The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by Syuhada Ibrahim, 2020-12-15 08:28:41

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

‫‪ | 051‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬ولم؟‬
‫قالوا‪ُ :‬نريد المِير َة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فهل أنتم ُمب ِّلغون عني محم ًدا رسال ًة أرس ُلكم بها إليه‪ ،‬و ُأحم ُل لكم هذه‬
‫غ ًدا زبي ًبا ب ُعكا ٍظ إذا وافيتموها؟‬

‫قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فإذا وافي ُتموه فأخبروه أ َّنا قد أجمعنا السي َر إليه وإلى أصحابِه لنستأ ِص َل‬
‫بق َّيتهم‪ ،‬فم َّر الرك ُب برسو ِل الله ﷺ وهو بحمرا ِء الأس ِد‪ ،‬فأخبروه بالذي قال أبو‬

‫سفيان‪ ،‬فقال‪« :‬حسبنا اللهُ ونع َم الوكي ُل»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬كان يو ُم ُأح ٍد يو َم بلا ٍء ومصيب ٍة وتمحيص‪ ،‬اختبر اللهُ به‬
‫المؤمنين‪ ،‬ومَحَ َن به المنافقين ممن كان ُيظه ُر الإيما َن بلسانه‪ ،‬وهو ُمستخ ٍف بالكف ِر في‬

‫قلبِه‪ ،‬ويو ًما أكر َم الله فيه من أرا َد كرامته بالشهاد ِة من أه ِل ولايتِه‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فجمي ُع من استشه َد من المسلمي َن مع رسو ِل الله ﷺ من‬

‫ال ُمهاجرين والأنصار خمس ٌة وستون رج ًلا‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فجمي ُع من َقتل الل ُه تبارك وتعالى يو َم أح ٍد من المشركين‬

‫اثنا ِن وعشرون رج ًلا‪.‬‬

‫‪ -11‬ذك ُر يو ِم الرجيع في سنةِ ثلا ٍث‬
‫عن محم ِد بن إسحاق الم َّطلبي قال‪ :‬حدثني عاص ُم بن عمر بن قتاد َة قال‪:‬‬
‫ق ِدم على رسو ِل الله ﷺ بع َد أ ُح ٍد ره ٌط من َع َض ٍل والقا َّر ِة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪،‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪050‬‬

‫إن فينا إسلا ًما‪ ،‬فابعث معنا نف ًرا من أصحابِك ُيف ِّقهوننا في الدين‪ ،‬و ُيق ِرئوننا‬
‫القرآ َن‪ ،‬و ُيعلموننا شرائ َع الإسلام؛ فبعث رسو ُل الله ﷺ نف ًرا ست ًة من أصحابِه‪،‬‬
‫وهم‪َ :‬مرث ُد بن أبي مرث ٍد الغنو ُّي‪ ،‬وخال ُد بن البكير الليثي‪ ،‬وعاص ُم بن ثاب ِت بن‬

‫أبي الأقل ِح‪ ،‬و ُخبي ُب بن عد ِّي‪ ،‬وزيد بن ال َّدثِن ِة بن معاوي َة‪ ،‬وعب ُد الله بن طارق‪.‬‬
‫وأ َّمر رسو ُل الله ﷺ على القو ِم مرث َد بن أبي مرث ٍد الغنو َّي‪ ،‬فخرج مع القو ِم‪،‬‬
‫حتى إذا كانوا على الرجي ِع‪ :‬ما ٍء َلُذي ٍل بناحية الحجا ِز‪ ،‬على صدو ِر اَلد َأة َغدروا‬
‫بهم‪ ،‬فاستصرخوا عليهم ُهذي ًلا‪ ،‬فلم َي ُرع القو َم وهم في رحاَلم إلا الرجا ُل‬
‫بأيدُم السيو ُف قد غ َشوهم‪ ،‬فأخذوا أسيا َفهم ل ُيقاتلوهم فقالوا َلم‪ :‬إنا والله ما‬
‫ُنريد قت َلكم‪ ،‬ولكنا نري ُد أن ُنصيب بكم شي ًئا من أهل م َّك َة ولكم عه ُد الله وميثا ُقه‬

‫ألا نق ُت َلكم‪.‬‬
‫فأما مرث ُد بن أبي مرث ٍد‪ ،‬وخال ُد بن ال ُبكير‪ ،‬وعاص ُم بن ثاب ٍت فقالوا‪ :‬والله لا‬

‫نقب ُل من مشر ٍك عه ًدا ولا عق ًدا أب ًدا‪ ،‬ثم قاتل القو َم حتى ُقتل و ُقتِ َل صاحباه‪.‬‬
‫فلما ُقتل عاص ٌم أرادت ُهذي ٌل أخذ رأ ِسه‪ ،‬ليبيعوه من ُسلاف َة بنت سع ِد بن‬
‫ُشهيد‪ ،‬وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يو َم أ ُح ٍد‪ :‬لئن قدرت على رأ ِس‬
‫عاص ٍم لتشر َب َّن في ِق ْح ِفه الخم َر‪ ،‬فمن َع ْته ال َّد ْب ُر(‪ ،)1‬فلما حالت بينه وبينَهم الدب ُر‬
‫قالوا‪ :‬دعوه ُيمسي ف َتذه ُب عنه فنأخ َذه‪ ،‬فبعث الله الوادي‪ ،‬فاحتمل عاص ًما‪،‬‬
‫فذهب به‪ ،‬وقد كان عاص ٌم قد أعطى الل َه عه ًدا أن لا يم َّسه مشر ٌك‪ ،‬ولا يم َّس‬

‫مشر ًكا أب ًدا تن ُّج ًسا‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّد ْبر‪ :‬جماعة النحل‪.‬‬

‫‪ | 052‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فكان عم ُر بن الخطاب ‪ ‬يقول‪ :‬حين بلغ ُه أن الدبر من َعته‪ :‬يحف ُظ اللهُ‬
‫العب َد المؤمن‪ ،‬كان عاص ٌم نذ َر ألا يم َّسه مشر ٌك‪ ،‬ولا يم َّس مشر ًكا أب ًدا في حياته‪،‬‬

‫فمنعه الل ُه بعد وفاتِه‪ ،‬كما امتن َع منه في حيا ِته‪.‬‬
‫وأما زي ُد بن ال َّدثِن ِة و ُخبيب بن عد ٍّي وعب ُد الله بن طارق‪ ،‬فلانوا ورقوا‬
‫ور ِغبوا في الحيا ِة‪ ،‬فأعطوا بأيدُم ف َأسروهم‪ ،‬ثم خرجوا إلى م َّك َة‪ ،‬ل َيبيعوهم بها‪،‬‬
‫حتى إذا كانوا بال َّظهران انتز َع عب ُد الله بن طار ٍق ي َده من ال ِقرا ِن‪ ،‬ثم أخذ سي َفه‪،‬‬
‫واستأخ َر عنه القو ُم‪ ،‬فرموه بالحجار ِة حتى َقتلوه‪ ،‬فقب ُره ‪ ‬بال َّظهرا ِن‪ ،‬وأما‬

‫ُخبي ُب بن عدي وزيد بن ال َّدثنة فق ِدموا بهما م َّك َة‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فابتا َع ُخبي ًبا ُحجي ُر بن أبي إها ٍب التميم ُّي لعقب َة بن‬
‫الحارث بن عام ِر بن نوفل‪ ،‬وكان أبو إهاب أخا الحار ِث بن عام ٍر لأ ِّمه‪ ،‬ليقت َله‬

‫بأبيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وأما زي ُد بن ال َّدثن ِة فابتاعه صفوا ُن بن أمي َة ل َيق ُتله بأبيه أمي َة‬
‫بن خل ٍف‪ ،‬وبعث به صفوا ُن بن أمي َة مع مولى له‪ُ ،‬يقال له‪ :‬نِسطا ٌس إلى التنعي ِم‪،‬‬
‫وأخرجوه من الحر ِم ل َيقتلوه‪ ،‬واجتمع ره ٌط من قريش‪ ،‬فيهم أبو سفيا َن بن‬
‫حرب‪ ،‬فقال له أبو سفيان حين ُق ِّدم ل ُيق َتل‪ :‬أن ُشدك اللهَ يا زيد‪ ،‬أتحب أن محم ًدا‬

‫عندنا الآ َن في مكانِك نض ُب ُعن َقه‪ ،‬وأنك في أهلك؟‬
‫قال‪ :‬والله ما أحب أن محم ًدا الآن في مكانِه الذي هو فيه ُتصيبه شوك ٌة‬

‫تؤذيه‪ ،‬وأنى جال ٌس في أهلي‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪053‬‬

‫قال‪ :‬يقول أبو سفيان‪ :‬ما رأي ُت من النا ِس أح ًدا يح ُّب أح ًدا كحب أصحا ِب‬
‫محم ٍد محم ًدا‪ ،‬ثم قتله نسطاس يرحمه الله‪.‬‬

‫وأما ُخبيب بن عد ٍّي‪ ،‬فعن ما ِو َّي َة مولا ِة ُحجير بن أبي إها ٍب ‪-‬وكانت قد‬
‫أسلمت‪ -‬قالت‪ :‬كان خبي ٌب عندي‪ُ ،‬حبس في بيتي‪ ،‬فلقد اطلعت عليه يو ًما‪ ،‬وإن‬
‫في يده َل ِقط ًفا من عن ِب مثل رأ ِس الرجل يأك ُل منه‪ ،‬وما أعل ُم في أر ِض الله عن ًبا‬

‫ُيؤكل‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وعنها أنها قالت‪ :‬قال لي حين حض ُه القت ُل‪ :‬ابعثي إل َّي‬
‫بحديد ٍة أتط َّهر بها للقت ِل‪ ،‬قالت‪ :‬فأعطيت غلا ًما من الحي ال ُموسى‪ ،‬فقلت‪ :‬ادخل‬
‫بها على هذا الرج ِل البي َت‪ ،‬قالت‪ :‬فوالله‪ ،‬ما هو إلا أن و َّلى الغلا ُم بها إليه‪ ،‬فقل ُت‪:‬‬
‫ماذا صنع ُت! أصاب والله الرج ُل ثأ َره بقت ِل هذا الغلا ِم‪ ،‬فيكون رج ًلا برج ٍل‪ ،‬فلما‬
‫ناوله الحديد َة أخ َذها من ي ِده ثم قال‪َ :‬لعم ُرك‪ ،‬ما خافت أ ُّمك غدري حين بع َث ْتك‬

‫بهذه الحديد ِة إل َّي! ثم خ َّلى سبيله‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬قال عاصم‪ :‬ثم خرجوا ب ُخبي ٍب‪ ،‬حتى إذا جاءوا به إلى‬
‫التنعي ِم ل َيصلبوه‪ ،‬قال َلم‪ :‬إن رأيتم أن َتدعوني حتى أرك َع ركعتين فافعلوا‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫دو َنك فارك ْع‪ ،‬فركع ركعتين أتمَّهما وأحسنَهما‪ ،‬ثم أقب َل على القو ِم فقال‪ :‬أما والله‬

‫لولا أن تظ ُنّوا أني إنما ط َّولت جز ًعا من القت ِل لاستكثر ُت من الصلا ِة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فكان خبي ُب بن عد ٍّي أ َّو َل من س َّن هاتين الركعتي ِن عند القت ِل‬
‫للمسلمين‪.‬‬

‫‪ | 054‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬ثم رفعوه على خشب ٍة‪ ،‬فلما أوثقوه قال‪ :‬الله َّم إ َّنا قد ب َّلغنا رسال َة‬
‫رسولك‪ ،‬فب ِّلغه الغدا َة ما ُيصن ُع بنا‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم أح ِصهم عد ًدا‪ ،‬واق ُتلهم َبد ًدا‪،‬‬

‫ولا ُتغادر منهم أح ًدا‪ .‬ثم قتلوه ‪.‬‬

‫‪ -11‬حديثُ بئرِ َمعون َة في صفر سنةَ أربع‬
‫وكان من حديثِهم أن ق ِدم أبو برا ٍء عام ُر بن مال ٍك ُملاع ُب الأسنَّ ِة على‬
‫رسو ِل الله ﷺ المدين َة‪ ،‬ف َعرض عليه رسو ُل الله ﷺ الإسلا َم‪ ،‬ودعاه إليه‪ ،‬فلم‬
‫ُيس ِلم ولم َيب ُعد من الإسلا ِم‪ ،‬وقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬لو َبعثت رجا ًلا من أصحابِك إلى أه ِل‬

‫نج ٍد‪ ،‬فدعوهم إلى أم ِرك‪َ ،‬رجوت أن يستجيبوا لك‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬إني أخشى عليهم أه َل نج ٍد»‪.‬‬

‫قال أبو برا ٍء‪ :‬أنا َلم جا ٌر‪ ،‬فابعث ُهم فليدعوا النا َس إلى أم ِرك‪.‬‬
‫فبعث رسو ُل الله ﷺ المنذ َر بن عمرو في أربعي َن رج ًلا من أصحابِه من خيا ِر‬

‫المسلمين‪.‬‬

‫فساروا حتى نزلوا ببئ ِر َمعون َة‪ ،‬فلما نزلوها بعثوا َحرا َم بن ِملحا َن بكتا ِب‬
‫رسو ِل الله ﷺ إلى عد ِّو الله عام ِر بن ال ُّطفي ِل‪ ،‬فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على‬

‫الرج ِل فقتل ُه‪.‬‬

‫ثم استصر َخ عليهم بني عام ٍر‪ ،‬فأبوا أن ُيجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا‪ :‬لن‬
‫ُنخ ِفر أبا برا ٍء‪ ،‬وقد عق َد َلم عق ًدا و ِجوا ًرا‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪055‬‬

‫فاستصر َخ عليهم قبائ َل من بني ُسلي ٍم فأجابوه إلى ذلك‪ ،‬فخرجوا حتى‬
‫غشوا القو َم‪ ،‬فأحاطوا بهم في ِرحاَ ِلم‪ ،‬فلما رأوهم أخذوا ُسيو َفهم‪ ،‬ثم قا َتلوهم‬
‫حتى ُقتلوا من عند آخ ِرهم ‪َ -‬يرح ُمهم الل ُه‪ -‬إلا كع َب بن زي ٍد أخا بني دينا ِر بن‬
‫النجا ِر‪ ،‬فإنهم تركوه وبه رم ٌق‪ ،‬فا ْر ُت َّث(‪ )1‬من بين القتلى‪ ،‬فعا َش حتى ُقتل يو َم‬

‫الخند ِق شهي ًدا‪ ،‬رحمه الله‪.‬‬

‫وكان في سر ِح القو ِم عم ُرو بن أمي َة ال َّضمر ُّي‪ ،‬ورج ٌل من الأنصا ِر أح ُد بني‬
‫عمرو بن عو ٍف‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلم ُينْبئهما ب ُمصا ِب أصحابِهما إلا الطي ُر تحو ُم على‬
‫العسك ِر‪ ،‬فقالا‪ :‬والله إن َ ِلذه الطي ِر لشأ ًنا‪ ،‬فأقبلا لين ُظرا‪ ،‬فإذا القو ُم في دما ِئهم‪،‬‬

‫وإذا الخي ُل التي أصابتهم واقف ٌة‪.‬‬

‫فقال الأنصار ُّي لعمرو بن أمية‪ :‬ما ترى؟ قال‪ :‬أرى أن َنلح َق برسو ِل الله‬
‫ﷺ‪ ،‬فنخب َره الخب َر‪.‬‬

‫فقال الأنصار ُّي‪ :‬لكني ما كنت لأرغ َب بنفسي عن َموط ٍن ُقتل فيه المنذ ُر بن‬
‫عمرو‪ ،‬وما كن ُت ل ُتخب َرني عنه الرجا ُل‪ ،‬ثم قات َل القو َم حتى ُقت َل‪ ،‬وأخذوا عم َرو‬
‫بن أمي َة أسي ًرا‪ ،‬فلما أخب َرهم أنه من ُم َض‪ ،‬أطلقه عام ُر بن الطفي ِل‪ ،‬وج َّز ناصي َته‪،‬‬

‫وأع َت َقه عن رقب ٍة زعم أنها كانت على أ ِّمه‪.‬‬
‫فخر َج عمرو بن أم َّي َة حتى إذا كان بال َقرقر ِة من صدر قنا ٍة‪ ،‬أقبل رجلا ِن من‬
‫بني عام ٍر‪ ،‬حتى نزلا معه في ظ ٍّل هو فيه‪ ،‬وكان مع العامر َّي ْين عق ٌد من رسو ِل الله‬

