The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by Syuhada Ibrahim, 2020-12-15 08:28:41

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

‫‪ | 211‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فبلغني أن َغطفا َن لما سمعت بمنز ِل رسو ِل الله ﷺ من َخيب َر جمعوا له‪ ،‬ثم‬
‫خرجوا ل ُيظا ِهروا ُو َد عليه‪ ،‬حتى إذا ساروا َمنْ َق َل ًة(‪ )1‬سمعوا َخل َفهم في أمواَلم‬
‫وأهليهم ِح اسا‪ ،‬ظنوا أن القو َم قد خالفوا إليهم‪ ،‬ف َرجعوا على أعقابِهم‪ ،‬فأقاموا في‬

‫أهليهم وأمواَ ِلم‪ ،‬وخ َّلوا بين رسو ِل الله ﷺ وبين خيب َر‪.‬‬
‫و َتد َّنى(‪ )2‬رسو ُل الله ﷺ الأموا َل يأخ ُذها ما ًلا ما ًلا‪ ،‬ويفتتحها ِحصنًا‬

‫ِحصنًا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما افتتح رسو ُل الله ﷺ من ِحصونهم ما افتتح‪ ،‬وحاز من‬
‫الأموا ِل ما حا َز‪ ،‬انتهوا إلى ِحصنَيهم‪ :‬الوطي ِح وال ُّسلالمِ‪ ،‬وكان آخ َر حصو ِن أهل‬

‫خيب َر افتتا ًحا‪ ،‬فحا َصرهم رسو ُل الله ﷺ بض َع ع ْشر َة ليل ًة‪.‬‬

‫وحاصر رسو ُل الله ﷺ أه َل خيب َر في حصنيهم‪ :‬الوطي ِح وال ُّسلالمِ‪ ،‬حتى إذا‬
‫أيقنوا باَلَل َك ِة‪ ،‬سألوه أن ُيس ِّيرهم وأن يح ِق َن َلم دما َءهم؛ ففعل‪.‬‬

‫وكان رسو ُل الله ﷺ قد حاز الأموا َل ُك َّلها‪ :‬ال َّش َّق ونطا َة والكتيب َة وجميع‬
‫ُحصونِهم‪ ،‬إلا ما كان من ذينك الحصنين‪.‬‬

‫فلما سمع بهم أه ُل َف َدك قد صنعوا ما صنعوا‪ ،‬بعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ‬
‫يسألونه أن ُيس ِّيرهم‪ ،‬وأن يحق َن دما َءهم‪ ،‬ويخلوا له الأموا َل؛ ففع َل‪.‬‬

‫فكانت خيب ُر في ًئا بين المسلمين‪ ،‬وكانت َف َد ُك خالص ًة لرسو ِل الله ﷺ؛ لأنهم‬
‫لم يُجلبوا عليها بخي ٍل ولا ِركا ٍب‪.‬‬

‫(‪َ )1‬منْ َق َلة‪ :‬مرحلة من مراحل السفر‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ت َد َّنى‪ :‬أي دنا منها شيئا بعد شيء‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪210‬‬

‫‪ -8‬أمرُ الشاةِ المَسمومةِ‬

‫فلما اطمأ َّن رسو ُل الله ﷺ أهدت له زين ُب بن ُت الحارث ‪-‬امرأ ُة س َّلام بن‬
‫ِمشك ٍم‪ -‬شا ًة َم ْصلِ َّي ًة(‪ ،)1‬وقد سألت‪ :‬أ َّي عضو من الشاة أح ُّب إلى رسو ِل الله‬

‫ﷺ؟‬
‫فقيل َلا‪ :‬الذرا ُع؛ فأكثرت فيها من ال ُّس ِّم‪ ،‬ثم سمت سائ َر الشا ِة‪ ،‬ثم جاءت‬
‫بها‪ ،‬فلما وضعتها بين يدي رسو ِل الله ﷺ تناو َل الذرا َع‪ ،‬فلاك منها ُمضغ ًة‪ ،‬فلم‬
‫ُي ِسغها‪ ،‬ومعه بِش ُر بن البرا ِء بن َمعرور قد أخذ منها كما أخذ رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فأما‬
‫بِش ٌر فأسا َغها‪ ،‬وأما رسو ُل الله ﷺ فل َفظها ثم قال‪« :‬إن هذا العظ َم ل ُيخبرني أنه‬

‫َمسموم»‪ ،‬ثم دعا بها‪ ،‬فاعترفت‪.‬‬

‫فقال‪« :‬ما ح َملك على ذلك؟» قالت‪َ :‬بلغ َت من قومي ما لم يَ ْخ َف عليك‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬إن كان َملِ ًكا استرح ُت منه‪ ،‬وإن كان نب ايا فس ُيخبر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فتجاوز عنها رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ومات بِش ٌر من أكلته التي أك َل‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني مروا ُن بن عثما َن قال‪ :‬كان رسو ُل الله ﷺ قد قال‬
‫في مر ِضه الذي توفي فيه‪ ،‬ودخلت أ ُّم بش ٍر بنت البراء بن معرور تعو ُده‪« :‬يا أ َّم بش‪،‬‬
‫إن هذا الأوان وجد ُت فيه انقطا َع َأب َهري(‪ )2‬من الأك َلة التي أكلت مع أخيك‬

‫بِخيب َر»‪.‬‬

‫(‪َ )1‬م ْص ِل َّية‪ :‬مشوية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الأَ ْب َهر‪ :‬عرق إذا انقطع مات صاحبه‪.‬‬

‫‪ | 212‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فإن كان المسلمون ل َيرون أن رسو َل الله ﷺ مات شهي ًدا‪ ،‬مع ما أكرمه‬
‫اللهُ به من النبو ِة‪.‬‬

‫‪ِ -9‬ذك ُر قدوم جعف َر بن أبي طالب من الحبشةِ وحديث المهاجرين إلى الحبش ِة‬

‫قال ابن هشا ٍم‪ :‬عن الشعب ِّي‪ :‬أن جعف َر بن أبي طالب ‪ ،‬قدم على‬
‫رسو ِل الله ﷺ يو َم فتح خيب َر‪ ،‬فق َّبل رسو ُل الله ﷺ بين عينيه‪ ،‬والتز َمه وقال‪« :‬ما‬

‫أدري بأ ِيهما أنا ُأ َس‪ :‬بفتح خيب َر‪ ،‬أم بقدوم جعف َر؟»‪.‬‬
‫‪ -11‬عُمرُة القضاء في ذي القعدة سن َة سبع‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما رجع رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة من خيب َر‪ ،‬أقام بها‬
‫شهري ربي ٍع وجُماديين ورج ًبا وشعبان ورمضا َن وشوا ًلا‪ ،‬يبعث فيما بين ذلك من‬
‫َغزوه وسراياه ﷺ‪ ،‬ثم خرج في ذي القعد ِة في الشهر الذي ص َّده فيه المشركون‬

‫ُمعتم ًرا عمر َة القضاء‪ ،‬مكان عمرتِه التي صدوه عنها‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وخر َج معه المسلمون ممن كان ُص َّد معه في عمرتِه تلك‪،‬‬
‫وهي سن َة سبع‪ ،‬فلما سم َع به أه ُل م َّك َة خرجوا عنه‪ ،‬وتح َّدثت قري ٌش بينها أن محم ًدا‬

‫وأصحا َبه في ُعسرة وجهد وشد ٍة‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عباس قال‪ :‬ص ُّفوا له عند دار الندوة ل َينظروا إليه‬
‫وإلى أصحابِه‪ ،‬فلما دخ َل رسو ُل الله ﷺ المسج َد اضطب َع بردا ِئه‪ ،‬وأخرج َع ُض َده‬
‫اليمنى ثم قال‪« :‬رحم الله امرأ أراهم اليو َم من نف ِسه قوة»‪ ،‬ثم استلم الرك َن‪ ،‬وخرج‬
‫ُُرول وُرول أصحا ُبه معه‪ ،‬حتى إذا واراه البي ُت منهم‪ ،‬واستل َم الرك َن اليمان َّي‪ ،‬مشى‬

‫حتى يستلم الركن الأسو َد‪ ،‬ثم هرو َل كذلك ثلاث َة أطوا ٍف‪ ،‬ومشى سائ َرها‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪213‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عباس أن رسو َل الله ﷺ تز َّوج ميمون َة بن َت‬
‫الحار ِث في سفره ذلك وهو حرا ٌم‪ ،‬وكان الذي ز َّوجه إياها العبا ُس بن عبد‬

‫المطلب‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة ثلاثا‪ ،‬فأتاه ُحويط ُب بن عبد‬
‫ال ُع َّزى في نف ٍر من قري ٍش في اليوم الثال ِث‪ ،‬وكانت قري ٌش قد و َّكلته بإخراج رسو ِل‬
‫الله ﷺ من م َّك َة‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إنه قد انقضى أج ُلك‪ ،‬فاخ ُرج عنا‪ ،‬فقال النب ُّي ﷺ‪:‬‬
‫«وما َعليكم لو َترك ُتموني فأعرس ُت بين أظ ُهركم‪ ،‬و َصنَعنا لكم طعاما‬

‫ف َحضرتوه»‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬لا حاج َة لنا في طعا ِمك‪ ،‬فاخ ُرج عنا‪.‬‬

‫فخرج رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وخ َّلف أبا راف ٍع مولاه على ميمون َة‪ ،‬حتى أتاه بها‬
‫بِ َس ِر ٍف‪ ،‬فبنى بها رسو ُل الله ﷺ هنالك‪ ،‬ثم انصر َف رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة في‬

‫ذي الحج ِة‪.‬‬

‫‪ِ -11‬ذكرُ غزوةِ مُؤتةَ في ُجمادى الأولى سنةَ ثمان‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ُعرو َة بن الزبي ِر قال‪ :‬بعث رسو ُل الله ﷺ بع َث ُه إلى‬
‫ُمؤت َة في جُمادى الأولى سنة ثمان‪ ،‬واستعمل عليهم زي َد بن حارث َة وقال‪ :‬إن أصي َب‬
‫زي ٌد فجعف ُر بن أبي طالب على النا ِس‪ ،‬فإن أصي َب جعف ٌر فعبد الله بن رواح َة على‬

‫الناس‪.‬‬

‫فتجه َز النا ُس ثم تهيئوا للخرو ِج‪ ،‬وهم ثلاث ُة آلاف‪ ،‬فلما حض خرو ُجهم‬
‫ودع النا ُس أمرا َء رسو ِل الله ﷺ وسلموا عليهم‪.‬‬

‫‪ | 214‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ثم مضوا حتى نزلوا معا َن من أر ِض الشأم‪ ،‬فبلغ النا َس أن ِهرق َل قد نزل‬
‫مآ َب من أرض ال َبلقاء‪ ،‬في مئ ِة أل ٍف من الروم‪ ،‬وانضم إليهم من لخْ ٍم و ُجذا َم‬
‫والقي ِن و َب ْهرا َء و َبِل ٍّي مئ ُة أل ٍف منهم عليهم رج ٌل من َبِل ٍّي ثم أح ُد إراش َة‪ُ ،‬يقال له‪:‬‬

‫مال ُك بن زافل َة‪.‬‬

‫فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على َمعان ليلتي ِن يفكرون في أم ِرهم وقالوا‪:‬‬
‫نكت ُب إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فنُخب ُره بعدد عد ِّونا‪ ،‬فإما أن َيم َّدنا بالرجال‪ ،‬وإما أن‬

‫يأ ُم َرنا بأمره؛ فنمضي له‪.‬‬

‫قال‪ :‬فش َّجع النا َس عب ُد الله بن رواح َة‪ ،‬وقال‪ :‬يا قو ِم‪ ،‬والله إن التي َتكرهون‬
‫للتي خرج ُتم َتطلبون‪ :‬الشهاد َة‪ ،‬وما ُنقاتل النا َس بعد ٍد ولا قو ٍة ولا كثر ٍة‪ ،‬ما‬
‫ُنقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أك َرمنا الل ُه به‪ ،‬فان َط ِلقوا فإنما هي إحدى ال ُحسنَيين‪ :‬إما‬

‫ظهو ٌر وإما شهاد ٌة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال النا ُس‪ :‬قد والله صد َق اب ُن رواح َة‪ .‬فمضى الناس‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فمضى النا ُس‪ ،‬حتى إذا كانوا ب ُتخو ِم ال َبلقاء لق َيتهم جمو ُع‬
‫هرق َل‪ ،‬من الرو ِم والعرب‪ ،‬بقري ٍة من قرى ال َبلقاء ُيقال َلا‪َ :‬مشار ُف‪ ،‬ثم دنا العد ُّو‪،‬‬
‫وانحا َز المسلمون إلى قري ٍة ُيقال َلا‪ُ :‬مؤت ُة‪ ،‬فالتقى النا ُس عندها‪ ،‬فتع َّبأ َلم‬
‫المسلمون‪ ،‬ف َجعلوا على َمي َمنتهم رج ًلا من بني ُعذر َة ُيقال له‪ُ :‬قطب ُة بن قتاد َة‪،‬‬

‫وعلى ميسرتهم رج ًلا من الأنصا ِر ُيقال له‪ُ :‬عباي ُة بن مالك‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم التقى النا ُس واقتتلوا‪ ،‬فقات َل زي ُد بن حارث َة براي ِة‬

‫رسو ِل الله ﷺ حتى شا َط في رما ِح القو ِم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪215‬‬

‫ثم أخذها جعف ٌر فقات َل بها‪ ،‬حتى إذا َأل ْحَ َم ُه القتا ُل(‪ )1‬اقتح َم عن فر ٍس له‬
‫شقرا َء ف َعقرها‪ ،‬ثم قات َل القو َم حتى ُقتل‪ ،‬فكان جعفر أ َّو َل رجل من المسلمين َعق َر‬

‫في الإسلام‪.‬‬

‫ثم أخذ الراي َة ثاب ُت بن أقر َم أخو بني العجلان‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر المسلمين‬
‫اصط ِلحوا على رج ٍل منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬أنت‪ ،‬قال‪ :‬ما أنا بفاع ٍل‪ ،‬فاصطلح النا ُس على‬
‫خال ِد بن الوليد‪ ،‬فلما أخذ الراي َة داف َع القو َم‪ ،‬وحاشى بهم‪ ،‬ثم انحا َز وان ِحيز عنه‪،‬‬

‫حتى انصر َف بالنا ِس‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما أصي َب القو ُم قال رسو ُل الله ﷺ ‪-‬فيما بلغني‪« :-‬أخذ‬
‫الراي َة زي ُد بن حارث َة فقاتل بها حتى ُقت َل شهيدا‪ ،‬ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى‬

‫ُقتل شهيدا»‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم صمت رسو ُل الله ﷺ حتى تغيرت وجوه الأنصا ِر‪ ،‬وظنوا أنه قد‬

‫كان في عب ِد الله بن رواح َة بعض ما َيكرهون‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬ثم أخذها عب ُد الله بن رواح َة فقاتل بها حتى ُقتل شهيدا»‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬لقد ُرفعوا إ َّل في الجن ِة ‪-‬فيما يرى النائم‪ -‬على ُس ٍر من ذه ٍب‪،‬‬
‫فرأيت في سي ِر عب ِد الله بن رواحة ازورارا عن سي َر ْي صاح َبيه‪ ،‬فقلت‪ :‬ع َّم هذا؟‬

‫ف ِقيل ل‪ :‬مض َيا وتردد عب ُد الله بع َض التد ِد‪ ،‬ثم مضى»‪.‬‬
‫فلما انصر َف خال ٌد بالناس أقبل بهم قاف ًلا‪.‬‬

‫(‪َ )1‬أل ْ َح َم ُه القتا ُل‪ :‬احتوشه وأرهقه‪.‬‬

‫‪ | 216‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ُعرو َة بن الزبير قال‪ :‬لما دنوا من حول المدين ِة تل َّقاهم‬
‫رسو ُل الله ﷺ والمسلمون‪.‬‬

‫قال‪ :‬ولقيهم الصبيا ُن َيشت ُّدون‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ ُمقب ٌل مع القو ِم على داب ٍة‬
‫فقال‪« :‬خذوا الصبيا َن فاحملوهم‪ ،‬وأعطوني اب َن جعف ٍر»‪.‬‬

