| 211مختصر السيرة النبوية
فبلغني أن َغطفا َن لما سمعت بمنز ِل رسو ِل الله ﷺ من َخيب َر جمعوا له ،ثم
خرجوا ل ُيظا ِهروا ُو َد عليه ،حتى إذا ساروا َمنْ َق َل ًة( )1سمعوا َخل َفهم في أمواَلم
وأهليهم ِح اسا ،ظنوا أن القو َم قد خالفوا إليهم ،ف َرجعوا على أعقابِهم ،فأقاموا في
أهليهم وأمواَ ِلم ،وخ َّلوا بين رسو ِل الله ﷺ وبين خيب َر.
و َتد َّنى( )2رسو ُل الله ﷺ الأموا َل يأخ ُذها ما ًلا ما ًلا ،ويفتتحها ِحصنًا
ِحصنًا.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما افتتح رسو ُل الله ﷺ من ِحصونهم ما افتتح ،وحاز من
الأموا ِل ما حا َز ،انتهوا إلى ِحصنَيهم :الوطي ِح وال ُّسلالمِ ،وكان آخ َر حصو ِن أهل
خيب َر افتتا ًحا ،فحا َصرهم رسو ُل الله ﷺ بض َع ع ْشر َة ليل ًة.
وحاصر رسو ُل الله ﷺ أه َل خيب َر في حصنيهم :الوطي ِح وال ُّسلالمِ ،حتى إذا
أيقنوا باَلَل َك ِة ،سألوه أن ُيس ِّيرهم وأن يح ِق َن َلم دما َءهم؛ ففعل.
وكان رسو ُل الله ﷺ قد حاز الأموا َل ُك َّلها :ال َّش َّق ونطا َة والكتيب َة وجميع
ُحصونِهم ،إلا ما كان من ذينك الحصنين.
فلما سمع بهم أه ُل َف َدك قد صنعوا ما صنعوا ،بعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ
يسألونه أن ُيس ِّيرهم ،وأن يحق َن دما َءهم ،ويخلوا له الأموا َل؛ ففع َل.
فكانت خيب ُر في ًئا بين المسلمين ،وكانت َف َد ُك خالص ًة لرسو ِل الله ﷺ؛ لأنهم
لم يُجلبوا عليها بخي ٍل ولا ِركا ٍب.
(َ )1منْ َق َلة :مرحلة من مراحل السفر.
(َ )2ت َد َّنى :أي دنا منها شيئا بعد شيء.
مختصر السيرة النبوية|210
-8أمرُ الشاةِ المَسمومةِ
فلما اطمأ َّن رسو ُل الله ﷺ أهدت له زين ُب بن ُت الحارث -امرأ ُة س َّلام بن
ِمشك ٍم -شا ًة َم ْصلِ َّي ًة( ،)1وقد سألت :أ َّي عضو من الشاة أح ُّب إلى رسو ِل الله
ﷺ؟
فقيل َلا :الذرا ُع؛ فأكثرت فيها من ال ُّس ِّم ،ثم سمت سائ َر الشا ِة ،ثم جاءت
بها ،فلما وضعتها بين يدي رسو ِل الله ﷺ تناو َل الذرا َع ،فلاك منها ُمضغ ًة ،فلم
ُي ِسغها ،ومعه بِش ُر بن البرا ِء بن َمعرور قد أخذ منها كما أخذ رسو ُل الله ﷺ ،فأما
بِش ٌر فأسا َغها ،وأما رسو ُل الله ﷺ فل َفظها ثم قال« :إن هذا العظ َم ل ُيخبرني أنه
َمسموم» ،ثم دعا بها ،فاعترفت.
فقال« :ما ح َملك على ذلك؟» قالتَ :بلغ َت من قومي ما لم يَ ْخ َف عليك،
فقلت :إن كان َملِ ًكا استرح ُت منه ،وإن كان نب ايا فس ُيخبر.
قال :فتجاوز عنها رسو ُل الله ﷺ ،ومات بِش ٌر من أكلته التي أك َل.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني مروا ُن بن عثما َن قال :كان رسو ُل الله ﷺ قد قال
في مر ِضه الذي توفي فيه ،ودخلت أ ُّم بش ٍر بنت البراء بن معرور تعو ُده« :يا أ َّم بش،
إن هذا الأوان وجد ُت فيه انقطا َع َأب َهري( )2من الأك َلة التي أكلت مع أخيك
بِخيب َر».
(َ )1م ْص ِل َّية :مشوية.
( )2الأَ ْب َهر :عرق إذا انقطع مات صاحبه.
| 212مختصر السيرة النبوية
قال :فإن كان المسلمون ل َيرون أن رسو َل الله ﷺ مات شهي ًدا ،مع ما أكرمه
اللهُ به من النبو ِة.
ِ -9ذك ُر قدوم جعف َر بن أبي طالب من الحبشةِ وحديث المهاجرين إلى الحبش ِة
قال ابن هشا ٍم :عن الشعب ِّي :أن جعف َر بن أبي طالب ،قدم على
رسو ِل الله ﷺ يو َم فتح خيب َر ،فق َّبل رسو ُل الله ﷺ بين عينيه ،والتز َمه وقال« :ما
أدري بأ ِيهما أنا ُأ َس :بفتح خيب َر ،أم بقدوم جعف َر؟».
-11عُمرُة القضاء في ذي القعدة سن َة سبع
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما رجع رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة من خيب َر ،أقام بها
شهري ربي ٍع وجُماديين ورج ًبا وشعبان ورمضا َن وشوا ًلا ،يبعث فيما بين ذلك من
َغزوه وسراياه ﷺ ،ثم خرج في ذي القعد ِة في الشهر الذي ص َّده فيه المشركون
ُمعتم ًرا عمر َة القضاء ،مكان عمرتِه التي صدوه عنها.
قا َل اب ُن إسحا َق :وخر َج معه المسلمون ممن كان ُص َّد معه في عمرتِه تلك،
وهي سن َة سبع ،فلما سم َع به أه ُل م َّك َة خرجوا عنه ،وتح َّدثت قري ٌش بينها أن محم ًدا
وأصحا َبه في ُعسرة وجهد وشد ٍة.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عباس قال :ص ُّفوا له عند دار الندوة ل َينظروا إليه
وإلى أصحابِه ،فلما دخ َل رسو ُل الله ﷺ المسج َد اضطب َع بردا ِئه ،وأخرج َع ُض َده
اليمنى ثم قال« :رحم الله امرأ أراهم اليو َم من نف ِسه قوة» ،ثم استلم الرك َن ،وخرج
ُُرول وُرول أصحا ُبه معه ،حتى إذا واراه البي ُت منهم ،واستل َم الرك َن اليمان َّي ،مشى
حتى يستلم الركن الأسو َد ،ثم هرو َل كذلك ثلاث َة أطوا ٍف ،ومشى سائ َرها.
مختصر السيرة النبوية|213
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عباس أن رسو َل الله ﷺ تز َّوج ميمون َة بن َت
الحار ِث في سفره ذلك وهو حرا ٌم ،وكان الذي ز َّوجه إياها العبا ُس بن عبد
المطلب.
قا َل اب ُن إسحا َق :فأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة ثلاثا ،فأتاه ُحويط ُب بن عبد
ال ُع َّزى في نف ٍر من قري ٍش في اليوم الثال ِث ،وكانت قري ٌش قد و َّكلته بإخراج رسو ِل
الله ﷺ من م َّك َة ،فقالوا له :إنه قد انقضى أج ُلك ،فاخ ُرج عنا ،فقال النب ُّي ﷺ:
«وما َعليكم لو َترك ُتموني فأعرس ُت بين أظ ُهركم ،و َصنَعنا لكم طعاما
ف َحضرتوه».
قالوا :لا حاج َة لنا في طعا ِمك ،فاخ ُرج عنا.
فخرج رسو ُل الله ﷺ ،وخ َّلف أبا راف ٍع مولاه على ميمون َة ،حتى أتاه بها
بِ َس ِر ٍف ،فبنى بها رسو ُل الله ﷺ هنالك ،ثم انصر َف رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة في
ذي الحج ِة.
ِ -11ذكرُ غزوةِ مُؤتةَ في ُجمادى الأولى سنةَ ثمان
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ُعرو َة بن الزبي ِر قال :بعث رسو ُل الله ﷺ بع َث ُه إلى
ُمؤت َة في جُمادى الأولى سنة ثمان ،واستعمل عليهم زي َد بن حارث َة وقال :إن أصي َب
زي ٌد فجعف ُر بن أبي طالب على النا ِس ،فإن أصي َب جعف ٌر فعبد الله بن رواح َة على
الناس.
فتجه َز النا ُس ثم تهيئوا للخرو ِج ،وهم ثلاث ُة آلاف ،فلما حض خرو ُجهم
ودع النا ُس أمرا َء رسو ِل الله ﷺ وسلموا عليهم.
| 214مختصر السيرة النبوية
ثم مضوا حتى نزلوا معا َن من أر ِض الشأم ،فبلغ النا َس أن ِهرق َل قد نزل
مآ َب من أرض ال َبلقاء ،في مئ ِة أل ٍف من الروم ،وانضم إليهم من لخْ ٍم و ُجذا َم
والقي ِن و َب ْهرا َء و َبِل ٍّي مئ ُة أل ٍف منهم عليهم رج ٌل من َبِل ٍّي ثم أح ُد إراش َةُ ،يقال له:
مال ُك بن زافل َة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على َمعان ليلتي ِن يفكرون في أم ِرهم وقالوا:
نكت ُب إلى رسو ِل الله ﷺ ،فنُخب ُره بعدد عد ِّونا ،فإما أن َيم َّدنا بالرجال ،وإما أن
يأ ُم َرنا بأمره؛ فنمضي له.
قال :فش َّجع النا َس عب ُد الله بن رواح َة ،وقال :يا قو ِم ،والله إن التي َتكرهون
للتي خرج ُتم َتطلبون :الشهاد َة ،وما ُنقاتل النا َس بعد ٍد ولا قو ٍة ولا كثر ٍة ،ما
ُنقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أك َرمنا الل ُه به ،فان َط ِلقوا فإنما هي إحدى ال ُحسنَيين :إما
ظهو ٌر وإما شهاد ٌة.
قال :فقال النا ُس :قد والله صد َق اب ُن رواح َة .فمضى الناس.
قا َل اب ُن إسحا َق :فمضى النا ُس ،حتى إذا كانوا ب ُتخو ِم ال َبلقاء لق َيتهم جمو ُع
هرق َل ،من الرو ِم والعرب ،بقري ٍة من قرى ال َبلقاء ُيقال َلاَ :مشار ُف ،ثم دنا العد ُّو،
وانحا َز المسلمون إلى قري ٍة ُيقال َلاُ :مؤت ُة ،فالتقى النا ُس عندها ،فتع َّبأ َلم
المسلمون ،ف َجعلوا على َمي َمنتهم رج ًلا من بني ُعذر َة ُيقال لهُ :قطب ُة بن قتاد َة،
وعلى ميسرتهم رج ًلا من الأنصا ِر ُيقال لهُ :عباي ُة بن مالك.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم التقى النا ُس واقتتلوا ،فقات َل زي ُد بن حارث َة براي ِة
رسو ِل الله ﷺ حتى شا َط في رما ِح القو ِم.
مختصر السيرة النبوية|215
ثم أخذها جعف ٌر فقات َل بها ،حتى إذا َأل ْحَ َم ُه القتا ُل( )1اقتح َم عن فر ٍس له
شقرا َء ف َعقرها ،ثم قات َل القو َم حتى ُقتل ،فكان جعفر أ َّو َل رجل من المسلمين َعق َر
في الإسلام.
ثم أخذ الراي َة ثاب ُت بن أقر َم أخو بني العجلان ،فقال :يا معش َر المسلمين
اصط ِلحوا على رج ٍل منكم ،قالوا :أنت ،قال :ما أنا بفاع ٍل ،فاصطلح النا ُس على
خال ِد بن الوليد ،فلما أخذ الراي َة داف َع القو َم ،وحاشى بهم ،ثم انحا َز وان ِحيز عنه،
حتى انصر َف بالنا ِس.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما أصي َب القو ُم قال رسو ُل الله ﷺ -فيما بلغني« :-أخذ
الراي َة زي ُد بن حارث َة فقاتل بها حتى ُقت َل شهيدا ،ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى
ُقتل شهيدا».
قال :ثم صمت رسو ُل الله ﷺ حتى تغيرت وجوه الأنصا ِر ،وظنوا أنه قد
كان في عب ِد الله بن رواح َة بعض ما َيكرهون.
ثم قال« :ثم أخذها عب ُد الله بن رواح َة فقاتل بها حتى ُقتل شهيدا».
ثم قال« :لقد ُرفعوا إ َّل في الجن ِة -فيما يرى النائم -على ُس ٍر من ذه ٍب،
فرأيت في سي ِر عب ِد الله بن رواحة ازورارا عن سي َر ْي صاح َبيه ،فقلت :ع َّم هذا؟
ف ِقيل ل :مض َيا وتردد عب ُد الله بع َض التد ِد ،ثم مضى».
فلما انصر َف خال ٌد بالناس أقبل بهم قاف ًلا.
(َ )1أل ْ َح َم ُه القتا ُل :احتوشه وأرهقه.
| 216مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ُعرو َة بن الزبير قال :لما دنوا من حول المدين ِة تل َّقاهم
رسو ُل الله ﷺ والمسلمون.
قال :ولقيهم الصبيا ُن َيشت ُّدون ،ورسو ُل الله ﷺ ُمقب ٌل مع القو ِم على داب ٍة
فقال« :خذوا الصبيا َن فاحملوهم ،وأعطوني اب َن جعف ٍر».