‫(‪ )1‬ا ْر ُت َّث‪ :‬أي‪ :‬حُمل من المعركة مثخنا ضعيفا‪.‬‬

‫‪ | 056‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ﷺ و ِجوا ٌر‪ ،‬لم يعلم به عم ُرو بن أمي َة‪ ،‬وقد سأَلما حين نزلا‪« :‬ممَّن أنتما؟» فقالا‪:‬‬
‫من بني عام ٍر‪ ،‬فأمه َل ُهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقت َلهما‪ ،‬وهو يرى أنه قد أصا َب‬
‫بهما ُثؤر ًة من بني عام ٍر فيما أصابوا من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فلما َق ِدم عم ُرو بن‬
‫أم َّي َة على رسو ِل الله ﷺ فأخب َره الخب َر‪ ،‬قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لقد قتل َت قتيلي ِن‪،‬‬
‫لأَ ِد َي َّن ُهما!»‪ ،‬ثم قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬هذا عم ُل أبي برا ٍء‪ ،‬قد كنت همذا كارها‬
‫ُم َتخ ِوفا»‪ ،‬فبلغ ذلك أبا برا ٍء‪ ،‬فش َّق عليه إخفا ُر عام ٍر إياه‪ ،‬وما أصا َب أصحا َب‬

‫رسو ِل الله ﷺ بسببه وجوا ِره‪.‬‬

‫‪ -12‬أم ُر إجلاءِ بني النضير في سن ِة أرب ٍع‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم خرج رسو ُل الله ﷺ إلى بني النضي ِر َيستعينُهم في ِدية‬
‫َذينَك القتيلين من بني عام ٍر اللذين َقت َل عم ُرو بن أمي َة الضمر ُّي؛ للجوا ِر الذي‬

‫كان رسو ُل الله ﷺ عق َد َلما‪ ،‬وكان بين بني النضي ِر وبين بني عام ٍر عق ٌد و ِحل ٌف‪.‬‬

‫فلما أتاهم رسو ُل الله ﷺ َيس َتعينُهم في دي ِة ذينَك القتيلين‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬يا أبا‬

‫القاس ِم‪ُ ،‬نعينُك على ما أحبب َت‪ ،‬مما است َعنت بنا عليه‪.‬‬

‫ثم خلا بع ُضهم ببع ٍض‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنكم لن َتدوا الرج َل على مثل حالِه هذه ‪-‬‬
‫ورسو ُل الله ﷺ إلى جن ِب جدا ٍر من بيوتِهم قاع ٌد‪ -‬ف َمن رج ٌل يعلو على هذا‬

‫البي ِت‪ ،‬ف ُيلقي عليه صخر ًة؛ ف ُيريحنا منه؟‬
‫فان ُت ِد َب لذلك عم ُرو بن َج َّحاش بن كع ٍب أح ُدهم‪ ،‬فقال‪ :‬أنا لذلك‪ ،‬فص ِعد‬
‫ل ُيلقي عليه صخر ًة كما قال‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ في نف ٍر من أصحابِه فيهم أبو بك ٍر‬

‫وعم ُر وعلي ِرضوان الله عليهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪057‬‬

‫فأتى رسو َل الله ﷺ الخب ُر من السما ِء بما أرا َد القو ُم‪ ،‬فقام وخرج راج ًعا إلى‬
‫المدين ِة‪ ،‬فلما استل َب َث النب َّي ﷺ أصحا ُبه‪ ،‬قاموا في طلبِه‪ ،‬فلقوا رجلا ُمقب ًلا من‬

‫المدينة‪ ،‬فسألوه عنه‪ ،‬فقال‪ :‬رأي ُته داخ ًلا المدين َة‪.‬‬

‫فأقبل أصحا ُب رسول الله ﷺ حتى ان َتهوا إليه ﷺ‪ ،‬فأخبرهم الخب َر بما‬
‫كانت اليهو ُد أرا َدت من الغد ِر به‪ ،‬وأم َر رسو ُل الله ﷺ بالته ُّي ِؤ لحربِهم‪ ،‬والسي ِر‬

‫إليهم‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم سار بالنا ِس حتى نز َل بهم‪.‬‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وذلك في شهر ربي ٍع الأ َّو ِل‪ ،‬فحا َص َرهم ست ليا ٍل‪ ،‬ونزل‬

‫تحريم الخم ِر‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فتح َّصنوا منه في الحصو ِن‪ ،‬فأمر رسو ُل الله ﷺ بقط ِع‬
‫النخي ِل والتحري ِق فيها‪ ،‬فنا َدوه‪ :‬أن يا محم ُد‪ ،‬قد كنت َتنهى عن الفسا ِد‪ ،‬و َتعي ُبه على‬

‫من صنَعه‪ ،‬فما با ُل قط ِع النخ ِل وتحري ِقها؟‬
‫وقد كان ره ٌط من بني عو ِف بن الخزرج‪ ،‬منهم عد ُّو الله عب ُد الله بن أبي ابن‬
‫َسلول ووديع ُة ومالك بن أبي َقوق ٍل و ُسوي ٌد وداع ٌس قد بعثوا إلى بني النضير‪ :‬أن‬
‫اث ُبتوا وتمنَّعوا‪ ،‬فإنا لن ُنسل َمكم‪ ،‬إن قوتِلتم قا َتلنا معكم‪ ،‬وإن ُأخرج ُتم خرجنا‬
‫معكم‪ ،‬فتر َّبصوا ذلك من نص ِرهم‪ ،‬فلم َيفعلوا‪ ،‬وقذف اللهُ في قلوبهم الرع َب‪،‬‬
‫وسألوا رسو َل الله ﷺ أن يُجل َيهم و َي ُك َّف عن دما ِئهم‪ ،‬على أن َلم ما حمل ِت الإب ُل‬

‫من أمواَ ِلم إلا ال َح ْلق َة(‪ ،)1‬ففعل‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َح ْلقة‪ :‬الدروع‪.‬‬

‫‪ | 058‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فاحتملوا من أمواَلم ما استق َّلت به الإب ُل‪ ،‬فكان الرج ُل منهم ُد ُم بي َته عن‬
‫نِجا ِف(‪ )1‬بابه‪ ،‬فيض ُعه على ظهر بعيره فينطلق به‪ ،‬فخرجوا إلى خيب َر‪ ،‬ومنهم من‬

‫سا َر إلى الشأ ِم‪.‬‬
‫وخلوا الأموا َل لرسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فكانت لرسو ِل الله ﷺ خاص ًة‪َ ،‬يض ُعها‬
‫حيث يشا ُء‪ ،‬فق َّسمها رسو ُل الله ﷺ على المُهاجرين الأولين دو َن الأنصا ِر‪ ،‬إلا أن‬

‫سه َل بن ُحني ٍف وأبا ُدجان َة سما َك بن َخرشة ذكرا فق ًرا؛ فأعطاهما رسو ُل الله ﷺ‪.‬‬
‫‪ -13‬غزوُة بدٍر الآخرُة في شعبان سن َة أربعٍ‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم خرج في شعبا َن إلى بد ٍر‪ ،‬لميعا ِد أبي سفيان‪ ،‬حتى نزله‪،‬‬
‫فأقا َم عليه ثماني ليا ٍل ينتظر أبا سفيا َن‪ ،‬وخر َج أبو سفيان في أه ِل م َّك َة حتى نز َل جَل َنّ َة‪،‬‬
‫من ناحية الظهران‪ ،‬وبع ُض الناس يقول‪ :‬قد بلغ ُعسفا َن‪ ،‬ثم بدا له في الرجو ِع‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إنه لا ُيصل ُحكم إلا عا ٌم َخصي ٌب ترعون فيه الشج َر‪ ،‬وتشربون فيه‬
‫اللب َن‪ ،‬وإن عا َمكم هذا عا ُم َجد ٍب‪ ،‬وإني راج ٌع فارجعوا؛ فرجع النا ُس‪ .‬فسماهم أه ُل‬

‫مك َة جي َش السويق‪ ،‬يقولون‪ :‬إنما خرج ُتم َتشربون السوي َق‪.‬‬

‫‪ -14‬غزوُة الخند ِق في شوال سن َة خمس‬
‫إنه كان من حدي ِث الخند ِق أن نف ًرا من اليهو ِد‪ ،‬منهم‪ :‬س َّلام بن أبي ال ُحقيق‬
‫و ُح َيي بن أخط َب في نف ٍر من بني النضي ِر ونف ٍر من بني وائ ٍل ‪-‬وهم الذين ح َّزبوا‬
‫الأحزا َب على رسو ِل الله ﷺ‪َ -‬خرجوا حتى ق ِدموا على قري ٍش مك َة‪ ،‬ف َدعوهم إلى‬

‫حر ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وقالوا‪ :‬إ َّنا سنكون معكم عليه‪ ،‬حتى َنستأ ِص َله‪.‬‬

‫(‪ )1‬النِّ َجاف‪ :‬العتبة وهي أسكفة الباب‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪059‬‬

‫فقالت َلم قري ٌش‪ :‬يا معش َر ُو َد‪ ،‬إنكم أه ُل الكتا ِب الأول والعل ِم بما‬
‫أصبحنا نختل ُف فيه نحن ومحم ٌد‪ ،‬أفدينُنا خي ٌر أم دينُه؟‬

‫قالوا‪ :‬بل دينُكم خي ٌر من دينه‪ ،‬وأنتم أولى بالح ِّق منه‪ ،‬فهم الذين أنز َل الله‬
‫تعالى فيهم‪( :‬ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ‬

‫ﯿ) إلى قوله تعالى‪( :‬ﮆﮇﮈﮉ) [النساء‪.]11-15:‬‬

‫قال‪ :‬فلما قالوا ذلك لقري ٍش‪ ،‬س َّرهم ون َشطوا لما َدعوهم إليه من حر ِب‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فاج َتمعوا لذلك وا َّتعدوا له‪ ،‬ثم خرج أولئك النف ُر من ُو َد حتى‬
‫جاءوا غ َطفا َن من قي ِس عيلا َن‪ ،‬فدعوهم إلى حر ِب رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وأخبروهم‬

‫أنهم سيكونون معهم عليه‪ ،‬وأن قري ًشا قد تابعوهم على ذلك؛ فاجتمعوا معهم‬

‫فيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فخرجت قري ٌش وقائدها أبو سفيا َن بن حرب‪ ،‬وخرجت‬
‫غطفا ُن وقا ِئدها عيين ُة بن حص ٍن في بني َفزار َة‪ ،‬والحارث بن عوف في بني ُم َّر َة‪،‬‬

‫و ِمسعر بن ُرخيل َة فيمن تابعه من قو ِمه من أشج َع‪.‬‬
‫فلما سمع بهم رسو ُل الله ﷺ وما أجمعوا له من الأم ِر ض َب الخند َق على‬
‫المدين ِة‪ ،‬فعمل فيه رسو ُل الله ﷺ َترغي ًبا للمسلمين في الأج ِر‪ ،‬وع ِمل معه المسلمون‬

‫فيه‪ ،‬فدأ َب فيه ودأبوا‪.‬‬
‫وأبطأ عن رسو ِل الله ﷺ وعن المسلمين في ع ِملهم ذلك رجا ٌل من‬
‫المنافقين‪ ،‬و َجعلوا ُيورون بالضعي ِف من العم ِل‪ ،‬ويتس َّللون إلى أهليهم بغي ِر عل ٍم‬

‫من رسول الله ﷺ‪ ،‬ولا إذ ٍن‪.‬‬

‫‪ | 061‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وجعل الرج ُل من المسلمين إذا نابته النائب ُة من الحاجة التي لا ُب َّد له منها‪،‬‬
‫َيذكر ذلك لرسو ِل الله ﷺ و َيستأذ ُنه في اللحو ِق بحاجته؛ فيأذ ُن له‪ ،‬فإذا قضى‬

‫حاج َته رج َع إلى ما كان فيه من عم ِله رغب ًة في الخي ِر واحتسا ًبا له‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان في حف ِر الخند ِق أحادي ُث بلغتني‪ ،‬فيها من الله تعالى‬

‫عبر ٌة في تصدي ِق رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وتحقي ِق نب َّوته‪ ،‬عاين ذلك المسلمون‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من الخند ِق‪ ،‬أقبلت قري ٌش حتى‬
‫نزلت ب ُمجت َم ِع الأسيا ِل من ُروم َة بين ال ُج ُر ِف و َزغاب َة في عشرة آلا ٍف من‬
‫أحابِي ِشهم‪ ،‬ومن تبِعهم من بني ِكنا َن َة وأه ِل تِهام َة‪ ،‬وأقبلت غ َطفا ُن ومن تبعهم من‬

‫أه ِل نج ٍد حتى نزلوا ب َذ َنب َنقمى إلى جانب أ ُح ٍد‪.‬‬

‫وخر َج رسو ُل الله ﷺ والمسلمون حتى جعلوا ظهو َرهم إلى َس ْل ٍع‪ ،‬في ثلاثة‬
‫آلا ٍف من المسلمين‪ ،‬فض َب هنالك عسك َره‪ ،‬والخند ُق بينه وبين القو ِم‪.‬‬

‫قال‪ :‬وخرج عد ُّو الله ُحي ُّي بن أخط َب النض ُّي‪ ،‬حتى أتى كع َب بن أسد‬
‫القرظ َّي صاح َب عق ِد بني قريظ َة وعه ِدهم‪ ،‬وكان قد وا َد َع رسو َل الله ﷺ على‬
‫قو ِمه‪ ،‬وعا َق َده على ذلك وعاهده‪ ،‬فلما سمع كع ٌب ب ُحيي بن أخط َب أغل َق دونه‬
‫باب ِحصنِه‪ ،‬فاستأذن عليه فأبى أن يفت َح له؛ فناداه حيي‪ :‬ويحك يا كع ُب‪ ،‬افتح لي!‬

‫قال‪ :‬ويحك يا ُحي ُّي‪ ،‬إنك امر ٌؤ مشئو ٌم‪ ،‬وإني قد عاهدت محم ًدا‪ ،‬فلست‬
‫بناق ٍض ما بيني وبينه‪ ،‬ولم أ َر منه إلا وفا ًء وصد ًقا‪.‬‬

‫قال‪ :‬ويحك افتح لي أك ِّل ْمك‪.‬‬

‫قال‪ :‬ما أنا بفاع ٍل‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪060‬‬

‫قال‪ :‬والله إن أغلق َت دوني إلا عن َجشيشتِك(‪ )1‬أن آك َل معك منها‪.‬‬
‫ف َأح َف َظ الر ُج َل(‪)2‬؛ ففتح له‪.‬‬

‫فقال‪ :‬ويح َك يا كع ُب‪ ،‬جئ ُتك بع ِّز الده ِر وببح ٍر طا ٍّم‪ ،‬جئتك بقري ٍش على‬
‫قادتها وسادتِها‪ ،‬حتى أنزلتهم بمجتم ِع الأسيا ِل من ُروم َة‪ ،‬وبغطفان على قادتِها‬
‫وسادتِها حتى أنزلتهم ب َذ َنب نقمى إلى جانب أ ُح ٍد‪ ،‬قد عاهدوني وعاقدوني على أن‬

‫لا َيبرحوا حتى َنستأص َل محم ًدا ومن معه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال له كع ٌب‪ :‬جئتني والله ب ُذ ِّل الده ِر‪ ،‬وب َجها ٍم(‪ )3‬قد هرا َق ماءه‪ ،‬فهو‬
‫َيرعد و َيب ُرق‪ ،‬ليس فيه شي ٌء‪ ،‬ويحك يا ُحي ُّي! فدعني وما أنا عليه‪ ،‬فإني لم أ َر من‬

‫محمد إلا صد ًقا ووفا ًء‪.‬‬
‫فلم يزل حي ُّي بكعب َيفتله في الذرو ِة والغا ِرب حتى سمح له على أن أعطاه‬
‫عه ًدا من الله وميثا ًقا‪ :‬لئن ر َج َعت قري ٌش وغ َطفا ُن‪ ،‬ولم َيصيبوا محم ًدا أن أدخ َل‬
‫معك في ِحصنِك حتى ُيصيبني ما أصا َبك‪ ،‬فنقض كع ُب بن أسد عه َده‪ ،‬وبرئ مما‬

‫كان بينه وبين رسو ِل الله ﷺ‪.‬‬

‫فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ الخب ُر وإلى المسلمين بعث رسو ُل الله ﷺ سع َد‬
‫بن ُمعا ٍذ ‪-‬وهو يومئذ س ِّي ُد الأو ِس‪ -‬وسع َد بن ُعباد َة ‪-‬وهو يومئ ٍذ سيد الخزر ِج‪-‬‬
‫ومعهما عب ُد الله بن رواحة و َخ َّوا ُت بن ُجبير‪ ،‬فقال‪« :‬انطلقوا حتى َتنظروا‪ ،‬أح يق ما‬

