| 051مختصر السيرة النبوية
قال :ولم؟
قالواُ :نريد المِير َة.
قال :فهل أنتم ُمب ِّلغون عني محم ًدا رسال ًة أرس ُلكم بها إليه ،و ُأحم ُل لكم هذه
غ ًدا زبي ًبا ب ُعكا ٍظ إذا وافيتموها؟
قالوا :نعم.
قال :فإذا وافي ُتموه فأخبروه أ َّنا قد أجمعنا السي َر إليه وإلى أصحابِه لنستأ ِص َل
بق َّيتهم ،فم َّر الرك ُب برسو ِل الله ﷺ وهو بحمرا ِء الأس ِد ،فأخبروه بالذي قال أبو
سفيان ،فقال« :حسبنا اللهُ ونع َم الوكي ُل».
قا َل اب ُن إسحا َق :كان يو ُم ُأح ٍد يو َم بلا ٍء ومصيب ٍة وتمحيص ،اختبر اللهُ به
المؤمنين ،ومَحَ َن به المنافقين ممن كان ُيظه ُر الإيما َن بلسانه ،وهو ُمستخ ٍف بالكف ِر في
قلبِه ،ويو ًما أكر َم الله فيه من أرا َد كرامته بالشهاد ِة من أه ِل ولايتِه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فجمي ُع من استشه َد من المسلمي َن مع رسو ِل الله ﷺ من
ال ُمهاجرين والأنصار خمس ٌة وستون رج ًلا.
قا َل اب ُن إسحا َق :فجمي ُع من َقتل الل ُه تبارك وتعالى يو َم أح ٍد من المشركين
اثنا ِن وعشرون رج ًلا.
-11ذك ُر يو ِم الرجيع في سنةِ ثلا ٍث
عن محم ِد بن إسحاق الم َّطلبي قال :حدثني عاص ُم بن عمر بن قتاد َة قال:
ق ِدم على رسو ِل الله ﷺ بع َد أ ُح ٍد ره ٌط من َع َض ٍل والقا َّر ِة ،فقالوا :يا رسو َل الله،
مختصر السيرة النبوية|050
إن فينا إسلا ًما ،فابعث معنا نف ًرا من أصحابِك ُيف ِّقهوننا في الدين ،و ُيق ِرئوننا
القرآ َن ،و ُيعلموننا شرائ َع الإسلام؛ فبعث رسو ُل الله ﷺ نف ًرا ست ًة من أصحابِه،
وهمَ :مرث ُد بن أبي مرث ٍد الغنو ُّي ،وخال ُد بن البكير الليثي ،وعاص ُم بن ثاب ِت بن
أبي الأقل ِح ،و ُخبي ُب بن عد ِّي ،وزيد بن ال َّدثِن ِة بن معاوي َة ،وعب ُد الله بن طارق.
وأ َّمر رسو ُل الله ﷺ على القو ِم مرث َد بن أبي مرث ٍد الغنو َّي ،فخرج مع القو ِم،
حتى إذا كانوا على الرجي ِع :ما ٍء َلُذي ٍل بناحية الحجا ِز ،على صدو ِر اَلد َأة َغدروا
بهم ،فاستصرخوا عليهم ُهذي ًلا ،فلم َي ُرع القو َم وهم في رحاَلم إلا الرجا ُل
بأيدُم السيو ُف قد غ َشوهم ،فأخذوا أسيا َفهم ل ُيقاتلوهم فقالوا َلم :إنا والله ما
ُنريد قت َلكم ،ولكنا نري ُد أن ُنصيب بكم شي ًئا من أهل م َّك َة ولكم عه ُد الله وميثا ُقه
ألا نق ُت َلكم.
فأما مرث ُد بن أبي مرث ٍد ،وخال ُد بن ال ُبكير ،وعاص ُم بن ثاب ٍت فقالوا :والله لا
نقب ُل من مشر ٍك عه ًدا ولا عق ًدا أب ًدا ،ثم قاتل القو َم حتى ُقتل و ُقتِ َل صاحباه.
فلما ُقتل عاص ٌم أرادت ُهذي ٌل أخذ رأ ِسه ،ليبيعوه من ُسلاف َة بنت سع ِد بن
ُشهيد ،وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يو َم أ ُح ٍد :لئن قدرت على رأ ِس
عاص ٍم لتشر َب َّن في ِق ْح ِفه الخم َر ،فمن َع ْته ال َّد ْب ُر( ،)1فلما حالت بينه وبينَهم الدب ُر
قالوا :دعوه ُيمسي ف َتذه ُب عنه فنأخ َذه ،فبعث الله الوادي ،فاحتمل عاص ًما،
فذهب به ،وقد كان عاص ٌم قد أعطى الل َه عه ًدا أن لا يم َّسه مشر ٌك ،ولا يم َّس
مشر ًكا أب ًدا تن ُّج ًسا.
( )1ال َّد ْبر :جماعة النحل.
| 052مختصر السيرة النبوية
فكان عم ُر بن الخطاب يقول :حين بلغ ُه أن الدبر من َعته :يحف ُظ اللهُ
العب َد المؤمن ،كان عاص ٌم نذ َر ألا يم َّسه مشر ٌك ،ولا يم َّس مشر ًكا أب ًدا في حياته،
فمنعه الل ُه بعد وفاتِه ،كما امتن َع منه في حيا ِته.
وأما زي ُد بن ال َّدثِن ِة و ُخبيب بن عد ٍّي وعب ُد الله بن طارق ،فلانوا ورقوا
ور ِغبوا في الحيا ِة ،فأعطوا بأيدُم ف َأسروهم ،ثم خرجوا إلى م َّك َة ،ل َيبيعوهم بها،
حتى إذا كانوا بال َّظهران انتز َع عب ُد الله بن طار ٍق ي َده من ال ِقرا ِن ،ثم أخذ سي َفه،
واستأخ َر عنه القو ُم ،فرموه بالحجار ِة حتى َقتلوه ،فقب ُره بال َّظهرا ِن ،وأما
ُخبي ُب بن عدي وزيد بن ال َّدثنة فق ِدموا بهما م َّك َة.
قا َل اب ُن إسحا َق :فابتا َع ُخبي ًبا ُحجي ُر بن أبي إها ٍب التميم ُّي لعقب َة بن
الحارث بن عام ِر بن نوفل ،وكان أبو إهاب أخا الحار ِث بن عام ٍر لأ ِّمه ،ليقت َله
بأبيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :وأما زي ُد بن ال َّدثن ِة فابتاعه صفوا ُن بن أمي َة ل َيق ُتله بأبيه أمي َة
بن خل ٍف ،وبعث به صفوا ُن بن أمي َة مع مولى لهُ ،يقال له :نِسطا ٌس إلى التنعي ِم،
وأخرجوه من الحر ِم ل َيقتلوه ،واجتمع ره ٌط من قريش ،فيهم أبو سفيا َن بن
حرب ،فقال له أبو سفيان حين ُق ِّدم ل ُيق َتل :أن ُشدك اللهَ يا زيد ،أتحب أن محم ًدا
عندنا الآ َن في مكانِك نض ُب ُعن َقه ،وأنك في أهلك؟
قال :والله ما أحب أن محم ًدا الآن في مكانِه الذي هو فيه ُتصيبه شوك ٌة
تؤذيه ،وأنى جال ٌس في أهلي.
مختصر السيرة النبوية|053
قال :يقول أبو سفيان :ما رأي ُت من النا ِس أح ًدا يح ُّب أح ًدا كحب أصحا ِب
محم ٍد محم ًدا ،ثم قتله نسطاس يرحمه الله.
وأما ُخبيب بن عد ٍّي ،فعن ما ِو َّي َة مولا ِة ُحجير بن أبي إها ٍب -وكانت قد
أسلمت -قالت :كان خبي ٌب عنديُ ،حبس في بيتي ،فلقد اطلعت عليه يو ًما ،وإن
في يده َل ِقط ًفا من عن ِب مثل رأ ِس الرجل يأك ُل منه ،وما أعل ُم في أر ِض الله عن ًبا
ُيؤكل.
قا َل اب ُن إسحا َق :وعنها أنها قالت :قال لي حين حض ُه القت ُل :ابعثي إل َّي
بحديد ٍة أتط َّهر بها للقت ِل ،قالت :فأعطيت غلا ًما من الحي ال ُموسى ،فقلت :ادخل
بها على هذا الرج ِل البي َت ،قالت :فوالله ،ما هو إلا أن و َّلى الغلا ُم بها إليه ،فقل ُت:
ماذا صنع ُت! أصاب والله الرج ُل ثأ َره بقت ِل هذا الغلا ِم ،فيكون رج ًلا برج ٍل ،فلما
ناوله الحديد َة أخ َذها من ي ِده ثم قالَ :لعم ُرك ،ما خافت أ ُّمك غدري حين بع َث ْتك
بهذه الحديد ِة إل َّي! ثم خ َّلى سبيله.
قا َل اب ُن إسحا َق :قال عاصم :ثم خرجوا ب ُخبي ٍب ،حتى إذا جاءوا به إلى
التنعي ِم ل َيصلبوه ،قال َلم :إن رأيتم أن َتدعوني حتى أرك َع ركعتين فافعلوا ،قالوا:
دو َنك فارك ْع ،فركع ركعتين أتمَّهما وأحسنَهما ،ثم أقب َل على القو ِم فقال :أما والله
لولا أن تظ ُنّوا أني إنما ط َّولت جز ًعا من القت ِل لاستكثر ُت من الصلا ِة.
قال :فكان خبي ُب بن عد ٍّي أ َّو َل من س َّن هاتين الركعتي ِن عند القت ِل
للمسلمين.
| 054مختصر السيرة النبوية
قال :ثم رفعوه على خشب ٍة ،فلما أوثقوه قال :الله َّم إ َّنا قد ب َّلغنا رسال َة
رسولك ،فب ِّلغه الغدا َة ما ُيصن ُع بنا ،ثم قال :اللهم أح ِصهم عد ًدا ،واق ُتلهم َبد ًدا،
ولا ُتغادر منهم أح ًدا .ثم قتلوه .
-11حديثُ بئرِ َمعون َة في صفر سنةَ أربع
وكان من حديثِهم أن ق ِدم أبو برا ٍء عام ُر بن مال ٍك ُملاع ُب الأسنَّ ِة على
رسو ِل الله ﷺ المدين َة ،ف َعرض عليه رسو ُل الله ﷺ الإسلا َم ،ودعاه إليه ،فلم
ُيس ِلم ولم َيب ُعد من الإسلا ِم ،وقال :يا محم ُد ،لو َبعثت رجا ًلا من أصحابِك إلى أه ِل
نج ٍد ،فدعوهم إلى أم ِركَ ،رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :إني أخشى عليهم أه َل نج ٍد».
قال أبو برا ٍء :أنا َلم جا ٌر ،فابعث ُهم فليدعوا النا َس إلى أم ِرك.
فبعث رسو ُل الله ﷺ المنذ َر بن عمرو في أربعي َن رج ًلا من أصحابِه من خيا ِر
المسلمين.
فساروا حتى نزلوا ببئ ِر َمعون َة ،فلما نزلوها بعثوا َحرا َم بن ِملحا َن بكتا ِب
رسو ِل الله ﷺ إلى عد ِّو الله عام ِر بن ال ُّطفي ِل ،فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على
الرج ِل فقتل ُه.
ثم استصر َخ عليهم بني عام ٍر ،فأبوا أن ُيجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا :لن
ُنخ ِفر أبا برا ٍء ،وقد عق َد َلم عق ًدا و ِجوا ًرا.
مختصر السيرة النبوية|055
فاستصر َخ عليهم قبائ َل من بني ُسلي ٍم فأجابوه إلى ذلك ،فخرجوا حتى
غشوا القو َم ،فأحاطوا بهم في ِرحاَ ِلم ،فلما رأوهم أخذوا ُسيو َفهم ،ثم قا َتلوهم
حتى ُقتلوا من عند آخ ِرهم َ -يرح ُمهم الل ُه -إلا كع َب بن زي ٍد أخا بني دينا ِر بن
النجا ِر ،فإنهم تركوه وبه رم ٌق ،فا ْر ُت َّث( )1من بين القتلى ،فعا َش حتى ُقتل يو َم
الخند ِق شهي ًدا ،رحمه الله.
وكان في سر ِح القو ِم عم ُرو بن أمي َة ال َّضمر ُّي ،ورج ٌل من الأنصا ِر أح ُد بني
عمرو بن عو ٍف.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلم ُينْبئهما ب ُمصا ِب أصحابِهما إلا الطي ُر تحو ُم على
العسك ِر ،فقالا :والله إن َ ِلذه الطي ِر لشأ ًنا ،فأقبلا لين ُظرا ،فإذا القو ُم في دما ِئهم،
وإذا الخي ُل التي أصابتهم واقف ٌة.
فقال الأنصار ُّي لعمرو بن أمية :ما ترى؟ قال :أرى أن َنلح َق برسو ِل الله
ﷺ ،فنخب َره الخب َر.
فقال الأنصار ُّي :لكني ما كنت لأرغ َب بنفسي عن َموط ٍن ُقتل فيه المنذ ُر بن
عمرو ،وما كن ُت ل ُتخب َرني عنه الرجا ُل ،ثم قات َل القو َم حتى ُقت َل ،وأخذوا عم َرو
بن أمي َة أسي ًرا ،فلما أخب َرهم أنه من ُم َض ،أطلقه عام ُر بن الطفي ِل ،وج َّز ناصي َته،
وأع َت َقه عن رقب ٍة زعم أنها كانت على أ ِّمه.