ف ُأت َي بعبد الله فأخذه فحم َله بين يديه.
قال :وجعل النا ُس َيحثون على الجيش الترا َب ،ويقولون :يا فرا َر ،فررتم في
سبي ِل الله!
قال :فيقول رسو ُل الله ﷺ« :ليسوا بال ُف َّرار ،ولكنهم ال ُك َّرا ُر إن شاء الل ُه
تعالى».
-12فتحُ مك َة في شهر رمضا َن سنة ثمان
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بعد بعثِه إلى مؤت َة جُمادى الآخرة
ورج ًبا.
ثم إن بني بك ِر بن عبد َمناة َع َدت على ُخزاع َة ،وهم على ما ٍء َلم بأسف ِل مك َة
ُيقال له :الوتير ،وكان الذي ها َج ما بين بني بك ٍر و ُخزاع َة أن رج ًلا من بني
الحضم ِّي واسمه مالك بن ع َّباد -و ِحل ُف الحضم ِّي يومئذ إلى الأسود بن َر ْزن-
خرج تاج ًرا ،فلما توسط أر َض ُخزاع َة ،عدوا عليه ف َقتلوه ،وأخذوا ما َله ،ف َعد ْت
بنو بكر على رج ٍل من خزاع َة ف َقتلوه ،ف َعدت خزاع ُة قبيل الإسلام على َبني
الأسود بن رزن ال ِّديل ِّي ،وهم َمنخ ُر بني كنان َة وأشرا ُفهم :سلمى و ُكلثو ٌم وذؤي ٌب
فقتلوهم بعرف َة عند أنصا ِب الحر ِم.
مختصر السيرة النبوية|217
قا َل اب ُن إسحا َق :فبينا بنو بك ٍر وخزاع ُة على ذلك حجز بينهم الإسلا ُم،
وتشاغ َل النا ُس به ،فلما كان صلح الحديبي ِة بين رسول الله ﷺ وبين قري ٍش ،كان
فيما َشرطوا لرسو ِل الله ﷺ وشر َط َلم :أنه من أح َّب أن يدخ َل في عق ِد رسو ِل الله
ﷺ وعه ِده فليد ُخ ْل فيه ،ومن أح َّب أن يدخل في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم فليدخل
فيه؛ فدخلت بنو بك ٍر في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم ،ودخلت خزاع ُة في عقد رسو ِل الله
ﷺ وعه ِده.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما كانت اَلدن ُة اغ َتنَمها بنو الدي ِل من بني بكر من
خزاع َة ،وأرادوا أن ُيصيبوا منهم ثأ ًرا بأولئك النف ِر الذين أصابوا منهم ببني
الأسو ِد بن َر ْز ٍن ،فخرج نوف ُل بن معاوية الديلي في بني الدي ِل ،وهو يومئذ
قائ ُدهم ،وليس ك ُّل بني بك ٍر تاب َعه حتى َب َّيت خزاع َة وهم على الوتير -ما ٍء َلم-
فأصابوا منهم رج ًلا ،و َتحاوزوا واقتتلوا ،و َرفدت بني بك ٍر قري ٌش بالسلا ِح ،وقاتل
معهم من قري ٍش من قاتل بالليل ُمستخف ًيا ،حتى حازوا خزاع َة إلى الحر ِم.
فلما انتهوا إليه ،قالت بنو بك ٍر :يا نوف ُل ،إنا قد دخلنا الحر َم ،إَلَك إَلَك،
فقال كلم ًة عظيم ًة :لا إله له اليو َم ،يا بني بك ٍر أصيبوا ثأ َركم ،ف َلعمري إنكم
ل َتسرقون في الحر ِم ،أفلا ُتصيبون ثأ َركم فيه ،وقد أصابوا منهم ليل َة َب َّيتوهم بالوتير
رج ًلا ُيقال لهُ :من ِّبه
فلما دخلت خزاع ُة مك َة ،لجئوا إلى دار ُبدي ِل بن ورقا َء ،ودار مو ًلى َلم ُيقال
له :راف ٌع.
| 218مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما تظاهرت بنو بك ٍر وقري ٌش على خزاع َة ،وأصابوا منهم
ما أصابوا ،و َنقضوا ما كان بينهم وبين رسو ِل الله ﷺ من العه ِد والميثا ِق بما
استحلوا من ُخزاع َة ،وكان في عق ِده وعه ِده ،خرج عم ُرو بن سالم الخزاع ُّي ،ثم
أ َح ُد بني كع ٍب ،حتى ق ِدم على رسو ِل الله ﷺ المدين َة ،وكان ذلك مما هاج فت َح
م َّك َة ،فوقف عليه وهو جال ٌس في المسج ِد بين ظهراني النا ِس ،فقال:
يـــــا ر ِّب إني ناشـــــ ٌد محمـــــ ًدا
ِحلـــ َف أبينـــا وأبيـــه الأتلـــدا
قـــد كنـــتم ولـــ ًدا وكنـــا والـــ ًدا
ُث َّمــ َت أســلمنا فلــم ننــ ِزع يــدا
فانصـــر هــداك الل ُه نصـــ ًرا أعتــدا
واد ُع عبــــا َد الله يــــأتوا مــــددا
قا َل اب ُن إسحا َق :فقال رسو ُل الله ﷺُ « :نِص َت يا عم َرو ب َن سالمٍ».
ثم خرج ُبديل بن ورقا َء في نف ٍر من خزاع َة حتى قدموا على رسو ِل الله ﷺ
المدين َة ،فأخبروه بما أصي َب منهم ،وب ُمظاهر ِة قري ٍش بني بك ٍر عليهم ،ثم انصرفوا
راجعين إلى مك َة ،وقد قال رسو ُل الله ﷺ للنا ِس« :كأنكم بأبي سفيا َن قد جا َءكم
ليش َّد العق َد ،و َيزي َد في المد ِة».
ثم َخر َج أبو سفيان حتى قد َم على رسو ِل الله ﷺ المدين َة ،فكلمه ،فلم ي ُر َّد
عليه شي ًئا.
مختصر السيرة النبوية|219
ثم ذهب إلى أبي بك ٍر ،فك َّلمه أن يكلم له رسو َل الله ﷺ ،فقال :ما أنا بفاع ٍل.
ثم أتى عم َر بن الخطاب فك َّلمه ،فقال :أأنا أشف ُع لكم إلى رسو ِل الله ﷺ؟!
فوالله لو لم أجد إلا ال َّذ َّر لجاهد ُتكم به.
ثم خرج فدخل على عل ِّي بن أبي طالب رضوا ُن الله عليه ،وعنده فاطم ُة بن ُت
رسو ِل الله ﷺ ورضي عنها ،وعندها حس ُن بن عل ٍّي -غلا ٌم يد ُب بين يدُا -فقال:
يا عل ُّي ،إنك أم ُّس القو ِم بي رح ًما ،وإني قد جئت في حاج ٍة ،فلا أرجعن كما جئ ُت
خائ ًبا ،فاشفع لي إلى رسو ِل الله ،فقال :وي َحك يا أبا سفيا َن! والله لقد عز َم رسو ُل
الله ﷺ على أم ٍر ما َنستطيع أن نك ِّل َمه فيه.
فالتفت إلى فاطم َة فقال :يا ابن َة محم ٍد ،هل لك أن تأ ُمري ُبن َّيك هذا ف ُيجي َر
بين الناس ،فيكون س ِّي َد العر ِب إلى آخر الده ِر؟
قالت :والله ما بلغ ُبن َّي ذاك أن يجي َر بين النا ِس ،وما يجير أح ٌد على رسو ِل الله
ﷺ.
قال :يا أبا الحس ِن ،إني أرى الأمو َر قد اشتدت عل َّي؛ فانصحني.
قال :والله ما أعل ُم لك شي ًئا ُيغني عنك شي ًئا ،ولكنك س ِّي ُد بني كنان َة ،فقم
فأجر بين الناس ،ثم الحق بأر ِضك.
قال :أو ترى ذلك ُمغن ًيا عني شي ًئا؟
قال :لا والله ،ما أظنه ،ولكني لا أج ُد لك غي َر ذلك.
فقام أبو سفيا َن في المسجد ،فقال :أُا النا ُس ،إني قد أ َجر ُت بين النا ِس ،ثم
| 201مختصر السيرة النبوية
ركب بعي َره فانطلق.
وأمر رسو ُل الله ﷺ بال ِجها ِز ،وأمر أه َله أن يُج ِّهزوه ،ثم إن رسو َل الله ﷺ
أعلم النا َس أنه سائ ٌر إلى مك َة ،وأمرهم بالج ِّد والته ُّيؤ ،وقال« :الله َّم خذ العيو َن
والأخبا َر عن قريش حتى نبغ َتها في بلادها» ،فتج َّهز النا ُس.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عبد الله بن عبا ٍس قال :ثم مضى رسو ُل الله ﷺ
لس َفره ،واستخل َف على المدين ِة أبا ُره ٍم ُكلثو َم بن ُحصي ٍن ال ِغفار َّي ،وخرج لعش ٍر
مضين من رمضا َن.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم مضى حتى نزل َم َّر الظهرا ِن في عشرة آلا ٍف من
المسلمين ،فلما نز َل رسو ُل الله ﷺ َم َّر الظهران ،وقد ُع ِّميت الأخبا ُر عن قري ٍش،
فلم يأتهم خب ٌر عن رسو ِل الله ﷺ ،ولا يدرون ما هو فاع ٌل ،وخر َج في تلك الليالي
أبو سفيا َن بن حرب وحكي ُم بن ِحزام و ُبديل بن ورقا َء يتحسسون الأخبا َر،
وينظرون هل َيجدون خب ًرا أو َيسمعون به ،وقد كان العبا ُس بن عبد المطل ِب لقي
رسو َل الله ﷺ ببع ِض الطري ِق.
فلما نزل رسو ُل الله ﷺ َم َّر الظهرا ِن ،قال العبا ُس بن عبد المطل ِب :فقلت:
واصبا َح قري ٍش ،والله لئن دخل رسو ُل الله ﷺ م َّك َة ُعنو ًة قبل أن يأتوه ف َيستأمنوه،
إنه َللا ُك قري ٍش إلى آخ ِر الده ِر.
قال :فجلس ُت على بغل ِة رسو ِل الله ﷺ البيضا ِء ،فخرجت عليها.
مختصر السيرة النبوية|200
قال :حتى جئ ُت الأرا َك ،فقلتَ :ل َع ِّلي أجد بع َض الح َّطاب ِة أو صاح َب لبن أو
ذا حاج ٍة يأتي م َّك َة ،فيخب َرهم بمكان رسو ِل الله ﷺ ،ليخرجوا إليه فيستأمنوه قب َل
أن َيدخلها عليهم ُعنو ًة.
قال :فوالله إني لأسير عليها ،وألتم ُس ما خرج ُت له ،إذ سمعت كلا َم أبي
سفيان و ُبديل بن ورقا َء ،وهما يتراجعان ،وأبو سفيا َن يقول :ما رأيت كالليل ِة
نيرا ًنا قط ولا عسك ًرا.
قال :يقول ُبدي ٌل :هذه والله ُخزاع ُة ح َمشتها الحر ُب.
قال :يقول أبو سفيا َنُ :خزاع ُة أذ ُّل وأق ُّل من أن تكون هذه نيرانُها
وعسك ُرها.
قال :فعرفت صو َته ،فقلت :يا أبا حنظل َة ،فعرف صوتي ،فقال :أبو الفضل!
قال :قلت :نعم ،قال :ما لك؟ فداك أبي وأمي.
قال :قلت :وي َحك يا أبا ُسفيا َن ،هذا رسو ُل الله ﷺ في النا ِس ،واصبا َح
ُقري ٍش والله.
قال :فما الحيل ُة؟ فداك أبي وأمي.
قال :قلت :والله لئن ظ ِفر بك ل َيضبن ُعن َقك ،فاركب في َع ُجز هذه البغل ِة
حتى آت َي بك رسو َل الله ﷺ فأستأ ِمنُه لك.
قال :فركب خلفي ورجع صاحباه.
| 202مختصر السيرة النبوية
قال :فجئ ُت به ،كلما مرر ُت بنا ٍر من نيران المسلمين قالوا :من هذا؟ فإذا
رأوا بغل َة رسو ِل الله ﷺ وأنا عليها ،قالواَ :ع ُّم رسو ِل الله ﷺ على بغلته.
حتى مررت بنا ِر عم َر بن الخطاب ،فقال :من هذا؟
وقام إل َّي ،فلما رأى أبا سفيان على َع ُجز الداب ِة ،قال :أبو سفيان عد ُّو الله!
الحمد لله الذي أمكن منك بغي ِر عق ٍد ولا عه ٍد ،ثم خر َج يشت ُّد نحو رسو ِل الله
ﷺ ،وركضت البغل ُة ،فسبقته بما تسبق الداب ُة البطيئة الرج َل البطيء.
قال :فاقتحم ُت عن البغل ِة ،فدخلت على رسو ِل الله ﷺ ،ودخل عليه عم ُر،
فقال :يا رسو َل الله ،هذا أبو سفيان قد أمكن الل ُه منه بغير عق ٍد ولا عه ٍد ،فدعني
فلأضب عن َقه.
قال :قلت :يا رسو َل الله ،إني قد أجر ُته ،ثم جلس ُت إلى رسو ِل الله ﷺ،
فأخذ ُت برأ ِسه ،فقلت :والله لا يناجيه الليل َة دوني رج ٌل ،فلما أكث َر عم ُر في شأنِه،
قال :قلت :مه ًلا يا عم ُر ،فوالله أن لو كان من بني عد ِّي بن كع ٍب ما قل َت هذا،
ولكنك قد عرف َت أنه من رجا ِل بني عبد َمنا ٍف.