‫بلغنا عن هؤلاء القو ِم أم لا؟»‬

‫(‪ )1‬ال َج ِشي َشة‪ :‬طحن البر وغيره طحنًا غلي ًظا‪.‬‬
‫(‪َ )2‬أح َف َظ الرج َل‪ :‬أي‪ :‬أغضبه‪ ،‬والحفيظة الغضب‪.‬‬

‫(‪ )3‬الجَ َهام‪ :‬السحاب الذي لا ماء فيه‪.‬‬

‫‪ | 062‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فإن كان ح اقا فال َحنوا لي لحنًا(‪ )1‬أعر ُفه‪ ،‬ولا َت ُف ُّتوا في أعضا ِد النا ِس‪ ،‬وإن‬
‫كانوا على الوفا ِء فيما بي َننا وبينهم فاج َهروا به للنا ِس‪.‬‬

‫قال‪ :‬فخرجوا حتى َأ َتوهم‪ ،‬فوجدوهم على أخب ِث ما َبل َغهم عنهم‪ ،‬ثم أقب َل‬
‫سع ٌد وسع ٌد ومن معهما إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فس َّلموا عليه‪ ،‬ثم قالوا‪َ :‬ع َض ٌل‬

‫والقا َّر ُة‪ ،‬أي‪ :‬كغد ِر َع َض ٍل والقا َّر ِة بأصحاب الرجي ِع‪ :‬خبي ٍب وأصحا ِبه‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الله أكب ُر‪ ،‬أبشوا يا مع َش المسلمين»‪.‬‬

‫قال‪ :‬وع ُظم عند ذلك البلا ُء‪ ،‬واشت َّد الخو ُف‪ ،‬وأتاهم عدوهم من فو ِقهم‬
‫ومن أسف َل منهم‪ ،‬حتى ظن المؤمنون ُك َّل ظ ٍّن‪ ،‬ونج َم النفا ُق من بع ِض المنافقين‪.‬‬

‫فأقا َم رسو ُل الله ﷺ وأقا َم عليه المشركون بِض ًعا وعشرين ليلة‪ ،‬قري ًبا من‬
‫شهر‪ ،‬لم تكن بينهم حر ٌب إلا ال ِّر ِّميا بالنب ِل والحصار‪.‬‬

‫فلما اشت َّد على الناس البلا ُء بعث رسو ُل الله ﷺ إلى ُعيين َة بن حص ٍن‪ ،‬وإلى‬
‫الحار ِث بن عو ٍف‪ ،‬وهما قائدا غطفا َن فأعطاهما ثل َث ثما ِر المدين ِة على أن َيرجعا بمن‬
‫معهما عنه وعن أصحابِه‪ ،‬فجرى بينه وبينهما الصل ُح حتى كتبوا الكتا َب ولم تقع‬

‫الشهاد ُة ولا عزيم ُة الصلح‪ ،‬إلا المراوض ُة في ذلك‪.‬‬
‫فلما أراد رسو ُل الله ﷺ أن يفع َل‪ ،‬بعث إلى سع ِد بن معا ٍذ وسع ِد بن عباد َة‪،‬‬
‫فذكر ذلك َلما‪ ،‬واستشا َرهما فيه‪ ،‬فقالا له‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أم ًرا ُتح ُّبه فنصنعه‪ ،‬أم شي ًئا‬

‫أمرك اللهُ به لا بد لنا من العمل به‪ ،‬أم شي ًئا َتصن ُعه لنا؟‬

‫(‪ )1‬فالحَنُوا لي لحنًا‪ :‬أي‪ :‬أعلموني بذلك في الخفاء‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪063‬‬

‫قال‪« :‬بل شء أصن ُعه لكم‪ ،‬والله ما أصن ُع ذلك إلا لأنني رأي ُت العر َب قد‬
‫َرمت ُكم عن قو ٍس واحد ٍة‪ ،‬وكا َل ُبو ُكم من ك ِل جان ٍب‪ ،‬فأردت أن أك ِ َس عنكم من‬

‫شوكتِهم إلى أمر ما»‪.‬‬

‫فقال له سع ُد بن معاذ‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬قد كنا نحن وهؤلاء القو َم على الشر ِك‬
‫بالله وعباد ِة الأوثا ِن‪ ،‬لا نعبد اللهَ ولا نعر ُفه‪ ،‬وهم لا َيطمعون أن يأكلوا منها تمر ًة‬
‫إلا ِق ًرى أو بي ًعا‪ ،‬أفحين أكرمنا الل ُه بالإسلا ِم وهدانا له وأع َّزنا بك وبه‪ُ ،‬نعطيهم‬
‫أموا َلنا! والله ما لنا بهذا من حاج ٍة‪ ،‬والله لا ُنعطيهم إلا السي َف حتى َيحك َم الل ُه بيننا‬

‫وبينهم‪.‬‬

‫قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬فأنت وذاك»‪.‬‬

‫فتناول سع ُد بن معاذ الصحيف َة‪ ،‬فمحا ما فيها من الكتا ِب‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫لِ َيجهدوا علينا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فأقام رسو ُل الله ﷺ والمسلمون‪ ،‬وعد ُّوهم محا ِصروهم‪،‬‬
‫ولم يكن بينهم قتا ٌل إلا أن فوا ِر َس من قري ٍش تل َّبسوا للقتا ِل‪ ،‬ثم خرجوا على‬
‫خيلهم‪ ،‬ثم تي َّمموا مكا ًنا ضي ًقا من الخند ِق‪ ،‬فضبوا خي َلهم فاقت َح َمت منه‪،‬‬
‫وخر َج عل ُّي بن أبي طالب عليه السلام في ن َف ٍر معه من المسلمين حتى أخذوا عليهم‬

‫الثغر َة التي أقحموا منها خي َلهم وأقبلت الفرسا ُن ُتعنِق نحوهم‪.‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬يقال‪ :‬إن سلمان الفارس َّي أشا َر به على رسو ِل الله ﷺ‪،‬‬
‫وحدثني بع ُض أهل العل ِم‪ :‬أن المهاجرين يو َم الخندق قالوا‪ :‬سلما ُن منا‪ ،‬وقالت‬

‫الأنصا ُر‪ :‬سلمان منا‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬سلما ُن م َّنا أه َل البيت»‪.‬‬

‫‪ | 064‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وكان ِشعا ُر أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ يو َم الخند ِق وبني قريظ َة‪ :‬حم‪ ،‬لا ُين َصرون‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وأقام رسو ُل الله ﷺ وأصحا ُبه فيما وصف الل ُه من الخو ِف‬

‫والش َّد ِة؛ لتظاه ِر عد ِّوهم عليهم‪ ،‬وإتيانِهم إياهم من فو ِقهم ومن أسف َل منهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم إن ُنعي َم بن مسعو ٍد أتى رسو َل الله ﷺ فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إني قد‬

‫أسلم ُت‪ ،‬وإن قومي لم َيعلموا بإسلامي‪ ،‬ف ُمرني بما شئ َت‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬إنما أنت فينا رجل واحد‪ ،‬ف َخ ِذ ْل عنا إن استطعت‪،‬‬

‫فإن الحر َب ُخدعة»‪.‬‬
‫فخرج ُنعيم بن مسعو ِد حتى أتى بني قريظ َة وكان َلم ندي ًما في الجاهلي ِة‪،‬‬

‫فقال‪ :‬يا بني قريظ َة‪ ،‬قد ع َرفتم ُو ِّدي إياكم‪ ،‬وخاص َة ما بيني وبينكم‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬صدقت‪ ،‬لست عندنا ب ُم َّتهم‪.‬‬
‫فقال َلم‪ :‬إن قري ًشا وغطفا َن ليسوا كأنتم‪ ،‬البل ُد بل ُدكم‪ ،‬فيه أموا ُلكم‬
‫وأبناؤكم ونساؤكم‪ ،‬لا َتقدرون على أن َتح َّولوا منه إلى غي ِره‪ ،‬وإن قري ًشا وغطفا َن‬
‫قد جاءوا لحر ِب محم ٍد وأصحابِه‪ ،‬وقد ظاهرتُموهم عليه‪ ،‬وبل ُدهم وأمواَلم‬
‫ونساؤهم بغي ِره‪ ،‬فليسوا كأنتم‪ ،‬فإن رأوا نُه َز ًة(‪ )1‬أصابوها‪ ،‬وإن كان غير ذلك‬
‫لحقوا ببلا ِدهم وخلوا بينكم وبين الرج ِل ببلدكم‪ ،‬ولا طاق َة لكم به إن خلا بكم؛‬
‫فلا ُتقاتلوا مع القو ِم حتى تأخذوا منهم ُر ُهنًا من أشرافِهم‪ ،‬يكونون بأيديكم ثِق ًة‬

‫لكم على أن ُتقاتلوا معهم محم ًدا حتى ُتناجزوه‪.‬‬

‫(‪ )1‬نُهْ َزة‪ :‬فرصة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪065‬‬

‫فقالوا له‪ :‬لقد أشر َت بالرأي‪.‬‬
‫ثم خرج حتى أتى قري ًشا‪ ،‬فقال لأبي سفيا َن بن حر ٍب ومن معه من رجا ِل‬
‫قري ٍش‪ :‬قد عرفتم ُو ِّدي لكم وفراقي محم ًدا‪ ،‬وإنه قد َبلغني أم ٌر قد رأيت عل َّي ح اقا‬

‫أن ُأبلغ ُكموه‪ ،‬نص ًحا لكم فاكتموا ع ّنِي‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬نفعل‪.‬‬
‫قال‪َ :‬ت َع َّلموا أن معش َر ُو َد قد ندموا على ما صنَعوا فيما بينهم وبين محم ٍد‪،‬‬
‫وقد أرسلوا إليه‪ :‬إ َّنا قد ن ِدمنا على ما فعلنا‪ ،‬فهل ُيرضيك أن نأخ َذ لك من‬
‫القبيلتين‪ ،‬من قري ٍش وغطفا َن رجا ًلا من أشرافِهم فنُعطيكهم‪ ،‬ف َتض َب أعنا َقهم‬

‫ثم نكون معك على من بقي منهم حتى َنستأص َلهم؟‬

‫فأرسل إليهم‪ :‬أن نعم‪ ،‬فإن بع َث ْت إليكم ُو ُد يلتمسون منكم ُر ُهنًا من‬
‫رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رج ًلا واح ًدا‪.‬‬

‫ثم خرج حتى أتى غ َطفا َن‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر غطفان‪ ،‬إنكم أ ْصِلي وعشيرتي‪،‬‬
‫وأ َح ُّب النا ِس إل َّي‪ ،‬ولا أراكم تتهموني‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬صدقت‪ ،‬ما أنت عندنا ب ُم َّتهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فاكتموا ع ّنِي‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬نفعل‪ ،‬فما أم ُرك؟‬
‫ثم قال َلم مث َل ما قال لقري ٍش وح َّذرهم ما ح َّذرهم‪.‬‬

‫‪ | 066‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فلما كانت ليل ُة السب ِت من شوال سن َة خم ٍس‪ ،‬وكان من ُصنع الله لرسولِه ﷺ‬
‫أن أرس َل أبو سفيا َن بن حرب ورؤوس غطفا َن إلى بني قريظ َة ِعكرم َة بن أبي‬
‫جه ٍل‪ ،‬في نف ٍر من قري ٍش وغطفا َن‪ ،‬فقالوا َلم‪ :‬إنا لسنا بدا ِر ُمقا ٍم‪ ،‬قد هلك الخُ ُّف‬

‫والحاف ُر‪ ،‬فاغدوا للقتا ِل حتى ُنناجز محم ًدا‪ ،‬و ُنفر َغ مما بيننا وبينه‪.‬‬

‫فأرسلوا إليهم‪ :‬إن اليو َم يو ُم السبت‪ ،‬وهو يو ٌم لا نعمل فيه شي ًئا‪ ،‬وقد كان‬
‫أحدث فيه بع ُضنا حد ًثا‪ ،‬فأصابه ما لم يَ ْخ َف عليكم‪ ،‬ولسنا مع ذلك بالذين نقات ُل‬
‫معكم محم ًدا حتى تعطونا ُر ُهنًا من رجالكم‪ ،‬يكونون بأيدينا ثِق ًة لنا حتى ُنناجز‬
‫محم ًدا‪ ،‬فإنا نخشى إن َ َّض َس ْتكم الحر ُب‪ ،‬واشتد عليكم القتا ُل أن َتن َش ِمروا إلى‬

‫بلادكِم وتتركونا‪ ،‬والرج ُل في بلدنا‪ ،‬ولا طاق َة لنا بذلك منه‪.‬‬

‫فلما رجعت إليهم الرس ُل بما قالت بنو ُقريظ َة‪ ،‬قالت قري ٌش وغطفا ُن‪ :‬والله‬
‫إن الذي ح َّدثكم ُنعي ُم بن مسعود لحق‪ ،‬فأر َسلوا إلى بني قريظ َة‪ :‬إنا والله لا ندف ُع‬

‫إليكم رج ًلا واح ًدا من رجالِنا‪ ،‬فإن كنتم ُتريدون القتا َل فاخرجوا فقاتلوا‪.‬‬

‫فقالت بنو ُقريظ َة حين انتهت الرس ُل إليهم بهذا‪ :‬إن الذي َذكر لكم ُنعيم بن‬
‫مسعو ٍد ل َحق‪ ،‬ما ُيريد القو ُم إلا أن يقاتلوا‪ ،‬فإن رأوا ُفرص ًة انتهزوها‪ ،‬وإن كان غي َر‬
‫ذلك انشمروا إلى بلادهم‪ ،‬وخ ُّلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم‪ ،‬فأرسلوا إلى‬
‫قري ٍش وغطفا َن‪ :‬إنا والله لا نقات ُل معكم محم ًدا حتى ُتعطونا ُر ُهنًا‪ ،‬فأبوا عليهم‪،‬‬
‫وخ َّذ َل الل ُه بينهم‪ ،‬وبعث الل ُه عليهم الري َح في ليا ٍل شاتي ٍة بارد ٍة شديد ِة البرد‪،‬‬

‫فجعلت تكف ُأ قدو َرهم‪ ،‬وتطرح أبنيتهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪067‬‬

‫قال‪ :‬فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ ما اختلف من أم ِرهم‪ ،‬وما ف َّرق الل ُه من‬
‫جماعتهم‪ ،‬دعا حذيف َة ب َن اليمان‪ ،‬فبعثه إليهم؛ لين ُظ َر ما فعل القو ُم لي ًلا‪ ،‬فقال‪« :‬يا‬
‫حذيف ُة‪ ،‬اذهب فاد ُخل في القو ِم‪ ،‬فانظ ْر ماذا َيصنعون‪ ،‬ولا ُتح ِدث َّن شيئا حتى تأتينا»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فذهب ُت فدخلت في القو ِم والري ُح وجنو ُد الله تفعل بهم ما َتفعل‪ ،‬لا‬
‫ُتقر َلم ِقد ًرا ولا نا ًرا ولا بناء‪.‬‬

‫فقام أبو سفيان‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ :‬ل َينظر امر ٌؤ َمن جلي ُسه؟‬

‫قال حذيف ُة‪ :‬فأخذت بيد الرج ِل الذي كان إلى جنبي‪ ،‬فقلت‪َ :‬من أنت؟‬

‫قال‪ :‬فلا ُن بن فلان‪.‬‬
‫ثم قال أبو سفيان‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إنكم والله ما أص َبحتم بدا ِر ُمقا ٍم‪ ،‬لقد‬
‫هلك ال ُكرا ُع والخُ ُّف‪ ،‬وأخلفتنا بنو قريظ َة‪ ،‬وبلغنا عنهم الذي نكره‪ ،‬ولقينا من‬
‫شدة الري ِح ما ترون‪ ،‬ما تطم ِئ ُّن لنا قد ٌر‪ ،‬ولا تقوم لنا نا ٌر‪ ،‬ولا يستمسك لنا بنا ٌء‪،‬‬
‫فارت ِحلوا فإني ُمرتح ٌل‪ ،‬ثم قام إلى جَم ِله وهو معقو ٌل‪ ،‬فجلس عليه‪ ،‬ثم ض َبه‪ ،‬فوثب‬
‫به على ثلا ٍث‪ ،‬فوالله ما َأطلق ِعقا َله إلا وهو قائ ٌم‪ ،‬ولولا عه ُد رسول الله ﷺ إلي‬