فخر َج عمرو بن أم َّي َة حتى إذا كان بال َقرقر ِة من صدر قنا ٍة ،أقبل رجلا ِن من
بني عام ٍر ،حتى نزلا معه في ظ ٍّل هو فيه ،وكان مع العامر َّي ْين عق ٌد من رسو ِل الله
( )1ا ْر ُت َّث :أي :حُمل من المعركة مثخنا ضعيفا.
| 056مختصر السيرة النبوية
ﷺ و ِجوا ٌر ،لم يعلم به عم ُرو بن أمي َة ،وقد سأَلما حين نزلا« :ممَّن أنتما؟» فقالا:
من بني عام ٍر ،فأمه َل ُهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقت َلهما ،وهو يرى أنه قد أصا َب
بهما ُثؤر ًة من بني عام ٍر فيما أصابوا من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ ،فلما َق ِدم عم ُرو بن
أم َّي َة على رسو ِل الله ﷺ فأخب َره الخب َر ،قال رسو ُل الله ﷺ« :لقد قتل َت قتيلي ِن،
لأَ ِد َي َّن ُهما!» ،ثم قال رسو ُل الله ﷺ« :هذا عم ُل أبي برا ٍء ،قد كنت همذا كارها
ُم َتخ ِوفا» ،فبلغ ذلك أبا برا ٍء ،فش َّق عليه إخفا ُر عام ٍر إياه ،وما أصا َب أصحا َب
رسو ِل الله ﷺ بسببه وجوا ِره.
-12أم ُر إجلاءِ بني النضير في سن ِة أرب ٍع
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم خرج رسو ُل الله ﷺ إلى بني النضي ِر َيستعينُهم في ِدية
َذينَك القتيلين من بني عام ٍر اللذين َقت َل عم ُرو بن أمي َة الضمر ُّي؛ للجوا ِر الذي
كان رسو ُل الله ﷺ عق َد َلما ،وكان بين بني النضي ِر وبين بني عام ٍر عق ٌد و ِحل ٌف.
فلما أتاهم رسو ُل الله ﷺ َيس َتعينُهم في دي ِة ذينَك القتيلين ،قالوا :نعم ،يا أبا
القاس ِمُ ،نعينُك على ما أحبب َت ،مما است َعنت بنا عليه.
ثم خلا بع ُضهم ببع ٍض ،فقالوا :إنكم لن َتدوا الرج َل على مثل حالِه هذه -
ورسو ُل الله ﷺ إلى جن ِب جدا ٍر من بيوتِهم قاع ٌد -ف َمن رج ٌل يعلو على هذا
البي ِت ،ف ُيلقي عليه صخر ًة؛ ف ُيريحنا منه؟
فان ُت ِد َب لذلك عم ُرو بن َج َّحاش بن كع ٍب أح ُدهم ،فقال :أنا لذلك ،فص ِعد
ل ُيلقي عليه صخر ًة كما قال ،ورسو ُل الله ﷺ في نف ٍر من أصحابِه فيهم أبو بك ٍر
وعم ُر وعلي ِرضوان الله عليهم.
مختصر السيرة النبوية|057
فأتى رسو َل الله ﷺ الخب ُر من السما ِء بما أرا َد القو ُم ،فقام وخرج راج ًعا إلى
المدين ِة ،فلما استل َب َث النب َّي ﷺ أصحا ُبه ،قاموا في طلبِه ،فلقوا رجلا ُمقب ًلا من
المدينة ،فسألوه عنه ،فقال :رأي ُته داخ ًلا المدين َة.
فأقبل أصحا ُب رسول الله ﷺ حتى ان َتهوا إليه ﷺ ،فأخبرهم الخب َر بما
كانت اليهو ُد أرا َدت من الغد ِر به ،وأم َر رسو ُل الله ﷺ بالته ُّي ِؤ لحربِهم ،والسي ِر
إليهم.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم سار بالنا ِس حتى نز َل بهم.
قال اب ُن هشا ٍم :وذلك في شهر ربي ٍع الأ َّو ِل ،فحا َص َرهم ست ليا ٍل ،ونزل
تحريم الخم ِر.
قا َل اب ُن إسحا َق :فتح َّصنوا منه في الحصو ِن ،فأمر رسو ُل الله ﷺ بقط ِع
النخي ِل والتحري ِق فيها ،فنا َدوه :أن يا محم ُد ،قد كنت َتنهى عن الفسا ِد ،و َتعي ُبه على
من صنَعه ،فما با ُل قط ِع النخ ِل وتحري ِقها؟
وقد كان ره ٌط من بني عو ِف بن الخزرج ،منهم عد ُّو الله عب ُد الله بن أبي ابن
َسلول ووديع ُة ومالك بن أبي َقوق ٍل و ُسوي ٌد وداع ٌس قد بعثوا إلى بني النضير :أن
اث ُبتوا وتمنَّعوا ،فإنا لن ُنسل َمكم ،إن قوتِلتم قا َتلنا معكم ،وإن ُأخرج ُتم خرجنا
معكم ،فتر َّبصوا ذلك من نص ِرهم ،فلم َيفعلوا ،وقذف اللهُ في قلوبهم الرع َب،
وسألوا رسو َل الله ﷺ أن يُجل َيهم و َي ُك َّف عن دما ِئهم ،على أن َلم ما حمل ِت الإب ُل
من أمواَ ِلم إلا ال َح ْلق َة( ،)1ففعل.
( )1ال َح ْلقة :الدروع.
| 058مختصر السيرة النبوية
فاحتملوا من أمواَلم ما استق َّلت به الإب ُل ،فكان الرج ُل منهم ُد ُم بي َته عن
نِجا ِف( )1بابه ،فيض ُعه على ظهر بعيره فينطلق به ،فخرجوا إلى خيب َر ،ومنهم من
سا َر إلى الشأ ِم.
وخلوا الأموا َل لرسو ِل الله ﷺ ،فكانت لرسو ِل الله ﷺ خاص ًةَ ،يض ُعها
حيث يشا ُء ،فق َّسمها رسو ُل الله ﷺ على المُهاجرين الأولين دو َن الأنصا ِر ،إلا أن
سه َل بن ُحني ٍف وأبا ُدجان َة سما َك بن َخرشة ذكرا فق ًرا؛ فأعطاهما رسو ُل الله ﷺ.
-13غزوُة بدٍر الآخرُة في شعبان سن َة أربعٍ
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم خرج في شعبا َن إلى بد ٍر ،لميعا ِد أبي سفيان ،حتى نزله،
فأقا َم عليه ثماني ليا ٍل ينتظر أبا سفيا َن ،وخر َج أبو سفيان في أه ِل م َّك َة حتى نز َل جَل َنّ َة،
من ناحية الظهران ،وبع ُض الناس يقول :قد بلغ ُعسفا َن ،ثم بدا له في الرجو ِع ،فقال:
يا معش َر قري ٍش ،إنه لا ُيصل ُحكم إلا عا ٌم َخصي ٌب ترعون فيه الشج َر ،وتشربون فيه
اللب َن ،وإن عا َمكم هذا عا ُم َجد ٍب ،وإني راج ٌع فارجعوا؛ فرجع النا ُس .فسماهم أه ُل
مك َة جي َش السويق ،يقولون :إنما خرج ُتم َتشربون السوي َق.
-14غزوُة الخند ِق في شوال سن َة خمس
إنه كان من حدي ِث الخند ِق أن نف ًرا من اليهو ِد ،منهم :س َّلام بن أبي ال ُحقيق
و ُح َيي بن أخط َب في نف ٍر من بني النضي ِر ونف ٍر من بني وائ ٍل -وهم الذين ح َّزبوا
الأحزا َب على رسو ِل الله ﷺَ -خرجوا حتى ق ِدموا على قري ٍش مك َة ،ف َدعوهم إلى
حر ِب رسو ِل الله ﷺ ،وقالوا :إ َّنا سنكون معكم عليه ،حتى َنستأ ِص َله.
( )1النِّ َجاف :العتبة وهي أسكفة الباب.
مختصر السيرة النبوية|059
فقالت َلم قري ٌش :يا معش َر ُو َد ،إنكم أه ُل الكتا ِب الأول والعل ِم بما
أصبحنا نختل ُف فيه نحن ومحم ٌد ،أفدينُنا خي ٌر أم دينُه؟
قالوا :بل دينُكم خي ٌر من دينه ،وأنتم أولى بالح ِّق منه ،فهم الذين أنز َل الله
تعالى فيهم( :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿ) إلى قوله تعالى( :ﮆﮇﮈﮉ) [النساء.]11-15:
قال :فلما قالوا ذلك لقري ٍش ،س َّرهم ون َشطوا لما َدعوهم إليه من حر ِب
رسو ِل الله ﷺ ،فاج َتمعوا لذلك وا َّتعدوا له ،ثم خرج أولئك النف ُر من ُو َد حتى
جاءوا غ َطفا َن من قي ِس عيلا َن ،فدعوهم إلى حر ِب رسو ِل الله ﷺ ،وأخبروهم
أنهم سيكونون معهم عليه ،وأن قري ًشا قد تابعوهم على ذلك؛ فاجتمعوا معهم
فيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فخرجت قري ٌش وقائدها أبو سفيا َن بن حرب ،وخرجت
غطفا ُن وقا ِئدها عيين ُة بن حص ٍن في بني َفزار َة ،والحارث بن عوف في بني ُم َّر َة،
و ِمسعر بن ُرخيل َة فيمن تابعه من قو ِمه من أشج َع.
فلما سمع بهم رسو ُل الله ﷺ وما أجمعوا له من الأم ِر ض َب الخند َق على
المدين ِة ،فعمل فيه رسو ُل الله ﷺ َترغي ًبا للمسلمين في الأج ِر ،وع ِمل معه المسلمون
فيه ،فدأ َب فيه ودأبوا.
وأبطأ عن رسو ِل الله ﷺ وعن المسلمين في ع ِملهم ذلك رجا ٌل من
المنافقين ،و َجعلوا ُيورون بالضعي ِف من العم ِل ،ويتس َّللون إلى أهليهم بغي ِر عل ٍم
من رسول الله ﷺ ،ولا إذ ٍن.
| 061مختصر السيرة النبوية
وجعل الرج ُل من المسلمين إذا نابته النائب ُة من الحاجة التي لا ُب َّد له منها،
َيذكر ذلك لرسو ِل الله ﷺ و َيستأذ ُنه في اللحو ِق بحاجته؛ فيأذ ُن له ،فإذا قضى
حاج َته رج َع إلى ما كان فيه من عم ِله رغب ًة في الخي ِر واحتسا ًبا له.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان في حف ِر الخند ِق أحادي ُث بلغتني ،فيها من الله تعالى
عبر ٌة في تصدي ِق رسو ِل الله ﷺ ،وتحقي ِق نب َّوته ،عاين ذلك المسلمون.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من الخند ِق ،أقبلت قري ٌش حتى
نزلت ب ُمجت َم ِع الأسيا ِل من ُروم َة بين ال ُج ُر ِف و َزغاب َة في عشرة آلا ٍف من
أحابِي ِشهم ،ومن تبِعهم من بني ِكنا َن َة وأه ِل تِهام َة ،وأقبلت غ َطفا ُن ومن تبعهم من
أه ِل نج ٍد حتى نزلوا ب َذ َنب َنقمى إلى جانب أ ُح ٍد.
وخر َج رسو ُل الله ﷺ والمسلمون حتى جعلوا ظهو َرهم إلى َس ْل ٍع ،في ثلاثة
آلا ٍف من المسلمين ،فض َب هنالك عسك َره ،والخند ُق بينه وبين القو ِم.
قال :وخرج عد ُّو الله ُحي ُّي بن أخط َب النض ُّي ،حتى أتى كع َب بن أسد
القرظ َّي صاح َب عق ِد بني قريظ َة وعه ِدهم ،وكان قد وا َد َع رسو َل الله ﷺ على
قو ِمه ،وعا َق َده على ذلك وعاهده ،فلما سمع كع ٌب ب ُحيي بن أخط َب أغل َق دونه
باب ِحصنِه ،فاستأذن عليه فأبى أن يفت َح له؛ فناداه حيي :ويحك يا كع ُب ،افتح لي!
قال :ويحك يا ُحي ُّي ،إنك امر ٌؤ مشئو ٌم ،وإني قد عاهدت محم ًدا ،فلست
بناق ٍض ما بيني وبينه ،ولم أ َر منه إلا وفا ًء وصد ًقا.
قال :ويحك افتح لي أك ِّل ْمك.
قال :ما أنا بفاع ٍل.
مختصر السيرة النبوية|060
قال :والله إن أغلق َت دوني إلا عن َجشيشتِك( )1أن آك َل معك منها.
ف َأح َف َظ الر ُج َل()2؛ ففتح له.
فقال :ويح َك يا كع ُب ،جئ ُتك بع ِّز الده ِر وببح ٍر طا ٍّم ،جئتك بقري ٍش على
قادتها وسادتِها ،حتى أنزلتهم بمجتم ِع الأسيا ِل من ُروم َة ،وبغطفان على قادتِها
وسادتِها حتى أنزلتهم ب َذ َنب نقمى إلى جانب أ ُح ٍد ،قد عاهدوني وعاقدوني على أن
لا َيبرحوا حتى َنستأص َل محم ًدا ومن معه.
قال :فقال له كع ٌب :جئتني والله ب ُذ ِّل الده ِر ،وب َجها ٍم( )3قد هرا َق ماءه ،فهو
َيرعد و َيب ُرق ،ليس فيه شي ٌء ،ويحك يا ُحي ُّي! فدعني وما أنا عليه ،فإني لم أ َر من
محمد إلا صد ًقا ووفا ًء.
فلم يزل حي ُّي بكعب َيفتله في الذرو ِة والغا ِرب حتى سمح له على أن أعطاه
عه ًدا من الله وميثا ًقا :لئن ر َج َعت قري ٌش وغ َطفا ُن ،ولم َيصيبوا محم ًدا أن أدخ َل
معك في ِحصنِك حتى ُيصيبني ما أصا َبك ،فنقض كع ُب بن أسد عه َده ،وبرئ مما
كان بينه وبين رسو ِل الله ﷺ.
فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ الخب ُر وإلى المسلمين بعث رسو ُل الله ﷺ سع َد
بن ُمعا ٍذ -وهو يومئذ س ِّي ُد الأو ِس -وسع َد بن ُعباد َة -وهو يومئ ٍذ سيد الخزر ِج-
ومعهما عب ُد الله بن رواحة و َخ َّوا ُت بن ُجبير ،فقال« :انطلقوا حتى َتنظروا ،أح يق ما
بلغنا عن هؤلاء القو ِم أم لا؟»
( )1ال َج ِشي َشة :طحن البر وغيره طحنًا غلي ًظا.
(َ )2أح َف َظ الرج َل :أي :أغضبه ،والحفيظة الغضب.
( )3الجَ َهام :السحاب الذي لا ماء فيه.
| 062مختصر السيرة النبوية
فإن كان ح اقا فال َحنوا لي لحنًا( )1أعر ُفه ،ولا َت ُف ُّتوا في أعضا ِد النا ِس ،وإن
كانوا على الوفا ِء فيما بي َننا وبينهم فاج َهروا به للنا ِس.
قال :فخرجوا حتى َأ َتوهم ،فوجدوهم على أخب ِث ما َبل َغهم عنهم ،ثم أقب َل
سع ٌد وسع ٌد ومن معهما إلى رسو ِل الله ﷺ ،فس َّلموا عليه ،ثم قالواَ :ع َض ٌل
والقا َّر ُة ،أي :كغد ِر َع َض ٍل والقا َّر ِة بأصحاب الرجي ِع :خبي ٍب وأصحا ِبه.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :الله أكب ُر ،أبشوا يا مع َش المسلمين».
قال :وع ُظم عند ذلك البلا ُء ،واشت َّد الخو ُف ،وأتاهم عدوهم من فو ِقهم
ومن أسف َل منهم ،حتى ظن المؤمنون ُك َّل ظ ٍّن ،ونج َم النفا ُق من بع ِض المنافقين.
فأقا َم رسو ُل الله ﷺ وأقا َم عليه المشركون بِض ًعا وعشرين ليلة ،قري ًبا من
شهر ،لم تكن بينهم حر ٌب إلا ال ِّر ِّميا بالنب ِل والحصار.
فلما اشت َّد على الناس البلا ُء بعث رسو ُل الله ﷺ إلى ُعيين َة بن حص ٍن ،وإلى
الحار ِث بن عو ٍف ،وهما قائدا غطفا َن فأعطاهما ثل َث ثما ِر المدين ِة على أن َيرجعا بمن
معهما عنه وعن أصحابِه ،فجرى بينه وبينهما الصل ُح حتى كتبوا الكتا َب ولم تقع
الشهاد ُة ولا عزيم ُة الصلح ،إلا المراوض ُة في ذلك.
فلما أراد رسو ُل الله ﷺ أن يفع َل ،بعث إلى سع ِد بن معا ٍذ وسع ِد بن عباد َة،
فذكر ذلك َلما ،واستشا َرهما فيه ،فقالا له :يا رسو َل الله ،أم ًرا ُتح ُّبه فنصنعه ،أم شي ًئا
أمرك اللهُ به لا بد لنا من العمل به ،أم شي ًئا َتصن ُعه لنا؟
( )1فالحَنُوا لي لحنًا :أي :أعلموني بذلك في الخفاء.
مختصر السيرة النبوية|063
قال« :بل شء أصن ُعه لكم ،والله ما أصن ُع ذلك إلا لأنني رأي ُت العر َب قد
َرمت ُكم عن قو ٍس واحد ٍة ،وكا َل ُبو ُكم من ك ِل جان ٍب ،فأردت أن أك ِ َس عنكم من
شوكتِهم إلى أمر ما».
فقال له سع ُد بن معاذ :يا رسو َل الله ،قد كنا نحن وهؤلاء القو َم على الشر ِك
بالله وعباد ِة الأوثا ِن ،لا نعبد اللهَ ولا نعر ُفه ،وهم لا َيطمعون أن يأكلوا منها تمر ًة
إلا ِق ًرى أو بي ًعا ،أفحين أكرمنا الل ُه بالإسلا ِم وهدانا له وأع َّزنا بك وبهُ ،نعطيهم
أموا َلنا! والله ما لنا بهذا من حاج ٍة ،والله لا ُنعطيهم إلا السي َف حتى َيحك َم الل ُه بيننا
وبينهم.
قال رسو ُل الله ﷺ« :فأنت وذاك».
فتناول سع ُد بن معاذ الصحيف َة ،فمحا ما فيها من الكتا ِب ،ثم قال:
لِ َيجهدوا علينا.
قا َل اب ُن إسحا َق :فأقام رسو ُل الله ﷺ والمسلمون ،وعد ُّوهم محا ِصروهم،
ولم يكن بينهم قتا ٌل إلا أن فوا ِر َس من قري ٍش تل َّبسوا للقتا ِل ،ثم خرجوا على
خيلهم ،ثم تي َّمموا مكا ًنا ضي ًقا من الخند ِق ،فضبوا خي َلهم فاقت َح َمت منه،
وخر َج عل ُّي بن أبي طالب عليه السلام في ن َف ٍر معه من المسلمين حتى أخذوا عليهم
الثغر َة التي أقحموا منها خي َلهم وأقبلت الفرسا ُن ُتعنِق نحوهم.
قال اب ُن هشا ٍم :يقال :إن سلمان الفارس َّي أشا َر به على رسو ِل الله ﷺ،
وحدثني بع ُض أهل العل ِم :أن المهاجرين يو َم الخندق قالوا :سلما ُن منا ،وقالت
الأنصا ُر :سلمان منا ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :سلما ُن م َّنا أه َل البيت».
| 064مختصر السيرة النبوية
وكان ِشعا ُر أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ يو َم الخند ِق وبني قريظ َة :حم ،لا ُين َصرون.
قا َل اب ُن إسحا َق :وأقام رسو ُل الله ﷺ وأصحا ُبه فيما وصف الل ُه من الخو ِف
والش َّد ِة؛ لتظاه ِر عد ِّوهم عليهم ،وإتيانِهم إياهم من فو ِقهم ومن أسف َل منهم.
قال :ثم إن ُنعي َم بن مسعو ٍد أتى رسو َل الله ﷺ فقال :يا رسو َل الله ،إني قد
أسلم ُت ،وإن قومي لم َيعلموا بإسلامي ،ف ُمرني بما شئ َت.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :إنما أنت فينا رجل واحد ،ف َخ ِذ ْل عنا إن استطعت،
فإن الحر َب ُخدعة».
فخرج ُنعيم بن مسعو ِد حتى أتى بني قريظ َة وكان َلم ندي ًما في الجاهلي ِة،
فقال :يا بني قريظ َة ،قد ع َرفتم ُو ِّدي إياكم ،وخاص َة ما بيني وبينكم.
قالوا :صدقت ،لست عندنا ب ُم َّتهم.
فقال َلم :إن قري ًشا وغطفا َن ليسوا كأنتم ،البل ُد بل ُدكم ،فيه أموا ُلكم
وأبناؤكم ونساؤكم ،لا َتقدرون على أن َتح َّولوا منه إلى غي ِره ،وإن قري ًشا وغطفا َن
قد جاءوا لحر ِب محم ٍد وأصحابِه ،وقد ظاهرتُموهم عليه ،وبل ُدهم وأمواَلم
ونساؤهم بغي ِره ،فليسوا كأنتم ،فإن رأوا نُه َز ًة( )1أصابوها ،وإن كان غير ذلك
لحقوا ببلا ِدهم وخلوا بينكم وبين الرج ِل ببلدكم ،ولا طاق َة لكم به إن خلا بكم؛
فلا ُتقاتلوا مع القو ِم حتى تأخذوا منهم ُر ُهنًا من أشرافِهم ،يكونون بأيديكم ثِق ًة
لكم على أن ُتقاتلوا معهم محم ًدا حتى ُتناجزوه.
( )1نُهْ َزة :فرصة.
مختصر السيرة النبوية|065
فقالوا له :لقد أشر َت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قري ًشا ،فقال لأبي سفيا َن بن حر ٍب ومن معه من رجا ِل
قري ٍش :قد عرفتم ُو ِّدي لكم وفراقي محم ًدا ،وإنه قد َبلغني أم ٌر قد رأيت عل َّي ح اقا
أن ُأبلغ ُكموه ،نص ًحا لكم فاكتموا ع ّنِي.
فقالوا :نفعل.
قالَ :ت َع َّلموا أن معش َر ُو َد قد ندموا على ما صنَعوا فيما بينهم وبين محم ٍد،
وقد أرسلوا إليه :إ َّنا قد ن ِدمنا على ما فعلنا ،فهل ُيرضيك أن نأخ َذ لك من
القبيلتين ،من قري ٍش وغطفا َن رجا ًلا من أشرافِهم فنُعطيكهم ،ف َتض َب أعنا َقهم
ثم نكون معك على من بقي منهم حتى َنستأص َلهم؟
فأرسل إليهم :أن نعم ،فإن بع َث ْت إليكم ُو ُد يلتمسون منكم ُر ُهنًا من
رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رج ًلا واح ًدا.
ثم خرج حتى أتى غ َطفا َن ،فقال :يا معش َر غطفان ،إنكم أ ْصِلي وعشيرتي،
وأ َح ُّب النا ِس إل َّي ،ولا أراكم تتهموني.
قالوا :صدقت ،ما أنت عندنا ب ُم َّتهم.
قال :فاكتموا ع ّنِي.
قالوا :نفعل ،فما أم ُرك؟
ثم قال َلم مث َل ما قال لقري ٍش وح َّذرهم ما ح َّذرهم.
| 066مختصر السيرة النبوية
فلما كانت ليل ُة السب ِت من شوال سن َة خم ٍس ،وكان من ُصنع الله لرسولِه ﷺ
أن أرس َل أبو سفيا َن بن حرب ورؤوس غطفا َن إلى بني قريظ َة ِعكرم َة بن أبي
جه ٍل ،في نف ٍر من قري ٍش وغطفا َن ،فقالوا َلم :إنا لسنا بدا ِر ُمقا ٍم ،قد هلك الخُ ُّف
والحاف ُر ،فاغدوا للقتا ِل حتى ُنناجز محم ًدا ،و ُنفر َغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم :إن اليو َم يو ُم السبت ،وهو يو ٌم لا نعمل فيه شي ًئا ،وقد كان
أحدث فيه بع ُضنا حد ًثا ،فأصابه ما لم يَ ْخ َف عليكم ،ولسنا مع ذلك بالذين نقات ُل
معكم محم ًدا حتى تعطونا ُر ُهنًا من رجالكم ،يكونون بأيدينا ثِق ًة لنا حتى ُنناجز
محم ًدا ،فإنا نخشى إن َ َّض َس ْتكم الحر ُب ،واشتد عليكم القتا ُل أن َتن َش ِمروا إلى
بلادكِم وتتركونا ،والرج ُل في بلدنا ،ولا طاق َة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرس ُل بما قالت بنو ُقريظ َة ،قالت قري ٌش وغطفا ُن :والله
إن الذي ح َّدثكم ُنعي ُم بن مسعود لحق ،فأر َسلوا إلى بني قريظ َة :إنا والله لا ندف ُع
إليكم رج ًلا واح ًدا من رجالِنا ،فإن كنتم ُتريدون القتا َل فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو ُقريظ َة حين انتهت الرس ُل إليهم بهذا :إن الذي َذكر لكم ُنعيم بن
مسعو ٍد ل َحق ،ما ُيريد القو ُم إلا أن يقاتلوا ،فإن رأوا ُفرص ًة انتهزوها ،وإن كان غي َر
ذلك انشمروا إلى بلادهم ،وخ ُّلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ،فأرسلوا إلى
قري ٍش وغطفا َن :إنا والله لا نقات ُل معكم محم ًدا حتى ُتعطونا ُر ُهنًا ،فأبوا عليهم،
وخ َّذ َل الل ُه بينهم ،وبعث الل ُه عليهم الري َح في ليا ٍل شاتي ٍة بارد ٍة شديد ِة البرد،
فجعلت تكف ُأ قدو َرهم ،وتطرح أبنيتهم.
مختصر السيرة النبوية|067
قال :فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ ما اختلف من أم ِرهم ،وما ف َّرق الل ُه من
جماعتهم ،دعا حذيف َة ب َن اليمان ،فبعثه إليهم؛ لين ُظ َر ما فعل القو ُم لي ًلا ،فقال« :يا
حذيف ُة ،اذهب فاد ُخل في القو ِم ،فانظ ْر ماذا َيصنعون ،ولا ُتح ِدث َّن شيئا حتى تأتينا».
قال :فذهب ُت فدخلت في القو ِم والري ُح وجنو ُد الله تفعل بهم ما َتفعل ،لا
ُتقر َلم ِقد ًرا ولا نا ًرا ولا بناء.
فقام أبو سفيان ،فقال :يا معش َر قري ٍش :ل َينظر امر ٌؤ َمن جلي ُسه؟
قال حذيف ُة :فأخذت بيد الرج ِل الذي كان إلى جنبي ،فقلتَ :من أنت؟
قال :فلا ُن بن فلان.
ثم قال أبو سفيان :يا معش َر قري ٍش ،إنكم والله ما أص َبحتم بدا ِر ُمقا ٍم ،لقد
هلك ال ُكرا ُع والخُ ُّف ،وأخلفتنا بنو قريظ َة ،وبلغنا عنهم الذي نكره ،ولقينا من
شدة الري ِح ما ترون ،ما تطم ِئ ُّن لنا قد ٌر ،ولا تقوم لنا نا ٌر ،ولا يستمسك لنا بنا ٌء،
فارت ِحلوا فإني ُمرتح ٌل ،ثم قام إلى جَم ِله وهو معقو ٌل ،فجلس عليه ،ثم ض َبه ،فوثب
به على ثلا ٍث ،فوالله ما َأطلق ِعقا َله إلا وهو قائ ٌم ،ولولا عه ُد رسول الله ﷺ إلي
«أن لا ُتح ِدث شيئا حتى تأتيني» ثم شئت ،لقتلته بسهم.