فقال :مهلا يا عبا ُس ،فوالله لإسلا ُمك يو َم أسلم َت كان أح َّب إل َّي من
إسلا ِم الخطاب لو أسل َم ،وما بي إلا أني قد عرف ُت أن إسلا َمك كان أح َّب إلى
رسو ِل الله ﷺ من إسلا ِم الخطا ِب لو أسلم.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :اذه ْب به يا عبا ُس إلى رحلِك ،فإذا أصبحت فأتني
به».
مختصر السيرة النبوية|203
قال :فذهب ُت به إلى رحلي ،فبات عندي ،فلما أصب َح غدو ُت به إلى رسو ِل الله
ﷺ ،فلما رآه رسو ُل الله ﷺ ،قال« :وي َحك يا أبا سفيا َن ،ألم يأ ِن لك أن تعل َم أنه لا
إله إلا اللهُ؟»
قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحل َمك وأكر َمك وأو َصلك ،والله لقد ظننت أن
لو كان مع الله إل ٌه غي ُره لقد أغنى عني شي ًئا بعد.
قال« :ويحك يا أبا ُسفيا َن! ألم يأن لك أن تعل َم أني رسو ُل الله؟»
قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحل َمك وأكر َمك وأوص َلك! أما هذه والله فإن في
النفس منها حتى الآن شي ًئا.
فقال له العبا ُس :ويحك! أسلِم واشهد أن لا إل َه إلا الله ،وأن محم ًدا رسو ُل
الله قبل أن ُتض َب عن ُقك.
قال :فشهد شهاد َة الح ِّق ،فأسلم.
قال العبا ُس :قلت :يا رسو َل الله ،إن أبا ُسفيان رج ٌل يحب هذا الفخ َر،
فاجعل له شي ًئا.
قال« :نعم ،من دخل دا َر أبي ُسفيا َن فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو آمن ،ومن
دخل المسج َد فهو آمن».
فلما ذهب لينصرف قال رسو ُل الله ﷺ« :يا عبا ُس ،احبِسه ب َمضي ِق الوادي
عند َخ ْط ِم الجب ِل( ،)1حتى ت َّر به جنو ُد الله فيراها».
(َ )1خ ْطم الجبل :ما خرج منهونتأ من بعض حجارته.
| 204مختصر السيرة النبوية
قال :فخرجت حتى حبس ُته ب َمضي ِق الوادي ،حيث أمرني رسو ُل الله ﷺ أن
أحب َسه.
قال :وم َّرت القبائ ُل على راياتها ،كلما مرت قبيل ٌة قال :يا عبا ُس ،من هذه؟
فأقولُ :سلي ٌم ،فيقول :ما لي ولسليم؟! ثم تم ُّر القبيل ُة فيقول :يا عبا ُس ،من
هؤلاء؟ فأقولُ :مزين ُة ،فيقول :ما لي ولمزين َة؟! حتى نفدت القبائ ُل ،ما تمر به قبيل ٌة
إلا يسألني عنها ،فإذا أخبر ُته بهم ،قال :ما لي ولبني فلان؟! حتى م َّر رسو ُل الله
ﷺ في كتيبته الخضاء فيها المهاجرون والأنصار ،لا ُيرى منهم إلا الحَد ُق
من الحدي ِد ،فقال :سبحا َن الله! يا عبا ُس ،من هؤلاء؟
قال :قلت :هذا رسو ُل الله ﷺ في ال ُمهاجرين والأنصار.
قال :ما لأح ٍد بهؤلاء ِقب ٌل ولا طاق ٌة ،والله يا أبا الفض ِل ،لقد أصب َح ملك ابن
أخيك الغدا َة عظي ًما.
قال :قلت :يا أبا سفيان ،إنها النبو ُة .قال :فنعم إذن.
قال :قلت :النَّجا َء إلى قو ِمك ،حتى إذا جاءهم صر َخ بأعلى صوته :يا معش َر
قري ٍش ،هذا محم ٌد قد جا َءكم فيما لا ِق َب َل لكم به ،فمن دخل دا َر أبي سفيا َن فهو
آم ٌن.
قالوا :قاتلك الله! وما ُتغني عنا دا ُرك.
قال :ومن أغل َق عليه با َبه فهو آم ٌن ،ومن دخ َل المسجد فهو آمن ،فتف َّرق
النا ُس إلى دو ِرهم وإلى المسج ِد.
مختصر السيرة النبوية|205
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر أن رسو َل الله ﷺ لما انتهى إلى
ذي ُط َوى وقف على راحلته معت ِج ًرا( )1ب ُش َّق ِة ُبر ِد ِح َبر ٍة حمراء ،وإن رسو َل الله ﷺ
ل َيض ُع رأ َسه تواض ًعا لله حين رأى ما أك َرمه الل ُه به من الفت ِح ،حتى إن ُعثنو َنه ليكاد
َيم ُّس واسط َة الرح ِل.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح أن رسول الله ﷺ حين
ف َّرق جي َشه من ذي ُطوى أمر الزبي َر بن العوا ِم أن يدخل في بع ِض الناس من
ُك ًدى ،وكان الزبي ُر على ال ُمجنِّب ِة ال ُيسرى ،وأم َر سع َد بن ُعباد َة أن يدخل في بعض
النا ِس من َكداء.
قا َل اب ُن إسحا َق :فزعم بع ُض أهل العلم أن سع ًدا حين ُو ِّجه داخ ًلا قال:
اليو ُم يو ُم المَلحمة ،اليو ُم ُتستحل الحُرمة.
فسمعها رجل من المهاجرين فقال :يا رسو َل الله ،اسمع ما قال سع ُد بن
عباد َة ،ما نأمن أن يكون له في قري ٍش صول ٌة.
فقال رسو ُل الله ﷺ لعل ِّي بن أبي طال ٍب« :أد ِر ْكه ،فخذ الراي َة منه فكن أنت
الذي تدخ ُل بها».
قا َل اب ُن إسحا َق :وقد حدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح في حديثه أن رسو َل الله
ﷺ أمر خال َد بن الولي ِد ،فدخ َل من ال ِّلي ِط أسف َل م َّك َة ،في بعض الناس ،وكان
خال ٌد على المُج ِّنب ِة ال ُيمنى ،وفيها أسل ُم وسليم و ِغفار و ُمزينة و ُجهين ُة وقبائ ُل من
قبائل العرب.
( )1الا ْعتِ َجار :لف العمامة على الرأس.
| 206مختصر السيرة النبوية
وأقبل أبو عبيد َة ب ُن الج َّراح بالصف من المسلمين ينصب لم َّك َة بين يدي
رسو ِل الله ﷺ ،ودخل رسو ُل الله ﷺ من أذاخ َر ،حتى نزل بأعلى م َّك َة ،و ُضبت
له هنالك ُق َّبته.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني عب ُد الله بن أبي َنجي ٍح وعب ُد الله بن أبي بكر أن
صفوا َن بن أم َّية وعكرم َة بن أبي جه ٍل و ُسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا نا ًسا
بالخَند َم ِة ل ُيقاتلوا ،وقد كان حِما ُس بن قي ٍس ُيعد سلا ًحا قبل دخول رسو ِل الله ﷺ،
و ُيصلح منه ،ثم شهد الخَندم َة مع صفوا َن و ُسهي ٍل وعكرم َة ،فلما لق َيهم المسلمون
من أصحا ِب خال ِد بن الولي ِد ،ناوشوهم شي ًئا من قتا ٍل.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان رسو ُل الله ﷺ قد ع ِه َد إلى أمرائه من المسلمين -
حين أمرهم أن يدخلوا م َّك َة -أن لا ُيقاتلوا إلا من قا َتلهم ،إلا أنه قد ع ِه َد في نف ٍر
س َّماهم أمر بقتلهم ،وإن ُوجدوا تحت أستا ِر الكعبة.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن صفية بنت َشيب َة أن رسو َل الله ﷺ لما نزل م َّك َة
واطمأن النا ُس ،خر َج حتى جاء البي َت ،فطا َف به سب ًعا على را ِحلتِه ،يستل ُم الرك َن
ب ِم ْح َج ٍن( )1في يده ،فلما قضى طوا َفه ،دعا عثما َن بن طلح َة فأخذ منه مفتا َح الكعب ِة،
ف ُفتحت له ،ف َد َخلها ،فوجد فيها حَمام ًة من ِعيدا ٍن ف َك َس َرها بيده ثم ط َر َحها ،ثم
وقف على با ِب الكعب ِة وقد اس ُتكِ َّف له النا ُس( )2في المسج ِد.
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني بع ُض أهل العلم أن رسو َل الله ﷺ قام على باب
الكعب ِة فقال« :لا إله إلا اللهُ وح َده لا شري َك لهَ ،صدق وع َده ،ونِ َص عب َده ،وهز َم
( )1المِ ْح َجن :العصا المعو َّجة.
( )2ا ْس َت َك َّف القو ُم حول الشيء :أي أحاطوا به ينظرون إليه.
مختصر السيرة النبوية|207
الأحزا َب وح َده ،ألا كل مأ ُثر ٍة أو د ٍم أو مال ُي َّدعى فهو تحت َق َد َم َّي هاتين إلا
سدان َة البيت و ِسقاي َة الحاج.
ألا وقتي ُل الخطأ ِشب ِه العمد بالسو ِط والعصا ،ففيه الدي ُة ُمغ َّلظة ،مئة من
الإبل ،أربعون منها في بطونها أولادها.
يا مع َش قري ٍش ،إن الل َه قد أذهب عنكم نخو َة الجاهلي ِة ،وتعظ َمها بالآباء،
النا ُس من آد َم ،وآد ُم من ترا ٍب» ،ثم تلا هذه الآية(« :ﭵﭶﭷﭸﭹﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [ال ُح ُجرات»]13:
الآية كلها.
ثم قال« :يا مع َش قري ٍش ،ما ترون أني فاعل فيكم؟».
قالوا :خي ًرا ،أ ٌخ كريم ،واب ُن أخ كري ٍم.
قال« :اذهبوا فأنتم الطلقا ُء».
ثم جلس رسو ُل الله ﷺ في المسج ِد ،فقام إليه عل ُّي بن أبي طال ٍب و ِمفتا ُح
الكعبة في يده ،فقال :يا رسو َل الله ،اجمع لنا ال ِحجاب َة مع السقاي ِة صلى الله عليك،
فقال رسو ُل الله ﷺ« :أين عثما ُن بن طلح َة؟» ،ف ُدعي له ،فقال« :هاك مفتا َحك يا
عثما ُن ،اليو َم يو ُم بر ووفا ٍء».
قال اب ُن هشا ٍم :وبلغني عن يح َيى بن سعي ٍد أن النب َّي ﷺ حين افتتح م َّك َة
ودخلها ،قام على الصفا يدعو اللهَ ،وقد أحدقت به الأنصا ُر ،فقالوا فيما بينهم:
أترون رسو َل الله ﷺ ،إذ فتح الل ُه عليه أر َضه وبلده يقيم بها؟
| 208مختصر السيرة النبوية
فلما فرغ من دعائه قال« :ماذا قل ُتم؟» ،قالوا :لا شي َء يا رسو َل الله ،فلم يزل
بهم حتى أخبروه ،فقال النب ُّي ﷺَ « :معا َذ الله! المحيا محيا ُكم ،والمما ُت مما ُتكم».
قال ابن هشا ٍم :عن ابن عبا ِس قال :دخل رسو ُل الله ﷺ م َّك َة يوم الفتح على
راحلته ،فطاف عليها وحول البيت أصنا ٌم مشدود ٌة بالرصاص ،فجعل النب ُّي ﷺ
يشي ُر بقضي ٍب في يده إلى الأصنا ِم ويقول« :جاء الحق و َزه َق الباط ُل إن الباط َل كان
زهوقا» ،فما أشار إلى صن ٍم منها في وجهه إلا وق َع لقفا ُه ،ولا أشار إلى َقفا ُه إلا وقع
لوج ِهه ،حتى ما بق َي منها صن ٌم إلا وق َع.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان جمي ُع من شهد فت َح م َّك َة من المسلمين عشر ُة آلاف.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان فت ُح مك َة لعش ِر ليا ٍل بقين من شه ِر رمضا َن سنة
ثمان.
-13غزوةُ حُنينٍ في سنة ثمان بعد الفتحِ
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما س ِم َعت هواز ُن برسو ِل الله ﷺ وما فت َح الله عليه من
م َّك َة ،جمعها مال ُك بن عو ٍف النصر ُّي ،فاجتم َع إليه مع هواز َن ثقي ٌف ك ُّلها،
واجتمعت نصر و ُجشم كلها ،وسع ُد بن بكر ،ونا ٌس من بني هلا ٍل -وهم قلي ٌل-
ولم َيشهدها من قي ِس عيلا َن إلا هؤلاء.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما سمع بهم نب ُّي الله ﷺ بع َث إليهم عب َد الله بن أبي
َح ْدر َد الأسلم َّي ،وأمره أن يدخ َل في النا ِس ،فيقي َم فيهم حتى يعل َم عل َمهم ،ثم
يأتيه بخبرهم.
مختصر السيرة النبوية|209
فانطلق اب ُن أبي حدر َد ،فدخ َل فيهم ،فأقام فيهم ،حتى سم َع وع ِلم ما قد
أجمعوا له من حر ِب رسو ِل الله ﷺ ،وسم َع من مال ٍك وأمر هواز َن ما هم عليه ،ثم
أقبل حتى أتى رسو َل الله ﷺ ،فأخبره الخب َر.