‫ف ُأت َي بعبد الله فأخذه فحم َله بين يديه‪.‬‬

‫قال‪ :‬وجعل النا ُس َيحثون على الجيش الترا َب‪ ،‬ويقولون‪ :‬يا فرا َر‪ ،‬فررتم في‬
‫سبي ِل الله!‬

‫قال‪ :‬فيقول رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ليسوا بال ُف َّرار‪ ،‬ولكنهم ال ُك َّرا ُر إن شاء الل ُه‬
‫تعالى»‪.‬‬

‫‪ -12‬فتحُ مك َة في شهر رمضا َن سنة ثمان‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بعد بعثِه إلى مؤت َة جُمادى الآخرة‬

‫ورج ًبا‪.‬‬
‫ثم إن بني بك ِر بن عبد َمناة َع َدت على ُخزاع َة‪ ،‬وهم على ما ٍء َلم بأسف ِل مك َة‬
‫ُيقال له‪ :‬الوتير‪ ،‬وكان الذي ها َج ما بين بني بك ٍر و ُخزاع َة أن رج ًلا من بني‬
‫الحضم ِّي واسمه مالك بن ع َّباد ‪-‬و ِحل ُف الحضم ِّي يومئذ إلى الأسود بن َر ْزن‪-‬‬
‫خرج تاج ًرا‪ ،‬فلما توسط أر َض ُخزاع َة‪ ،‬عدوا عليه ف َقتلوه‪ ،‬وأخذوا ما َله‪ ،‬ف َعد ْت‬
‫بنو بكر على رج ٍل من خزاع َة ف َقتلوه‪ ،‬ف َعدت خزاع ُة قبيل الإسلام على َبني‬
‫الأسود بن رزن ال ِّديل ِّي‪ ،‬وهم َمنخ ُر بني كنان َة وأشرا ُفهم‪ :‬سلمى و ُكلثو ٌم وذؤي ٌب‬

‫فقتلوهم بعرف َة عند أنصا ِب الحر ِم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪217‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فبينا بنو بك ٍر وخزاع ُة على ذلك حجز بينهم الإسلا ُم‪،‬‬
‫وتشاغ َل النا ُس به‪ ،‬فلما كان صلح الحديبي ِة بين رسول الله ﷺ وبين قري ٍش‪ ،‬كان‬
‫فيما َشرطوا لرسو ِل الله ﷺ وشر َط َلم‪ :‬أنه من أح َّب أن يدخ َل في عق ِد رسو ِل الله‬
‫ﷺ وعه ِده فليد ُخ ْل فيه‪ ،‬ومن أح َّب أن يدخل في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم فليدخل‬
‫فيه؛ فدخلت بنو بك ٍر في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم‪ ،‬ودخلت خزاع ُة في عقد رسو ِل الله‬

‫ﷺ وعه ِده‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما كانت اَلدن ُة اغ َتنَمها بنو الدي ِل من بني بكر من‬
‫خزاع َة‪ ،‬وأرادوا أن ُيصيبوا منهم ثأ ًرا بأولئك النف ِر الذين أصابوا منهم ببني‬
‫الأسو ِد بن َر ْز ٍن‪ ،‬فخرج نوف ُل بن معاوية الديلي في بني الدي ِل‪ ،‬وهو يومئذ‬
‫قائ ُدهم‪ ،‬وليس ك ُّل بني بك ٍر تاب َعه حتى َب َّيت خزاع َة وهم على الوتير ‪-‬ما ٍء َلم‪-‬‬
‫فأصابوا منهم رج ًلا‪ ،‬و َتحاوزوا واقتتلوا‪ ،‬و َرفدت بني بك ٍر قري ٌش بالسلا ِح‪ ،‬وقاتل‬

‫معهم من قري ٍش من قاتل بالليل ُمستخف ًيا‪ ،‬حتى حازوا خزاع َة إلى الحر ِم‪.‬‬

‫فلما انتهوا إليه‪ ،‬قالت بنو بك ٍر‪ :‬يا نوف ُل‪ ،‬إنا قد دخلنا الحر َم‪ ،‬إَلَك إَلَك‪،‬‬
‫فقال كلم ًة عظيم ًة‪ :‬لا إله له اليو َم‪ ،‬يا بني بك ٍر أصيبوا ثأ َركم‪ ،‬ف َلعمري إنكم‬
‫ل َتسرقون في الحر ِم‪ ،‬أفلا ُتصيبون ثأ َركم فيه‪ ،‬وقد أصابوا منهم ليل َة َب َّيتوهم بالوتير‬

‫رج ًلا ُيقال له‪ُ :‬من ِّبه‬

‫فلما دخلت خزاع ُة مك َة‪ ،‬لجئوا إلى دار ُبدي ِل بن ورقا َء‪ ،‬ودار مو ًلى َلم ُيقال‬
‫له‪ :‬راف ٌع‪.‬‬

‫‪ | 218‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما تظاهرت بنو بك ٍر وقري ٌش على خزاع َة‪ ،‬وأصابوا منهم‬
‫ما أصابوا‪ ،‬و َنقضوا ما كان بينهم وبين رسو ِل الله ﷺ من العه ِد والميثا ِق بما‬
‫استحلوا من ُخزاع َة‪ ،‬وكان في عق ِده وعه ِده‪ ،‬خرج عم ُرو بن سالم الخزاع ُّي‪ ،‬ثم‬
‫أ َح ُد بني كع ٍب‪ ،‬حتى ق ِدم على رسو ِل الله ﷺ المدين َة‪ ،‬وكان ذلك مما هاج فت َح‬

‫م َّك َة‪ ،‬فوقف عليه وهو جال ٌس في المسج ِد بين ظهراني النا ِس‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫يـــــا ر ِّب إني ناشـــــ ٌد محمـــــ ًدا‬
‫ِحلـــ َف أبينـــا وأبيـــه الأتلـــدا‬

‫قـــد كنـــتم ولـــ ًدا وكنـــا والـــ ًدا‬
‫ُث َّمــ َت أســلمنا فلــم ننــ ِزع يــدا‬
‫فانصـــر هــداك الل ُه نصـــ ًرا أعتــدا‬
‫واد ُع عبــــا َد الله يــــأتوا مــــددا‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪ُ « :‬نِص َت يا عم َرو ب َن سالمٍ»‪.‬‬
‫ثم خرج ُبديل بن ورقا َء في نف ٍر من خزاع َة حتى قدموا على رسو ِل الله ﷺ‬
‫المدين َة‪ ،‬فأخبروه بما أصي َب منهم‪ ،‬وب ُمظاهر ِة قري ٍش بني بك ٍر عليهم‪ ،‬ثم انصرفوا‬
‫راجعين إلى مك َة‪ ،‬وقد قال رسو ُل الله ﷺ للنا ِس‪« :‬كأنكم بأبي سفيا َن قد جا َءكم‬

‫ليش َّد العق َد‪ ،‬و َيزي َد في المد ِة»‪.‬‬
‫ثم َخر َج أبو سفيان حتى قد َم على رسو ِل الله ﷺ المدين َة‪ ،‬فكلمه‪ ،‬فلم ي ُر َّد‬

‫عليه شي ًئا‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪219‬‬

‫ثم ذهب إلى أبي بك ٍر‪ ،‬فك َّلمه أن يكلم له رسو َل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بفاع ٍل‪.‬‬
‫ثم أتى عم َر بن الخطاب فك َّلمه‪ ،‬فقال‪ :‬أأنا أشف ُع لكم إلى رسو ِل الله ﷺ؟!‬

‫فوالله لو لم أجد إلا ال َّذ َّر لجاهد ُتكم به‪.‬‬

‫ثم خرج فدخل على عل ِّي بن أبي طالب رضوا ُن الله عليه‪ ،‬وعنده فاطم ُة بن ُت‬
‫رسو ِل الله ﷺ ورضي عنها‪ ،‬وعندها حس ُن بن عل ٍّي ‪-‬غلا ٌم يد ُب بين يدُا‪ -‬فقال‪:‬‬
‫يا عل ُّي‪ ،‬إنك أم ُّس القو ِم بي رح ًما‪ ،‬وإني قد جئت في حاج ٍة‪ ،‬فلا أرجعن كما جئ ُت‬
‫خائ ًبا‪ ،‬فاشفع لي إلى رسو ِل الله‪ ،‬فقال‪ :‬وي َحك يا أبا سفيا َن! والله لقد عز َم رسو ُل‬

‫الله ﷺ على أم ٍر ما َنستطيع أن نك ِّل َمه فيه‪.‬‬
‫فالتفت إلى فاطم َة فقال‪ :‬يا ابن َة محم ٍد‪ ،‬هل لك أن تأ ُمري ُبن َّيك هذا ف ُيجي َر‬

‫بين الناس‪ ،‬فيكون س ِّي َد العر ِب إلى آخر الده ِر؟‬
‫قالت‪ :‬والله ما بلغ ُبن َّي ذاك أن يجي َر بين النا ِس‪ ،‬وما يجير أح ٌد على رسو ِل الله‬

‫ﷺ‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا أبا الحس ِن‪ ،‬إني أرى الأمو َر قد اشتدت عل َّي؛ فانصحني‪.‬‬
‫قال‪ :‬والله ما أعل ُم لك شي ًئا ُيغني عنك شي ًئا‪ ،‬ولكنك س ِّي ُد بني كنان َة‪ ،‬فقم‬

‫فأجر بين الناس‪ ،‬ثم الحق بأر ِضك‪.‬‬

‫قال‪ :‬أو ترى ذلك ُمغن ًيا عني شي ًئا؟‬

‫قال‪ :‬لا والله‪ ،‬ما أظنه‪ ،‬ولكني لا أج ُد لك غي َر ذلك‪.‬‬
‫فقام أبو سفيا َن في المسجد‪ ،‬فقال‪ :‬أُا النا ُس‪ ،‬إني قد أ َجر ُت بين النا ِس‪ ،‬ثم‬

‫‪ | 201‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ركب بعي َره فانطلق‪.‬‬
‫وأمر رسو ُل الله ﷺ بال ِجها ِز‪ ،‬وأمر أه َله أن يُج ِّهزوه‪ ،‬ثم إن رسو َل الله ﷺ‬
‫أعلم النا َس أنه سائ ٌر إلى مك َة‪ ،‬وأمرهم بالج ِّد والته ُّيؤ‪ ،‬وقال‪« :‬الله َّم خذ العيو َن‬

‫والأخبا َر عن قريش حتى نبغ َتها في بلادها»‪ ،‬فتج َّهز النا ُس‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عبد الله بن عبا ٍس قال‪ :‬ثم مضى رسو ُل الله ﷺ‬
‫لس َفره‪ ،‬واستخل َف على المدين ِة أبا ُره ٍم ُكلثو َم بن ُحصي ٍن ال ِغفار َّي‪ ،‬وخرج لعش ٍر‬

‫مضين من رمضا َن‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم مضى حتى نزل َم َّر الظهرا ِن في عشرة آلا ٍف من‬
‫المسلمين‪ ،‬فلما نز َل رسو ُل الله ﷺ َم َّر الظهران‪ ،‬وقد ُع ِّميت الأخبا ُر عن قري ٍش‪،‬‬
‫فلم يأتهم خب ٌر عن رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ولا يدرون ما هو فاع ٌل‪ ،‬وخر َج في تلك الليالي‬
‫أبو سفيا َن بن حرب وحكي ُم بن ِحزام و ُبديل بن ورقا َء يتحسسون الأخبا َر‪،‬‬
‫وينظرون هل َيجدون خب ًرا أو َيسمعون به‪ ،‬وقد كان العبا ُس بن عبد المطل ِب لقي‬

‫رسو َل الله ﷺ ببع ِض الطري ِق‪.‬‬

‫فلما نزل رسو ُل الله ﷺ َم َّر الظهرا ِن‪ ،‬قال العبا ُس بن عبد المطل ِب‪ :‬فقلت‪:‬‬
‫واصبا َح قري ٍش‪ ،‬والله لئن دخل رسو ُل الله ﷺ م َّك َة ُعنو ًة قبل أن يأتوه ف َيستأمنوه‪،‬‬

‫إنه َللا ُك قري ٍش إلى آخ ِر الده ِر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجلس ُت على بغل ِة رسو ِل الله ﷺ البيضا ِء‪ ،‬فخرجت عليها‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪200‬‬

‫قال‪ :‬حتى جئ ُت الأرا َك‪ ،‬فقلت‪َ :‬ل َع ِّلي أجد بع َض الح َّطاب ِة أو صاح َب لبن أو‬
‫ذا حاج ٍة يأتي م َّك َة‪ ،‬فيخب َرهم بمكان رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ليخرجوا إليه فيستأمنوه قب َل‬

‫أن َيدخلها عليهم ُعنو ًة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فوالله إني لأسير عليها‪ ،‬وألتم ُس ما خرج ُت له‪ ،‬إذ سمعت كلا َم أبي‬
‫سفيان و ُبديل بن ورقا َء‪ ،‬وهما يتراجعان‪ ،‬وأبو سفيا َن يقول‪ :‬ما رأيت كالليل ِة‬

‫نيرا ًنا قط ولا عسك ًرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬يقول ُبدي ٌل‪ :‬هذه والله ُخزاع ُة ح َمشتها الحر ُب‪.‬‬

‫قال‪ :‬يقول أبو سفيا َن‪ُ :‬خزاع ُة أذ ُّل وأق ُّل من أن تكون هذه نيرانُها‬
‫وعسك ُرها‪.‬‬

‫قال‪ :‬فعرفت صو َته‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبا حنظل َة‪ ،‬فعرف صوتي‪ ،‬فقال‪ :‬أبو الفضل!‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ما لك؟ فداك أبي وأمي‪.‬‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬وي َحك يا أبا ُسفيا َن‪ ،‬هذا رسو ُل الله ﷺ في النا ِس‪ ،‬واصبا َح‬
‫ُقري ٍش والله‪.‬‬

‫قال‪ :‬فما الحيل ُة؟ فداك أبي وأمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬والله لئن ظ ِفر بك ل َيضبن ُعن َقك‪ ،‬فاركب في َع ُجز هذه البغل ِة‬

‫حتى آت َي بك رسو َل الله ﷺ فأستأ ِمنُه لك‪.‬‬

‫قال‪ :‬فركب خلفي ورجع صاحباه‪.‬‬

‫‪ | 202‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فجئ ُت به‪ ،‬كلما مرر ُت بنا ٍر من نيران المسلمين قالوا‪ :‬من هذا؟ فإذا‬
‫رأوا بغل َة رسو ِل الله ﷺ وأنا عليها‪ ،‬قالوا‪َ :‬ع ُّم رسو ِل الله ﷺ على بغلته‪.‬‬
‫حتى مررت بنا ِر عم َر بن الخطاب ‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا؟‬

‫وقام إل َّي‪ ،‬فلما رأى أبا سفيان على َع ُجز الداب ِة‪ ،‬قال‪ :‬أبو سفيان عد ُّو الله!‬
‫الحمد لله الذي أمكن منك بغي ِر عق ٍد ولا عه ٍد‪ ،‬ثم خر َج يشت ُّد نحو رسو ِل الله‬

‫ﷺ‪ ،‬وركضت البغل ُة‪ ،‬فسبقته بما تسبق الداب ُة البطيئة الرج َل البطيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاقتحم ُت عن البغل ِة‪ ،‬فدخلت على رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ودخل عليه عم ُر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬هذا أبو سفيان قد أمكن الل ُه منه بغير عق ٍد ولا عه ٍد‪ ،‬فدعني‬

‫فلأضب عن َقه‪.‬‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إني قد أجر ُته‪ ،‬ثم جلس ُت إلى رسو ِل الله ﷺ‪،‬‬
‫فأخذ ُت برأ ِسه‪ ،‬فقلت‪ :‬والله لا يناجيه الليل َة دوني رج ٌل‪ ،‬فلما أكث َر عم ُر في شأنِه‪،‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬مه ًلا يا عم ُر‪ ،‬فوالله أن لو كان من بني عد ِّي بن كع ٍب ما قل َت هذا‪،‬‬