قال حذيف ُة :فرجعت إلى رسو ِل الله ﷺ وهو قائ ٌم يصلي في ِمر ٍط( )1لبعض
نسائه ُم َر َّحل ،فلما رآني أدخلني إلى رجليه ،وطرح عل َّي ط َرف المر ِط ،ثم ركع
وسج َد ،وإني ل ِفيه ،فلما سل َم أخبر ُته الخب َر ،وسمع ْت غطفا ُن بما فعلت قري ٌش،
فانش َمروا راجعين إلى بلا ِدهم.
( )1المِ ْرط :كساء من صوف أو خز كان يؤتزر بها.
| 068مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما أصب َح رسو ُل الله ﷺ انصر َف عن الخند ِق راج ًعا إلى
المدينة والمسلمون ،ووضعوا السلا َح.
-15غزوُة بني قريظ َة في سن ِة خمس
فلما كانت ال ُّظه ُر أتى جبري ُل رسو َل الله ﷺُ ،معتج ًرا بعمامة من إستبر ٍق،
على بغلة عليها ِرحال ٌة ،عليها قطيف ٌة من ديبا ٍج ،فقالَ :أ َو َقد و َض ْعت السلا َح يا
رسو َل الله؟
قال« :نعم».
فقال جبري ُل :فما وضع ِت الملائك ُة السلا َح بعد ،وما رجعت الآن إلا من
طل ِب القو ِم ،إن الل َه يأم ُرك يا محم ُد بالمَسي ِر إلى بني قريظ َة ،فإني عام ٌد إليهم
ف ُمزلز ٌل بهم.
فأم َر رسو ُل الله ﷺ ُمؤ ِّذنا فأذن في النا ِس :من كان سام ًعا ُمطي ًعا ،فلا ُيص ِّلين
العص َر إلا ببني قريظ َة.
قا َل اب ُن إسحا َق :وق َّد َم رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طال ٍب برايتِه إلى بني
قريظ َة ،وابت َد َرها النا ُس.
ولما أتى رسو ُل الله ﷺ بني قريظ َة :نزل على بئ ٍر من آبا ِرها من ناحي ِة أمواَلم
ُيقال َلا :بئ ُر ُأنا.
قال :وحاص َرهم رسو ُل الله ﷺ خم ًسا وعشرين ليل ًة حتى َج ِهدهم الحصا ُر،
وقذ َف اللهُ في قلوبهم الرع َب.
مختصر السيرة النبوية|069
وقد كان ُحي ُّي بن أخط َب دخل مع بني قريظ َة في ِحصنِهم حين رجعت
عنهم قري ٌش و َغطفا ُن ،وفا ًء لكعب بن أس ٍد بما كان عاهده عليه ،فلما أيقنوا بأن
رسو َل الله ﷺ غي ُر منصر ٍف عنهم حتى ُيناج َزهم ،قال كع ُب بن أس ٍد َلم :يا معش َر
ُو َد ،قد نز َل بكم من الأم ِر ما َترون ،وإني عار ٌض عليكم ِخلالا ثلا ًثا ،فخذوا
أ َُّا شئتم.
قالوا :وما هي؟
قال :نتابع هذا الرج َل ونص ِّدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرس ٌل ،وأنه
ل َّلذي َتدونه في كتابِكم ،فتأمنون على دما ِئكم وأموالِكم وأبنا ِئكم ونسائكم.
قالوا :لا ُنفار ُق حك َم التوراة أب ًدا ،ولا نستبد ُل به غي َره.
قال :فإذا أبيتم عل َّي هذه ،ف َه ُل َّم فلنق ُتل أبنا َءنا ونساءنا ،ثم َنخرج إلى محم ٍد
وأصحابِه رجا ًلا ُمصلتين السيو َف ،لم نترك وراءنا َث َق ًلا ،حتى يَحكم الل ُه بيننا وبين
محم ٍد ،فإن نَهلِك نَهلِك ولم نترك وراءنا نس ًلا نخشى عليه ،وإن َنظهر ف َلعمري
لنجد َّن النسا َء والأبنا َء.
قالوا :نقت ُل هؤلاء المساكين! فما خي ُر العي ِش بع َدهم؟
قال :فإن أبيتم عل َّي هذه ،فإن الليل َة ليل ُة السب ِت ،وإنه عسى أن يكون محم ٌد
وأصحا ُبه قد َأ ِمنونا فيها ،فان ِزلوا لعلنا نصي ُب من محم ٍد وأصحابِه ِغ َّر ًة.
قالواُ :نفسد سبتنا علينا ،و ُنحد ُث فيه ما لم يُح ِد ُث َمن كان قب َلنا إلا من قد
علم َت ،فأصابه ما لم َي ْخ َف عليك من المس ِخ!
| 071مختصر السيرة النبوية
قال :ما بات رج ٌل منكم منذ ولد ُته أ ُّمه ليل ًة واحد ًة من الدهر حاز ًما.
قال :ثم إنهم َبعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ :أن ابعث إلينا أبا ُلباب َة ب ِن عب ِد المنذر
أخا بني عم ِرو بن عو ٍف ،وكانوا ُحلفاء الأو ِس ،لنَستشي َره في أمرنا؛ فأرسله
رسو ُل الله ﷺ إليهم ،فلما رأوه قام إليه الرجا ُل ،و َج َهش إليه النسا ُء وال ِّصبيا ُن
يبكون في وج ِهه؛ ف َر َّق َلم.
وقالوا له :يا أبا ُلباب َة! أترى أن ننز َل على حكم محم ٍد؟
قال :نعم ،وأشار بيده إلى َح ْل ِقه أنه الذب ُح.
قال أبو لباب َة :فوالله ما زالت َقدماي من مكانِهما حتى ع َرفت أني قد ُخنت
اللهَ ورسو َله ﷺ ،ثم انطل َق أبو لباب َة على وج ِهه ولم يأ ِت رسو َل الله ﷺ حتى ار ُتبِط
في المسج ِد إلى عمو ٍد من ُع ُم ِده.
وقال :لا أبر ُح مكاني هذا حتى يتو َب الله عل َّي مما صنع ُت ،وعاه َد الله :ألا
أطأ بني قريظ َة أب ًدا ،ولا ُأرى في بل ٍد ُخنت اللهَ ورسو َله فيه أب ًدا.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما بل َغ رسو َل الله ﷺ خب ُره -وكان قد استبط َأ ُه -قال:
«أما إنه لو جاءني لاستغفر ُت له ،فأما إذ قد فع َل ما فع َل ،فما أنا بالذي ُأطلِقه من
مكانِه حتى يتو َب الل ُه عليه».
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني يزي ُد بن عب ِد الله بن ُقسي ٍط أن توب َة أبي لباب َة نزلت
على رسو ِل الله ﷺ من ال َّس َح ِر ،وهو في بي ِت أم سلم َة.
مختصر السيرة النبوية|070
قال اب ُن هشا ٍم :أقام أبو لباب َة ُمرتب ًطا بالجذ ِع ست ليا ٍل ،تأتيه امرأ ُته في كل
وقت صلا ٍة ،ف َت ُح ُّله للصلا ِة ،ثم يعو ُد فيرتبط بالجذ ِع.
قال فلما أص َبحوا نزلوا على ُحكم رسو ِل الله ﷺ ،فتوا َثبت الأو ُس فقالوا :يا
رسو َل الله ،إنهم موالينا دون الخزر ِج ،وقد ف َع ْلت في موالي إخواننا بالأم ِس ما قد
علم َت -وقد كان رسو ُل الله ﷺ قبل بني ُقريظ َة قد حاصر بني قينُقا َع ،وكانوا
حلفا َء الخزرج ،فنزلوا على ُحك ِمه ،فسأله إياهم عب ُد الله بن ُأبي ابن َسلو ٍل،
فوهبهم له -فلما ك َّل َمته الأو ُس قال رسو ُل الله ﷺ« :ألا َترضون يا مع َش الأو ِس
أن يح ُكم فيهم رجل منكم؟».
قالوا :بلى.
قال رسو ُل الله ﷺ« :فذاك إلى سع ِد بن معا ٍذ».
وكان رسو ُل الله ﷺ قد جع َل سع َد بن معا ٍذ في خيم ٍة لامرأ ٍة من أسل َمُ ،يقال
َلاُ :رفيد ُة -في مس ِج ِده -كانت ُتداوي الجَرحى ،وتحتس ُب بنفسها على ِخدمة من
كانت به ضيع ٌة من المسلمين.
وكان رسو ُل الله ﷺ قد قال لقو ِمه حين أصابه السه ُم بالخند ِق« :اجعلوه في
خيم ِة ُرفيد َة حتى أعو َده من قري ٍب».
فلما َح َّكمه رسو ُل الله ﷺ في بني ُقريظ َة ،أتاه قو ُمه ف َح َملوه على حما ٍر قد َو َّطئوا
له بوساد ٍة من أ َد ٍم ،وكان رجلا جسي ًما جمي ًلا ،ثم أق َبلوا معه إلى رسو ِل الله ﷺ وهم
يقولون :يا أبا عم ٍرو ،أح ِسن في مواليك ،فإن رسو َل الله ﷺ إنما و َّلاك ذلك ل ُتحس َن
فيهم ،فلما أكثروا عليه قال :لقد َأ َنى لسع ٍد ألا تأ ُخ َذه في الله لوم ُة لائ ٍم.
| 072مختصر السيرة النبوية
فرجع بع ُض من كان معه من قو ِمه إلى دا ِر بني عبد الأش َه ِل ،فنعى َلم
رجا َل بني قريظ َة -قبل أن يص َل إليهم سع ٌد -عن كلمتِه التي سمع منه.
فلما انتهى سع ٌد إلى رسو ِل الله ﷺ والمسلمين ،قال رسو ُل الله ﷺ« :قوموا
إلى س ِيدكم».
فقاموا إليه ،فقالوا :يا أبا عم ٍرو ،إن رسو َل الله ﷺ قد و َّلاك أم َر مواليك
لتح ُكم فيهم.
فقال سع ُد بن معا ٍذ :عليكم بذلك عه ُد الله وميثا ُقه أ َّن الحك َم فيهم ل َما
حكم ُت؟
قالوا :نعم :وعلى من ها هنا؟ -في الناحية التي فيها رسو ُل الله ﷺ ،وهو
ُمعر ٌض عن رسو ِل الله ﷺ إجلا ًلا له -فقال رسو ُل الله ﷺ« :نعم».
قال سع ٌد :فإني أحكم فيهم أن ُتقت َل الرجا ُل ،و ُتق َّسم الأموا ُل ،و ُتسبى
الذراري والنسا ُء.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن علقم َة بن وقا ٍص الليث ِّي قال :قال رسو ُل الله ﷺ
لسع ٍد« :لقد َحكمت فيهم ب ُحك ِم الله من فوق سبع ِة أرقع ٍة».
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم اس ُتن ِزلوا ،فح َبسهم رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة في دا ِر بنت
الحار ِث امرأ ٍة من بني النجا ِر ،ثم خر َج رسو ُل الله ﷺ إلى سو ِق المدين ِة التي هي
سو ُقها اليو َم ،ف َخن َد َق بها خناد َق ،ثم بعث إليهم ،فض َب أعنا َقهم في تلك الخنا ِدق،
يُخ َر ُج بهم إليه أرسا ًلا ،وفيهم عد ُّو الله ُحي ُّي بن أخط َب وكع ُب بن أس ٍد رأ ُس القوم،
وهم ست مئ ٍة أو سبع مئة ،والم َك ِّث ُر َلم يقول :كانوا بين الثما ِن مئ ٍة والتسع مئة.
مختصر السيرة النبوية|073
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم إن رسو َل الله ﷺ قس َم أموا َل بني قريظ َة ونسا َءهم
وأبنا َءهم على المسلمين ،وأ ْعل َم في ذلك اليو ِم ُسهما َن الخيل و ُسهمان الرجا ِل،
و ُأخرج منها الخُم ُس ،فكان للفار ِس ثلاث ُة أسه ٍم :للفرس َسهما ِن ولفارسه سه ٌم،
وللراجل َ -من ليس له فر ٌس -سه ٌم ،وكانت الخي ُل يوم بني قريظ َة ست ًة وثلاثين
فر ًسا ،وكان أ َّو َل ف ْي ٍء وقعت فيه السهما ُن ،و ُأخرج منها الخمس ،فعلى ُسنَّتِها وما
مضى من رسو ِل الله ﷺ فيها وقعت المقاس ُم ،ومضت السن ُة في المغازي.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما ان َقضى شأ ُن بني قريظ َة انفجر بسع ِد بن معاذ ُجر ُحه
فمات منه شهي ًدا.
قا َل اب ُن إسحا َق :حدثني معا ُذ بن رفاع َة ال ُّزرق ُّي قال :حدثني من شئ ُت من
رجا ِل قومي :أن جبري َل عليه السلا ُم أتى رسو َل الله ﷺ حين ُقب َض سع ُد بن معا ٍذ
من جو ِف الليل معتج ًرا بعمام ٍة من إستبر ٍق ،فقال :يا محم ُد ،من هذا الم ِّي ُت الذي
ُفتحت له أبوا ُب السما ِء ،واهت َّز له العر ُش؟ قال :فقام رسول الله ﷺ سري ًعا يج ُّر
ثو َبه إلى سع ٍد فوجده قد مات.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولم ُيستشهد من المسلمين يو َم الخندق إلا ست ُة نف ٍر ،و ُقت َل
من المشركين ثلاث ُة نف ٍر.