قال :ثم خرج رسو ُل الله ﷺ معه ألفا ِن من أهل م َّك َة مع ع ْشر ِة آلا ٍف من
أصحابه الذين خرجوا معه ففت َح الل ُه بهم م َّك َة ،فكانوا اثني ع َشر أل ًفا ،واستعم َل
رسو ُل الله ﷺ ع َّتا َب بن أسي ٍد على م َّك َة أمي ًرا على من تخلف عنه من الناس ،ثم
مضى رسو ُل الله ﷺ على وجهه ُيريد لقا َء هواز َن.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أبي واق ٍد الليث ِّي ،أن الحار َث ب َن مالك قال :خرجنا مع
رسو ِل الله ﷺ إلى ُحني ٍن ونحن حديثو عه ٍد بالجاهلية ،قال :ف ِسرنا معه إلى ُحنين،
قال :وكانت لكفا ِر قري ٍش ومن سواهم من العر ِب شجر ٌة عظيمة خضا ُءُ ،يقال
َلا :ذا ُت أنوا ٍط ،يأتونها كل سن ٍة ،ف ُيعلقون أسلح َتهم عليها ،ويذبحو َن عندها،
ويع ُكفون عليها يو ًما.
قال :فرأينا ونحن نسي ُر مع رسو ِل الله ﷺ ِسدر ًة َخضا َء عظيم ًة ،قال:
ف َتنادينا من جنبا ِت الطريق :يا رسو َل الله ،اجع ْل لنا ذا َت أنوا ٍط كما َلم ذا ُت
أنواط.
قال رسو ُل الله ﷺ« :الل ُه أكب ُر ،قلتم والذي نف ُس محمد بيده كما قال قو ُم
موسى لموسى( :ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ) [الأعراف،]532:
إنها ال َّسن ُن ،لت ُكب َّن َسن َن من كان قب َلكم».
| 221مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :عن جاب ِر بن عب ِد الله قال :لما استقبلنا وادي ُحنين انح َدرنا
في وا ٍد من أودية تِهام َة ،وفي َعماية الصب ِح ،وكان القو ُم قد سبقونا إلى الوادي،
فك َّمنوا لنا في ِشعابه وأحنائه و َمضا ِيقه ،وقد أجمعوا وته َّيئوا وأعدوا ،فوالله ما
راعنا ونحن ُمنح ُّطون إلا الكتائ ُب قد شدوا علينا شد َة رج ٍل واحد ،وان َش َم َر
النا ُس( )1راجعين ،لا يلوي أح ٌد على أح ٍد.
وانحاز رسو ُل الله ﷺ ذا َت اليمين ،ثم قال« :أين أيها النا ُس؟ َهلموا إ َّل ،أنا
رسو ُل الله ،أنا محم ُد بن عبد الله».
قال :فلا شي َء ،حملت الإب ُل بع ُضها على بع ٍض ،فانطلق النا ُس ،إلا أنه قد
بقي مع رسو ِل الله ﷺ نف ٌر من المهاجرين والأنصا ِر وأه ِل بيته.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما انهز َم النا ُس ،ورأى من كان مع رسو ِل الله ﷺ من
ُجفا ِة أهل م َّك َة اَلزيم َة ،تكلم رجا ٌل منهم بما في أنف ِسهم من ال ِّض ْغ ِن.
قا َل اب ُن إسحا َق :وقال شيب ُة بن عثمان بن أبي طلح َة أخو بني عبد الدا ِر:
قلت :اليو َم ُأدر ُك ثأري من محم ٍد ،وكان أبوه ُقت َل يوم أ ُح ٍد ،اليو َم أقتل محم ًدا.
قال :ف َأدر ُت برسول الله لأقت َله ،فأقبل شيء حتى تغ َّشى فؤادي ،فلم أ ِط ْق
ذاك ،وعلمت أنه ممنو ٌع مني.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني بع ُض أهل م َّك َة ،أن رسو َل الله ﷺ قال حين
فص َل من م َّك َة إلى ُحني ٍن ،ورأى كثر ًة من معه من جنو ِد الله« :لن ُنغل َب اليو َم من
ِقلة» ،قا َل اب ُن إسحا َق :وزعم بع ُض الناس أن رج ًلا من بني بك ٍر قاَلا.
( )1ان َش َم َر النا ُس :أسرعوا.
مختصر السيرة النبوية|220
قا َل اب ُن إسحا َق :عن العبا ِس ب ِن عبد المطلب قال :إني لمع رسو ِل الله ﷺ
آخ ٌذ ب َح َكم ِة بغلتِه البيضاء قد شجر ُتها بها( ،)1قال :وكنت امرأ َجسي ًما شدي َد
الصو ِت.
قال :ورسو ُل الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس« :أين أيها
النا ُس؟».
فلم أر النا َس يلوون على شيء.
فقال« :يا عبا ُس ،اصرخ ،يا مع َش الأنصار :يا مع َش أصحاب السمرة».
قال :فأجابوا :لبي َك ،لبي َك!
قال :فيذهب الرج ُل ل ُيثني بعي َره ،فلا يقد ُر على ذلك ،فيأخ ُذ در َعه ،فيقذفها
في عن ِقه ،ويأخ ُذ سي َفه و ُترسه ،ويقتح ُم عن بعيره ،ويخلي سبي َله ،فيؤ َّم الصو َت،
حتى ينتهي إلى رسو ِل الله ﷺ ،حتى إذا اجتم َع إليه منهم مئ ٌة ،استقبلوا النا َس،
فاقتتلوا ،وكانت الدعوى أ َّو َل ما كانت :يا للأنصار ،ثم خلصت أخي ًرا :يا
للخزرج ،وكانوا ُص ُب ًرا عند الحرب ،فأشر َف رسو ُل الله ﷺ في ركا ِئبه فنظر إلى
جُلتلد القو ِم وهم يجتلدون ،فقال« :الآن حمِ َي الوطي ُس».
قا َل اب ُن إسحا َق :عن جبي ِر بن ُمطعم قال :لقد رأيت قبل هزيم ِة القوم
والنا ُس يقتتلون مثل البِجا ِد( )2الأسود ،أقبل من السما ِء حتى سقط بيننا وبين
القو ِم ،فنظرت ،فإذا نم ٌل أسود مبثو ٌث قد ملأ الوادي ،لم أش َّك أنها الملائك ُة ،ثم لم
يكن إلا هزيم ُة القو ِم.
( )1آخ ٌذ ب َح َكم ِة بغلتِه البيضاء قد شجر ُتها بها :أي َض ْب ُتها بلجامها َأ ُك ُّفها حتى فتح ْت فاها.
( )2البِ َجاد :كساء مخطط من أكسية الأعراب.
| 222مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما انهز َم المشركون ،أتوا الطائ َف ومعهم مال ُك بن عو ٍف،
وعسك َر بع ُضهم بأوطا ٍس ،وتوجه بع ُضهم نحو نخل َة ،ولم يكن فيمن توجه نحو
نخل َة إلا بنو ِغير َة من ثقي ٍف ،وتبع ْت خي ُل رسو ِل الله ﷺ من سلك في نخل َة من
النا ِس ،ولم تتبع من سلك الثنايا.
قا َل اب ُن إسحا َق :وبعث رسو ُل الله ﷺ في آثا ِر من تو َّجه ِق َبل أوطا ٍس أبا
عامر الأشعر َّي ،فأدرك من النا ِس بع َض من انهز َم ،فناوشوه القتا َل ،ف ُرمي أبو
عامر بسه ٍم ف ُقتل ،فأخذ الراي َة أبو موسى الأشعر ُّي ،وهو ابن ع ِّمه ،فقاتلهم،
ففتح اللهُ على يديه وه َز َمهم.
وخرج مال ُك بن عوف عند اَلزيم ِة ،فوقف في فوار َس من قومه ،على ثن َّية
من الطريق ،وقال لأصحابِهِ :قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم ،وتلحق ُأخراكم.
فوقف هناك حتى مضى َمن كان لح َق بهم من ُمنهزم ِة النا ِس ،فلما انتهى
الزبي ُر إلى أصل الثني ِة أبص َر القو َم ،فصمد َلم ،فلم يزل ُيطا ِعنُهم حتى أزاحهم
عنها.
ثم جُمع ْت إلى رسو ِل الله ﷺ سبايا ُحني ٍن وأمواَلا ،وكان على المغانم َمسعو ُد
بن عمرو الغفار ُّي ،وأمر رسو ُل الله ﷺ بالسبايا والأموا ِل إلى ال ِجعران ِة ،ف ُحبست
بها.
-14ذكر غزوةِ الطائف بعد حُني ٍن في سن ِة ثمان
ولما ق ِدم َف ُّل ثقي ٍف الطائ َف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها ،وصنعوا الصنائ َع
للقتا ِل.
مختصر السيرة النبوية|223
ثم سار رسو ُل الله ﷺ إلى الطائ ِف حين فرغ من ُحني ٍن.
قا َل اب ُن إسحا َق :فسلك رسو ُل الله ﷺ على نخل َة اليماني ِة ،ثم على قر ٍن ،ثم
على المليح ،ثم على ُبحر ِة ال ُّرغا ِء من لِ َّي َة ،فابتنى بها مسج ًدا فصلى فيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عم ُرو بن شعي ٍب أنه أقاد يومئ ٍذ ب ُبحر َة الرغاء -
حين نزَلا -ب َد ٍم -وهو أول دم ُأقي َد به في الإسلام -رج ٌل من بني لي ٍث قتل رج ًلا
من ُهذيل ،فقتله به.
وأمر رسو ُل الله ﷺ -وهو ب ِل َّي َة -بحص ِن مال ِك بن عوف ف ُهد َم ،ثم سلك
في طري ٍق ُيقال َلا :ال َّض ْي َق ُة ،فلما توجه فيها رسو ُل الله ﷺ سأل عن اسمها ،فقال:
«ما اس ُم هذه الطري ِق؟» ف ِقيل له :الضيقة.
فقال« :بل هي ال ُيسى».
ثم خرج منها على ن ْخ ٍب ،حتى نزل تحت سدر ٍة ُيقال َلا :الصادر ُة ،قري ًبا من
مال رج ٍل من ثقي ٍف ،فأرس َل إليه رسو ُل الله ﷺ« :إما أن تر َج ،وإما أن ُنخر َب
عليك حا ِئطك».
فأبى أن يَخرج ،فأمر رسو ُل الله ﷺ بإخرابِه ،ثم مضى رسو ُل الله ﷺ حتى
نزل قري ًبا من الطائ ِف ،فضب به عسكره ،ف ُقتل به نا ٌس من أصحابِه بالنب ِل،
وذلك أن العسك َر اقتر َب من حائ ِط الطائ ِف ،فكانت النب ُل تناَلم ،ولم يقد ِر
المسلمون على أن َيدخلوا حا ِئطهم؛ أغلقوه دونَهم ،فلما أصيب أولئك النف ُر من
أصحابِه بالنب ِل وضع عسك َره عند مسجده الذي بالطائ ِف اليو َم ،فحا َصرهم
بض ًعا وعشرين ليل ًة ،وقاتلهم ِقتا ًلا شدي ًدا ،وتراموا بالنب ِل.
| 224مختصر السيرة النبوية
ثم إن خويل َة بنت حكي ٍم -وهي امرأ ُة عثمان -قالت :يا رسو َل الله ،أعطني
-إن فت َح اللهُ عليك الطائ َف -حل َي بادي َة بنت غيلان ،أو حلي الفارع ِة بنت َعقيل،
وكانتا من أحلى نساء ثقي ٍف.
ف ُذكر لي أن رسو َل الله ﷺ قال َلا« :وإن كان لم ُيؤذن ل في ثقي ٍف يا خويل ُة؟»
فخرجت خويل ُة ،فذكرت ذلك لعم َر بن الخطا ِب ،فدخل على رسو ِل الله
ﷺ ،فقال يا رسو َل الله ،ما حدي ٌث ح َّدثتنيه ُخويل ُة ،زعمت أنك ُقلته؟ قال« :قد
قل ُته»
قال :أوما أذن لك فيهم يا رسو َل الله؟
قال« :لا».
قال :أفلا أؤ ِّذ ُن بالرحيل؟
قال« :بلى».
قال :فأذن عمر بالرحيل.
-15أم ُر أموا ِل َهواز َن وسباياها
ثم خر َج رسو ُل الله ﷺ حتى نزل ال ِجعران َة فيمن معه من الناس ،ومعه من
هواز َن سب ٌي كثي ٌر ،وقد قال له رج ٌل من أصحابِه يو َم ظعن عن ثقي ٍف :يا رسو َل
الله ،اد ُع عليهم ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :الله َّم اهد ثقيفا و ْأت بهم» ثم أتاه وفد
هواز َن بال ِجعران ِة ،وكان مع رسو ِل الله ﷺ من سبي هواز َن ست ُة آلا ٍف من
الذراري والنسا ِء ،ومن الإبل والشا ِء ما لا ُيدرى ما ِع َّدته.
مختصر السيرة النبوية|225
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عبد الله بن عمرو أن وفد هواز َن أتوا رسو َل الله ﷺ
وقد أس َلموا ،فقالوا :يا رسو َل الله ،إنا أص ٌل وعشير ٌة ،وقد أصابنا من البلا ِء ما لم
يَ ْخ َف عليك ،فامنُن عليناَ ،م َّن الله عليك.
قال :وقام رج ٌل من هواز َن ثم أح ُد بني سعد بن بكر ُيقال لهُ :زهي ٌرُ ،يكنى
أبا ُص َرد ،فقال :يا رسو َل الله ،إنما في الحظائر ع َّما ُتك وخالاتك وحواضنُك اللاتي
كن َيك ُفلنك ،ولو أنا َملحنا للحارث بن أبي ِشم ٍر ،أو للنعما ِن بن المنذ ِر ،ثم نزل منا
بمث ِل الذي نزلت بهَ ،رجونا عط َفه وعائد َته علينا ،وأنت خي ُر المكفولين.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟».