‫ولكنك قد عرف َت أنه من رجا ِل بني عبد َمنا ٍف‪.‬‬

‫فقال‪ :‬مهلا يا عبا ُس‪ ،‬فوالله لإسلا ُمك يو َم أسلم َت كان أح َّب إل َّي من‬
‫إسلا ِم الخطاب لو أسل َم‪ ،‬وما بي إلا أني قد عرف ُت أن إسلا َمك كان أح َّب إلى‬

‫رسو ِل الله ﷺ من إسلا ِم الخطا ِب لو أسلم‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬اذه ْب به يا عبا ُس إلى رحلِك‪ ،‬فإذا أصبحت فأتني‬

‫به»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪203‬‬

‫قال‪ :‬فذهب ُت به إلى رحلي‪ ،‬فبات عندي‪ ،‬فلما أصب َح غدو ُت به إلى رسو ِل الله‬
‫ﷺ‪ ،‬فلما رآه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬وي َحك يا أبا سفيا َن‪ ،‬ألم يأ ِن لك أن تعل َم أنه لا‬

‫إله إلا اللهُ؟»‬

‫قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحل َمك وأكر َمك وأو َصلك‪ ،‬والله لقد ظننت أن‬
‫لو كان مع الله إل ٌه غي ُره لقد أغنى عني شي ًئا بعد‪.‬‬

‫قال‪« :‬ويحك يا أبا ُسفيا َن! ألم يأن لك أن تعل َم أني رسو ُل الله؟»‬
‫قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحل َمك وأكر َمك وأوص َلك! أما هذه والله فإن في‬

‫النفس منها حتى الآن شي ًئا‪.‬‬
‫فقال له العبا ُس‪ :‬ويحك! أسلِم واشهد أن لا إل َه إلا الله‪ ،‬وأن محم ًدا رسو ُل‬

‫الله قبل أن ُتض َب عن ُقك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فشهد شهاد َة الح ِّق‪ ،‬فأسلم‪.‬‬

‫قال العبا ُس‪ :‬قلت‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إن أبا ُسفيان رج ٌل يحب هذا الفخ َر‪،‬‬
‫فاجعل له شي ًئا‪.‬‬

‫قال‪« :‬نعم‪ ،‬من دخل دا َر أبي ُسفيا َن فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق بابه فهو آمن‪ ،‬ومن‬
‫دخل المسج َد فهو آمن»‪.‬‬

‫فلما ذهب لينصرف قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا عبا ُس‪ ،‬احبِسه ب َمضي ِق الوادي‬
‫عند َخ ْط ِم الجب ِل(‪ ،)1‬حتى ت َّر به جنو ُد الله فيراها»‪.‬‬

‫(‪َ )1‬خ ْطم الجبل‪ :‬ما خرج منه‏ونتأ من بعض حجارته‪.‬‬

‫‪ | 204‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فخرجت حتى حبس ُته ب َمضي ِق الوادي‪ ،‬حيث أمرني رسو ُل الله ﷺ أن‬
‫أحب َسه‪.‬‬

‫قال‪ :‬وم َّرت القبائ ُل على راياتها‪ ،‬كلما مرت قبيل ٌة قال‪ :‬يا عبا ُس‪ ،‬من هذه؟‬
‫فأقول‪ُ :‬سلي ٌم‪ ،‬فيقول‪ :‬ما لي ولسليم؟! ثم تم ُّر القبيل ُة فيقول‪ :‬يا عبا ُس‪ ،‬من‬
‫هؤلاء؟ فأقول‪ُ :‬مزين ُة‪ ،‬فيقول‪ :‬ما لي ولمزين َة؟! حتى نفدت القبائ ُل‪ ،‬ما تمر به قبيل ٌة‬
‫إلا يسألني عنها‪ ،‬فإذا أخبر ُته بهم‪ ،‬قال‪ :‬ما لي ولبني فلان؟! حتى م َّر رسو ُل الله‬
‫ﷺ في كتيبته الخضاء فيها المهاجرون والأنصار ‪ ،‬لا ُيرى منهم إلا الحَد ُق‬

‫من الحدي ِد‪ ،‬فقال‪ :‬سبحا َن الله! يا عبا ُس‪ ،‬من هؤلاء؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬هذا رسو ُل الله ﷺ في ال ُمهاجرين والأنصار‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما لأح ٍد بهؤلاء ِقب ٌل ولا طاق ٌة‪ ،‬والله يا أبا الفض ِل‪ ،‬لقد أصب َح ملك ابن‬

‫أخيك الغدا َة عظي ًما‪.‬‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا أبا سفيان‪ ،‬إنها النبو ُة‪ .‬قال‪ :‬فنعم إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬النَّجا َء إلى قو ِمك‪ ،‬حتى إذا جاءهم صر َخ بأعلى صوته‪ :‬يا معش َر‬
‫قري ٍش‪ ،‬هذا محم ٌد قد جا َءكم فيما لا ِق َب َل لكم به‪ ،‬فمن دخل دا َر أبي سفيا َن فهو‬

‫آم ٌن‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬قاتلك الله! وما ُتغني عنا دا ُرك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن أغل َق عليه با َبه فهو آم ٌن‪ ،‬ومن دخ َل المسجد فهو آمن‪ ،‬فتف َّرق‬

‫النا ُس إلى دو ِرهم وإلى المسج ِد‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪205‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر أن رسو َل الله ﷺ لما انتهى إلى‬
‫ذي ُط َوى وقف على راحلته معت ِج ًرا(‪ )1‬ب ُش َّق ِة ُبر ِد ِح َبر ٍة حمراء‪ ،‬وإن رسو َل الله ﷺ‬
‫ل َيض ُع رأ َسه تواض ًعا لله حين رأى ما أك َرمه الل ُه به من الفت ِح‪ ،‬حتى إن ُعثنو َنه ليكاد‬

‫َيم ُّس واسط َة الرح ِل‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح أن رسول الله ﷺ حين‬
‫ف َّرق جي َشه من ذي ُطوى أمر الزبي َر بن العوا ِم أن يدخل في بع ِض الناس من‬
‫ُك ًدى‪ ،‬وكان الزبي ُر على ال ُمجنِّب ِة ال ُيسرى‪ ،‬وأم َر سع َد بن ُعباد َة أن يدخل في بعض‬

‫النا ِس من َكداء‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فزعم بع ُض أهل العلم أن سع ًدا حين ُو ِّجه داخ ًلا قال‪:‬‬
‫اليو ُم يو ُم المَلحمة‪ ،‬اليو ُم ُتستحل الحُرمة‪.‬‬

‫فسمعها رجل من المهاجرين فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬اسمع ما قال سع ُد بن‬
‫عباد َة‪ ،‬ما نأمن أن يكون له في قري ٍش صول ٌة‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ لعل ِّي بن أبي طال ٍب‪« :‬أد ِر ْكه‪ ،‬فخذ الراي َة منه فكن أنت‬
‫الذي تدخ ُل بها»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقد حدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح في حديثه أن رسو َل الله‬
‫ﷺ أمر خال َد بن الولي ِد‪ ،‬فدخ َل من ال ِّلي ِط أسف َل م َّك َة‪ ،‬في بعض الناس‪ ،‬وكان‬
‫خال ٌد على المُج ِّنب ِة ال ُيمنى‪ ،‬وفيها أسل ُم وسليم و ِغفار و ُمزينة و ُجهين ُة وقبائ ُل من‬

‫قبائل العرب‪.‬‬

‫(‪ )1‬الا ْعتِ َجار‪ :‬لف العمامة على الرأس‪.‬‬

‫‪ | 206‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وأقبل أبو عبيد َة ب ُن الج َّراح بالصف من المسلمين ينصب لم َّك َة بين يدي‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ودخل رسو ُل الله ﷺ من أذاخ َر‪ ،‬حتى نزل بأعلى م َّك َة‪ ،‬و ُضبت‬

‫له هنالك ُق َّبته‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح وعب ُد الله بن أبي بكر أن‬
‫صفوا َن بن أم َّية وعكرم َة بن أبي جه ٍل و ُسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا نا ًسا‬
‫بالخَند َم ِة ل ُيقاتلوا‪ ،‬وقد كان حِما ُس بن قي ٍس ُيعد سلا ًحا قبل دخول رسو ِل الله ﷺ‪،‬‬
‫و ُيصلح منه‪ ،‬ثم شهد الخَندم َة مع صفوا َن و ُسهي ٍل وعكرم َة‪ ،‬فلما لق َيهم المسلمون‬

‫من أصحا ِب خال ِد بن الولي ِد‪ ،‬ناوشوهم شي ًئا من قتا ٍل‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان رسو ُل الله ﷺ قد ع ِه َد إلى أمرائه من المسلمين ‪-‬‬
‫حين أمرهم أن يدخلوا م َّك َة‪ -‬أن لا ُيقاتلوا إلا من قا َتلهم‪ ،‬إلا أنه قد ع ِه َد في نف ٍر‬

‫س َّماهم أمر بقتلهم‪ ،‬وإن ُوجدوا تحت أستا ِر الكعبة‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن صفية بنت َشيب َة أن رسو َل الله ﷺ لما نزل م َّك َة‬
‫واطمأن النا ُس‪ ،‬خر َج حتى جاء البي َت‪ ،‬فطا َف به سب ًعا على را ِحلتِه‪ ،‬يستل ُم الرك َن‬
‫ب ِم ْح َج ٍن(‪ )1‬في يده‪ ،‬فلما قضى طوا َفه‪ ،‬دعا عثما َن بن طلح َة فأخذ منه مفتا َح الكعب ِة‪،‬‬
‫ف ُفتحت له‪ ،‬ف َد َخلها‪ ،‬فوجد فيها حَمام ًة من ِعيدا ٍن ف َك َس َرها بيده ثم ط َر َحها‪ ،‬ثم‬

‫وقف على با ِب الكعب ِة وقد اس ُتكِ َّف له النا ُس(‪ )2‬في المسج ِد‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني بع ُض أهل العلم أن رسو َل الله ﷺ قام على باب‬
‫الكعب ِة فقال‪« :‬لا إله إلا اللهُ وح َده لا شري َك له‪َ ،‬صدق وع َده‪ ،‬ونِ َص عب َده‪ ،‬وهز َم‬

‫(‪ )1‬المِ ْح َجن‪ :‬العصا المعو َّجة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ا ْس َت َك َّف القو ُم حول الشيء‪ :‬أي أحاطوا به ينظرون إليه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪207‬‬

‫الأحزا َب وح َده‪ ،‬ألا كل مأ ُثر ٍة أو د ٍم أو مال ُي َّدعى فهو تحت َق َد َم َّي هاتين إلا‬
‫سدان َة البيت و ِسقاي َة الحاج‪.‬‬

‫ألا وقتي ُل الخطأ ِشب ِه العمد بالسو ِط والعصا‪ ،‬ففيه الدي ُة ُمغ َّلظة‪ ،‬مئة من‬
‫الإبل‪ ،‬أربعون منها في بطونها أولادها‪.‬‬

‫يا مع َش قري ٍش‪ ،‬إن الل َه قد أذهب عنكم نخو َة الجاهلي ِة‪ ،‬وتعظ َمها بالآباء‪،‬‬
‫النا ُس من آد َم‪ ،‬وآد ُم من ترا ٍب»‪ ،‬ثم تلا هذه الآية‪(« :‬ﭵﭶﭷﭸﭹﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [ال ُح ُجرات‪»]13:‬‬

‫الآية كلها‪.‬‬

‫ثم قال‪« :‬يا مع َش قري ٍش‪ ،‬ما ترون أني فاعل فيكم؟»‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬خي ًرا‪ ،‬أ ٌخ كريم‪ ،‬واب ُن أخ كري ٍم‪.‬‬

‫قال‪« :‬اذهبوا فأنتم الطلقا ُء»‪.‬‬
‫ثم جلس رسو ُل الله ﷺ في المسج ِد‪ ،‬فقام إليه عل ُّي بن أبي طال ٍب و ِمفتا ُح‬
‫الكعبة في يده‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬اجمع لنا ال ِحجاب َة مع السقاي ِة صلى الله عليك‪،‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أين عثما ُن بن طلح َة؟»‪ ،‬ف ُدعي له‪ ،‬فقال‪« :‬هاك مفتا َحك يا‬

‫عثما ُن‪ ،‬اليو َم يو ُم بر ووفا ٍء»‪.‬‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وبلغني عن يح َيى بن سعي ٍد أن النب َّي ﷺ حين افتتح م َّك َة‬
‫ودخلها‪ ،‬قام على الصفا يدعو اللهَ‪ ،‬وقد أحدقت به الأنصا ُر‪ ،‬فقالوا فيما بينهم‪:‬‬

‫أترون رسو َل الله ﷺ‪ ،‬إذ فتح الل ُه عليه أر َضه وبلده يقيم بها؟‬

‫‪ | 208‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فلما فرغ من دعائه قال‪« :‬ماذا قل ُتم؟»‪ ،‬قالوا‪ :‬لا شي َء يا رسو َل الله‪ ،‬فلم يزل‬
‫بهم حتى أخبروه‪ ،‬فقال النب ُّي ﷺ‪َ « :‬معا َذ الله! المحيا محيا ُكم‪ ،‬والمما ُت مما ُتكم»‪.‬‬

‫قال ابن هشا ٍم‪ :‬عن ابن عبا ِس قال‪ :‬دخل رسو ُل الله ﷺ م َّك َة يوم الفتح على‬
‫راحلته‪ ،‬فطاف عليها وحول البيت أصنا ٌم مشدود ٌة بالرصاص‪ ،‬فجعل النب ُّي ﷺ‬
‫يشي ُر بقضي ٍب في يده إلى الأصنا ِم ويقول‪« :‬جاء الحق و َزه َق الباط ُل إن الباط َل كان‬
‫زهوقا»‪ ،‬فما أشار إلى صن ٍم منها في وجهه إلا وق َع لقفا ُه‪ ،‬ولا أشار إلى َقفا ُه إلا وقع‬

‫لوج ِهه‪ ،‬حتى ما بق َي منها صن ٌم إلا وق َع‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان جمي ُع من شهد فت َح م َّك َة من المسلمين عشر ُة آلاف‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان فت ُح مك َة لعش ِر ليا ٍل بقين من شه ِر رمضا َن سنة‬

‫ثمان‪.‬‬

‫‪ -13‬غزوةُ حُنينٍ في سنة ثمان بعد الفتحِ‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما س ِم َعت هواز ُن برسو ِل الله ﷺ وما فت َح الله عليه من‬
‫م َّك َة‪ ،‬جمعها مال ُك بن عو ٍف النصر ُّي‪ ،‬فاجتم َع إليه مع هواز َن ثقي ٌف ك ُّلها‪،‬‬
‫واجتمعت نصر و ُجشم كلها‪ ،‬وسع ُد بن بكر‪ ،‬ونا ٌس من بني هلا ٍل ‪-‬وهم قلي ٌل‪-‬‬

‫ولم َيشهدها من قي ِس عيلا َن إلا هؤلاء‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما سمع بهم نب ُّي الله ﷺ بع َث إليهم عب َد الله بن أبي‬
‫َح ْدر َد الأسلم َّي‪ ،‬وأمره أن يدخ َل في النا ِس‪ ،‬فيقي َم فيهم حتى يعل َم عل َمهم‪ ،‬ثم‬

‫يأتيه بخبرهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪209‬‬

‫فانطلق اب ُن أبي حدر َد‪ ،‬فدخ َل فيهم‪ ،‬فأقام فيهم‪ ،‬حتى سم َع وع ِلم ما قد‬
‫أجمعوا له من حر ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وسم َع من مال ٍك وأمر هواز َن ما هم عليه‪ ،‬ثم‬

‫أقبل حتى أتى رسو َل الله ﷺ‪ ،‬فأخبره الخب َر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم خرج رسو ُل الله ﷺ معه ألفا ِن من أهل م َّك َة مع ع ْشر ِة آلا ٍف من‬
‫أصحابه الذين خرجوا معه ففت َح الل ُه بهم م َّك َة‪ ،‬فكانوا اثني ع َشر أل ًفا‪ ،‬واستعم َل‬
‫رسو ُل الله ﷺ ع َّتا َب بن أسي ٍد على م َّك َة أمي ًرا على من تخلف عنه من الناس‪ ،‬ثم‬

