| 51مختصر السيرة النبوية
فقالوا له :يا أبا طالب ،إن لك سناا وشر ًفا ومنزل ًة فينا ،وإنا قد استنهيناك
من ابن أخيك فلم َتنْ َهه عنا ،وإنا والله لا َنصب ُر على هذا من َش ْت ِم آبائنا ،وتسفيه
أحلا ِمنا ،و َعي ِب آَلتنا ،حتى ت ُك َّفه عنا ،أو نناز ُله وإياك في ذلك ،حتى ُل َك أح ُد
الفريقين ،أو كما قالوا له.
ثم انصرفوا عنه ،ف َع ُظم على أبي طالب فرا ُق قومه وعداو ُتهم ،ولم ي ِطب نف ًسا
بإسلا ِم رسو ِل الله ﷺ َلم ولا ِخذلانِه.
قال اب ُن إسحا َق :وحدثني يعقو ُب بن عتب َة ب ِن المغيرة بن الأخن ِس أنه
ُح ِّدث :أن قري ًشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقال َة ،بعث إلى رسو ِل الله ﷺ ،فقال
له :يا اب َن أخي ،إن قو َمك قد جاءوني ،فقالوا لي كذا وكذا -للذي كانوا قالوا له-
فأ ْب ِق عل َّي وعلى نف ِسك ،ولا ُتح ِّملني من الأم ِر ما لا أطي ُق.
قال :فظن رسو ُل الله ﷺ أنه قد بدا ل َع ِّمه فيه َبدا ًء أنه خاذ ُله و ُمسل ُمه ،وأنه
قد ضع َف عن ُنصرتِه والقيا ِم معه.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :يا َع ِم ،والله لو َوضعوا الشم َس في يميني،
والقم َر في َيساري على أن أت ُر َك هذا الأم َر حتى ُيظه َره اللهُ ،أو أهلِك فيه ،ما
ترك ُته».
قال :ثم استع َبر رسو ُل الله ﷺ ،فبكى ثم قا َم ،فلما و َّلى ناداه أبو طال ٍب فقال:
أقب ْل يا اب َن أخي ،قال :فأقب َل عليه رسو ُل الله ﷺ ،فقال :اذهب يا اب َن أخي ،ف ُقل
ما أحبب َت؛ فوالله ،لا ُأسل ُمك لشيء أب ًدا.
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن قري ًشا حين عرفوا أن أبا طال ٍب قد أبى ِخذلان
رسو ِل الله ﷺ وإسلا َمه ،وإجماعه لفرا ِقهم في ذلك وعداوتِهم ،مشوا إليه ب ُعمار َة
مختصر السيرة النبوية|50
بن الولي ِد بن ال ُمغيرة ،فقالوا له -فيما بلغني :-يا أبا طالب ،هذا ُعمارة بن الوليد،
َأنْهَ ُد( )1ف ًتى في قريش وأجم ُله ،فخذه ف َلك عق ُله ونص ُره ،واتخذه ول ًدا فهو لك،
وأسلِم إلينا اب َن أخيك هذا ،الذي قد خال َف دي َنك ودي َن آبائك ،وف َّرق جماع َة
قومك ،وس َّفه أحلامهم ،فنق ُتله ،فإنما هو رج ٌل برج ٍل.
فقال :والله لبئس ما َتسومونني( !)2أ ُتعطونني ابنَكم أغ ُذوه لكم ،وأعطيكم
ابني تقتلو َنه! هذا والله ما لا يكون أب ًدا.
قال :فقال المُطعم بن عدي بن َنوفل بن عب ِد مناف بن ُقصي :والله يا أبا
طال ٍب لقد أنص َفك قو ُمك ،وجهدوا على التخ ُّلص مما تكر ُهه ،فما ُأراك تري ُد أن
تقب َل منهم شي ًئا!
فقال أبو طالب لل ُمطعم :والله ما أنصفوني ،ولكنَّك قد أجمع َت ِخذلاني
و ُمظاهر َة القو ِم عل َّي ،فاصنع ما بدا لك ،أو كما قال.
ف َح َق َب( )3الأم ُر ،وحَمِيت الحر ُب ،وتنا َب َذ القو ُم ،وبادى بع ُضهم بع ًضا.
ِ -2ذك ُر ما َفتنت به قريشٌ المؤمنين وع َذّبتهُم على الإيما ِن
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن قري ًشا تذامروا بينهم على من في القبائ ِل منهم من
أصحا ِب رسول الله ﷺ الذين أسلموا معه ،فو َثبت ُك ُّل قبيل ٍة على َم ْن فيهم من
المسلمين ُيع ِّذبونَهم ،و َيفتِنونهم عن ِدينِهم ،ومن َع الله رسو َله ﷺ منهم بع ِّمه أبي
طالب ،وقد قام أبو طالب حين رأى قري ًشا يصنعون ما يصنعون في َبني هاش ٍم
(َ )1أنْهَد :أشد وأقوى.
(َ )2ت ُسو ُمو َننِي :تكلفونني.
(َ )3ح َق َب :زاد واشتد.
| 52مختصر السيرة النبوية
وبني الم َّطلب ،فدعاهم إلى ما هو عليه ،من َمنع رسو ِل الله ﷺ ،والقيا ِم دو َنه،
فاجتمعوا إليه ،وقاموا معه ،وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ،إلا ما كان من أبي ََل ٍب،
عد ِّو الله الملعو ِن.
َ -3تحُّيرُ الوليدِ بن المغيرة فيما َيصفُ به القرآ َن
ثم إن الولي َد بن المغير َة اجتمع إليه نف ٌر من قري ٍش ،وكان ذا س ٍّن فيهم ،وقد
حض الموس ُم فقال َلم :يا معش َر قري ٍش ،إنه قد ح َض هذا الموس ُم ،وإن وفو َد
العرب س َتق َدم عليكم فيه ،وقد سمعوا بأم ِر صاحبكم هذا ،فأجمعوا فيه رأ ًيا
واح ًدا ،ولا تختلفوا ف ُيك ِّذ َب بع ُضكم بع ًضا ،و َير َّد قو ُلكم بع ُضه بع ًضا.
قالوا :فأنت يا أبا عبد شمس ،فق ْل وأقم لنا رأ ًيا نقو ُل به ،قال :بل أنتم
فقولوا أ ْس َم ْع.
قالوا :نقو ُل كاه ٌن.
قال :لا والله ما هو بكاه ٍن ،لقد رأينا الك َّها َن فما هو بزمزم ِة الكاه ِن ولا
سج ِعه.
قالوا :فنقول :جلنو ٌن.
قال :ما هو بمجنو ٍن ،لقد رأينا الجنو َن وعرفناه ،فما هو بخن ِقه ،ولا َتخال ُِجه،
ولا وسوستِه.
قالوا :فنقول :شاع ٌر.
قال :ما هو بشاع ٍر ،لقد عرفنا الشع َر ك َّله ر َج َزه وه َزجه و َقري َضه و َمقبو َضه
و َمبسو َطه ،فما هو بالشعر.
مختصر السيرة النبوية|53
قالوا :فنقول :ساح ٌر.
قال :ما هو بساح ٍر ،لقد رأينا السحار وسح َرهم ،فما هو بنفثِهم ولا
عق ِدهم.
قالوا :فما نقول يا أبا عب ِد شمس؟
قال :والله ،إن لقولِه لحلاو ًة ،وإن أص َله ل َعذ ٌق( ،)1وإن ف َرعه لجنا ٌة ،وما أنتم
بقائلين من هذا شي ًئا إلا ُعرف أنه باط ٌل ،وإن أقر َب القول فيهَ :لأَن تقولوا :هو
ساح ٌر ،جاء بقول هو سح ٌر يف ِّرق به بين المر ِء وأبيه ،وبين المر ِء وأخيه ،وبين المر ِء
وزوجته ،وبين المرء وعشيرتِه.
فتف َّرقوا عنه بذلك ،ف َجعلوا يَجلسون ب ُسب ِل الناس حين ق ِدموا الموسم ،لا
يم ُّر بهم أح ٌد إلا ح َّذروه إياه ،وذكروا َلم أم َره.
فأنزل الل ُه تعالى في الولي ِد بن المغير ِة وفي ذلك من قوله( :ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ
ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ
ﭱﭲﭳﭴﭵ) [الم َّدثر.]51-55:
-4انتشارُ ذك ِر الرسو ِل في القبائلِ ،ولا سَيّما في الأو ِس والخزر ِج
فلما انتش َر أم ُر رسول الله ﷺ في العر ِب ،وبلغ ال ُبلدانُ ،ذكِ َر بالمدينة ،ولم يكن
حي من العر ِب أعل َم بأم ِر رسول الله ﷺ حين ُذكِ َر وقبل أن ُيذك َر من هذا الح ِّي
( )1ال َع ْذق :النخلة.
| 54مختصر السيرة النبوية
من الأو ِس والخزر ِج ،وذلك لما كانوا َيسمعون من أحبا ِر اليهود ،وكانوا َلم
ُحلفا َء ،ومعهم في بلا ِدهم.
ِ -5ذكر ما لقِ َي رسولُ الله ﷺ من قوِمه
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن قري ًشا اشتد أم ُرهم للشقا ِء الذي أصا َبهم في َعداو ِة
رسو ِل الله ﷺ ومن أس َل َم معه منهم ،فأغ َروا برسو ِل الله ﷺ ُسفها َءهم ،فك َّذبوه
وآذوه ،ورموه بالشع ِر والسحر والكها َن ِة والجنو ِن ،ورسو ُل الله ﷺ ُمظه ٌر لأم ِر الله
لا َيستخفي بهُ ،مبا ٍد َلم بما َيكرهون من َعيب ِدينهم ،واعتزا ِل أوثانِهم ،وفِراقه
إياهم على ُكف ِرهم.
-6إسلامُ حمزَة
قال اب ُن إسحا َق :حدثني رج ٌل من أسل َم ،كان واعي ًة :أن أبا جهل َم َّر
برسو ِل الله ﷺ عند الصفا ،فآذاه وش َتمه ،ونال منه بع َض ما يكر ُه من العي ِب
لدينه ،والتضعي ِف لأم ِره ،فلم يك ِّلمه رسو ُل الله ﷺ ،ومولا ٌة لعبد الله بن ُجدعان
في َمسك ٍن َلا َتسم ُع ذلك ،ثم انصرف عنه فعم َد إلى نا ٍد من قري ٍش عند الكعبة،
فجلس معهم.
فلم يلب ْث حمز ُة بن عبد الم َّطلب أن أقبل ُمتو ِّش ًحا قو َسه ،راج ًعا من
قن ٍص له ،وكان صاح َب قن ٍص يرميه ويخرج له ،وكان إذا رجع من َقن ِصه لم يصل
إلى أهلِه حتى يطو َف بالكعب ِة ،وكان إذا فعل ذلك لم يم َّر على نا ٍد من قري ٍش إلا
وقف وس َّلم وتحدث معهم ،وكان أع َّز ف ًتى في قريش ،وأش َّد شكيم ًة.
مختصر السيرة النبوية|55
فلما م َّر بالمولاة -وقد رج َع رسو ُل الله ﷺ إلى بيتِه -قالت له :يا أبا ُعمارة ،لو
رأيت ما لقي اب ُن أخيك محم ٌد آن ًفا من أبي الحكم بن هشام ،وج َده هاهنا جال ًسا
فآذاه وس َّبه ،وبل َغ منه ما يكر ُه ،ثم انصرف عنه ولم يك ِّلمه محم ٌد ﷺ.
فاحتمل حمز َة الغض ُب لما أرا َد الله به من كرامتِه ،فخرج يسعى ولم يق ْف على
أح ٍدُ ،م ِع ادا لأبي جهل إذا لقيه أن ُيوق َع به ،فلما دخل المسج َد نظ َر إليه جال ًسا في
القو ِم ،فأقبل نح َوه حتى إذا قا َم على رأسه رف َع القو َس فض َبه بها فش َّجه شج ًة
ُمنكر ًة.
ثم قال :أتشتِمه وأنا على دينِه أقو ُل ما يقول؟ فر َّد ذلك عل َّي إن استطعت.
فقامت رجا ٌل من بني مَخزوم إلى حمز َة لينصروا أبا جه ٍل ،فقال أبو جه ٍل:
دعوا أبا ُعمارة ،فإني والله قد سبب ُت اب َن أخيه س ابا قبي ًحا.
وت َّم حمز ُة على إسلا ِمه ،وعلى ما تا َبع عليه رسو َل الله ﷺ من قولِه.
فلما أسل َم حمز ُة عرفت قري ٌش أن رسو َل الله ﷺ قد ع َّز وامتن َع ،وأن حمز َة
سيمن ُعه ،فك ُّفوا عن بع ِض ما كانوا َينالون منه.
