطلب‪ ،‬فدعاهم إلى ما هو عليه‪ ،‬من َمنع رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬والقيا ِم دو َنه‪،‬‬
‫فاجتمعوا إليه‪ ،‬وقاموا معه‪ ،‬وأجابوه إلى ما دعاهم إليه‪ ،‬إلا ما كان من أبي ََل ٍب‪،‬‬

‫عد ِّو الله الملعو ِن‪.‬‬
‫‪َ -3‬تحُّيرُ الوليدِ بن المغيرة فيما َيصفُ به القرآ َن‬

‫ثم إن الولي َد بن المغير َة اجتمع إليه نف ٌر من قري ٍش‪ ،‬وكان ذا س ٍّن فيهم‪ ،‬وقد‬
‫حض الموس ُم فقال َلم‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إنه قد ح َض هذا الموس ُم‪ ،‬وإن وفو َد‬
‫العرب س َتق َدم عليكم فيه‪ ،‬وقد سمعوا بأم ِر صاحبكم هذا‪ ،‬فأجمعوا فيه رأ ًيا‬

‫واح ًدا‪ ،‬ولا تختلفوا ف ُيك ِّذ َب بع ُضكم بع ًضا‪ ،‬و َير َّد قو ُلكم بع ُضه بع ًضا‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فأنت يا أبا عبد شمس‪ ،‬فق ْل وأقم لنا رأ ًيا نقو ُل به‪ ،‬قال‪ :‬بل أنتم‬
‫فقولوا أ ْس َم ْع‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬نقو ُل كاه ٌن‪.‬‬
‫قال‪ :‬لا والله ما هو بكاه ٍن‪ ،‬لقد رأينا الك َّها َن فما هو بزمزم ِة الكاه ِن ولا‬

‫سج ِعه‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬جلنو ٌن‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هو بمجنو ٍن‪ ،‬لقد رأينا الجنو َن وعرفناه‪ ،‬فما هو بخن ِقه‪ ،‬ولا َتخال ُِجه‪،‬‬

‫ولا وسوستِه‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬شاع ٌر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هو بشاع ٍر‪ ،‬لقد عرفنا الشع َر ك َّله ر َج َزه وه َزجه و َقري َضه و َمقبو َضه‬

‫و َمبسو َطه‪ ،‬فما هو بالشعر‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪53‬‬

‫قالوا‪ :‬فنقول‪ :‬ساح ٌر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هو بساح ٍر‪ ،‬لقد رأينا السحار وسح َرهم‪ ،‬فما هو بنفثِهم ولا‬

‫عق ِدهم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فما نقول يا أبا عب ِد شمس؟‬
‫قال‪ :‬والله‪ ،‬إن لقولِه لحلاو ًة‪ ،‬وإن أص َله ل َعذ ٌق(‪ ،)1‬وإن ف َرعه لجنا ٌة‪ ،‬وما أنتم‬
‫بقائلين من هذا شي ًئا إلا ُعرف أنه باط ٌل‪ ،‬وإن أقر َب القول فيه‪َ :‬لأَن تقولوا‪ :‬هو‬
‫ساح ٌر‪ ،‬جاء بقول هو سح ٌر يف ِّرق به بين المر ِء وأبيه‪ ،‬وبين المر ِء وأخيه‪ ،‬وبين المر ِء‬

‫وزوجته‪ ،‬وبين المرء وعشيرتِه‪.‬‬
‫فتف َّرقوا عنه بذلك‪ ،‬ف َجعلوا يَجلسون ب ُسب ِل الناس حين ق ِدموا الموسم‪ ،‬لا‬

‫يم ُّر بهم أح ٌد إلا ح َّذروه إياه‪ ،‬وذكروا َلم أم َره‪.‬‬
‫فأنزل الل ُه تعالى في الولي ِد بن المغير ِة وفي ذلك من قوله‪( :‬ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ‬
‫ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ‬
‫ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ‬

‫ﭱﭲﭳﭴﭵ) [الم َّدثر‪.]51-55:‬‬
‫‪ -4‬انتشارُ ذك ِر الرسو ِل في القبائلِ‪ ،‬ولا سَيّما في الأو ِس والخزر ِج‬
‫فلما انتش َر أم ُر رسول الله ﷺ في العر ِب‪ ،‬وبلغ ال ُبلدان‪ُ ،‬ذكِ َر بالمدينة‪ ،‬ولم يكن‬
‫حي من العر ِب أعل َم بأم ِر رسول الله ﷺ حين ُذكِ َر وقبل أن ُيذك َر من هذا الح ِّي‬

‫(‪ )1‬ال َع ْذق‪ :‬النخلة‪.‬‬

‫‪ | 54‬مختصر السيرة النبوية‬

‫من الأو ِس والخزر ِج‪ ،‬وذلك لما كانوا َيسمعون من أحبا ِر اليهود‪ ،‬وكانوا َلم‬
‫ُحلفا َء‪ ،‬ومعهم في بلا ِدهم‪.‬‬

‫‪ِ -5‬ذكر ما لقِ َي رسولُ الله ﷺ من قوِمه‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن قري ًشا اشتد أم ُرهم للشقا ِء الذي أصا َبهم في َعداو ِة‬
‫رسو ِل الله ﷺ ومن أس َل َم معه منهم‪ ،‬فأغ َروا برسو ِل الله ﷺ ُسفها َءهم‪ ،‬فك َّذبوه‬
‫وآذوه‪ ،‬ورموه بالشع ِر والسحر والكها َن ِة والجنو ِن‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ ُمظه ٌر لأم ِر الله‬
‫لا َيستخفي به‪ُ ،‬مبا ٍد َلم بما َيكرهون من َعيب ِدينهم‪ ،‬واعتزا ِل أوثانِهم‪ ،‬وفِراقه‬

‫إياهم على ُكف ِرهم‪.‬‬

‫‪ -6‬إسلامُ حمزَة ‪‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬حدثني رج ٌل من أسل َم‪ ،‬كان واعي ًة‪ :‬أن أبا جهل َم َّر‬
‫برسو ِل الله ﷺ عند الصفا‪ ،‬فآذاه وش َتمه‪ ،‬ونال منه بع َض ما يكر ُه من العي ِب‬
‫لدينه‪ ،‬والتضعي ِف لأم ِره‪ ،‬فلم يك ِّلمه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ومولا ٌة لعبد الله بن ُجدعان‬
‫في َمسك ٍن َلا َتسم ُع ذلك‪ ،‬ثم انصرف عنه فعم َد إلى نا ٍد من قري ٍش عند الكعبة‪،‬‬

‫فجلس معهم‪.‬‬

‫فلم يلب ْث حمز ُة بن عبد الم َّطلب ‪ ‬أن أقبل ُمتو ِّش ًحا قو َسه‪ ،‬راج ًعا من‬
‫قن ٍص له‪ ،‬وكان صاح َب قن ٍص يرميه ويخرج له‪ ،‬وكان إذا رجع من َقن ِصه لم يصل‬
‫إلى أهلِه حتى يطو َف بالكعب ِة‪ ،‬وكان إذا فعل ذلك لم يم َّر على نا ٍد من قري ٍش إلا‬

‫وقف وس َّلم وتحدث معهم‪ ،‬وكان أع َّز ف ًتى في قريش‪ ،‬وأش َّد شكيم ًة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪55‬‬

‫فلما م َّر بالمولاة ‪-‬وقد رج َع رسو ُل الله ﷺ إلى بيتِه‪ -‬قالت له‪ :‬يا أبا ُعمارة‪ ،‬لو‬
‫رأيت ما لقي اب ُن أخيك محم ٌد آن ًفا من أبي الحكم بن هشام‪ ،‬وج َده هاهنا جال ًسا‬

‫فآذاه وس َّبه‪ ،‬وبل َغ منه ما يكر ُه‪ ،‬ثم انصرف عنه ولم يك ِّلمه محم ٌد ﷺ‪.‬‬
‫فاحتمل حمز َة الغض ُب لما أرا َد الله به من كرامتِه‪ ،‬فخرج يسعى ولم يق ْف على‬
‫أح ٍد‪ُ ،‬م ِع ادا لأبي جهل إذا لقيه أن ُيوق َع به‪ ،‬فلما دخل المسج َد نظ َر إليه جال ًسا في‬
‫القو ِم‪ ،‬فأقبل نح َوه حتى إذا قا َم على رأسه رف َع القو َس فض َبه بها فش َّجه شج ًة‬

‫ُمنكر ًة‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أتشتِمه وأنا على دينِه أقو ُل ما يقول؟ فر َّد ذلك عل َّي إن استطعت‪.‬‬
‫فقامت رجا ٌل من بني مَخزوم إلى حمز َة لينصروا أبا جه ٍل‪ ،‬فقال أبو جه ٍل‪:‬‬

‫دعوا أبا ُعمارة‪ ،‬فإني والله قد سبب ُت اب َن أخيه س ابا قبي ًحا‪.‬‬
‫وت َّم حمز ُة ‪ ‬على إسلا ِمه‪ ،‬وعلى ما تا َبع عليه رسو َل الله ﷺ من قولِه‪.‬‬

‫فلما أسل َم حمز ُة عرفت قري ٌش أن رسو َل الله ﷺ قد ع َّز وامتن َع‪ ،‬وأن حمز َة‬
‫سيمن ُعه‪ ،‬فك ُّفوا عن بع ِض ما كانوا َينالون منه‪.‬‬

‫‪ -7‬قولُ عتب َة بن ربيعةَ في أمرِ رسولِ الله ﷺ‬
‫قال اب ُن إسحاق‪ :‬وحدثني يزي ُد بن زيا ٍد‪ ،‬عن محمد بن كعب ال ُقرظي قال‪ُ :‬ح ِّدثت‬
‫أن عتب َة بن ربيع َة ‪-‬وكان س ِّي ًدا‪ -‬قال يو ًما وهو جالس في نادي قريش ‪-‬ورسو ُل الله ﷺ‬
‫جال ٌس في المسج ِد وح َده‪ :-‬يا معش َر ُقري ٍش‪ ،‬ألا أقو ُم إلى محمد فأك ِّلمه وأعر َض عليه‬
‫أمو ًرا لعله يقب ُل بع َضها فنعطيه أ َُّا شاء‪ ،‬ويك َّف عنا؟ ‪-‬وذلك حين أسلم حمز ُة‪،‬‬

‫‪ | 56‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ورأوا أصحا َب رسول الله ﷺ يزيدون و َيك ُثرون‪ -‬فقالوا‪ :‬بلى يا أبا الوليد‪ُ ،‬ق ْم إليه‬
‫فك ِّل ْمه‪.‬‬

‫فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا اب َن أخي‪ ،‬إنك منَّا‬
‫حيث قد علم َت من ال ِّس َط ِة في العشيرة‪ ،‬والمكان في النس ِب‪ ،‬وإنك قد أتي َت قو َمك‬
‫بأم ٍر عظيم ف َّرق َت به جماع َتهم وس َّفهت به أحلا َمهم و ِعبت به آَلتهم ودينهم‬
‫وك َّفرت به من مضى من آبا ِئهم‪ ،‬فاس َم ْع مني أعر ْض عليك أمو ًرا تنظر فيها لعلك‬

‫تقب ُل منها بع َضها‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬قل يا أبا الوليد‪ ،‬أسم ُع»‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا اب َن أخي‪ ،‬إن كنت إنما ُتريد بما جئ َت به من هذا الأم ِر ما ًلا جَمعنا لك‬
‫من أموالنا حتى تكو َن أكثرنا ما ًلا‪ ،‬وإن كنت ُتريد به شر ًفا س َّودناك علينا‪ ،‬حتى لا‬
‫نقط َع أم ًرا دونك‪ ،‬وإن كنت ُتريد به ُمل ًكا م َّلكناك علينا‪ ،‬وإن كان هذا الذي يأتيك‬
‫َر ِئ ايا تراه لا َتستطيع ر َّده عن نف ِسك‪ ،‬طلبنا لك ال ِّط َّب‪ ،‬وبذلنا فيه أموالنا حتى‬

‫ُنبر َئك منه‪ ،‬فإنه ربما غلب التاب ُع على الرج ِل حتى ُيداوى منه‪ .‬أو كما قال له‪.‬‬

‫حتى إذا فرغ ُعتب ُة‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ يستم ُع منه‪ ،‬قال‪« :‬أقد فرغ َت يا أبا‬
‫الوليد؟»‬

‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال‪« :‬فاس َم ْع منِي»‪.‬‬

‫قال‪ :‬أفع ُل‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪57‬‬

‫فقال‪« :‬بس ِم الله الرحم ِن الرحي ِم‪( ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ‬

‫ﭦﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ) [ ُف ِّص َلت‪.»]1-5:‬‬

‫ثم مضى رسو ُل الله ﷺ فيها َيقرؤها عليه‪.‬‬
‫فلما َس ِمعها منه ُعتب ُة أنص َت َلا‪ ،‬وألقى يديه خل َف ظه ِره ُمعتم ًدا عليهما‬
‫يسمع منه‪ ،‬ثم انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى السجد ِة منها‪ ،‬فس َج َد ثم قال‪« :‬قد سمع َت‬

‫يا أبا الوليد ما سمع َت‪ ،‬فأنت وذاك»‪.‬‬

‫فقام عتب ُة إلى أصحابِه‪ ،‬فقال بع ُضهم لبع ٍض‪ :‬نحل ُف بالله لقد جاءكم أبو‬
‫الوليد بغي ِر الوجه الذي ذهب به‪.‬‬

‫فل َّما جلس إليهم قالوا‪ :‬ما ورا َءك يا أبا الوليد؟‬
‫قال‪ :‬ورائي أني قد َس ِمعت قولا والله ما سمع ُت مث َله قط‪ ،‬والله ما هو‬
‫بالشعر‪ ،‬ولا بالسحر‪ ،‬ولا بال َكهانة‪ ،‬يا معش َر قريش‪ ،‬أطيعوني واجعلوها بي‪،‬‬
‫وخ ُّلوا بين هذا الرج ِل وبين ما هو فيه فاعت ِزلوه‪ ،‬فوالله ليكون َّن لقوله الذي‬
‫سمع ُت منه نب ٌأ عظي ٌم‪ ،‬فإن ُتصبه العرب فقد ُكفيتموه بغي ِركم‪ ،‬وإن يظهر على‬

‫العر ِب ف ُملكه ُملككم‪ ،‬و ِع ُّزه ِع ُّزكم‪ ،‬وكنتم أسع َد النا ِس به‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬سح َرك والله يا أبا الوليد بلسانِه‪.‬‬

‫قال‪ :‬هذا رأيي فيه‪ ،‬فاصنعوا ما بدا لكم‪.‬‬

‫‪ | 58‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن الإسلا َم جعل َيفشو بم َّك َة في قبائل ُقريش في‬
‫الرجا ِل والنساء‪ ،‬وقري ٌش تحبس من قدرت على حب ِسه‪ ،‬وتف ِتن من استطاعت فتن َته‬