‫مضى رسو ُل الله ﷺ على وجهه ُيريد لقا َء هواز َن‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أبي واق ٍد الليث ِّي‪ ،‬أن الحار َث ب َن مالك قال‪ :‬خرجنا مع‬
‫رسو ِل الله ﷺ إلى ُحني ٍن ونحن حديثو عه ٍد بالجاهلية‪ ،‬قال‪ :‬ف ِسرنا معه إلى ُحنين‪،‬‬
‫قال‪ :‬وكانت لكفا ِر قري ٍش ومن سواهم من العر ِب شجر ٌة عظيمة خضا ُء‪ُ ،‬يقال‬
‫َلا‪ :‬ذا ُت أنوا ٍط‪ ،‬يأتونها كل سن ٍة‪ ،‬ف ُيعلقون أسلح َتهم عليها‪ ،‬ويذبحو َن عندها‪،‬‬

‫ويع ُكفون عليها يو ًما‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرأينا ونحن نسي ُر مع رسو ِل الله ﷺ ِسدر ًة َخضا َء عظيم ًة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ف َتنادينا من جنبا ِت الطريق‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬اجع ْل لنا ذا َت أنوا ٍط كما َلم ذا ُت‬

‫أنواط‪.‬‬

‫قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الل ُه أكب ُر‪ ،‬قلتم والذي نف ُس محمد بيده كما قال قو ُم‬
‫موسى لموسى‪( :‬ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ) [الأعراف‪،]532:‬‬

‫إنها ال َّسن ُن‪ ،‬لت ُكب َّن َسن َن من كان قب َلكم»‪.‬‬

‫‪ | 221‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن جاب ِر بن عب ِد الله قال‪ :‬لما استقبلنا وادي ُحنين انح َدرنا‬
‫في وا ٍد من أودية تِهام َة‪ ،‬وفي َعماية الصب ِح‪ ،‬وكان القو ُم قد سبقونا إلى الوادي‪،‬‬
‫فك َّمنوا لنا في ِشعابه وأحنائه و َمضا ِيقه‪ ،‬وقد أجمعوا وته َّيئوا وأعدوا‪ ،‬فوالله ما‬
‫راعنا ونحن ُمنح ُّطون إلا الكتائ ُب قد شدوا علينا شد َة رج ٍل واحد‪ ،‬وان َش َم َر‬

‫النا ُس(‪ )1‬راجعين‪ ،‬لا يلوي أح ٌد على أح ٍد‪.‬‬

‫وانحاز رسو ُل الله ﷺ ذا َت اليمين‪ ،‬ثم قال‪« :‬أين أيها النا ُس؟ َهلموا إ َّل‪ ،‬أنا‬
‫رسو ُل الله‪ ،‬أنا محم ُد بن عبد الله»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلا شي َء‪ ،‬حملت الإب ُل بع ُضها على بع ٍض‪ ،‬فانطلق النا ُس‪ ،‬إلا أنه قد‬
‫بقي مع رسو ِل الله ﷺ نف ٌر من المهاجرين والأنصا ِر وأه ِل بيته‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما انهز َم النا ُس‪ ،‬ورأى من كان مع رسو ِل الله ﷺ من‬
‫ُجفا ِة أهل م َّك َة اَلزيم َة‪ ،‬تكلم رجا ٌل منهم بما في أنف ِسهم من ال ِّض ْغ ِن‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقال شيب ُة بن عثمان بن أبي طلح َة أخو بني عبد الدا ِر‪:‬‬
‫قلت‪ :‬اليو َم ُأدر ُك ثأري من محم ٍد‪ ،‬وكان أبوه ُقت َل يوم أ ُح ٍد‪ ،‬اليو َم أقتل محم ًدا‪.‬‬

‫قال‪ :‬ف َأدر ُت برسول الله لأقت َله‪ ،‬فأقبل شيء حتى تغ َّشى فؤادي‪ ،‬فلم أ ِط ْق‬
‫ذاك‪ ،‬وعلمت أنه ممنو ٌع مني‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني بع ُض أهل م َّك َة‪ ،‬أن رسو َل الله ﷺ قال حين‬
‫فص َل من م َّك َة إلى ُحني ٍن‪ ،‬ورأى كثر ًة من معه من جنو ِد الله‪« :‬لن ُنغل َب اليو َم من‬

‫ِقلة»‪ ،‬قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وزعم بع ُض الناس أن رج ًلا من بني بك ٍر قاَلا‪.‬‬

‫(‪ )1‬ان َش َم َر النا ُس‪ :‬أسرعوا‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪220‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن العبا ِس ب ِن عبد المطلب قال‪ :‬إني لمع رسو ِل الله ﷺ‬
‫آخ ٌذ ب َح َكم ِة بغلتِه البيضاء قد شجر ُتها بها(‪ ،)1‬قال‪ :‬وكنت امرأ َجسي ًما شدي َد‬

‫الصو ِت‪.‬‬

‫قال‪ :‬ورسو ُل الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس‪« :‬أين أيها‬
‫النا ُس؟»‪.‬‬

‫فلم أر النا َس يلوون على شيء‪.‬‬

‫فقال‪« :‬يا عبا ُس‪ ،‬اصرخ‪ ،‬يا مع َش الأنصار‪ :‬يا مع َش أصحاب السمرة»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأجابوا‪ :‬لبي َك‪ ،‬لبي َك!‬

‫قال‪ :‬فيذهب الرج ُل ل ُيثني بعي َره‪ ،‬فلا يقد ُر على ذلك‪ ،‬فيأخ ُذ در َعه‪ ،‬فيقذفها‬
‫في عن ِقه‪ ،‬ويأخ ُذ سي َفه و ُترسه‪ ،‬ويقتح ُم عن بعيره‪ ،‬ويخلي سبي َله‪ ،‬فيؤ َّم الصو َت‪،‬‬
‫حتى ينتهي إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬حتى إذا اجتم َع إليه منهم مئ ٌة‪ ،‬استقبلوا النا َس‪،‬‬
‫فاقتتلوا‪ ،‬وكانت الدعوى أ َّو َل ما كانت‪ :‬يا للأنصار‪ ،‬ثم خلصت أخي ًرا‪ :‬يا‬
‫للخزرج‪ ،‬وكانوا ُص ُب ًرا عند الحرب‪ ،‬فأشر َف رسو ُل الله ﷺ في ركا ِئبه فنظر إلى‬

‫جُلتلد القو ِم وهم يجتلدون‪ ،‬فقال‪« :‬الآن حمِ َي الوطي ُس»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن جبي ِر بن ُمطعم قال‪ :‬لقد رأيت قبل هزيم ِة القوم‬
‫والنا ُس يقتتلون مثل البِجا ِد(‪ )2‬الأسود‪ ،‬أقبل من السما ِء حتى سقط بيننا وبين‬
‫القو ِم‪ ،‬فنظرت‪ ،‬فإذا نم ٌل أسود مبثو ٌث قد ملأ الوادي‪ ،‬لم أش َّك أنها الملائك ُة‪ ،‬ثم لم‬

‫يكن إلا هزيم ُة القو ِم‪.‬‬

‫(‪ )1‬آخ ٌذ ب َح َكم ِة بغلتِه البيضاء قد شجر ُتها بها‪ :‬أي َض ْب ُتها بلجامها َأ ُك ُّفها حتى فتح ْت فاها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البِ َجاد‪ :‬كساء مخطط من أكسية الأعراب‪.‬‬

‫‪ | 222‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما انهز َم المشركون‪ ،‬أتوا الطائ َف ومعهم مال ُك بن عو ٍف‪،‬‬
‫وعسك َر بع ُضهم بأوطا ٍس‪ ،‬وتوجه بع ُضهم نحو نخل َة‪ ،‬ولم يكن فيمن توجه نحو‬
‫نخل َة إلا بنو ِغير َة من ثقي ٍف‪ ،‬وتبع ْت خي ُل رسو ِل الله ﷺ من سلك في نخل َة من‬

‫النا ِس‪ ،‬ولم تتبع من سلك الثنايا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وبعث رسو ُل الله ﷺ في آثا ِر من تو َّجه ِق َبل أوطا ٍس أبا‬
‫عامر الأشعر َّي‪ ،‬فأدرك من النا ِس بع َض من انهز َم‪ ،‬فناوشوه القتا َل‪ ،‬ف ُرمي أبو‬
‫عامر بسه ٍم ف ُقتل‪ ،‬فأخذ الراي َة أبو موسى الأشعر ُّي‪ ،‬وهو ابن ع ِّمه‪ ،‬فقاتلهم‪،‬‬

‫ففتح اللهُ على يديه وه َز َمهم‪.‬‬
‫وخرج مال ُك بن عوف عند اَلزيم ِة‪ ،‬فوقف في فوار َس من قومه‪ ،‬على ثن َّية‬

‫من الطريق‪ ،‬وقال لأصحابِه‪ِ :‬قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم‪ ،‬وتلحق ُأخراكم‪.‬‬

‫فوقف هناك حتى مضى َمن كان لح َق بهم من ُمنهزم ِة النا ِس‪ ،‬فلما انتهى‬
‫الزبي ُر إلى أصل الثني ِة أبص َر القو َم‪ ،‬فصمد َلم‪ ،‬فلم يزل ُيطا ِعنُهم حتى أزاحهم‬

‫عنها‪.‬‬

‫ثم جُمع ْت إلى رسو ِل الله ﷺ سبايا ُحني ٍن وأمواَلا‪ ،‬وكان على المغانم َمسعو ُد‬
‫بن عمرو الغفار ُّي‪ ،‬وأمر رسو ُل الله ﷺ بالسبايا والأموا ِل إلى ال ِجعران ِة‪ ،‬ف ُحبست‬

‫بها‪.‬‬

‫‪ -14‬ذكر غزوةِ الطائف بعد حُني ٍن في سن ِة ثمان‬
‫ولما ق ِدم َف ُّل ثقي ٍف الطائ َف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها‪ ،‬وصنعوا الصنائ َع‬

‫للقتا ِل‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪223‬‬

‫ثم سار رسو ُل الله ﷺ إلى الطائ ِف حين فرغ من ُحني ٍن‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فسلك رسو ُل الله ﷺ على نخل َة اليماني ِة‪ ،‬ثم على قر ٍن‪ ،‬ثم‬
‫على المليح‪ ،‬ثم على ُبحر ِة ال ُّرغا ِء من لِ َّي َة‪ ،‬فابتنى بها مسج ًدا فصلى فيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عم ُرو بن شعي ٍب أنه أقاد يومئ ٍذ ب ُبحر َة الرغاء ‪-‬‬
‫حين نزَلا‪ -‬ب َد ٍم ‪-‬وهو أول دم ُأقي َد به في الإسلام‪ -‬رج ٌل من بني لي ٍث قتل رج ًلا‬

‫من ُهذيل‪ ،‬فقتله به‪.‬‬

‫وأمر رسو ُل الله ﷺ ‪-‬وهو ب ِل َّي َة‪ -‬بحص ِن مال ِك بن عوف ف ُهد َم‪ ،‬ثم سلك‬
‫في طري ٍق ُيقال َلا‪ :‬ال َّض ْي َق ُة‪ ،‬فلما توجه فيها رسو ُل الله ﷺ سأل عن اسمها‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«ما اس ُم هذه الطري ِق؟» ف ِقيل له‪ :‬الضيقة‪.‬‬

‫فقال‪« :‬بل هي ال ُيسى»‪.‬‬
‫ثم خرج منها على ن ْخ ٍب‪ ،‬حتى نزل تحت سدر ٍة ُيقال َلا‪ :‬الصادر ُة‪ ،‬قري ًبا من‬
‫مال رج ٍل من ثقي ٍف‪ ،‬فأرس َل إليه رسو ُل الله ﷺ‪« :‬إما أن تر َج‪ ،‬وإما أن ُنخر َب‬

‫عليك حا ِئطك»‪.‬‬

‫فأبى أن يَخرج‪ ،‬فأمر رسو ُل الله ﷺ بإخرابِه‪ ،‬ثم مضى رسو ُل الله ﷺ حتى‬
‫نزل قري ًبا من الطائ ِف‪ ،‬فضب به عسكره‪ ،‬ف ُقتل به نا ٌس من أصحابِه بالنب ِل‪،‬‬
‫وذلك أن العسك َر اقتر َب من حائ ِط الطائ ِف‪ ،‬فكانت النب ُل تناَلم‪ ،‬ولم يقد ِر‬
‫المسلمون على أن َيدخلوا حا ِئطهم؛ أغلقوه دونَهم‪ ،‬فلما أصيب أولئك النف ُر من‬
‫أصحابِه بالنب ِل وضع عسك َره عند مسجده الذي بالطائ ِف اليو َم‪ ،‬فحا َصرهم‬

‫بض ًعا وعشرين ليل ًة‪ ،‬وقاتلهم ِقتا ًلا شدي ًدا‪ ،‬وتراموا بالنب ِل‪.‬‬

‫‪ | 224‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ثم إن خويل َة بنت حكي ٍم ‪-‬وهي امرأ ُة عثمان‪ -‬قالت‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أعطني‬
‫‪-‬إن فت َح اللهُ عليك الطائ َف‪ -‬حل َي بادي َة بنت غيلان‪ ،‬أو حلي الفارع ِة بنت َعقيل‪،‬‬

‫وكانتا من أحلى نساء ثقي ٍف‪.‬‬
‫ف ُذكر لي أن رسو َل الله ﷺ قال َلا‪« :‬وإن كان لم ُيؤذن ل في ثقي ٍف يا خويل ُة؟»‬
‫فخرجت خويل ُة‪ ،‬فذكرت ذلك لعم َر بن الخطا ِب‪ ،‬فدخل على رسو ِل الله‬
‫ﷺ‪ ،‬فقال يا رسو َل الله‪ ،‬ما حدي ٌث ح َّدثتنيه ُخويل ُة‪ ،‬زعمت أنك ُقلته؟ قال‪« :‬قد‬

‫قل ُته»‬

‫قال‪ :‬أوما أذن لك فيهم يا رسو َل الله؟‬

‫قال‪« :‬لا»‪.‬‬

‫قال‪ :‬أفلا أؤ ِّذ ُن بالرحيل؟‬

‫قال‪« :‬بلى»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فأذن عمر بالرحيل‪.‬‬
‫‪ -15‬أم ُر أموا ِل َهواز َن وسباياها‬
‫ثم خر َج رسو ُل الله ﷺ حتى نزل ال ِجعران َة فيمن معه من الناس‪ ،‬ومعه من‬
‫هواز َن سب ٌي كثي ٌر‪ ،‬وقد قال له رج ٌل من أصحابِه يو َم ظعن عن ثقي ٍف‪ :‬يا رسو َل‬
‫الله‪ ،‬اد ُع عليهم‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الله َّم اهد ثقيفا و ْأت بهم» ثم أتاه وفد‬
‫هواز َن بال ِجعران ِة‪ ،‬وكان مع رسو ِل الله ﷺ من سبي هواز َن ست ُة آلا ٍف من‬
‫الذراري والنسا ِء‪ ،‬ومن الإبل والشا ِء ما لا ُيدرى ما ِع َّدته‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪225‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عبد الله بن عمرو أن وفد هواز َن أتوا رسو َل الله ﷺ‬
‫وقد أس َلموا‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنا أص ٌل وعشير ٌة‪ ،‬وقد أصابنا من البلا ِء ما لم‬

‫يَ ْخ َف عليك‪ ،‬فامنُن علينا‪َ ،‬م َّن الله عليك‪.‬‬

‫قال‪ :‬وقام رج ٌل من هواز َن ثم أح ُد بني سعد بن بكر ُيقال له‪ُ :‬زهي ٌر‪ُ ،‬يكنى‬
‫أبا ُص َرد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنما في الحظائر ع َّما ُتك وخالاتك وحواضنُك اللاتي‬
‫كن َيك ُفلنك‪ ،‬ولو أنا َملحنا للحارث بن أبي ِشم ٍر‪ ،‬أو للنعما ِن بن المنذ ِر‪ ،‬ثم نزل منا‬