‫«أن لا ُتح ِدث شيئا حتى تأتيني» ثم شئت‪ ،‬لقتلته بسهم‪.‬‬

‫قال حذيف ُة‪ :‬فرجعت إلى رسو ِل الله ﷺ وهو قائ ٌم يصلي في ِمر ٍط(‪ )1‬لبعض‬
‫نسائه ُم َر َّحل‪ ،‬فلما رآني أدخلني إلى رجليه‪ ،‬وطرح عل َّي ط َرف المر ِط‪ ،‬ثم ركع‬
‫وسج َد‪ ،‬وإني ل ِفيه‪ ،‬فلما سل َم أخبر ُته الخب َر‪ ،‬وسمع ْت غطفا ُن بما فعلت قري ٌش‪،‬‬

‫فانش َمروا راجعين إلى بلا ِدهم‪.‬‬

‫(‪ )1‬المِ ْرط‪ :‬كساء من صوف أو خز كان يؤتزر بها‪.‬‬

‫‪ | 068‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما أصب َح رسو ُل الله ﷺ انصر َف عن الخند ِق راج ًعا إلى‬
‫المدينة والمسلمون‪ ،‬ووضعوا السلا َح‪.‬‬

‫‪ -15‬غزوُة بني قريظ َة في سن ِة خمس‬
‫فلما كانت ال ُّظه ُر أتى جبري ُل رسو َل الله ﷺ‪ُ ،‬معتج ًرا بعمامة من إستبر ٍق‪،‬‬
‫على بغلة عليها ِرحال ٌة‪ ،‬عليها قطيف ٌة من ديبا ٍج‪ ،‬فقال‪َ :‬أ َو َقد و َض ْعت السلا َح يا‬

‫رسو َل الله؟‬

‫قال‪« :‬نعم»‪.‬‬
‫فقال جبري ُل‪ :‬فما وضع ِت الملائك ُة السلا َح بعد‪ ،‬وما رجعت الآن إلا من‬
‫طل ِب القو ِم‪ ،‬إن الل َه ‪ ‬يأم ُرك يا محم ُد بالمَسي ِر إلى بني قريظ َة‪ ،‬فإني عام ٌد إليهم‬

‫ف ُمزلز ٌل بهم‪.‬‬
‫فأم َر رسو ُل الله ﷺ ُمؤ ِّذنا فأذن في النا ِس‪ :‬من كان سام ًعا ُمطي ًعا‪ ،‬فلا ُيص ِّلين‬

‫العص َر إلا ببني قريظ َة‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وق َّد َم رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طال ٍب برايتِه إلى بني‬

‫قريظ َة‪ ،‬وابت َد َرها النا ُس‪.‬‬
‫ولما أتى رسو ُل الله ﷺ بني قريظ َة‪ :‬نزل على بئ ٍر من آبا ِرها من ناحي ِة أمواَلم‬

‫ُيقال َلا‪ :‬بئ ُر ُأنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وحاص َرهم رسو ُل الله ﷺ خم ًسا وعشرين ليل ًة حتى َج ِهدهم الحصا ُر‪،‬‬

‫وقذ َف اللهُ في قلوبهم الرع َب‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪069‬‬

‫وقد كان ُحي ُّي بن أخط َب دخل مع بني قريظ َة في ِحصنِهم حين رجعت‬
‫عنهم قري ٌش و َغطفا ُن‪ ،‬وفا ًء لكعب بن أس ٍد بما كان عاهده عليه‪ ،‬فلما أيقنوا بأن‬
‫رسو َل الله ﷺ غي ُر منصر ٍف عنهم حتى ُيناج َزهم‪ ،‬قال كع ُب بن أس ٍد َلم‪ :‬يا معش َر‬
‫ُو َد‪ ،‬قد نز َل بكم من الأم ِر ما َترون‪ ،‬وإني عار ٌض عليكم ِخلالا ثلا ًثا‪ ،‬فخذوا‬

‫أ َُّا شئتم‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وما هي؟‬

‫قال‪ :‬نتابع هذا الرج َل ونص ِّدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرس ٌل‪ ،‬وأنه‬
‫ل َّلذي َتدونه في كتابِكم‪ ،‬فتأمنون على دما ِئكم وأموالِكم وأبنا ِئكم ونسائكم‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬لا ُنفار ُق حك َم التوراة أب ًدا‪ ،‬ولا نستبد ُل به غي َره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا أبيتم عل َّي هذه‪ ،‬ف َه ُل َّم فلنق ُتل أبنا َءنا ونساءنا‪ ،‬ثم َنخرج إلى محم ٍد‬
‫وأصحابِه رجا ًلا ُمصلتين السيو َف‪ ،‬لم نترك وراءنا َث َق ًلا‪ ،‬حتى يَحكم الل ُه بيننا وبين‬
‫محم ٍد‪ ،‬فإن نَهلِك نَهلِك ولم نترك وراءنا نس ًلا نخشى عليه‪ ،‬وإن َنظهر ف َلعمري‬

‫لنجد َّن النسا َء والأبنا َء‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬نقت ُل هؤلاء المساكين! فما خي ُر العي ِش بع َدهم؟‬
‫قال‪ :‬فإن أبيتم عل َّي هذه‪ ،‬فإن الليل َة ليل ُة السب ِت‪ ،‬وإنه عسى أن يكون محم ٌد‬

‫وأصحا ُبه قد َأ ِمنونا فيها‪ ،‬فان ِزلوا لعلنا نصي ُب من محم ٍد وأصحابِه ِغ َّر ًة‪.‬‬
‫قالوا‪ُ :‬نفسد سبتنا علينا‪ ،‬و ُنحد ُث فيه ما لم يُح ِد ُث َمن كان قب َلنا إلا من قد‬

‫علم َت‪ ،‬فأصابه ما لم َي ْخ َف عليك من المس ِخ!‬

‫‪ | 071‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬ما بات رج ٌل منكم منذ ولد ُته أ ُّمه ليل ًة واحد ًة من الدهر حاز ًما‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم إنهم َبعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ‪ :‬أن ابعث إلينا أبا ُلباب َة ب ِن عب ِد المنذر‬
‫أخا بني عم ِرو بن عو ٍف‪ ،‬وكانوا ُحلفاء الأو ِس‪ ،‬لنَستشي َره في أمرنا؛ فأرسله‬
‫رسو ُل الله ﷺ إليهم‪ ،‬فلما رأوه قام إليه الرجا ُل‪ ،‬و َج َهش إليه النسا ُء وال ِّصبيا ُن‬

‫يبكون في وج ِهه؛ ف َر َّق َلم‪.‬‬
‫وقالوا له‪ :‬يا أبا ُلباب َة! أترى أن ننز َل على حكم محم ٍد؟‬

‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬وأشار بيده إلى َح ْل ِقه أنه الذب ُح‪.‬‬
‫قال أبو لباب َة‪ :‬فوالله ما زالت َقدماي من مكانِهما حتى ع َرفت أني قد ُخنت‬
‫اللهَ ورسو َله ﷺ‪ ،‬ثم انطل َق أبو لباب َة على وج ِهه ولم يأ ِت رسو َل الله ﷺ حتى ار ُتبِط‬

‫في المسج ِد إلى عمو ٍد من ُع ُم ِده‪.‬‬

‫وقال‪ :‬لا أبر ُح مكاني هذا حتى يتو َب الله عل َّي مما صنع ُت‪ ،‬وعاه َد الله‪ :‬ألا‬
‫أطأ بني قريظ َة أب ًدا‪ ،‬ولا ُأرى في بل ٍد ُخنت اللهَ ورسو َله فيه أب ًدا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما بل َغ رسو َل الله ﷺ خب ُره ‪-‬وكان قد استبط َأ ُه‪ -‬قال‪:‬‬
‫«أما إنه لو جاءني لاستغفر ُت له‪ ،‬فأما إذ قد فع َل ما فع َل‪ ،‬فما أنا بالذي ُأطلِقه من‬

‫مكانِه حتى يتو َب الل ُه عليه»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني يزي ُد بن عب ِد الله بن ُقسي ٍط أن توب َة أبي لباب َة نزلت‬

‫على رسو ِل الله ﷺ من ال َّس َح ِر‪ ،‬وهو في بي ِت أم سلم َة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪070‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬أقام أبو لباب َة ُمرتب ًطا بالجذ ِع ست ليا ٍل‪ ،‬تأتيه امرأ ُته في كل‬
‫وقت صلا ٍة‪ ،‬ف َت ُح ُّله للصلا ِة‪ ،‬ثم يعو ُد فيرتبط بالجذ ِع‪.‬‬

‫قال فلما أص َبحوا نزلوا على ُحكم رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فتوا َثبت الأو ُس فقالوا‪ :‬يا‬
‫رسو َل الله‪ ،‬إنهم موالينا دون الخزر ِج‪ ،‬وقد ف َع ْلت في موالي إخواننا بالأم ِس ما قد‬
‫علم َت ‪-‬وقد كان رسو ُل الله ﷺ قبل بني ُقريظ َة قد حاصر بني قينُقا َع‪ ،‬وكانوا‬
‫حلفا َء الخزرج‪ ،‬فنزلوا على ُحك ِمه‪ ،‬فسأله إياهم عب ُد الله بن ُأبي ابن َسلو ٍل‪،‬‬
‫فوهبهم له‪ -‬فلما ك َّل َمته الأو ُس قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ألا َترضون يا مع َش الأو ِس‬

‫أن يح ُكم فيهم رجل منكم؟»‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬بلى‪.‬‬

‫قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬فذاك إلى سع ِد بن معا ٍذ»‪.‬‬

‫وكان رسو ُل الله ﷺ قد جع َل سع َد بن معا ٍذ في خيم ٍة لامرأ ٍة من أسل َم‪ُ ،‬يقال‬
‫َلا‪ُ :‬رفيد ُة ‪-‬في مس ِج ِده‪ -‬كانت ُتداوي الجَرحى‪ ،‬وتحتس ُب بنفسها على ِخدمة من‬

‫كانت به ضيع ٌة من المسلمين‪.‬‬

‫وكان رسو ُل الله ﷺ قد قال لقو ِمه حين أصابه السه ُم بالخند ِق‪« :‬اجعلوه في‬
‫خيم ِة ُرفيد َة حتى أعو َده من قري ٍب»‪.‬‬

‫فلما َح َّكمه رسو ُل الله ﷺ في بني ُقريظ َة‪ ،‬أتاه قو ُمه ف َح َملوه على حما ٍر قد َو َّطئوا‬
‫له بوساد ٍة من أ َد ٍم‪ ،‬وكان رجلا جسي ًما جمي ًلا‪ ،‬ثم أق َبلوا معه إلى رسو ِل الله ﷺ وهم‬
‫يقولون‪ :‬يا أبا عم ٍرو‪ ،‬أح ِسن في مواليك‪ ،‬فإن رسو َل الله ﷺ إنما و َّلاك ذلك ل ُتحس َن‬

‫فيهم‪ ،‬فلما أكثروا عليه قال‪ :‬لقد َأ َنى لسع ٍد ألا تأ ُخ َذه في الله لوم ُة لائ ٍم‪.‬‬

‫‪ | 072‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فرجع بع ُض من كان معه من قو ِمه إلى دا ِر بني عبد الأش َه ِل‪ ،‬فنعى َلم‬
‫رجا َل بني قريظ َة ‪-‬قبل أن يص َل إليهم سع ٌد‪ -‬عن كلمتِه التي سمع منه‪.‬‬

‫فلما انتهى سع ٌد إلى رسو ِل الله ﷺ والمسلمين‪ ،‬قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬قوموا‬

‫إلى س ِيدكم»‪.‬‬
‫فقاموا إليه‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا عم ٍرو‪ ،‬إن رسو َل الله ﷺ قد و َّلاك أم َر مواليك‬

‫لتح ُكم فيهم‪.‬‬
‫فقال سع ُد بن معا ٍذ‪ :‬عليكم بذلك عه ُد الله وميثا ُقه أ َّن الحك َم فيهم ل َما‬

‫حكم ُت؟‬

‫قالوا‪ :‬نعم‪ :‬وعلى من ها هنا؟ ‪-‬في الناحية التي فيها رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وهو‬
‫ُمعر ٌض عن رسو ِل الله ﷺ إجلا ًلا له‪ -‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬نعم»‪.‬‬

‫قال سع ٌد‪ :‬فإني أحكم فيهم أن ُتقت َل الرجا ُل‪ ،‬و ُتق َّسم الأموا ُل‪ ،‬و ُتسبى‬
‫الذراري والنسا ُء‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن علقم َة بن وقا ٍص الليث ِّي قال‪ :‬قال رسو ُل الله ﷺ‬
‫لسع ٍد‪« :‬لقد َحكمت فيهم ب ُحك ِم الله من فوق سبع ِة أرقع ٍة»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم اس ُتن ِزلوا‪ ،‬فح َبسهم رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة في دا ِر بنت‬
‫الحار ِث امرأ ٍة من بني النجا ِر‪ ،‬ثم خر َج رسو ُل الله ﷺ إلى سو ِق المدين ِة التي هي‬
‫سو ُقها اليو َم‪ ،‬ف َخن َد َق بها خناد َق‪ ،‬ثم بعث إليهم‪ ،‬فض َب أعنا َقهم في تلك الخنا ِدق‪،‬‬
‫يُخ َر ُج بهم إليه أرسا ًلا‪ ،‬وفيهم عد ُّو الله ُحي ُّي بن أخط َب وكع ُب بن أس ٍد رأ ُس القوم‪،‬‬

‫وهم ست مئ ٍة أو سبع مئة‪ ،‬والم َك ِّث ُر َلم يقول‪ :‬كانوا بين الثما ِن مئ ٍة والتسع مئة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪073‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن رسو َل الله ﷺ قس َم أموا َل بني قريظ َة ونسا َءهم‬
‫وأبنا َءهم على المسلمين‪ ،‬وأ ْعل َم في ذلك اليو ِم ُسهما َن الخيل و ُسهمان الرجا ِل‪،‬‬
‫و ُأخرج منها الخُم ُس‪ ،‬فكان للفار ِس ثلاث ُة أسه ٍم‪ :‬للفرس َسهما ِن ولفارسه سه ٌم‪،‬‬
‫وللراجل ‪َ -‬من ليس له فر ٌس‪ -‬سه ٌم‪ ،‬وكانت الخي ُل يوم بني قريظ َة ست ًة وثلاثين‬
‫فر ًسا‪ ،‬وكان أ َّو َل ف ْي ٍء وقعت فيه السهما ُن‪ ،‬و ُأخرج منها الخمس‪ ،‬فعلى ُسنَّتِها وما‬

‫مضى من رسو ِل الله ﷺ فيها وقعت المقاس ُم‪ ،‬ومضت السن ُة في المغازي‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما ان َقضى شأ ُن بني قريظ َة انفجر بسع ِد بن معاذ ُجر ُحه‬

‫فمات منه شهي ًدا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬حدثني معا ُذ بن رفاع َة ال ُّزرق ُّي قال‪ :‬حدثني من شئ ُت من‬
‫رجا ِل قومي‪ :‬أن جبري َل عليه السلا ُم أتى رسو َل الله ﷺ حين ُقب َض سع ُد بن معا ٍذ‬
‫من جو ِف الليل معتج ًرا بعمام ٍة من إستبر ٍق‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬من هذا الم ِّي ُت الذي‬
‫ُفتحت له أبوا ُب السما ِء‪ ،‬واهت َّز له العر ُش؟ قال‪ :‬فقام رسول الله ﷺ سري ًعا يج ُّر‬

‫ثو َبه إلى سع ٍد فوجده قد مات‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولم ُيستشهد من المسلمين يو َم الخندق إلا ست ُة نف ٍر‪ ،‬و ُقت َل‬
‫من المشركين ثلاث ُة نف ٍر‪.‬‬

‫ولما انصرف أه ُل الخند ِق عن الخند ِق‪ ،‬قال رسو ُل الله ﷺ ‪-‬فيما بلغني‪:-‬‬
‫«لن َتغزوكم قريش بعد عا ِمكم هذا‪ ،‬ولكنكم َتغزونَهم»‪ ،‬فلم تغزهم قري ٌش بعد‬