‫من المسلمين‪.‬‬

‫‪ -8‬استكبارُ قريشٍ عن أن يؤمنوا بالرسو ِل ﷺ‬

‫فلما جا َءهم رسو ُل الله ﷺ بما َعرفوا من الح ِّق‪ ،‬وعرفوا صد َقه فيما ح َّدث‪،‬‬
‫وموق َع نبوته فيما جا َءهم به من عل ِم ال ُغيوب حين سألوه ع َّما سألوا عنه‪ ،‬حال‬
‫الح َس ُد منهم له بينهم وبين ا ِّتباعه وتصديقه‪ ،‬ف َع َتوا على الله وتركوا أم َره َعيا ًنا‪،‬‬
‫ول ّجُوا فيما هم عليه من الكف ِر‪ ،‬فقال قائلهم‪( :‬ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ) [ ُف ِّص َلت‪ ،]56:‬أي‪ :‬اجعلوه لغ ًوا وباط ًلا‪ ،‬وا َّت ِخذوه ُهزوا لعلكم تغلبو َنه‬

‫بذلك‪ ،‬فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يو ًما غلبكم‪.‬‬
‫‪ِ -9‬ذك ُر الهجرةِ الأولى إلى أرضِ الحبش ِة‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما رأى رسو ُل الله ﷺ ما يصي ُب أصحا َبه من البلا ِء‪ ،‬وما‬
‫هو فيه من العافية‪ ،‬بمكانِه من الله ومن ع ِّمه أبي طال ٍب‪ ،‬وأنه لا يقد ُر على أن يمن َعهم‬
‫مما هم فيه من البلا ِء‪ ،‬قال َلم‪« :‬لو خرج ُتم إلى أر ِض الحبشة؛ فإن بها َملِكا لا ُيظلم‬

‫عنده أحد‪ ،‬وهي أرض صد ٍق‪ ،‬حتى يجع َل الله لكم فرجا مما أنتم فيه»‪.‬‬
‫فخرج عند ذلك المسلمون من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ إلى أر ِض الحبش ِة؛‬

‫مخاف َة الفتنة‪ ،‬وفِرا ًرا إلى الله بدينِهم‪ ،‬فكانت أ َّو َل هجر ٍة كانت في الإسلا ِم‪.‬‬

‫وكان أ َّو َل من خرج من المسلمين‪ :‬عثما ُن بن عفا َن بن أبي العاص بن أم َّية‬
‫معه امرأ ُته رقي ُة بنت رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وأبو ُحذيف َة بن عتب َة بن ربيعة بن عب ِد شمس‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪59‬‬

‫معه امرأ ُته‪ :‬سهلة بنت ُسهيل بن عمرو‪ ،‬والزبي ُر بن العوا ِم‪ ،‬و ُمصع ُب بن عمير‪،‬‬
‫وعب ُد الرحمن بن عوف‪ ،‬وأبو سلم َة بن عبد الأسد معه امرأ ُته ُأ ُّم سلمة بنت أبي‬
‫أمية‪ ،‬وعثما ُن بن َمظعو ٍن‪ ،‬وعام ُر بن ربيع َة معه امرأ ُته ليلى بنت أبي َحثم َة‪ ،‬وأبو‬

‫سبر َة بن أبي ُره ٍم و ُسهيل ابن بيضاء‪.‬‬
‫فكان هؤلاء العشر ُة أ َّو َل من خرج من المسلمين إلى أر ِض الحبش ِة‪ ،‬فيما‬

‫بلغني‪.‬‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وكان عليهم عثما ُن بن َمظعو ٍن‪ ،‬فيما ذكر لي بع ُض أهل‬

‫العلم‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم خرج جعف ُر بن أبي طال ٍب ‪ ،‬وتتابع المسلمون‬
‫حتى اجتمعوا بأر ِض الحبش ِة‪ ،‬فكانوا بها‪ ،‬منهم من خرج بأه ِله معه‪ ،‬ومنهم من‬

‫خرج بنف ِسه لا أه َل له معه‪.‬‬
‫‪ -11‬إرسا ُل قري ٍش إلى الحبشة في طلب الُمهاجرين إليها‬
‫قال اب ُن إسحاق‪ :‬عن ُأ ِّم سلمة قالت‪ :‬لما نزلنا أر َض الحبشة‪ ،‬جاورنا بها خي َر‬
‫جار‪ :‬النجاش َّي‪ ،‬أ ِمنَّا على ديننا‪ ،‬وعبدنا الل َه تعالى لا ُنؤذى ولا نسم ُع شي ًئا نكرهه‪،‬‬
‫فلما بلغ ذلك ُقري ًشا‪ ،‬ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاش ِّي فينا رجلين منهم‬
‫ج ْلدين‪ ،‬وأن ُُدوا للنجاشي هدا َيا مما ُيستطر ُف من متا ِع م َّك َة‪ ،‬وكان من أعج ِب‬
‫ما يأتيه منها الأ َد ُم(‪ ،)1‬فجمعوا له أد ًما كثي ًرا‪ ،‬ولم يتركوا من بطارقته بِطري ًقا إلا‬

‫أهدوا له هدي ًة‪.‬‬

‫(‪ )1‬الأ َدم‪ :‬الجلود‪.‬‬

‫‪ | 61‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ثم بعثوا بذلك عب َد الله بن أبي ربيع َة‪ ،‬وعم َرو بن العاص‪ ،‬وأمروهما‬
‫بأمرهم‪ ،‬وقالوا َلما‪ :‬ادفعا إلى ُك ِّل بِطري ٍق هد َّي َته قبل أن ُتكلما النجاش َّي فيهم‪ ،‬ثم‬

‫ق ِّدما إلى النجاشي هداياه‪ ،‬ثم سلاه أن ُيس ِل َمهم إليكما قبل أن ُيك ِّلمهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فخرجا حتى ق ِدما على النجاش ِّي‪ ،‬ونحن عنده بخي ِر دا ٍر‪ ،‬عند خير‬
‫جا ٍر‪ ،‬فلم يب َق من بطارقته بِطري ٌق إلا دفعا إليه هدي َت ُه قبل أن ُيك ِّلما النجاشي‪ ،‬وقالا‬
‫لكل بطري ٍق منهم‪ :‬إنه قد َض َوى(‪ )1‬إلى بلد المَلك منا ِغلما ٌن سفها ُء‪ ،‬فارقوا دي َن‬
‫قو ِمهم‪ ،‬ولم يدخلوا في دينِكم‪ ،‬وجاءوا بدي ٍن ُمبتد ٍع‪ ،‬لا نعرفه نحن ولا أنت ُم‪ ،‬وقد‬
‫َب َع َثنا إلى المل ِك فيهم أشرا ُف قو ِمهم لير َّدهم إليهم‪ ،‬فإذا ك َّلمنا الملك فيهم‪ ،‬فأشيروا‬
‫عليه بأن ُيسلمهم إلينا ولا ُيك ِّل َمهم‪ ،‬فإن قو َمهم أعلى بهم عينًا‪ ،‬وأعلم بما عابوا‬

‫عليهم‪.‬‬

‫فقالوا َلما‪ :‬نعم‪.‬‬

‫ثم إنَّهما ق َّدما هداياهما إلى النجاش ِّي فقبِلها منهما‪ ،‬ثم ك َّلماه فقالا له‪ :‬أُا‬
‫المل ُك‪ ،‬إنه قد َض َوى إلى بل ِدك منا ِغلما ٌن ُسفها ُء‪ ،‬فارقوا دي َن قو ِمهم‪ ،‬ولم يدخلوا في‬
‫دينِك‪ ،‬وجاءوا بدين ابتدعوه‪ ،‬لا نعر ُفه نحن ولا أنت‪ ،‬وقد َب َع َثنا إليك فيهم‬
‫أشرا ُف قو ِمهم من آبائهم وأعما ِمهم وعشا ِئرهم ل َت ُر َّدهم إليهم‪ ،‬فهم أعلى بهم عينًا‪،‬‬

‫وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ولم يكن شي ٌء أبغ َض إلى عب ِد الله بن أبي ربيع َة وعم ِرو بن العاص من‬

‫أن يسمع كلا َمهم النجاش ُّي‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ض َوى‪ :‬لجأ‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪60‬‬

‫قالت‪ :‬فقالت َبطارق ُته حوله‪َ :‬ص َدقا أُا المل ُك‪ ،‬قو ُمهم أعلى بهم عي ًنا‪،‬‬
‫وأعل ُم بما عابوا عليهم؛ فأسلِمهم إليهما فل َي ُر َّداهم إلى بلا ِدهم وقو ِمهم‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فغ ِض َب النجاش ُّي‪ ،‬ثم قال‪ :‬لاها الله إذن‪ ،‬لا ُأسلِمهم إليهما‪ ،‬ولا ُيكا ُد‬
‫قو ٌم جاوروني‪ ،‬و َن َزلوا بلادي‪ ،‬واختاروني على من ِسواي‪ ،‬حتى أدعوهم فأسأَُلم‬
‫عما َيقو ُل هذان في أمرهم‪ ،‬فإن كانوا كما يقولا ِن أسلم ُتهم إليهما‪ ،‬وردد ُتهم إلى‬

‫قومهم‪ ،‬وإن كانوا على غي ِر ذلك منع ُتهم منهما‪ ،‬وأحسن ُت ِجوارهم ما جاوروني‪.‬‬

‫قالت‪ :‬ثم أرس َل إلى أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ فدعاهم‪ ،‬فلما جا َءهم رسو ُله‬
‫اجتمعوا‪ ،‬ثم قال بع ُضهم لبع ٍض‪ :‬ما تقولون للرج ِل إذا ِجئتموه؟‬

‫قالوا‪ :‬نقول والله ما علِمنا‪ ،‬وما أم َرنا به نب ُّينا ﷺ كائنًا في ذلك ما هو كائن‪.‬‬
‫فلما جاءوا ‪-‬وقد دعا النجاش ُّي أساق َف َته‪ ،‬فنشروا مصا ِح َفهم حو َله‪ -‬سأَلم‬
‫فقال َلم‪ :‬ما هذا الدي ُن الذي قد فارق ُتم فيه قو َمكم‪ ،‬ولم تدخلوا به في ديني‪ ،‬ولا‬

‫في دي ِن أح ٍد من هذه المِلل؟‬

‫قالت‪ :‬فكان الذي ك َّلمه جعف ُر بن أبي طال ٍب ِرضوا ُن الله عليه‪ ،‬فقال له‪ :‬أ ُُّا‬
‫المل ُك‪ ،‬كنا قو ًما أه َل جاهلي ٍة‪ ،‬نعبد الأصنا َم‪ ،‬ونأكل الميت َة‪ ،‬ونأتي الفواح َش‪،‬‬
‫ونقط ُع الأرحا َم‪ ،‬و ُنسي ُء الجوار‪ ،‬ويأكل القو ُّي منا الضعي َف‪ ،‬فكنا على ذلك‪ ،‬حتى‬

‫بع َث الله إلينا رسو ًلا منا‪ ،‬نعرف َنس َبه وصد َقه وأما َنته وعفا َفه‪.‬‬
‫فدعانا إلى الله لنو ِّح َده ونعبده‪ ،‬ونخل َع ما كنا نعب ُد نحن وآباؤنا من دونِه من‬

‫الحجار ِة والأوثان‪.‬‬

‫‪ | 62‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وأم َرنا بصد ِق الحدي ِث‪ ،‬وأدا ِء الأمانة‪ ،‬وصل ِة الرح ِم‪ ،‬و ُحسن ال ِجوار‪،‬‬
‫والك ِّف عن المحار ِم والدما ِء‪.‬‬

‫ونهانا عن ال َفواح ِش‪ ،‬وقو ِل الزور‪ ،‬وأك ِل مال اليتي ِم‪ ،‬وقذ ِف المُحصنات‪.‬‬

‫وأمرنا أن نعب َد الله وحده‪ ،‬لا نشر َك به شي ًئا‪.‬‬

‫وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ‪-‬قالت‪ :‬فع َّدد عليه أمو َر الإسلا ِم‪-‬‬
‫فص َّدقناه وآمنَّا به‪ ،‬وا َّتبعناه على ما جا َء به من الله‪ ،‬فعبدنا الل َه وح َده‪ ،‬فلم نشر ْك به‬
‫شي ًئا‪ ،‬وح َّرمنا ما َحرم علينا‪ ،‬وأحللنا ما أح َّل لنا‪ ،‬فعدا علينا قو ُمنا‪ ،‬فع َّذبونا‪،‬‬
‫و َفتنونا عن دينِنا؛ لير ُّدونا إلى عباد ِة الأوثان من عباد ِة الله تعالى‪ ،‬وأن َنست ِح َّل ما كنا‬

‫نستحل من الخبائ ِث‪.‬‬

‫فلما َقهرونا وظلمونا وض َّيقوا علينا‪ ،‬وحالوا بينَنا وبين ديننا‪ ،‬خرجنا إلى‬
‫بلا ِدك‪ ،‬واخترنا َك على من ِسواك‪ ،‬ور ِغبنا في ِجوارك‪ ،‬ورجونا ألا ُنظل َم عندك أ ُُّا‬

‫المل ُك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقال له النجاش ُّي‪ :‬هل معك مما جا َء به عن الله من شي ٍء؟‬

‫قالت‪ :‬فقال له جعف ٌر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فقال له النجاش ُّي‪ :‬فاقرأه عل َّي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقرأ عليه َصد ًرا من‪( :‬ﭑﭒ) [مريم‪.]5:‬‬
‫قالت‪ :‬فبكى ‪-‬والله‪ -‬النجاش ُّي حتى اخض َّل ْت لحي ُته‪ ،‬وبكت أساق َف ُته حتى‬
‫أخض ُلوا مصا ِح َفهم‪ ،‬حين س ِمعوا ما تلا عليهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪63‬‬

‫ثم قال َلم النجاش ُّي‪ :‬إن هذا والذي جا َء به ِعيسى ل َيخ ُر ُج من ِمشكا ٍة‬
‫واحد ٍة‪ ،‬انطلقا‪ ،‬فلا والله لا أس ِل ُمهم إليكما‪ ،‬ولا ُيكادون‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فلما خرجا ِمن عنده‪ ،‬قال عمرو ب ُن العاص‪ :‬والله لآتينَّه غ ًدا عنهم بما‬
‫أستأص ُل به َخضا َءهم‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فقال له عب ُد الله بن أبي ربيع َة‪ ،‬وكان أتقى الرجلين فينا‪ :‬لا تفعل؛ فإن‬
‫َلم أرحا ًما‪ ،‬وإن كانوا قد خالفونا‪.‬‬

‫قال‪ :‬والله لأخب َر َّنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن َمريم عب ٌد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ثم غ َدا عليه من ال َغ ِد فقال له‪ :‬أ ُُّا المل ُك‪ ،‬إنهم يقولون في عيسى ابن‬

‫مريم قو ًلا عظي ًما‪ ،‬فأر ِس ْل إليهم فسلهم عما يقولون فيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأرس َل إليهم ليسأََلم عنه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ولم َينزل بنا ِمث ُلها قط‪.‬‬

‫فاجتمع القو ُم‪ ،‬ثم قال بع ُضهم لبع ٍض‪ :‬ماذا تقولون في عيسى ابن َمريم إذا‬
‫سأ َلكم عنه؟‬

‫قالوا‪ :‬نقو ُل والله ما قال الل ُه‪ ،‬وما جاءنا به نب ُّينا‪ ،‬كائنًا في ذلك ما هو كائ ٌن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلما دخلوا عليه‪ ،‬قال َلم‪ :‬ماذا تقولون في عيسى اب ِن مري َم؟‬