‫بمث ِل الذي نزلت به‪َ ،‬رجونا عط َفه وعائد َته علينا‪ ،‬وأنت خي ُر المكفولين‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟»‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬خ َّيرتنا بين أموالِنا وأحسابِنا‪ ،‬بل َت ُر َّد إلينا نساءنا‬

‫وأبناءنا‪ ،‬فهو أح ُّب إلينا‪.‬‬
‫فقال َلم‪« :‬أما ما كان ل ول َبني عب ِد المطلب فهو لكم‪ ،‬وإذا ما أنا ص َّليت‬
‫الظه َر بالناس‪ ،‬فقوموا فقولوا‪ :‬إنا َنستشف ُع برسو ِل الله إلى المسلمين‪ ،‬وبالمسلمين‬

‫إلى رسو ِل الله في أبنائنا ونسائنا‪ ،‬فس ُأعطيكم عند ذلك‪ ،‬وأسأ ُل لكم»‪.‬‬

‫فلما صلى رسو ُل الله ﷺ بالنا ِس الظه َر‪ ،‬قاموا فتكلموا بالذي أم َرهم به‪،‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬وأما ما كان ل ول َبني عب ِد المطلب فهو لكم»‪.‬‬
‫فقال المهاجرون‪ :‬وما كان لنا فهو لرسو ِل الله ﷺ‪.‬‬

‫وقالت الأنصا ُر‪ :‬وما كان لنا فهو لرسو ِل الله ﷺ‪.‬‬
‫فقال الأقر ُع بن حاب ٍس‪ :‬أما أنا وبنو تمي ٍم فلا‪.‬‬

‫‪ | 226‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وقال عيين ُة بن ِحصن‪ :‬أما أنا وبنو فزار َة فلا‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أما من ت َّسك منكم بح ِقه من هذا السبي فله بك ِل‬
‫إنسان س ُت فرائ َض‪ ،‬من أول سبي أصي ُبه‪ ،‬ف ُردوا إلى النا ِس أبناءهم ونساءهم»‪.‬‬

‫وقال رسو ُل الله ﷺ لوف ِد هواز َن‪ ،‬وسأَلم عن مال ِك بن عو ٍف «ما فعل؟»‬
‫فقالوا‪ :‬هو بالطائ ِف مع َثقي ٍف‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أخبروا مالكا أنه إن أتاني‬

‫ُمسلما َردد ُت عليه أه َله وماله‪ ،‬وأعطي ُته مئة من الإبل»‪.‬‬
‫ف ُأتى مال ٌك بذلك‪ ،‬فخرج إليه من الطائ ِف‪ ،‬وقد كان مال ٌك خاف ثقي ًفا على‬
‫نفسه أن َيعلموا أن رسو َل الله ﷺ قال له ما قال‪ ،‬فيحبِسوه‪ ،‬فأم َر برا ِحلته ف ُهيئت‬
‫له‪ ،‬وأمر بفر ٍس له‪ ،‬ف ُأتي به إلى الطائ ِف‪ ،‬فخرج لي ًلا‪ ،‬فجلس على فر ِسه‪ ،‬فركضه‬
‫حتى أتى راحل َته حيث َأم َر بها أن ُتحبس فرك َبها‪ ،‬فلحق برسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فأدركه‬
‫بال ِجعران ِة أو بم َّك َة‪ ،‬فر َّد عليه أه َله وماله‪ ،‬وأعطاه مئ ًة من الإبل‪ ،‬وأسل َم فح ُسن‬

‫إسلا ُمه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما فرغ رسو ُل الله ﷺ من ر ِّد سبايا ُحنين إلى أهلها‬
‫ركب‪ ،‬واتبعه النا ُس يقولون‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬اق ِسم علينا في َئنا من الإبل والغن ِم‪،‬‬
‫حتى ألجئوه إلى شجر ٍة‪ ،‬فاخ َت َط َفت عنه ردا َءه فقال‪« :‬أدوا ع َّل ردائي أيها النا ُس‪،‬‬
‫فوالله أن لو كان لكم بعد ِد شجر ِتام َة َن َعما لقسم ُته عليكم‪ ،‬ثم ما ألفيتموني بخيلا‬

‫ولا جبانا ولا كذابا»‪.‬‬

‫ثم قام إلى جنب بعي ٍر‪ ،‬فأخ َذ وبر ًة من َسنامه‪ ،‬فجعلها بين أص ُبعيه‪ ،‬ثم‬
‫رفعها‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيها النا ُس‪ ،‬والله ما ل من فيئِكم ولا هذه الوبرة إلا ال ُخم ُس‪،‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪227‬‬

‫والخمس مردود عليكم؛ فأدوا الخيا َط والمِ ْخ َيط‪ ،‬فإن ال ُغلول يكون على أهلِه عارا‬
‫ونارا وشنارا يو َم القيامة»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وأعطى رسو ُل الله ﷺ المؤلف َة قلو ُبهم‪ ،‬وكانوا أشرا ًفا من‬
‫أشرا ِف الناس‪ ،‬يتأل ُفهم ويتألف بهم قو َمهم‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عب ِد الله بن عمرو بن العاص قال‪ :‬جاء رج ٌل من بني‬
‫تمي ٍم ُيقال له‪ :‬ذو الخويصر ِة‪ ،‬فوقف عليه وهو ُيعطي النا َس‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬قد‬

‫رأي ُت ما صنع َت في هذا اليوم‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أجل‪ ،‬فكيف رأي َت؟»‪.‬‬

‫فقال‪ :‬لم أرك َع َدلت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فغ ِضب النب ُّي ﷺ ثم قال‪« :‬ويحك! إذا لم يكن العد ُل عندي‪ ،‬فعند َمن‬

‫يكون؟!»‪.‬‬

‫فقال عم ُر بن الخطاب‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬ألا أقتله؟‬

‫فقال‪« :‬لا‪ ،‬دعه فإنه سيكو ُن له شيعة يتعمقون في الدين حتى َيرجوا منه كما‬
‫َير ُج السه ُم من الرم َّي ِة»‪.‬‬

‫قال ابن هشام‪ :‬عن أبي سعي ٍد الخدر ِّي قال‪ :‬لما أعطى رسو ُل الله ﷺ ما‬
‫أعطى من تلك العطايا‪ ،‬في قري ٍش وفي قبائ ِل العر ِب‪ ،‬ولم يكن في الأنصا ِر منها‬
‫شي ٌء‪َ ،‬و َج َد هذا الح ُّي من الأنصا ِر في أنف ِسهم‪ ،‬حتى كثرت منهم القال ُة حتى قال‬
‫قائ ُلهم‪ :‬لقد َل ِقي والله رسو ُل الله ﷺ قو َمه‪ ،‬فدخل عليه سع ُد بن ُعباد َة‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬

‫‪ | 228‬مختصر السيرة النبوية‬

‫رسو َل الله‪ ،‬إن هذا الح َّي من الأنصا ِر قد وجدوا عليك في أنف ِسهم‪ ،‬لما صنع َت في‬
‫هذا الفي ِء الذي أصب َت‪ ،‬ق َسمت في قو ِمك‪ ،‬وأعطيت عطايا ِعظا ًما في قبائ ِل‬

‫العرب‪ ،‬ولم يك في هذا الح ِّي من الأنصار منها شي ٌء‪.‬‬

‫قال‪« :‬فأين أنت من ذلك يا سع ُد؟!»‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬ما أنا إلا من َقومي‪.‬‬
‫قال‪« :‬فاجمع ل قو َمك في هذه الحظير ِة»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخرج سع ٌد‪ ،‬فجم َع الأنصا َر في تلك الحظير ِة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجاء رجا ٌل من المهاجرين ف َت َركهم‪ ،‬فدخلوا‪ ،‬وجاء آخرو َن فر َّدهم‪.‬‬
‫فلما اجتمعوا له أتاه سع ٌد‪ ،‬فقال‪ :‬قد اجتمع لك هذا الح ُّي من الأنصا ِر‪،‬‬
‫فأتاهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فحمد اللهَ وأثنى عليه بما هو أه ُله‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا مع َش‬
‫الأنصار‪ ،‬ما قا َلة بلغتني عنكم‪ ،‬و ِج َدة وجدتوها ع َّل في أنفسكم؟! ألم آتكم‬
‫ُض َّلالا فهداكم اللهُ‪ ،‬وعالة فأغناكم الل ُه‪ ،‬وأعداء فأ َّلف الل ُه بين قلوبكم!»‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬الله ورسو ُله أ َم ُّن وأفضل‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬ألا ُتيبونني يا مع َش الأنصا ِر؟»‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬بماذا نجي ُبك يا رسو َل الله؟ لله ولرسولِه الم ُّن والفض ُل‪.‬‬

‫قال ﷺ‪« :‬أما والله لو شئتم ل ُقل ُتم؛ فل َصدق ُتم ول ُص ِدقتم‪ :‬أتي َتنا ُمك َّذبا‬
‫فص َّدقناك‪ ،‬و َمذولا فنِصناك‪ ،‬وطريدا فآويناك‪ ،‬وعائلا فآسيناك‪ ،‬أوجدتم يا‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪229‬‬

‫مع َش الأنصار في أنفسكم في ُلعا َع ٍة(‪ )1‬من الدنيا تألف ُت بها قوما ل ُيسلموا‪،‬‬
‫و َوك ْل ُتكم إلى إسلا ِمكم‪ ،‬ألا َتر َضون يا مع َش الأنصا ِر‪ ،‬أن يذهب النا ُس بالشا ِة‬
‫والبعي ِر و َترجعوا برسو ِل الله ﷺ إلى ِرحالِكم؟ فوالذي نف ُس محم ٍد بيده‪ ،‬لولا‬
‫اهمجر ُة لكنت امرأ من الأنصا ِر‪ ،‬ولو سل َك النا ُس ِشعبا و َس َل َكت الأنصا ُر ِشعبا‪،‬‬
‫لسلك ُت ِشع َب الأنصار‪ ،‬الله َّم ارح ِم الأنصا َر‪ ،‬وأبنا َء الأنصا ِر‪ ،‬وأبنا َء أبنا ِء‬

‫الأنصا ِر»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فبكى القو ُم حتى أخ َضلوا لحاهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬رضينا برسو ِل الله ق ْس ًما‬
‫وح اظا‪.‬‬

‫ثم انصرف رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وتف َّرقوا‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم خرج رسو ُل الله ﷺ من ال ِجعران ِة ُمعتم ًرا‪ ،‬وأمر ببقايا‬
‫الفيء ف ُحبس ب ِمجنَّ َة‪ ،‬بناحية َم ِّر الظهران‪ ،‬فلما فرغ رسو ُل الله ﷺ من ُعمرته انصرف‬
‫راج ًعا إلى المدينة‪ ،‬واستخلف ع َّتا َب ب َن أسيد على م َّك َة‪ ،‬وخ َّلف معه معا َذ بن جب ٍل‪،‬‬

‫يف ِّقه النا َس في الدين‪ ،‬و ُيع ِّلمهم القرآ َن‪ ،‬وا ُّتبع رسو ُل الله ﷺ ببقايا الفيء‪.‬‬

‫‪ -16‬غزوةُ تبوكَ في رجب سن َة تسع‬
‫عن محمد بن إسحا َق المطلبي قال‪ :‬ثم أقا َم رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة ما بين ذي‬
‫الح َّج ِة إلى رج ٍب‪ ،‬ثم أمر النا َس بالتهيؤ لغزو الروم‪ ،‬وذلك في زما ٍن من ُعسرة الناس‪،‬‬
‫وش َّد ٍة من الحر‪ ،‬و َج ْد ٍب من البلاد وحين طابت الثما ُر‪ ،‬والنا ُس يحبون المُقا َم في‬

‫ثمارهم وظلاَ ِلم‪ ،‬ويكرهون الشخو َص على الحال من الزما ِن الذي هم عليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال ُّل َعا َعة‪ :‬الكلأ الخفيف‪ ،‬كناية عن بهرج الدنيا وزينتها‪.‬‬

‫‪ | 231‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وكان رسو ُل الله ﷺ قلما يخرج في غزو ٍة إلا كنَّى عنها‪ ،‬وأخبر أنه يريد غي َر‬
‫الوجه الذي يص ُمد له‪ ،‬إلا ما كان من غزو ِة تبو ٍك‪ ،‬فإنه ب َّينها للناس؛ ل ُبعد ال ُّش َّق ِة‪،‬‬
‫وش َّد ِة الزمان‪ ،‬وكثر ِة العد ِّو الذي يصمد له‪ ،‬ليتأهب النا ُس لذلك ُأ ْه َب َته‪ ،‬فأمر‬

‫الناس بالجهاز‪ ،‬وأخبرهم أنه ُيريد الرو َم‪.‬‬

‫وقال قو ٌم من المنافقين بع ُضهم لبع ٍض‪ :‬لا َتنفروا في الح ِّر‪ ،‬زها َد ًة في الجهاد‪،‬‬
‫وش اكا في الح ِّق‪ ،‬وإرجا ًفا برسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فأنزل الل ُه تبارك وتعالى فيهم‪( :‬ﭻﭼ‬

‫ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ‬

‫ﮐﮑﮒﮓ) [التوبة‪.]25-25:‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن رسو َل الله ﷺ َج َّد في سف ِره‪ ،‬وأمر النا َس بالجهاز‬
‫والانكما ِش‪ ،‬وحض أه َل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله‪ ،‬فحمل رجا ٌل‬
‫من أه ِل الغنى واح َتسبوا‪ ،‬وأنفق عثما ُن ب ُن عفان في ذلك نفق ًة عظيم ًة‪ ،‬لم ينفق أح ٌد‬

‫مث َلها‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وجاءه ال ُمع ِّذرون من الأعراب‪ ،‬فاعتذروا إليه‪ ،‬فلم‬
‫َيع ِذرهم الل ُه تعالى‪ ،‬وقد ُذكر لي أنهم نف ٌر من بني ِغفا ٍر‪.‬‬

‫ثم استتب برسو ِل الله ﷺ سف ُره‪ ،‬وأجم َع السي َر‪ ،‬وقد كان نف ٌر من المسلمين‬
‫أبطأت بهم الن َّي ُة عن رسو ِل الله ﷺ حتى تخلفوا عنه‪ ،‬عن غي ِر ش ٍّك ولا ارتيا ٍب‪،‬‬
‫منهم‪ :‬كع ُب بن مالك بن أبي كعب‪ ،‬و ُمرار ُة بن الربي ِع‪ ،‬وهلا ُل بن أمي َة‪ ،‬وأبو‬

‫َخيثم َة‪ ،‬وكانوا نف َر صد ٍق‪ ،‬لا ُيتهمون في إسلا ِمهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪230‬‬

‫فلما خر َج رسو ُل الله ﷺ ض َب عسك َره على ثني ِة الودا ِع‪ ،‬وضب عب ُد الله‬
‫بن أب ٍّي معه على ِحد ٍة عسك َره أسف َل منه‪ ،‬وكان فيما َيزعمون ليس بأق ِّل العسكرين‪،‬‬
‫فلما سا َر رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله بن أبي‪ ،‬فيمن تخلف من المنافقين وأه ِل‬

‫الريب‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقد كان رسو ُل الله ﷺ حين َم َّر بال ِحجر نزَلا‪ ،‬واستقى‬
‫النا ُس من بئرها‪ ،‬فلما راحوا قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لا تشبوا من مائها شيئا‪ ،‬ولا‬
‫تتو َّضؤوا منه للصلاة‪ ،‬وما كان من عجي ٍن عجنتموه فاعلِفوه الإب َل‪ ،‬ولا تأكلوا منه‬

‫شيئا‪ ،‬ولا ي ُرجن أحد منكم الليل َة إلا ومعه صاحب له»‪.‬‬

‫ثم مضى رسو ُل الله ﷺ سائ ًرا‪ ،‬فجعل يتخلف عنه الرج ُل‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا‬
‫رسو َل الله‪ ،‬تخلف فلا ٌن‪ ،‬فيقول‪« :‬دعوه‪ ،‬فإن ي ُك فيه خير فس ُيلحقه اللهُ تعالى بكم‪،‬‬