فقالوا :يا رسو َل الله ،خ َّيرتنا بين أموالِنا وأحسابِنا ،بل َت ُر َّد إلينا نساءنا
وأبناءنا ،فهو أح ُّب إلينا.
فقال َلم« :أما ما كان ل ول َبني عب ِد المطلب فهو لكم ،وإذا ما أنا ص َّليت
الظه َر بالناس ،فقوموا فقولوا :إنا َنستشف ُع برسو ِل الله إلى المسلمين ،وبالمسلمين
إلى رسو ِل الله في أبنائنا ونسائنا ،فس ُأعطيكم عند ذلك ،وأسأ ُل لكم».
فلما صلى رسو ُل الله ﷺ بالنا ِس الظه َر ،قاموا فتكلموا بالذي أم َرهم به،
فقال رسو ُل الله ﷺ« :وأما ما كان ل ول َبني عب ِد المطلب فهو لكم».
فقال المهاجرون :وما كان لنا فهو لرسو ِل الله ﷺ.
وقالت الأنصا ُر :وما كان لنا فهو لرسو ِل الله ﷺ.
فقال الأقر ُع بن حاب ٍس :أما أنا وبنو تمي ٍم فلا.
| 226مختصر السيرة النبوية
وقال عيين ُة بن ِحصن :أما أنا وبنو فزار َة فلا.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :أما من ت َّسك منكم بح ِقه من هذا السبي فله بك ِل
إنسان س ُت فرائ َض ،من أول سبي أصي ُبه ،ف ُردوا إلى النا ِس أبناءهم ونساءهم».
وقال رسو ُل الله ﷺ لوف ِد هواز َن ،وسأَلم عن مال ِك بن عو ٍف «ما فعل؟»
فقالوا :هو بالطائ ِف مع َثقي ٍف ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :أخبروا مالكا أنه إن أتاني
ُمسلما َردد ُت عليه أه َله وماله ،وأعطي ُته مئة من الإبل».
ف ُأتى مال ٌك بذلك ،فخرج إليه من الطائ ِف ،وقد كان مال ٌك خاف ثقي ًفا على
نفسه أن َيعلموا أن رسو َل الله ﷺ قال له ما قال ،فيحبِسوه ،فأم َر برا ِحلته ف ُهيئت
له ،وأمر بفر ٍس له ،ف ُأتي به إلى الطائ ِف ،فخرج لي ًلا ،فجلس على فر ِسه ،فركضه
حتى أتى راحل َته حيث َأم َر بها أن ُتحبس فرك َبها ،فلحق برسو ِل الله ﷺ ،فأدركه
بال ِجعران ِة أو بم َّك َة ،فر َّد عليه أه َله وماله ،وأعطاه مئ ًة من الإبل ،وأسل َم فح ُسن
إسلا ُمه.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما فرغ رسو ُل الله ﷺ من ر ِّد سبايا ُحنين إلى أهلها
ركب ،واتبعه النا ُس يقولون :يا رسو َل الله ،اق ِسم علينا في َئنا من الإبل والغن ِم،
حتى ألجئوه إلى شجر ٍة ،فاخ َت َط َفت عنه ردا َءه فقال« :أدوا ع َّل ردائي أيها النا ُس،
فوالله أن لو كان لكم بعد ِد شجر ِتام َة َن َعما لقسم ُته عليكم ،ثم ما ألفيتموني بخيلا
ولا جبانا ولا كذابا».
ثم قام إلى جنب بعي ٍر ،فأخ َذ وبر ًة من َسنامه ،فجعلها بين أص ُبعيه ،ثم
رفعها ،ثم قال« :أيها النا ُس ،والله ما ل من فيئِكم ولا هذه الوبرة إلا ال ُخم ُس،
مختصر السيرة النبوية|227
والخمس مردود عليكم؛ فأدوا الخيا َط والمِ ْخ َيط ،فإن ال ُغلول يكون على أهلِه عارا
ونارا وشنارا يو َم القيامة».
قا َل اب ُن إسحا َق :وأعطى رسو ُل الله ﷺ المؤلف َة قلو ُبهم ،وكانوا أشرا ًفا من
أشرا ِف الناس ،يتأل ُفهم ويتألف بهم قو َمهم.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عب ِد الله بن عمرو بن العاص قال :جاء رج ٌل من بني
تمي ٍم ُيقال له :ذو الخويصر ِة ،فوقف عليه وهو ُيعطي النا َس ،فقال :يا محم ُد ،قد
رأي ُت ما صنع َت في هذا اليوم.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :أجل ،فكيف رأي َت؟».
فقال :لم أرك َع َدلت.
قال :فغ ِضب النب ُّي ﷺ ثم قال« :ويحك! إذا لم يكن العد ُل عندي ،فعند َمن
يكون؟!».
فقال عم ُر بن الخطاب :يا رسو َل الله ،ألا أقتله؟
فقال« :لا ،دعه فإنه سيكو ُن له شيعة يتعمقون في الدين حتى َيرجوا منه كما
َير ُج السه ُم من الرم َّي ِة».
قال ابن هشام :عن أبي سعي ٍد الخدر ِّي قال :لما أعطى رسو ُل الله ﷺ ما
أعطى من تلك العطايا ،في قري ٍش وفي قبائ ِل العر ِب ،ولم يكن في الأنصا ِر منها
شي ٌءَ ،و َج َد هذا الح ُّي من الأنصا ِر في أنف ِسهم ،حتى كثرت منهم القال ُة حتى قال
قائ ُلهم :لقد َل ِقي والله رسو ُل الله ﷺ قو َمه ،فدخل عليه سع ُد بن ُعباد َة ،فقال :يا
| 228مختصر السيرة النبوية
رسو َل الله ،إن هذا الح َّي من الأنصا ِر قد وجدوا عليك في أنف ِسهم ،لما صنع َت في
هذا الفي ِء الذي أصب َت ،ق َسمت في قو ِمك ،وأعطيت عطايا ِعظا ًما في قبائ ِل
العرب ،ولم يك في هذا الح ِّي من الأنصار منها شي ٌء.
قال« :فأين أنت من ذلك يا سع ُد؟!».
قال :يا رسو َل الله ،ما أنا إلا من َقومي.
قال« :فاجمع ل قو َمك في هذه الحظير ِة».
قال :فخرج سع ٌد ،فجم َع الأنصا َر في تلك الحظير ِة.
قال :فجاء رجا ٌل من المهاجرين ف َت َركهم ،فدخلوا ،وجاء آخرو َن فر َّدهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سع ٌد ،فقال :قد اجتمع لك هذا الح ُّي من الأنصا ِر،
فأتاهم رسو ُل الله ﷺ ،فحمد اللهَ وأثنى عليه بما هو أه ُله ،ثم قال« :يا مع َش
الأنصار ،ما قا َلة بلغتني عنكم ،و ِج َدة وجدتوها ع َّل في أنفسكم؟! ألم آتكم
ُض َّلالا فهداكم اللهُ ،وعالة فأغناكم الل ُه ،وأعداء فأ َّلف الل ُه بين قلوبكم!».
قالوا :بلى ،الله ورسو ُله أ َم ُّن وأفضل.
ثم قال« :ألا ُتيبونني يا مع َش الأنصا ِر؟».
قالوا :بماذا نجي ُبك يا رسو َل الله؟ لله ولرسولِه الم ُّن والفض ُل.
قال ﷺ« :أما والله لو شئتم ل ُقل ُتم؛ فل َصدق ُتم ول ُص ِدقتم :أتي َتنا ُمك َّذبا
فص َّدقناك ،و َمذولا فنِصناك ،وطريدا فآويناك ،وعائلا فآسيناك ،أوجدتم يا
مختصر السيرة النبوية|229
مع َش الأنصار في أنفسكم في ُلعا َع ٍة( )1من الدنيا تألف ُت بها قوما ل ُيسلموا،
و َوك ْل ُتكم إلى إسلا ِمكم ،ألا َتر َضون يا مع َش الأنصا ِر ،أن يذهب النا ُس بالشا ِة
والبعي ِر و َترجعوا برسو ِل الله ﷺ إلى ِرحالِكم؟ فوالذي نف ُس محم ٍد بيده ،لولا
اهمجر ُة لكنت امرأ من الأنصا ِر ،ولو سل َك النا ُس ِشعبا و َس َل َكت الأنصا ُر ِشعبا،
لسلك ُت ِشع َب الأنصار ،الله َّم ارح ِم الأنصا َر ،وأبنا َء الأنصا ِر ،وأبنا َء أبنا ِء
الأنصا ِر».
قال :فبكى القو ُم حتى أخ َضلوا لحاهم ،وقالوا :رضينا برسو ِل الله ق ْس ًما
وح اظا.
ثم انصرف رسو ُل الله ﷺ ،وتف َّرقوا.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم خرج رسو ُل الله ﷺ من ال ِجعران ِة ُمعتم ًرا ،وأمر ببقايا
الفيء ف ُحبس ب ِمجنَّ َة ،بناحية َم ِّر الظهران ،فلما فرغ رسو ُل الله ﷺ من ُعمرته انصرف
راج ًعا إلى المدينة ،واستخلف ع َّتا َب ب َن أسيد على م َّك َة ،وخ َّلف معه معا َذ بن جب ٍل،
يف ِّقه النا َس في الدين ،و ُيع ِّلمهم القرآ َن ،وا ُّتبع رسو ُل الله ﷺ ببقايا الفيء.
-16غزوةُ تبوكَ في رجب سن َة تسع
عن محمد بن إسحا َق المطلبي قال :ثم أقا َم رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة ما بين ذي
الح َّج ِة إلى رج ٍب ،ثم أمر النا َس بالتهيؤ لغزو الروم ،وذلك في زما ٍن من ُعسرة الناس،
وش َّد ٍة من الحر ،و َج ْد ٍب من البلاد وحين طابت الثما ُر ،والنا ُس يحبون المُقا َم في
ثمارهم وظلاَ ِلم ،ويكرهون الشخو َص على الحال من الزما ِن الذي هم عليه.
( )1ال ُّل َعا َعة :الكلأ الخفيف ،كناية عن بهرج الدنيا وزينتها.
| 231مختصر السيرة النبوية
وكان رسو ُل الله ﷺ قلما يخرج في غزو ٍة إلا كنَّى عنها ،وأخبر أنه يريد غي َر
الوجه الذي يص ُمد له ،إلا ما كان من غزو ِة تبو ٍك ،فإنه ب َّينها للناس؛ ل ُبعد ال ُّش َّق ِة،
وش َّد ِة الزمان ،وكثر ِة العد ِّو الذي يصمد له ،ليتأهب النا ُس لذلك ُأ ْه َب َته ،فأمر
الناس بالجهاز ،وأخبرهم أنه ُيريد الرو َم.
وقال قو ٌم من المنافقين بع ُضهم لبع ٍض :لا َتنفروا في الح ِّر ،زها َد ًة في الجهاد،
وش اكا في الح ِّق ،وإرجا ًفا برسو ِل الله ﷺ ،فأنزل الل ُه تبارك وتعالى فيهم( :ﭻﭼ
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ
ﮐﮑﮒﮓ) [التوبة.]25-25:
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم إن رسو َل الله ﷺ َج َّد في سف ِره ،وأمر النا َس بالجهاز
والانكما ِش ،وحض أه َل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله ،فحمل رجا ٌل
من أه ِل الغنى واح َتسبوا ،وأنفق عثما ُن ب ُن عفان في ذلك نفق ًة عظيم ًة ،لم ينفق أح ٌد
مث َلها.
قا َل اب ُن إسحا َق :وجاءه ال ُمع ِّذرون من الأعراب ،فاعتذروا إليه ،فلم
َيع ِذرهم الل ُه تعالى ،وقد ُذكر لي أنهم نف ٌر من بني ِغفا ٍر.
ثم استتب برسو ِل الله ﷺ سف ُره ،وأجم َع السي َر ،وقد كان نف ٌر من المسلمين
أبطأت بهم الن َّي ُة عن رسو ِل الله ﷺ حتى تخلفوا عنه ،عن غي ِر ش ٍّك ولا ارتيا ٍب،
منهم :كع ُب بن مالك بن أبي كعب ،و ُمرار ُة بن الربي ِع ،وهلا ُل بن أمي َة ،وأبو
َخيثم َة ،وكانوا نف َر صد ٍق ،لا ُيتهمون في إسلا ِمهم.
مختصر السيرة النبوية|230
فلما خر َج رسو ُل الله ﷺ ض َب عسك َره على ثني ِة الودا ِع ،وضب عب ُد الله
بن أب ٍّي معه على ِحد ٍة عسك َره أسف َل منه ،وكان فيما َيزعمون ليس بأق ِّل العسكرين،
فلما سا َر رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله بن أبي ،فيمن تخلف من المنافقين وأه ِل
الريب.
قا َل اب ُن إسحا َق :وقد كان رسو ُل الله ﷺ حين َم َّر بال ِحجر نزَلا ،واستقى
النا ُس من بئرها ،فلما راحوا قال رسو ُل الله ﷺ« :لا تشبوا من مائها شيئا ،ولا
تتو َّضؤوا منه للصلاة ،وما كان من عجي ٍن عجنتموه فاعلِفوه الإب َل ،ولا تأكلوا منه
شيئا ،ولا ي ُرجن أحد منكم الليل َة إلا ومعه صاحب له».