‫ذلك‪ ،‬وكان هو الذي َيغزوها‪ ،‬حتى فتح الل ُه عليه م َّك َة‪.‬‬

‫‪ | 074‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -16‬إسلا ُم عمرِو بن العاصِ وخال ِد بن الولي ِد‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عم ِرو بن العاص قال‪ :‬لما انصرفنا مع الأحزا ِب عن‬
‫الخند ِق جمع ُت رجا ًلا من قري ٍش‪ ،‬كانوا َيرون رأيي‪ ،‬ويسمعون منِّي‪ ،‬فقلت َلم‪:‬‬
‫َتعلمون والله أني أرى أم َر محم ٍد يعلو الأمو َر عل اوا ُمنك ًرا‪ ،‬وإني قد رأي ُت أم ًرا‪ ،‬فما‬

‫ترون فيه؟‬

‫قالوا‪ :‬وماذا رأي َت؟‬

‫قال‪ :‬رأيت أن نلح َق بالنجاش ِّي فنكو َن عنده‪ ،‬فإن ظه َر محم ٌد على قومنا كنا‬
‫عند النجاش ِّي‪ ،‬فإنا أن نكون تح َت يديه أح ُّب إلينا من أن نكو َن تحت يدي محم ٍد‪،‬‬

‫وإن ظهر قو ُمنا فنحن َمن قد َعرفوا‪ ،‬فلن يأتينا منهم إلا خي ٌر‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬إن هذا الرأ ُي‪.‬‬

‫قلت‪ :‬فاجمعوا لنا ما نُهديه له‪ ،‬وكان أح َّب ما ُُدى إليه من أر ِضنا الأ َد ُم‪.‬‬
‫فجمعنا له أد ًما كثي ًرا‪ ،‬ثم خرجنا حتى ق ِدمنا عليه‪.‬‬

‫فوالله إنا لعند ُه إذ جاءه عمرو بن أمي َة الضمر ُّي‪ ،‬وكان رسو ُل الله ﷺ قد‬
‫بع َثه إليه في شأ ِن جعف ٍر وأصحابِه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فدخ َل عليه ثم خر َج ِمن عنده‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقل ُت لأصحابي‪ :‬هذا عم ُرو بن أمي َة الضمري‪ ،‬لو قد دخل ُت على‬
‫النجاش ِّي وسأل ُته إياه فأعطانيه‪ ،‬فضب ُت ُعنُ َقه‪ ،‬فإذا فعل ُت ذلك رأت قري ٌش أني قد‬

‫أجزأ ُت عنها حين قتل ُت رسو َل محم ٍد‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪075‬‬

‫قال‪ :‬فدخل ُت عليه فسجد ُت له كما كنت أصن ُع‪ ،‬فقال‪ :‬مرح ًبا بصديقي‪،‬‬
‫أهدي َت إل َّي من بلا ِدك شي ًئا؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬أُا المل ُك‪ ،‬قد أهدي ُت إليك أد ًما كثي ًرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم ق َّربته إليه‪ ،‬فأعج َبه واش َتهاه‪ ،‬ثم قل ُت له‪ :‬أُا المل ُك‪ ،‬إني قد رأي ُت‬
‫رج ًلا خرج من عندك‪ ،‬وهو رسو ُل رج ٍل عد ٍّو لنا‪ ،‬فأعطنيه لأقت َله‪ ،‬فإنه قد أصاب‬

‫من أشرافِنا وخيا ِرنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فغ ِضب‪ ،‬ثم مد ي َده فض َب بها أن َفه ضب ًة ظنن ُت أنه قد كسره‪ ،‬فلو‬

‫انش َّقت لي الأر ُض لدخل ُت فيها َف َر ًقا منه‪.‬‬
‫ثم قلت له‪ :‬أُا المل ُك‪ ،‬والله لو ظنن ُت أنك تكر ُه هذا ما سأل ُت َكه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتسأ ُلني أن أعط َيك رسو َل رج ٍل يأتيه النامو ُس الأكب ُر الذي كان يأتي‬

‫موسى ل َتق ُت َله!‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬أُا الملك‪َ ،‬أ َكذا َك هو؟‬

‫قال‪ :‬وي َحك يا عم ُرو أطعني وا َّتبعه‪ ،‬فإنه والله لعلى الح ِّق‪ ،‬ول َيظهر َّن على من‬
‫خالفه‪ ،‬كما ظه َر موسى على فِرعون وجنو ِده‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬أف ُتبا ِيعني له على الإسلا ِم؟‬

‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فبس َط ي َده‪ ،‬فبايع ُته على الإسلا ِم‪ ،‬ثم خرج ُت إلى أصحابي وقد‬
‫حال رأيي عما كان عليه‪ ،‬وكتم ُت أصحابي إسلامي‪.‬‬

‫‪ | 076‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ثم خرجت عام ًدا إلى رسو ِل الله ﷺ لأُسل َم‪ ،‬فلقيت خال َد بن الوليد‪ ،‬وذلك‬
‫ُقبيل الفت ِح‪ ،‬وهو ُمقب ٌل من مك َة‪ ،‬فقلت‪ :‬أين يا أبا سليمان؟‬

‫قال‪ :‬والله لقد استقا َم المَن ِس ُم‪ ،‬وإن الرجل لنبي‪ ،‬أذه ُب والله فأسل ُم‪ ،‬فحتى‬
‫متى؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬والله ما جئ ُت إلا لأسلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فق ِدمنا المدين َة على رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فتقد َم خال ُد بن الوليد فأسل َم وبايع‪،‬‬
‫ثم دنو ُت‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إني أباي ُعك على أن ُيغف َر لي ما تقدم من ذنبي‪ ،‬ولا‬

‫أذك ُر ما تأخر‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا عم ُرو‪ ،‬بايع؛ فإن الإسلا َم َي ُجب ما كان قبله‪،‬‬
‫وإن اهمجر َة َ ُتب ما كان قبلها»‪ ،‬قال‪ :‬فبايعته‪ ،‬ثم انصرفت‪.‬‬

‫‪ -17‬غزوُة بني الُمص َطِلق‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬بلغ رسو َل الله ﷺ أن بني ال ُمصطلِق يَج َمعون له‪ ،‬وقائ ُدهم‬
‫الحار ُث بن أبي ِضار أبو جويري َة بنت الحار ِث زو ِج رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فلما سم َع‬
‫رسو ُل الله ﷺ بهم خر َج إليهم‪ ،‬حتى لق َيهم على ما ٍء َلم ُيقال له‪ :‬ال ُمريسي ُع‪ ،‬من‬
‫ناحية ُقدي ٍد إلى الساحل‪ ،‬فتزاحف النا ُس واقتتلوا‪ ،‬فهز َم الل ُه بني المصطلِق‪ ،‬و ُقتل‬

‫من قتل منهم‪ ،‬ونف َل رسو ُل الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأمواََلم‪ ،‬فأفاءهم عليه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪077‬‬

‫فبينا رسو ُل الله ﷺ على ذلك الما ِء‪ ،‬ور َدت وارد ُة النا ِس‪ ،‬ومع عم َر ب ِن‬
‫الخطاب أجي ٌر له من بني غفا ٍر يقال له‪َ :‬جهجاه ب ُن مسعود يقود فر َسه‪ ،‬فازدحم‬
‫جهجاه وسنا ُن بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء‪ ،‬فاقتتلا‪،‬‬

‫فصر َخ الجهن ُّي‪ :‬يا معش َر الأنصار‪ ،‬وصرخ َجهجاه‪ :‬يا معش َر المهاجرين‪ ،‬فغضب‬
‫عب ُد الله بن أبي ابن سلو ٍل وعنده ره ٌط من قومه فيهم زي ُد بن أرق َم ‪-‬غلام حدث‪-‬‬
‫فقال‪ :‬أ َو َقد فعلوها‪ ،‬قد نا َفرونا وكا َثرونا في بلا ِدنا‪ ،‬والله ما َأ ُع ُّدنا و َجلابي َب قري ٍش‬
‫إلا كما قال الأ َّو ُل‪ :‬س ِّمن كل َبك يأك ْلك‪ ،‬أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ل ُيخرجن‬

‫الأع ُّز منها الأذ َل‪.‬‬
‫ثم أقبل على من حض ُه من قو ِمه‪ ،‬فقال َلم‪ :‬هذا ما فعل ُتم بأنف ِسكم‪،‬‬
‫أحللتموهم بلا َدكم‪ ،‬وقا َسمتموهم أموا َلكم‪ ،‬أما والله لو أمسك ُتم عنهم ما‬

‫بأيديكم لتحولوا إلى غي ِر دا ِركم‪.‬‬

‫فسمع ذلك زي ُد بن أرق َم‪ ،‬فمشى به إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وذلك عند فرا ِغ‬
‫رسو ِل الله ﷺ من عد ِّوه‪ ،‬فأخب َره الخب َر وعنده عم ُر بن الخطا ِب‪ ،‬فقال‪ُ :‬مر به َع َّبا َد‬

‫بن بش ٍر فليق ُتله‪.‬‬

‫فقال له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬فكيف يا عم ُر إذا تحد َث الناس أن محمدا يقت ُل‬
‫أصحا َبه! لا‪ ،‬ولكن أ ِذن بالرحي ِل»‪ ،‬وذلك في ساع ٍة لم يكن رسو ُل الله ﷺ يرتح ُل‬

‫فيها‪ ،‬فارتحل النا ُس‪.‬‬

‫وقد مشى عب ُد الله بن أبي ابن سلول إلى رسو ِل الله ﷺ حين بلغ ُه أن زي َد بن‬
‫أرق َم قد ب َّلغه ما سم َع منه‪ ،‬فحلف بالله‪ :‬ما قل ُت ما قا َل‪ ،‬ولا تكلمت به‪.‬‬

‫‪ | 078‬مختصر السيرة النبوية‬

‫وكان في قومه شري ًفا عظي ًما‪ ،‬فقال من ح َض رسو َل الله ﷺ من الأنصا ِر من‬
‫أصحابِه‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬عسى أن يكون الغلا ُم قد أو َهم في حديثِه‪ ،‬ولم يحفظ ما‬

‫قال الرج ُل‪ ،‬حد ًبا على ابن أبي ابن سلو ٍل‪ ،‬ودفعا عنه‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما استق َّل رسو ُل الله ﷺ وسا َر‪ ،‬لقيه ُأسي ُد بن حضي ٍر‪،‬‬
‫فح َّياه بتحية النبو ِة وسلم عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا نب َي الله‪ ،‬والله لقد ُرح َت في ساعة‬

‫ُمنكر ٍة‪ ،‬ما كن َت تروح في مثلها‪.‬‬

‫فقال له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أ َو ما بلغك ما قال صاح ُبكم؟»‬

‫قال‪ :‬وأ ُّي صاحب يا رسو َل الله؟‬

‫قال‪« :‬عب ُد الله بن أبي»‪.‬‬

‫قال‪ :‬وما قال؟‬
‫قال‪« :‬زعم أنه إن رج َع إلى المدين ِة ل ُيخرجن الأعز منها الأذ َّل»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فأنت يا رسو َل الله والله ُتخرجه منها إن شئ َت‪ ،‬هو والله الذلي ُل وأنت‬
‫العزي ُز‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬ارفق به‪ ،‬فوالله لقد جا َءنا الل ُه بك‪ ،‬وإن قو َمه‬

‫لين ِظمون له الخر َز ليتوجوه‪ ،‬فإنه ل َيرى أنك قد استلب َته ُمل ًكا‪.‬‬
‫ثم مشى رسو ُل الله ﷺ بالنا ِس يو َمهم ذلك حتى أمسى‪ ،‬ولي َلتهم حتى‬
‫أص َب َح وصد َر يو ِمهم ذلك حتى آذتهم الشم ُس‪ ،‬ثم نز َل بالنا ِس‪ ،‬فلم َيلبثوا أن‬
‫وجدوا م َّس الأر ِض فوقعوا نيا ًما‪ ،‬وإنما فعل ذلك رسو ُل الله ﷺ ل َيشغ َل النا َس‬

‫عن الحدي ِث الذي كان بالأمس من حديث عب ِد الله ابن ُأب ٍّي‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪079‬‬

‫وبلغ عب َد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أم ِر أبيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عاص ُم بن عمر ب ِن قتاد َة أن عبد الله أتى رسو َل‬
‫الله ﷺ فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنه بلغني أنك ُتريد قت َل عب ِد الله بن أبي فيما بلغك عنه‪،‬‬

‫فإن كنت لا بد فاع ًلا ف ُمرني به‪ ،‬فأنا أحم ُل إليك رأ َسه‪ ،‬فوالله لقد علمت الخزر ُج ما‬
‫كان َلا من رج ٍل أب َّر بوالِده مني‪ ،‬وإني أخشى أن تأم َر به غيري فيقت َله‪ ،‬فلا تدعني‬
‫نفسي أنظ ُر إلى قات ِل عب ِد الله بن أبي َيمشي في الناس؛ فأقتله ف َأقت ُل رج ًلا مؤمنًا‬

‫بكاف ٍر‪ ،‬فأدخل النا َر‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬بل نت َّفق به‪ ،‬و ُنحس ُن ُصح َبته ما بقي معنا»‪.‬‬
‫وجعل بعد ذلك إذا أحد َث الحد َث كان قو ُمه هم الذين ُيعاتِبونه ويأخذونه‬
‫و ُيعنِّفونه‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ لعم َر بن الخطا ِب حين بلغه ذلك من شأنِهم‪:‬‬
‫«كيف َترى يا عم ُر‪ ،‬أما والله لو قتل ُته يوم قل َت ل‪ :‬اق ُتله‪ ،‬لأُر ِع َدت له آ ُنف‪ ،‬لو‬

‫أمر ُتا اليو َم بقتله لقتلته»‪.‬‬

‫قال‪ :‬قال عمر‪ :‬قد والله علم ُت َلأَم ُر رسو ِل الله ﷺ أعظ ُم برك ًة من أمري‪.‬‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وكان شعا ُر المسلمين يو َم بني المصط ِلق‪ :‬يا منصو ُر‪ ،‬أ ِم ْت‬

‫أ ِم ْت‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وأصي َب من بني المصطلِق يومئ ٍذ نا ٌس‪ ،‬و َقت َل عل ُّي بن أبي‬
‫طالب منهم َرجلي ِن‪ ،‬مال ًكا وابنه‪ ،‬وقت َل عب ُد الرحمن بن عو ٍف رج ًلا من فرسانهم‪،‬‬

‫ُيقال له‪ :‬أحم ُر‪ ،‬أو ُأحيمر‪.‬‬

‫‪ | 081‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -18‬خبُر الإفك في غزوةِ بني الُمصطلِق سن َة ست‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة قالت‪ :‬كان رسو ُل الله ﷺ إذا أرا َد سف ًرا أق َر َع‬
‫بين نسائه‪ ،‬فأ َّي َتهن خرج سه ُمها خرج بها معه‪ ،‬فلما كانت غزو ُة بني ال ُمصطلِق أقرع‬

‫بين نسا ِئه‪ ،‬كما كان يصن ُع‪ ،‬فخرج َسهمي عليهن معه‪ ،‬فخر َج بي رسو ُل الله ﷺ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وكان النسا ُء إذ ذاك إنما يأ ُكلن ال ُع َلق(‪ )1‬لم ُُيجه َّن اللح ُم فيثقلن‪،‬‬
‫وكن ُت إذا ُر ِّحل لي بعيري َجلست في َهو َدجي‪ ،‬ثم يأتي القو ُم الذين ُير ِّحلون لي‬
‫ويَحملونني‪ ،‬ف َيأخذون بأسف ِل اَلود ِج ف َيرفعو َنه‪ ،‬ف َيضعونه على ظه ِر البعي ِر‪،‬‬

‫ف َيش ُّدونه بحبالِه‪ ،‬ثم يأخذون برأ ِس البعي ِر‪ ،‬فينطلقون به‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من سف ِره ذلك‪ ،‬و َّجه قاف ًلا حتى إذا كان‬
‫قري ًبا من المدين ِة نزل منز ًلا‪ ،‬فبات به بع َض اللي ِل‪ ،‬ثم أ َّذن في النا ِس بالرحي ِل‪،‬‬
‫فارتحل النا ُس‪ ،‬وخرج ُت لبعض حاجتي‪ ،‬وفي ُعنقي ِعق ٌد لي‪ ،‬فيه َج ْز ُع َظفا ِر(‪،)2‬‬
‫فلما فرغ ُت انس َّل من ُعنقي ولا أدري‪ ،‬فلما َرجع ُت إلى الرح ِل ذهبت ألتم ُسه في‬
‫عنقي‪ ،‬فلم أج ْده‪ ،‬وقد أخ َذ النا ُس في الرحي ِل‪ ،‬ف َرجع ُت إلى مكاني الذي ذهبت‬
‫إليه‪ ،‬فالتمس ُته حتى وجد ُته‪ ،‬وجاء القو ُم ِخلافي ‪-‬الذين كانوا ُير ِّحلون لي البعي َر‪-‬‬
‫وقد فرغوا من رحلته‪ ،‬فأخذوا اَلَود َج‪ ،‬وهم َيظنون أني فيه‪ ،‬كما كنت أصن ُع‪،‬‬
‫فاح َتملوه فش ُّدوه على البعي ِر‪ ،‬ولم يشكوا أني فيه‪ ،‬ثم أخذوا برأ ِس البعي ِر‪ ،‬فانطلقوا‬