‫قالت‪ :‬فقال جعف ُر بن أبي طالب‪ :‬نقو ُل فيه الذي جاءنا به نب ُّينا ﷺ‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫هو عب ُد الله ورسو ُله ورو ُحه و َك ِلم ُته ألقاها إلى مري َم العذرا ِء البتو ِل‪.‬‬

‫‪ | 64‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قالت‪ :‬فضب النجاش ُّي بيده إلى الأر ِض‪ ،‬فأخذ منها عو ًدا‪ ،‬ثم قال‪ :‬والله ما‬
‫عدا عيسى اب ُن مريم ما قل َت هذا العو َد‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فتنا َخرت بطار َق ُته حو َله حين قال ما قال‪.‬‬

‫فقال‪ :‬وإن نخر ُتم والله‪ ،‬اذهبوا فأنتم ُشيو ٌم بأرضي‪ -‬والشيو ُم‪ :‬الآمنو َن‪-‬‬
‫َم ْن َس َّبكم َغ ِر َم‪ ،‬ثم قال‪ :‬من س َّبكم َغ ِرم‪ ،‬ثم قال‪َ :‬من َس َّبكم َغ ِر َم‪ ،‬ما أح ُّب أن لي‬
‫َدب ًرا من ذهب‪ ،‬وأني آذي ُت رج ًلا منكم‪ُ ،‬ر ُّدوا عليهما هداياهما‪ ،‬فلا حاج َة لي بها‪،‬‬
‫فوالله ما أخذ اللهُ مني ال ِّرشو َة حين َر َّد عل َّي ُملكي‪ ،‬فآخ َذ ال ِّرشو َة فيه‪ ،‬وما أطا َع‬

‫الناس ف َّي فأطي َعهم فيه‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فخرجا من عنده َمقبو َحين َمردو ًدا عليهما ما جاءا به‪ ،‬وأقمنا عنده‬
‫بِخي ِر دا ٍر‪ ،‬مع خي ِر جا ٍر‪.‬‬

‫‪ -11‬إسلامُ عم َر بن الخطابِ ‪‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان إسلا ُم عم َر فيما بلغني أن أخته فاطم َة بنت‬
‫الخطاب‪ ،‬وكانت قد أسلمت وأسل َم بع ُلها سعي ُد بن زي ٍد‪ ،‬وهما ُمستخفيان‬
‫بإسلا ِمهما من عم َر‪ ،‬وكان خ َّبا ُب بن الأر ِّت يختل ُف إلى فاطم َة بنت الخطاب ُيقرئها‬
‫القرآ َن‪ ،‬فخرج عمر يو ًما متو ِّش ًحا سيفه يري ُد رسو َل الله ﷺ وره ًطا من أصحابه‬
‫قد ُذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بي ٍت عند الصفا‪ ،‬وهم قري ٌب من أربعي َن ما بين‬

‫رجا ٍل ونسا ٍء‪.‬‬
‫ومع رسول الله ﷺ ع ُّمه حمز ُة بن عب ِد المطلب‪ ،‬وأبو بك ِر بن أبي قحاف َة‬
‫الصديق‪ ،‬وعل ُّي بن أبي طالب‪ ،‬في رجا ٍل من المسلمين ‪ ‬ممن كان أقا َم مع‬

‫رسو ِل الله ﷺ بمك َة‪ ،‬ولم يخرج فيمن خرج إلى أر ِض الحبش ِة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪65‬‬

‫فلق َيه نعي ُم بن عبد الله‪ ،‬فقال له‪ :‬أين تري ُد يا عم ُر؟‬
‫فقال‪ :‬أري ُد محم ًدا هذا الصاب َئ‪ ،‬الذي ف َّر َق أم َر قري ٍش‪ ،‬وس َّفه أحلا َمها‪،‬‬

‫وعاب دينَها‪ ،‬وس َّب آَلتها فأق ُتله‪.‬‬
‫فقال له ُنعي ٌم‪ :‬والله لقد غ َّرتك نف ُسك من نف ِسك يا عم ُر‪ ،‬أترى بني عبد‬
‫َمناف تاركيك تمشي على الأر ِض وقد َقتلت محم ًدا؟! أفلا ترجع إلى أه ِل بيتك‬

‫ف ُتقيم أم َرهم؟‬

‫قال‪ :‬وأ ُّي أهل بيتي؟‬
‫قال‪َ :‬ختنُك وابن عمك سعي ُد بن زي ٍد‪ ،‬وأخ ُتك فاطم ُة بنت الخطاب‪ ،‬فقد‬

‫والله أسلما‪ ،‬وتابعا مُحم ًدا على دينه‪ ،‬فعليك بهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرجع عم ُر عام ًدا إلى أختِه و َختنه‪ ،‬وعندهما خ َّبا ُب بن الأر ِّت معه‬
‫صحيف ٌة‪ ،‬فيها‪( :‬ﭵ) ُيقرئهما إياها‪ ،‬فلما َسمعوا ِح َّس عم َر‪ ،‬تغ َّيب خباب في‬

‫مَخْ َد ٍع(‪َ )1‬لم‪ ،‬أو في بع ِض البيت‪.‬‬
‫وأخذت فاطم ُة بنت الخطاب الصحيف َة فجعلتها تحت ف ِخ ِذها‪ ،‬وقد سم َع عم ُر‬
‫حين دنا إلى البيت قراء َة خبا ٍب عليهما‪ ،‬فلما دخل قال‪ :‬ما هذه اَلَ ْينَ َمة(‪ )2‬التي سمع ُت؟‬

‫قالا له‪ :‬ما سمعت شي ًئا‪.‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬والله‪ ،‬لقد ُأخبر ُت أنكما تابعتما محم ًدا على دينِه‪ ،‬وبط َش ب َختنه‬
‫سعي ِد بن زي ٍد‪ ،‬فقامت إليه أخ ُته فاطم ُة بن ُت الخطاب لتك َّفه عن زوجها‪ ،‬ف َض َبها‬

‫(‪ )1‬المَ ْخ َدع‪ :‬الخزانة‪.‬‬
‫(‪ )2‬اَلَ ْينَ َمة‪ :‬الصوت الخفي‪.‬‬

‫‪ | 66‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فش َّجها‪ ،‬فلما فعل ذلك قالت له أخ ُته وختنُه‪ :‬نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسولِه‪،‬‬
‫فاصنع ما بدا لك‪.‬‬

‫فلما رأى ُعمر ما بأختِه من الد ِم ن ِد َم على ما صنع‪ ،‬فار َعوى‪ ،‬وقال لأخته‪:‬‬
‫أعطيني هذه الصحيف َة التي سمع ُتكم تقرؤون آن ًفا أنظ ُر ما هذا الذي جاء به‬

‫محم ٌد؟ وكان عمر كات ًبا‪ ،‬فلما قال ذلك‪ ،‬قالت له أخ ُته‪ :‬إنا نخشاك عليها‪.‬‬

‫قال‪ :‬لا تخافي‪ ،‬وح َلف َلا بآَلته ل َي ُر َّدنَّها إذا قرأها إليها‪ ،‬فلما قال ذلك‪،‬‬
‫َط ِمعت في إسلا ِمه‪ ،‬فقالت له‪ :‬يا أخي‪ ،‬إنك َن َج ٌس‪ ،‬على شركك‪ ،‬وإنه لا يم ُّسها‬

‫إلا الطاهر‪.‬‬

‫فقام عمر فاغتس َل‪ ،‬فأعطته الصحيف َة‪ ،‬وفيها‪( :‬ﭵ) فقرأها‪ ،‬فلما قرأ منها‬

‫َصد ًرا‪ ،‬قال‪ :‬ما أحس َن هذا الكلا َم وأكرمه! فلما سمع ذلك خبا ٌب خرج إليه‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬يا عم ُر‪ ،‬والله إني لأرجو أن يكون الله قد خ َّصك بدعو ِة نب ِّيه‪ ،‬فإني‬
‫سمع ُته أم ِس وهو يقول‪« :‬اللهم أ ِي ِد الإسلام بأبي ال َحكم بن هشا ٍم‪ ،‬أو بعم َر بن‬

‫الخطا ِب» فاللهَ الل َه يا عم ُر‪.‬‬
‫فقال له عند ذلك عم ُر‪ :‬ف ُد َّلني يا خبا ُب على محم ٍد حتى آتيه ف ُأسلم‪ ،‬فقال له‬
‫خباب‪ :‬هو في بي ٍت عند الصفا‪ ،‬معه فيه نف ٌر من أصحابه‪ ،‬فأخذ عم ُر سي َفه‬
‫فتوشحه‪ ،‬ثم عم َد إلى رسول الله ﷺ وأصحابِه‪ ،‬فض َب عليهم البا َب‪ ،‬فلما سمعوا‬
‫صو َته‪ ،‬قام رج ٌل من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فنظر من َخلل الباب فرآه ُمتو ِّش ًحا‬

‫السي َف‪ ،‬فرج َع إلى رسو ِل الله ﷺ وهو َف ِز ٌع‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪67‬‬

‫فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬هذا عم ُر بن الخطا ِب متوش ًحا السيف‪ ،‬فقال حمز ُة بن‬
‫عبد المطلب‪ :‬ف ْأ َذ ْن له‪ ،‬فإن كان جاء يري ُد خي ًرا بذلناه له‪ ،‬وإن كان جاء يري ُد ش ارا‬

‫قتلناه بسيفه‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ائذن له»‪.‬‬

‫فأذن له الرج ُل‪ ،‬ونهض إليه رسو ُل الله ﷺ حتى لق َيه في ال ُحجرة‪ ،‬فأخذ‬
‫ُحجزته أو ب َمجم ِع ردائه‪ ،‬ثم َجبذه به جبذ ًة شديد ًة‪ ،‬وقال‪« :‬ما جاء بك يا اب َن‬

‫الخطاب؟ فوالله ما أرى أن َتنته َي حتى ُين ِز َل الله بك قارعة»‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬جئ ُتك لأومن بالله وبرسولِه‪ ،‬وبما جاء من عن ِد‬

‫الله‪.‬‬
‫قال‪ :‬فك َّبر رسو ُل الله ﷺ تكبير ًة عرف أه ُل البيت من أصحا ِب رسو ِل الله‬

‫ﷺ أن عمر قد أسلم‪.‬‬
‫فتف َّر َق أصحا ُب رسول الله ﷺ من مكانهم‪ ،‬وقد َع ُّزوا في أنف ِسهم حين‬
‫أسلم عم ُر مع إسلا ِم حمز َة‪ ،‬وعرفوا أنهما س َيمنعان رسو َل الله ﷺ‪ ،‬و َينتصفون بهما‬

‫من عد ِّوهم‪.‬‬
‫‪َ -12‬خبرُ الصحيف ِة‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما رأت قري ٌش أن أصحا َب رسو ِل الله ﷺ قد نزلوا بل ًدا‬
‫أصابوا به أم ًنا وقرا ًرا‪ ،‬وأن النجاش َّي قد منع من لجأ إليه منهم‪ ،‬وأن عم َر قد أسل َم‪،‬‬
‫فكان هو وحمز ُة بن عبد المطل ِب مع رسو ِل الله ﷺ وأصحابِه‪ ،‬وجعل الإسلا ُم‬

‫‪ | 68‬مختصر السيرة النبوية‬

‫يفشو في القبائ ِل‪ ،‬اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتا ًبا يتعاقدون فيه على بني‬
‫هاش ٍم‪ ،‬وبني المطل ِب‪ ،‬على أن لا ين ِكحوا إليهم ولا ُينكحوهم‪ ،‬ولا يبيعوهم شي ًئا‪،‬‬
‫ولا َيبتاعوا منهم‪ ،‬فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيف ٍة‪ ،‬ثم َتعاهدوا وتواثقوا على‬

‫ذلك‪ ،‬ثم ع َّلقوا الصحيف َة في جوف الكعب ِة توكي ًدا على أنفسهم‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما فعلت ذلك قري ٌش انحازت بنو هاش ٍم وبنو الم َّطلب‬
‫إلى أبي طالب بن عبد المطل ِب‪ ،‬فدخلوا معه في ِشع ِبه واجتمعوا إليه‪ ،‬وخرج من‬

‫بني هاش ٍم أبو َل ٍب عب ُد ال ُع َّزى بن عبد المطلب إلى ُقري ٍش فظاهرهم‪.‬‬
‫فأقاموا على ذلك سنتي ِن أو ثلا ًثا‪ ،‬حتى جهدوا لا يصل إليهم شي ٌء إلا س ارا‬

‫مستخف ًيا به من أراد صلتهم من قري ٍش‪.‬‬

‫‪ِ -13‬ذكرُ ما لقي رسولُ الله ﷺ من قومِه من الأذى‬

‫فجعلت ُقري ٌش حين منعه الله منها‪ ،‬وقام ع ُّمه وقومه من بني هاشم وبني‬
‫المطلب دو َنه‪ ،‬وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البط ِش به‪ُ ،‬مزو َنه ويستهزئون به‬
‫ويُخاصمونه‪ ،‬وجعل القرآ ُن ينزل في قري ٍش بأحداثهم‪ ،‬وفيمن نصب لعداوته منهم‪،‬‬

‫ومنهم من ُس ِّمي لنا‪ ،‬ومنهم من نزل فيه القرآ ُن في عامة من ذكر اللهُ من الكفار‪.‬‬

‫فكان ممن ُس ِّمي لنا من قري ٍش ممن نزل فيه القرآن ع ُّمه أبو َل ِب بن عبد‬
‫المطلب وامرأ ُته أم جميل بن ُت حرب بن أمية‪ ،‬ح َّمالة الحطب‪ ،‬وإنما س َّماها الله تعالى‬
‫ح َّمال َة الحطب؛ لأنها كانت ‪-‬فيما بلغني‪َ -‬تح ِمل الشوك فتطر َحه على طريق رسو ِل‬
‫الله ﷺ حيث َيم ُّر‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيهما‪( :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪69‬‬

‫ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ‬
‫ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ) [ال َم َسد‪.]1-5:‬‬

‫وأمية ب ُن خل ٍف كان إذا رأى رسو َل الله ﷺ ه َمزه ول َمزه‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيه‪:‬‬
‫(ﭢﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰ‬
‫ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂ‬

‫ﮃﮄ ﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌ) [اَلُ َمزة‪.]2-5:‬‬
‫ول ِقي أبو جهل ب ُن هشام رسو َل الله ﷺ ‪-‬فيما بلغني‪ -‬فقال له‪ :‬والله يا‬

‫محم ُد‪ ،‬لتتركن س َّب آَلتنا‪ ،‬أو لن ُس َّب َّن إَلك الذي تعبد‪.‬‬

‫فأنزل الله تعالى فيه‪( :‬ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ‪[ )...‬الأنعام‪ .]542:‬ف ُذكر لي أن رسو َل الله ﷺ ك َّف عن س ِّب آَلتهم‪،‬‬