ولما انصرف أه ُل الخند ِق عن الخند ِق ،قال رسو ُل الله ﷺ -فيما بلغني:-
«لن َتغزوكم قريش بعد عا ِمكم هذا ،ولكنكم َتغزونَهم» ،فلم تغزهم قري ٌش بعد
ذلك ،وكان هو الذي َيغزوها ،حتى فتح الل ُه عليه م َّك َة.
| 074مختصر السيرة النبوية
-16إسلا ُم عمرِو بن العاصِ وخال ِد بن الولي ِد
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عم ِرو بن العاص قال :لما انصرفنا مع الأحزا ِب عن
الخند ِق جمع ُت رجا ًلا من قري ٍش ،كانوا َيرون رأيي ،ويسمعون منِّي ،فقلت َلم:
َتعلمون والله أني أرى أم َر محم ٍد يعلو الأمو َر عل اوا ُمنك ًرا ،وإني قد رأي ُت أم ًرا ،فما
ترون فيه؟
قالوا :وماذا رأي َت؟
قال :رأيت أن نلح َق بالنجاش ِّي فنكو َن عنده ،فإن ظه َر محم ٌد على قومنا كنا
عند النجاش ِّي ،فإنا أن نكون تح َت يديه أح ُّب إلينا من أن نكو َن تحت يدي محم ٍد،
وإن ظهر قو ُمنا فنحن َمن قد َعرفوا ،فلن يأتينا منهم إلا خي ٌر.
قالوا :إن هذا الرأ ُي.
قلت :فاجمعوا لنا ما نُهديه له ،وكان أح َّب ما ُُدى إليه من أر ِضنا الأ َد ُم.
فجمعنا له أد ًما كثي ًرا ،ثم خرجنا حتى ق ِدمنا عليه.
فوالله إنا لعند ُه إذ جاءه عمرو بن أمي َة الضمر ُّي ،وكان رسو ُل الله ﷺ قد
بع َثه إليه في شأ ِن جعف ٍر وأصحابِه.
قال :فدخ َل عليه ثم خر َج ِمن عنده.
قال :فقل ُت لأصحابي :هذا عم ُرو بن أمي َة الضمري ،لو قد دخل ُت على
النجاش ِّي وسأل ُته إياه فأعطانيه ،فضب ُت ُعنُ َقه ،فإذا فعل ُت ذلك رأت قري ٌش أني قد
أجزأ ُت عنها حين قتل ُت رسو َل محم ٍد.
مختصر السيرة النبوية|075
قال :فدخل ُت عليه فسجد ُت له كما كنت أصن ُع ،فقال :مرح ًبا بصديقي،
أهدي َت إل َّي من بلا ِدك شي ًئا؟
قال :قلت :نعم ،أُا المل ُك ،قد أهدي ُت إليك أد ًما كثي ًرا.
قال :ثم ق َّربته إليه ،فأعج َبه واش َتهاه ،ثم قل ُت له :أُا المل ُك ،إني قد رأي ُت
رج ًلا خرج من عندك ،وهو رسو ُل رج ٍل عد ٍّو لنا ،فأعطنيه لأقت َله ،فإنه قد أصاب
من أشرافِنا وخيا ِرنا.
قال :فغ ِضب ،ثم مد ي َده فض َب بها أن َفه ضب ًة ظنن ُت أنه قد كسره ،فلو
انش َّقت لي الأر ُض لدخل ُت فيها َف َر ًقا منه.
ثم قلت له :أُا المل ُك ،والله لو ظنن ُت أنك تكر ُه هذا ما سأل ُت َكه.
قال :أتسأ ُلني أن أعط َيك رسو َل رج ٍل يأتيه النامو ُس الأكب ُر الذي كان يأتي
موسى ل َتق ُت َله!
قال :قلت :أُا الملكَ ،أ َكذا َك هو؟
قال :وي َحك يا عم ُرو أطعني وا َّتبعه ،فإنه والله لعلى الح ِّق ،ول َيظهر َّن على من
خالفه ،كما ظه َر موسى على فِرعون وجنو ِده.
قال :قلت :أف ُتبا ِيعني له على الإسلا ِم؟
قال :نعم ،فبس َط ي َده ،فبايع ُته على الإسلا ِم ،ثم خرج ُت إلى أصحابي وقد
حال رأيي عما كان عليه ،وكتم ُت أصحابي إسلامي.
| 076مختصر السيرة النبوية
ثم خرجت عام ًدا إلى رسو ِل الله ﷺ لأُسل َم ،فلقيت خال َد بن الوليد ،وذلك
ُقبيل الفت ِح ،وهو ُمقب ٌل من مك َة ،فقلت :أين يا أبا سليمان؟
قال :والله لقد استقا َم المَن ِس ُم ،وإن الرجل لنبي ،أذه ُب والله فأسل ُم ،فحتى
متى؟
قال :قلت :والله ما جئ ُت إلا لأسلم.
قال :فق ِدمنا المدين َة على رسو ِل الله ﷺ ،فتقد َم خال ُد بن الوليد فأسل َم وبايع،
ثم دنو ُت ،فقلت :يا رسو َل الله ،إني أباي ُعك على أن ُيغف َر لي ما تقدم من ذنبي ،ولا
أذك ُر ما تأخر.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :يا عم ُرو ،بايع؛ فإن الإسلا َم َي ُجب ما كان قبله،
وإن اهمجر َة َ ُتب ما كان قبلها» ،قال :فبايعته ،ثم انصرفت.
-17غزوُة بني الُمص َطِلق
قا َل اب ُن إسحا َق :بلغ رسو َل الله ﷺ أن بني ال ُمصطلِق يَج َمعون له ،وقائ ُدهم
الحار ُث بن أبي ِضار أبو جويري َة بنت الحار ِث زو ِج رسو ِل الله ﷺ ،فلما سم َع
رسو ُل الله ﷺ بهم خر َج إليهم ،حتى لق َيهم على ما ٍء َلم ُيقال له :ال ُمريسي ُع ،من
ناحية ُقدي ٍد إلى الساحل ،فتزاحف النا ُس واقتتلوا ،فهز َم الل ُه بني المصطلِق ،و ُقتل
من قتل منهم ،ونف َل رسو ُل الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأمواََلم ،فأفاءهم عليه.
مختصر السيرة النبوية|077
فبينا رسو ُل الله ﷺ على ذلك الما ِء ،ور َدت وارد ُة النا ِس ،ومع عم َر ب ِن
الخطاب أجي ٌر له من بني غفا ٍر يقال لهَ :جهجاه ب ُن مسعود يقود فر َسه ،فازدحم
جهجاه وسنا ُن بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء ،فاقتتلا،
فصر َخ الجهن ُّي :يا معش َر الأنصار ،وصرخ َجهجاه :يا معش َر المهاجرين ،فغضب
عب ُد الله بن أبي ابن سلو ٍل وعنده ره ٌط من قومه فيهم زي ُد بن أرق َم -غلام حدث-
فقال :أ َو َقد فعلوها ،قد نا َفرونا وكا َثرونا في بلا ِدنا ،والله ما َأ ُع ُّدنا و َجلابي َب قري ٍش
إلا كما قال الأ َّو ُل :س ِّمن كل َبك يأك ْلك ،أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ل ُيخرجن
الأع ُّز منها الأذ َل.
ثم أقبل على من حض ُه من قو ِمه ،فقال َلم :هذا ما فعل ُتم بأنف ِسكم،
أحللتموهم بلا َدكم ،وقا َسمتموهم أموا َلكم ،أما والله لو أمسك ُتم عنهم ما
بأيديكم لتحولوا إلى غي ِر دا ِركم.
فسمع ذلك زي ُد بن أرق َم ،فمشى به إلى رسو ِل الله ﷺ ،وذلك عند فرا ِغ
رسو ِل الله ﷺ من عد ِّوه ،فأخب َره الخب َر وعنده عم ُر بن الخطا ِب ،فقالُ :مر به َع َّبا َد
بن بش ٍر فليق ُتله.
فقال له رسو ُل الله ﷺ« :فكيف يا عم ُر إذا تحد َث الناس أن محمدا يقت ُل
أصحا َبه! لا ،ولكن أ ِذن بالرحي ِل» ،وذلك في ساع ٍة لم يكن رسو ُل الله ﷺ يرتح ُل
فيها ،فارتحل النا ُس.
وقد مشى عب ُد الله بن أبي ابن سلول إلى رسو ِل الله ﷺ حين بلغ ُه أن زي َد بن
أرق َم قد ب َّلغه ما سم َع منه ،فحلف بالله :ما قل ُت ما قا َل ،ولا تكلمت به.
| 078مختصر السيرة النبوية
وكان في قومه شري ًفا عظي ًما ،فقال من ح َض رسو َل الله ﷺ من الأنصا ِر من
أصحابِه :يا رسو َل الله ،عسى أن يكون الغلا ُم قد أو َهم في حديثِه ،ولم يحفظ ما
قال الرج ُل ،حد ًبا على ابن أبي ابن سلو ٍل ،ودفعا عنه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما استق َّل رسو ُل الله ﷺ وسا َر ،لقيه ُأسي ُد بن حضي ٍر،
فح َّياه بتحية النبو ِة وسلم عليه ،ثم قال :يا نب َي الله ،والله لقد ُرح َت في ساعة
ُمنكر ٍة ،ما كن َت تروح في مثلها.
فقال له رسو ُل الله ﷺ« :أ َو ما بلغك ما قال صاح ُبكم؟»
قال :وأ ُّي صاحب يا رسو َل الله؟
قال« :عب ُد الله بن أبي».
قال :وما قال؟
قال« :زعم أنه إن رج َع إلى المدين ِة ل ُيخرجن الأعز منها الأذ َّل».
قال :فأنت يا رسو َل الله والله ُتخرجه منها إن شئ َت ،هو والله الذلي ُل وأنت
العزي ُز ،ثم قال :يا رسو َل الله ،ارفق به ،فوالله لقد جا َءنا الل ُه بك ،وإن قو َمه
لين ِظمون له الخر َز ليتوجوه ،فإنه ل َيرى أنك قد استلب َته ُمل ًكا.
ثم مشى رسو ُل الله ﷺ بالنا ِس يو َمهم ذلك حتى أمسى ،ولي َلتهم حتى
أص َب َح وصد َر يو ِمهم ذلك حتى آذتهم الشم ُس ،ثم نز َل بالنا ِس ،فلم َيلبثوا أن
وجدوا م َّس الأر ِض فوقعوا نيا ًما ،وإنما فعل ذلك رسو ُل الله ﷺ ل َيشغ َل النا َس
عن الحدي ِث الذي كان بالأمس من حديث عب ِد الله ابن ُأب ٍّي.
مختصر السيرة النبوية|079
وبلغ عب َد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أم ِر أبيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عاص ُم بن عمر ب ِن قتاد َة أن عبد الله أتى رسو َل
الله ﷺ فقال :يا رسو َل الله ،إنه بلغني أنك ُتريد قت َل عب ِد الله بن أبي فيما بلغك عنه،
فإن كنت لا بد فاع ًلا ف ُمرني به ،فأنا أحم ُل إليك رأ َسه ،فوالله لقد علمت الخزر ُج ما
كان َلا من رج ٍل أب َّر بوالِده مني ،وإني أخشى أن تأم َر به غيري فيقت َله ،فلا تدعني
نفسي أنظ ُر إلى قات ِل عب ِد الله بن أبي َيمشي في الناس؛ فأقتله ف َأقت ُل رج ًلا مؤمنًا
بكاف ٍر ،فأدخل النا َر.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :بل نت َّفق به ،و ُنحس ُن ُصح َبته ما بقي معنا».
وجعل بعد ذلك إذا أحد َث الحد َث كان قو ُمه هم الذين ُيعاتِبونه ويأخذونه
و ُيعنِّفونه ،فقال رسو ُل الله ﷺ لعم َر بن الخطا ِب حين بلغه ذلك من شأنِهم:
«كيف َترى يا عم ُر ،أما والله لو قتل ُته يوم قل َت ل :اق ُتله ،لأُر ِع َدت له آ ُنف ،لو
أمر ُتا اليو َم بقتله لقتلته».
قال :قال عمر :قد والله علم ُت َلأَم ُر رسو ِل الله ﷺ أعظ ُم برك ًة من أمري.
قال اب ُن هشا ٍم :وكان شعا ُر المسلمين يو َم بني المصط ِلق :يا منصو ُر ،أ ِم ْت
أ ِم ْت.
قا َل اب ُن إسحا َق :وأصي َب من بني المصطلِق يومئ ٍذ نا ٌس ،و َقت َل عل ُّي بن أبي
طالب منهم َرجلي ِن ،مال ًكا وابنه ،وقت َل عب ُد الرحمن بن عو ٍف رج ًلا من فرسانهم،
ُيقال له :أحم ُر ،أو ُأحيمر.
| 081مختصر السيرة النبوية
-18خبُر الإفك في غزوةِ بني الُمصطلِق سن َة ست
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة قالت :كان رسو ُل الله ﷺ إذا أرا َد سف ًرا أق َر َع
بين نسائه ،فأ َّي َتهن خرج سه ُمها خرج بها معه ،فلما كانت غزو ُة بني ال ُمصطلِق أقرع
بين نسا ِئه ،كما كان يصن ُع ،فخرج َسهمي عليهن معه ،فخر َج بي رسو ُل الله ﷺ.
قالت :وكان النسا ُء إذ ذاك إنما يأ ُكلن ال ُع َلق( )1لم ُُيجه َّن اللح ُم فيثقلن،
وكن ُت إذا ُر ِّحل لي بعيري َجلست في َهو َدجي ،ثم يأتي القو ُم الذين ُير ِّحلون لي
ويَحملونني ،ف َيأخذون بأسف ِل اَلود ِج ف َيرفعو َنه ،ف َيضعونه على ظه ِر البعي ِر،
ف َيش ُّدونه بحبالِه ،ثم يأخذون برأ ِس البعي ِر ،فينطلقون به.