‫به ف َرجع ُت إلى العسك ِر وما فيه من دا ٍع ولا جُلي ٍب‪ ،‬قد انطل َق الناس‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال ُع َلق‪ :‬ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداء‪.‬‬
‫(‪ )2‬الجَ ْزع‪ :‬نوع من الخرز فيه بياض وسواد‪ .‬و َظفار‪ :‬موضع باليمن‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪080‬‬

‫قالت‪ :‬فتل َّفف ُت ب ِجلبابي‪ ،‬ثم اضطجع ُت في مكاني‪ ،‬وعرفت أن لو قد‬
‫اف ُت ِقدت ل ُرجع إل َّي‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فوالله إني لمُضطجع ٌة إذ مر بي صفوا ُن بن المعط ِل السلم ُّي‪ ،‬وقد كان‬
‫تخل َف عن العسك ِر لبع ِض حاجته‪ ،‬فلم يبت مع النا ِس‪ ،‬فرأى َسوادي‪ ،‬فأقبل‬
‫حتى وقف عل َّي‪ ،‬وقد كان يراني قبل أن ُيض َب علينا الحجا ُب‪ ،‬فلما رآني قال‪ :‬إنا‬

‫لله وإنا إليه را ِجعون‪ ،‬ظعين ُة رسو ِل الله ﷺ!‬

‫وأنا متلفف ٌة في ثيابي‪ ،‬قال‪ :‬ما خلفك يرح ُمك الل ُه؟‬

‫قالت‪ :‬فما كلمته‪ ،‬ثم ق َّر َب البعي َر‪ ،‬فقال‪ :‬اركبي‪ ،‬واستأ َخر عني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فركب ُت‪ ،‬وأخ َذ برأ ِس البعي ِر‪ ،‬فانطلق سري ًعا‪ ،‬يط ُل ُب النا َس‪ ،‬فوالله ما‬
‫أدركنا النا َس‪ ،‬وما اف ُتقد ُت حتى أصبح ُت‪ ،‬ونزل النا ُس‪ ،‬فلما اطمأنوا طل َع الرج ُل‬
‫يقو ُد بي‪ ،‬فقال أه ُل ال ِإفك ما قالوا فار َتع َج(‪ )1‬العسك ُر‪ ،‬ووالله ما أعلم بشي ٍء من‬

‫ذلك‪.‬‬
‫ثم ق ِدمنا المدين َة‪ ،‬فلم ألبث أن اشتكي ُت شكوى شديد ًة‪ ،‬ولا َيبلغني من‬
‫ذلك شي ٌء‪ ،‬وقد انتهى الحدي ُث إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وإلى َأ َبو َّي لا َيذكرون لي منه‬
‫قلي ًلا ولا كثي ًرا‪ ،‬إلا أ ِّني قد َأنكر ُت من رسو ِل الله ﷺ بع َض ُلط ِفه بي‪ ،‬كنت إذا‬
‫اشتكي ُت رحِمني ولطف بي‪ ،‬فلم َيفعل ذلك بي في شكواي تلك‪ ،‬فأنكر ُت ذلك‬
‫منه‪ ،‬كان إذا دخل عل َّي وعندي أ ِّمي تُمرضني قال‪« :‬كيف تِي ُكم؟» لا يزيد على‬

‫ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬ار َت َع َج‪ :‬اضطرب‪.‬‬

‫‪ | 082‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬قالت‪ :‬حتى وجد ُت في نفسي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسو َل الله ‪-‬حين‬
‫رأي ُت ما رأي ُت من َجفائه لي‪ :-‬لو أ ِذنت لي‪ ،‬فانتقل ُت إلى أ ِّمي‪ ،‬فمرضتني؟‬

‫قال‪« :‬لا عليك»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فانتقل ُت إلى أ ِّمي‪ ،‬ولا عل َم لي بشي ٍء مما كان‪ ،‬حتى ن ِقه ُت من و َجعي‬
‫بعد بض ٍع وعشرين ليل ًة‪ ،‬وكنا قو ًما ع َر ًبا‪ ،‬لا نتخ ُذ في بيوتنا هذه الكن َف التي‬
‫تتخذها الأعاج ُم؛ َنعا ُفها و َنكر ُهها‪ ،‬إنما كنا نذه ُب في ُف َسح المدين ِة‪ ،‬وإنما كانت‬
‫النسا ُء يخرج َن ك َّل ليل ٍة في حوا ِئجهن‪ ،‬فخرج ُت ليل ًة لبعض حا َجتي ومعي أ ُّم‬
‫ِمسط ٍح‪ ،‬فوالله إنها لتمشي معي إذ ع ُثرت في ِمرطها فقالت‪َ :‬ت ِعس ِمسط ٌح!‬

‫ومسط ٌح لقب واسمه‪ :‬عو ٌف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬بئس لعم ُر الله ما قلت لرج ٍل من المهاجرين قد ش ِهد بد ًرا‪،‬‬

‫قالت‪ :‬أ َو ما بلغك الخب ُر يا بن َت أبي بكر؟‬

‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬وما الخب ُر؟‬
‫فأخبرتني بالذي كان من قو ِل أه ِل الإف ِك‪.‬‬

‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬أ َوقد كان هذا؟‬

‫قالت‪ :‬نعم والله لقد كان‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فوالله ما ق ِدر ُت على أن أقض َي حا َجتي ورجع ُت‪ ،‬فوالله ما زل ُت أبكي‬

‫حتى ظننت أن البكا َء س َيصد ُع كبِدي‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪083‬‬

‫قالت‪ :‬وقلت لأ ِّمي‪ :‬يغف ُر الله لك‪ ،‬تح َّدث النا ُس بما َتح َّدثوا به‪ ،‬ولا َتذ ُكرين‬
‫لي من ذلك شي ًئا!‬

‫قالت‪ :‬أ ْي ُبنية‪ ،‬خ ِّفضي عليك الشأ َن‪ ،‬فوالله لقلما كانت امرأ ٌة حسنا ُء عند‬
‫رجل يُح ُّبها َلا ضائ ُر إلا ك َّثرن وكثر النا ُس عليها‪.‬‬

‫قالت‪ :‬وقد قام رسو ُل الله ﷺ في النا ِس يخ ُطبهم ولا أعلم بذلك‪ ،‬فح ِمد‬
‫اللهَ وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيها النا ُس‪ ،‬ما با ُل رجا ٍل ُيؤذونني في أهل‪ ،‬ويقولون‬
‫عليهم غي َر الح ِق‪ ،‬والله‪ ،‬ما َعلمت منهم إلا خيرا‪ ،‬ويقولون ذلك لرج ٍل والله ما‬

‫علمت منه إلا خيرا‪ ،‬وما َيدخل بيتا من بيوت إلا وهو معي»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وكان ِكب ُر ذلك عند عب ِد الله بن أب ِّي ابن َسلول في رجال من الخزر ِج‬

‫مع الذي قال ِمسط ُح وحَمن ُة بنت جحش‪.‬‬

‫فلما قال رسو ُل الله ﷺ تلك المقال َة‪ ،‬قال ُأسيد بن ُحضير‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إن‬
‫يكونوا من الأو ِس َنك ِف َكهم‪ ،‬وإن يكونوا من إخواننا من الخزر ِج‪ ،‬ف ُمرنا بأم ِرك‪،‬‬

‫فوالله إنهم لأه ٌل أن ُتضب أعنا ُقهم‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فقام سع ُد بن عباد َة‪ ،‬وكان قبل ذلك ُيرى رج ًلا صالحًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫كذب َت لعم ُر الله‪ ،‬لا َنضب أعنا َقهم‪ ،‬أما والله ما قل َت هذه المقال َة إلا أنك قد‬

‫عرفت أنهم من الخزر ِج‪ ،‬ولو كانوا من قو ِمك ما قل َت هذا‪.‬‬

‫فقال أسي ٌد‪ :‬كذب َت لعم ُر الله‪ ،‬ولكنك مناف ٌق ُتاد ُل عن المنافقين‪.‬‬

‫‪ | 084‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قالت‪ :‬وتساو َر النا ُس حتى كاد يكون بين هذين الح َّيين من الأو ِس‬
‫والخزرج شر‪.‬‬

‫قالت‪ :‬ثم دخل عل َّي رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وعندي أبواي‪ ،‬وعندي امرأ ٌة من‬
‫الأنصا ِر‪ ،‬وأنا أبكي وهي َتبكي معي‪ ،‬فجل َس فح ِمد الل َه وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا‬
‫عائش ُة‪ ،‬إنه قد كان ما قد بل َغك من قو ِل النا ِس‪ ،‬فا َّتقي الل َه‪ ،‬وإن كنت قد قارف ِت‬

‫سوءا مما يقو ُل النا ُس فتوبي إلى الله‪ ،‬فإن اللهَ يقب ُل التوب َة عن عباده»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فوالله ما هو إلا أن قا َل لي ذلك‪ ،‬ف َق ُلص دمعي‪ ،‬حتى ما ُأح ُّس منه‬

‫شي ًئا‪ ،‬وانتظر ُت أبوي أن ُيجيبا عنِّي رسو َل الله ﷺ‪ ،‬فلم َيت َك َّلما‪.‬‬

‫قالت‪ :‬واي ُم الله لأنا كن ُت أحق َر في نفسي‪ ،‬وأصغ َر شأ ًنا من أن ُينز َل الله ف َّي‬
‫قرآ ًنا ُيقرأ به في المساج ِد‪ ،‬و ُيص َّلى به‪ ،‬ولكني قد كنت أرجو أن َيرى رسو ُل الله ﷺ‬
‫في نو ِمه شي ًئا ُيكذ ُب به الل ُه عني‪ ،‬لما َيعلم من براءتي‪ ،‬أو يُخ َب َر خب ًرا‪ ،‬فأما قرآ ٌن ينزل‬

‫ف َّي! فوالله‪َ ،‬لنَفسي كانت أحق َر عندي من ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلما لم أ َر أبو َّي يتكلمان؛ قلت َلما‪ :‬ألا ُتيبان رسو َل الله ﷺ؟‬

‫قالت‪ :‬فقالا‪ :‬والله ما ندري بماذا ُنجيبه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ووالله ما أعل ُم أه َل بيت دخل عليهم ما دخ َل على آ ِل أبي بك ٍر في‬

‫تلك الأيا ِم‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فلما أن استعجما عل َّي‪ ،‬استعبر ُت فبكيت‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪085‬‬

‫ثم قلت‪ :‬والله لا أتو ُب إلى الله مما ذكر َت أب ًدا‪ ،‬والله إني لأعل ُم لئن أقررت بما‬
‫يقو ُل النا ُس ‪-‬والله يعلم أني منه بريئ ٌة‪ -‬لأقولن ما لم يكن‪ ،‬ولئن أنا أنكر ُت ما‬

‫يقولون لا ُتصدقونني‪.‬‬

‫قالت‪ :‬ثم التمس ُت اس َم يعقو َب فما أذ ُك ُره‪ ،‬فقلت‪ :‬ولكن سأقو ُل كما قال‬
‫أبو يوس َف‪( :‬ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ) [يوسف‪.]52:‬‬

‫قالت‪ :‬فوالله‪ ،‬ما َب ِرح رسو ُل الله ﷺ جل ِلسه حتى تغ َّشاه من الله ما كان‬
‫َيتغ َّشاه‪ ،‬ف ُس ِّجي بثوبه ووضعت له وساد ٌة من أ َدم تحت رأ ِسه‪ ،‬فأما أنا حين رأي ُت‬
‫من ذلك ما رأي ُت‪ ،‬فوالله ما ف ِزعت ولا بالي ُت‪ ،‬قد َعرفت أني بريئ ٌة‪ ،‬وأن الل َه‬
‫‪ ‬غي ُر ظالمي‪ ،‬وأما أبواي‪ ،‬فوالذي نف ُس عائش َة بيده‪ ،‬ما ُس ِّري عن رسول الله‬

‫ﷺ حتى ظننت ل َتخ ُر َج َّن أنف ُسهما َف َر ًقا من أن يأتي من الله تحقي ُق ما قال الناس‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ثم ُس ِّري عن رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فجل َس وإنه ل َيتح َّدر منه مثل ال ُجما ِن في‬
‫يوم شا ٍت‪ ،‬فجعل َيمسح العر َق عن جبينِه ويقول‪« :‬أب ِشي يا عائش ُة‪ ،‬فقد أنز َل‬

‫الل ُه برا َءتك»‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬بحمد الله‪ ،‬ثم خر َج إلى النا ِس فخط َبهم‪ ،‬وتلا عليهم ما أنز َل‬
‫الل ُه عليه من القرآ ِن في ذلك‪ ،‬ثم أم َر ب ِمسط ِح بن ُأثاث َة‪ ،‬وحسا َن بن ثاب ٍت‪ ،‬وحَمن َة‬

‫بنت جح ٍش‪ ،‬وكانوا ممن أفص َح بالفاحش ِة؛ ف ُضبوا ح َّدهم‪.‬‬

‫‪ | 086‬مختصر السيرة النبوية‬

‫[ثالثا‪ :‬الحديبية وفتح مكة]‬
‫‪ -1‬أم ُر الحديبَية في آخر سنةِ ست‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بالمدينة شه َر رمضا َن وشوا ًلا‪،‬‬
‫وخرج في ذي القعدة ُمعتم ًرا‪ ،‬لا ُيريد حر ًبا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬واستنف َر العر َب ومن حو َله من أهل البوادي من الأعرا ِب‬
‫ل َيخرجوا معه‪ ،‬وهو يَخشى من قري ٍش الذي صنَعوا‪ ،‬أن َيع ِرضوا له بحر ٍب أو‬
‫يصدوه عن البي ِت‪ ،‬فأبطأ عليه كثي ٌر من الأعرا ِب‪ ،‬وخرج رسو ُل الله ﷺ بمن معه‬
‫من المُهاجرين والأنصا ِر ومن ل ِحق به من العر ِب‪ ،‬وسا َق معه اَلد َي‪ ،‬وأحر َم‬
‫بال ُعمرة ليأم َن النا ُس من حربه‪ ،‬وليعل َم النا ُس أنه إنما خر َج زائ ًرا َلذا البيت‬

‫و ُمع ِّظ ًما له‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬خر َج رسو ُل الله ﷺ عا َم الحديبية ُيريد زيار َة البيت‪ ،‬لا‬
‫ُيري ُد قتا ًلا‪ ،‬وساق معه اَلد َي سبعين بدن ًة‪ ،‬وكان الناس سب َع مئة رج ٍل‪ ،‬فكانت‬
‫ك ُّل بدن ٍة عن عشرة نف ٍر‪ ،‬وكان جاب ُر بن عبد الله ‪-‬فيما بلغني‪ -‬يقول‪ :‬كنا أصحا َب‬

‫الحديبي ِة أرب َع عشرة مئة‪.‬‬
‫قال الزهري‪ :‬وخرج رسو ُل الله ﷺ حتى إذا كان ب ُعسفا َن لقيه بِش ُر بن‬
‫سفيا َن الكعب ُّي‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬هذه قري ٌش قد سمعت ب َمسيرك‪ ،‬ف َخرجوا‬

‫معهم ال ُعو ُذ ال َمطافي ُل(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬ال ُعو ُذ المَطافِي ُل‪ :‬الإبل مع أولادها‪ ،‬كناية عن خروج النساء والصبيان معهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪087‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا وي َح قري ٍش! لقد أ َك َلت ُهم الحر ُب‪ ،‬ماذا عليهم لو‬
‫خ َّلوا بيني وبين سائ ِر العر ِب‪ ،‬فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا‪ ،‬وإن أظ َهرني الل ُه‬
‫عليهم َدخلوا في الإسلا ِم وافِرين‪ ،‬وإن لم َيفعلوا قا َتلوا وبهم قوة‪ ،‬فما تظن قريش‪،‬‬
‫فوالله لا أزا ُل أجاه ُد على الذي بعثني الل ُه به حتى ُيظهره الل ُه أو تنفر َد هذه السالف ُة»‪.‬‬