‫وجع َل يدعوهم إلى الله‪.‬‬
‫والن ُض بن الحار ِث‪ ،‬كان إذا جلس رسو ُل الله ﷺ جلل ًسا‪ ،‬فدعا فيه إلى الله‬
‫تعالى وتلا فيه القرآ َن‪ ،‬وحذ َر فيه قري ًشا ما أصاب الأم َم الخالية؛ خ َل َفه في جلل ِسه‬
‫إذا قام‪ ،‬فح َّدثهم عن ُرستم السندي ِد‪ ،‬وعن أس َفنديا َر‪ ،‬وملوك فار َس‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬
‫والله ما محم ٌد بأحسن حدي ًثا مني‪ ،‬وما حدي ُثه إلا أساطي ُر الأولين‪ ،‬اكتت َبها كما‬

‫اكتتب ُتها‪.‬‬

‫فأنزل الله فيه‪( :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ)‬

‫[الفرقان‪.]6-1:‬‬

‫‪ | 71‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ونزل فيه‪( :‬ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ) [القلم‪.]51:‬‬

‫ونزل فيه‪( :‬ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ) [الجاثية‪( ،]2-7:‬ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ) [لقمان‪.]7:‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬والأخنس بن َشري ٍق حلي ُف بني زهرة‪ ،‬وكان من أشرا ِف‬
‫القوم وممن ُيستمع منه‪ ،‬فكان يصي ُب من رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬و َير ُّد عليه‪ ،‬فأنزل الله‬
‫تعالى فيه‪( :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [القلم‪ ]55-54:‬إلى‬

‫قوله تعالى‪( :‬ﯮ) [القلم‪.]53:‬‬

‫والولي ُد بن المغير َة قال‪ :‬أ ُي َن َّزل على محمد و ُأتر ُك وأنا كبي ُر قري ٍش وسي ُدها!‬
‫و ُيترك أبو مسعو ٍد عمرو بن عمير الثقف ُّي سيد ثقيف‪ ،‬ونحن عظيما القريتين!‬

‫فأنزل الله تعالى فيه ‪-‬فيما بلغني‪( :-‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖﯗﯘ) [ال ُّزخ ُرف‪ ]35:‬إلى قوله تعالى‪( :‬ﯴ) [ال ُّزخ ُرف‪.]35:‬‬

‫و ُأب ُّي بن خلف‪ ،‬وعقب ُة بن أبي ُمعيط‪ ،‬وكانا متصافِ َيين‪َ ،‬ح َسنًا ما بينهما‪ ،‬فكان‬
‫عقب ُة قد جل َس إلى رسو ِل الله ﷺ وسم َع منه‪ ،‬فبلغ ذلك ُأب ايا‪ ،‬فأتى عقب َة فقال له‪:‬‬
‫ألم َيب ُلغني أنك جالست محم ًدا وسمع َت منه؟! وجهي من وجهك حرا ٌم أن‬
‫أكلمك ‪-‬واستغل َظ من اليمين‪ -‬إن أنت جلس َت إليه أو سمع َت منه‪ ،‬أو لم تأته‬

‫فتت ُفل في وجهه‪.‬‬

‫ففعل ذلك عد ُّو الله عقب ُة بن أبي معيط لعنه الله‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيهما‪:‬‬
‫(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)‬

‫[الفرقان‪ ]57:‬إلى قوله تعالى‪( :‬ﯕﯖ) [الفرقان‪.]52:‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪70‬‬

‫ومشى أب ُّي بن خلف إلى رسو ِل الله ﷺ ب َعظ ٍم با ٍل قد ا ْر َف َّت(‪ ،)1‬فقال‪ :‬يا‬
‫محمد‪ ،‬أنت تز ُع ُم أن الله يبع ُث هذا بعد ما أ َر َّم(‪ ،)2‬ثم ف َّته في يده‪ ،‬ثم نف َخه في الريح‬

‫نحو رسو ِل الله ﷺ‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬نعم‪ ،‬أنا أقو ُل ذلك‪ ،‬يبعثه الل ُه وإياك بعد ما تكونان‬
‫هكذا‪ ،‬ثم ُيد ِخ ُلك الل ُه النا َر»‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيه‪( :‬ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ‬
‫ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [يس‪-72:‬‬

‫‪.]24‬‬
‫‪ِ -14‬ذك ُر من عادَ من أر ِض الحبشةِ لما بلغهُم إسلامُ أهل مك َة‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وبلغ أصحا َب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬الذين خرجوا إلى أرض‬
‫الحبشة إسلا ُم أهل م َّك َة؛ فأقبلوا لمِا بلغهم من ذلك‪ ،‬حتى إذا دنوا من م َّك َة‪ ،‬بلغهم‬
‫أن ما كانوا َت َح َّدثوا به من إسلا ِم أهل مك َة كان باط ًلا‪ ،‬فلم يدخل منهم أح ٌد إلا‬

‫ب ِجوا ٍر أو ُمستخف ًيا‪.‬‬
‫فجمي ُع من ق ِدم عليه مك َة من أصحابِه من أر ِض الحبش ِة ثلاثة وثلاثون‬

‫رج ًلا‪.‬‬

‫(‪ )1‬ار َف َّت‪ :‬تحطم وتكسر‪.‬‬
‫(‪َ )2‬أ َر َّم‪ :‬بلي‪.‬‬

‫‪ | 72‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -15‬حديثُ نقضِ الصحيفةِ‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قري ٌش على‬
‫بني هاش ٍم وبني المطلب نف ٌر من قريش‪ ،‬ولم ُيب ِل فيها أح ٌد أحس َن من بلا ِء هشام بن‬
‫عمرو؛ وذلك أنه كان اب َن أخي نضل َة بن هاشم بن عبد منا ٍف لأ ِّمه‪ ،‬فكان هشا ٌم‬
‫لبني هاش ٍم واص ًلا‪ ،‬وكان ذا شر ٍف في قومه‪ ،‬فكان ‪-‬فيما بلغني‪ -‬يأتي بالبعي ِر‪ ،‬وبنو‬
‫هاش ٍم وبنو المطل ِب في ال ِّشعب لي ًلا‪ ،‬قد أوقره طعا ًما‪ ،‬حتى إذا أقب َل به ف َم ال ِّشعب‬
‫خلع ِخطامه من رأسه‪ ،‬ثم ضب على َجنبه‪ ،‬فيدخ ُل الشع َب عليهم‪ ،‬ثم يأتي به قد‬

‫أوق َره َب ازا(‪ ،)1‬فيفعل به مثل ذلك‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إنه مشى إلى زهي ِر بن أبي أمي َة‪ ،‬وكانت أ ُّمه عاتك َة بنت‬
‫عبد المطلب‪ ،‬فقال‪ :‬يا زهير‪ ،‬أ َقد رضيت أن تأك َل الطعا َم‪ ،‬وتلبس الثيا َب‪ ،‬وتنكح‬
‫النسا َء‪ ،‬وأخوا ُلك حيث قد علم َت‪ ،‬لا ُيباعون ولا ُيبتا ُع منهم‪ ،‬ولا َينكحون ولا‬
‫ُينكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوا َل أبي الحكم بن هشا ٍم‪ ،‬ثم‬

‫دعوته إلى مث ِل ما دعاك إليه منهم‪ ،‬ما أجابك إليه أب ًدا‪.‬‬

‫قال‪ :‬ويحك يا هشا ُم! فماذا أصن ُع؟ إنما أنا رج ٌل واح ٌد‪ ،‬والله لو كان معي‬
‫رج ٌل آخ ُر لقمت في نقضها حتى أنق َضها‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد وجدت رج ًلا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فمن هو؟‬

‫(‪ )1‬ال َب ُّز‪ :‬الثياب‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪73‬‬

‫قال‪ :‬أنا‪.‬‬
‫قال له زهي ٌر‪ :‬أب ِغنا رجلا ثال ًثا‪.‬‬
‫فذهب إلى المُط ِعم بن عدي‪ ،‬فقال له‪ :‬يا ُمطعم أقد رضي َت أن َُلك بطنا ِن‬
‫من َبني عبد َمنا ٍف‪ ،‬وأنت شاه ٌد على ذلك‪ ،‬مواف ٌق لقري ٍش فيه؟! أما والله لئن‬
‫أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سرا ًعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويحك! فماذا أصن ُع؟ إنما أنا رجل واح ٌد‪.‬‬

‫قال‪ :‬قد وجدت ثان ًيا‪.‬‬
‫قال‪ :‬من هو؟‬
‫قال‪ :‬أنا‪.‬‬

‫قال‪ :‬أبغنا ثال ًثا‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد فعلت‪.‬‬

‫قال‪ :‬من هو؟‬
‫قال‪ :‬زهي ُر بن أبي أمية‪.‬‬

‫قال‪ :‬أبغنا راب ًعا‪.‬‬
‫فذهب إلى أبي ال َبختر ِّي بن هشام‪ ،‬فقال له نح ًوا مما قال لل ُمطعم بن عد ٍّي‪.‬‬

‫فقال‪ :‬وهل من أحد ُيعين على هذا؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫‪ | 74‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬من هو؟‬

‫قال‪ :‬زهي ُر ابن أبي أمية‪ ،‬والمطعم بن عدي‪ ،‬وأنا معك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أبغنا خام ًسا‪.‬‬

‫فذهب إلى زمع َة بن الأسو ِد‪ ،‬فك َّلمه‪ ،‬وذكر له قرابتهم وح َّقهم‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬وهل على هذا الأم ِر الذي تدعوني إليه من أح ٍد؟‬

‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم س َّمى له القو َم‪.‬‬
‫فا َّت َعدوا خط َم ال َحجون لي ًلا بأعلى مك َة‪ ،‬فاجتمعوا هنالك‪ ،‬فأجمعوا أم َرهم‬

‫وتعاقدوا على القيا ِم في الصحيف ِة حتى ينقضوها‪.‬‬

‫وقال زهي ٌر‪ :‬أنا أبدؤكم‪ ،‬فأكون أ َّو َل من يتكل ُم‪.‬‬
‫فلما أصبحوا غ َدوا إلى أنديتهم‪ ،‬وغدا زهي ُر بن أبي أمية عليه ُح َّل ٌة‪ ،‬فطاف‬
‫بالبيت سب ًعا‪ ،‬ثم أقبل على النا ِس فقال‪ :‬يا أهل مك َة‪ ،‬أنأك ُل الطعا َم ونل َبس الثيا َب‪،‬‬
‫وبنو هاش ٍم هل َكى لا ُيباع ولا ُيبتاع منهم‪ ،‬والله لا أق ُعد حتى ُتش َّق هذه الصحيف ُة‬

‫القاطعة الظالمة‪.‬‬
‫قال أبو جهل‪ :‬وكان في ناحية المسج ِد‪ :‬كذبت والله لا ُتش ُّق‪.‬‬
‫قال زمع ُة بن الأسود‪ :‬أنت والله أكذ ُب‪ ،‬ما رضينا كتا َبها حيث ُكتبت‪.‬‬
‫قال أبو ال َبختري‪ :‬صدق زمع ُة‪ ،‬لا نرضى ما ُكتب فيها‪ ،‬ولا ُنق ُّر به‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪75‬‬

‫قال المطعم بن عدي‪ :‬صدق ُتما وكذب من قال غي َر ذلك‪ ،‬نبرأ إلى الله منها‪،‬‬
‫ومما ُكتب فيها‪ ،‬وقال هشا ُم بن عمرو نح ًوا من ذلك‪.‬‬

‫فقال أبو جهل‪ :‬هذا أمر ُقضي بلي ٍل‪ُ ،‬ت ُشو ِو َر فيه بغير هذا المكان‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأبو طال ٍب جالس في ناحي ِة المسجد‪ ،‬فقام المطع ُم إلى الصحيفة‬

‫ليش َّقها‪ ،‬فوجد الأ َر َض َة قد أكلتها‪ ،‬إلا «باس ِمك الله َّم»‪.‬‬

‫‪ِ -16‬ذكرُ الإسراءِ والِمعراجِ‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬عن محمد بن إسحا َق المُ َّطلب ِّي قال‪ :‬ثم أسر َي برسو ِل الله ﷺ‬
‫من المسج ِد الحرا ِم إلى المسجد الأقصى‪ ،‬وهو بي ُت المقد ِس من إيلياء‪ ،‬وقد فشا‬

‫الإسلا ُم بمك َة في قري ٍش‪ ،‬وفي القبائل ك ِّلها‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان في َمسراه‪ ،‬وما ُذك َر عنه بلا ٌء وتمحي ٌص‪ ،‬وأم ٌر من أمر‬
‫الله ‪ ‬في قدرته و ُسلطانه‪ ،‬فيه عبرة لأولي الألباب‪ ،‬وه ًدى ورحمة وثبا ٌت لمن‬
‫آمن بالله وص َّدق‪ ،‬وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقي ٍن‪ ،‬فأس َرى به سبحانه‬
‫وتعالى كي َف شا َء‪ ،‬ل ُير َيه من آياتِه ما أرا َد‪ ،‬حتى عاين ما عاين من أم ِره و ُسلطانه‬

‫العظيم‪ ،‬وقدرته التي َيصنع بها ما يري ُد‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ُ :‬ح ِّدثت عن الحس ِن أنه قال‪ :‬قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬بينما أنا‬
‫نائم في ال ِحجر‪ ،‬إذ جاءني جبري ُل‪ ،‬فهمزني بق َدمه‪ ،‬فجلس ُت فلم أ َر شيئا‪ ،‬فعدت إلى‬
‫َمضجعي‪ ،‬فجاءني الثاني َة فهمزني بقد ِمه‪ ،‬فجلست فلم أ َر شيئا‪ ،‬ف ُعدت إلى‬
‫َمضجعي‪ ،‬فجاءني الثالث َة فهمزني بقد ِمه‪ ،‬فجلست‪ ،‬فأخذ ب َع ُضد َّي‪ ،‬فقمت معه‪،‬‬
‫فخرج بي إلى باب المسج ِد‪ ،‬فإذا دابة أبي ُض‪ ،‬بين البغ ِل والحما ِر‪ ،‬في ف ِخذيه جناحان‬

‫‪ | 76‬مختصر السيرة النبوية‬

‫يحف ُز بهما ِرجليه‪ ،‬يض ُع ي َده في ُمنتهى ط ْرفه‪ ،‬فحملني عليه‪ ،‬ثم خرج معي لا يفو ُتني‬
‫ولا أفوته»‪.‬‬

‫فمضى رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ومضى جبري ُل عليه السلا ُم معه‪ ،‬حتى انتهى به إلى‬
‫بي ِت المقد ِس‪ ،‬فوجد فيه إبراهي َم وموسى وعيسى في نف ٍر من الأنبيا ِء‪ ،‬فأ َّمهم‬

‫رسو ُل الله ﷺ فص َّلى بهم‪ ،‬ثم ُأتي بإناءين‪ :‬في أح ِدهما خم ٌر‪ ،‬وفي الآخر لب ٌن‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخذ رسو ُل الله ﷺ إنا َء اللب ِن فش ِرب منه‪ ،‬وترك إنا َء الخمر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال له جبري ُل‪ُ :‬هدي َت للفطرة‪ ،‬و َه ِد َيت أ َّمتك يا محم ُد‪ ،‬و ُح ِّرمت‬

‫عليكم الخم ُر‪.‬‬
‫ثم انصرف رسو ُل الله ﷺ إلى م َّك َة‪ ،‬فلما أصب َح غ َدا على قري ٍش فأخبرهم‬