‫وإن يك غي َر ذلك فقد أرا َح ُكم الل ُه منه»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقد كان ره ٌط من المنافقين منهم‪ :‬وديع ُة بن ثابت‪،‬‬
‫ومُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير‪ ،‬يشيرون إلى رسو ِل الله ﷺ وهو ُمنطل ٌق إلى تبو َك‪ ،‬فقال بع ُضهم‬
‫لبعض‪ :‬أتح ِسبون ِجلاد بني الأصف ِر ك ِقتال العرب بع ِضهم بع ًضا! والله لكأنا بكم‬

‫غ ًدا مق َّرنين في الحبال؛ إرجا ًفا وترهي ًبا للمؤمنين‪.‬‬

‫فقال مُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير‪ :‬والله لودد ُت أني أقاضي على أن ُيضب ك ُّل رجل منا‬
‫مئ َة جلد ٍة‪ ،‬وإنا ننفل ُت أن ينزل فينا قرآ ٌن لمقا َل ِتكم هذه‪.‬‬

‫وقال رسو ُل الله ﷺ ‪-‬فيما بلغني‪ -‬لعما ِر بن ياس ٍر‪« :‬أدرك القو َم‪ ،‬فإنهم قد‬
‫اح َتقوا‪ ،‬فس ْل ُهم عما قالوا‪ ،‬فإن أنكروا ف ُقل‪ :‬بلى‪ ،‬قلتم كذا وكذا»‪.‬‬

‫‪ | 232‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فانطل َق إليهم عما ٌر‪ ،‬فقال ذلك َلم‪ :‬فأتوا رسو َل الله ﷺ َيعتذرون إليه‪ ،‬فقال‬
‫وديع ُة ب ُن ثاب ٍت ‪-‬ورسو ُل الله ﷺ واق ٌف على ناقته فجعل يقول وهو آخ ٌذ‬
‫بِ َح َقبها‪ :-‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنما كنا نخو ُض ونلع ُب‪ ،‬فأنزل الل ُه ‪( :‬ﮃ‬

‫ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ) [التوبة‪.]61:‬‬

‫وقال مُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬قعد بي اس ِمي واس ُم أبي‪ ،‬وكأن الذي‬
‫ُعفي عنه في هذه الآية مُخ ِّشن بن حُ َم ِّير‪ ،‬فتسمى عب َد الرحمن‪ ،‬وسأل الل َه تعالى أن‬

‫يق ُت َله شهي ًدا لا ُيعلم بمكانه‪ ،‬ف ُقتل يو َم اليمام ِة‪ ،‬فلم يوجد له أث ٌر‪.‬‬

‫ولما انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى تبو َك‪ ،‬أتاه ُيحنَّ ُة بن ُرؤب َة‪ ،‬صاح ُب أ ْي َل َة‪ ،‬فصالح‬
‫رسو َل الله ﷺ‪ ،‬وأعطاه الجزي َة‪ ،‬وأتاه أه ُل َجرباء و َأذ ُرح‪ ،‬فأعطوه الجزي َة‪ ،‬فكتب‬

‫رسو ُل الله ﷺ َلم كتا ًبا‪ ،‬فهو عندهم‪.‬‬

‫فأقام رسو ُل الله ﷺ بتبو َك بض َع عشر َة ليل ًة‪ ،‬لم يجاوزها‪ ،‬ثم انصر َف قاف ًلا‬
‫إلى المدين ِة‪.‬‬

‫‪ -17‬أم ُر مسج ِد الضرار عند القُفول من غزوة تبو َك‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أقبل رسو ُل الله ﷺ حتى نزل ب ِذي أوا ٍن ‪-‬بل ٍد بينه‬
‫وبين المدينة ساع ٌة من نهار‪ -‬وكان أصحا ُب مسج ِد الضار قد كانوا أتوه وهو‬
‫يتج َّهز إلى تبو َك‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنا قد بنينا مسج ًدا لذي العلة والحاجة‬
‫والليل ِة المَطير ِة والليل ِة الشاتي ِة‪ ،‬وإنا نحب أن تأت َينا‪ ،‬فتصلي لنا فيه فقال‪« :‬إني على‬
‫َجناح سف ٍر‪ ،‬وحال شغ ٍل ‪-‬أو كما قال ﷺ‪ -‬ولو قد ق ِدمنا إن شاء الل ُه لأتيناكم‪،‬‬

‫فص َّلينا لكم فيه»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪233‬‬

‫فلما نزل بذي أوا ٍن‪ ،‬أتاه خب ُر المسج ِد‪ ،‬فدعا رسو ُل الله ﷺ مال َك بن‬
‫ال ُّدخ ُشم‪ ،‬ومع َن بن عد ٍّي‪ ،‬أو أخاه عاص َم ب َن عدي‪ ،‬فقال‪« :‬انطلقا إلى هذا‬

‫المسج ِد الظالم أه ُله‪ ،‬فاهدماه وح َّرقاه»‪.‬‬
‫فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالمِ بن عو ٍف‪ ،‬وهم ره ُط مال ِك بن الدخ ُشم‪،‬‬
‫فقال مال ٌك لمع ٍن‪ :‬أنظرني حتى أخ ُر َج إليك بنار من أهلي‪ ،‬فدخل إلى أه ِله‪ ،‬فأخذ سع ًفا‬
‫من النخل‪ ،‬فأشعل فيه نا ًرا‪ ،‬ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أه ُله‪ ،‬فح َّرقاه‬
‫وهدماه‪ ،‬وتف َّرقوا عنه‪ ،‬ونزل فيهم من القرآ ِن ما نزل‪( :‬ﭑﭒﭓﭔ‬

‫ﭕﭖﭗﭘ) [التوبة‪ ]547:‬إلى آخر القصة‪.‬‬

‫‪ -18‬أم ُر وفدِ ثقي ٍف وإسلامها في شه ِر رمضا َن سنةَ تسع‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقدم رسو ُل الله ﷺ المدين َة من تبو َك في رمضا َن‪ ،‬وقدم‬
‫عليه في ذلك الشهر وف ُد ثقي ٍف‪.‬‬

‫فلما أسلموا وكتب َلم رسو ُل الله ﷺ كتا َبهم‪ ،‬أ َّم َر عليهم عثما َن بن أبي‬
‫العاص‪ ،‬وكان من أح َدثِهم سناا‪ ،‬وذلك أنه كان أحر َصهم على التف ُّقه في الإسلا ِم‪،‬‬

‫وتع ُّلم القرآن‪.‬‬

‫‪ -19‬ح ُجّ أبي بكر بالناس سن َة تس ٍع‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بق َّية شهر رمضا َن وشوالا وذا‬
‫القعدة‪ ،‬ثم بعث أبا بكر أمي ًرا على الحج من سنة تس ٍع‪ ،‬ليقيم للمسلمين ح َّجهم‪،‬‬
‫والنا ُس من أهل الشرك على منا ِزَلم من ح ِّجهم‪ ،‬فخرج أبو بك ٍر ‪ ‬ومن معه‬

‫من المسلمين‪.‬‬

‫‪ | 234‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أبي جعف ٍر محم ِد بن عل ٍّي رضوان الله عليه‪ ،‬أنه قال‪ :‬لما‬
‫نزلت براء ٌة على رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وقد كان بعث أبا بك ٍر الصدي َق ليقي َم للناس‬
‫الح َّج‪ ،‬قيل له‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬لو بعثت بها إلى أبي بكر‪ ،‬فقال‪« :‬لا ُيؤدي عني إلا‬

‫رجل من أهل بيتي»‪.‬‬
‫ثم دعا عل َّي ب َن أبي طالب رضوا ُن الله عليه‪ ،‬فقال له‪« :‬اخرج بهذه الق َّص ِة من‬
‫صدر براء ٍة‪ ،‬وأذن في الناس يو َم النحر إذا اجتمعوا بمنى‪ ،‬أنه لا يدخل الجن َة كافر‪،‬‬
‫ولا يحج بعد العام مشك‪ ،‬ولا يطوَ بالبيت عريان‪ ،‬ومن كان له عند رسو ِل الله‬

‫ﷺ عهد فهو له إلى ُم َّدته»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فكان هذا من براء ٍة فيمن كان من أهل الشرك من أه ِل‬

‫العهد العا ِّم‪ ،‬وأهل المدة إلى الأج ِل المسمى‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أمر الل ُه رسو َله ﷺ بجهاد أه ِل الشرك‪ ،‬ممن نقض من‬
‫أهل العه ِد الخا ِّص‪ ،‬ومن كان من أه ِل العهد العا ِّم‪ ،‬بعد الأربع ِة الأشه ِر التي‬

‫ضب َلم أج ًلا إلا أن يعدو فيها عا ٍد منهم‪ ،‬ف ُيقتل ب َعدائه‪.‬‬

‫‪ِ -21‬ذك ُر سنةِ تسع وتسمي ُتها‪ :‬سنة الوفو ِد‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬لما افتتح رسو ُل الله ﷺ م َّك َة‪ ،‬وفرغ من تبو َك‪ ،‬وأسلمت‬
‫ثقي ٌف وبايعت‪ ،‬ضبت إليه وفو ُد العرب من ك ِّل وجه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وإنما كانت العر ُب تر َّب ُص بالإسلام َأ ْم َر هذا الح ِّي من‬
‫قري ٍش وأ ْم َر رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وذلك أن قري ًشا كانوا إما َم الناس وهادُم‪ ،‬وأه َل‬
‫البيت الحرام‪ ،‬وصري َح ول ِد إسماعي َل بن إبراهيم عليهما السلا ُم‪ ،‬وقاد َة العرب لا‬

‫ُين َكرون ذلك‪ ،‬وكانت قري ٌش هي التي نص َبت لحرب رسو ِل الله ﷺ وخلافِه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪235‬‬

‫فلما اف ُتتحت مك ُة‪ ،‬ودانت له قري ٌش‪ ،‬ود َّوخها الإسلا ُم‪ ،‬وعرفت العر ُب أنه‬
‫لا طاق َة َلم بحر ِب رسو ِل الله ﷺ ولا عداو ِته‪ ،‬فدخلوا في دين الله‪ ،‬كما قال‬
‫‪( :‬ﭽ)‪ ،‬ي ِضبون إليه من ك ِّل وج ٍه‪ ،‬يقول الله تعالى لنب ِّيه ﷺ‪( :‬ﭱ‬
‫ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ) [النصر‪ ]3-5:‬أي‪ :‬فاحمد الل َه‬

‫على ما أظه َر من دينِك‪ ،‬واستغف ْره إنه كان توا ًبا‪.‬‬

‫‪ | 236‬مختصر السيرة النبوية‬

‫[رابعا‪ :‬حجة الوداع وابتداء شكوى رسول الله ﷺ]‬

‫‪َ -1‬ح َجّةُ ال َوداعِ‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما دخل على رسو ِل الله ﷺ ذو ال َقعدة‪ ،‬ت َّهز للحج‪،‬‬

‫وأمر النا َس بالجهاز له‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم مضى رسو ُل الله ﷺ على ح ِّجه‪ ،‬فأرى النا َس‬
‫مناس َكهم‪ ،‬وأعل َمهم ُسنن ح ِّجهم‪ ،‬وخطب النا َس ُخطبته التي ب َّين فيها ما بين‪،‬‬
‫فحمد الل َه وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيها النا ُس‪ ،‬اسمعوا قول؛ فإني لا أدري لع ِل لا‬

‫ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموق ِف أبدا‪.‬‬

‫أيها النا ُس‪ ،‬إن دما َءكم وأموا َلكم عليكم حرام إلى أن تل َقوا ربكم‪ ،‬ك ُحرمة‬
‫يو ِمكم هذا‪ ،‬وكحرم ِة شه ِركم هذا‪ ،‬وإنكم ستلقون ر َّبكم‪ ،‬فيسألكم عن أعمالكم‪،‬‬

‫وقد بلغت‪ ،‬فمن كانت عن َده أمانة فليؤ ِدها إلى من ائتمنه عليها‪.‬‬
‫وإن ك َّل ربا موضوع‪ ،‬ولكن لكم رءو ُس أموالِكم لا َتظلمون ولا ُتظلمون‪،‬‬

‫قضى الله أنه لا ربا‪ ،‬وإن ربا عبا ِس بن عبد المطلب موضوع كله‪.‬‬
‫وإن كل د ٍم كان في الجاهلية موضوع‪ ،‬وإن أ َّو َل دما ِئكم أض ُع د َم ابن ربيع َة‬
‫بن الحارث بن عبد المطل ِب‪ ،‬وكان ُمستضعا في بني لي ٍث‪ ،‬فقتلته ُهذيل‪ ،‬فهو أول‬

‫ما أبدأ به من دما ِء الجاهلية‪.‬‬
‫أما بع ُد‪ ،‬أيها النا ُس‪ ،‬فإن الشيطا َن قد يئس من أن ُيعب َد بأر ِضكم هذه أبدا‪،‬‬
‫ولكنه إن ُي َطع فيما سوى ذلك فقد َر َض به مما َتح ِقرون من أعمالِكم‪ ،‬فاحذروه على‬

‫دينِكم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪237‬‬

‫أيها النا ُس إن النسي َء زيادة في الكفر‪ُ ،‬يضل به الذين كفروا‪ُ ،‬يحلونه عاما‬
‫و ُيحرمونه عاما‪ ،‬ليواطئوا ع َّد َة ما ح َّر َم الله‪ ،‬ف ُيحلوا ما حرم الل ُه‪ ،‬و ُيح ِرموا ما أحل‬
‫الل ُه‪ ،‬وإن الزما َن قد استدار كهيئتِه يو َم خلق اللهُ السموا ِت والأر َض‪ ،‬وإن ع َّد َة‬
‫الشهور عند الله اثنا ع َش شهرا‪ ،‬منها أربعة حرم‪ ،‬ثلاثة متوالية‪ ،‬ورج ُب مض َر‪،‬‬

‫الذي بين ُجمادى وشعبا َن‪.‬‬

‫أما بع ُد‪ ،‬أيها النا ُس‪ ،‬فإن لكم على نسائكم حقا‪ ،‬وهمن عليكم حقا‪ ،‬لكم‬
‫عليهن ألا يوطِئن ُف ُرشكم أحدا تكرهونه‪ ،‬وعليهن أن لا يأتين بفاحش ٍة ُمبينة‪ ،‬فإن‬
‫فعلن فإن الل َه قد أ ِذن لكم أن َت ُجروهن في المضا ِج ِع و َتضربوهن ضربا غي َر ُمب ِرح‪،‬‬
‫فإن انتهين فلهن رز ُقهن وكسو ُتن بالمعرو َِ‪ ،‬واستوصوا بالنساء خيرا‪ ،‬فإنهن‬
‫عندكم عوا ٍن لا يملِكن لأنفسهن شيئا‪ ،‬وإنكم إنما أخذتوهن بأمان ِة الله‪،‬‬

‫واستح َلل ُتم ُفروجهن بكلمات الله‪.‬‬

‫فاعقلوا أيها النا ُس قول‪ ،‬فإني قد ب َّلغت‪ ،‬وقد ترك ُت فيكم ما إن اعتصم ُتم‬
‫به فلن تضلوا أبدا‪ ،‬أمرا ب ِينا‪ :‬كتا َب الله وسن َة نب ِيه‪.‬‬

‫أيها النا ُس‪ ،‬اسمعوا قول واع ِقلوه‪َ ،‬تع َل ُم َّن أن ُك َّل مسلم أخ للمسلم‪ ،‬وأن‬
‫المسلمين إخوة‪ ،‬فلا يحل لامر ٍئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طِي ِب نف ٍس منه‪ ،‬فلا‬

‫َتظل ُم َّن أنف َسكم‪ ،‬الله َّم هل ب َّلغ ُت؟»‪.‬‬

‫ف ُذكر لي أن النا َس قالوا‪ :‬الله َّم نعم‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الله َّم اشهد»‪.‬‬

‫‪ | 238‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -2‬خروجُ رس ِل رسولِ الله إلى الملوكِ‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وقد كان رسو ُل الله ﷺ بعث إلى الملوك ر ُس ًلا من أصحابِه‪،‬‬
‫وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلا ِم‪.‬‬