‫ثم قال‪َ « :‬من رجل َيرج بنا على طري ٍق غي ِر َطريقهم التي هم بها؟»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر‪ :‬أن رج ًلا من أسل َم قال‪ :‬أنا‬

‫يا رسو َل الله‪.‬‬
‫فلما رأت خي ُل قري ٍش َق َتر َة الجي ِش(‪ )1‬قد خا َلفوا عن طري ِقهم‪ ،‬رجعوا‬

‫راكِضين إلى قري ٍش‪.‬‬
‫وخر َج رسو ُل الله ﷺ حتى إذا سلك في َثن َّي ِة المُرا ِر بركت ناق ُته‪ ،‬فقالت‬

‫النا ُس‪َ :‬خل َأ ِت(‪ )2‬الناق ُة‪.‬‬
‫قال‪« :‬ما خلأت وما هو هما ب ُخل ٍق‪ ،‬ولكن َح َبسها حاب ُس الفيل عن م َّك َة‪ ،‬لا‬

‫تدعوني قريش اليو َم إلى ُخط ٍة يسألونني فيها صل َة الرح ِم إلا أعطي ُتهم إياها»‪.‬‬
‫قال الزهري‪ :‬فلما اطمأن رسو ُل الله ﷺ أتاه ُبديل بن ورقا َء الخُزاع ُّي في‬

‫رجال من خزاع َة‪ ،‬فكلموه وسألوه‪ :‬ما الذي جاء به؟‬

‫(‪َ )1‬ق َترة الجيش‪ :‬غباره‪.‬‬
‫(‪َ )2‬خ َل َأ ْت‪ :‬أي بركت من غير علة‪.‬‬

‫‪ | 088‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فأخبرهم أنه لم يأت ُيريد حر ًبا‪ ،‬وإنما جاء زائ ًرا للبي ِت‪ ،‬و ُمع ِّظ ًما لحر َمتِه‪،‬‬
‫ف َرجعوا إلى قري ٍش فقالوا‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إنكم َتعجلون على محم ٍد‪ ،‬إن محم ًدا لم‬
‫يأت لقتا ٍل‪ ،‬وإنما جاء زائ ًرا للبي ِت‪ ،‬فا َّت َهموهم و َج َّبهوهم(‪ )1‬وقالوا‪ :‬وإن كان جاء‬

‫ولا ُيريد قتا ًلا‪ ،‬فوالله لا َيدخلها علينا ُعنوة أب ًدا‪ ،‬ولا ُت َح ِّدث بذلك عنا العر ُب‪.‬‬
‫قال الزهري‪ :‬وكانت ُخزاع ُة َعيب َة ُنص ِح رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬مسل ُمها ومشر ُكها‪،‬‬

‫لا يُخفون عنه شي ًئا كان بم َّك َة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم بعثوا إليه ِمك َر َز بن حف ِص بن الأخي ِف أخا بني عام ِر بن لؤ ٍي‪ ،‬فلما‬
‫رآه رسو ُل الله ﷺ ُمقب ًلا قال‪« :‬هذا رجل غادر»‪ ،‬فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ‬
‫وك َّلمه‪ ،‬قال له رسو ُل الله ﷺ نح ًوا مما قال ل ُبدي ٍل وأصحابِه‪ ،‬فرجع إلى قري ٍش‬

‫فأخب َرهم بما قال له رسو ُل الله ﷺ‪.‬‬
‫قال الزهر ُّي‪ :‬ثم بعثوا إليه ال ُحليس بن علقم َة أو ابن ز َّبان‪ ،‬وكان يومئذ س ِّيد‬
‫الأحابي ِش‪ ،‬وهو أح ُد بني الحارث ب ِن عبد منا َة بن كنان َة‪ ،‬فلما رآه رسو ُل الله ﷺ‬
‫قال‪« :‬إن هذا من قو ٍم َيتأهَّمون‪ ،‬فابعثوا اهمد َي في وج ِهه حتى يراه»‪ ،‬فلما رأى اَلد َي‬
‫يسي ُل عليه من ُعر ِض الوادي في قلائ ِده‪ ،‬وقد أك َل أوبا َره من طو ِل الحب ِس عن‬
‫مَح ِّله‪ ،‬رجع إلى قري ٍش‪ ،‬ولم َيصل إلى رسو ِل الله ﷺ إعظا ًما لما رأى‪ ،‬فقال َلم ذلك‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقالوا له‪ :‬اجل ْس‪ ،‬فإنما أنت أعرابي لا علم لك‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ج َّب ُهوهم‪ :‬أي استقبلوهم بالمكروه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪089‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر‪ :‬أن ال ُحلي َس غض َب عند ذلك‬
‫وقال‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬والله ما على هذا حالفنا ُكم‪ ،‬ولا على هذا عاقدناكم‪ ،‬أ ُيص ُّد‬
‫عن بيت الله َمن جاء ُمع ِّظ ًما له! والذي نفس ال ُحليس بي ِده‪ ،‬ل ُتخ ُّل َّن بين محمد وبين‬
‫ما جاء له‪ ،‬أو لأن ِفرن بالأحابي ِش نفر َة رجل واح ٍد‪ ،‬قال‪ :‬فقالوا له‪ :‬مه‪ُ ،‬ك َّف عنا يا‬

‫حلي ُس حتى نأ ُخ َذ لأنفسنا ما نرضى به‪.‬‬
‫ثم بعثوا إلى رسو ِل الله ﷺ عرو َة بن مسعود الثقفي‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪،‬‬
‫إني قد رأيت ما يلقى منكم من َبعثتموه إلى محم ٍد إذ جا َءكم من التعني ِف وسو ِء‬
‫اللفظ‪ ،‬وقد ع َرفتم أنكم وال ٌد وأني ولد ‪-‬وكان عرو ُة لسبيع َة بن ِت عبد شمس‪-‬‬
‫وقد سمعت بالذي نا َبكم‪ ،‬فجمع ُت من أطاعني من قومي‪ ،‬ثم جئ ُتكم حتى‬

‫آسي ُت ُكم بنفسي‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬صدق َت‪ ،‬ما أنت عندنا ب ُم َّتهم‪.‬‬
‫فخرج حتى أتى رسو َل الله ﷺ‪ ،‬جل َس بين يديه‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬أجمعت‬
‫أوشا َب النا ِس‪ ،‬ثم جئت بهم إلى بي َضتِك لت ُف َّضها بهم‪ ،‬إنها قري ٌش قد خرجت‬
‫معها ال ُعوذ المَطافي ُل‪ ،‬قد لبسوا جلو َد النمور‪ ،‬يعاهدون الل َه لا تد ُخلها عليهم ُعنو ًة‬

‫أب ًدا‪ ،‬واي ُم الله‪ ،‬لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غ ًدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأبو بكر الصدي ُق خل َف رسو ِل الله ﷺ قاع ٌد‪ ،‬فقال‪ :‬ام ُصص َب ْظ َر‬

‫اللا ِت‪ ،‬أنحن ننكش ُف عنه؟!‬

‫قال‪ :‬من هذا يا محم ُد؟‬

‫قال‪« :‬هذا ابن أبي ُقحاف َة»‪.‬‬

‫‪ | 091‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬أما والله لولا َي ٌد كانت لك عندي لكافأ ُتك بها‪ ،‬ولكن هذه بها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ثم جعل َيتناول ل ِحي َة رسو ِل الله ﷺ وهو يك ِّلمه‪ ،‬قال‪ :‬والمغير ُة بن شعبة واق ٌف‬
‫على رأ ِس رسو ِل الله ﷺ في الحدي ِد‪ ،‬قال‪ :‬فجعل يق َر ُع ي َده إذا تناو َل لحي َة رسو ِل‬

‫الله ﷺ‪ ،‬ويقول‪ :‬اك ُف ْف ي َدك عن وجه رسو ِل الله ﷺ قبل ألا َت ِص َل إليك‪.‬‬

‫فكلمه رسو ُل الله ﷺ بنح ٍو مما كلم به أصحا َبه‪ ،‬وأخبره أنه لم يأت ُيريد‬
‫حر ًبا‪ ،‬فقام من عند رسو ِل الله ﷺ وقد رأى ما َيصنع به أصحا ُبه‪ ،‬لا يتوض ُأ إلا‬
‫ابتدروا َوضو َءه‪ ،‬ولا َيب ُصق ُبصا ًقا إلا ابتدروه‪ ،‬ولا يسق ُط من شعره شي ٌء إلا‬

‫أخذوه‪.‬‬

‫فرجع إلى قري ٍش‪ ،‬فقال‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إني قد جئت كسرى في ُمل ِكه‪،‬‬
‫وقيص َر في ملكه‪ ،‬والنجاش َّي في ملكِه‪ ،‬وإني والله ما رأيت َمل ًكا في قوم قط مث َل‬

‫محم ٍد في أصحابه‪ ،‬ولقد رأي ُت قو ًما لا ُيسلمونه لشيء أب ًدا‪َ ،‬ف ُروا َرأ َيكم‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني بع ُض أهل العل ِم أن رسو َل الله ﷺ دعا ِخرا َش‬
‫بن أمي َة الخُزاع َّي‪ ،‬فبعثه إلى قري ٍش بم َّك َة‪ ،‬وحمله على بعي ٍر له ُيقال له‪ :‬الثعل ُب‪ ،‬ل ُي َب ِّل َغ‬
‫أشرا َفهم عنه ما جا َء له‪ ،‬فعقروا به جم َل رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وأرادوا قت َله‪ ،‬فمنعته‬

‫الأحابي ُش‪ ،‬فخلوا سبي َله حتى أتى رسو َل الله ﷺ‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عبا ٍس أن قري ًشا كانوا بعثوا أربعين رج ًلا منهم أو‬
‫خمسين رج ًلا‪ ،‬وأمروهم أن ُيطيفوا بعسك ِر رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ل ُيصيبوا َلم من‬
‫أصحابِه أح ًدا‪ ،‬ف ُأخذوا أخ ًذا‪ ،‬فأتي بهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فعفا عنهم‪ ،‬وخ َّلى سبي َلهم‪،‬‬

‫وقد كانوا َرموا في عسكر رسو ِل الله ﷺ بالحجار ِة والنَّب ِل‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪090‬‬

‫ثم دعا عم َر بن الخطاب ليبع َثه إلى م َّك َة‪ ،‬ف ُي َب ِّلغ عنه أشرا َف قريش ما جاء له‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إني أخاف قري ًشا على نفسي‪ ،‬وليس بم َّك َة من بني عد ِّي بن‬
‫كعب أح ٌد َيمنعني‪ ،‬وقد عرفت قري ٌش عداوتي إياها‪ ،‬و ِغل َظتي عليها‪ ،‬ولكني‬

‫أد ُّلك على رج ٍل أعز بها مني‪ ،‬عثما َن بن عفان‪.‬‬

‫فدعا رسو ُل الله ﷺ عثما َن بن عفان‪ ،‬فبعثه إلى أبي سفيا َن وأشرا ِف قري ٍش؛‬
‫يُخبرهم أنه لم يأت لحر ٍب‪ ،‬وأنه إنما جاء زائ ًرا َلذا البي ِت‪ ،‬و ُمع ِّظ ًما لحُرمته‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فخرج عثما ُن إلى مك َة‪ ،‬فلقيه أبا ُن بن سعي ِد بن العاص‬
‫حين دخل مك َة‪ ،‬أو قبل أن َيد ُخلها‪ ،‬فحمله بين يديه‪ ،‬ثم أجا َره حتى ب َّلغ رسال َة‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فانطل َق عثما ُن حتى أتى أبا سفيا َن وعظما َء قري ٍش‪ ،‬فب َّلغهم عن‬
‫رسو ِل الله ﷺ ما أرس َله به‪ ،‬فقالوا لعثما َن حين فر َغ من رسال ِة رسو ِل الله ﷺ‬

‫إليهم‪ :‬إن شئ َت أن تطو َف بالبيت ف ُط ْف‪.‬‬

‫فقال‪ :‬ما كنت لأفع َل حتى يطو َف به رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬واحتبسته قري ٌش‬

‫عندها‪ ،‬فبلغ رسو َل الله ﷺ والمسلمين أن عثما َن بن عفان قد ُقتل‪.‬‬

‫‪ -2‬بيع ُة ال ِرّضوان‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله بن أبي بك ٍر‪ :‬أن رسو َل الله ﷺ قال حين‬
‫بل َغه أن عثما َن قد ُقتِل‪« :‬لا نبر ُح حتى ُنناجز القو َم»‪.‬‬

‫فدعا رسو ُل الله ﷺ النا َس إلى البيع ِة‪ ،‬فكانت بيع ُة الرضوان تحت الشجر ِة‪،‬‬
‫فكان النا ُس يقولون‪ :‬با َيعهم رسو ُل الله ﷺ على المو ِت‪ ،‬وكان جاب ُر بن عب ِد الله‬

‫يقول‪ :‬إن رسو َل الله ﷺ لم يباي ْعنا على الموت‪ ،‬ولكن باي َعنا على أن لا َن ِف َّر‪.‬‬

‫‪ | 092‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فباي َع رسو ُل الله ﷺ النا َس‪ ،‬ولم يتخلف عنه أح ٌد من المسلمين َح َضها إلا‬
‫الج ُّد بن قي ٍس أخو بني سلم َة‪ ،‬فكان جاب ُر بن عبد الله يقول‪ :‬والله َلكأني أنظر إليه‬

‫لاص ًقا بإب ِط ناقته‪ ،‬قد ض َب َأ إليها‪ ،‬يستتر بها من النا ِس‪.‬‬

‫ثم أتى رسو َل الله ﷺ أن الذي ُذكر من أمر عثما َن باط ٌل‪.‬‬
‫‪ -3‬أمرُ الهدن ِة‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬قال الزهر ُّي‪ :‬ثم بعثت قري ٌش سهي َل بن عمرو أخا بني‬
‫عام ِر بن لؤ ٍّي إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وقالوا له‪ :‬ائت محم ًدا فصالحه‪ ،‬ولا يكن في‬
‫ُصلحه إلا أن يرجع عنا عا َمه هذا‪ ،‬فوالله لا ُتح ِّد ُث العر ُب عنا أنه دخلها علينا‬

‫ُعنو ًة أب ًدا‪.‬‬

‫فأتاه ُسهيل بن عمرو‪ ،‬فلما رآه رسو ُل الله ﷺ ُمقب ًلا‪ ،‬قال‪« :‬قد أراد القو ُم‬
‫الصل َح حين بعثوا هذا الرج َل»‪.‬‬

‫فلما انتهى سهي ُل بن عمرو إلى رسو ِل الله ﷺ تك َّلم فأطا َل الكلا َم‪،‬‬
‫وترا َجعا‪ ،‬ثم جرى بينهما الصل ُح‪.‬‬

‫فلما ال َت َأ َم الأم ُر ولم يب َق إلا الكتا ُب و َثب عم ُر بن الخطاب‪ ،‬فأتى أبا بكر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا أبا بك ٍر‪ ،‬أليس برسو ِل الله؟‬

‫قال‪ :‬بلى‪.‬‬

‫قال‪ :‬أ َولسنا بالمسلمين؟‬

‫قال‪ :‬بلى‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪093‬‬

‫قال‪ :‬أ َوليسوا بالمشركين؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪.‬‬

‫قال‪ :‬فعلا َم ُنعطى الدن َّية في ديننا؟‬
‫قال أبو بكر‪ :‬يا ُعمر‪ ،‬الزم غر َزه‪ ،‬فإني أشه ُد أنه رسو ُل الله‪.‬‬

‫قال عمر‪ :‬وأنا أشهد أنه رسو ُل الله‪.‬‬
‫ثم أتى رسو َل الله ﷺ فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬ألست برسو ِل الله؟‬

‫قال‪« :‬بلى»‪.‬‬
‫قال‪ :‬أولسنا بالمسلمين؟‬

‫قال‪« :‬بلى»‪.‬‬
‫قال‪ :‬أوليسوا بالمشركين؟‬

‫قال‪« :‬بلى»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فعلا َم ُنعطى الدني َة في ديننا؟‬
‫قال‪« :‬أنا عب ُد الله ورسو ُله‪ ،‬لن أخال َف أم َره‪ ،‬ولن يضيعني!»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكان عمر يقول‪ :‬ما زل ُت أتص َّدق وأصو ُم وأصلي و ُأعت ُق‪ ،‬من الذي‬
‫صنع ُت يومئ ٍذ مخاف َة كلامي الذي تكلم ُت به‪ ،‬حتى رجو ُت أن يكون خي ًرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم دعا رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طال ٍب ِرضوان الله عليه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«اك ُتب‪ :‬بس ِم الله الرحمن الرحيم»‪.‬‬