‫الخب َر‪.‬‬
‫فقال أكثر النا ِس‪ :‬هذا والله الإ ْم ُر(‪ )1‬الب ِّي ُن‪ ،‬والله إن العي َر ل ُتطر ُد شه ًرا من‬
‫مك َة إلى الشأم ُمدبر ًة‪ ،‬وشه ًرا ُمقبل ًة‪ ،‬أفيذه ُب ذلك محم ٌد في ليل ٍة واحد ٍة‪ ،‬ويرجع‬

‫إلى مك َة؟!‬
‫قال‪ :‬فارتد كثي ٌر ممن كان أسل َم‪ ،‬وذهب النا ُس إلى أبي بك ٍر‪ ،‬فقالوا له‪ :‬هل‬
‫لك يا أبا بك ٍر في صاحبِك‪ ،‬يزع ُم أنه قد جاء هذه الليل َة بي َت المقد ِس وصلى فيه‬

‫ورج َع إلى م َّك َة‪.‬‬

‫(‪ )1‬الإ ْمر‪ :‬العجب المنكر‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪77‬‬

‫قال‪ :‬فقال َلم أبو بكر‪ :‬إنكم َتك ِذبون عليه‪ .‬فقالوا‪ :‬بلى‪ ،‬ها هو ذاك في‬
‫المسج ِد يحدث به النا َس‪.‬‬

‫فقال أبو بكر‪ :‬والله لئن كان قاله لقد صد َق‪ ،‬فما ُيعج ُب ُكم من ذلك؟! فوالله‬
‫إنه ليخبرني أن الخب َر ليأتيه من الله من السما ِء إلى الأر ِض في ساع ٍة من لي ٍل أو نها ٍر‬

‫ف ُأص ِّدقه‪ ،‬فهذا أبع ُد مما َتعجبون منه‪.‬‬
‫ثم أقب َل حتى انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا نب َّي الله‪ ،‬أح َّدثت هؤلاء‬

‫القو َم أنك جئت بي َت المقد ِس هذه الليل َة؟‬

‫قال‪« :‬نعم»‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا نب َّي الله‪ ،‬ف ِصفه لي‪ ،‬فإني قد جئته‪.‬‬
‫قال الحس ُن‪ :‬فقال رسول الله ﷺ‪« :‬ف ُرفِ َع ل حتى نظر ُت إليه»‪ ،‬فجعل رسو ُل‬
‫الله ﷺ َيص ُفه لأبي بكر‪ ،‬ويقول أبو بكر‪ :‬صدق َت‪ ،‬أشه ُد أنك رسو ُل الله‪ ،‬ك َّلما وصف‬
‫له منه شي ًئا‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬أشهد أنك رسو ُل الله‪ ،‬حتى إذا انتهى‪ ،‬قال رسو ُل الله ﷺ‬
‫لأبي بكر‪« :‬وأنت يا أبا بكر الصدي ُق»‪ ،‬فيومئ ٍذ س َّماه الصدي َق‪.‬‬
‫قال الحس ُن‪ :‬وأنزل اللهُ تعالى فيمن ارت َّد عن إسلا ِمه لذلك‪( :‬ﭱ ﭲ‬
‫ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ‬

‫ﮂﮃﮄ) [الإسراء‪.]64:‬‬

‫‪ | 78‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -17‬قصةُ الِمعراجِ‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني من لا أ َّتهم عن أبي سعي ٍد الخُدر ِّي ‪ ‬أنه‬
‫قال‪ :‬سمعت رسو َل الله ﷺ يقول‪« :‬لما فرغ ُت مما كان في بي ِت المَقد ِس‪ُ ،‬أ َت‬
‫بالمِعرا ِج‪ ،‬ولم أر شيئا قط أحس َن منه‪ ،‬وهو الذي َي ُم ُد إليه م ِي ُتكم عينيه إذا حضر‪،‬‬
‫فأصعدني صاحبي فيه‪ ،‬حتى انتهى بي إلى با ٍب من أبواب السما ِء‪ ،‬يقا ُل له‪ :‬با ُب‬
‫الح َفظة‪ ،‬عليه َملك من الملائك ِة‪ُ ،‬يقال له‪ :‬إسماعي ُل‪ ،‬تحت يديه اثنا ع َش أل َف مل ٍك‪،‬‬

‫تحت يد ْي ُك ٍل ملك منهم اثنا عش أل َف ملك»‪.‬‬

‫قال‪ :‬يقول رسو ُل الله ﷺ حين ح َّدث بهذا الحديث‪(« :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ) [الم َّدثر‪ ،]35:‬فلما َدخل بي‪ ،‬قال‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟ قال‪ :‬هذا محمد‪ .‬قال‪:‬‬

‫أوقد ُبعث؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فدعا ل بِخي ٍر»‪.‬‬

‫قال أبو سعيد الخدر ُّي في حديثه‪ :‬إن رسو َل الله ﷺ قال‪« :‬لما دخل ُت السما َء‬
‫الدنيا‪ ،‬رأيت بها رجلا جالسا ُتعرض عليه أروا ُح بني آد َم‪ ،‬فيقول لبعضها إذا‬
‫ُعرضت عليه خيرا و ُيس به‪ ،‬ويقول‪ :‬روح طيبة خرجت من جس ٍد ط ِي ٍب‪ ،‬ويقول‬
‫لبعضها إذا ُعرضت عليه‪ُ :‬أَ‪ ،‬ويع َبس بوجهه ويقول‪ :‬روح خبيثة خرجت من‬

‫جسد خبي ٍث»‪.‬‬

‫قال‪« :‬قلت‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هذا أبوك آد ُم‪ُ ،‬تعرض عليه أرواح ُذر َّيته‪ ،‬فإذا مرت به روح المؤمن منهم‬
‫ُ َّس بها‪ ،‬وقال‪ :‬روح طيبة خرجت من جس ٍد طيب‪ ،‬وإذا م َّرت به رو ُح الكافر منهم‬

‫أف َّف منها وكرهها‪ ،‬وسا َء ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬روح خبيثة خرجت من جس ٍد خبي ٍث»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪79‬‬

‫قال‪« :‬ثم رأيت رجالا همم َمشاف ُر كمشاف ِر الإبل(‪ ،)1‬في أيديهم ِق َطع من نار‬
‫كالأَ ْفها ِر(‪َ ،)2‬يق ِذفونها في أفوا ِههم‪ ،‬ف َتخر ُج من أدبا ِرهم‪ .‬فقلت‪َ :‬م ْن هؤلاء يا‬

‫جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هؤلاء أ َك َلة أموال اليتامى ُظلما»‪.‬‬
‫قال‪« :‬ثم رأيت رجالا همم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فِرعون‪ ،‬يمرون‬
‫عليهم كالإبل ال َم ْه ُيوم ِة(‪ )3‬حين ُيعرضون على النا ِر‪َ ،‬يطؤونهم لا َيقدرون على أن‬

‫يتح َّولوا من مكانِهم ذلك»‪.‬‬
‫قال‪« :‬قلت‪ :‬من هؤلا ِء يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هؤلاء أك َل ُة الربا»‪.‬‬

‫قال‪« :‬ثم رأي ُت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب‪ ،‬إلى جنبه لحم غ يث ُمنتن‪،‬‬
‫يأكلون من الغ ِث المنتن‪ ،‬و َيتكون السمي َن الطيب»‪.‬‬
‫قال‪« :‬قلت‪ :‬من هؤلا ِء يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هؤلاء الذين َيتكون ما أح َّل الله همم من النسا ِء‪ ،‬ويذهبون إلى ما ح َّرم‬
‫الله عليهم منه َّن»‪.‬‬

‫قال‪« :‬ثم رأي ُت نساء ُمع َّلقات ب ُثد ِيه َّن‪ ،‬فقلت‪ :‬من هؤلاء يا جبري ُل؟‬
‫قال‪ :‬هؤلا ِء اللات َأدخلن على الرجا ِل َمن ليس من أولا ِدهم»‪.‬‬

‫(‪ِ )1‬م ْش َفر الإبل‪ :‬شفته‪.‬‬
‫(‪ )2‬الأَ ْفهار‪ :‬جمع فِ ْهر وهو‪ :‬الحجر قدر ملء الكف‪.‬‬

‫(‪ )3‬الإبل ال َم ْه ُيو َمة‪ :‬ال ِعطاش منها‪.‬‬

‫‪ | 81‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪« :‬ثم أصعدني إلى السما ِء الثاني ِة‪ ،‬فإذا فيها ابنا الخال ِة‪ :‬عيسى اب ُن مري َم‪،‬‬
‫ويحيى ب ُن زكريا»‪.‬‬

‫قال‪« :‬ثم أص َعدني إلى السماء الثالث ِة‪ ،‬فإذا فيها رجل صور ُته كصور ِة القم ِر‬
‫ليل َة البد ِر»‪.‬‬

‫قال‪« :‬قلت‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هذا أخوك ُيوس ُف بن يعقو َب»‪.‬‬
‫قال‪« :‬ثم أصعدني إلى السما ِء الرابع ِة‪ ،‬فإذا فيها رجل فسألته‪ :‬من هو؟‬

‫قال‪ :‬هذا إدري ُس»‪.‬‬
‫قال‪ :‬يقول رسو ُل الله ﷺ‪(« :‬ﮂﮃﮄﮅ) [مريم‪.»]17:‬‬
‫قال‪« :‬ثم أصعدني إلى السما ِء الخامس ِة‪ ،‬فإذا فيها كهل أبي ُض الرأس وال ِلحية‪،‬‬
‫عظي َم ال ُع ْثنُو ِن(‪ ،)1‬لم أر كهلا أجم َل منه»‪ ،‬قال‪« :‬قلت‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هذا ال ُمحبب في قومه هارو ُن بن ِعمران»‪.‬‬
‫قال‪« :‬ثم أصعدني إلى السما ِء السادس ِة‪ ،‬فإذا فيها رجل آ َد ُم(‪ )2‬طويل أقنى(‪،)3‬‬

‫كأنه من رجال َشنوء َة‪ ،‬فقلت له‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟‬
‫قال‪ :‬هذا أخوك ُموسى بن ِعمران‪.‬‬

‫(‪)1‬عظي َم ال ُع ْثنُو ِن‪ :‬عظيم اللحية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الآ َدم‪ :‬الأسمر‪.‬‬

‫(‪ )3‬ال َقنَا‪ :‬ارتفاع في أعلى الأنف بين القصبة والمارن‪ ،‬من غير قبح‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪80‬‬

‫ثم أصعدني إلى السما ِء الساب َع ِة‪ ،‬فإذا فيها َكهل جالس على كرسي إلى باب‬
‫البيت المَعمو ِر‪ ،‬يدخله ُك َّل يوم سبعون أل َف مل ٍك‪ ،‬لا يرجعون فيه إلى يو ِم القيامة‪،‬‬

‫لم أر رجلا أش َبه بصا ِحبِكم‪ ،‬ولا صاح ُبكم أش َبه به منه»‪.‬‬
‫قال‪« :‬قلت‪ :‬من هذا يا جبري ُل؟‬

‫قال‪ :‬هذا أبوك إبراهي ُم»‪.‬‬
‫قال‪« :‬ثم َدخل بي الج َّن َة‪ ،‬فرأيت فيها جارية ل ْعسا َء(‪ ،)1‬فسألتها‪ :‬لمن أن ِت؟‬
‫وقد أعج َبتني حين رأي ُتها‪ ،‬فقالت‪ :‬لزيد ب ِن حارث َة»‪ ،‬فب َّش َر بها رسو ُل الله ﷺ زي َد‬

‫بن حارث َة‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ومن حديث عب ِد الله بن مسعو ٍد ‪ ،‬عن النب ِّي ﷺ ‪-‬‬
‫فيما بلغني‪ :-‬أ َّن جبري َل لم يصعد به إلى سما ٍء من السماوات إلا قالوا له حين َيستأذ ُن‬
‫في دخوَ ِلا‪َ :‬من هذا يا جبري ُل؟ فيقول‪ :‬محم ٌد‪ .‬فيقولون‪ :‬أ َو َقد ُبعث؟ فيقول‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فيقولون‪ :‬ح َّياه الله من أ ٍخ وصاحب! حتى انتهى به إلى السما ِء السابع ِة‪ ،‬ثم انتهى‬

‫به إلى ر ِّبه‪ ،‬ففرض عليه خَمسين صلا ًة في ُك ِّل يوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬فأقبلت راجعا‪ ،‬فلما مرر ُت بموسى بن ِعمران‬

‫‪-‬ونع َم الصاح ُب كان لكم‪ -‬سألني كم ُفر َض عليك من الصلاة؟‬
‫فقلت‪ :‬خمسين صلاة ك َّل يوم‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّل ْعس‪ :‬لون الشفة إذا كانت تضب إلى السمرة قلي ًلا‪.‬‬

‫‪ | 82‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فقال‪ :‬إن الصلاة ثقيلة‪ ،‬وإن أمتك ضعيفة‪ ،‬فارجع إلى رب َك‪ ،‬فاسأله أن‬
‫ُي ِفف عنك وعن ُأ َّمتك‪.‬‬

‫فرجع ُت فسألت ربي أن ُي ِفف عني وعن أمتي‪ ،‬فوض َع عني عشا‪.‬‬
‫ثم انِصف ُت فمرر ُت على موسى فقال ل مث َل ذلك‪ ،‬فرجعت فسألت ر ِبي‪،‬‬

‫فوضع عني عشا‪.‬‬

‫ثم انِصفت فمرر ُت على موسى‪ ،‬فقال ل مث َل ذلك‪ ،‬فرجعت فسألته‬
‫فوض َع عنِي عشا‪.‬‬

‫ثم لم يزل يقو ُل ل مثل ذلك‪ ،‬كلما رجع ُت إليه‪ ،‬قال‪ :‬فارجع فاسأل‪ ،‬حتى‬
‫انتهي ُت إلى أن ُوض َع ذلك عني‪ ،‬إلا خم َس صلوات في ك ِل يوم وليل ٍة‪.‬‬

‫ثم رجع ُت إلى موسى‪ ،‬فقال ل مث َل ذلك‪ ،‬فقلت‪ :‬قد راجع ُت ربي وسأل ُته‪،‬‬
‫حتى استحيي ُت منه‪ ،‬فما أنا بفاع ٍل‪ ،‬فمن أ َّداه َّن منكم إيمانا به َّن‪ ،‬واحتسابا همن‪ ،‬كان‬

‫له أج ُر خمسين صلاة مكتوبة»‪.‬‬
‫‪ -18‬كفاي ُة الله أمرَ الُمسته ِزئين‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فأقام رسو ُل الله ﷺ على أم ِر الله تعالى صاب ًرا مُحتس ًبا‪،‬‬
‫ُمؤد ًيا إلى قومه النصيح َة على ما يلقى منهم من التكذي ِب والأذى والاستهزا ِء‪.‬‬
‫وكان عظما ُء المُستهزئين خمس َة نف ٍر من قو ِمهم‪ ،‬وكانوا ذوي أسنا ٍن وشر ٍف في‬
‫قومهم‪ :‬الأسو ُد ب ُن المطل ِب‪ ،‬وكان رسو ُل الله ﷺ ‪-‬فيما بلغني‪ -‬قد دعا عليه لمِا‬
‫كان يب ُلغه من أذاه واستهزا ِئه به‪ ،‬فقال‪« :‬الله َّم أع ِم بِ َصه‪ ،‬وأثكِله و َلده»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪83‬‬