-7قولُ عتب َة بن ربيعةَ في أمرِ رسولِ الله ﷺ
قال اب ُن إسحاق :وحدثني يزي ُد بن زيا ٍد ،عن محمد بن كعب ال ُقرظي قالُ :ح ِّدثت
أن عتب َة بن ربيع َة -وكان س ِّي ًدا -قال يو ًما وهو جالس في نادي قريش -ورسو ُل الله ﷺ
جال ٌس في المسج ِد وح َده :-يا معش َر ُقري ٍش ،ألا أقو ُم إلى محمد فأك ِّلمه وأعر َض عليه
أمو ًرا لعله يقب ُل بع َضها فنعطيه أ َُّا شاء ،ويك َّف عنا؟ -وذلك حين أسلم حمز ُة،
| 56مختصر السيرة النبوية
ورأوا أصحا َب رسول الله ﷺ يزيدون و َيك ُثرون -فقالوا :بلى يا أبا الوليدُ ،ق ْم إليه
فك ِّل ْمه.
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسو ِل الله ﷺ ،فقال :يا اب َن أخي ،إنك منَّا
حيث قد علم َت من ال ِّس َط ِة في العشيرة ،والمكان في النس ِب ،وإنك قد أتي َت قو َمك
بأم ٍر عظيم ف َّرق َت به جماع َتهم وس َّفهت به أحلا َمهم و ِعبت به آَلتهم ودينهم
وك َّفرت به من مضى من آبا ِئهم ،فاس َم ْع مني أعر ْض عليك أمو ًرا تنظر فيها لعلك
تقب ُل منها بع َضها.
قال :فقال له رسو ُل الله ﷺ« :قل يا أبا الوليد ،أسم ُع».
قال :يا اب َن أخي ،إن كنت إنما ُتريد بما جئ َت به من هذا الأم ِر ما ًلا جَمعنا لك
من أموالنا حتى تكو َن أكثرنا ما ًلا ،وإن كنت ُتريد به شر ًفا س َّودناك علينا ،حتى لا
نقط َع أم ًرا دونك ،وإن كنت ُتريد به ُمل ًكا م َّلكناك علينا ،وإن كان هذا الذي يأتيك
َر ِئ ايا تراه لا َتستطيع ر َّده عن نف ِسك ،طلبنا لك ال ِّط َّب ،وبذلنا فيه أموالنا حتى
ُنبر َئك منه ،فإنه ربما غلب التاب ُع على الرج ِل حتى ُيداوى منه .أو كما قال له.
حتى إذا فرغ ُعتب ُة ،ورسو ُل الله ﷺ يستم ُع منه ،قال« :أقد فرغ َت يا أبا
الوليد؟»
قال :نعم.
قال« :فاس َم ْع منِي».
قال :أفع ُل.
مختصر السيرة النبوية|57
فقال« :بس ِم الله الرحم ِن الرحي ِم( ،ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ
ﭦﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ) [ ُف ِّص َلت.»]1-5:
ثم مضى رسو ُل الله ﷺ فيها َيقرؤها عليه.
فلما َس ِمعها منه ُعتب ُة أنص َت َلا ،وألقى يديه خل َف ظه ِره ُمعتم ًدا عليهما
يسمع منه ،ثم انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى السجد ِة منها ،فس َج َد ثم قال« :قد سمع َت
يا أبا الوليد ما سمع َت ،فأنت وذاك».
فقام عتب ُة إلى أصحابِه ،فقال بع ُضهم لبع ٍض :نحل ُف بالله لقد جاءكم أبو
الوليد بغي ِر الوجه الذي ذهب به.
فل َّما جلس إليهم قالوا :ما ورا َءك يا أبا الوليد؟
قال :ورائي أني قد َس ِمعت قولا والله ما سمع ُت مث َله قط ،والله ما هو
بالشعر ،ولا بالسحر ،ولا بال َكهانة ،يا معش َر قريش ،أطيعوني واجعلوها بي،
وخ ُّلوا بين هذا الرج ِل وبين ما هو فيه فاعت ِزلوه ،فوالله ليكون َّن لقوله الذي
سمع ُت منه نب ٌأ عظي ٌم ،فإن ُتصبه العرب فقد ُكفيتموه بغي ِركم ،وإن يظهر على
العر ِب ف ُملكه ُملككم ،و ِع ُّزه ِع ُّزكم ،وكنتم أسع َد النا ِس به.
قالوا :سح َرك والله يا أبا الوليد بلسانِه.
قال :هذا رأيي فيه ،فاصنعوا ما بدا لكم.
| 58مختصر السيرة النبوية
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن الإسلا َم جعل َيفشو بم َّك َة في قبائل ُقريش في
الرجا ِل والنساء ،وقري ٌش تحبس من قدرت على حب ِسه ،وتف ِتن من استطاعت فتن َته
من المسلمين.
-8استكبارُ قريشٍ عن أن يؤمنوا بالرسو ِل ﷺ
فلما جا َءهم رسو ُل الله ﷺ بما َعرفوا من الح ِّق ،وعرفوا صد َقه فيما ح َّدث،
وموق َع نبوته فيما جا َءهم به من عل ِم ال ُغيوب حين سألوه ع َّما سألوا عنه ،حال
الح َس ُد منهم له بينهم وبين ا ِّتباعه وتصديقه ،ف َع َتوا على الله وتركوا أم َره َعيا ًنا،
ول ّجُوا فيما هم عليه من الكف ِر ،فقال قائلهم( :ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ) [ ُف ِّص َلت ،]56:أي :اجعلوه لغ ًوا وباط ًلا ،وا َّت ِخذوه ُهزوا لعلكم تغلبو َنه
بذلك ،فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يو ًما غلبكم.
ِ -9ذك ُر الهجرةِ الأولى إلى أرضِ الحبش ِة
قال اب ُن إسحا َق :فلما رأى رسو ُل الله ﷺ ما يصي ُب أصحا َبه من البلا ِء ،وما
هو فيه من العافية ،بمكانِه من الله ومن ع ِّمه أبي طال ٍب ،وأنه لا يقد ُر على أن يمن َعهم
مما هم فيه من البلا ِء ،قال َلم« :لو خرج ُتم إلى أر ِض الحبشة؛ فإن بها َملِكا لا ُيظلم
عنده أحد ،وهي أرض صد ٍق ،حتى يجع َل الله لكم فرجا مما أنتم فيه».
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ إلى أر ِض الحبش ِة؛
مخاف َة الفتنة ،وفِرا ًرا إلى الله بدينِهم ،فكانت أ َّو َل هجر ٍة كانت في الإسلا ِم.
وكان أ َّو َل من خرج من المسلمين :عثما ُن بن عفا َن بن أبي العاص بن أم َّية
معه امرأ ُته رقي ُة بنت رسو ِل الله ﷺ ،وأبو ُحذيف َة بن عتب َة بن ربيعة بن عب ِد شمس
مختصر السيرة النبوية|59
معه امرأ ُته :سهلة بنت ُسهيل بن عمرو ،والزبي ُر بن العوا ِم ،و ُمصع ُب بن عمير،
وعب ُد الرحمن بن عوف ،وأبو سلم َة بن عبد الأسد معه امرأ ُته ُأ ُّم سلمة بنت أبي
أمية ،وعثما ُن بن َمظعو ٍن ،وعام ُر بن ربيع َة معه امرأ ُته ليلى بنت أبي َحثم َة ،وأبو
سبر َة بن أبي ُره ٍم و ُسهيل ابن بيضاء.
فكان هؤلاء العشر ُة أ َّو َل من خرج من المسلمين إلى أر ِض الحبش ِة ،فيما
بلغني.
قال اب ُن هشا ٍم :وكان عليهم عثما ُن بن َمظعو ٍن ،فيما ذكر لي بع ُض أهل
العلم.
قال اب ُن إسحا َق :ثم خرج جعف ُر بن أبي طال ٍب ،وتتابع المسلمون
حتى اجتمعوا بأر ِض الحبش ِة ،فكانوا بها ،منهم من خرج بأه ِله معه ،ومنهم من
خرج بنف ِسه لا أه َل له معه.
-11إرسا ُل قري ٍش إلى الحبشة في طلب الُمهاجرين إليها
قال اب ُن إسحاق :عن ُأ ِّم سلمة قالت :لما نزلنا أر َض الحبشة ،جاورنا بها خي َر
جار :النجاش َّي ،أ ِمنَّا على ديننا ،وعبدنا الل َه تعالى لا ُنؤذى ولا نسم ُع شي ًئا نكرهه،
فلما بلغ ذلك ُقري ًشا ،ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاش ِّي فينا رجلين منهم
ج ْلدين ،وأن ُُدوا للنجاشي هدا َيا مما ُيستطر ُف من متا ِع م َّك َة ،وكان من أعج ِب
ما يأتيه منها الأ َد ُم( ،)1فجمعوا له أد ًما كثي ًرا ،ولم يتركوا من بطارقته بِطري ًقا إلا
أهدوا له هدي ًة.
( )1الأ َدم :الجلود.
| 61مختصر السيرة النبوية
ثم بعثوا بذلك عب َد الله بن أبي ربيع َة ،وعم َرو بن العاص ،وأمروهما
بأمرهم ،وقالوا َلما :ادفعا إلى ُك ِّل بِطري ٍق هد َّي َته قبل أن ُتكلما النجاش َّي فيهم ،ثم
ق ِّدما إلى النجاشي هداياه ،ثم سلاه أن ُيس ِل َمهم إليكما قبل أن ُيك ِّلمهم.
قالت :فخرجا حتى ق ِدما على النجاش ِّي ،ونحن عنده بخي ِر دا ٍر ،عند خير
جا ٍر ،فلم يب َق من بطارقته بِطري ٌق إلا دفعا إليه هدي َت ُه قبل أن ُيك ِّلما النجاشي ،وقالا
لكل بطري ٍق منهم :إنه قد َض َوى( )1إلى بلد المَلك منا ِغلما ٌن سفها ُء ،فارقوا دي َن
قو ِمهم ،ولم يدخلوا في دينِكم ،وجاءوا بدي ٍن ُمبتد ٍع ،لا نعرفه نحن ولا أنت ُم ،وقد
َب َع َثنا إلى المل ِك فيهم أشرا ُف قو ِمهم لير َّدهم إليهم ،فإذا ك َّلمنا الملك فيهم ،فأشيروا
عليه بأن ُيسلمهم إلينا ولا ُيك ِّل َمهم ،فإن قو َمهم أعلى بهم عينًا ،وأعلم بما عابوا
عليهم.
فقالوا َلما :نعم.
ثم إنَّهما ق َّدما هداياهما إلى النجاش ِّي فقبِلها منهما ،ثم ك َّلماه فقالا له :أُا
المل ُك ،إنه قد َض َوى إلى بل ِدك منا ِغلما ٌن ُسفها ُء ،فارقوا دي َن قو ِمهم ،ولم يدخلوا في
دينِك ،وجاءوا بدين ابتدعوه ،لا نعر ُفه نحن ولا أنت ،وقد َب َع َثنا إليك فيهم
أشرا ُف قو ِمهم من آبائهم وأعما ِمهم وعشا ِئرهم ل َت ُر َّدهم إليهم ،فهم أعلى بهم عينًا،
وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت :ولم يكن شي ٌء أبغ َض إلى عب ِد الله بن أبي ربيع َة وعم ِرو بن العاص من
أن يسمع كلا َمهم النجاش ُّي.
(َ )1ض َوى :لجأ.
مختصر السيرة النبوية|60
قالت :فقالت َبطارق ُته حولهَ :ص َدقا أُا المل ُك ،قو ُمهم أعلى بهم عي ًنا،
وأعل ُم بما عابوا عليهم؛ فأسلِمهم إليهما فل َي ُر َّداهم إلى بلا ِدهم وقو ِمهم.
قالت :فغ ِض َب النجاش ُّي ،ثم قال :لاها الله إذن ،لا ُأسلِمهم إليهما ،ولا ُيكا ُد
قو ٌم جاوروني ،و َن َزلوا بلادي ،واختاروني على من ِسواي ،حتى أدعوهم فأسأَُلم
عما َيقو ُل هذان في أمرهم ،فإن كانوا كما يقولا ِن أسلم ُتهم إليهما ،وردد ُتهم إلى
قومهم ،وإن كانوا على غي ِر ذلك منع ُتهم منهما ،وأحسن ُت ِجوارهم ما جاوروني.
قالت :ثم أرس َل إلى أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ فدعاهم ،فلما جا َءهم رسو ُله
اجتمعوا ،ثم قال بع ُضهم لبع ٍض :ما تقولون للرج ِل إذا ِجئتموه؟
قالوا :نقول والله ما علِمنا ،وما أم َرنا به نب ُّينا ﷺ كائنًا في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوا -وقد دعا النجاش ُّي أساق َف َته ،فنشروا مصا ِح َفهم حو َله -سأَلم
فقال َلم :ما هذا الدي ُن الذي قد فارق ُتم فيه قو َمكم ،ولم تدخلوا به في ديني ،ولا
في دي ِن أح ٍد من هذه المِلل؟
قالت :فكان الذي ك َّلمه جعف ُر بن أبي طال ٍب ِرضوا ُن الله عليه ،فقال له :أ ُُّا
المل ُك ،كنا قو ًما أه َل جاهلي ٍة ،نعبد الأصنا َم ،ونأكل الميت َة ،ونأتي الفواح َش،
ونقط ُع الأرحا َم ،و ُنسي ُء الجوار ،ويأكل القو ُّي منا الضعي َف ،فكنا على ذلك ،حتى
بع َث الله إلينا رسو ًلا منا ،نعرف َنس َبه وصد َقه وأما َنته وعفا َفه.