ثم مضى رسو ُل الله ﷺ سائ ًرا ،فجعل يتخلف عنه الرج ُل ،فيقولون :يا
رسو َل الله ،تخلف فلا ٌن ،فيقول« :دعوه ،فإن ي ُك فيه خير فس ُيلحقه اللهُ تعالى بكم،
وإن يك غي َر ذلك فقد أرا َح ُكم الل ُه منه».
قا َل اب ُن إسحا َق :وقد كان ره ٌط من المنافقين منهم :وديع ُة بن ثابت،
ومُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير ،يشيرون إلى رسو ِل الله ﷺ وهو ُمنطل ٌق إلى تبو َك ،فقال بع ُضهم
لبعض :أتح ِسبون ِجلاد بني الأصف ِر ك ِقتال العرب بع ِضهم بع ًضا! والله لكأنا بكم
غ ًدا مق َّرنين في الحبال؛ إرجا ًفا وترهي ًبا للمؤمنين.
فقال مُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير :والله لودد ُت أني أقاضي على أن ُيضب ك ُّل رجل منا
مئ َة جلد ٍة ،وإنا ننفل ُت أن ينزل فينا قرآ ٌن لمقا َل ِتكم هذه.
وقال رسو ُل الله ﷺ -فيما بلغني -لعما ِر بن ياس ٍر« :أدرك القو َم ،فإنهم قد
اح َتقوا ،فس ْل ُهم عما قالوا ،فإن أنكروا ف ُقل :بلى ،قلتم كذا وكذا».
| 232مختصر السيرة النبوية
فانطل َق إليهم عما ٌر ،فقال ذلك َلم :فأتوا رسو َل الله ﷺ َيعتذرون إليه ،فقال
وديع ُة ب ُن ثاب ٍت -ورسو ُل الله ﷺ واق ٌف على ناقته فجعل يقول وهو آخ ٌذ
بِ َح َقبها :-يا رسو َل الله ،إنما كنا نخو ُض ونلع ُب ،فأنزل الل ُه ( :ﮃ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ) [التوبة.]61:
وقال مُخ ِّش ُن بن حُ َم ِّير :يا رسو َل الله ،قعد بي اس ِمي واس ُم أبي ،وكأن الذي
ُعفي عنه في هذه الآية مُخ ِّشن بن حُ َم ِّير ،فتسمى عب َد الرحمن ،وسأل الل َه تعالى أن
يق ُت َله شهي ًدا لا ُيعلم بمكانه ،ف ُقتل يو َم اليمام ِة ،فلم يوجد له أث ٌر.
ولما انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى تبو َك ،أتاه ُيحنَّ ُة بن ُرؤب َة ،صاح ُب أ ْي َل َة ،فصالح
رسو َل الله ﷺ ،وأعطاه الجزي َة ،وأتاه أه ُل َجرباء و َأذ ُرح ،فأعطوه الجزي َة ،فكتب
رسو ُل الله ﷺ َلم كتا ًبا ،فهو عندهم.
فأقام رسو ُل الله ﷺ بتبو َك بض َع عشر َة ليل ًة ،لم يجاوزها ،ثم انصر َف قاف ًلا
إلى المدين ِة.
-17أم ُر مسج ِد الضرار عند القُفول من غزوة تبو َك
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أقبل رسو ُل الله ﷺ حتى نزل ب ِذي أوا ٍن -بل ٍد بينه
وبين المدينة ساع ٌة من نهار -وكان أصحا ُب مسج ِد الضار قد كانوا أتوه وهو
يتج َّهز إلى تبو َك ،فقالوا :يا رسو َل الله ،إنا قد بنينا مسج ًدا لذي العلة والحاجة
والليل ِة المَطير ِة والليل ِة الشاتي ِة ،وإنا نحب أن تأت َينا ،فتصلي لنا فيه فقال« :إني على
َجناح سف ٍر ،وحال شغ ٍل -أو كما قال ﷺ -ولو قد ق ِدمنا إن شاء الل ُه لأتيناكم،
فص َّلينا لكم فيه».
مختصر السيرة النبوية|233
فلما نزل بذي أوا ٍن ،أتاه خب ُر المسج ِد ،فدعا رسو ُل الله ﷺ مال َك بن
ال ُّدخ ُشم ،ومع َن بن عد ٍّي ،أو أخاه عاص َم ب َن عدي ،فقال« :انطلقا إلى هذا
المسج ِد الظالم أه ُله ،فاهدماه وح َّرقاه».
فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالمِ بن عو ٍف ،وهم ره ُط مال ِك بن الدخ ُشم،
فقال مال ٌك لمع ٍن :أنظرني حتى أخ ُر َج إليك بنار من أهلي ،فدخل إلى أه ِله ،فأخذ سع ًفا
من النخل ،فأشعل فيه نا ًرا ،ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أه ُله ،فح َّرقاه
وهدماه ،وتف َّرقوا عنه ،ونزل فيهم من القرآ ِن ما نزل( :ﭑﭒﭓﭔ
ﭕﭖﭗﭘ) [التوبة ]547:إلى آخر القصة.
-18أم ُر وفدِ ثقي ٍف وإسلامها في شه ِر رمضا َن سنةَ تسع
قا َل اب ُن إسحا َق :وقدم رسو ُل الله ﷺ المدين َة من تبو َك في رمضا َن ،وقدم
عليه في ذلك الشهر وف ُد ثقي ٍف.
فلما أسلموا وكتب َلم رسو ُل الله ﷺ كتا َبهم ،أ َّم َر عليهم عثما َن بن أبي
العاص ،وكان من أح َدثِهم سناا ،وذلك أنه كان أحر َصهم على التف ُّقه في الإسلا ِم،
وتع ُّلم القرآن.
-19ح ُجّ أبي بكر بالناس سن َة تس ٍع
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بق َّية شهر رمضا َن وشوالا وذا
القعدة ،ثم بعث أبا بكر أمي ًرا على الحج من سنة تس ٍع ،ليقيم للمسلمين ح َّجهم،
والنا ُس من أهل الشرك على منا ِزَلم من ح ِّجهم ،فخرج أبو بك ٍر ومن معه
من المسلمين.
| 234مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أبي جعف ٍر محم ِد بن عل ٍّي رضوان الله عليه ،أنه قال :لما
نزلت براء ٌة على رسو ِل الله ﷺ ،وقد كان بعث أبا بك ٍر الصدي َق ليقي َم للناس
الح َّج ،قيل له :يا رسو َل الله ،لو بعثت بها إلى أبي بكر ،فقال« :لا ُيؤدي عني إلا
رجل من أهل بيتي».
ثم دعا عل َّي ب َن أبي طالب رضوا ُن الله عليه ،فقال له« :اخرج بهذه الق َّص ِة من
صدر براء ٍة ،وأذن في الناس يو َم النحر إذا اجتمعوا بمنى ،أنه لا يدخل الجن َة كافر،
ولا يحج بعد العام مشك ،ولا يطوَ بالبيت عريان ،ومن كان له عند رسو ِل الله
ﷺ عهد فهو له إلى ُم َّدته».
قا َل اب ُن إسحا َق :فكان هذا من براء ٍة فيمن كان من أهل الشرك من أه ِل
العهد العا ِّم ،وأهل المدة إلى الأج ِل المسمى.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أمر الل ُه رسو َله ﷺ بجهاد أه ِل الشرك ،ممن نقض من
أهل العه ِد الخا ِّص ،ومن كان من أه ِل العهد العا ِّم ،بعد الأربع ِة الأشه ِر التي
ضب َلم أج ًلا إلا أن يعدو فيها عا ٍد منهم ،ف ُيقتل ب َعدائه.
ِ -21ذك ُر سنةِ تسع وتسمي ُتها :سنة الوفو ِد
قا َل اب ُن إسحا َق :لما افتتح رسو ُل الله ﷺ م َّك َة ،وفرغ من تبو َك ،وأسلمت
ثقي ٌف وبايعت ،ضبت إليه وفو ُد العرب من ك ِّل وجه.
قا َل اب ُن إسحا َق :وإنما كانت العر ُب تر َّب ُص بالإسلام َأ ْم َر هذا الح ِّي من
قري ٍش وأ ْم َر رسو ِل الله ﷺ ،وذلك أن قري ًشا كانوا إما َم الناس وهادُم ،وأه َل
البيت الحرام ،وصري َح ول ِد إسماعي َل بن إبراهيم عليهما السلا ُم ،وقاد َة العرب لا
ُين َكرون ذلك ،وكانت قري ٌش هي التي نص َبت لحرب رسو ِل الله ﷺ وخلافِه.
مختصر السيرة النبوية|235
فلما اف ُتتحت مك ُة ،ودانت له قري ٌش ،ود َّوخها الإسلا ُم ،وعرفت العر ُب أنه
لا طاق َة َلم بحر ِب رسو ِل الله ﷺ ولا عداو ِته ،فدخلوا في دين الله ،كما قال
( :ﭽ) ،ي ِضبون إليه من ك ِّل وج ٍه ،يقول الله تعالى لنب ِّيه ﷺ( :ﭱ
ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ) [النصر ]3-5:أي :فاحمد الل َه
على ما أظه َر من دينِك ،واستغف ْره إنه كان توا ًبا.
| 236مختصر السيرة النبوية
[رابعا :حجة الوداع وابتداء شكوى رسول الله ﷺ]
َ -1ح َجّةُ ال َوداعِ
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما دخل على رسو ِل الله ﷺ ذو ال َقعدة ،ت َّهز للحج،
وأمر النا َس بالجهاز له.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم مضى رسو ُل الله ﷺ على ح ِّجه ،فأرى النا َس
مناس َكهم ،وأعل َمهم ُسنن ح ِّجهم ،وخطب النا َس ُخطبته التي ب َّين فيها ما بين،
فحمد الل َه وأثنى عليه ،ثم قال« :أيها النا ُس ،اسمعوا قول؛ فإني لا أدري لع ِل لا
ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموق ِف أبدا.
أيها النا ُس ،إن دما َءكم وأموا َلكم عليكم حرام إلى أن تل َقوا ربكم ،ك ُحرمة
يو ِمكم هذا ،وكحرم ِة شه ِركم هذا ،وإنكم ستلقون ر َّبكم ،فيسألكم عن أعمالكم،
وقد بلغت ،فمن كانت عن َده أمانة فليؤ ِدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن ك َّل ربا موضوع ،ولكن لكم رءو ُس أموالِكم لا َتظلمون ولا ُتظلمون،
قضى الله أنه لا ربا ،وإن ربا عبا ِس بن عبد المطلب موضوع كله.
وإن كل د ٍم كان في الجاهلية موضوع ،وإن أ َّو َل دما ِئكم أض ُع د َم ابن ربيع َة
بن الحارث بن عبد المطل ِب ،وكان ُمستضعا في بني لي ٍث ،فقتلته ُهذيل ،فهو أول
ما أبدأ به من دما ِء الجاهلية.
أما بع ُد ،أيها النا ُس ،فإن الشيطا َن قد يئس من أن ُيعب َد بأر ِضكم هذه أبدا،
ولكنه إن ُي َطع فيما سوى ذلك فقد َر َض به مما َتح ِقرون من أعمالِكم ،فاحذروه على
دينِكم.
مختصر السيرة النبوية|237
أيها النا ُس إن النسي َء زيادة في الكفرُ ،يضل به الذين كفرواُ ،يحلونه عاما
و ُيحرمونه عاما ،ليواطئوا ع َّد َة ما ح َّر َم الله ،ف ُيحلوا ما حرم الل ُه ،و ُيح ِرموا ما أحل
الل ُه ،وإن الزما َن قد استدار كهيئتِه يو َم خلق اللهُ السموا ِت والأر َض ،وإن ع َّد َة
الشهور عند الله اثنا ع َش شهرا ،منها أربعة حرم ،ثلاثة متوالية ،ورج ُب مض َر،
الذي بين ُجمادى وشعبا َن.
أما بع ُد ،أيها النا ُس ،فإن لكم على نسائكم حقا ،وهمن عليكم حقا ،لكم
عليهن ألا يوطِئن ُف ُرشكم أحدا تكرهونه ،وعليهن أن لا يأتين بفاحش ٍة ُمبينة ،فإن
فعلن فإن الل َه قد أ ِذن لكم أن َت ُجروهن في المضا ِج ِع و َتضربوهن ضربا غي َر ُمب ِرح،
فإن انتهين فلهن رز ُقهن وكسو ُتن بالمعرو َِ ،واستوصوا بالنساء خيرا ،فإنهن
عندكم عوا ٍن لا يملِكن لأنفسهن شيئا ،وإنكم إنما أخذتوهن بأمان ِة الله،
واستح َلل ُتم ُفروجهن بكلمات الله.
فاعقلوا أيها النا ُس قول ،فإني قد ب َّلغت ،وقد ترك ُت فيكم ما إن اعتصم ُتم
به فلن تضلوا أبدا ،أمرا ب ِينا :كتا َب الله وسن َة نب ِيه.
أيها النا ُس ،اسمعوا قول واع ِقلوهَ ،تع َل ُم َّن أن ُك َّل مسلم أخ للمسلم ،وأن
المسلمين إخوة ،فلا يحل لامر ٍئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طِي ِب نف ٍس منه ،فلا
َتظل ُم َّن أنف َسكم ،الله َّم هل ب َّلغ ُت؟».
ف ُذكر لي أن النا َس قالوا :الله َّم نعم.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :الله َّم اشهد».
| 238مختصر السيرة النبوية
-2خروجُ رس ِل رسولِ الله إلى الملوكِ
قال اب ُن هشا ٍم :وقد كان رسو ُل الله ﷺ بعث إلى الملوك ر ُس ًلا من أصحابِه،
وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلا ِم.