‫والأسو ُد بن عبد يغو َث‪ ،‬والولي ُد بن المغير ِة‪ ،‬والعا ُص بن وائل‪ ،‬والحار ُث‬
‫بن ال ُطلاطل ِة‪.‬‬

‫فلما تمادوا في الش ِّر‪ ،‬وأكثروا برسو ِل الله ﷺ الاستهزا َء‪ ،‬أنز َل اللهُ تعالى عليه‪:‬‬
‫(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬

‫ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ) [ال ِحجر‪.]26-20:‬‬

‫‪ -19‬وفاُة أبي طالبٍ وخديج َة‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن خديج َة بنت خويل ٍد وأبا طالب هلكا في عا ٍم واح ٍد‪،‬‬
‫فتتابعت على رسو ِل الله ﷺ المصائ ُب ب ُهلك خديج َة ‪-‬وكانت له وزي َر صد ٍق على‬
‫الإسلام يشكو إليها‪ -‬وب ُهلك ع ِّمه أبي طالب‪ ،‬وكان له ع ُض ًدا وحر ًزا في أمره‪،‬‬

‫و َمنع ًة وناص ًرا على قومه‪ ،‬وذلك قبل مهاج ِره إلى المدينة بثلاث سنين‪.‬‬
‫فلما هل َك أبو طالب نالت قري ٌش من رسو ِل الله ﷺ من الأذى ما لم تكن‬

‫تطم ُع به في حيا ِة أبي طالب‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحاق‪ :‬ولما اشتكى أبو طال ٍب‪ ،‬وبلغ قري ًشا ثقله‪ ،‬قالت قري ٌش‬
‫بع ُضها لبعض‪ :‬إن حمز َة وعم َر قد أسلما‪ ،‬وقد فشا أم ُر محم ٍد في قبائ ِل قري ٍش ك ِّلها‪،‬‬
‫فانط ِلقوا بنا إلى أبي طالب‪ ،‬فليأ ُخ ْذ لنا على اب ِن أخيه‪ ،‬وليعطِه منا‪ ،‬والله ما نأم ُن أن‬

‫يبتزونا أم َرنا‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عباس قال‪ :‬مشوا إلى أبي طالب فك َّلموه‪ ،‬وهم‬
‫أشرا ُف قومه‪ :‬عتب ُة بن ربيع َة‪ ،‬وشيب ُة بن ربيع َة‪ ،‬وأبو جه ِل ب ُن هشام‪ ،‬وأمي ُة بن‬
‫خلف‪ ،‬وأبو سفيا َن ب ُن حرب‪ ،‬في رجال من أشرافِهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬إنك‬

‫‪ | 84‬مختصر السيرة النبوية‬

‫منا حي ُث قد علم َت‪ ،‬وقد حضك ما ترى‪ ،‬و َتخ َّوفنا عليك‪ ،‬وقد علم َت الذي بيننا‬
‫وبين اب ِن أخيك‪ ،‬فاد ُعه؛ ف ُخذ له منا‪ ،‬وخ ْذ لنا منه‪ ،‬ليك َّف عنا‪ ،‬و َنك َّف عنه‪،‬‬

‫وليد ْعنا ودينَنا‪ ،‬ون َد ْعه ودينَه‪.‬‬
‫فبعث إليه أبو طال ٍب‪ ،‬فجاءه‪ ،‬فقال‪ :‬يا اب َن أخي‪ :‬هؤلا ِء أشرا ُف قومك‪ ،‬قد‬

‫اجتمعوا لك‪ ،‬ل ُيعطوك‪ ،‬وليأ ُخذوا منك‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬نعم‪ ،‬كلمة واحدة ُتعطونيها َتلكون بها العر َب‪،‬‬
‫و َتدين لكم بها العج ُم»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال أبو جه ٍل‪ :‬نعم وأبيك‪ ،‬وعش ُر كلمات‪.‬‬
‫قال‪ :‬تقولون‪« :‬لا إله إلا الله‪ ،‬و َتلعون ما َتعبدون من دونِه»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فص َّفقوا بأيدُم‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬أ ُتريد يا محم ُد أن تع َل الآَل َة إَلًا واح ًدا‪ ،‬إ َّن‬
‫أمرك لعج ٌب!‬

‫قال‪ :‬ثم قال بع ُضهم لبعض‪ :‬إنه والله ما هذا الرج ُل ب ُمعطيكم شي ًئا مما‬
‫ُتريدون‪ ،‬فانط ِلقوا وامضوا على دين آبا ِئكم‪ ،‬حتى يحك َم الله بي َنكم وبينه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم َت َف َّرقوا‪.‬‬

‫فقال أبو طالب لرسو ِل الله ﷺ‪ :‬والله يا اب َن أخي‪ ،‬ما رأي ُتك سألتهم َش َط ًطا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلما قاَلا أبو طالب ط ِمع رسو ُل الله ﷺ في إسلا ِمه‪ ،‬فجعل يقو ُل له‪:‬‬

‫«أي ع ِم‪ ،‬فأنت‪ ،‬ف ُقلها أستحل لك بها الشفاع َة يو َم القيامة»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪85‬‬

‫قال‪ :‬فلما رأى ِحر َص رسو ِل الله ﷺ عليه‪ ،‬قال‪ :‬يا اب َن أخي‪ ،‬والله لولا‬
‫مخاف ُة ال ُّس َّب ِة عليك وعلى َبني أبيك من بعدي‪ ،‬وأن َت ُظ َّن قري ٌش أني إنما قلتها جز ًعا‬

‫من المو ِت لقل ُتها‪ ،‬لا أقوَلا إلا لأس ُّرك بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلما تقار َب من أبي طال ٍب المو ُت قال‪ :‬نظر العبا ُس إليه يُح ِّرك ش َفتيه‪،‬‬
‫قال‪ :‬فأصغى إليه بأ ُذنه‪ ،‬قال‪ :‬فقال يا اب َن أخي‪ ،‬والله لقد قال أخي الكلم َة التي‬

‫أمر َته أن يقوَلا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لم أسم ْع»‪ ،‬ثم هلك أبو طال ٍب‪.‬‬
‫‪ -21‬سعي الرسو ِل إلى ثقيفٍ يطلب الُّنصرةَ‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما َهل َك أبو طالب نالت قري ٌش من رسو ِل الله ﷺ من‬
‫الأذى ما لم تكن تنا ُل منه في حيا ِة ع ِّمه أبي طال ٍب‪ ،‬فخرج رسو ُل الله ﷺ إلى‬
‫الطائ ِف‪ ،‬يلتم ُس النُّصر َة من ثقي ٍف‪ ،‬والمَنع َة بهم من قو ِمه‪ ،‬ورجا َء أن يقبلوا منه ما‬

‫جا َءهم به من الله ‪ ،‬فخرج إليهم وح َده‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن محم ِد بن كع ٍب ال ُقرظ ِّي قال‪ :‬لما انتهى رسو ُل الله ﷺ‬
‫إلى الطائ ِف‪ ،‬عمد إلى نف ٍر من ثقيف‪ ،‬هم يومئ ٍذ ساد ُة ثقي ٍف وأشرا ُفهم‪ ،‬وهم إخو ٌة‬
‫ثلاث ٌة‪ :‬عب ُد يالِيل ب ُن عمرو‪ ،‬ومسعو ٌد‪ ،‬وحبي ٌب‪ ،‬وعند أح ِدهم امرأ ٌة من قري ٍش من‬
‫بني جمح‪ ،‬فجلس إليهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فدعاهم إلى الله‪ ،‬وك َّلمهم بما جا َءهم له‬

‫من ُنصرتِه على الإسلا ِم‪ ،‬والقيا ِم معه على َمن خال َفه من قومه‪.‬‬
‫فقال له أح ُدهم‪ :‬هو َي ْم ُرط(‪ )1‬ثياب الكعب ِة إن كان الل ُه أرس َلك‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ي ْم ُرط‪ :‬يمزق‪.‬‬

‫‪ | 86‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وقال الآخ ُر‪ :‬أما وج َد الله أح ًدا ُيرسله غي َرك!‬
‫وقال الثال ُث‪ :‬والله لا أكلمك أب ًدا‪ ،‬لئن كنت رسو ًلا من الله كما تقول‪ ،‬لأنت‬
‫أعظ ُم خط ًرا من أن أر َّد عليك الكلا َم‪ ،‬ولئن كنت َتكذ ُب على الله‪ ،‬ما ينبغي لي أن‬

‫أك ِّلمك‪.‬‬
‫فقام رسو ُل الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خي ِر ثقي ٍف‪ ،‬وقد قال َلم ‪-‬فيما‬

‫ذكر لي‪« :-‬إذا فعلتم ما فعل ُتم فاكتموا ع ِني»‪.‬‬
‫وكره رسو ُل الله ﷺ أن َيب ُلغ قو َمه عنه‪ ،‬ف ُي ْذ ِئ ُرهم ذلك عليه(‪.)1‬‬

‫فلم َيفعلوا‪ ،‬وأغ َروا به ُسفها َءهم وعبي َدهم‪ ،‬يس ُّبونه ويصيحون به‪ ،‬حتى‬
‫اجتم َع عليه النا ُس‪ ،‬وألجؤوه إلى حائ ٍط ل ُعتب َة بن ربيع َة وشيب َة بن ربيع َة وهما فيه‪،‬‬
‫ورجع عنه من ُسفها ِء ثقي ٍف َمن كان يتبعه‪ ،‬فع ِمد إلى ظ ِّل ح َبلة من عنب‪ ،‬فجلس‬
‫فيه‪ ،‬وابنا ربيع َة ينظران إليه‪ ،‬و َيريان ما ل ِقي من ُسفها ِء أهل الطائ ِف‪ ،‬وقد لقي‬
‫رسو ُل الله ﷺ ‪-‬فيما ُذكر لي‪ -‬المرأ َة التي من بني جُ َم ٍح فقال َلا‪« :‬ماذا لقينا من‬

‫أحمائِك؟»‬
‫فلما اطمأ َّن رسو ُل الله ﷺ قال ‪-‬فيما ُذكر لي‪« :-‬اللهم إليك أشكو َضع َف‬
‫قوت‪ ،‬و ِق َّل َة حيلتي‪ ،‬و َهواني على الناس‪ ،‬يا أرح َم الراحمين‪ ،‬أنت رب المُستضعفين‪،‬‬
‫وأنت ربي‪ ،‬إلى َمن َتكِ ُلني؟ إلى بعي ٍد يتج َّه ُمني؟ أم إلى عدو م َّلكته أمري؟ إن لم ي ُكن‬
‫بك ع َّل غضب فلا ُأبال‪ ،‬ولك َّن عافي َتك هي أوس ُع ل‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي‬
‫أشرقت له الظلما ُت‪ ،‬وصل َح عليه أم ُر الدنيا والآخرة من أن ُتنزل بي غض َبك‪ ،‬أو‬

‫يح َّل ع َّل سخطك‪ ،‬لك ال ُعتبى حتى ترضى‪ ،‬ولا حول ولا ق َّو َة إلا بك»‪.‬‬

‫(‪ُ )1‬ي ْذئِ ُرهم ذلك عليه‪ :‬يريد يحرش بينهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪87‬‬

‫قال‪ :‬فلما رآه ابنا ربيع َة‪ :‬عتب ُة وشيب ُة وما لقي؛ تح َّركت له رح ُمهما‪ ،‬فدعوا‬
‫غلا ًما َلما نصران ايا‪ُ ،‬يقال له‪ :‬ع َّداس‪ ،‬فقالا له‪ُ :‬خذ ِقط ًفا من هذا العن ِب‪ ،‬فضعه في‬

‫هذا ال َّطبق‪ ،‬ثم اذه ْب به إلى ذلك الرج ِل‪ ،‬فق ْل له يأكل منه‪.‬‬
‫ففعل ع َّداس‪ ،‬ثم أقب َل به حتى وض َعه بين يدي رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ثم قال له‪:‬‬

‫ُك ْل‪ ،‬فلما وض َع رسو ُل الله ﷺ فيه ي َده قال‪« :‬باسم الله» ثم أكل‪.‬‬
‫فنظر ع َّداس في وج ِهه‪ ،‬ثم قال‪ :‬والله إن هذا الكلا َم ما يقوله أه ُل هذه‬
‫البلا ِد‪ ،‬فقال له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ومن أه ِل أ ِي البلاد أنت يا َع َّدا ُس؟ وما دينُك؟»‪.‬‬

‫قال‪ :‬نصراني‪ ،‬وأنا رجل من أهل نِينَوى‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬من قري ِة ال َّرج ِل الصالح يون َس بن م َّتى»‪.‬‬

‫فقال له عدا ٌس‪ :‬وما ُيدريك ما يو ُنس بن م َّتى؟‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ذاك أخي‪ ،‬كان نبيا وأنا نب يي»‪.‬‬

‫فأك َّب عدا ٌس على رسول الله ﷺ يق ِّبل رأ َسه ويديه وقدميه‪.‬‬
‫قال‪ :‬يقول ابنا ربيع َة أح ُدهما لصاحبه‪ :‬أ َّما غلا ُمك فقد أفسده عليك‪ ،‬فلما‬
‫جاءهما ع َّدا ٌس‪ ،‬قالا له‪ :‬ويلك يا عدا ُس! ما لك ُتق ِّب ُل رأ َس هذا الرج ِل ويديه‬

‫وقدميه؟‬
‫قال‪ :‬يا س ِّيدي‪ ،‬ما في الأرض شي ٌء خي ٌر من هذا‪ ،‬لقد أخب َرني بأم ٍر ما يعل ُمه‬
‫إلا نبي‪ ،‬قالا له‪ :‬وي َحك يا عدا ُس‪ ،‬لا يصرفنَّك عن دينِك‪ ،‬فإن دينك خي ٌر من‬

‫دينه‪.‬‬

‫‪ | 88‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -21‬أمرُ الج ِنّ الذين استمَعوا له وآمنوا به‬

‫قال‪ :‬ثم إن رسو َل الله ﷺ انصر َف من ال َّطائف راج ًعا إلى مك َة حين يئ َس‬
‫من خي ِر ثقي ٍف‪ ،‬حتى إذا كان بنخل َة قام من جو ِف الليل ُيص ِّلي‪ ،‬فمر به النف ُر من‬
‫الج ِّن الذين َذ َك َرهم اللهُ تبارك وتعالى‪ ،‬وهم ‪-‬فيما ُذكر لي‪ -‬سبع ُة نف ٍر من جن أهل‬
‫َن ِصيبي َن‪ ،‬فاس َتمعوا له؛ فلما فر َغ من صلاته و َّلوا إلى قو ِمهم ُمنذرين قد آمنوا‬

‫وأجابوا إلى ما سمعوا‪.‬‬

‫ف َق َّص الله خب َرهم عليه ﷺ‪ ،‬قال الل ُه ‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗﭘ) إلى قوله تعالى‪( :‬ﮃﮄﮅﮆﮇ) [الأحقاف‪-52:‬‬

‫‪ ]35‬وقال تبارك وتعالى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الجن‪ ]5:‬إلى آخر‬