فدعانا إلى الله لنو ِّح َده ونعبده ،ونخل َع ما كنا نعب ُد نحن وآباؤنا من دونِه من
الحجار ِة والأوثان.
| 62مختصر السيرة النبوية
وأم َرنا بصد ِق الحدي ِث ،وأدا ِء الأمانة ،وصل ِة الرح ِم ،و ُحسن ال ِجوار،
والك ِّف عن المحار ِم والدما ِء.
ونهانا عن ال َفواح ِش ،وقو ِل الزور ،وأك ِل مال اليتي ِم ،وقذ ِف المُحصنات.
وأمرنا أن نعب َد الله وحده ،لا نشر َك به شي ًئا.
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت :فع َّدد عليه أمو َر الإسلا ِم-
فص َّدقناه وآمنَّا به ،وا َّتبعناه على ما جا َء به من الله ،فعبدنا الل َه وح َده ،فلم نشر ْك به
شي ًئا ،وح َّرمنا ما َحرم علينا ،وأحللنا ما أح َّل لنا ،فعدا علينا قو ُمنا ،فع َّذبونا،
و َفتنونا عن دينِنا؛ لير ُّدونا إلى عباد ِة الأوثان من عباد ِة الله تعالى ،وأن َنست ِح َّل ما كنا
نستحل من الخبائ ِث.
فلما َقهرونا وظلمونا وض َّيقوا علينا ،وحالوا بينَنا وبين ديننا ،خرجنا إلى
بلا ِدك ،واخترنا َك على من ِسواك ،ور ِغبنا في ِجوارك ،ورجونا ألا ُنظل َم عندك أ ُُّا
المل ُك.
قالت :فقال له النجاش ُّي :هل معك مما جا َء به عن الله من شي ٍء؟
قالت :فقال له جعف ٌر :نعم.
فقال له النجاش ُّي :فاقرأه عل َّي.
قالت :فقرأ عليه َصد ًرا من( :ﭑﭒ) [مريم.]5:
قالت :فبكى -والله -النجاش ُّي حتى اخض َّل ْت لحي ُته ،وبكت أساق َف ُته حتى
أخض ُلوا مصا ِح َفهم ،حين س ِمعوا ما تلا عليهم.
مختصر السيرة النبوية|63
ثم قال َلم النجاش ُّي :إن هذا والذي جا َء به ِعيسى ل َيخ ُر ُج من ِمشكا ٍة
واحد ٍة ،انطلقا ،فلا والله لا أس ِل ُمهم إليكما ،ولا ُيكادون.
قالت :فلما خرجا ِمن عنده ،قال عمرو ب ُن العاص :والله لآتينَّه غ ًدا عنهم بما
أستأص ُل به َخضا َءهم.
قالت :فقال له عب ُد الله بن أبي ربيع َة ،وكان أتقى الرجلين فينا :لا تفعل؛ فإن
َلم أرحا ًما ،وإن كانوا قد خالفونا.
قال :والله لأخب َر َّنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن َمريم عب ٌد.
قالت :ثم غ َدا عليه من ال َغ ِد فقال له :أ ُُّا المل ُك ،إنهم يقولون في عيسى ابن
مريم قو ًلا عظي ًما ،فأر ِس ْل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.
قالت :فأرس َل إليهم ليسأََلم عنه.
قالت :ولم َينزل بنا ِمث ُلها قط.
فاجتمع القو ُم ،ثم قال بع ُضهم لبع ٍض :ماذا تقولون في عيسى ابن َمريم إذا
سأ َلكم عنه؟
قالوا :نقو ُل والله ما قال الل ُه ،وما جاءنا به نب ُّينا ،كائنًا في ذلك ما هو كائ ٌن.
قالت :فلما دخلوا عليه ،قال َلم :ماذا تقولون في عيسى اب ِن مري َم؟
قالت :فقال جعف ُر بن أبي طالب :نقو ُل فيه الذي جاءنا به نب ُّينا ﷺ ،يقول:
هو عب ُد الله ورسو ُله ورو ُحه و َك ِلم ُته ألقاها إلى مري َم العذرا ِء البتو ِل.
| 64مختصر السيرة النبوية
قالت :فضب النجاش ُّي بيده إلى الأر ِض ،فأخذ منها عو ًدا ،ثم قال :والله ما
عدا عيسى اب ُن مريم ما قل َت هذا العو َد.
قالت :فتنا َخرت بطار َق ُته حو َله حين قال ما قال.
فقال :وإن نخر ُتم والله ،اذهبوا فأنتم ُشيو ٌم بأرضي -والشيو ُم :الآمنو َن-
َم ْن َس َّبكم َغ ِر َم ،ثم قال :من س َّبكم َغ ِرم ،ثم قالَ :من َس َّبكم َغ ِر َم ،ما أح ُّب أن لي
َدب ًرا من ذهب ،وأني آذي ُت رج ًلا منكمُ ،ر ُّدوا عليهما هداياهما ،فلا حاج َة لي بها،
فوالله ما أخذ اللهُ مني ال ِّرشو َة حين َر َّد عل َّي ُملكي ،فآخ َذ ال ِّرشو َة فيه ،وما أطا َع
الناس ف َّي فأطي َعهم فيه.
قالت :فخرجا من عنده َمقبو َحين َمردو ًدا عليهما ما جاءا به ،وأقمنا عنده
بِخي ِر دا ٍر ،مع خي ِر جا ٍر.
-11إسلامُ عم َر بن الخطابِ
قال اب ُن إسحا َق :وكان إسلا ُم عم َر فيما بلغني أن أخته فاطم َة بنت
الخطاب ،وكانت قد أسلمت وأسل َم بع ُلها سعي ُد بن زي ٍد ،وهما ُمستخفيان
بإسلا ِمهما من عم َر ،وكان خ َّبا ُب بن الأر ِّت يختل ُف إلى فاطم َة بنت الخطاب ُيقرئها
القرآ َن ،فخرج عمر يو ًما متو ِّش ًحا سيفه يري ُد رسو َل الله ﷺ وره ًطا من أصحابه
قد ُذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بي ٍت عند الصفا ،وهم قري ٌب من أربعي َن ما بين
رجا ٍل ونسا ٍء.
ومع رسول الله ﷺ ع ُّمه حمز ُة بن عب ِد المطلب ،وأبو بك ِر بن أبي قحاف َة
الصديق ،وعل ُّي بن أبي طالب ،في رجا ٍل من المسلمين ممن كان أقا َم مع
رسو ِل الله ﷺ بمك َة ،ولم يخرج فيمن خرج إلى أر ِض الحبش ِة.
مختصر السيرة النبوية|65
فلق َيه نعي ُم بن عبد الله ،فقال له :أين تري ُد يا عم ُر؟
فقال :أري ُد محم ًدا هذا الصاب َئ ،الذي ف َّر َق أم َر قري ٍش ،وس َّفه أحلا َمها،
وعاب دينَها ،وس َّب آَلتها فأق ُتله.
فقال له ُنعي ٌم :والله لقد غ َّرتك نف ُسك من نف ِسك يا عم ُر ،أترى بني عبد
َمناف تاركيك تمشي على الأر ِض وقد َقتلت محم ًدا؟! أفلا ترجع إلى أه ِل بيتك
ف ُتقيم أم َرهم؟
قال :وأ ُّي أهل بيتي؟
قالَ :ختنُك وابن عمك سعي ُد بن زي ٍد ،وأخ ُتك فاطم ُة بنت الخطاب ،فقد
والله أسلما ،وتابعا مُحم ًدا على دينه ،فعليك بهما.
قال :فرجع عم ُر عام ًدا إلى أختِه و َختنه ،وعندهما خ َّبا ُب بن الأر ِّت معه
صحيف ٌة ،فيها( :ﭵ) ُيقرئهما إياها ،فلما َسمعوا ِح َّس عم َر ،تغ َّيب خباب في
مَخْ َد ٍع(َ )1لم ،أو في بع ِض البيت.
وأخذت فاطم ُة بنت الخطاب الصحيف َة فجعلتها تحت ف ِخ ِذها ،وقد سم َع عم ُر
حين دنا إلى البيت قراء َة خبا ٍب عليهما ،فلما دخل قال :ما هذه اَلَ ْينَ َمة( )2التي سمع ُت؟
قالا له :ما سمعت شي ًئا.
قال :بلى ،والله ،لقد ُأخبر ُت أنكما تابعتما محم ًدا على دينِه ،وبط َش ب َختنه
سعي ِد بن زي ٍد ،فقامت إليه أخ ُته فاطم ُة بن ُت الخطاب لتك َّفه عن زوجها ،ف َض َبها
( )1المَ ْخ َدع :الخزانة.
( )2اَلَ ْينَ َمة :الصوت الخفي.
| 66مختصر السيرة النبوية
فش َّجها ،فلما فعل ذلك قالت له أخ ُته وختنُه :نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسولِه،
فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى ُعمر ما بأختِه من الد ِم ن ِد َم على ما صنع ،فار َعوى ،وقال لأخته:
أعطيني هذه الصحيف َة التي سمع ُتكم تقرؤون آن ًفا أنظ ُر ما هذا الذي جاء به
محم ٌد؟ وكان عمر كات ًبا ،فلما قال ذلك ،قالت له أخ ُته :إنا نخشاك عليها.
قال :لا تخافي ،وح َلف َلا بآَلته ل َي ُر َّدنَّها إذا قرأها إليها ،فلما قال ذلك،
َط ِمعت في إسلا ِمه ،فقالت له :يا أخي ،إنك َن َج ٌس ،على شركك ،وإنه لا يم ُّسها
إلا الطاهر.
فقام عمر فاغتس َل ،فأعطته الصحيف َة ،وفيها( :ﭵ) فقرأها ،فلما قرأ منها
َصد ًرا ،قال :ما أحس َن هذا الكلا َم وأكرمه! فلما سمع ذلك خبا ٌب خرج إليه.
فقال له :يا عم ُر ،والله إني لأرجو أن يكون الله قد خ َّصك بدعو ِة نب ِّيه ،فإني
سمع ُته أم ِس وهو يقول« :اللهم أ ِي ِد الإسلام بأبي ال َحكم بن هشا ٍم ،أو بعم َر بن
الخطا ِب» فاللهَ الل َه يا عم ُر.
فقال له عند ذلك عم ُر :ف ُد َّلني يا خبا ُب على محم ٍد حتى آتيه ف ُأسلم ،فقال له
خباب :هو في بي ٍت عند الصفا ،معه فيه نف ٌر من أصحابه ،فأخذ عم ُر سي َفه
فتوشحه ،ثم عم َد إلى رسول الله ﷺ وأصحابِه ،فض َب عليهم البا َب ،فلما سمعوا
صو َته ،قام رج ٌل من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ ،فنظر من َخلل الباب فرآه ُمتو ِّش ًحا
السي َف ،فرج َع إلى رسو ِل الله ﷺ وهو َف ِز ٌع.
مختصر السيرة النبوية|67
فقال :يا رسول الله ،هذا عم ُر بن الخطا ِب متوش ًحا السيف ،فقال حمز ُة بن
عبد المطلب :ف ْأ َذ ْن له ،فإن كان جاء يري ُد خي ًرا بذلناه له ،وإن كان جاء يري ُد ش ارا
قتلناه بسيفه.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :ائذن له».
فأذن له الرج ُل ،ونهض إليه رسو ُل الله ﷺ حتى لق َيه في ال ُحجرة ،فأخذ
ُحجزته أو ب َمجم ِع ردائه ،ثم َجبذه به جبذ ًة شديد ًة ،وقال« :ما جاء بك يا اب َن
الخطاب؟ فوالله ما أرى أن َتنته َي حتى ُين ِز َل الله بك قارعة».
فقال عمر :يا رسول الله ،جئ ُتك لأومن بالله وبرسولِه ،وبما جاء من عن ِد
الله.
قال :فك َّبر رسو ُل الله ﷺ تكبير ًة عرف أه ُل البيت من أصحا ِب رسو ِل الله
ﷺ أن عمر قد أسلم.
فتف َّر َق أصحا ُب رسول الله ﷺ من مكانهم ،وقد َع ُّزوا في أنف ِسهم حين
أسلم عم ُر مع إسلا ِم حمز َة ،وعرفوا أنهما س َيمنعان رسو َل الله ﷺ ،و َينتصفون بهما
من عد ِّوهم.
َ -12خبرُ الصحيف ِة
قال اب ُن إسحا َق :فلما رأت قري ٌش أن أصحا َب رسو ِل الله ﷺ قد نزلوا بل ًدا
أصابوا به أم ًنا وقرا ًرا ،وأن النجاش َّي قد منع من لجأ إليه منهم ،وأن عم َر قد أسل َم،
فكان هو وحمز ُة بن عبد المطل ِب مع رسو ِل الله ﷺ وأصحابِه ،وجعل الإسلا ُم
| 68مختصر السيرة النبوية
يفشو في القبائ ِل ،اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتا ًبا يتعاقدون فيه على بني
هاش ٍم ،وبني المطل ِب ،على أن لا ين ِكحوا إليهم ولا ُينكحوهم ،ولا يبيعوهم شي ًئا،
ولا َيبتاعوا منهم ،فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيف ٍة ،ثم َتعاهدوا وتواثقوا على
ذلك ،ثم ع َّلقوا الصحيف َة في جوف الكعب ِة توكي ًدا على أنفسهم.