فبعث ِدحي َة بن خليف َة الكلب َّي إلى قيصر مل ِك الروم ،وبعث عب َد الله بن
ُحذاف َة السهم َّي إلى كسرى ملك فار َس ،وبعث عمرو ب َن أمية الضمر َّي إلى
النجاش ِّي مل ِك الحبشة ،وبعث حاط َب بن أبي َبلتع َة إلى المقوق ِس مل ِك
الإسكندرية ،وبعث عم َرو بن العاص السهم َّي إلى َجيف ٍر وع َّيا ٍد ابني ال ُج ُلندى
الأزديين ملكي ُعما َن ،وبعث َسلي َط بن عم ٍرو أح َد بني عامر بن لؤي ،إلى ُثمام َة بن
ُأثا ٍل و َهوذ َة بن عل ٍّي الحنفيين ملكي اليمام ِة ،وبعث العلا َء بن الحضم ِّي إلى ال ُمنذ ِر
بن َساوى العبد ِّي ملك البحرين ،وبعث ُشجا َع بن وه ٍب الأسد َّي إلى الحارث بن
أبي ِش ْم ٍر الغ َّسان ِّي ملك ُتخوم الشأم.
قال اب ُن هشا ٍم :بعث ُشجا َع بن وهب إلى جبل َة بن الأُ ِم الغسان ِّي ،وبعث
ال ُمهاج َر بن أبي أمي َة المخزوم َّي إلى الحارث بن عب ِد ُكلا ٍل ال ِحمير ِّي ملك اليم ِن.
َ -3بع ُث أسامةَ بن زي ٍد إلى أرضِ فلسطين وهو آخرُ البعو ِث
قا َل اب ُن إسحا َق :وبعث رسو ُل الله ﷺ أسام َة ب َن زيد بن حارث َة إلى الشأم،
وأمره أن ُيو ِط َئ الخي َل ُتخو َم البلقا ِء والدارو ِم من أرض فلسطين ،فتجهز النا ُس،
وأوعب مع أسام َة المهاجرون الأولون.
مختصر السيرة النبوية|239
-4ابتداءُ شكوى رسو ِل الله ﷺ
قا َل اب ُن إسحا َق :فبينا النا ُس على ذلك اب ُتدئ رسو ُل الله ﷺ ب َشك ِوه الذي
قبضه الل ُه فيه ،إلى ما أرا َد به من كرامتِه ورحمته ،في ليا ٍل بقين من صف ٍر ،أو في أو ِل
شه ِر ربي ٍع الأول ،فكان أ َّو َل ما اب ُتدئ به من ذلك -فيما ُذكر لي -أنه خر َج إلى بقي ِع
ال َغرق ِد ،من جو ِف الليل ،فاستغف َر َلم ،ثم رج َع إلى أه ِله ،فلما أصبح ابتدئ
بوج ِعه من يو ِمه ذلك.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة زو ِج النبي ﷺ قالت :رجع رسو ُل الله ﷺ من
ال َبقيع فوجدني وأنا أجد ُصدا ًعا في رأسي ،وأنا أقول :وا رأساه ،فقال« :بل أنا
والله يا عائش ُة وا َرأساه».
قالت :ثم قال« :وما ضر ِك لو ُم ِت قبل ،فقم ُت عليك وك َّفنتك ،وص َّليت
عليك ودفن ُتك؟».
قالت :قلت :والله لكأني بك ،لو قد فعل َت ذلك ،لقد رجع َت إلى بيتي،
فأعرس َت فيه ببع ِض نسا ِئك ،قالت :فتبسم رسو ُل الله ﷺ ،وتتا َّم به وج ُعه ،وهو
يدو ُر على نسا ِئه ،حتى اس ُت ِع َّز به( ،)1وهو في بي ِت َميمون َة ،فدعا نسا َءه ،فاستأذنهن
في أن ُيم َّرض في بيتي ،ف َأ ِذ َّن له.
ِ -5ذكرُ أزوا ِجه ﷺ أَّمها ِت المؤمنين
قال اب ُن هشا ٍم :وكن تس ًعا :عائش ُة بن ُت أبي بك ٍر ،وحفص ُة بنت عم َر بن
الخطاب ،وأ ُّم حبيب َة بن ُت أبي سفيان بن حر ٍب ،وأ ُّم سلم َة بنت أبي أمي َة بن المغيرة،
( )1اس ُت ِع َّز به :أي غلبه وج ُعه.
| 241مختصر السيرة النبوية
وسود ُة بن ُت زمع َة بن قيس ،وزين ُب بن ُت جح ِش بن رئا ٍب ،وميمون ُة بن ُت الحارث
بن حزن ،وجويري ُة بن ُت الحارث بن أبي ِضار ،وصفي ُة بن ُت ُحي ِّي بن أخط َب.
وكان جمي ُع من تز َّوج رسو ُل الله ﷺ ثلا َث عشر َة.
فهؤلاء اللاتي بنى بهن رسو ُل الله ﷺ إحدى ع ْشر َة ،فمات قبله منهن ثنتا ِن:
خديج ُة بن ُت خويلد ،وزين ُب بنت ُخزيم َة.
وثنتان لم يدخل بهما :أسما ُء بنت النعمان الكندي ُة ،تزوجها فوجد بها
َبيا ًضا( ،)1فم َّتعها ور َّدها إلى أهلِها ،و َعمر ُة بنت يزي َد الكلابية وكانت حديث َة عه ٍد
بكف ٍر ،فلما قدمت على رسو ِل الله ﷺ ،استعا َذت من رسو ِل الله ﷺ ،فقال رسو ُل
الله ﷺَ « :منيع عائذ الله» ،فردها إلى أه ِلها.
َ -6تمريضُ رسولِ الله في بيت عائشةَ
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة زو ِج النبي ﷺ قالت :فخر َج رسو ُل الله ﷺ
يمشي بين َرجلين من أه ِله :أح ُدهما :الفض ُل بن العباس ،ورج ٌل آخر ،عاص ًبا
رأ َسه ،ت ُخ ُّط قدماه ،حتى دخل بيتي ،ثم ُغمر رسو ُل الله ﷺ ،واشت َّد به وج ُعه،
فقال« :هريقوا ع َّل سب َع ِقرب من آبا ٍر ش َّتى ،حتى أخر َج إلى النا ِس فأعه َد إليهم».
قالت :فأقعدناه في م ِخ َض ٍب( )2لحفص َة بنت عمر ،ثم صببنا عليه الما َء حتى
طفق يقول« :حس ُبكم حس ُبكم».
( )1ال َب َياض :البرص.
( )2المِ ْخ َضب :المركن ،وهو إناء يغتسل فيه.
مختصر السيرة النبوية|240
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أيوب بن بشي ٍر أن رسو َل الله ﷺ خر َج عاص ًبا رأ َسه
حتى جل َس على المِنبر ،ثم كان أول ما تك َّلم به أنه صلى على أصحا ِب أ ُح ٍد،
واستغف َر َلم ،فأكث َر الصلا َة عليهم ،ثم قال« :إن عبدا من عبا ِد الله خ َّيره الل ُه بين
الدنيا وبين ما عند ُه ،فاختار ما عند الله».
قال :ففهمها أبو بكر ،وع َرف أن نف َسه ُيريد ،ف َبكى وقال :بل نحن َنفديك
بأنف ِسنا وأبنا ِئنا ،فقال« :على ِرسلِك يا أبا بكر».
ثم قال« :انظروا هذه الأبوا َب ال َّلافِظ َة في المسج ِد( ،)1ف ُسدوها إلا بي َت أبي
بكر ،فإني لا أعل ُم أحدا كان أفض َل في الصحب ِة عندي يدا منه».
وقا َل اب ُن إسحا َق :عن ُعرو َة بن الزبير وغي ِره من العلماء ،أن رسو َل الله ﷺ
استبطأ النا َس في بع ِث أسام َة بن زي ٍد ،وهو في وج ِعه ،فخرج عاص ًبا رأ َسه حتى
جل َس على المِنبر ،وقد كان النا ُس قالوا في إمر ِة أسام َة :أ َّم َر غلا ًما حد ًثا على ِج َّل ِة
المهاجرين والأنصا ِر.
فحمد الل َه وأثنى عليه بما هو له أه ٌل ،ثم قال« :أيها النا ُس ،أن ِفذوا بع َث
أسام َة ،ف َلعمري ،لئن ُقلتم في إمارته لقد قل ُتم في إمار ِة أبيه من قبلِه ،وإنه لخليق
للإمار ِة ،وإن كان أبوه لخليقا هما».
قال :ثم نز َل رسو ُل الله ﷺ ،وانكم َش النا ُس( )2في جهازهم ،واستع َّز
برسو ِل الله ﷺ َوج ُعه ،فخرج أسام ُة ،وخرج جي ُشه معه حتى نزلوا ال ُجر َف من
( )1ال َّلافِ َظة في المسجد :يعني النافذة إليه.
( )2ان َك َم َش الناس :أسرعوا.
| 242مختصر السيرة النبوية
المدينة على فرس ٍخ ،فض َب به عسك َره ،وتتا َّم إليه النا ُس ،و َث ُقل رسو ُل الله ﷺ،
فأقام أسام ُة والنا ُس؛ ل َين ُظروا ما الل ُه قا ٍض في رسول الله ﷺ.
وقا َل اب ُن إسحا َق :عن عب ِد الله بن كع ِب بن مال ٍك أن رسو َل الله ﷺ قال -
يو َم صلى واستغف َر لأصحا ِب أ ُح ٍد ،وذكر من أم ِرهم ما ذكر مع مقالتِه يومئذ:-
«يا مع َش المهاجرين ،استوصوا بالأنصا ِر خيرا ،فإن النا َس َيزيدون ،وإن الأنصا َر
على هيئتها لا َتزي ُد ،وإنهم كانوا َعيبتي التي أوي ُت إليها ،فأح ِسنوا إلى ُمح ِسنهم،
وتاوزوا عن ُمسي ِئهم».
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة قالت :كان رسو ُل الله ﷺ كثي ًرا ما أسم ُعه
يقول« :إن اللهَ لم يقبض نبيا حتى ي ِيره».
قالت :فلما ُحض رسو ُل الله ﷺ كان آخ ُر كلمة سمع ُتها منه وهو يقول« :بل
الرفي َق الأعلى من الجن ِة».
قالت :فقلت :إذن ،والله لا يَختا ُرنا ،وعرفت أنه الذي كان يقول لنا« :إن
نبيا لم ُيقبض حتى ُي َّير».
عن عائش َة قالت :لما اس ُتع َّز برسو ِل الله ﷺ قالُ « :مروا أبا بك ٍر فل ُيص ِل
بالناس».
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أن ِس بن مال ٍك أنه لما كان يو ُم الاثنين الذي قبض الل ُه فيه
رسو َله ﷺ ،خرج إلى النا ِس وهم ُيص ُّلون الصب َح ،فرفع الستر ،وفتح البا َب ،فخر َج
رسو ُل الله ﷺ ،فقا َم على باب عائش َة ،فكاد المسلمون َيفتتنون في صلاتِهم برسو ِل الله
ﷺ حين رأوه َف َر ًحا به ،وتفرجوا ،فأشا َر إليهم أن اث ُبتوا على صلاتِكم.
مختصر السيرة النبوية|243
قال :فتبسم رسو ُل الله ﷺ سرو ًرا لما رأى من هيئتهم في صلاتِهم ،وما رأيت
رسو َل الله ﷺ أحس َن هيئ ًة منه تلك الساع َة ،قال :ثم رجع وانصرف النا ُس وهم
يرون أن رسو َل الله ﷺ قد أ ْف َر َق( )1من وج ِعه ،فرجع أبو بكر إلى أهله بال ُّسن ِح.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة قالت :رجع إل َّي رسو ُل الله ﷺ في ذلك اليو ِم
حين دخل من المسج ِد ،فاضطجع في ِحجري ،فدخل عل َّي رج ٌل من آل أبي بكر،
وفي يده سوا ٌك أخ ُض ،قالت :فنظ َر رسو ُل الله ﷺ إليه في يده نظ ًرا عرفت أنه
يري ُده.
قالت :فقلت :يا رسو َل الله ،أتح ُّب أن أعط َيك هذا السوا َك؟
قال« :نعم».
قالت :فأخذته فمضغ ُته له حتى ل َّين ُته ،ثم أعطي ُته إياه ،قالت :فاست َّن به
كأشد ما رأي ُته يستن بسوا ٍك قط ،ثم وضعه.
ووجدت رسو َل الله ﷺ يث ُقل في ِحجري ،فذهب ُت أنظ ُر في وج ِهه ،فإذا
بص ُره قد َش َخص ،وهو يقول« :بل الرفي َق الأعلى من الجن ِة».
قالت :فقلتُ :خ ِّير َت فاختر َت والذي بعثك بالح ِّق.
قالت :و ُقبض رسو ُل الله ﷺ.
(َ )1أ ْف َر َق :أي أقبل.
| 244مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أبي هرير َة قال :لما توفي رسو ُل الله ﷺ قام عم ُر بن
الخطاب ،فقال :إن رجا ًلا من المنافقين َيزعمون أن رسو َل الله ﷺ قد ُتو ِّفي ،وإن
رسو َل الله ﷺ ما ما َت ،ولكنه ذه َب إلى ر ِّبه كما ذه َب موسى بن ِعمران ،فقد
غاب عن قو ِمه أربعين ليل ًة ،ثم رج َع إليهم بعد أن قيل :قد ما َت ،ووالله ليرجع َّن
رسو ُل الله ﷺ كما رج َع موسى ،فل َيقطع َّن أيدي رجا ٍل وأرج َلهم زعموا أن رسو َل
الله ﷺ مات.