‫فبعث ِدحي َة بن خليف َة الكلب َّي إلى قيصر مل ِك الروم‪ ،‬وبعث عب َد الله بن‬
‫ُحذاف َة السهم َّي إلى كسرى ملك فار َس‪ ،‬وبعث عمرو ب َن أمية الضمر َّي إلى‬
‫النجاش ِّي مل ِك الحبشة‪ ،‬وبعث حاط َب بن أبي َبلتع َة إلى المقوق ِس مل ِك‬
‫الإسكندرية‪ ،‬وبعث عم َرو بن العاص السهم َّي إلى َجيف ٍر وع َّيا ٍد ابني ال ُج ُلندى‬
‫الأزديين ملكي ُعما َن‪ ،‬وبعث َسلي َط بن عم ٍرو أح َد بني عامر بن لؤي‪ ،‬إلى ُثمام َة بن‬
‫ُأثا ٍل و َهوذ َة بن عل ٍّي الحنفيين ملكي اليمام ِة‪ ،‬وبعث العلا َء بن الحضم ِّي إلى ال ُمنذ ِر‬
‫بن َساوى العبد ِّي ملك البحرين‪ ،‬وبعث ُشجا َع بن وه ٍب الأسد َّي إلى الحارث بن‬

‫أبي ِش ْم ٍر الغ َّسان ِّي ملك ُتخوم الشأم‪.‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬بعث ُشجا َع بن وهب إلى جبل َة بن الأُ ِم الغسان ِّي‪ ،‬وبعث‬
‫ال ُمهاج َر بن أبي أمي َة المخزوم َّي إلى الحارث بن عب ِد ُكلا ٍل ال ِحمير ِّي ملك اليم ِن‪.‬‬

‫‪َ -3‬بع ُث أسامةَ بن زي ٍد إلى أرضِ فلسطين وهو آخرُ البعو ِث‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وبعث رسو ُل الله ﷺ أسام َة ب َن زيد بن حارث َة إلى الشأم‪،‬‬
‫وأمره أن ُيو ِط َئ الخي َل ُتخو َم البلقا ِء والدارو ِم من أرض فلسطين‪ ،‬فتجهز النا ُس‪،‬‬

‫وأوعب مع أسام َة المهاجرون الأولون‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪239‬‬

‫‪ -4‬ابتداءُ شكوى رسو ِل الله ﷺ‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فبينا النا ُس على ذلك اب ُتدئ رسو ُل الله ﷺ ب َشك ِوه الذي‬
‫قبضه الل ُه فيه‪ ،‬إلى ما أرا َد به من كرامتِه ورحمته‪ ،‬في ليا ٍل بقين من صف ٍر‪ ،‬أو في أو ِل‬
‫شه ِر ربي ٍع الأول‪ ،‬فكان أ َّو َل ما اب ُتدئ به من ذلك ‪-‬فيما ُذكر لي‪ -‬أنه خر َج إلى بقي ِع‬
‫ال َغرق ِد‪ ،‬من جو ِف الليل‪ ،‬فاستغف َر َلم‪ ،‬ثم رج َع إلى أه ِله‪ ،‬فلما أصبح ابتدئ‬

‫بوج ِعه من يو ِمه ذلك‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة زو ِج النبي ﷺ قالت‪ :‬رجع رسو ُل الله ﷺ من‬
‫ال َبقيع فوجدني وأنا أجد ُصدا ًعا في رأسي‪ ،‬وأنا أقول‪ :‬وا رأساه‪ ،‬فقال‪« :‬بل أنا‬

‫والله يا عائش ُة وا َرأساه»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ثم قال‪« :‬وما ضر ِك لو ُم ِت قبل‪ ،‬فقم ُت عليك وك َّفنتك‪ ،‬وص َّليت‬

‫عليك ودفن ُتك؟»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬والله لكأني بك‪ ،‬لو قد فعل َت ذلك‪ ،‬لقد رجع َت إلى بيتي‪،‬‬
‫فأعرس َت فيه ببع ِض نسا ِئك‪ ،‬قالت‪ :‬فتبسم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وتتا َّم به وج ُعه‪ ،‬وهو‬
‫يدو ُر على نسا ِئه‪ ،‬حتى اس ُت ِع َّز به(‪ ،)1‬وهو في بي ِت َميمون َة‪ ،‬فدعا نسا َءه‪ ،‬فاستأذنهن‬

‫في أن ُيم َّرض في بيتي‪ ،‬ف َأ ِذ َّن له‪.‬‬
‫‪ِ -5‬ذكرُ أزوا ِجه ﷺ أَّمها ِت المؤمنين‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وكن تس ًعا‪ :‬عائش ُة بن ُت أبي بك ٍر‪ ،‬وحفص ُة بنت عم َر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬وأ ُّم حبيب َة بن ُت أبي سفيان بن حر ٍب‪ ،‬وأ ُّم سلم َة بنت أبي أمي َة بن المغيرة‪،‬‬

‫(‪ )1‬اس ُت ِع َّز به‪ :‬أي غلبه وج ُعه‪.‬‬

‫‪ | 241‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وسود ُة بن ُت زمع َة بن قيس‪ ،‬وزين ُب بن ُت جح ِش بن رئا ٍب‪ ،‬وميمون ُة بن ُت الحارث‬
‫بن حزن‪ ،‬وجويري ُة بن ُت الحارث بن أبي ِضار‪ ،‬وصفي ُة بن ُت ُحي ِّي بن أخط َب‪.‬‬
‫وكان جمي ُع من تز َّوج رسو ُل الله ﷺ ثلا َث عشر َة‪.‬‬

‫فهؤلاء اللاتي بنى بهن رسو ُل الله ﷺ إحدى ع ْشر َة‪ ،‬فمات قبله منهن ثنتا ِن‪:‬‬
‫خديج ُة بن ُت خويلد‪ ،‬وزين ُب بنت ُخزيم َة‪.‬‬

‫وثنتان لم يدخل بهما‪ :‬أسما ُء بنت النعمان الكندي ُة‪ ،‬تزوجها فوجد بها‬
‫َبيا ًضا(‪ ،)1‬فم َّتعها ور َّدها إلى أهلِها‪ ،‬و َعمر ُة بنت يزي َد الكلابية وكانت حديث َة عه ٍد‬
‫بكف ٍر‪ ،‬فلما قدمت على رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬استعا َذت من رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال رسو ُل‬

‫الله ﷺ‪َ « :‬منيع عائذ الله»‪ ،‬فردها إلى أه ِلها‪.‬‬
‫‪َ -6‬تمريضُ رسولِ الله في بيت عائشةَ‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة زو ِج النبي ﷺ قالت‪ :‬فخر َج رسو ُل الله ﷺ‬
‫يمشي بين َرجلين من أه ِله‪ :‬أح ُدهما‪ :‬الفض ُل بن العباس‪ ،‬ورج ٌل آخر‪ ،‬عاص ًبا‬
‫رأ َسه‪ ،‬ت ُخ ُّط قدماه‪ ،‬حتى دخل بيتي‪ ،‬ثم ُغمر رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬واشت َّد به وج ُعه‪،‬‬
‫فقال‪« :‬هريقوا ع َّل سب َع ِقرب من آبا ٍر ش َّتى‪ ،‬حتى أخر َج إلى النا ِس فأعه َد إليهم»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأقعدناه في م ِخ َض ٍب(‪ )2‬لحفص َة بنت عمر‪ ،‬ثم صببنا عليه الما َء حتى‬

‫طفق يقول‪« :‬حس ُبكم حس ُبكم»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َب َياض‪ :‬البرص‪.‬‬
‫(‪ )2‬المِ ْخ َضب‪ :‬المركن‪ ،‬وهو إناء يغتسل فيه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪240‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أيوب بن بشي ٍر أن رسو َل الله ﷺ خر َج عاص ًبا رأ َسه‬
‫حتى جل َس على المِنبر‪ ،‬ثم كان أول ما تك َّلم به أنه صلى على أصحا ِب أ ُح ٍد‪،‬‬
‫واستغف َر َلم‪ ،‬فأكث َر الصلا َة عليهم‪ ،‬ثم قال‪« :‬إن عبدا من عبا ِد الله خ َّيره الل ُه بين‬

‫الدنيا وبين ما عند ُه‪ ،‬فاختار ما عند الله»‪.‬‬

‫قال‪ :‬ففهمها أبو بكر‪ ،‬وع َرف أن نف َسه ُيريد‪ ،‬ف َبكى وقال‪ :‬بل نحن َنفديك‬
‫بأنف ِسنا وأبنا ِئنا‪ ،‬فقال‪« :‬على ِرسلِك يا أبا بكر»‪.‬‬

‫ثم قال‪« :‬انظروا هذه الأبوا َب ال َّلافِظ َة في المسج ِد(‪ ،)1‬ف ُسدوها إلا بي َت أبي‬
‫بكر‪ ،‬فإني لا أعل ُم أحدا كان أفض َل في الصحب ِة عندي يدا منه»‪.‬‬

‫وقا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ُعرو َة بن الزبير وغي ِره من العلماء‪ ،‬أن رسو َل الله ﷺ‬
‫استبطأ النا َس في بع ِث أسام َة بن زي ٍد‪ ،‬وهو في وج ِعه‪ ،‬فخرج عاص ًبا رأ َسه حتى‬
‫جل َس على المِنبر‪ ،‬وقد كان النا ُس قالوا في إمر ِة أسام َة‪ :‬أ َّم َر غلا ًما حد ًثا على ِج َّل ِة‬

‫المهاجرين والأنصا ِر‪.‬‬
‫فحمد الل َه وأثنى عليه بما هو له أه ٌل‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيها النا ُس‪ ،‬أن ِفذوا بع َث‬
‫أسام َة‪ ،‬ف َلعمري‪ ،‬لئن ُقلتم في إمارته لقد قل ُتم في إمار ِة أبيه من قبلِه‪ ،‬وإنه لخليق‬

‫للإمار ِة‪ ،‬وإن كان أبوه لخليقا هما»‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم نز َل رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وانكم َش النا ُس(‪ )2‬في جهازهم‪ ،‬واستع َّز‬
‫برسو ِل الله ﷺ َوج ُعه‪ ،‬فخرج أسام ُة‪ ،‬وخرج جي ُشه معه حتى نزلوا ال ُجر َف من‬

‫(‪ )1‬ال َّلافِ َظة في المسجد‪ :‬يعني النافذة إليه‪.‬‬
‫(‪ )2‬ان َك َم َش الناس‪ :‬أسرعوا‪.‬‬

‫‪ | 242‬مختصر السيرة النبوية‬

‫المدينة على فرس ٍخ‪ ،‬فض َب به عسك َره‪ ،‬وتتا َّم إليه النا ُس‪ ،‬و َث ُقل رسو ُل الله ﷺ‪،‬‬
‫فأقام أسام ُة والنا ُس؛ ل َين ُظروا ما الل ُه قا ٍض في رسول الله ﷺ‪.‬‬

‫وقا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عب ِد الله بن كع ِب بن مال ٍك أن رسو َل الله ﷺ قال ‪-‬‬
‫يو َم صلى واستغف َر لأصحا ِب أ ُح ٍد‪ ،‬وذكر من أم ِرهم ما ذكر مع مقالتِه يومئذ‪:-‬‬
‫«يا مع َش المهاجرين‪ ،‬استوصوا بالأنصا ِر خيرا‪ ،‬فإن النا َس َيزيدون‪ ،‬وإن الأنصا َر‬
‫على هيئتها لا َتزي ُد‪ ،‬وإنهم كانوا َعيبتي التي أوي ُت إليها‪ ،‬فأح ِسنوا إلى ُمح ِسنهم‪،‬‬

‫وتاوزوا عن ُمسي ِئهم»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة قالت‪ :‬كان رسو ُل الله ﷺ كثي ًرا ما أسم ُعه‬
‫يقول‪« :‬إن اللهَ لم يقبض نبيا حتى ي ِيره»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فلما ُحض رسو ُل الله ﷺ كان آخ ُر كلمة سمع ُتها منه وهو يقول‪« :‬بل‬
‫الرفي َق الأعلى من الجن ِة»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬إذن‪ ،‬والله لا يَختا ُرنا‪ ،‬وعرفت أنه الذي كان يقول لنا‪« :‬إن‬
‫نبيا لم ُيقبض حتى ُي َّير»‪.‬‬

‫عن عائش َة قالت‪ :‬لما اس ُتع َّز برسو ِل الله ﷺ قال‪ُ « :‬مروا أبا بك ٍر فل ُيص ِل‬
‫بالناس»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أن ِس بن مال ٍك أنه لما كان يو ُم الاثنين الذي قبض الل ُه فيه‬
‫رسو َله ﷺ‪ ،‬خرج إلى النا ِس وهم ُيص ُّلون الصب َح‪ ،‬فرفع الستر‪ ،‬وفتح البا َب‪ ،‬فخر َج‬
‫رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فقا َم على باب عائش َة‪ ،‬فكاد المسلمون َيفتتنون في صلاتِهم برسو ِل الله‬

‫ﷺ حين رأوه َف َر ًحا به‪ ،‬وتفرجوا‪ ،‬فأشا َر إليهم أن اث ُبتوا على صلاتِكم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪243‬‬

‫قال‪ :‬فتبسم رسو ُل الله ﷺ سرو ًرا لما رأى من هيئتهم في صلاتِهم‪ ،‬وما رأيت‬
‫رسو َل الله ﷺ أحس َن هيئ ًة منه تلك الساع َة‪ ،‬قال‪ :‬ثم رجع وانصرف النا ُس وهم‬

‫يرون أن رسو َل الله ﷺ قد أ ْف َر َق(‪ )1‬من وج ِعه‪ ،‬فرجع أبو بكر إلى أهله بال ُّسن ِح‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة قالت‪ :‬رجع إل َّي رسو ُل الله ﷺ في ذلك اليو ِم‬
‫حين دخل من المسج ِد‪ ،‬فاضطجع في ِحجري‪ ،‬فدخل عل َّي رج ٌل من آل أبي بكر‪،‬‬
‫وفي يده سوا ٌك أخ ُض‪ ،‬قالت‪ :‬فنظ َر رسو ُل الله ﷺ إليه في يده نظ ًرا عرفت أنه‬

‫يري ُده‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أتح ُّب أن أعط َيك هذا السوا َك؟‬

‫قال‪« :‬نعم»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأخذته فمضغ ُته له حتى ل َّين ُته‪ ،‬ثم أعطي ُته إياه‪ ،‬قالت‪ :‬فاست َّن به‬

‫كأشد ما رأي ُته يستن بسوا ٍك قط‪ ،‬ثم وضعه‪.‬‬
‫ووجدت رسو َل الله ﷺ يث ُقل في ِحجري‪ ،‬فذهب ُت أنظ ُر في وج ِهه‪ ،‬فإذا‬

‫بص ُره قد َش َخص‪ ،‬وهو يقول‪« :‬بل الرفي َق الأعلى من الجن ِة»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقلت‪ُ :‬خ ِّير َت فاختر َت والذي بعثك بالح ِّق‪.‬‬

‫قالت‪ :‬و ُقبض رسو ُل الله ﷺ‪.‬‬

‫(‪َ )1‬أ ْف َر َق‪ :‬أي أقبل‪.‬‬

‫‪ | 244‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أبي هرير َة قال‪ :‬لما توفي رسو ُل الله ﷺ قام عم ُر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬فقال‪ :‬إن رجا ًلا من المنافقين َيزعمون أن رسو َل الله ﷺ قد ُتو ِّفي‪ ،‬وإن‬
‫رسو َل الله ﷺ ما ما َت‪ ،‬ولكنه ذه َب إلى ر ِّبه كما ذه َب موسى بن ِعمران‪ ،‬فقد‬
‫غاب عن قو ِمه أربعين ليل ًة‪ ،‬ثم رج َع إليهم بعد أن قيل‪ :‬قد ما َت‪ ،‬ووالله ليرجع َّن‬
‫رسو ُل الله ﷺ كما رج َع موسى‪ ،‬فل َيقطع َّن أيدي رجا ٍل وأرج َلهم زعموا أن رسو َل‬