قالت :فلما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من سف ِره ذلك ،و َّجه قاف ًلا حتى إذا كان
قري ًبا من المدين ِة نزل منز ًلا ،فبات به بع َض اللي ِل ،ثم أ َّذن في النا ِس بالرحي ِل،
فارتحل النا ُس ،وخرج ُت لبعض حاجتي ،وفي ُعنقي ِعق ٌد لي ،فيه َج ْز ُع َظفا ِر(،)2
فلما فرغ ُت انس َّل من ُعنقي ولا أدري ،فلما َرجع ُت إلى الرح ِل ذهبت ألتم ُسه في
عنقي ،فلم أج ْده ،وقد أخ َذ النا ُس في الرحي ِل ،ف َرجع ُت إلى مكاني الذي ذهبت
إليه ،فالتمس ُته حتى وجد ُته ،وجاء القو ُم ِخلافي -الذين كانوا ُير ِّحلون لي البعي َر-
وقد فرغوا من رحلته ،فأخذوا اَلَود َج ،وهم َيظنون أني فيه ،كما كنت أصن ُع،
فاح َتملوه فش ُّدوه على البعي ِر ،ولم يشكوا أني فيه ،ثم أخذوا برأ ِس البعي ِر ،فانطلقوا
به ف َرجع ُت إلى العسك ِر وما فيه من دا ٍع ولا جُلي ٍب ،قد انطل َق الناس.
( )1ال ُع َلق :ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداء.
( )2الجَ ْزع :نوع من الخرز فيه بياض وسواد .و َظفار :موضع باليمن.
مختصر السيرة النبوية|080
قالت :فتل َّفف ُت ب ِجلبابي ،ثم اضطجع ُت في مكاني ،وعرفت أن لو قد
اف ُت ِقدت ل ُرجع إل َّي.
قالت :فوالله إني لمُضطجع ٌة إذ مر بي صفوا ُن بن المعط ِل السلم ُّي ،وقد كان
تخل َف عن العسك ِر لبع ِض حاجته ،فلم يبت مع النا ِس ،فرأى َسوادي ،فأقبل
حتى وقف عل َّي ،وقد كان يراني قبل أن ُيض َب علينا الحجا ُب ،فلما رآني قال :إنا
لله وإنا إليه را ِجعون ،ظعين ُة رسو ِل الله ﷺ!
وأنا متلفف ٌة في ثيابي ،قال :ما خلفك يرح ُمك الل ُه؟
قالت :فما كلمته ،ثم ق َّر َب البعي َر ،فقال :اركبي ،واستأ َخر عني.
قالت :فركب ُت ،وأخ َذ برأ ِس البعي ِر ،فانطلق سري ًعا ،يط ُل ُب النا َس ،فوالله ما
أدركنا النا َس ،وما اف ُتقد ُت حتى أصبح ُت ،ونزل النا ُس ،فلما اطمأنوا طل َع الرج ُل
يقو ُد بي ،فقال أه ُل ال ِإفك ما قالوا فار َتع َج( )1العسك ُر ،ووالله ما أعلم بشي ٍء من
ذلك.
ثم ق ِدمنا المدين َة ،فلم ألبث أن اشتكي ُت شكوى شديد ًة ،ولا َيبلغني من
ذلك شي ٌء ،وقد انتهى الحدي ُث إلى رسو ِل الله ﷺ ،وإلى َأ َبو َّي لا َيذكرون لي منه
قلي ًلا ولا كثي ًرا ،إلا أ ِّني قد َأنكر ُت من رسو ِل الله ﷺ بع َض ُلط ِفه بي ،كنت إذا
اشتكي ُت رحِمني ولطف بي ،فلم َيفعل ذلك بي في شكواي تلك ،فأنكر ُت ذلك
منه ،كان إذا دخل عل َّي وعندي أ ِّمي تُمرضني قال« :كيف تِي ُكم؟» لا يزيد على
ذلك.
( )1ار َت َع َج :اضطرب.
| 082مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :قالت :حتى وجد ُت في نفسي ،فقلت :يا رسو َل الله -حين
رأي ُت ما رأي ُت من َجفائه لي :-لو أ ِذنت لي ،فانتقل ُت إلى أ ِّمي ،فمرضتني؟
قال« :لا عليك».
قالت :فانتقل ُت إلى أ ِّمي ،ولا عل َم لي بشي ٍء مما كان ،حتى ن ِقه ُت من و َجعي
بعد بض ٍع وعشرين ليل ًة ،وكنا قو ًما ع َر ًبا ،لا نتخ ُذ في بيوتنا هذه الكن َف التي
تتخذها الأعاج ُم؛ َنعا ُفها و َنكر ُهها ،إنما كنا نذه ُب في ُف َسح المدين ِة ،وإنما كانت
النسا ُء يخرج َن ك َّل ليل ٍة في حوا ِئجهن ،فخرج ُت ليل ًة لبعض حا َجتي ومعي أ ُّم
ِمسط ٍح ،فوالله إنها لتمشي معي إذ ع ُثرت في ِمرطها فقالتَ :ت ِعس ِمسط ٌح!
ومسط ٌح لقب واسمه :عو ٌف.
قالت :قلت :بئس لعم ُر الله ما قلت لرج ٍل من المهاجرين قد ش ِهد بد ًرا،
قالت :أ َو ما بلغك الخب ُر يا بن َت أبي بكر؟
قالت :قلت :وما الخب ُر؟
فأخبرتني بالذي كان من قو ِل أه ِل الإف ِك.
قالت :قلت :أ َوقد كان هذا؟
قالت :نعم والله لقد كان.
قالت :فوالله ما ق ِدر ُت على أن أقض َي حا َجتي ورجع ُت ،فوالله ما زل ُت أبكي
حتى ظننت أن البكا َء س َيصد ُع كبِدي.
مختصر السيرة النبوية|083
قالت :وقلت لأ ِّمي :يغف ُر الله لك ،تح َّدث النا ُس بما َتح َّدثوا به ،ولا َتذ ُكرين
لي من ذلك شي ًئا!
قالت :أ ْي ُبنية ،خ ِّفضي عليك الشأ َن ،فوالله لقلما كانت امرأ ٌة حسنا ُء عند
رجل يُح ُّبها َلا ضائ ُر إلا ك َّثرن وكثر النا ُس عليها.
قالت :وقد قام رسو ُل الله ﷺ في النا ِس يخ ُطبهم ولا أعلم بذلك ،فح ِمد
اللهَ وأثنى عليه ،ثم قال« :أيها النا ُس ،ما با ُل رجا ٍل ُيؤذونني في أهل ،ويقولون
عليهم غي َر الح ِق ،والله ،ما َعلمت منهم إلا خيرا ،ويقولون ذلك لرج ٍل والله ما
علمت منه إلا خيرا ،وما َيدخل بيتا من بيوت إلا وهو معي».
قالت :وكان ِكب ُر ذلك عند عب ِد الله بن أب ِّي ابن َسلول في رجال من الخزر ِج
مع الذي قال ِمسط ُح وحَمن ُة بنت جحش.
فلما قال رسو ُل الله ﷺ تلك المقال َة ،قال ُأسيد بن ُحضير :يا رسو َل الله ،إن
يكونوا من الأو ِس َنك ِف َكهم ،وإن يكونوا من إخواننا من الخزر ِج ،ف ُمرنا بأم ِرك،
فوالله إنهم لأه ٌل أن ُتضب أعنا ُقهم.
قالت :فقام سع ُد بن عباد َة ،وكان قبل ذلك ُيرى رج ًلا صالحًا ،فقال:
كذب َت لعم ُر الله ،لا َنضب أعنا َقهم ،أما والله ما قل َت هذه المقال َة إلا أنك قد
عرفت أنهم من الخزر ِج ،ولو كانوا من قو ِمك ما قل َت هذا.
فقال أسي ٌد :كذب َت لعم ُر الله ،ولكنك مناف ٌق ُتاد ُل عن المنافقين.
| 084مختصر السيرة النبوية
قالت :وتساو َر النا ُس حتى كاد يكون بين هذين الح َّيين من الأو ِس
والخزرج شر.
قالت :ثم دخل عل َّي رسو ُل الله ﷺ ،وعندي أبواي ،وعندي امرأ ٌة من
الأنصا ِر ،وأنا أبكي وهي َتبكي معي ،فجل َس فح ِمد الل َه وأثنى عليه ،ثم قال« :يا
عائش ُة ،إنه قد كان ما قد بل َغك من قو ِل النا ِس ،فا َّتقي الل َه ،وإن كنت قد قارف ِت
سوءا مما يقو ُل النا ُس فتوبي إلى الله ،فإن اللهَ يقب ُل التوب َة عن عباده».
قالت :فوالله ما هو إلا أن قا َل لي ذلك ،ف َق ُلص دمعي ،حتى ما ُأح ُّس منه
شي ًئا ،وانتظر ُت أبوي أن ُيجيبا عنِّي رسو َل الله ﷺ ،فلم َيت َك َّلما.
قالت :واي ُم الله لأنا كن ُت أحق َر في نفسي ،وأصغ َر شأ ًنا من أن ُينز َل الله ف َّي
قرآ ًنا ُيقرأ به في المساج ِد ،و ُيص َّلى به ،ولكني قد كنت أرجو أن َيرى رسو ُل الله ﷺ
في نو ِمه شي ًئا ُيكذ ُب به الل ُه عني ،لما َيعلم من براءتي ،أو يُخ َب َر خب ًرا ،فأما قرآ ٌن ينزل
ف َّي! فواللهَ ،لنَفسي كانت أحق َر عندي من ذلك.
قالت :فلما لم أ َر أبو َّي يتكلمان؛ قلت َلما :ألا ُتيبان رسو َل الله ﷺ؟
قالت :فقالا :والله ما ندري بماذا ُنجيبه.
قالت :ووالله ما أعل ُم أه َل بيت دخل عليهم ما دخ َل على آ ِل أبي بك ٍر في
تلك الأيا ِم.
قالت :فلما أن استعجما عل َّي ،استعبر ُت فبكيت.
مختصر السيرة النبوية|085
ثم قلت :والله لا أتو ُب إلى الله مما ذكر َت أب ًدا ،والله إني لأعل ُم لئن أقررت بما
يقو ُل النا ُس -والله يعلم أني منه بريئ ٌة -لأقولن ما لم يكن ،ولئن أنا أنكر ُت ما
يقولون لا ُتصدقونني.
قالت :ثم التمس ُت اس َم يعقو َب فما أذ ُك ُره ،فقلت :ولكن سأقو ُل كما قال
أبو يوس َف( :ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ) [يوسف.]52:
قالت :فوالله ،ما َب ِرح رسو ُل الله ﷺ جل ِلسه حتى تغ َّشاه من الله ما كان
َيتغ َّشاه ،ف ُس ِّجي بثوبه ووضعت له وساد ٌة من أ َدم تحت رأ ِسه ،فأما أنا حين رأي ُت
من ذلك ما رأي ُت ،فوالله ما ف ِزعت ولا بالي ُت ،قد َعرفت أني بريئ ٌة ،وأن الل َه
غي ُر ظالمي ،وأما أبواي ،فوالذي نف ُس عائش َة بيده ،ما ُس ِّري عن رسول الله
ﷺ حتى ظننت ل َتخ ُر َج َّن أنف ُسهما َف َر ًقا من أن يأتي من الله تحقي ُق ما قال الناس.
قالت :ثم ُس ِّري عن رسو ِل الله ﷺ ،فجل َس وإنه ل َيتح َّدر منه مثل ال ُجما ِن في
يوم شا ٍت ،فجعل َيمسح العر َق عن جبينِه ويقول« :أب ِشي يا عائش ُة ،فقد أنز َل
الل ُه برا َءتك».
قالت :قلت :بحمد الله ،ثم خر َج إلى النا ِس فخط َبهم ،وتلا عليهم ما أنز َل
الل ُه عليه من القرآ ِن في ذلك ،ثم أم َر ب ِمسط ِح بن ُأثاث َة ،وحسا َن بن ثاب ٍت ،وحَمن َة
بنت جح ٍش ،وكانوا ممن أفص َح بالفاحش ِة؛ ف ُضبوا ح َّدهم.
| 086مختصر السيرة النبوية
[ثالثا :الحديبية وفتح مكة]
-1أم ُر الحديبَية في آخر سنةِ ست
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بالمدينة شه َر رمضا َن وشوا ًلا،
وخرج في ذي القعدة ُمعتم ًرا ،لا ُيريد حر ًبا.
قا َل اب ُن إسحا َق :واستنف َر العر َب ومن حو َله من أهل البوادي من الأعرا ِب
ل َيخرجوا معه ،وهو يَخشى من قري ٍش الذي صنَعوا ،أن َيع ِرضوا له بحر ٍب أو
يصدوه عن البي ِت ،فأبطأ عليه كثي ٌر من الأعرا ِب ،وخرج رسو ُل الله ﷺ بمن معه
من المُهاجرين والأنصا ِر ومن ل ِحق به من العر ِب ،وسا َق معه اَلد َي ،وأحر َم
بال ُعمرة ليأم َن النا ُس من حربه ،وليعل َم النا ُس أنه إنما خر َج زائ ًرا َلذا البيت
و ُمع ِّظ ًما له.
قا َل اب ُن إسحا َق :خر َج رسو ُل الله ﷺ عا َم الحديبية ُيريد زيار َة البيت ،لا
ُيري ُد قتا ًلا ،وساق معه اَلد َي سبعين بدن ًة ،وكان الناس سب َع مئة رج ٍل ،فكانت
ك ُّل بدن ٍة عن عشرة نف ٍر ،وكان جاب ُر بن عبد الله -فيما بلغني -يقول :كنا أصحا َب
الحديبي ِة أرب َع عشرة مئة.
قال الزهري :وخرج رسو ُل الله ﷺ حتى إذا كان ب ُعسفا َن لقيه بِش ُر بن
سفيا َن الكعب ُّي ،فقال :يا رسو َل الله ،هذه قري ٌش قد سمعت ب َمسيرك ،ف َخرجوا
معهم ال ُعو ُذ ال َمطافي ُل(.)1
( )1ال ُعو ُذ المَطافِي ُل :الإبل مع أولادها ،كناية عن خروج النساء والصبيان معهم.