قال :وأقبل أبو بك ٍر حتى نز َل على باب المسج ِد حين بلغه الخب ُر ،وعم ُر يكلم
النا َس ،فلم يلتفت إلى شي ٍء حتى دخ َل على رسو ِل الله ﷺ في بي ِت عائش َة،
ورسو ُل الله ﷺ ُمس اجى في ناحية البي ِت ،عليه ُبر ُد ِح َبر ٍة ،فأقبل حتى كشف عن
وج ِه رسو ِل الله ﷺ ،قال :ثم أقبل عليه فق َّبله ،ثم قال :بأبي أنت وأمي ،أما الموت ُة
التي كت َب اللهُ عليك فقد ُذق َتها ،ثم لن تصي َبك بعدها موت ٌة أب ًدا.
قال :ثم رد ال ُبر َد على وجه رسول الله ﷺ ،ثم خرج وعم ُر يكلم النا َس،
فقال :على ِرسلِك يا عم ُر ،أن ِصت ،فأبى إلا أن يتك َّلم ،فلما رآه أبو بكر لا ُينص ُت
أقب َل على النا ِس ،فلما سم َع النا ُس كلا َمه أقبلوا عليه وتركوا عم َر ،فح ِم َد الل َه
وأثنى عليه ثم قال :أُا النا ُس ،إنه من كان يعب ُد محم ًدا فإن محم ًدا قد مات ،ومن
كان يعبد الل َه فإن الله حي لا يموت ،قال :ثم تلا هذه الآية( :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ) [آل عمران.]500:
مختصر السيرة النبوية|245
قال :فوالله لكأن النا َس لم يعلموا أن هذه الآي َة نزلت حتى تلاها أبو بكر
يومئ ٍذ ،قال :وأخذها النا ُس عن أبي بك ٍر ،فإنما هي في أفواههم.
قال :فقال أبو هرير َة :قال عم ُر :والله ما هو إلا أن َس ِمع ُت أبا بكر تلاها،
ف َع ِق ْر ُت حتى وقع ُت إلى الأر ِض ما تحم ُلني رجلاي ،وعرفت أن رسو َل الله ﷺ
قد مات.
-7أمرُ َسقيف ِة بني ساعدةَ
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما ُقب َض رسو ُل الله ﷺ انحا َز هذا الح ُّي من الأنصا ِر إلى
سع ِد بن ُعباد َة في سقيف ِة بني ساعد َة ،واعتز َل عل ُّي بن أبي طالب والزبي ُر بن الع َّوام
وطلح ُة بن عبيد الله في بيت فاطم َة ،وانحا َز بق َّي ُة المهاجرين إلى أبي بك ٍر ،وانحا َز
معهم ُأسي ُد بن ُحضير في بني عب ِد الأشهل ،فأتى آ ٍت إلى أبي بك ٍر وعم َر ،فقال :إن
هذا الح َّي من الأنصا ِر مع سع ِد بن عباد َة في سقيف ِة بني ساعد َة قد انحازوا إليه،
فإن كان لكم بأم ِر النا ِس حاج ٌة فأدركوا قبل أن َيتفاقم أم ُرهم ورسو ُل الله ﷺ في
بيته لم ُيفرغ من أم ِره قد َأغلق دونه البا َب أه ُله.
قال عم ُر :فقلت لأبي بكر :انطلق بنا إلى إخوانِنا هؤلاء من الأنصا ِر ،حتى
نن ُظر ما هم عليه.
قا َل اب ُن إسحا َق :قال عم َر بن الخطا ِب :فانطلقنا َنؤ ُّمهم حتى ل ِق َينا منهم
رجلان صالحان ،فذكرا لنا ما تمالأ عليه القو ُم ،وقال :أين ُتريدون يا معش َر
المهاجرين؟
| 246مختصر السيرة النبوية
قلناُ :نريد إخواننا هؤلاء من الأنصا ِر ،قالا :فلا عليكم أن لا َتقربوهم يا
معش َر المهاجرين ،اقضوا أم َركم.
قال :قلت :والله لنأتينَّهم ،فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيف ِة بني ساعد َة ،فإذا
بين َظهرانيهم رج ٌل ُم َّز ِّم ٌل فقلت :من هذا؟
فقالوا :سع ُد بن عباد َة.
فقلت :ما له؟
فقالواَ :و ِج ٌع.
فلما جلسنا تش َّه َد خطي ُبهم ،فأثنى على الله بما هو له أه ٌل ،ثم قال :أما بعد،
فنحن أنصا ُر الله وكتيب ُة الإسلا ِم ،وأنتم يا معش َر المهاجرين رهط منا ،وقد َد َّف ْت
داف ٌة( )1من قو ِمكم ،قال :وإذا هم ُيريدون أن َيحتازونا من أص ِلنا ،و َيغ ِصبونا
الأم َر ،فلما سكت أرد ُت أن أتكل َم ،وقد َز َّو ْر ُت في نفسي َمقال ًة( )2قد أعجبتني،
أري ُد أن أق ِّد َمها بين يدي أبي بك ٍر ،وكنت أداري منه بع َض الح ِّد.
فقال أبو بكر :على ِرسلك يا عم ُر ،فكرهت أن ُأغض َبه ،فتكلم ،وهو كان
أعل َم منى وأوق َر ،فوالله ما تر َك من كلم ٍة أعجبتني من َتزويري إلا قاَلا في بدُتِه،
أو مث َلها أو أفض َل ،حتى سكت.
قال :أما ما ذكرتم فيكم من خي ٍر ،فأنتم له أه ٌل ،ولن َتعر َف العر ُب هذا
الأم َر إلا َلذا الح ِّي من قري ٍش ،هم أوس ُط العر ِب نس ًبا ودا ًرا ،وقد رضي ُت لكم
( )1ال َّدا َفة :الجيش َيد ُّفون نحو العدو أي يدبون ،كناية.
(َ )2ز َّو ْر ُت مقال ًة :حسنتها وقومتها.
مختصر السيرة النبوية|247
أح َد هذين الرجلين ،فبايعوا أ َُّما شئتم ،وأخذ بيدي وبيد أبي عبيد َة بن الجرا ِح،
وهو جال ٌس بيننا ،ولم أكره شي ًئا مما قا َل غي َرها ،كان والله أن ُأق َّد َم فتض َب ُعنقي،
لا ُيقربني ذلك إلى إث ٍم ،أح َّب إل َّي من أن أتأ َّمر على قو ٍم فيهم أبو بكر.
فقال قائ ٌل من الأنصا ِر :أنا ُج َذ ْي ُلها المُ َح َّك ُك( )1و ُعذي ُقها المُ َر َّج ُب( ،)2منا
أمي ٌر ومنكم أمي ٌر يا معش َر قري ٍش.
قال :فك ُثر ال َّلغ ُط ،وارتفع ِت الأصوا ُت ،حتى تخوف ُت الاختلا َف ،فقلت:
اب ُسط يدك يا أبا بك ٍر ،فبسط ي َده ،فبايع ُته ،ثم بايعه المهاجرون ،ثم بايع ُه الأنصا ُر،
و َنزونا على سع ِد بن عباد َة( ،)3فقال قائ ٌل منهم :ق َتل ُتم سع َد بن عباد َة.
قال :فقلت :قتل الل ُه سع َد بن ُعبادة.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أن ِس بن مالك قال :لما ُبوي َع أبو بكر في السقيف ِة وكان
الغ ُد ،جل َس أبو بك ٍر على المِنبر ،فقام عم ُر ،فتكلم قبل أبي بكر ،فح ِمد اللهَ وأثنى
عليه بما هو أه ُله ،ثم قال :أُا النا ُس ،إني كنت قل ُت لكم بالأم ِس َمقال ًة ما كانت
مما وجد ُتها في كتاب الله ،ولا كانت عه ًدا عهده إل َّي رسو ُل الله ﷺ ،ولكني قد
كنت أرى أن رسو َل الله ﷺ س ُيد ِّبر أم َرنا ،يقول :يكون آخ َرنا ،وإن الله قد أبقى
فيكم كتا َبه الذي به هدى الل ُه رسو َله ﷺ ،فإن اعتصمتم به هداكم اللهُ لما كان هداه
(ُ )1ج َذ ْي ُلها المُ َح َّك ُك :الجذيل تصغير جذل والجذل هنا عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به وتستريح
إليه ،فتضب به العرب المثل للرجل يستشفى برأيه
(ُ )2ع َذ ْي ُقها ال ُم َر َّج ُب :عذيق تصغير عذق وهي النخلة بنفسها والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة
حمله ولعزه على أهله ،وتضب به العرب المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه.
(َ )3ن َز ْو َنا على سعد بن عبادة :أي وثبنا عليه.
| 248مختصر السيرة النبوية
له ،وإن اللهَ قد جم َع أم َركم على خي ِركم ،صاح ِب رسو ِل الله ﷺ ،ثان َي اثنين إذ ُهما
في الغا ِر ،فقوموا فبايعوه ،فباي َع النا ُس أبا بك ٍر بيع َة العا َّمة ،بعد بيع ِة السقيف ِة.
ِ -8جهاُز رسولِ الله ﷺ ودفُنه
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما ُبويع أبو بكر ،أقب َل النا ُس على جهاز رسو ِل
الله ﷺ يو َم الثلاثا ِء ،فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر وحسي ُن بن عبد الله وغي ُرهما من
أصحابنا :أن عل َّي بن أبي طالب ،والعبا َس بن عب ِد المطلب ،والفض َل بن العبا ِس،
و ُق َث َم بن العبا ِس ،وأسام َة بن زي ٍد ،و ُشقرا َن مولى رسو ِل الله ﷺ ،هم الذين َو ُلوا
َغس َله ،وأن أو َس بن َخول ٍّي أح َد بني عو ِف بن الخزر ِج ،قال لعل ِّي بن أبي طالب:
أن ُشدك الل َه يا عل ُّي وح َّظنا من رسو ِل الله ﷺ ،وكان أو ٌس من أصحاب رسو ِل الله
ﷺ وأه ِل بد ٍر.
قال :ادخل ،فدخل فجل َس ،وح َض غس َل رسو ِل الله ﷺ ،فأسنده عل ُّي بن
أبي طال ٍب إلى صدره ،وكان العبا ُس والفض ُل و ُقث ُم يق ِّلبونه معه ،وكان أسام ُة بن
زيد و ُشقران مولاه ،هما اللذان يصبان الما َء عليه ،وعل ُّي ُيغ ِّسله ،قد أسنده إلى
صد ِره ،وعليه قمي ُصه ُيد ِّل ُكه به من ورائه ،لا ُيفضى بي ِده إلى رسو ِل الله ﷺ ،وعلي
يقول :بأبي أنت وأمي ،ما أطي َبك ح ايا ومي ًتا! ولم ُير من رسو ِل الله ﷺ شي ٌء مما
ُيرى من الم ِّيت.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما ُفر َغ من غس ِل رسو ِل الله ﷺ ُك ِّفن في ثلاث ِة أثوا ٍب:
ثوبين ُصحار َّيين( )1و ُبر ِد ِح َبر ٍةُ ،أدر َج فيها إدرا ًجا.
(ُ )1ص َحار َّيين :نسبة إلى «صحار» ،وهي مدينة من اليمن
مختصر السيرة النبوية|249
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عبا ٍس قال :لما أرادوا أن َيحفروا لرسو ِل الله ﷺ،
وكان أبو عبيد َة بن الجراح َي َض ُح( )1كحفر أه ِل م َّك َة ،وكان أبو طلحة زي ُد بن
سه ٍل هو الذي يح ِفر لأه ِل المدينة ،فكان َيل َح ُد ،فدعا العبا ُس رجلين ،فقال
لأح ِدهما :اذهب إلى أبي عبيد َة بن الجراح ،وللآخ ِر :اذه ْب إلى أبي طلح َة ،اللهم
ِخ ْر لرسو ِل الله ﷺ ،فوجد صاح ُب أبي طلحة أبا طلح َة ،فجاء به ،فل َح َد لرسو ِل
الله ﷺ.
فلما ُفر َغ من جها ِز رسو ِل الله ﷺ يو َم الثلاثا ِءُ ،وض َع على سري ِره في بيتِه وقد
كان المسلمون اختلفوا في دفنِه ،فقال قائ ٌل :ندفنه في مسج ِده وقال قائ ٌل :بل ندفنه
مع أصحابِه ،فقال أبو بكر :إني سمعت رسو َل الله ﷺ يقول« :ما ُقبض نبي إلا
ُدفن حيث ُيقبض» ف ُرفع فرا ُش رسو ِل الله ﷺ الذي ُتو ِّفي عليه ،ف ُحفر له تح َته.
ثم دخل النا ُس على رسول الله ﷺ ُيص ُّلون عليه أرسا ًلا ،دخل الرجا ُل،
حتى إذا فرغوا ُأدخل النسا ُء ،حتى إذا فرغ النسا ُء ُأدخل الصبيا ُن.
ولم يؤم النا َس على رسو ِل الله ﷺ أ َح ٌد.
ثم ُدفن رسو ُل الله ﷺ من و َس ِط اللي ِل ليل َة الأربعاء.
وكان الذين نزلوا في قب ِر رسو ِل الله ﷺ عل ُّي بن أبي طالب ،والفض ُل بن
عبا ٍس ،و ُقث ُم بن عباس ،و ُشقران مولى رسو ِل الله ﷺ.
وقد قال أو ُس بن َخول ٍّي لعل ِّي بن أبي طالب :يا عل ُّي ،أن ُشدك اللهَ ،وح َّظنَا من
رسو ِل الله ﷺ ،فقال له :ان ِز ْل ،فنز َل مع القو ِم.
(َ )1ي ْ َض ُح :من الضيح ،وهو الشق في وسط القبر ،وال َّل ْحد :الشق في الجانب.