‫القصة من خبرهم في هذه السورة‪.‬‬

‫‪َ -22‬عرضُ رسولِ الله ﷺ نفسَه على القبائلِ‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم ق ِدم رسو ُل الله ﷺ م َّك َة‪ ،‬وقو ُمه أش ُّد ما كانوا عليه من‬

‫خلافِه وفرا ِق دينه‪ ،‬إلا قلي ًلا ُمستضعفين ممن آمن به‪.‬‬
‫فكان رسو ُل الله ﷺ َيع ِرض نف َسه في الموا ِسم إذا كانت على قبائ ِل العر ِب‬
‫يدعوهم إلى الله‪ ،‬ويُخبرهم أنه نبي مرس ٌل‪ ،‬ويسأَلم أن يصدقوه و َيمنعوه حتى يب ِّين‬

‫َلم اللهُ ما بعثه به‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ربيع َة بن ع َّبا ٍد قال‪ :‬إني لغلا ٌم شاب مع أبي بمنًى‬
‫ورسو ُل الله ﷺ يق ُف على مناز ِل القبائ ِل من العر ِب‪ ،‬فيقول‪« :‬يا بني فلا ٍن‪ ،‬إني‬
‫رسو ُل الله إليكم‪ ،‬يأم ُركم أن َتعبدوا الله ولا ُتشكوا به شيئا‪ ،‬وأن َتلعوا ما‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪89‬‬

‫َتعبدون من دونِه من هذه الأندا ِد‪ ،‬وأن ُتؤمنوا بي‪ ،‬و ُتص ِدقوا بي‪ ،‬وتنعوني‪ ،‬حتى‬

‫أب ِي َن عن الله ما بعثني به»‪.‬‬
‫قال‪ :‬وخل َفه رج ٌل أحو ُل وضي ٌء‪ ،‬له غديرتا ِن‪ ،‬عليه ُح َّل ٌة ع َدنية‪ ،‬فإذا فر َغ‬
‫رسو ُل الله ﷺ من قولِه وما دعا إليه‪ ،‬قال ذلك الرج ُل‪ :‬يا َبني فلا ٍن‪ ،‬إن هذا إنما‬
‫َيدعوكم أن َتسلخوا اللا َت وال ُع َّزى من أعنا ِقكم‪ ،‬و ُحلفاءكم من الح ِّي من بني‬

‫مالك بن ُأ َقيش إلى ما جاء به من البِدعة والضلال ِة؛ فلا ُتطيعوه ولا َتسمعوا منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقل ُت لأبي‪ :‬يا أب ِت‪ ،‬من هذا الذي يتب ُعه وير ُّد عليه ما يقول؟ قال‪ :‬هذا‬

‫ع ُّمه عب ُد ال ُع َّزى بن عبد المطلب أبو َل ٍب‪.‬‬

‫‪ | 91‬مختصر السيرة النبوية‬

‫[ج ‪ -‬بيعة العقبة وبدء الهجرة]‬
‫‪َ -1‬بدءُ إسلا ِم الأنصارِ‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما أراد اللهُ ‪ ‬إظها َر دينه‪ ،‬وإعزا َز نب ِّيه ﷺ‪ ،‬وإنجا َز‬
‫َموع ِده له‪ ،‬خر َج رسو ُل الله ﷺ في الموس ِم الذي لق َيه فيه النف ُر من الأنصا ِر‪،‬‬

‫فعرض نف َسه على قبائ ِل العر ِب‪ ،‬كما كان يصن ُع في ُك ِّل موسم‪.‬‬
‫فبينما هو عند ال َعقبة لق َي ره ًطا من الخزر ِج أرا َد الله بهم خي ًرا‪.‬‬

‫قال َلم‪« :‬من أنتم؟» قالوا‪ :‬نف ٌر من الخزر ِج‪.‬‬

‫قال‪« :‬أمن موال يهود؟»‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال‪« :‬أفلا َتلسون أك ِل ُمكم؟»‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬بلى‪.‬‬
‫فجلسوا معه‪ ،‬فدعاهم إلى الله ‪ ،‬وعر َض عليهم الإسلا َم‪ ،‬وتلا عليهم‬

‫القرآ َن‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكان مما صن َع الل ُه بهم في الإسلا ِم‪ ،‬أن ُود كانوا معهم في بلا ِدهم‪،‬‬
‫وكانوا أه َل كتا ٍب و ِعلم‪ ،‬وكانوا هم أه َل شر ٍك وأصحا َب أوثا ٍن‪ ،‬وكانوا قد‬
‫غزوهم ببلا ِدهم‪ ،‬فكانوا إذا كان بينهم شي ٌء قالوا َلم‪ :‬إن نب ايا مبعو ٌث الآن‪ ،‬قد‬

‫أظ َّل زما ُنه‪ ،‬نتبعه فنق ُتلكم معه قتل عا ٍد وإرم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪90‬‬

‫فلما كلم رسو ُل الله ﷺ أولئك النف َر‪ ،‬ودعاهم إلى الله‪ ،‬قال بع ُضهم لبعض‪:‬‬
‫يا قو ُم‪ ،‬تع َّلموا والله‪ ،‬إنه للنب ُّي الذي تو َّعدكم به ُو ُد‪ ،‬فلا تسبق َّنكم إليه؛ فأجابوه‬

‫فيما دعاهم إليه‪ ،‬بأن ص َّدقوه وقبِلوا منه ما عر َض عليهم من الإسلا ِم‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إنا قد تركنا قو َمنا‪ ،‬ولا قو َم بينهم من العداو ِة والش ِّر ما بينَهم‪،‬‬
‫فعسى أن يَجم َعهم الله بك فسنَق َد ُم عليهم‪ ،‬فندعوهم إلى أم ِرك‪ ،‬و َنعر ُض عليهم‬

‫الذي أجبناك إليه من هذا الدين‪ ،‬فإن جم َعهم الل ُه عليه فلا رج َل أع َّز منك‪.‬‬
‫ثم انصرفوا عن رسو ِل الله ﷺ راجعي َن إلى بلا ِدهم‪ ،‬وقد آمنوا وص َّدقوا‪.‬‬
‫فلما ق ِدموا المدين َة إلى قو ِمهم ذكروا َلم رسو َل الله ﷺ ود َعوهم إلى الإسلام‬
‫حتى فشا فيهم‪ ،‬فلم تب َق دا ٌر من ُدور الأنصا ِر إلا وفيها ذك ٌر من رسو ِل الله ﷺ‪.‬‬

‫‪ -2‬العَقب ُة الأولى ومُصع ُب بن عُميٍر‬
‫حتى إذا كان العا ُم ال ُمقب ُل واِّف الموس َم من الأنصا ِر اثنا ع َشر رج ًلا‪ ،‬فلقوه‬
‫بالعقب ِة‪ ،‬فبايعوا رسو َل الله ﷺ على بيع ِة النسا ِء(‪ ،)1‬وذلك قبل أن ُتفتر َض عليهم‬

‫الحر ُب‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ُعباد َة بن الصام ِت قال‪ :‬كنت فيمن ح َض العقب َة‬
‫الأولى‪ ،‬وكنا اثني ع َشر رج ًلا‪ ،‬فبا َي ْعنا رسو َل الله ﷺ على بيع ِة النسا ِء‪ ،‬وذلك قبل‬
‫أن ُتفتر َض الحر ُب‪ ،‬على ألا ُنشرك بالله شي ًئا‪ ،‬ولا َنسر َق‪ ،‬ولا نزني‪ ،‬ولا َنقت َل‬
‫أولا َدنا‪ ،‬ولا نأت َي ب ُبهتا ٍن نفتريه من بين أيدينا وأر ُجلنا‪ ،‬ولا َنعصيه في معرو ٍف‪ ،‬فإن‬

‫(‪ )1‬بيعة النساء‪ :‬أي لا قتال فيها‪ ،‬وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن‪ ،‬فقال‪( :‬ﭖﭗﭘﭙﭚ‬
‫ﭛﭜ) [الممتحنة‪.]55:‬‬

‫‪ | 92‬مختصر السيرة النبوية‬

‫و َّفيتم فل ُكم الجن ُة‪ ،‬وإن َغ ِشيتم من ذلك شي ًئا فأم ُركم إلى الله ‪ ،‬إن شاء ع َّذب‬
‫وإن شاء َغ َف َر‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما انصر َف عنه القو ُم‪ ،‬بعث رسو ُل الله ﷺ معهم‬
‫مصع َب ب َن عمي ٍر‪ ،‬وأمره أن ُيقرئهم القرآ َن‪ ،‬و ُيع ِّلمهم الإسلا َم‪ ،‬و ُيف ِّق َه ُهم في‬

‫الدين‪ ،‬فكان ُيسمى المقر َئ بالمدينة مصعب‪ ،‬وكان منز ُله على أسع َد بن ُزرار َة‪.‬‬

‫‪ -3‬إسلا ُم سعدِ بن ُمعا ٍذ وأسي ِد بن ُحضيرٍ‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ح َّدثني ُعبي ُد الله بن ال ُمغيرة وعب ُد الله بن أبي بك ٍر‪ :‬أن أسع َد‬
‫ب َن زرار َة خرج بمصع ِب بن ُعمير يريد به دا َر بني عبد الأشه ِل‪ ،‬ودا َر بني َظ َفر‪،‬‬
‫وكان سع ُد بن معاذ اب َن خالة أسع َد بن ُزرار َة‪ ،‬فدخل به حائ ًطا من حوائط بني‬
‫َظ َفر على بئ ٍر ُيقال َلا‪ :‬بئر َمر ٍق‪ ،‬فجلسا في الحائط‪ ،‬واجتمع إليهما رجا ٌل ممن أسل َم‪،‬‬
‫وسع ُد بن معا ٍذ‪ ،‬و ُأسي ُد بن ُحضير‪ ،‬يومئذ سي َدا قو ِمهما من بني عبد الأشه ِل‪،‬‬
‫وكلا ُهما ُمشر ٌك على دين قو ِمه‪ ،‬فلما سمعا به قال سع ُد بن ُمعاذ لأسيد بن ُحضي ٍر‪:‬‬
‫لا أبا لك‪ ،‬انطل ْق إلى هذين الرجلين اللذي ِن قد أتيا دارينا ل ُيس ِّفها ُضعفا َءنا؛‬
‫فاز ُجرهما وانههما عن أن يأتيا دا َرينا‪ ،‬فإ َّنه لولا أن أسع َد بن زرار َة مني حيث قد‬

‫علم َت كفي ُتك ذلك‪ ،‬هو اب ُن خالتي‪ ،‬ولا أجد عليه مق َّد ًما‪.‬‬

‫قال‪ :‬فأخذ أسي ُد بن حضير حر َبته ثم أقبل إليهما‪ ،‬فلما رآه أسع ُد بن زرار َة‪،‬‬
‫قال لمصع ِب بن عمي ٍر‪ :‬هذا سي ُد قو ِمه قد جاءك‪ ،‬فاص ُدق الل َه فيه‪ ،‬قال مصع ٌب‪ :‬إن‬

‫يجلس أك ِّل ْمه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فوقف عليهما متشت ًما‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪93‬‬

‫فقال‪ :‬ما جاء بكما إلينا‪ُ ،‬تس ِّفهان ُضعفا َءنا؟! اعت ِزلانا إن كانت لكما‬
‫بأن ُف ِسكما حاج ٌة‪ ،‬فقال له مصع ٌب‪ :‬أو تل ُس فتسمع‪ ،‬فإن رضيت أم ًرا قبل َته‪ ،‬وإن‬

‫كرهته ُك َّف عنك ما تكره؟‬

‫قال‪ :‬أنصفت‪ ،‬ثم ر َكز حر َبته وجلس إليهما‪ ،‬فك َّلمه مصع ٌب بالإسلا ِم‪ ،‬وقرأ‬
‫عليه القرآ َن‪ ،‬فقالا ‪-‬فيما يذكر عنهما‪ :-‬والله ل َعرفنا في وج ِهه الإسلا َم قبل أن‬

‫يتك َّلم في إشرا ِقه وتس ُّهله‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬ما أحسن هذا الكلا َم وأج َمله! كيف َتصنعون إذا أردتم أن تدخلوا‬
‫في هذا الدي ِن؟‬

‫قالا له‪َ :‬تغتس ُل فتط َّهر‪ ،‬و ُتط ِّهر ثوبيك‪ ،‬ثم َتش َه ُد شهاد َة الحق‪ ،‬ثم ُتصلي‪.‬‬
‫فقام فاغتسل وط َّهر ثوبيه‪ ،‬و َتش َّهد شهاد َة الحق‪ ،‬ثم قام فركع ركعتي ِن‪ ،‬ثم‬
‫قال َلما‪ :‬إن ورائي رج ًلا إن ا َّتبعكما لم يتخ َّلف عنه أح ٌد من قومه‪ ،‬وسأرس ُله إليكما‬
‫الآ َن‪ ،‬سع َد بن معاذ‪ ،‬ثم أخذ حر َبته وانصرف إلى سع ٍد وقو ِمه وهم جلو ٌس في‬
‫نادُم‪ ،‬فلما نظر إليه سع ُد بن معاذ ُمقب ًلا قال‪ :‬أحل ُف بالله لقد جاءكم أسي ٌد بغير‬

‫الوجه الذي ذهب به من ِعندكم‪ ،‬فلما وق َف على النادي قال له سع ٌد‪ :‬ما فعل َت؟‬

‫قال‪ :‬ك َّلمت الرجلي ِن‪ ،‬فوالله ما رأيت بهما بأ ًسا‪ ،‬وقد نهي ُتهما‪ ،‬فقالا‪ :‬نفع ُل ما‬
‫أحبب َت‪ ،‬وقد ُح ِّدثت أن بني حارث َة قد خرجوا إلى أسع َد بن زرار َة ليقتلوه‪ ،‬وذلك‬

‫أنهم قد عرفوا أنه اب ُن خالتك‪ ،‬ليخ ِفروك‪.‬‬

‫‪ | 94‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فقام سع ٌد ُمغض ًبا مباد ًرا‪ ،‬تخ ُّو ًفا للذي ُذكر له من بني حارث َة‪ ،‬فأخذ‬
‫الحرب َة من يده‪ ،‬ثم قال‪ :‬والله ما أراك أغنيت شي ًئا‪ ،‬ثم خرج إليهما‪ ،‬فلما رآهما سع ٌد‬
‫مطمئنين‪ ،‬عرف سع ٌد أن أسي ًدا إنما أراد منه أن يسم َع منهما‪ ،‬فوقف عليهما ُمتش ِّت ًما‪،‬‬
‫ثم قال لأسع َد بن زرار َة‪ :‬يا أبا ُأمام َة‪ ،‬أما والله‪ ،‬لولا ما بيني وبينك من القراب ِة ما‬
‫ُرم َت هذا مني‪ ،‬أتغشانا في دا َر ْينا بما نك َره ‪-‬وقد قال أسع ُد ب ُن زرار َة لمصعب بن‬
‫عمي ٍر‪ :‬أ ْي مصع ُب‪ ،‬جاءك والله سي ُد َمن وراءه من قو ِمه‪ ،‬إن ي َّتبعك لا يتخ َّلف‬
‫عنك منهم اثنا ِن‪ -‬قال‪ :‬فقا َل له مصع ٌب‪ :‬أو تقع ُد فتسمع‪ ،‬فإن رضي َت أم ًرا‬