قال اب ُن إسحا َق :فلما فعلت ذلك قري ٌش انحازت بنو هاش ٍم وبنو الم َّطلب
إلى أبي طالب بن عبد المطل ِب ،فدخلوا معه في ِشع ِبه واجتمعوا إليه ،وخرج من
بني هاش ٍم أبو َل ٍب عب ُد ال ُع َّزى بن عبد المطلب إلى ُقري ٍش فظاهرهم.
فأقاموا على ذلك سنتي ِن أو ثلا ًثا ،حتى جهدوا لا يصل إليهم شي ٌء إلا س ارا
مستخف ًيا به من أراد صلتهم من قري ٍش.
ِ -13ذكرُ ما لقي رسولُ الله ﷺ من قومِه من الأذى
فجعلت ُقري ٌش حين منعه الله منها ،وقام ع ُّمه وقومه من بني هاشم وبني
المطلب دو َنه ،وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البط ِش بهُ ،مزو َنه ويستهزئون به
ويُخاصمونه ،وجعل القرآ ُن ينزل في قري ٍش بأحداثهم ،وفيمن نصب لعداوته منهم،
ومنهم من ُس ِّمي لنا ،ومنهم من نزل فيه القرآ ُن في عامة من ذكر اللهُ من الكفار.
فكان ممن ُس ِّمي لنا من قري ٍش ممن نزل فيه القرآن ع ُّمه أبو َل ِب بن عبد
المطلب وامرأ ُته أم جميل بن ُت حرب بن أمية ،ح َّمالة الحطب ،وإنما س َّماها الله تعالى
ح َّمال َة الحطب؛ لأنها كانت -فيما بلغنيَ -تح ِمل الشوك فتطر َحه على طريق رسو ِل
الله ﷺ حيث َيم ُّر ،فأنزل الله تعالى فيهما( :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
مختصر السيرة النبوية|69
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ) [ال َم َسد.]1-5:
وأمية ب ُن خل ٍف كان إذا رأى رسو َل الله ﷺ ه َمزه ول َمزه ،فأنزل الله تعالى فيه:
(ﭢﭣﭤﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰ
ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁﮂ
ﮃﮄ ﮅﮆﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌ) [اَلُ َمزة.]2-5:
ول ِقي أبو جهل ب ُن هشام رسو َل الله ﷺ -فيما بلغني -فقال له :والله يا
محم ُد ،لتتركن س َّب آَلتنا ،أو لن ُس َّب َّن إَلك الذي تعبد.
فأنزل الله تعالى فيه( :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ[ )...الأنعام .]542:ف ُذكر لي أن رسو َل الله ﷺ ك َّف عن س ِّب آَلتهم،
وجع َل يدعوهم إلى الله.
والن ُض بن الحار ِث ،كان إذا جلس رسو ُل الله ﷺ جلل ًسا ،فدعا فيه إلى الله
تعالى وتلا فيه القرآ َن ،وحذ َر فيه قري ًشا ما أصاب الأم َم الخالية؛ خ َل َفه في جلل ِسه
إذا قام ،فح َّدثهم عن ُرستم السندي ِد ،وعن أس َفنديا َر ،وملوك فار َس ،ثم يقول:
والله ما محم ٌد بأحسن حدي ًثا مني ،وما حدي ُثه إلا أساطي ُر الأولين ،اكتت َبها كما
اكتتب ُتها.
فأنزل الله فيه( :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ)
[الفرقان.]6-1:
| 71مختصر السيرة النبوية
ونزل فيه( :ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ) [القلم.]51:
ونزل فيه( :ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ) [الجاثية( ،]2-7:ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ) [لقمان.]7:
قال اب ُن إسحا َق :والأخنس بن َشري ٍق حلي ُف بني زهرة ،وكان من أشرا ِف
القوم وممن ُيستمع منه ،فكان يصي ُب من رسو ِل الله ﷺ ،و َير ُّد عليه ،فأنزل الله
تعالى فيه( :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [القلم ]55-54:إلى
قوله تعالى( :ﯮ) [القلم.]53:
والولي ُد بن المغير َة قال :أ ُي َن َّزل على محمد و ُأتر ُك وأنا كبي ُر قري ٍش وسي ُدها!
و ُيترك أبو مسعو ٍد عمرو بن عمير الثقف ُّي سيد ثقيف ،ونحن عظيما القريتين!
فأنزل الله تعالى فيه -فيما بلغني( :-ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖﯗﯘ) [ال ُّزخ ُرف ]35:إلى قوله تعالى( :ﯴ) [ال ُّزخ ُرف.]35:
و ُأب ُّي بن خلف ،وعقب ُة بن أبي ُمعيط ،وكانا متصافِ َيينَ ،ح َسنًا ما بينهما ،فكان
عقب ُة قد جل َس إلى رسو ِل الله ﷺ وسم َع منه ،فبلغ ذلك ُأب ايا ،فأتى عقب َة فقال له:
ألم َيب ُلغني أنك جالست محم ًدا وسمع َت منه؟! وجهي من وجهك حرا ٌم أن
أكلمك -واستغل َظ من اليمين -إن أنت جلس َت إليه أو سمع َت منه ،أو لم تأته
فتت ُفل في وجهه.
ففعل ذلك عد ُّو الله عقب ُة بن أبي معيط لعنه الله ،فأنزل الله تعالى فيهما:
(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)
[الفرقان ]57:إلى قوله تعالى( :ﯕﯖ) [الفرقان.]52:
مختصر السيرة النبوية|70
ومشى أب ُّي بن خلف إلى رسو ِل الله ﷺ ب َعظ ٍم با ٍل قد ا ْر َف َّت( ،)1فقال :يا
محمد ،أنت تز ُع ُم أن الله يبع ُث هذا بعد ما أ َر َّم( ،)2ثم ف َّته في يده ،ثم نف َخه في الريح
نحو رسو ِل الله ﷺ.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :نعم ،أنا أقو ُل ذلك ،يبعثه الل ُه وإياك بعد ما تكونان
هكذا ،ثم ُيد ِخ ُلك الل ُه النا َر» ،فأنزل الله تعالى فيه( :ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [يس-72:
.]24
ِ -14ذك ُر من عادَ من أر ِض الحبشةِ لما بلغهُم إسلامُ أهل مك َة
قال اب ُن إسحا َق :وبلغ أصحا َب رسو ِل الله ﷺ ،الذين خرجوا إلى أرض
الحبشة إسلا ُم أهل م َّك َة؛ فأقبلوا لمِا بلغهم من ذلك ،حتى إذا دنوا من م َّك َة ،بلغهم
أن ما كانوا َت َح َّدثوا به من إسلا ِم أهل مك َة كان باط ًلا ،فلم يدخل منهم أح ٌد إلا
ب ِجوا ٍر أو ُمستخف ًيا.
فجمي ُع من ق ِدم عليه مك َة من أصحابِه من أر ِض الحبش ِة ثلاثة وثلاثون
رج ًلا.
( )1ار َف َّت :تحطم وتكسر.
(َ )2أ َر َّم :بلي.
| 72مختصر السيرة النبوية
-15حديثُ نقضِ الصحيفةِ
قال اب ُن إسحا َق :قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قري ٌش على
بني هاش ٍم وبني المطلب نف ٌر من قريش ،ولم ُيب ِل فيها أح ٌد أحس َن من بلا ِء هشام بن
عمرو؛ وذلك أنه كان اب َن أخي نضل َة بن هاشم بن عبد منا ٍف لأ ِّمه ،فكان هشا ٌم
لبني هاش ٍم واص ًلا ،وكان ذا شر ٍف في قومه ،فكان -فيما بلغني -يأتي بالبعي ِر ،وبنو
هاش ٍم وبنو المطل ِب في ال ِّشعب لي ًلا ،قد أوقره طعا ًما ،حتى إذا أقب َل به ف َم ال ِّشعب
خلع ِخطامه من رأسه ،ثم ضب على َجنبه ،فيدخ ُل الشع َب عليهم ،ثم يأتي به قد
أوق َره َب ازا( ،)1فيفعل به مثل ذلك.
قال اب ُن إسحا َق :ثم إنه مشى إلى زهي ِر بن أبي أمي َة ،وكانت أ ُّمه عاتك َة بنت
عبد المطلب ،فقال :يا زهير ،أ َقد رضيت أن تأك َل الطعا َم ،وتلبس الثيا َب ،وتنكح
النسا َء ،وأخوا ُلك حيث قد علم َت ،لا ُيباعون ولا ُيبتا ُع منهم ،ولا َينكحون ولا
ُينكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوا َل أبي الحكم بن هشا ٍم ،ثم
دعوته إلى مث ِل ما دعاك إليه منهم ،ما أجابك إليه أب ًدا.
قال :ويحك يا هشا ُم! فماذا أصن ُع؟ إنما أنا رج ٌل واح ٌد ،والله لو كان معي
رج ٌل آخ ُر لقمت في نقضها حتى أنق َضها.
قال :قد وجدت رج ًلا.
قال :فمن هو؟
( )1ال َب ُّز :الثياب.
مختصر السيرة النبوية|73
قال :أنا.
قال له زهي ٌر :أب ِغنا رجلا ثال ًثا.
فذهب إلى المُط ِعم بن عدي ،فقال له :يا ُمطعم أقد رضي َت أن َُلك بطنا ِن
من َبني عبد َمنا ٍف ،وأنت شاه ٌد على ذلك ،مواف ٌق لقري ٍش فيه؟! أما والله لئن
أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سرا ًعا.
قال :ويحك! فماذا أصن ُع؟ إنما أنا رجل واح ٌد.
قال :قد وجدت ثان ًيا.
قال :من هو؟
قال :أنا.
قال :أبغنا ثال ًثا.
قال :قد فعلت.
قال :من هو؟
قال :زهي ُر بن أبي أمية.
قال :أبغنا راب ًعا.
فذهب إلى أبي ال َبختر ِّي بن هشام ،فقال له نح ًوا مما قال لل ُمطعم بن عد ٍّي.
فقال :وهل من أحد ُيعين على هذا؟
قال :نعم.
| 74مختصر السيرة النبوية
قال :من هو؟
قال :زهي ُر ابن أبي أمية ،والمطعم بن عدي ،وأنا معك.
قال :أبغنا خام ًسا.
فذهب إلى زمع َة بن الأسو ِد ،فك َّلمه ،وذكر له قرابتهم وح َّقهم.
فقال له :وهل على هذا الأم ِر الذي تدعوني إليه من أح ٍد؟
قال :نعم ،ثم س َّمى له القو َم.
فا َّت َعدوا خط َم ال َحجون لي ًلا بأعلى مك َة ،فاجتمعوا هنالك ،فأجمعوا أم َرهم
وتعاقدوا على القيا ِم في الصحيف ِة حتى ينقضوها.
وقال زهي ٌر :أنا أبدؤكم ،فأكون أ َّو َل من يتكل ُم.
فلما أصبحوا غ َدوا إلى أنديتهم ،وغدا زهي ُر بن أبي أمية عليه ُح َّل ٌة ،فطاف
بالبيت سب ًعا ،ثم أقبل على النا ِس فقال :يا أهل مك َة ،أنأك ُل الطعا َم ونل َبس الثيا َب،
وبنو هاش ٍم هل َكى لا ُيباع ولا ُيبتاع منهم ،والله لا أق ُعد حتى ُتش َّق هذه الصحيف ُة
القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل :وكان في ناحية المسج ِد :كذبت والله لا ُتش ُّق.
قال زمع ُة بن الأسود :أنت والله أكذ ُب ،ما رضينا كتا َبها حيث ُكتبت.
قال أبو ال َبختري :صدق زمع ُة ،لا نرضى ما ُكتب فيها ،ولا ُنق ُّر به.
مختصر السيرة النبوية|75
قال المطعم بن عدي :صدق ُتما وكذب من قال غي َر ذلك ،نبرأ إلى الله منها،
ومما ُكتب فيها ،وقال هشا ُم بن عمرو نح ًوا من ذلك.
فقال أبو جهل :هذا أمر ُقضي بلي ٍلُ ،ت ُشو ِو َر فيه بغير هذا المكان.
قال :وأبو طال ٍب جالس في ناحي ِة المسجد ،فقام المطع ُم إلى الصحيفة
ليش َّقها ،فوجد الأ َر َض َة قد أكلتها ،إلا «باس ِمك الله َّم».
ِ -16ذكرُ الإسراءِ والِمعراجِ
قال اب ُن هشا ٍم :عن محمد بن إسحا َق المُ َّطلب ِّي قال :ثم أسر َي برسو ِل الله ﷺ
من المسج ِد الحرا ِم إلى المسجد الأقصى ،وهو بي ُت المقد ِس من إيلياء ،وقد فشا
الإسلا ُم بمك َة في قري ٍش ،وفي القبائل ك ِّلها.