مختصر السيرة النبوية|087
فقال رسو ُل الله ﷺ« :يا وي َح قري ٍش! لقد أ َك َلت ُهم الحر ُب ،ماذا عليهم لو
خ َّلوا بيني وبين سائ ِر العر ِب ،فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ،وإن أظ َهرني الل ُه
عليهم َدخلوا في الإسلا ِم وافِرين ،وإن لم َيفعلوا قا َتلوا وبهم قوة ،فما تظن قريش،
فوالله لا أزا ُل أجاه ُد على الذي بعثني الل ُه به حتى ُيظهره الل ُه أو تنفر َد هذه السالف ُة».
ثم قالَ « :من رجل َيرج بنا على طري ٍق غي ِر َطريقهم التي هم بها؟».
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر :أن رج ًلا من أسل َم قال :أنا
يا رسو َل الله.
فلما رأت خي ُل قري ٍش َق َتر َة الجي ِش( )1قد خا َلفوا عن طري ِقهم ،رجعوا
راكِضين إلى قري ٍش.
وخر َج رسو ُل الله ﷺ حتى إذا سلك في َثن َّي ِة المُرا ِر بركت ناق ُته ،فقالت
النا ُسَ :خل َأ ِت( )2الناق ُة.
قال« :ما خلأت وما هو هما ب ُخل ٍق ،ولكن َح َبسها حاب ُس الفيل عن م َّك َة ،لا
تدعوني قريش اليو َم إلى ُخط ٍة يسألونني فيها صل َة الرح ِم إلا أعطي ُتهم إياها».
قال الزهري :فلما اطمأن رسو ُل الله ﷺ أتاه ُبديل بن ورقا َء الخُزاع ُّي في
رجال من خزاع َة ،فكلموه وسألوه :ما الذي جاء به؟
(َ )1ق َترة الجيش :غباره.
(َ )2خ َل َأ ْت :أي بركت من غير علة.
| 088مختصر السيرة النبوية
فأخبرهم أنه لم يأت ُيريد حر ًبا ،وإنما جاء زائ ًرا للبي ِت ،و ُمع ِّظ ًما لحر َمتِه،
ف َرجعوا إلى قري ٍش فقالوا :يا معش َر قري ٍش ،إنكم َتعجلون على محم ٍد ،إن محم ًدا لم
يأت لقتا ٍل ،وإنما جاء زائ ًرا للبي ِت ،فا َّت َهموهم و َج َّبهوهم( )1وقالوا :وإن كان جاء
ولا ُيريد قتا ًلا ،فوالله لا َيدخلها علينا ُعنوة أب ًدا ،ولا ُت َح ِّدث بذلك عنا العر ُب.
قال الزهري :وكانت ُخزاع ُة َعيب َة ُنص ِح رسو ِل الله ﷺ ،مسل ُمها ومشر ُكها،
لا يُخفون عنه شي ًئا كان بم َّك َة.
قال :ثم بعثوا إليه ِمك َر َز بن حف ِص بن الأخي ِف أخا بني عام ِر بن لؤ ٍي ،فلما
رآه رسو ُل الله ﷺ ُمقب ًلا قال« :هذا رجل غادر» ،فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ
وك َّلمه ،قال له رسو ُل الله ﷺ نح ًوا مما قال ل ُبدي ٍل وأصحابِه ،فرجع إلى قري ٍش
فأخب َرهم بما قال له رسو ُل الله ﷺ.
قال الزهر ُّي :ثم بعثوا إليه ال ُحليس بن علقم َة أو ابن ز َّبان ،وكان يومئذ س ِّيد
الأحابي ِش ،وهو أح ُد بني الحارث ب ِن عبد منا َة بن كنان َة ،فلما رآه رسو ُل الله ﷺ
قال« :إن هذا من قو ٍم َيتأهَّمون ،فابعثوا اهمد َي في وج ِهه حتى يراه» ،فلما رأى اَلد َي
يسي ُل عليه من ُعر ِض الوادي في قلائ ِده ،وقد أك َل أوبا َره من طو ِل الحب ِس عن
مَح ِّله ،رجع إلى قري ٍش ،ولم َيصل إلى رسو ِل الله ﷺ إعظا ًما لما رأى ،فقال َلم ذلك.
قال :فقالوا له :اجل ْس ،فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
(َ )1ج َّب ُهوهم :أي استقبلوهم بالمكروه.
مختصر السيرة النبوية|089
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر :أن ال ُحلي َس غض َب عند ذلك
وقال :يا معش َر قري ٍش ،والله ما على هذا حالفنا ُكم ،ولا على هذا عاقدناكم ،أ ُيص ُّد
عن بيت الله َمن جاء ُمع ِّظ ًما له! والذي نفس ال ُحليس بي ِده ،ل ُتخ ُّل َّن بين محمد وبين
ما جاء له ،أو لأن ِفرن بالأحابي ِش نفر َة رجل واح ٍد ،قال :فقالوا له :مهُ ،ك َّف عنا يا
حلي ُس حتى نأ ُخ َذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ عرو َة بن مسعود الثقفي ،فقال :يا معش َر قري ٍش،
إني قد رأيت ما يلقى منكم من َبعثتموه إلى محم ٍد إذ جا َءكم من التعني ِف وسو ِء
اللفظ ،وقد ع َرفتم أنكم وال ٌد وأني ولد -وكان عرو ُة لسبيع َة بن ِت عبد شمس-
وقد سمعت بالذي نا َبكم ،فجمع ُت من أطاعني من قومي ،ثم جئ ُتكم حتى
آسي ُت ُكم بنفسي.
قالوا :صدق َت ،ما أنت عندنا ب ُم َّتهم.
فخرج حتى أتى رسو َل الله ﷺ ،جل َس بين يديه ،ثم قال :يا محم ُد ،أجمعت
أوشا َب النا ِس ،ثم جئت بهم إلى بي َضتِك لت ُف َّضها بهم ،إنها قري ٌش قد خرجت
معها ال ُعوذ المَطافي ُل ،قد لبسوا جلو َد النمور ،يعاهدون الل َه لا تد ُخلها عليهم ُعنو ًة
أب ًدا ،واي ُم الله ،لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غ ًدا.
قال :وأبو بكر الصدي ُق خل َف رسو ِل الله ﷺ قاع ٌد ،فقال :ام ُصص َب ْظ َر
اللا ِت ،أنحن ننكش ُف عنه؟!
قال :من هذا يا محم ُد؟
قال« :هذا ابن أبي ُقحاف َة».
| 091مختصر السيرة النبوية
قال :أما والله لولا َي ٌد كانت لك عندي لكافأ ُتك بها ،ولكن هذه بها ،قال:
ثم جعل َيتناول ل ِحي َة رسو ِل الله ﷺ وهو يك ِّلمه ،قال :والمغير ُة بن شعبة واق ٌف
على رأ ِس رسو ِل الله ﷺ في الحدي ِد ،قال :فجعل يق َر ُع ي َده إذا تناو َل لحي َة رسو ِل
الله ﷺ ،ويقول :اك ُف ْف ي َدك عن وجه رسو ِل الله ﷺ قبل ألا َت ِص َل إليك.
فكلمه رسو ُل الله ﷺ بنح ٍو مما كلم به أصحا َبه ،وأخبره أنه لم يأت ُيريد
حر ًبا ،فقام من عند رسو ِل الله ﷺ وقد رأى ما َيصنع به أصحا ُبه ،لا يتوض ُأ إلا
ابتدروا َوضو َءه ،ولا َيب ُصق ُبصا ًقا إلا ابتدروه ،ولا يسق ُط من شعره شي ٌء إلا
أخذوه.
فرجع إلى قري ٍش ،فقال :يا معش َر قري ٍش ،إني قد جئت كسرى في ُمل ِكه،
وقيص َر في ملكه ،والنجاش َّي في ملكِه ،وإني والله ما رأيت َمل ًكا في قوم قط مث َل
محم ٍد في أصحابه ،ولقد رأي ُت قو ًما لا ُيسلمونه لشيء أب ًداَ ،ف ُروا َرأ َيكم.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني بع ُض أهل العل ِم أن رسو َل الله ﷺ دعا ِخرا َش
بن أمي َة الخُزاع َّي ،فبعثه إلى قري ٍش بم َّك َة ،وحمله على بعي ٍر له ُيقال له :الثعل ُب ،ل ُي َب ِّل َغ
أشرا َفهم عنه ما جا َء له ،فعقروا به جم َل رسو ِل الله ﷺ ،وأرادوا قت َله ،فمنعته
الأحابي ُش ،فخلوا سبي َله حتى أتى رسو َل الله ﷺ.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عبا ٍس أن قري ًشا كانوا بعثوا أربعين رج ًلا منهم أو
خمسين رج ًلا ،وأمروهم أن ُيطيفوا بعسك ِر رسو ِل الله ﷺ ،ل ُيصيبوا َلم من
أصحابِه أح ًدا ،ف ُأخذوا أخ ًذا ،فأتي بهم رسو ُل الله ﷺ ،فعفا عنهم ،وخ َّلى سبي َلهم،
وقد كانوا َرموا في عسكر رسو ِل الله ﷺ بالحجار ِة والنَّب ِل.
مختصر السيرة النبوية|090
ثم دعا عم َر بن الخطاب ليبع َثه إلى م َّك َة ،ف ُي َب ِّلغ عنه أشرا َف قريش ما جاء له،
فقال :يا رسو َل الله ،إني أخاف قري ًشا على نفسي ،وليس بم َّك َة من بني عد ِّي بن
كعب أح ٌد َيمنعني ،وقد عرفت قري ٌش عداوتي إياها ،و ِغل َظتي عليها ،ولكني
أد ُّلك على رج ٍل أعز بها مني ،عثما َن بن عفان.
فدعا رسو ُل الله ﷺ عثما َن بن عفان ،فبعثه إلى أبي سفيا َن وأشرا ِف قري ٍش؛
يُخبرهم أنه لم يأت لحر ٍب ،وأنه إنما جاء زائ ًرا َلذا البي ِت ،و ُمع ِّظ ًما لحُرمته.
قا َل اب ُن إسحا َق :فخرج عثما ُن إلى مك َة ،فلقيه أبا ُن بن سعي ِد بن العاص
حين دخل مك َة ،أو قبل أن َيد ُخلها ،فحمله بين يديه ،ثم أجا َره حتى ب َّلغ رسال َة
رسو ِل الله ﷺ ،فانطل َق عثما ُن حتى أتى أبا سفيا َن وعظما َء قري ٍش ،فب َّلغهم عن
رسو ِل الله ﷺ ما أرس َله به ،فقالوا لعثما َن حين فر َغ من رسال ِة رسو ِل الله ﷺ
إليهم :إن شئ َت أن تطو َف بالبيت ف ُط ْف.
فقال :ما كنت لأفع َل حتى يطو َف به رسو ُل الله ﷺ ،واحتبسته قري ٌش
عندها ،فبلغ رسو َل الله ﷺ والمسلمين أن عثما َن بن عفان قد ُقتل.
-2بيع ُة ال ِرّضوان
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر :أن رسو َل الله ﷺ قال حين
بل َغه أن عثما َن قد ُقتِل« :لا نبر ُح حتى ُنناجز القو َم».
فدعا رسو ُل الله ﷺ النا َس إلى البيع ِة ،فكانت بيع ُة الرضوان تحت الشجر ِة،
فكان النا ُس يقولون :با َيعهم رسو ُل الله ﷺ على المو ِت ،وكان جاب ُر بن عب ِد الله
يقول :إن رسو َل الله ﷺ لم يباي ْعنا على الموت ،ولكن باي َعنا على أن لا َن ِف َّر.
| 092مختصر السيرة النبوية
فباي َع رسو ُل الله ﷺ النا َس ،ولم يتخلف عنه أح ٌد من المسلمين َح َضها إلا
الج ُّد بن قي ٍس أخو بني سلم َة ،فكان جاب ُر بن عبد الله يقول :والله َلكأني أنظر إليه
لاص ًقا بإب ِط ناقته ،قد ض َب َأ إليها ،يستتر بها من النا ِس.
ثم أتى رسو َل الله ﷺ أن الذي ُذكر من أمر عثما َن باط ٌل.
-3أمرُ الهدن ِة
قا َل اب ُن إسحا َق :قال الزهر ُّي :ثم بعثت قري ٌش سهي َل بن عمرو أخا بني
عام ِر بن لؤ ٍّي إلى رسو ِل الله ﷺ ،وقالوا له :ائت محم ًدا فصالحه ،ولا يكن في
ُصلحه إلا أن يرجع عنا عا َمه هذا ،فوالله لا ُتح ِّد ُث العر ُب عنا أنه دخلها علينا
ُعنو ًة أب ًدا.
فأتاه ُسهيل بن عمرو ،فلما رآه رسو ُل الله ﷺ ُمقب ًلا ،قال« :قد أراد القو ُم
الصل َح حين بعثوا هذا الرج َل».
فلما انتهى سهي ُل بن عمرو إلى رسو ِل الله ﷺ تك َّلم فأطا َل الكلا َم،
وترا َجعا ،ثم جرى بينهما الصل ُح.
فلما ال َت َأ َم الأم ُر ولم يب َق إلا الكتا ُب و َثب عم ُر بن الخطاب ،فأتى أبا بكر،
فقال :يا أبا بك ٍر ،أليس برسو ِل الله؟
قال :بلى.
قال :أ َولسنا بالمسلمين؟
قال :بلى.
مختصر السيرة النبوية|093
قال :أ َوليسوا بالمشركين؟
قال :بلى.
قال :فعلا َم ُنعطى الدن َّية في ديننا؟
قال أبو بكر :يا ُعمر ،الزم غر َزه ،فإني أشه ُد أنه رسو ُل الله.
قال عمر :وأنا أشهد أنه رسو ُل الله.
ثم أتى رسو َل الله ﷺ فقال :يا رسو َل الله ،ألست برسو ِل الله؟
قال« :بلى».
قال :أولسنا بالمسلمين؟
قال« :بلى».
قال :أوليسوا بالمشركين؟
قال« :بلى».
قال :فعلا َم ُنعطى الدني َة في ديننا؟
قال« :أنا عب ُد الله ورسو ُله ،لن أخال َف أم َره ،ولن يضيعني!».