‫الله ﷺ مات‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأقبل أبو بك ٍر حتى نز َل على باب المسج ِد حين بلغه الخب ُر‪ ،‬وعم ُر يكلم‬
‫النا َس‪ ،‬فلم يلتفت إلى شي ٍء حتى دخ َل على رسو ِل الله ﷺ في بي ِت عائش َة‪،‬‬
‫ورسو ُل الله ﷺ ُمس اجى في ناحية البي ِت‪ ،‬عليه ُبر ُد ِح َبر ٍة‪ ،‬فأقبل حتى كشف عن‬
‫وج ِه رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬قال‪ :‬ثم أقبل عليه فق َّبله‪ ،‬ثم قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬أما الموت ُة‬

‫التي كت َب اللهُ عليك فقد ُذق َتها‪ ،‬ثم لن تصي َبك بعدها موت ٌة أب ًدا‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم رد ال ُبر َد على وجه رسول الله ﷺ‪ ،‬ثم خرج وعم ُر يكلم النا َس‪،‬‬
‫فقال‪ :‬على ِرسلِك يا عم ُر‪ ،‬أن ِصت‪ ،‬فأبى إلا أن يتك َّلم‪ ،‬فلما رآه أبو بكر لا ُينص ُت‬
‫أقب َل على النا ِس‪ ،‬فلما سم َع النا ُس كلا َمه أقبلوا عليه وتركوا عم َر‪ ،‬فح ِم َد الل َه‬
‫وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أُا النا ُس‪ ،‬إنه من كان يعب ُد محم ًدا فإن محم ًدا قد مات‪ ،‬ومن‬
‫كان يعبد الل َه فإن الله حي لا يموت‪ ،‬قال‪ :‬ثم تلا هذه الآية‪( :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬

‫ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ‬

‫ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ) [آل عمران‪.]500:‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪245‬‬

‫قال‪ :‬فوالله لكأن النا َس لم يعلموا أن هذه الآي َة نزلت حتى تلاها أبو بكر‬
‫يومئ ٍذ‪ ،‬قال‪ :‬وأخذها النا ُس عن أبي بك ٍر‪ ،‬فإنما هي في أفواههم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال أبو هرير َة‪ :‬قال عم ُر‪ :‬والله ما هو إلا أن َس ِمع ُت أبا بكر تلاها‪،‬‬
‫ف َع ِق ْر ُت حتى وقع ُت إلى الأر ِض ما تحم ُلني رجلاي‪ ،‬وعرفت أن رسو َل الله ﷺ‬

‫قد مات‪.‬‬

‫‪ -7‬أمرُ َسقيف ِة بني ساعدةَ‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما ُقب َض رسو ُل الله ﷺ انحا َز هذا الح ُّي من الأنصا ِر إلى‬
‫سع ِد بن ُعباد َة في سقيف ِة بني ساعد َة‪ ،‬واعتز َل عل ُّي بن أبي طالب والزبي ُر بن الع َّوام‬
‫وطلح ُة بن عبيد الله في بيت فاطم َة‪ ،‬وانحا َز بق َّي ُة المهاجرين إلى أبي بك ٍر‪ ،‬وانحا َز‬
‫معهم ُأسي ُد بن ُحضير في بني عب ِد الأشهل‪ ،‬فأتى آ ٍت إلى أبي بك ٍر وعم َر‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫هذا الح َّي من الأنصا ِر مع سع ِد بن عباد َة في سقيف ِة بني ساعد َة قد انحازوا إليه‪،‬‬
‫فإن كان لكم بأم ِر النا ِس حاج ٌة فأدركوا قبل أن َيتفاقم أم ُرهم ورسو ُل الله ﷺ في‬

‫بيته لم ُيفرغ من أم ِره قد َأغلق دونه البا َب أه ُله‪.‬‬
‫قال عم ُر‪ :‬فقلت لأبي بكر‪ :‬انطلق بنا إلى إخوانِنا هؤلاء من الأنصا ِر‪ ،‬حتى‬

‫نن ُظر ما هم عليه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬قال عم َر بن الخطا ِب‪ :‬فانطلقنا َنؤ ُّمهم حتى ل ِق َينا منهم‬
‫رجلان صالحان‪ ،‬فذكرا لنا ما تمالأ عليه القو ُم‪ ،‬وقال‪ :‬أين ُتريدون يا معش َر‬

‫المهاجرين؟‬

‫‪ | 246‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قلنا‪ُ :‬نريد إخواننا هؤلاء من الأنصا ِر‪ ،‬قالا‪ :‬فلا عليكم أن لا َتقربوهم يا‬
‫معش َر المهاجرين‪ ،‬اقضوا أم َركم‪.‬‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬والله لنأتينَّهم‪ ،‬فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيف ِة بني ساعد َة‪ ،‬فإذا‬
‫بين َظهرانيهم رج ٌل ُم َّز ِّم ٌل فقلت‪ :‬من هذا؟‬

‫فقالوا‪ :‬سع ُد بن عباد َة‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬ما له؟‬
‫فقالوا‪َ :‬و ِج ٌع‪.‬‬

‫فلما جلسنا تش َّه َد خطي ُبهم‪ ،‬فأثنى على الله بما هو له أه ٌل‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد‪،‬‬
‫فنحن أنصا ُر الله وكتيب ُة الإسلا ِم‪ ،‬وأنتم يا معش َر المهاجرين رهط منا‪ ،‬وقد َد َّف ْت‬
‫داف ٌة(‪ )1‬من قو ِمكم‪ ،‬قال‪ :‬وإذا هم ُيريدون أن َيحتازونا من أص ِلنا‪ ،‬و َيغ ِصبونا‬
‫الأم َر‪ ،‬فلما سكت أرد ُت أن أتكل َم‪ ،‬وقد َز َّو ْر ُت في نفسي َمقال ًة(‪ )2‬قد أعجبتني‪،‬‬

‫أري ُد أن أق ِّد َمها بين يدي أبي بك ٍر‪ ،‬وكنت أداري منه بع َض الح ِّد‪.‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬على ِرسلك يا عم ُر‪ ،‬فكرهت أن ُأغض َبه‪ ،‬فتكلم‪ ،‬وهو كان‬
‫أعل َم منى وأوق َر‪ ،‬فوالله ما تر َك من كلم ٍة أعجبتني من َتزويري إلا قاَلا في بدُتِه‪،‬‬

‫أو مث َلها أو أفض َل‪ ،‬حتى سكت‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما ما ذكرتم فيكم من خي ٍر‪ ،‬فأنتم له أه ٌل‪ ،‬ولن َتعر َف العر ُب هذا‬
‫الأم َر إلا َلذا الح ِّي من قري ٍش‪ ،‬هم أوس ُط العر ِب نس ًبا ودا ًرا‪ ،‬وقد رضي ُت لكم‬

‫(‪ )1‬ال َّدا َفة‪ :‬الجيش َيد ُّفون نحو العدو أي يدبون‪ ،‬كناية‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ز َّو ْر ُت مقال ًة‪ :‬حسنتها وقومتها‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪247‬‬

‫أح َد هذين الرجلين‪ ،‬فبايعوا أ َُّما شئتم‪ ،‬وأخذ بيدي وبيد أبي عبيد َة بن الجرا ِح‪،‬‬
‫وهو جال ٌس بيننا‪ ،‬ولم أكره شي ًئا مما قا َل غي َرها‪ ،‬كان والله أن ُأق َّد َم فتض َب ُعنقي‪،‬‬

‫لا ُيقربني ذلك إلى إث ٍم‪ ،‬أح َّب إل َّي من أن أتأ َّمر على قو ٍم فيهم أبو بكر‪.‬‬
‫فقال قائ ٌل من الأنصا ِر‪ :‬أنا ُج َذ ْي ُلها المُ َح َّك ُك(‪ )1‬و ُعذي ُقها المُ َر َّج ُب(‪ ،)2‬منا‬

‫أمي ٌر ومنكم أمي ٌر يا معش َر قري ٍش‪.‬‬
‫قال‪ :‬فك ُثر ال َّلغ ُط‪ ،‬وارتفع ِت الأصوا ُت‪ ،‬حتى تخوف ُت الاختلا َف‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫اب ُسط يدك يا أبا بك ٍر‪ ،‬فبسط ي َده‪ ،‬فبايع ُته‪ ،‬ثم بايعه المهاجرون‪ ،‬ثم بايع ُه الأنصا ُر‪،‬‬

‫و َنزونا على سع ِد بن عباد َة(‪ ،)3‬فقال قائ ٌل منهم‪ :‬ق َتل ُتم سع َد بن عباد َة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬قتل الل ُه سع َد بن ُعبادة‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أن ِس بن مالك قال‪ :‬لما ُبوي َع أبو بكر في السقيف ِة وكان‬
‫الغ ُد‪ ،‬جل َس أبو بك ٍر على المِنبر‪ ،‬فقام عم ُر‪ ،‬فتكلم قبل أبي بكر‪ ،‬فح ِمد اللهَ وأثنى‬
‫عليه بما هو أه ُله‪ ،‬ثم قال‪ :‬أُا النا ُس‪ ،‬إني كنت قل ُت لكم بالأم ِس َمقال ًة ما كانت‬
‫مما وجد ُتها في كتاب الله‪ ،‬ولا كانت عه ًدا عهده إل َّي رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ولكني قد‬
‫كنت أرى أن رسو َل الله ﷺ س ُيد ِّبر أم َرنا‪ ،‬يقول‪ :‬يكون آخ َرنا‪ ،‬وإن الله قد أبقى‬
‫فيكم كتا َبه الذي به هدى الل ُه رسو َله ﷺ‪ ،‬فإن اعتصمتم به هداكم اللهُ لما كان هداه‬

‫(‪ُ )1‬ج َذ ْي ُلها المُ َح َّك ُك‪ :‬الجذيل تصغير جذل والجذل هنا عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به وتستريح‬
‫إليه‪ ،‬فتضب به العرب المثل للرجل يستشفى برأيه‬

‫(‪ُ )2‬ع َذ ْي ُقها ال ُم َر َّج ُب‪ :‬عذيق تصغير عذق وهي النخلة بنفسها والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة‬
‫حمله ولعزه على أهله‪ ،‬وتضب به العرب المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه‪.‬‬
‫(‪َ )3‬ن َز ْو َنا على سعد بن عبادة‪ :‬أي وثبنا عليه‪.‬‬

‫‪ | 248‬مختصر السيرة النبوية‬

‫له‪ ،‬وإن اللهَ قد جم َع أم َركم على خي ِركم‪ ،‬صاح ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ثان َي اثنين إذ ُهما‬
‫في الغا ِر‪ ،‬فقوموا فبايعوه‪ ،‬فباي َع النا ُس أبا بك ٍر بيع َة العا َّمة‪ ،‬بعد بيع ِة السقيف ِة‪.‬‬
‫‪ِ -8‬جهاُز رسولِ الله ﷺ ودفُنه‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما ُبويع أبو بكر ‪ ،‬أقب َل النا ُس على جهاز رسو ِل‬
‫الله ﷺ يو َم الثلاثا ِء‪ ،‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر وحسي ُن بن عبد الله وغي ُرهما من‬
‫أصحابنا‪ :‬أن عل َّي بن أبي طالب‪ ،‬والعبا َس بن عب ِد المطلب‪ ،‬والفض َل بن العبا ِس‪،‬‬
‫و ُق َث َم بن العبا ِس‪ ،‬وأسام َة بن زي ٍد‪ ،‬و ُشقرا َن مولى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬هم الذين َو ُلوا‬
‫َغس َله‪ ،‬وأن أو َس بن َخول ٍّي أح َد بني عو ِف بن الخزر ِج‪ ،‬قال لعل ِّي بن أبي طالب‪:‬‬
‫أن ُشدك الل َه يا عل ُّي وح َّظنا من رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وكان أو ٌس من أصحاب رسو ِل الله‬

‫ﷺ وأه ِل بد ٍر‪.‬‬

‫قال‪ :‬ادخل‪ ،‬فدخل فجل َس‪ ،‬وح َض غس َل رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فأسنده عل ُّي بن‬
‫أبي طال ٍب إلى صدره‪ ،‬وكان العبا ُس والفض ُل و ُقث ُم يق ِّلبونه معه‪ ،‬وكان أسام ُة بن‬
‫زيد و ُشقران مولاه‪ ،‬هما اللذان يصبان الما َء عليه‪ ،‬وعل ُّي ُيغ ِّسله‪ ،‬قد أسنده إلى‬
‫صد ِره‪ ،‬وعليه قمي ُصه ُيد ِّل ُكه به من ورائه‪ ،‬لا ُيفضى بي ِده إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وعلي‬
‫يقول‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أطي َبك ح ايا ومي ًتا! ولم ُير من رسو ِل الله ﷺ شي ٌء مما‬

‫ُيرى من الم ِّيت‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما ُفر َغ من غس ِل رسو ِل الله ﷺ ُك ِّفن في ثلاث ِة أثوا ٍب‪:‬‬

‫ثوبين ُصحار َّيين(‪ )1‬و ُبر ِد ِح َبر ٍة‪ُ ،‬أدر َج فيها إدرا ًجا‪.‬‬

‫(‪ُ )1‬ص َحار َّيين‪ :‬نسبة إلى «صحار»‪ ،‬وهي مدينة من اليمن‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪249‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عبا ٍس قال‪ :‬لما أرادوا أن َيحفروا لرسو ِل الله ﷺ‪،‬‬
‫وكان أبو عبيد َة بن الجراح َي َض ُح(‪ )1‬كحفر أه ِل م َّك َة‪ ،‬وكان أبو طلحة زي ُد بن‬
‫سه ٍل هو الذي يح ِفر لأه ِل المدينة‪ ،‬فكان َيل َح ُد‪ ،‬فدعا العبا ُس رجلين‪ ،‬فقال‬
‫لأح ِدهما‪ :‬اذهب إلى أبي عبيد َة بن الجراح‪ ،‬وللآخ ِر‪ :‬اذه ْب إلى أبي طلح َة‪ ،‬اللهم‬
‫ِخ ْر لرسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فوجد صاح ُب أبي طلحة أبا طلح َة‪ ،‬فجاء به‪ ،‬فل َح َد لرسو ِل‬

‫الله ﷺ‪.‬‬
‫فلما ُفر َغ من جها ِز رسو ِل الله ﷺ يو َم الثلاثا ِء‪ُ ،‬وض َع على سري ِره في بيتِه وقد‬
‫كان المسلمون اختلفوا في دفنِه‪ ،‬فقال قائ ٌل‪ :‬ندفنه في مسج ِده وقال قائ ٌل‪ :‬بل ندفنه‬
‫مع أصحابِه‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إني سمعت رسو َل الله ﷺ يقول‪« :‬ما ُقبض نبي إلا‬

‫ُدفن حيث ُيقبض» ف ُرفع فرا ُش رسو ِل الله ﷺ الذي ُتو ِّفي عليه‪ ،‬ف ُحفر له تح َته‪.‬‬

‫ثم دخل النا ُس على رسول الله ﷺ ُيص ُّلون عليه أرسا ًلا‪ ،‬دخل الرجا ُل‪،‬‬
‫حتى إذا فرغوا ُأدخل النسا ُء‪ ،‬حتى إذا فرغ النسا ُء ُأدخل الصبيا ُن‪.‬‬
‫ولم يؤم النا َس على رسو ِل الله ﷺ أ َح ٌد‪.‬‬
‫ثم ُدفن رسو ُل الله ﷺ من و َس ِط اللي ِل ليل َة الأربعاء‪.‬‬

‫وكان الذين نزلوا في قب ِر رسو ِل الله ﷺ عل ُّي بن أبي طالب‪ ،‬والفض ُل بن‬
‫عبا ٍس‪ ،‬و ُقث ُم بن عباس‪ ،‬و ُشقران مولى رسو ِل الله ﷺ‪.‬‬

‫وقد قال أو ُس بن َخول ٍّي لعل ِّي بن أبي طالب‪ :‬يا عل ُّي‪ ،‬أن ُشدك اللهَ‪ ،‬وح َّظنَا من‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال له‪ :‬ان ِز ْل‪ ،‬فنز َل مع القو ِم‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ي ْ َض ُح‪ :‬من الضيح‪ ،‬وهو الشق في وسط القبر‪ ،‬وال َّل ْحد‪ :‬الشق في الجانب‪.‬‬


Click to View FlipBook Version