قال اب ُن إسحا َق :وكان في َمسراه ،وما ُذك َر عنه بلا ٌء وتمحي ٌص ،وأم ٌر من أمر
الله في قدرته و ُسلطانه ،فيه عبرة لأولي الألباب ،وه ًدى ورحمة وثبا ٌت لمن
آمن بالله وص َّدق ،وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقي ٍن ،فأس َرى به سبحانه
وتعالى كي َف شا َء ،ل ُير َيه من آياتِه ما أرا َد ،حتى عاين ما عاين من أم ِره و ُسلطانه
العظيم ،وقدرته التي َيصنع بها ما يري ُد.
قال اب ُن إسحا َقُ :ح ِّدثت عن الحس ِن أنه قال :قال رسو ُل الله ﷺ« :بينما أنا
نائم في ال ِحجر ،إذ جاءني جبري ُل ،فهمزني بق َدمه ،فجلس ُت فلم أ َر شيئا ،فعدت إلى
َمضجعي ،فجاءني الثاني َة فهمزني بقد ِمه ،فجلست فلم أ َر شيئا ،ف ُعدت إلى
َمضجعي ،فجاءني الثالث َة فهمزني بقد ِمه ،فجلست ،فأخذ ب َع ُضد َّي ،فقمت معه،
فخرج بي إلى باب المسج ِد ،فإذا دابة أبي ُض ،بين البغ ِل والحما ِر ،في ف ِخذيه جناحان
| 76مختصر السيرة النبوية
يحف ُز بهما ِرجليه ،يض ُع ي َده في ُمنتهى ط ْرفه ،فحملني عليه ،ثم خرج معي لا يفو ُتني
ولا أفوته».
فمضى رسو ُل الله ﷺ ،ومضى جبري ُل عليه السلا ُم معه ،حتى انتهى به إلى
بي ِت المقد ِس ،فوجد فيه إبراهي َم وموسى وعيسى في نف ٍر من الأنبيا ِء ،فأ َّمهم
رسو ُل الله ﷺ فص َّلى بهم ،ثم ُأتي بإناءين :في أح ِدهما خم ٌر ،وفي الآخر لب ٌن.
قال :فأخذ رسو ُل الله ﷺ إنا َء اللب ِن فش ِرب منه ،وترك إنا َء الخمر.
قال :فقال له جبري ُلُ :هدي َت للفطرة ،و َه ِد َيت أ َّمتك يا محم ُد ،و ُح ِّرمت
عليكم الخم ُر.
ثم انصرف رسو ُل الله ﷺ إلى م َّك َة ،فلما أصب َح غ َدا على قري ٍش فأخبرهم
الخب َر.
فقال أكثر النا ِس :هذا والله الإ ْم ُر( )1الب ِّي ُن ،والله إن العي َر ل ُتطر ُد شه ًرا من
مك َة إلى الشأم ُمدبر ًة ،وشه ًرا ُمقبل ًة ،أفيذه ُب ذلك محم ٌد في ليل ٍة واحد ٍة ،ويرجع
إلى مك َة؟!
قال :فارتد كثي ٌر ممن كان أسل َم ،وذهب النا ُس إلى أبي بك ٍر ،فقالوا له :هل
لك يا أبا بك ٍر في صاحبِك ،يزع ُم أنه قد جاء هذه الليل َة بي َت المقد ِس وصلى فيه
ورج َع إلى م َّك َة.
( )1الإ ْمر :العجب المنكر.
مختصر السيرة النبوية|77
قال :فقال َلم أبو بكر :إنكم َتك ِذبون عليه .فقالوا :بلى ،ها هو ذاك في
المسج ِد يحدث به النا َس.
فقال أبو بكر :والله لئن كان قاله لقد صد َق ،فما ُيعج ُب ُكم من ذلك؟! فوالله
إنه ليخبرني أن الخب َر ليأتيه من الله من السما ِء إلى الأر ِض في ساع ٍة من لي ٍل أو نها ٍر
ف ُأص ِّدقه ،فهذا أبع ُد مما َتعجبون منه.
ثم أقب َل حتى انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ ،فقال :يا نب َّي الله ،أح َّدثت هؤلاء
القو َم أنك جئت بي َت المقد ِس هذه الليل َة؟
قال« :نعم».
قال :يا نب َّي الله ،ف ِصفه لي ،فإني قد جئته.
قال الحس ُن :فقال رسول الله ﷺ« :ف ُرفِ َع ل حتى نظر ُت إليه» ،فجعل رسو ُل
الله ﷺ َيص ُفه لأبي بكر ،ويقول أبو بكر :صدق َت ،أشه ُد أنك رسو ُل الله ،ك َّلما وصف
له منه شي ًئا ،قال :صدقت ،أشهد أنك رسو ُل الله ،حتى إذا انتهى ،قال رسو ُل الله ﷺ
لأبي بكر« :وأنت يا أبا بكر الصدي ُق» ،فيومئ ٍذ س َّماه الصدي َق.
قال الحس ُن :وأنزل اللهُ تعالى فيمن ارت َّد عن إسلا ِمه لذلك( :ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ
ﮂﮃﮄ) [الإسراء.]64:
| 78مختصر السيرة النبوية
-17قصةُ الِمعراجِ
قال اب ُن إسحا َق :وحدثني من لا أ َّتهم عن أبي سعي ٍد الخُدر ِّي أنه
قال :سمعت رسو َل الله ﷺ يقول« :لما فرغ ُت مما كان في بي ِت المَقد ِسُ ،أ َت
بالمِعرا ِج ،ولم أر شيئا قط أحس َن منه ،وهو الذي َي ُم ُد إليه م ِي ُتكم عينيه إذا حضر،
فأصعدني صاحبي فيه ،حتى انتهى بي إلى با ٍب من أبواب السما ِء ،يقا ُل له :با ُب
الح َفظة ،عليه َملك من الملائك ِةُ ،يقال له :إسماعي ُل ،تحت يديه اثنا ع َش أل َف مل ٍك،
تحت يد ْي ُك ٍل ملك منهم اثنا عش أل َف ملك».
قال :يقول رسو ُل الله ﷺ حين ح َّدث بهذا الحديث(« :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ) [الم َّدثر ،]35:فلما َدخل بي ،قال :من هذا يا جبري ُل؟ قال :هذا محمد .قال:
أوقد ُبعث؟ قال :نعم .قال :فدعا ل بِخي ٍر».
قال أبو سعيد الخدر ُّي في حديثه :إن رسو َل الله ﷺ قال« :لما دخل ُت السما َء
الدنيا ،رأيت بها رجلا جالسا ُتعرض عليه أروا ُح بني آد َم ،فيقول لبعضها إذا
ُعرضت عليه خيرا و ُيس به ،ويقول :روح طيبة خرجت من جس ٍد ط ِي ٍب ،ويقول
لبعضها إذا ُعرضت عليهُ :أَ ،ويع َبس بوجهه ويقول :روح خبيثة خرجت من
جسد خبي ٍث».
قال« :قلت :من هذا يا جبري ُل؟
قال :هذا أبوك آد ُمُ ،تعرض عليه أرواح ُذر َّيته ،فإذا مرت به روح المؤمن منهم
ُ َّس بها ،وقال :روح طيبة خرجت من جس ٍد طيب ،وإذا م َّرت به رو ُح الكافر منهم
أف َّف منها وكرهها ،وسا َء ذلك ،وقال :روح خبيثة خرجت من جس ٍد خبي ٍث».
مختصر السيرة النبوية|79
قال« :ثم رأيت رجالا همم َمشاف ُر كمشاف ِر الإبل( ،)1في أيديهم ِق َطع من نار
كالأَ ْفها ِر(َ ،)2يق ِذفونها في أفوا ِههم ،ف َتخر ُج من أدبا ِرهم .فقلتَ :م ْن هؤلاء يا
جبري ُل؟
قال :هؤلاء أ َك َلة أموال اليتامى ُظلما».
قال« :ثم رأيت رجالا همم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فِرعون ،يمرون
عليهم كالإبل ال َم ْه ُيوم ِة( )3حين ُيعرضون على النا ِرَ ،يطؤونهم لا َيقدرون على أن
يتح َّولوا من مكانِهم ذلك».
قال« :قلت :من هؤلا ِء يا جبري ُل؟
قال :هؤلاء أك َل ُة الربا».
قال« :ثم رأي ُت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب ،إلى جنبه لحم غ يث ُمنتن،
يأكلون من الغ ِث المنتن ،و َيتكون السمي َن الطيب».
قال« :قلت :من هؤلا ِء يا جبري ُل؟
قال :هؤلاء الذين َيتكون ما أح َّل الله همم من النسا ِء ،ويذهبون إلى ما ح َّرم
الله عليهم منه َّن».
قال« :ثم رأي ُت نساء ُمع َّلقات ب ُثد ِيه َّن ،فقلت :من هؤلاء يا جبري ُل؟
قال :هؤلا ِء اللات َأدخلن على الرجا ِل َمن ليس من أولا ِدهم».
(ِ )1م ْش َفر الإبل :شفته.
( )2الأَ ْفهار :جمع فِ ْهر وهو :الحجر قدر ملء الكف.
( )3الإبل ال َم ْه ُيو َمة :ال ِعطاش منها.
| 81مختصر السيرة النبوية
قال« :ثم أصعدني إلى السما ِء الثاني ِة ،فإذا فيها ابنا الخال ِة :عيسى اب ُن مري َم،
ويحيى ب ُن زكريا».
قال« :ثم أص َعدني إلى السماء الثالث ِة ،فإذا فيها رجل صور ُته كصور ِة القم ِر
ليل َة البد ِر».
قال« :قلت :من هذا يا جبري ُل؟
قال :هذا أخوك ُيوس ُف بن يعقو َب».
قال« :ثم أصعدني إلى السما ِء الرابع ِة ،فإذا فيها رجل فسألته :من هو؟
قال :هذا إدري ُس».
قال :يقول رسو ُل الله ﷺ(« :ﮂﮃﮄﮅ) [مريم.»]17:
قال« :ثم أصعدني إلى السما ِء الخامس ِة ،فإذا فيها كهل أبي ُض الرأس وال ِلحية،
عظي َم ال ُع ْثنُو ِن( ،)1لم أر كهلا أجم َل منه» ،قال« :قلت :من هذا يا جبري ُل؟
قال :هذا ال ُمحبب في قومه هارو ُن بن ِعمران».
قال« :ثم أصعدني إلى السما ِء السادس ِة ،فإذا فيها رجل آ َد ُم( )2طويل أقنى(،)3
كأنه من رجال َشنوء َة ،فقلت له :من هذا يا جبري ُل؟
قال :هذا أخوك ُموسى بن ِعمران.
()1عظي َم ال ُع ْثنُو ِن :عظيم اللحية.
( )2الآ َدم :الأسمر.
( )3ال َقنَا :ارتفاع في أعلى الأنف بين القصبة والمارن ،من غير قبح.
مختصر السيرة النبوية|80
ثم أصعدني إلى السما ِء الساب َع ِة ،فإذا فيها َكهل جالس على كرسي إلى باب
البيت المَعمو ِر ،يدخله ُك َّل يوم سبعون أل َف مل ٍك ،لا يرجعون فيه إلى يو ِم القيامة،
لم أر رجلا أش َبه بصا ِحبِكم ،ولا صاح ُبكم أش َبه به منه».
قال« :قلت :من هذا يا جبري ُل؟
قال :هذا أبوك إبراهي ُم».
قال« :ثم َدخل بي الج َّن َة ،فرأيت فيها جارية ل ْعسا َء( ،)1فسألتها :لمن أن ِت؟
وقد أعج َبتني حين رأي ُتها ،فقالت :لزيد ب ِن حارث َة» ،فب َّش َر بها رسو ُل الله ﷺ زي َد
بن حارث َة.
قال اب ُن إسحا َق :ومن حديث عب ِد الله بن مسعو ٍد ،عن النب ِّي ﷺ -
فيما بلغني :-أ َّن جبري َل لم يصعد به إلى سما ٍء من السماوات إلا قالوا له حين َيستأذ ُن
في دخوَ ِلاَ :من هذا يا جبري ُل؟ فيقول :محم ٌد .فيقولون :أ َو َقد ُبعث؟ فيقول :نعم.
فيقولون :ح َّياه الله من أ ٍخ وصاحب! حتى انتهى به إلى السما ِء السابع ِة ،ثم انتهى
به إلى ر ِّبه ،ففرض عليه خَمسين صلا ًة في ُك ِّل يوم.
قال :قال رسو ُل الله ﷺ« :فأقبلت راجعا ،فلما مرر ُت بموسى بن ِعمران
-ونع َم الصاح ُب كان لكم -سألني كم ُفر َض عليك من الصلاة؟
فقلت :خمسين صلاة ك َّل يوم.
( )1ال َّل ْعس :لون الشفة إذا كانت تضب إلى السمرة قلي ًلا.
| 82مختصر السيرة النبوية
فقال :إن الصلاة ثقيلة ،وإن أمتك ضعيفة ،فارجع إلى رب َك ،فاسأله أن
ُي ِفف عنك وعن ُأ َّمتك.
فرجع ُت فسألت ربي أن ُي ِفف عني وعن أمتي ،فوض َع عني عشا.
ثم انِصف ُت فمرر ُت على موسى فقال ل مث َل ذلك ،فرجعت فسألت ر ِبي،
فوضع عني عشا.