‫ورغبت فيه قبِلته‪ ،‬وإن ك ِرهته عزلنا عنك ما تكر ُه؟‬

‫قال سع ٌد‪ :‬أنصف َت‪.‬‬

‫ثم ر َكز الحر َبة وجلس‪ ،‬فعرض عليه الإسلا َم‪ ،‬وقرأ عليه القرآ َن‪.‬‬
‫قالا‪ :‬فع َرفنا والله في وج ِهه الإسلا َم قبل أن يتك َّلم‪ ،‬لإشرا ِقه وتس ُّهله‪.‬‬

‫ثم قال َلما‪ :‬كيف َتصنعون إذا أنتم أسلم ُتم ودخل ُتم في هذا الدين؟‬

‫قالا‪َ :‬تغتس ُل ف َتط َّهر و ُتط ِّهر ثوبيك‪ ،‬ثم َتشه ُد شهاد َة الح ِّق‪ ،‬ثم تصلي‬
‫ركعتين‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقام فاغتسل وط َّهر ثوبيه‪ ،‬وتش َّهد شهاد َة الح ِّق‪ ،‬ثم ركع ركعتين‪ ،‬ثم‬
‫أخذ حربته‪ ،‬فأقب َل عام ًدا إلى نادي قو ِمه ومعه أسي ُد بن حضي ٍر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلما رآه قومه ُمقب ًلا‪ ،‬قالوا‪ :‬نحلف بالله لقد رجع إليكم سع ٌد بغير‬
‫الوج ِه الذي ذهب به من عن ِدكم‪ ،‬فلما وق َف عليهم قال‪ :‬يا بني عب ِد الأشهل‪،‬‬

‫كيف تعلمون أم ِري فيكم؟‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪95‬‬

‫قالوا‪ :‬س ِّي ُدنا وأوصلنا وأفض ُلنا رأ ًيا‪ ،‬وأيمننا نقيب ًة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن كلا َم رجالِكم ونسا ِئكم عل َّي حرا ٌم حتى تؤمنوا بالله وبرسولِه‪.‬‬
‫قالا‪ :‬فوالله ما أمسى في دا ِر بني عب ِد الأشه ِل رج ٌل ولا امرأ ٌة إلا مسل ًما‬
‫ومسلم ًة‪ ،‬ورجع أسع ُد ومصع ٌب إلى منزل أسع َد بن زرار َة‪ ،‬فأقام عنده يدعو‬
‫النا َس إلى الإسلا ِم‪ ،‬حتى لم تبق دا ٌر من دور الأنصا ِر إلا وفيها رجا ٌل ونسا ٌء‬

‫مسلمون‪.‬‬

‫‪ -4‬أمرُ العقب ِة الثاني ِة‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن مصع َب بن عمي ٍر رجع إلى م َّك َة‪ ،‬وخرج من خرج من‬
‫الأنصا ِر من المسلمين إلى الموس ِم مع ُحجا ِج قومهم من أهل الشر ِك‪ ،‬حتى قدموا‬
‫م َّك َة‪ ،‬فواعدوا رسو َل الله ﷺ العقب َة‪ ،‬من أوس ِط أيام التشري ِق‪ ،‬حين أرا َد الله بهم ما‬

‫أرا َد من كرامتِه‪ ،‬والنص ِر لنب ِّيه‪ ،‬وإعزا ِز الإسلام وأه ِله‪ ،‬وإذلا ِل الشرك وأهلِه‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬قال كع ٌب‪ :‬فلما فرغنا من الح ِّج‪ ،‬وكانت الليل ُة التي واعدنا‬
‫رسو َل الله ﷺ َلا نِمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا‪ ،‬حتى إذا مضى ُثل ُث اللي ِل‬
‫خرجنا من ِرحالنا لمعاد رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬نتس َّل ُل تس ُّل َل ال َقطا ُمست ْخ ِفين‪ ،‬حتى‬
‫اجتمعنا في ال ِّشعب عند العقب ِة‪ ،‬ونحن ثلاثة وسبعون رج ًلا‪ ،‬ومعنا امرأتا ِن من‬

‫نسا ِئنا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فاجتمعنا في ال ِّشعب ننتظ ُر رسو َل الله ﷺ‪ ،‬حتى جاءنا ومعه ع ُّمه‬
‫العبا ُس ب ُن عب ِد المطلب‪ ،‬وهو يومئ ٍذ على دين قو ِمه‪ ،‬إلا أنه أح َّب أن يحض أم َر اب ِن‬

‫أخيه ويتو َّثق له‪.‬‬

‫‪ | 96‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فلما جل َس كان أ َّو َل متكل ٍم العبا ُس بن عبد المطل ِب‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر الخزر ِج‬
‫– قال‪ :‬وكانت العر ُب إنما ُيس ُّمون هذا الح َي من الأنصار‪ :‬الخزر َج‪ ،‬خزرجها‬
‫وأو َسها‪ :-‬إن محم ًدا منا حيث قد علم ُتم وقد منعنا ُه من قو ِمنا‪ ،‬ممن هو على مث ِل‬
‫رأينا فيه‪ ،‬فهو في ع ٍّز من قو ِمه و َمنع ٍة في بل ِده‪ ،‬وإنه قد أبى إلا الانحيا َز إليكم‬
‫واللحو َق بكم‪ ،‬فإن كنتم َترون أ َّنكم وافون له بما دعوتُموه إليه‪ ،‬ومانِعوه ممن‬

‫خالفه‪ ،‬فأنتم وما تح َّمل ُتم من ذلك‪.‬‬
‫وإن كنتم ترون أنكم ُمسلموه وخا ِذلوه بعد الخرو ِج به إليكم‪ ،‬ف ِمن الآن‬

‫فدعوه؛ فإنه في ِع ٍّز ومنع ٍة من قومه وبلده‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقلنا له‪ :‬قد َسمعنا ما قل َت‪ ،‬فتكل ْم يا رسو َل الله‪ ،‬ف ُخذ لنف ِسك ولر ِّبك‬

‫ما أحبب َت‪.‬‬

‫قال‪ :‬فتكلم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فتلا القرآ َن‪ ،‬ودعا إلى الله‪ ،‬ور َّغب في الإسلا ِم‪ ،‬ثم‬

‫قال‪« :‬أباي ُعكم على أن َتنعوني مما َتنعو َن منه نسا َءكم وأبناءكم»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخذ البرا ُء بن معرو ٍر بي ِده‪ ،‬ثم قال‪ :‬نعم‪ ،‬والذي بع َثك بالح ِّق نب ايا‪،‬‬
‫لنمنَ َعنَّك مما نمن ُع منه ُأز َرنا(‪ ،)1‬فبا ِيعنا يا رسو َل الله‪ ،‬فنحن والله أبنا ُء الحرو ِب‪،‬‬

‫وأه ُل الحلقة‪ ،‬ورثناها كاب ًرا عن كاب ٍر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاعترض القو َل ‪-‬والبرا ُء يك ِّلم رسو َل الله ﷺ‪ -‬أبو اَليثم بن ال َّت ِّيها ِن‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إن بينَنا وبين الرجا ِل ِحبا ًلا‪ ،‬وإنا قا ِطعوها ‪-‬يعني‪ :‬اليهو َد‪-‬‬

‫فهل عسي َت إن نحن ف َعلنا ذلك ث َّم أظ َه َرك الل ُه أن تر ِج َع إلى قو ِمك وت َد َعنا؟‬

‫(‪ُ )1‬أز َرنا‪ :‬من الإزار‪ ،‬كناية عن النساء‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪97‬‬

‫قال‪ :‬فتبسم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ثم قال‪« :‬بل ال َّد َم ال َّد َم‪ ،‬واهم َد َم اهم َد َم‪ ،‬أنا منكم‬
‫وأنتم م ِني‪ ،‬أحار ُب من حا َربتم‪ ،‬وأسالمُ من سالم ُتم»‪.‬‬

‫قال‪ :‬وقد كان قا َل رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أخ ِرجوا إ َّل منكم اثني ع َ َش نقيبا‪،‬‬
‫ليكونوا على قو ِمهم بما فيهم»‪.‬‬

‫فأخ َرجوا منهم اثنَي ع َشر نقي ًبا‪ ،‬تسع ًة من الخزرج‪ ،‬وثلاث ًة من الأوس‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بكر‪ ،‬أن رسو َل الله ﷺ قال‬
‫للنُّقبا ِء‪« :‬أنتم على قو ِمكم بما فيهم ُكفلا ُء‪ ،‬ككفال ِة الحواريين لعيسى اب ِن مري َم‪،‬‬

‫وأنا كفيل على قومي» ‪-‬يعني‪ :‬المسلمين‪ -‬قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فلما بايعنا رسو َل الله ﷺ صر َخ الشيطا ُن من رأ ِس العقب ِة بأنف ِذ صو ٍت‬
‫سمعته ق ُّط‪ :‬يا أه َل ال ُجبا ِجب ‪-‬والجُباج ُب‪ :‬المناز ُل‪ -‬هل لكم في ُمذ َّم ٍم وال ُّصبا ُة‬

‫معه‪ ،‬قد اجتمعوا على حربِكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬هذا أ َزب العقب ِة‪ ،‬هذا ابن َأ ْزي َب‪ ،‬أتسم ُع‪ ،‬أي‬

‫عد َّو الله‪ ،‬أما والله لأف ُر َغ َّن لك»‪.‬‬
‫فقال له العبا ُس بن ُعباد َة ب ِن نضل َة‪ :‬والله الذي بعثك بالح ِّق‪ ،‬إن شئت‬

‫لنُميل َّن على أه ِل ِمنًى غ ًدا بأسيافِنا؟‬
‫قال‪ :‬فقا َل رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لم ُنؤ َمر بذلك‪ ،‬ولكن ار ِجعوا إلى ِرحالِكم»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فرجعنا إلى َمضا ِجعنا فنِمنا عليها حتى أص َبحنا‪.‬‬

‫‪ | 98‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فلما أصبحنا غ َدت علينا جل ُة قري ٍش‪ ،‬حتى جاءونا في َمنا ِزلنا‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫يا معش َر الخزر ِج‪ ،‬إنه قد ب َلغنا أنكم قد جئ ُتم إلى صا ِحبنا هذا َتستخ ِرجو َنه من بين‬
‫أظ ُه ِرنا‪ ،‬و ُتبا ِيعونه على حربِنا‪ ،‬وإنه والله ما من ح ٍّي من العر ِب أبغ ُض إلينا أن‬

‫تنش َب الحر ُب بيننا وبينهم منكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فانب َعث َمن هناك من ُمشركي قو ِمنا يَحلفون بالله ما كان من هذا شي ٌء‪،‬‬

‫وما ع ِلمناه‪.‬‬

‫قال‪ :‬وقد َصدقوا؛ لم يعلموه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ونف َر النا ُس من م ًنى‪ ،‬فتن َّطس القو ُم الخب َر(‪ ،)1‬فوجدوه قد كان‪،‬‬
‫و َخرجوا في طل ِب القو ِم‪ ،‬فأدركوا سع َد بن ُعباد َة بأذاخ َر‪ ،‬والمنذ َر بن عمرو أخا‬

‫َبني ساعد َة بن كع ِب بن الخزر ِج‪ ،‬وكلا ُهما كان نقي ًبا‪.‬‬
‫فأما المنذ ُر فأعج َز القو َم‪ ،‬وأما سع ٌد فأخذوه‪ ،‬فربطوا يديه إلى ُعن ِقه بنِس ِع(‪)2‬‬
‫رح ِله‪ ،‬ثم أقبلوا به حتى أدخلوه م َّك َة َيضبو َنه‪ ،‬ويَجذبو َنه ب ُج َّمتِه‪ ،‬وكان ذا شع ٍر كثي ٍر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فوالله‪ ،‬إني لفي أيدُم َيس َحبونني إذ أوى لي رج ٌل ممن كان م َعهم‪،‬‬
‫فقال وي َحك! أما بينك وبين أح ٍد من قري ٍش جوا ٌر ولا عه ٌد؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬بلى والله‪ ،‬لقد كنت ُأ ِجي ُر لجبي ِر بن مط ِعم بن عد ِّي بن نوفل بن‬
‫عبد َمناف ُتا َر ُه‪ ،‬وأمنعهم ممن أرا َد ُظل َمهم ببلادي‪ ،‬وللحار ِث بن حرب بن أم َّية‬

‫بن عبد شم ِس بن عبد منا ٍف‪.‬‬

‫(‪َ )1‬تنَ َّط ُسوا الخبر‪ :‬بالغوا في البحث عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬النِّ ْسع‪ :‬سير مضفور يجعل زما ًما للبعير وغيره‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪99‬‬

‫قال‪ :‬وي َحك! فاهتِف باسم الرجلي ِن‪ ،‬واذكر ما بينَك وبينهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬ففعل ُت؛ وخرج ذلك الرج ُل إليهما‪ ،‬فوج َدهما في المسج ِد عند الكعب ِة‪،‬‬
‫فقال َلما‪ :‬إن رج ًلا من الخزر ِج الآ َن ُيض ُب بالأبط ِح وُتِ ُف بكما‪ ،‬ويذكر أن بينه‬

‫وبينكما ِجوا ًرا‪.‬‬

‫قالا‪ :‬ومن هو؟‬

‫قال‪ :‬سع ُد بن ُعبادة‪.‬‬
‫قالا‪ :‬صد َق والله‪ ،‬إن كان ل ُيجي ُر لنا تا َرنا‪ ،‬ويمنعهم أن ُيظلموا ببلِده‪.‬‬

‫قال‪ :‬فجاءا فخ َّلصا سع ًدا من أيدُم‪ ،‬فانطلق‪.‬‬

‫‪ -5‬شرو ُط البيعةِ في العقب ِة الأخيرِة‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان في بيع ِة الحر ِب‪ ،‬حين أ ِذن الله لرسولِه ﷺ في القتا ِل‬

‫شرو ًطا سوى شر ِطه عليهم في العقب ِة الأولى‪.‬‬
‫كانت الأولى على بيع ِة النساء‪ ،‬وذلك أن الل َه تعالى لم يكن أذ َن لرسولِه ﷺ في‬
‫الحر ِب‪ ،‬فلما أذن اللهُ له فيها وبايعهم رسو ُل الله ﷺ في العقب ِة الأخير ِة على حر ِب‬
‫الأحم ِر والأسو ِد‪ ،‬أخذ لنف ِسه واشتر َط على القوم لر ِّبه‪ ،‬وجعل َلم على الوفا ِء‬

‫بذلك الجنَّ َة‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عباد َة بن الصام ِت ‪-‬وكان أح َد النقبا ِء‪ -‬قال‪ :‬بايعنا‬
‫رسو َل الله ﷺ بيع َة الحر َب ‪-‬وكان ُعباد ُة من الاثني عش َر الذين بايعوه في العقب ِة‬
‫الأولى على بيع ِة النسا ِء‪ -‬على السم ِع والطاع ِة‪ ،‬في ُعسرنا و ُيسرنا و َمن َشطنا‬


Click to View FlipBook Version