‫‪ | 094‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فقال ُسهي ٌل‪ :‬لا أعرف هذا‪ ،‬ولكن اكتب‪ :‬باس ِمك الله َّم‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬اك ُتب‪ :‬باسمك الله َّم»‪ ،‬فكتبها‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬اك ُتب‪ :‬هذا ما صال َح عليه محمد رسو ُل الله ُسهي َل بن عمرو»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال سهي ٌل‪ :‬لو شهد ُت أنك رسو ُل الله لم أقاتِلك‪ ،‬ولكن اك ُت ُب‬

‫اس َمك واسم أبيك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬اك ُت ْب‪ :‬هذا ما صال َح عليه محم ُد بن عب ِد الله‬
‫ُسهي َل بن عمرو‪ ،‬اصطلحا على وض ِع الحر ِب عن النا ِس ع ْ َش سنين‪ ،‬يأم ُن فيهن‬
‫النا ُس وي ُكف بع ُضهم عن بعض‪ ،‬على أنه من أتى محمدا من قري ٍش بغير إذن ول ِيه‬
‫ر َّده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشا ممن مع محم ٍد لم يردوه عليه‪ ،‬وإن بيننا َعيبة َمكفوفة(‪،)1‬‬
‫وأنه لا إسلا َل ولا إغلا َل(‪ ،)2‬وأنه من أح َّب أن يدخ َل في عقد محم ٍد وعه ِده دخل‬

‫فيه‪ ،‬ومن أحب أن يدخ َل في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم دخل فيه»‪.‬‬
‫فتواثبت ُخزاع ُة فقالوا‪ :‬نحن في عق ِد محم ٍد وعه ِده‪ ،‬وتواثبت بنو بك ٍر‪،‬‬

‫فقالوا‪ :‬نحن في عق ِد قري ٍش وعه ِدهم‪.‬‬

‫وأنك َترج ُع عنا عا َمك هذا‪ ،‬فلا تدخ ُل علينا مك َة‪ ،‬وأنه إذا كان عا ُم قاب ٍل‬
‫خرجنا عنك ف َد َخلتها بأصحابِك‪ ،‬فأقمت بها ثلا ًثا‪ ،‬معك سلا ُح الراكِ ِب السيو ُف‬

‫في ال ُقر ِب‪ ،‬لا تدخلها بغيرها‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ع ْي َب ًة َمكفوف ًة‪ :‬استعارة‪ ،‬وإنما يريد أنك تك ّف عنا ونك ّف عنك‪.‬‬
‫(‪ )2‬الإ ْس َلال‪ :‬السرقة الخفية‪ .‬والإ ْغ َلال‪ :‬الخيانة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪095‬‬

‫فبينا رسو ُل الله ﷺ يك ُتب الكتا َب هو وسهي ُل بن عمرو‪ ،‬إذ جاء أبو َجند ِل‬
‫بن سهي ِل بن عمرو ير ُسف في الحدي ِد‪ ،‬قد انفلت إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وقد كان‬
‫أصحا ُب رسو ِل الله ﷺ َخرجوا وهم لا يش ُّكون في الفت ِح‪ ،‬لرؤيا رآها رسو ُل الله‬
‫ﷺ‪ ،‬فلما رأوا ما رأوا من الصل ِح والرجو ِع‪ ،‬وما تح َّمل عليه رسو ُل الله ﷺ في‬
‫نف ِسه؛ دخ َل على النا ِس من ذلك أم ٌر عظي ٌم‪ ،‬حتى كادوا َُ ِلكون‪ ،‬فلما رأى سهي ٌل‬
‫أبا جند ٍل قام إليه فض َب وج َهه‪ ،‬وأخذ ب َت ْلبيبه ثم قال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬قد ل َّجت‬

‫القضي ُة(‪ )1‬بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا‪.‬‬

‫قال‪ :‬صدق ْت‪ ،‬فجعل َين ُت ُره بتلبيبِه‪ ،‬وي ُج ُّره لير َّده إلى قري ٍش‪ ،‬وجعل أبو َجند ٍل‬
‫يصر ُخ بأعلى صوتِه‪ :‬يا معش َر المسلمين‪ ،‬أ ُأ َر ُّد إلى المشركين َيفتنوني في ديني؟‬

‫فزاد ذلك النا َس إلى ما بهم‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا أبا جند ٍل‪ ،‬اصب ْر‬
‫واحتس ْب‪ ،‬فإن الل َه جاعل لك ولمن معك من المُستضعفين فرجا و َمرجا‪ ،‬إنا قد‬
‫َعقدنا بيننا وبين القو ِم ُصلحا‪ ،‬وأعطيناهم على ذلك‪ ،‬و َأع َطونا عه َد الله‪ ،‬وإنا لا‬

‫َنغ ِدر بهم»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فوثب عم ُر بن الخطا ِب مع أبي َجند ٍل يمشي إلى جنبه‪ ،‬ويقول‪ :‬اصب ْر يا‬
‫أبا َجند ٍل‪ ،‬فإنما هم المشركون‪ ،‬وإنما د ُم أح ِدهم د ُم كل ٍب‪.‬‬
‫قال‪ :‬و ُيدني قائ َم السي ِف منه‪.‬‬

‫قال‪ :‬يقول عمر‪ :‬رجو ُت أن يأخ َذ السي َف فيض َب به أباه‪ ،‬قال‪ :‬فض َّن‬
‫الرج ُل بأبيه‪ ،‬ونفذت القضي ُة‪.‬‬

‫(‪ )1‬لجَّت القضي ُة‪ :‬أي‪َ :‬و َج َب ْت‪.‬‬

‫‪ | 096‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان رسو ُل الله ﷺ مضطر ًبا في ال ِح ِّل(‪ ،)1‬وكان ُيص ِّلي في‬
‫الحر ِم‪ ،‬فلما فر َغ من الصل ِح ق ِدم إلى هديه فنح َره‪ ،‬ثم جل َس فحل َق رأ َسه‪ ،‬وكان‬
‫الذي حلقه ‪-‬فيما بلغني‪ -‬في ذلك اليوم ِخراش بن أمي َة بن الفضل الخزاع ُّي‪ ،‬فلما‬

‫رأى النا ُس أن رسو َل الله ﷺ قد نح َر و َح َل َق توا َثبوا ينحرون ويحلِقون‪.‬‬

‫‪ -4‬ما جرى عليه أم ُر قو ٍم من المستضعفين بعد الصل ِح‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما ق ِد َم رسو ُل الله ﷺ المدين َة أتاه أبو َبصي ٍر ُعتب ُة بن أسيد‪،‬‬
‫وكان ممن ُحبس بمك َة‪ ،‬فلما قدم على رسو ِل الله ﷺ كتب فيه أزه ُر بن عب ِد عوف‬
‫والأخن ُس بن َشري ٍق إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وبعثا رج ًلا من بني عام ِر بن لؤ ٍّي‪ ،‬ومعه‬

‫مو ًلى َلم‪ ،‬فقدما على رسو ِل الله ﷺ بكتا ِب الأزه ِر والأخن ِس‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬يا أبا َبصي ٍر‪ ،‬إنا قد أعطينا هؤلا ِء القو َم ما قد علم َت‪،‬‬
‫ولا يص ُلح لنا في دينِنا الغد ُر‪ ،‬وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا‬

‫و َمرجا‪ ،‬فان َطلِق إلى قو ِمك»‪.‬‬

‫قال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أتر ُّدني إلى المشركين يفتِنونني في ديني؟!‬

‫قال‪« :‬يا أبا بصي ٍر‪ ،‬انطل ْق‪ ،‬فإن الل َه تعالى سيجع ُل لك ولمن معك من‬

‫المستضعفين فرجا ومرجا»‪.‬‬

‫فانطل َق معهما‪ ،‬حتى إذا كان بذي الحُليف ِة‪ ،‬جل َس إلى جدا ٍر‪ ،‬وجل َس معه‬
‫صاحباه‪ ،‬فقال أبو بصي ٍر‪ :‬أصار ٌم سي ُفك هذا يا أخا بني عامر؟‬

‫(‪ )1‬مضطر ًبا في ال ِح ِّل‪ :‬معناه أن أبنيته كانت مضوبة في الحل وكانت صلاته في الحرم؛ وهذا لقرب الحديبية‬
‫من الحرم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪097‬‬

‫فقال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال‪ :‬أنظ ُر إليه؟‬

‫قال‪ :‬انظ ْر‪ ،‬إن شئ َت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاست َّله أبو بصي ٍر‪ ،‬ثم علاه به حتى قت َله‪ ،‬وخر َج المولى سري ًعا حتى أتى‬
‫رسو َل الله ﷺ وهو جال ٌس في المسج ِد‪ ،‬فلما رآه رسو ُل الله ﷺ طال ًعا قال‪« :‬إن هذا‬

‫الرج َل قد رأى فزعا» فلما انتهى إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬قال‪« :‬وي َحك! ما لك؟»‪.‬‬
‫قال‪ :‬قتل صاح ُبكم صاحبي‪ ،‬فوالله ما ب ِرح حتى طل َع أبو بصي ٍر ُمتو ِّش ًحا‬
‫بالسي ِف‪ ،‬حتى وقف على رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬و َف ْت ذ َّم ُتك‪ ،‬وأ َّدى‬

‫الل ُه عنك‪ ،‬أس َلمتني بيد القو ِم وقد امتنع ُت بديني أن ُأفتن فيه‪ ،‬أو ُيعبث بي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬وي ُل أ ِمه‪ِ ،‬مـ َحش(‪ )1‬حر ٍب لو كان معه رجال!»‪.‬‬
‫ثم خرج أبو بصير حتى نزل ال ِعي َص‪ ،‬من ناحية ذي ال َمرو ِة‪ ،‬على ساح ِل‬
‫البحر‪ ،‬بطريق ُقري ٍش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشأم‪ ،‬وبلغ المسلمين الذين‬
‫كانوا اح ُتبسوا بم َّك َة قو ُل رسول الله ﷺ لأبي بصير‪« :‬وي ُل أ ِمه‪ ،‬م َِحش حر ٍب لو‬
‫كان معه رجال!»‪ ،‬فخرجوا إلى أبي َبصي ٍر بال ِعي ِص‪ ،‬فاجتمع إليه منهم قري ٌب من‬
‫سبعين رج ًلا‪ ،‬وكانوا قد ض َّيقوا على قري ٍش‪ ،‬لا َيظفرون بأح ٍد منهم إلا َقتلوه‪ ،‬ولا‬
‫تم ُّر بهم عي ٌر إلا اق َتطعوها‪ ،‬حتى كتبت قري ٌش إلى رسو ِل الله ﷺ َتسأ ُل بأرحا ِمها إلا‬

‫آواهم‪ ،‬فلا حاج َة َلم بهم؛ فآواهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فق ِدموا عليه المدين َة‪.‬‬

‫(‪ِ )1‬مـ َح ُّش حر ٍب‪ :‬أي موقد حرب ومهيجها‪.‬‬

‫‪ | 098‬مختصر السيرة النبوية‬

‫‪ -5‬أم ُر المُهاجرات بعد ال ُهدن ِة‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني الزهر ُّي‪ ،‬عن ُعرو َة بن الزبي ِر قال‪ :‬دخلت عليه‬
‫وهو يكتب كتا ًبا إلى ابن أبى ُهنيد َة‪ ،‬صاح ِب الولي ِد بن عبد الملك‪ ،‬وكتب إليه‬
‫يسأ ُله عن قو ِل الله تعالى‪( :‬ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ)‬

‫[الممتحنة‪ ،]54:‬فكتب إليه ُعرو ُة بن الزبير‪ :‬إن رسو َل الله ﷺ كان صال َح قري ًشا‬
‫يو َم الحديبي ِة على أن ير َّد عليهم من جاء بغي ِر إذ ِن ول ِّيه‪ ،‬فلما هاج َر النسا ُء إلى رسو ِل‬
‫الله ﷺ وإلى الإسلا ِم‪ ،‬أبى اللهُ أن ُي ْر َد ْد َن إلى المشركين إذا هن ام ُت ِح َّن بمحنة‬
‫الإسلا ِم‪ ،‬فعرفوا أنهن إنما جئن رغب ًة في الإسلام‪ ،‬وأمر بر ِّد ص ُدقاتِه َّن إليهم إن‬
‫احت َبسن عنهم‪ ،‬إن هم ر ُّدوا على المسلمين صدا َق من ُحبسوا عنهم من نسائهم‬

‫(ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ) [الممتحنة‪.]54:‬‬

‫فأمسك رسو ُل الله ﷺ النسا َء ور َّد الرجا َل‪ ،‬وسأل الذي أمره الل ُه به أن‬
‫يسأ َل من َص ُدقات نسا ِء من ُحبسوا منهن‪ ،‬وأن يردوا عليهم مث َل الذي َير ُّدون‬
‫عليهم ‪-‬إن هم فعلوا‪ -‬ولولا الذي َحكم الل ُه به من هذا الحك ِم ل َر َّد رسو ُل الله ﷺ‬
‫النسا َء كما ر َّد الرجا َل‪ ،‬ولولا اَلدن ُة والعه ُد الذي كان بينه وبين قري ٍش يو َم‬
‫الحديبية لأمس َك النسا َء‪ ،‬ولم َير ُد ْد َلن صدا ًقا‪ ،‬وكذلك كان يصن ُع بمن جا َءه من‬

‫المسلمات قبل العه ِد‪.‬‬

‫‪ -6‬بُشرى فت ِح م َكّ َة وتع ُّج ِل بعضِ المسلمين‬
‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬حدثنا أبو ُعبيد َة أن بع َض من كان مع رسو ِل الله ﷺ قال له‬

‫لما ق ِدم المدين َة‪ :‬ألم تقل يا رسو َل الله إنك تدخ ُل م َّك َة آمنا؟‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪099‬‬

‫قال‪« :‬بلى‪ ،‬أ َفقل ُت لكم من عامي هذا؟»‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬لا‪.‬‬

‫قال‪« :‬فهو كما قال ل جبري ُل عليه السلا ُم»‪.‬‬
‫‪ِ -7‬ذك ُر الَمسير إلى خيبرَ في الُمح َّرم سن َة سبع‬

‫قال محم ُد بن إسحا َق‪ :‬ثم أقام رسو ُل الله ﷺ بالمدين ِة حين رج َع من‬
‫الحديبي ِة‪ ،‬ذا الحج ِة وبع َض المحرم‪ ،‬وو ِلي تلك الحج َة المشركون‪ ،‬ثم خرج في بقية‬

‫المحرم إلى خيب َر‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني من لا أته ُم عن أن ِس بن مال ِك قال‪ :‬كان رسو ُل‬
‫الله ﷺ إذا غزا قو ًما لم ُي ِغر عليهم حتى يصب َح‪ ،‬فإن سمع أذا ًنا أمسك‪ ،‬وإن لم‬
‫يسمع أذا ًنا أغار‪ ،‬فنزلنا خيب َر لي ًلا‪ ،‬فبات رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬حتى إذا أصبح لم يسمع‬
‫أذا ًنا‪ ،‬ف َر ِك َب وركبنا معه‪ ،‬فركبت خل َف أبي طلح َة‪ ،‬وإن قدمي َلتم ُّس قد َم رسو ِل‬

‫الله ﷺ‪ ،‬واستقب ْلنا ع َّما َل خيب َر غادين‪ ،‬قد خرجوا ب َمسا ِحيهم و َمكاتِلهم(‪.)1‬‬
‫فلما رأوا رسو َل الله ﷺ والجي َش‪ ،‬قالوا‪ :‬محم ٌد والخمي ُس(‪ )2‬معه! فأدبروا‬
‫ُه َّرا ًبا‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الل ُه أكبر‪َ ،‬خ ِربت خيب ُر‪ ،‬إنا إذا نزلنا بساح ِة قوم فسا َء‬

‫صبا ُح ال ُمن َذرين»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َم َسا ِحي‪ :‬جمع ِم ْسحاة وهي كالمجرفة ولكنها من حديد‪ .‬والمَ َكاتِل جمع ِم ْك َتل وهو‪ :‬القفة الكبيرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الخَ ِميس‪ :‬الجيش؛‏لأنهم خَ ْم ُس فِ َر ٍق‪ :‬المقدمة‪ ،‬والقلب‪ ،‬والمي َمنة‪ ،‬والمي َسرة‪ ،‬والساق‪.‬‬


Click to View FlipBook Version