ثم انِصفت فمرر ُت على موسى ،فقال ل مث َل ذلك ،فرجعت فسألته
فوض َع عنِي عشا.
ثم لم يزل يقو ُل ل مثل ذلك ،كلما رجع ُت إليه ،قال :فارجع فاسأل ،حتى
انتهي ُت إلى أن ُوض َع ذلك عني ،إلا خم َس صلوات في ك ِل يوم وليل ٍة.
ثم رجع ُت إلى موسى ،فقال ل مث َل ذلك ،فقلت :قد راجع ُت ربي وسأل ُته،
حتى استحيي ُت منه ،فما أنا بفاع ٍل ،فمن أ َّداه َّن منكم إيمانا به َّن ،واحتسابا همن ،كان
له أج ُر خمسين صلاة مكتوبة».
-18كفاي ُة الله أمرَ الُمسته ِزئين
قال اب ُن إسحا َق :فأقام رسو ُل الله ﷺ على أم ِر الله تعالى صاب ًرا مُحتس ًبا،
ُمؤد ًيا إلى قومه النصيح َة على ما يلقى منهم من التكذي ِب والأذى والاستهزا ِء.
وكان عظما ُء المُستهزئين خمس َة نف ٍر من قو ِمهم ،وكانوا ذوي أسنا ٍن وشر ٍف في
قومهم :الأسو ُد ب ُن المطل ِب ،وكان رسو ُل الله ﷺ -فيما بلغني -قد دعا عليه لمِا
كان يب ُلغه من أذاه واستهزا ِئه به ،فقال« :الله َّم أع ِم بِ َصه ،وأثكِله و َلده».
مختصر السيرة النبوية|83
والأسو ُد بن عبد يغو َث ،والولي ُد بن المغير ِة ،والعا ُص بن وائل ،والحار ُث
بن ال ُطلاطل ِة.
فلما تمادوا في الش ِّر ،وأكثروا برسو ِل الله ﷺ الاستهزا َء ،أنز َل اللهُ تعالى عليه:
(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ) [ال ِحجر.]26-20:
-19وفاُة أبي طالبٍ وخديج َة
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن خديج َة بنت خويل ٍد وأبا طالب هلكا في عا ٍم واح ٍد،
فتتابعت على رسو ِل الله ﷺ المصائ ُب ب ُهلك خديج َة -وكانت له وزي َر صد ٍق على
الإسلام يشكو إليها -وب ُهلك ع ِّمه أبي طالب ،وكان له ع ُض ًدا وحر ًزا في أمره،
و َمنع ًة وناص ًرا على قومه ،وذلك قبل مهاج ِره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هل َك أبو طالب نالت قري ٌش من رسو ِل الله ﷺ من الأذى ما لم تكن
تطم ُع به في حيا ِة أبي طالب.
قال اب ُن إسحاق :ولما اشتكى أبو طال ٍب ،وبلغ قري ًشا ثقله ،قالت قري ٌش
بع ُضها لبعض :إن حمز َة وعم َر قد أسلما ،وقد فشا أم ُر محم ٍد في قبائ ِل قري ٍش ك ِّلها،
فانط ِلقوا بنا إلى أبي طالب ،فليأ ُخ ْذ لنا على اب ِن أخيه ،وليعطِه منا ،والله ما نأم ُن أن
يبتزونا أم َرنا.
قال اب ُن إسحا َق :عن ابن عباس قال :مشوا إلى أبي طالب فك َّلموه ،وهم
أشرا ُف قومه :عتب ُة بن ربيع َة ،وشيب ُة بن ربيع َة ،وأبو جه ِل ب ُن هشام ،وأمي ُة بن
خلف ،وأبو سفيا َن ب ُن حرب ،في رجال من أشرافِهم ،فقالوا :يا أبا طالب ،إنك
| 84مختصر السيرة النبوية
منا حي ُث قد علم َت ،وقد حضك ما ترى ،و َتخ َّوفنا عليك ،وقد علم َت الذي بيننا
وبين اب ِن أخيك ،فاد ُعه؛ ف ُخذ له منا ،وخ ْذ لنا منه ،ليك َّف عنا ،و َنك َّف عنه،
وليد ْعنا ودينَنا ،ون َد ْعه ودينَه.
فبعث إليه أبو طال ٍب ،فجاءه ،فقال :يا اب َن أخي :هؤلا ِء أشرا ُف قومك ،قد
اجتمعوا لك ،ل ُيعطوك ،وليأ ُخذوا منك.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :نعم ،كلمة واحدة ُتعطونيها َتلكون بها العر َب،
و َتدين لكم بها العج ُم».
قال :فقال أبو جه ٍل :نعم وأبيك ،وعش ُر كلمات.
قال :تقولون« :لا إله إلا الله ،و َتلعون ما َتعبدون من دونِه».
قال :فص َّفقوا بأيدُم ،ثم قالوا :أ ُتريد يا محم ُد أن تع َل الآَل َة إَلًا واح ًدا ،إ َّن
أمرك لعج ٌب!
قال :ثم قال بع ُضهم لبعض :إنه والله ما هذا الرج ُل ب ُمعطيكم شي ًئا مما
ُتريدون ،فانط ِلقوا وامضوا على دين آبا ِئكم ،حتى يحك َم الله بي َنكم وبينه.
قال :ثم َت َف َّرقوا.
فقال أبو طالب لرسو ِل الله ﷺ :والله يا اب َن أخي ،ما رأي ُتك سألتهم َش َط ًطا.
قال :فلما قاَلا أبو طالب ط ِمع رسو ُل الله ﷺ في إسلا ِمه ،فجعل يقو ُل له:
«أي ع ِم ،فأنت ،ف ُقلها أستحل لك بها الشفاع َة يو َم القيامة».
مختصر السيرة النبوية|85
قال :فلما رأى ِحر َص رسو ِل الله ﷺ عليه ،قال :يا اب َن أخي ،والله لولا
مخاف ُة ال ُّس َّب ِة عليك وعلى َبني أبيك من بعدي ،وأن َت ُظ َّن قري ٌش أني إنما قلتها جز ًعا
من المو ِت لقل ُتها ،لا أقوَلا إلا لأس ُّرك بها.
قال :فلما تقار َب من أبي طال ٍب المو ُت قال :نظر العبا ُس إليه يُح ِّرك ش َفتيه،
قال :فأصغى إليه بأ ُذنه ،قال :فقال يا اب َن أخي ،والله لقد قال أخي الكلم َة التي
أمر َته أن يقوَلا.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :لم أسم ْع» ،ثم هلك أبو طال ٍب.
-21سعي الرسو ِل إلى ثقيفٍ يطلب الُّنصرةَ
قال اب ُن إسحا َق :ولما َهل َك أبو طالب نالت قري ٌش من رسو ِل الله ﷺ من
الأذى ما لم تكن تنا ُل منه في حيا ِة ع ِّمه أبي طال ٍب ،فخرج رسو ُل الله ﷺ إلى
الطائ ِف ،يلتم ُس النُّصر َة من ثقي ٍف ،والمَنع َة بهم من قو ِمه ،ورجا َء أن يقبلوا منه ما
جا َءهم به من الله ،فخرج إليهم وح َده.
قال اب ُن إسحا َق :عن محم ِد بن كع ٍب ال ُقرظ ِّي قال :لما انتهى رسو ُل الله ﷺ
إلى الطائ ِف ،عمد إلى نف ٍر من ثقيف ،هم يومئ ٍذ ساد ُة ثقي ٍف وأشرا ُفهم ،وهم إخو ٌة
ثلاث ٌة :عب ُد يالِيل ب ُن عمرو ،ومسعو ٌد ،وحبي ٌب ،وعند أح ِدهم امرأ ٌة من قري ٍش من
بني جمح ،فجلس إليهم رسو ُل الله ﷺ ،فدعاهم إلى الله ،وك َّلمهم بما جا َءهم له
من ُنصرتِه على الإسلا ِم ،والقيا ِم معه على َمن خال َفه من قومه.
فقال له أح ُدهم :هو َي ْم ُرط( )1ثياب الكعب ِة إن كان الل ُه أرس َلك.
(َ )1ي ْم ُرط :يمزق.
| 86مختصر السيرة النبوية
وقال الآخ ُر :أما وج َد الله أح ًدا ُيرسله غي َرك!
وقال الثال ُث :والله لا أكلمك أب ًدا ،لئن كنت رسو ًلا من الله كما تقول ،لأنت
أعظ ُم خط ًرا من أن أر َّد عليك الكلا َم ،ولئن كنت َتكذ ُب على الله ،ما ينبغي لي أن
أك ِّلمك.
فقام رسو ُل الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خي ِر ثقي ٍف ،وقد قال َلم -فيما
ذكر لي« :-إذا فعلتم ما فعل ُتم فاكتموا ع ِني».
وكره رسو ُل الله ﷺ أن َيب ُلغ قو َمه عنه ،ف ُي ْذ ِئ ُرهم ذلك عليه(.)1
فلم َيفعلوا ،وأغ َروا به ُسفها َءهم وعبي َدهم ،يس ُّبونه ويصيحون به ،حتى
اجتم َع عليه النا ُس ،وألجؤوه إلى حائ ٍط ل ُعتب َة بن ربيع َة وشيب َة بن ربيع َة وهما فيه،
ورجع عنه من ُسفها ِء ثقي ٍف َمن كان يتبعه ،فع ِمد إلى ظ ِّل ح َبلة من عنب ،فجلس
فيه ،وابنا ربيع َة ينظران إليه ،و َيريان ما ل ِقي من ُسفها ِء أهل الطائ ِف ،وقد لقي
رسو ُل الله ﷺ -فيما ُذكر لي -المرأ َة التي من بني جُ َم ٍح فقال َلا« :ماذا لقينا من
أحمائِك؟»
فلما اطمأ َّن رسو ُل الله ﷺ قال -فيما ُذكر لي« :-اللهم إليك أشكو َضع َف
قوت ،و ِق َّل َة حيلتي ،و َهواني على الناس ،يا أرح َم الراحمين ،أنت رب المُستضعفين،
وأنت ربي ،إلى َمن َتكِ ُلني؟ إلى بعي ٍد يتج َّه ُمني؟ أم إلى عدو م َّلكته أمري؟ إن لم ي ُكن
بك ع َّل غضب فلا ُأبال ،ولك َّن عافي َتك هي أوس ُع ل ،أعوذ بنور وجهك الذي
أشرقت له الظلما ُت ،وصل َح عليه أم ُر الدنيا والآخرة من أن ُتنزل بي غض َبك ،أو
يح َّل ع َّل سخطك ،لك ال ُعتبى حتى ترضى ،ولا حول ولا ق َّو َة إلا بك».
(ُ )1ي ْذئِ ُرهم ذلك عليه :يريد يحرش بينهم.
مختصر السيرة النبوية|87
قال :فلما رآه ابنا ربيع َة :عتب ُة وشيب ُة وما لقي؛ تح َّركت له رح ُمهما ،فدعوا
غلا ًما َلما نصران اياُ ،يقال له :ع َّداس ،فقالا لهُ :خذ ِقط ًفا من هذا العن ِب ،فضعه في
هذا ال َّطبق ،ثم اذه ْب به إلى ذلك الرج ِل ،فق ْل له يأكل منه.
ففعل ع َّداس ،ثم أقب َل به حتى وض َعه بين يدي رسو ِل الله ﷺ ،ثم قال له:
ُك ْل ،فلما وض َع رسو ُل الله ﷺ فيه ي َده قال« :باسم الله» ثم أكل.
فنظر ع َّداس في وج ِهه ،ثم قال :والله إن هذا الكلا َم ما يقوله أه ُل هذه
البلا ِد ،فقال له رسو ُل الله ﷺ« :ومن أه ِل أ ِي البلاد أنت يا َع َّدا ُس؟ وما دينُك؟».
قال :نصراني ،وأنا رجل من أهل نِينَوى.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :من قري ِة ال َّرج ِل الصالح يون َس بن م َّتى».
فقال له عدا ٌس :وما ُيدريك ما يو ُنس بن م َّتى؟
فقال رسو ُل الله ﷺ« :ذاك أخي ،كان نبيا وأنا نب يي».
فأك َّب عدا ٌس على رسول الله ﷺ يق ِّبل رأ َسه ويديه وقدميه.
قال :يقول ابنا ربيع َة أح ُدهما لصاحبه :أ َّما غلا ُمك فقد أفسده عليك ،فلما
جاءهما ع َّدا ٌس ،قالا له :ويلك يا عدا ُس! ما لك ُتق ِّب ُل رأ َس هذا الرج ِل ويديه
وقدميه؟
قال :يا س ِّيدي ،ما في الأرض شي ٌء خي ٌر من هذا ،لقد أخب َرني بأم ٍر ما يعل ُمه
إلا نبي ،قالا له :وي َحك يا عدا ُس ،لا يصرفنَّك عن دينِك ،فإن دينك خي ٌر من
دينه.
| 88مختصر السيرة النبوية
-21أمرُ الج ِنّ الذين استمَعوا له وآمنوا به
قال :ثم إن رسو َل الله ﷺ انصر َف من ال َّطائف راج ًعا إلى مك َة حين يئ َس
من خي ِر ثقي ٍف ،حتى إذا كان بنخل َة قام من جو ِف الليل ُيص ِّلي ،فمر به النف ُر من
الج ِّن الذين َذ َك َرهم اللهُ تبارك وتعالى ،وهم -فيما ُذكر لي -سبع ُة نف ٍر من جن أهل
َن ِصيبي َن ،فاس َتمعوا له؛ فلما فر َغ من صلاته و َّلوا إلى قو ِمهم ُمنذرين قد آمنوا
وأجابوا إلى ما سمعوا.