قال :فكان عمر يقول :ما زل ُت أتص َّدق وأصو ُم وأصلي و ُأعت ُق ،من الذي
صنع ُت يومئ ٍذ مخاف َة كلامي الذي تكلم ُت به ،حتى رجو ُت أن يكون خي ًرا.
قال :ثم دعا رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طال ٍب ِرضوان الله عليه ،فقال:
«اك ُتب :بس ِم الله الرحمن الرحيم».
| 094مختصر السيرة النبوية
قال :فقال ُسهي ٌل :لا أعرف هذا ،ولكن اكتب :باس ِمك الله َّم.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :اك ُتب :باسمك الله َّم» ،فكتبها.
ثم قال« :اك ُتب :هذا ما صال َح عليه محمد رسو ُل الله ُسهي َل بن عمرو».
قال :فقال سهي ٌل :لو شهد ُت أنك رسو ُل الله لم أقاتِلك ،ولكن اك ُت ُب
اس َمك واسم أبيك.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :اك ُت ْب :هذا ما صال َح عليه محم ُد بن عب ِد الله
ُسهي َل بن عمرو ،اصطلحا على وض ِع الحر ِب عن النا ِس ع ْ َش سنين ،يأم ُن فيهن
النا ُس وي ُكف بع ُضهم عن بعض ،على أنه من أتى محمدا من قري ٍش بغير إذن ول ِيه
ر َّده عليهم ،ومن جاء قريشا ممن مع محم ٍد لم يردوه عليه ،وإن بيننا َعيبة َمكفوفة(،)1
وأنه لا إسلا َل ولا إغلا َل( ،)2وأنه من أح َّب أن يدخ َل في عقد محم ٍد وعه ِده دخل
فيه ،ومن أحب أن يدخ َل في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم دخل فيه».
فتواثبت ُخزاع ُة فقالوا :نحن في عق ِد محم ٍد وعه ِده ،وتواثبت بنو بك ٍر،
فقالوا :نحن في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم.
وأنك َترج ُع عنا عا َمك هذا ،فلا تدخ ُل علينا مك َة ،وأنه إذا كان عا ُم قاب ٍل
خرجنا عنك ف َد َخلتها بأصحابِك ،فأقمت بها ثلا ًثا ،معك سلا ُح الراكِ ِب السيو ُف
في ال ُقر ِب ،لا تدخلها بغيرها.
(َ )1ع ْي َب ًة َمكفوف ًة :استعارة ،وإنما يريد أنك تك ّف عنا ونك ّف عنك.
( )2الإ ْس َلال :السرقة الخفية .والإ ْغ َلال :الخيانة.
مختصر السيرة النبوية|095
فبينا رسو ُل الله ﷺ يك ُتب الكتا َب هو وسهي ُل بن عمرو ،إذ جاء أبو َجند ِل
بن سهي ِل بن عمرو ير ُسف في الحدي ِد ،قد انفلت إلى رسو ِل الله ﷺ ،وقد كان
أصحا ُب رسو ِل الله ﷺ َخرجوا وهم لا يش ُّكون في الفت ِح ،لرؤيا رآها رسو ُل الله
ﷺ ،فلما رأوا ما رأوا من الصل ِح والرجو ِع ،وما تح َّمل عليه رسو ُل الله ﷺ في
نف ِسه؛ دخ َل على النا ِس من ذلك أم ٌر عظي ٌم ،حتى كادوا َُ ِلكون ،فلما رأى سهي ٌل
أبا جند ٍل قام إليه فض َب وج َهه ،وأخذ ب َت ْلبيبه ثم قال :يا محم ُد ،قد ل َّجت
القضي ُة( )1بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال :صدق ْت ،فجعل َين ُت ُره بتلبيبِه ،وي ُج ُّره لير َّده إلى قري ٍش ،وجعل أبو َجند ٍل
يصر ُخ بأعلى صوتِه :يا معش َر المسلمين ،أ ُأ َر ُّد إلى المشركين َيفتنوني في ديني؟
فزاد ذلك النا َس إلى ما بهم ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :يا أبا جند ٍل ،اصب ْر
واحتس ْب ،فإن الل َه جاعل لك ولمن معك من المُستضعفين فرجا و َمرجا ،إنا قد
َعقدنا بيننا وبين القو ِم ُصلحا ،وأعطيناهم على ذلك ،و َأع َطونا عه َد الله ،وإنا لا
َنغ ِدر بهم».
قال :فوثب عم ُر بن الخطا ِب مع أبي َجند ٍل يمشي إلى جنبه ،ويقول :اصب ْر يا
أبا َجند ٍل ،فإنما هم المشركون ،وإنما د ُم أح ِدهم د ُم كل ٍب.
قال :و ُيدني قائ َم السي ِف منه.
قال :يقول عمر :رجو ُت أن يأخ َذ السي َف فيض َب به أباه ،قال :فض َّن
الرج ُل بأبيه ،ونفذت القضي ُة.
( )1لجَّت القضي ُة :أيَ :و َج َب ْت.
| 096مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان رسو ُل الله ﷺ مضطر ًبا في ال ِح ِّل( ،)1وكان ُيص ِّلي في
الحر ِم ،فلما فر َغ من الصل ِح ق ِدم إلى هديه فنح َره ،ثم جل َس فحل َق رأ َسه ،وكان
الذي حلقه -فيما بلغني -في ذلك اليوم ِخراش بن أمي َة بن الفضل الخزاع ُّي ،فلما
رأى النا ُس أن رسو َل الله ﷺ قد نح َر و َح َل َق توا َثبوا ينحرون ويحلِقون.
-4ما جرى عليه أم ُر قو ٍم من المستضعفين بعد الصل ِح
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما ق ِد َم رسو ُل الله ﷺ المدين َة أتاه أبو َبصي ٍر ُعتب ُة بن أسيد،
وكان ممن ُحبس بمك َة ،فلما قدم على رسو ِل الله ﷺ كتب فيه أزه ُر بن عب ِد عوف
والأخن ُس بن َشري ٍق إلى رسو ِل الله ﷺ ،وبعثا رج ًلا من بني عام ِر بن لؤ ٍّي ،ومعه
مو ًلى َلم ،فقدما على رسو ِل الله ﷺ بكتا ِب الأزه ِر والأخن ِس.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :يا أبا َبصي ٍر ،إنا قد أعطينا هؤلا ِء القو َم ما قد علم َت،
ولا يص ُلح لنا في دينِنا الغد ُر ،وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
و َمرجا ،فان َطلِق إلى قو ِمك».
قال :يا رسو َل الله ،أتر ُّدني إلى المشركين يفتِنونني في ديني؟!
قال« :يا أبا بصي ٍر ،انطل ْق ،فإن الل َه تعالى سيجع ُل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجا ومرجا».
فانطل َق معهما ،حتى إذا كان بذي الحُليف ِة ،جل َس إلى جدا ٍر ،وجل َس معه
صاحباه ،فقال أبو بصي ٍر :أصار ٌم سي ُفك هذا يا أخا بني عامر؟
( )1مضطر ًبا في ال ِح ِّل :معناه أن أبنيته كانت مضوبة في الحل وكانت صلاته في الحرم؛ وهذا لقرب الحديبية
من الحرم.
مختصر السيرة النبوية|097
فقال :نعم.
قال :أنظ ُر إليه؟
قال :انظ ْر ،إن شئ َت.
قال :فاست َّله أبو بصي ٍر ،ثم علاه به حتى قت َله ،وخر َج المولى سري ًعا حتى أتى
رسو َل الله ﷺ وهو جال ٌس في المسج ِد ،فلما رآه رسو ُل الله ﷺ طال ًعا قال« :إن هذا
الرج َل قد رأى فزعا» فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ ،قال« :وي َحك! ما لك؟».
قال :قتل صاح ُبكم صاحبي ،فوالله ما ب ِرح حتى طل َع أبو بصي ٍر ُمتو ِّش ًحا
بالسي ِف ،حتى وقف على رسو ِل الله ﷺ ،فقال :يا رسو َل الله ،و َف ْت ذ َّم ُتك ،وأ َّدى
الل ُه عنك ،أس َلمتني بيد القو ِم وقد امتنع ُت بديني أن ُأفتن فيه ،أو ُيعبث بي.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :وي ُل أ ِمهِ ،مـ َحش( )1حر ٍب لو كان معه رجال!».
ثم خرج أبو بصير حتى نزل ال ِعي َص ،من ناحية ذي ال َمرو ِة ،على ساح ِل
البحر ،بطريق ُقري ٍش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشأم ،وبلغ المسلمين الذين
كانوا اح ُتبسوا بم َّك َة قو ُل رسول الله ﷺ لأبي بصير« :وي ُل أ ِمه ،م َِحش حر ٍب لو
كان معه رجال!» ،فخرجوا إلى أبي َبصي ٍر بال ِعي ِص ،فاجتمع إليه منهم قري ٌب من
سبعين رج ًلا ،وكانوا قد ض َّيقوا على قري ٍش ،لا َيظفرون بأح ٍد منهم إلا َقتلوه ،ولا
تم ُّر بهم عي ٌر إلا اق َتطعوها ،حتى كتبت قري ٌش إلى رسو ِل الله ﷺ َتسأ ُل بأرحا ِمها إلا
آواهم ،فلا حاج َة َلم بهم؛ فآواهم رسو ُل الله ﷺ ،فق ِدموا عليه المدين َة.
(ِ )1مـ َح ُّش حر ٍب :أي موقد حرب ومهيجها.
| 098مختصر السيرة النبوية
-5أم ُر المُهاجرات بعد ال ُهدن ِة
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني الزهر ُّي ،عن ُعرو َة بن الزبي ِر قال :دخلت عليه
وهو يكتب كتا ًبا إلى ابن أبى ُهنيد َة ،صاح ِب الولي ِد بن عبد الملك ،وكتب إليه
يسأ ُله عن قو ِل الله تعالى( :ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ)
[الممتحنة ،]54:فكتب إليه ُعرو ُة بن الزبير :إن رسو َل الله ﷺ كان صال َح قري ًشا
يو َم الحديبي ِة على أن ير َّد عليهم من جاء بغي ِر إذ ِن ول ِّيه ،فلما هاج َر النسا ُء إلى رسو ِل
الله ﷺ وإلى الإسلا ِم ،أبى اللهُ أن ُي ْر َد ْد َن إلى المشركين إذا هن ام ُت ِح َّن بمحنة
الإسلا ِم ،فعرفوا أنهن إنما جئن رغب ًة في الإسلام ،وأمر بر ِّد ص ُدقاتِه َّن إليهم إن
احت َبسن عنهم ،إن هم ر ُّدوا على المسلمين صدا َق من ُحبسوا عنهم من نسائهم
(ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ) [الممتحنة.]54:
فأمسك رسو ُل الله ﷺ النسا َء ور َّد الرجا َل ،وسأل الذي أمره الل ُه به أن
يسأ َل من َص ُدقات نسا ِء من ُحبسوا منهن ،وأن يردوا عليهم مث َل الذي َير ُّدون
عليهم -إن هم فعلوا -ولولا الذي َحكم الل ُه به من هذا الحك ِم ل َر َّد رسو ُل الله ﷺ
النسا َء كما ر َّد الرجا َل ،ولولا اَلدن ُة والعه ُد الذي كان بينه وبين قري ٍش يو َم
الحديبية لأمس َك النسا َء ،ولم َير ُد ْد َلن صدا ًقا ،وكذلك كان يصن ُع بمن جا َءه من
المسلمات قبل العه ِد.
-6بُشرى فت ِح م َكّ َة وتع ُّج ِل بعضِ المسلمين
قال اب ُن هشا ٍم :حدثنا أبو ُعبيد َة أن بع َض من كان مع رسو ِل الله ﷺ قال له
لما ق ِدم المدين َة :ألم تقل يا رسو َل الله إنك تدخ ُل م َّك َة آمنا؟
مختصر السيرة النبوية|099
قال« :بلى ،أ َفقل ُت لكم من عامي هذا؟».
قالوا :لا.
قال« :فهو كما قال ل جبري ُل عليه السلا ُم».
ِ -7ذك ُر الَمسير إلى خيبرَ في الُمح َّرم سن َة سبع
قال محم ُد بن إسحا َق :ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة حين رج َع من
الحديبي ِة ،ذا الحج ِة وبع َض المحرم ،وو ِلي تلك الحج َة المشركون ،ثم خرج في بقية
المحرم إلى خيب َر.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني من لا أته ُم عن أن ِس بن مال ِك قال :كان رسو ُل
الله ﷺ إذا غزا قو ًما لم ُي ِغر عليهم حتى يصب َح ،فإن سمع أذا ًنا أمسك ،وإن لم
يسمع أذا ًنا أغار ،فنزلنا خيب َر لي ًلا ،فبات رسو ُل الله ﷺ ،حتى إذا أصبح لم يسمع
أذا ًنا ،ف َر ِك َب وركبنا معه ،فركبت خل َف أبي طلح َة ،وإن قدمي َلتم ُّس قد َم رسو ِل
الله ﷺ ،واستقب ْلنا ع َّما َل خيب َر غادين ،قد خرجوا ب َمسا ِحيهم و َمكاتِلهم(.)1
فلما رأوا رسو َل الله ﷺ والجي َش ،قالوا :محم ٌد والخمي ُس( )2معه! فأدبروا
ُه َّرا ًبا ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :الل ُه أكبرَ ،خ ِربت خيب ُر ،إنا إذا نزلنا بساح ِة قوم فسا َء
صبا ُح ال ُمن َذرين».
( )1ال َم َسا ِحي :جمع ِم ْسحاة وهي كالمجرفة ولكنها من حديد .والمَ َكاتِل جمع ِم ْك َتل وهو :القفة الكبيرة.
( )2الخَ ِميس :الجيش؛لأنهم خَ ْم ُس فِ َر ٍق :المقدمة ،والقلب ،والمي َمنة ،والمي َسرة ،والساق.