ف َق َّص الله خب َرهم عليه ﷺ ،قال الل ُه ( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗﭘ) إلى قوله تعالى( :ﮃﮄﮅﮆﮇ) [الأحقاف-52:
]35وقال تبارك وتعالى( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الجن ]5:إلى آخر
القصة من خبرهم في هذه السورة.
َ -22عرضُ رسولِ الله ﷺ نفسَه على القبائلِ
قال اب ُن إسحا َق :ثم ق ِدم رسو ُل الله ﷺ م َّك َة ،وقو ُمه أش ُّد ما كانوا عليه من
خلافِه وفرا ِق دينه ،إلا قلي ًلا ُمستضعفين ممن آمن به.
فكان رسو ُل الله ﷺ َيع ِرض نف َسه في الموا ِسم إذا كانت على قبائ ِل العر ِب
يدعوهم إلى الله ،ويُخبرهم أنه نبي مرس ٌل ،ويسأَلم أن يصدقوه و َيمنعوه حتى يب ِّين
َلم اللهُ ما بعثه به.
قال اب ُن إسحا َق :عن ربيع َة بن ع َّبا ٍد قال :إني لغلا ٌم شاب مع أبي بمنًى
ورسو ُل الله ﷺ يق ُف على مناز ِل القبائ ِل من العر ِب ،فيقول« :يا بني فلا ٍن ،إني
رسو ُل الله إليكم ،يأم ُركم أن َتعبدوا الله ولا ُتشكوا به شيئا ،وأن َتلعوا ما
مختصر السيرة النبوية|89
َتعبدون من دونِه من هذه الأندا ِد ،وأن ُتؤمنوا بي ،و ُتص ِدقوا بي ،وتنعوني ،حتى
أب ِي َن عن الله ما بعثني به».
قال :وخل َفه رج ٌل أحو ُل وضي ٌء ،له غديرتا ِن ،عليه ُح َّل ٌة ع َدنية ،فإذا فر َغ
رسو ُل الله ﷺ من قولِه وما دعا إليه ،قال ذلك الرج ُل :يا َبني فلا ٍن ،إن هذا إنما
َيدعوكم أن َتسلخوا اللا َت وال ُع َّزى من أعنا ِقكم ،و ُحلفاءكم من الح ِّي من بني
مالك بن ُأ َقيش إلى ما جاء به من البِدعة والضلال ِة؛ فلا ُتطيعوه ولا َتسمعوا منه.
قال :فقل ُت لأبي :يا أب ِت ،من هذا الذي يتب ُعه وير ُّد عليه ما يقول؟ قال :هذا
ع ُّمه عب ُد ال ُع َّزى بن عبد المطلب أبو َل ٍب.
| 91مختصر السيرة النبوية
[ج -بيعة العقبة وبدء الهجرة]
َ -1بدءُ إسلا ِم الأنصارِ
قال اب ُن إسحا َق :فلما أراد اللهُ إظها َر دينه ،وإعزا َز نب ِّيه ﷺ ،وإنجا َز
َموع ِده له ،خر َج رسو ُل الله ﷺ في الموس ِم الذي لق َيه فيه النف ُر من الأنصا ِر،
فعرض نف َسه على قبائ ِل العر ِب ،كما كان يصن ُع في ُك ِّل موسم.
فبينما هو عند ال َعقبة لق َي ره ًطا من الخزر ِج أرا َد الله بهم خي ًرا.
قال َلم« :من أنتم؟» قالوا :نف ٌر من الخزر ِج.
قال« :أمن موال يهود؟».
قالوا :نعم.
قال« :أفلا َتلسون أك ِل ُمكم؟».
قالوا :بلى.
فجلسوا معه ،فدعاهم إلى الله ،وعر َض عليهم الإسلا َم ،وتلا عليهم
القرآ َن.
قال :وكان مما صن َع الل ُه بهم في الإسلا ِم ،أن ُود كانوا معهم في بلا ِدهم،
وكانوا أه َل كتا ٍب و ِعلم ،وكانوا هم أه َل شر ٍك وأصحا َب أوثا ٍن ،وكانوا قد
غزوهم ببلا ِدهم ،فكانوا إذا كان بينهم شي ٌء قالوا َلم :إن نب ايا مبعو ٌث الآن ،قد
أظ َّل زما ُنه ،نتبعه فنق ُتلكم معه قتل عا ٍد وإرم.
مختصر السيرة النبوية|90
فلما كلم رسو ُل الله ﷺ أولئك النف َر ،ودعاهم إلى الله ،قال بع ُضهم لبعض:
يا قو ُم ،تع َّلموا والله ،إنه للنب ُّي الذي تو َّعدكم به ُو ُد ،فلا تسبق َّنكم إليه؛ فأجابوه
فيما دعاهم إليه ،بأن ص َّدقوه وقبِلوا منه ما عر َض عليهم من الإسلا ِم.
وقالوا :إنا قد تركنا قو َمنا ،ولا قو َم بينهم من العداو ِة والش ِّر ما بينَهم،
فعسى أن يَجم َعهم الله بك فسنَق َد ُم عليهم ،فندعوهم إلى أم ِرك ،و َنعر ُض عليهم
الذي أجبناك إليه من هذا الدين ،فإن جم َعهم الل ُه عليه فلا رج َل أع َّز منك.
ثم انصرفوا عن رسو ِل الله ﷺ راجعي َن إلى بلا ِدهم ،وقد آمنوا وص َّدقوا.
فلما ق ِدموا المدين َة إلى قو ِمهم ذكروا َلم رسو َل الله ﷺ ود َعوهم إلى الإسلام
حتى فشا فيهم ،فلم تب َق دا ٌر من ُدور الأنصا ِر إلا وفيها ذك ٌر من رسو ِل الله ﷺ.
-2العَقب ُة الأولى ومُصع ُب بن عُميٍر
حتى إذا كان العا ُم ال ُمقب ُل واِّف الموس َم من الأنصا ِر اثنا ع َشر رج ًلا ،فلقوه
بالعقب ِة ،فبايعوا رسو َل الله ﷺ على بيع ِة النسا ِء( ،)1وذلك قبل أن ُتفتر َض عليهم
الحر ُب.
قال اب ُن إسحا َق :عن ُعباد َة بن الصام ِت قال :كنت فيمن ح َض العقب َة
الأولى ،وكنا اثني ع َشر رج ًلا ،فبا َي ْعنا رسو َل الله ﷺ على بيع ِة النسا ِء ،وذلك قبل
أن ُتفتر َض الحر ُب ،على ألا ُنشرك بالله شي ًئا ،ولا َنسر َق ،ولا نزني ،ولا َنقت َل
أولا َدنا ،ولا نأت َي ب ُبهتا ٍن نفتريه من بين أيدينا وأر ُجلنا ،ولا َنعصيه في معرو ٍف ،فإن
( )1بيعة النساء :أي لا قتال فيها ،وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن ،فقال( :ﭖﭗﭘﭙﭚ
ﭛﭜ) [الممتحنة.]55:
| 92مختصر السيرة النبوية
و َّفيتم فل ُكم الجن ُة ،وإن َغ ِشيتم من ذلك شي ًئا فأم ُركم إلى الله ،إن شاء ع َّذب
وإن شاء َغ َف َر.
قال اب ُن إسحا َق :فلما انصر َف عنه القو ُم ،بعث رسو ُل الله ﷺ معهم
مصع َب ب َن عمي ٍر ،وأمره أن ُيقرئهم القرآ َن ،و ُيع ِّلمهم الإسلا َم ،و ُيف ِّق َه ُهم في
الدين ،فكان ُيسمى المقر َئ بالمدينة مصعب ،وكان منز ُله على أسع َد بن ُزرار َة.
-3إسلا ُم سعدِ بن ُمعا ٍذ وأسي ِد بن ُحضيرٍ
قال اب ُن إسحا َق :ح َّدثني ُعبي ُد الله بن ال ُمغيرة وعب ُد الله بن أبي بك ٍر :أن أسع َد
ب َن زرار َة خرج بمصع ِب بن ُعمير يريد به دا َر بني عبد الأشه ِل ،ودا َر بني َظ َفر،
وكان سع ُد بن معاذ اب َن خالة أسع َد بن ُزرار َة ،فدخل به حائ ًطا من حوائط بني
َظ َفر على بئ ٍر ُيقال َلا :بئر َمر ٍق ،فجلسا في الحائط ،واجتمع إليهما رجا ٌل ممن أسل َم،
وسع ُد بن معا ٍذ ،و ُأسي ُد بن ُحضير ،يومئذ سي َدا قو ِمهما من بني عبد الأشه ِل،
وكلا ُهما ُمشر ٌك على دين قو ِمه ،فلما سمعا به قال سع ُد بن ُمعاذ لأسيد بن ُحضي ٍر:
لا أبا لك ،انطل ْق إلى هذين الرجلين اللذي ِن قد أتيا دارينا ل ُيس ِّفها ُضعفا َءنا؛
فاز ُجرهما وانههما عن أن يأتيا دا َرينا ،فإ َّنه لولا أن أسع َد بن زرار َة مني حيث قد
علم َت كفي ُتك ذلك ،هو اب ُن خالتي ،ولا أجد عليه مق َّد ًما.
قال :فأخذ أسي ُد بن حضير حر َبته ثم أقبل إليهما ،فلما رآه أسع ُد بن زرار َة،
قال لمصع ِب بن عمي ٍر :هذا سي ُد قو ِمه قد جاءك ،فاص ُدق الل َه فيه ،قال مصع ٌب :إن
يجلس أك ِّل ْمه.
قال :فوقف عليهما متشت ًما.
مختصر السيرة النبوية|93
فقال :ما جاء بكما إليناُ ،تس ِّفهان ُضعفا َءنا؟! اعت ِزلانا إن كانت لكما
بأن ُف ِسكما حاج ٌة ،فقال له مصع ٌب :أو تل ُس فتسمع ،فإن رضيت أم ًرا قبل َته ،وإن
كرهته ُك َّف عنك ما تكره؟
قال :أنصفت ،ثم ر َكز حر َبته وجلس إليهما ،فك َّلمه مصع ٌب بالإسلا ِم ،وقرأ
عليه القرآ َن ،فقالا -فيما يذكر عنهما :-والله ل َعرفنا في وج ِهه الإسلا َم قبل أن
يتك َّلم في إشرا ِقه وتس ُّهله.
ثم قال :ما أحسن هذا الكلا َم وأج َمله! كيف َتصنعون إذا أردتم أن تدخلوا
في هذا الدي ِن؟
قالا لهَ :تغتس ُل فتط َّهر ،و ُتط ِّهر ثوبيك ،ثم َتش َه ُد شهاد َة الحق ،ثم ُتصلي.
فقام فاغتسل وط َّهر ثوبيه ،و َتش َّهد شهاد َة الحق ،ثم قام فركع ركعتي ِن ،ثم
قال َلما :إن ورائي رج ًلا إن ا َّتبعكما لم يتخ َّلف عنه أح ٌد من قومه ،وسأرس ُله إليكما
الآ َن ،سع َد بن معاذ ،ثم أخذ حر َبته وانصرف إلى سع ٍد وقو ِمه وهم جلو ٌس في
نادُم ،فلما نظر إليه سع ُد بن معاذ ُمقب ًلا قال :أحل ُف بالله لقد جاءكم أسي ٌد بغير
الوجه الذي ذهب به من ِعندكم ،فلما وق َف على النادي قال له سع ٌد :ما فعل َت؟
قال :ك َّلمت الرجلي ِن ،فوالله ما رأيت بهما بأ ًسا ،وقد نهي ُتهما ،فقالا :نفع ُل ما
أحبب َت ،وقد ُح ِّدثت أن بني حارث َة قد خرجوا إلى أسع َد بن زرار َة ليقتلوه ،وذلك
أنهم قد عرفوا أنه اب ُن خالتك ،ليخ ِفروك.
| 94مختصر السيرة النبوية
قال :فقام سع ٌد ُمغض ًبا مباد ًرا ،تخ ُّو ًفا للذي ُذكر له من بني حارث َة ،فأخذ
الحرب َة من يده ،ثم قال :والله ما أراك أغنيت شي ًئا ،ثم خرج إليهما ،فلما رآهما سع ٌد
مطمئنين ،عرف سع ٌد أن أسي ًدا إنما أراد منه أن يسم َع منهما ،فوقف عليهما ُمتش ِّت ًما،
ثم قال لأسع َد بن زرار َة :يا أبا ُأمام َة ،أما والله ،لولا ما بيني وبينك من القراب ِة ما
ُرم َت هذا مني ،أتغشانا في دا َر ْينا بما نك َره -وقد قال أسع ُد ب ُن زرار َة لمصعب بن
عمي ٍر :أ ْي مصع ُب ،جاءك والله سي ُد َمن وراءه من قو ِمه ،إن ي َّتبعك لا يتخ َّلف
عنك منهم اثنا ِن -قال :فقا َل له مصع ٌب :أو تقع ُد فتسمع ،فإن رضي َت أم ًرا
ورغبت فيه قبِلته ،وإن ك ِرهته عزلنا عنك ما تكر ُه؟
قال سع ٌد :أنصف َت.
ثم ر َكز الحر َبة وجلس ،فعرض عليه الإسلا َم ،وقرأ عليه القرآ َن.
قالا :فع َرفنا والله في وج ِهه الإسلا َم قبل أن يتك َّلم ،لإشرا ِقه وتس ُّهله.
ثم قال َلما :كيف َتصنعون إذا أنتم أسلم ُتم ودخل ُتم في هذا الدين؟
قالاَ :تغتس ُل ف َتط َّهر و ُتط ِّهر ثوبيك ،ثم َتشه ُد شهاد َة الح ِّق ،ثم تصلي
ركعتين.
قال :فقام فاغتسل وط َّهر ثوبيه ،وتش َّهد شهاد َة الح ِّق ،ثم ركع ركعتين ،ثم
أخذ حربته ،فأقب َل عام ًدا إلى نادي قو ِمه ومعه أسي ُد بن حضي ٍر.
قال :فلما رآه قومه ُمقب ًلا ،قالوا :نحلف بالله لقد رجع إليكم سع ٌد بغير
الوج ِه الذي ذهب به من عن ِدكم ،فلما وق َف عليهم قال :يا بني عب ِد الأشهل،
كيف تعلمون أم ِري فيكم؟
مختصر السيرة النبوية|95
قالوا :س ِّي ُدنا وأوصلنا وأفض ُلنا رأ ًيا ،وأيمننا نقيب ًة.
قال :فإن كلا َم رجالِكم ونسا ِئكم عل َّي حرا ٌم حتى تؤمنوا بالله وبرسولِه.
قالا :فوالله ما أمسى في دا ِر بني عب ِد الأشه ِل رج ٌل ولا امرأ ٌة إلا مسل ًما
ومسلم ًة ،ورجع أسع ُد ومصع ٌب إلى منزل أسع َد بن زرار َة ،فأقام عنده يدعو
النا َس إلى الإسلا ِم ،حتى لم تبق دا ٌر من دور الأنصا ِر إلا وفيها رجا ٌل ونسا ٌء
مسلمون.
-4أمرُ العقب ِة الثاني ِة
قال اب ُن إسحا َق :ثم إن مصع َب بن عمي ٍر رجع إلى م َّك َة ،وخرج من خرج من
الأنصا ِر من المسلمين إلى الموس ِم مع ُحجا ِج قومهم من أهل الشر ِك ،حتى قدموا
م َّك َة ،فواعدوا رسو َل الله ﷺ العقب َة ،من أوس ِط أيام التشري ِق ،حين أرا َد الله بهم ما
أرا َد من كرامتِه ،والنص ِر لنب ِّيه ،وإعزا ِز الإسلام وأه ِله ،وإذلا ِل الشرك وأهلِه.
قال اب ُن إسحا َق :قال كع ٌب :فلما فرغنا من الح ِّج ،وكانت الليل ُة التي واعدنا
رسو َل الله ﷺ َلا نِمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ،حتى إذا مضى ُثل ُث اللي ِل
خرجنا من ِرحالنا لمعاد رسو ِل الله ﷺ ،نتس َّل ُل تس ُّل َل ال َقطا ُمست ْخ ِفين ،حتى
اجتمعنا في ال ِّشعب عند العقب ِة ،ونحن ثلاثة وسبعون رج ًلا ،ومعنا امرأتا ِن من
نسا ِئنا.
قال :فاجتمعنا في ال ِّشعب ننتظ ُر رسو َل الله ﷺ ،حتى جاءنا ومعه ع ُّمه
العبا ُس ب ُن عب ِد المطلب ،وهو يومئ ٍذ على دين قو ِمه ،إلا أنه أح َّب أن يحض أم َر اب ِن
أخيه ويتو َّثق له.
| 96مختصر السيرة النبوية
فلما جل َس كان أ َّو َل متكل ٍم العبا ُس بن عبد المطل ِب ،فقال :يا معش َر الخزر ِج
– قال :وكانت العر ُب إنما ُيس ُّمون هذا الح َي من الأنصار :الخزر َج ،خزرجها
وأو َسها :-إن محم ًدا منا حيث قد علم ُتم وقد منعنا ُه من قو ِمنا ،ممن هو على مث ِل
رأينا فيه ،فهو في ع ٍّز من قو ِمه و َمنع ٍة في بل ِده ،وإنه قد أبى إلا الانحيا َز إليكم
واللحو َق بكم ،فإن كنتم َترون أ َّنكم وافون له بما دعوتُموه إليه ،ومانِعوه ممن
خالفه ،فأنتم وما تح َّمل ُتم من ذلك.
وإن كنتم ترون أنكم ُمسلموه وخا ِذلوه بعد الخرو ِج به إليكم ،ف ِمن الآن
فدعوه؛ فإنه في ِع ٍّز ومنع ٍة من قومه وبلده.
قال :فقلنا له :قد َسمعنا ما قل َت ،فتكل ْم يا رسو َل الله ،ف ُخذ لنف ِسك ولر ِّبك
ما أحبب َت.
قال :فتكلم رسو ُل الله ﷺ ،فتلا القرآ َن ،ودعا إلى الله ،ور َّغب في الإسلا ِم ،ثم
قال« :أباي ُعكم على أن َتنعوني مما َتنعو َن منه نسا َءكم وأبناءكم».
قال :فأخذ البرا ُء بن معرو ٍر بي ِده ،ثم قال :نعم ،والذي بع َثك بالح ِّق نب ايا،
لنمنَ َعنَّك مما نمن ُع منه ُأز َرنا( ،)1فبا ِيعنا يا رسو َل الله ،فنحن والله أبنا ُء الحرو ِب،
وأه ُل الحلقة ،ورثناها كاب ًرا عن كاب ٍر.
قال :فاعترض القو َل -والبرا ُء يك ِّلم رسو َل الله ﷺ -أبو اَليثم بن ال َّت ِّيها ِن،
فقال :يا رسو َل الله ،إن بينَنا وبين الرجا ِل ِحبا ًلا ،وإنا قا ِطعوها -يعني :اليهو َد-
فهل عسي َت إن نحن ف َعلنا ذلك ث َّم أظ َه َرك الل ُه أن تر ِج َع إلى قو ِمك وت َد َعنا؟
(ُ )1أز َرنا :من الإزار ،كناية عن النساء.
مختصر السيرة النبوية|97
قال :فتبسم رسو ُل الله ﷺ ،ثم قال« :بل ال َّد َم ال َّد َم ،واهم َد َم اهم َد َم ،أنا منكم
وأنتم م ِني ،أحار ُب من حا َربتم ،وأسالمُ من سالم ُتم».
قال :وقد كان قا َل رسو ُل الله ﷺ« :أخ ِرجوا إ َّل منكم اثني ع َ َش نقيبا،
ليكونوا على قو ِمهم بما فيهم».
فأخ َرجوا منهم اثنَي ع َشر نقي ًبا ،تسع ًة من الخزرج ،وثلاث ًة من الأوس.
قال اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله بن أبي بكر ،أن رسو َل الله ﷺ قال
للنُّقبا ِء« :أنتم على قو ِمكم بما فيهم ُكفلا ُء ،ككفال ِة الحواريين لعيسى اب ِن مري َم،
وأنا كفيل على قومي» -يعني :المسلمين -قالوا :نعم.
فلما بايعنا رسو َل الله ﷺ صر َخ الشيطا ُن من رأ ِس العقب ِة بأنف ِذ صو ٍت
سمعته ق ُّط :يا أه َل ال ُجبا ِجب -والجُباج ُب :المناز ُل -هل لكم في ُمذ َّم ٍم وال ُّصبا ُة
معه ،قد اجتمعوا على حربِكم.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :هذا أ َزب العقب ِة ،هذا ابن َأ ْزي َب ،أتسم ُع ،أي
عد َّو الله ،أما والله لأف ُر َغ َّن لك».
فقال له العبا ُس بن ُعباد َة ب ِن نضل َة :والله الذي بعثك بالح ِّق ،إن شئت
لنُميل َّن على أه ِل ِمنًى غ ًدا بأسيافِنا؟
قال :فقا َل رسو ُل الله ﷺ« :لم ُنؤ َمر بذلك ،ولكن ار ِجعوا إلى ِرحالِكم».
قال :فرجعنا إلى َمضا ِجعنا فنِمنا عليها حتى أص َبحنا.
| 98مختصر السيرة النبوية
قال :فلما أصبحنا غ َدت علينا جل ُة قري ٍش ،حتى جاءونا في َمنا ِزلنا ،فقالوا:
يا معش َر الخزر ِج ،إنه قد ب َلغنا أنكم قد جئ ُتم إلى صا ِحبنا هذا َتستخ ِرجو َنه من بين
أظ ُه ِرنا ،و ُتبا ِيعونه على حربِنا ،وإنه والله ما من ح ٍّي من العر ِب أبغ ُض إلينا أن
تنش َب الحر ُب بيننا وبينهم منكم.
قال :فانب َعث َمن هناك من ُمشركي قو ِمنا يَحلفون بالله ما كان من هذا شي ٌء،
وما ع ِلمناه.
قال :وقد َصدقوا؛ لم يعلموه.
قال :ونف َر النا ُس من م ًنى ،فتن َّطس القو ُم الخب َر( ،)1فوجدوه قد كان،
و َخرجوا في طل ِب القو ِم ،فأدركوا سع َد بن ُعباد َة بأذاخ َر ،والمنذ َر بن عمرو أخا
َبني ساعد َة بن كع ِب بن الخزر ِج ،وكلا ُهما كان نقي ًبا.
فأما المنذ ُر فأعج َز القو َم ،وأما سع ٌد فأخذوه ،فربطوا يديه إلى ُعن ِقه بنِس ِع()2
رح ِله ،ثم أقبلوا به حتى أدخلوه م َّك َة َيضبو َنه ،ويَجذبو َنه ب ُج َّمتِه ،وكان ذا شع ٍر كثي ٍر.
قال :فوالله ،إني لفي أيدُم َيس َحبونني إذ أوى لي رج ٌل ممن كان م َعهم،
فقال وي َحك! أما بينك وبين أح ٍد من قري ٍش جوا ٌر ولا عه ٌد؟
قال :قلت :بلى والله ،لقد كنت ُأ ِجي ُر لجبي ِر بن مط ِعم بن عد ِّي بن نوفل بن
عبد َمناف ُتا َر ُه ،وأمنعهم ممن أرا َد ُظل َمهم ببلادي ،وللحار ِث بن حرب بن أم َّية
بن عبد شم ِس بن عبد منا ٍف.
(َ )1تنَ َّط ُسوا الخبر :بالغوا في البحث عنه.
( )2النِّ ْسع :سير مضفور يجعل زما ًما للبعير وغيره.
مختصر السيرة النبوية|99
قال :وي َحك! فاهتِف باسم الرجلي ِن ،واذكر ما بينَك وبينهما.
قال :ففعل ُت؛ وخرج ذلك الرج ُل إليهما ،فوج َدهما في المسج ِد عند الكعب ِة،
فقال َلما :إن رج ًلا من الخزر ِج الآ َن ُيض ُب بالأبط ِح وُتِ ُف بكما ،ويذكر أن بينه
وبينكما ِجوا ًرا.
قالا :ومن هو؟
قال :سع ُد بن ُعبادة.
قالا :صد َق والله ،إن كان ل ُيجي ُر لنا تا َرنا ،ويمنعهم أن ُيظلموا ببلِده.
قال :فجاءا فخ َّلصا سع ًدا من أيدُم ،فانطلق.
-5شرو ُط البيعةِ في العقب ِة الأخيرِة
قال اب ُن إسحا َق :وكان في بيع ِة الحر ِب ،حين أ ِذن الله لرسولِه ﷺ في القتا ِل
شرو ًطا سوى شر ِطه عليهم في العقب ِة الأولى.
كانت الأولى على بيع ِة النساء ،وذلك أن الل َه تعالى لم يكن أذ َن لرسولِه ﷺ في
الحر ِب ،فلما أذن اللهُ له فيها وبايعهم رسو ُل الله ﷺ في العقب ِة الأخير ِة على حر ِب
الأحم ِر والأسو ِد ،أخذ لنف ِسه واشتر َط على القوم لر ِّبه ،وجعل َلم على الوفا ِء
بذلك الجنَّ َة.
قال اب ُن إسحا َق :عن عباد َة بن الصام ِت -وكان أح َد النقبا ِء -قال :بايعنا
رسو َل الله ﷺ بيع َة الحر َب -وكان ُعباد ُة من الاثني عش َر الذين بايعوه في العقب ِة
الأولى على بيع ِة النسا ِء -على السم ِع والطاع ِة ،في ُعسرنا و ُيسرنا و َمن َشطنا