| 011مختصر السيرة النبوية
و َمك َرهنا ،وأثر ٍة علينا ،وألا ُنناز َع الأم َر أه َله ،وأن نقو َل بالح ِّق أينما كنا ،لا نخا ُف
في الله لوم َة لائ ٍم.
-6نُزولُ الأم ِر لرسو ِل الله ﷺ في القتا ِل
عن محم ِد بن إسحا َق ال ُم َّطلبي :وكان رسو ُل الله ﷺ قبل بيع ِة العقب ِة لم ُيؤ َذن
له في الحر ِب ولم ُتح َّلل له الدما ُء ،إنما ُيؤم ُر بالدعا ِء إلى الله والصب ِر على الأ َذى،
والصف ِح عن الجاه ِل ،وكانت قري ٌش قد اضطهدت من ا َّتبعه من المهاجري َن حتى
َفتنوهم عن دينِهم ونفوهم من بلا ِدهم ،فهم من بين َمفتو ٍن في دينه ،ومن بين
ُمع َّذب في أيدُم ،وبين هار ٍب في البلا ِد فِرا ًرا منهم :منهم َمن بأرض الحبش ِة،
ومنهم َمن بالمدينة ،وفي ك ِّل وج ٍه.
فلما عتت قري ٌش على الله ،ور ُّدوا عليه ما أرادهم به من الكرام ِة،
وك َّذبوا نب َّيه ﷺ ،وع َّذبوا ونفوا من عب َده وو َّحده وصدق نب َّيه واعتص َم بدينه ،أذن
اللهُ لرسولِه ﷺ في القتا ِل والانتصا ِر ممن ظل َمهم وبغى عليهم.
فكانت أ َّو َل آية أنزلت في إذنِه له في الحر ِب ،وإحلالِه له الدماء والقتال ،لمن
بغى عليهم -فيما ب َلغني -عن ُعرو َة بن الزبي ِر وغي ِره من ال ُعلما ِء ،قو ُل الله تبارك
وتعالى( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ)
[الحج.]32:
قال اب ُن إسحا َق :فلما أذ َن اللهُ تعالى له ﷺ في الحر ِب ،وبايعه هذا الح ُّي من
الأنصا ِر على الإسلام والنُّصرة له ولمن ا َّتبعه وأوى إليهم من المسلمين ،أمر
رسو ُل الله ﷺ أصحا َبه من المهاجري َن من قو ِمه ،ومن معه بم َّك َة من المسلمين،
مختصر السيرة النبوية|010
بالخرو ِج إلى المدين ِة واَلجر ِة إليها ،واللحو ِق بإخوانِهم من الأنصا ِر ،وقال« :إن
اللهَ قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها».
فخرجوا أرسا ًلا( ،)1وأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة ينتظ ُر أن يأذ َن له ر ُّبه في
الخرو ِج من م َّك َة ،واَلجرة إلى المدين ِة.
ِ -7ذك ُر المهاجرين إلى المدين ِة
فكان أ َّو َل من هاجر إلى المدين ِة من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ من ال ُمهاجرين من
قري ٍش ،من بني مَخزوم :أبو سل َم َة بن عب ِد الأسد ،ثم كان أ َّو َل من ق ِدمها من
المُهاجرين بعد أبي سلم َة :عام ُر بن ربيع َة معه امرأ ُته ليلى بن ُت أبي َحثم َة ،ثم
عب ُد الله بن جح ٍش احتم َل بأه ِله وبأخيه عب ُد بن جح ٍش ،ثم خرج عم ُر ب ُن الخطاب،
وع َّيا ُش بن أبي ربيع َة المخزومي ،حتى ق ِدما المدين َة ،ثم تتاب َع ال ُمهاجرون.
ِ -8هجرةُ الرسو ِل ﷺ
وأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة بعد أصحابِه من ال ُمهاجرين ينتظ ُر أن ُيؤ َذن له في
اَلجر ِة ،ولم يتخ َّلف معه بم َّك َة أح ٌد من المهاجرين إلا من ُحب َس أو ُفتن ،إلا عل ُّي
بن أبي طالب ،وأبو بك ِر ب ُن أبي قحافة الص ِّدي ُق ،وكان أبو بك ٍر كثي ًرا ما
يستأذن رسو َل الله ﷺ في اَلجر ِة ،فيقو ُل له رسو ُل الله ﷺ« :لا َتعج ْل لع َّل الل َه
يجع ُل لك صاحبا» ،فيطمع أبو بك ٍر أن يكو َن ُه.
قال اب ُن إسحا َق :ولما رأت قري ٌش أن رسو َل الله ﷺ قد صارت له شيع ٌة
وأصحا ٌب من غي ِرهم بغير بل ِدهم ،ورأوا خروج أصحابِه من ال ُمهاجرين إليهم،
(َ )1أ ْرسا ًلا :جماعة في إثر جماعة.
| 012مختصر السيرة النبوية
عرفوا أنهم قد نزلوا دا ًرا ،وأصابوا منهم َمنع ًة ،ف َح ِذروا خرو َج رسو ِل الله ﷺ
إليهم ،وعرفوا أنه قد َأج َم َع لحربهم.
فاج َتمعوا له في دار الندوة -وهي دا ُر قص ِّي ب ِن كلاب التي كانت قري ٌش لا
تقضي أم ًرا إلا فيها -ي َتشاورون فيها ما َيصنعون في أم ِر رسو ِل الله ﷺ حين
خافوه.
قال اب ُن إسحا َق :عن عبد الله بن عبا ٍس قال :لما أجمعوا لذلك،
وا َّتعدوا أن َيدخلوا في دار الندو ِة ل َيتشاوروا فيها في أم ِر رسول الله ﷺَ ،غدوا في
اليوم الذي ا َّتعدوا له ،وكان ذلك اليوم ُيسمى يو َم الزحمة ،فاعتر َضهم إبلي ُس في
هيئ ِة شيخ جلي ٍل عليه َب ْت َل ٌة ،فوقف على باب الدار ،فلما رأوه واق ًفا على بابها ،قالوا:
َمن الشي ُخ؟
قال :شي ٌخ من أهل نج ٍد سم َع بالذي ا َّتعدتم له ،فح َض معكم ل َيسمع ما
تقولون ،وعسى ألا ُيع ِدمكم منه رأ ًيا و ُنص ًحا.
قالوا :أجل ،فاد ُخ ْل ،فدخل معهم ،وقد اجتمع فيها أشرا ُف قري ٍش ،ومن
كان معهم وغي ُرهم ممن لا ُيع ُّد من قري ٍش.
فقال بع ُضهم لبعض :إن هذا الرجل قد كان من أم ِره ما قد رأي ُتم ،فإنا والله
ما نأ َمنُه على الوثو ِب علينا فيمن قد ا َّتبعه من غي ِرنا؛ فأجمِعوا فيه رأ ًيا.
قال :فتشاوروا ثم قال قائ ٌل منهم :احبِسوه في الحدي ِد ،وأغ ِلقوا عليه با ًبا ،ثم
َتر َّبصوا به ما أصا َب أشبا َهه من الشعرا ِء الذين كانوا قب َله :زهي ًرا والنابغ َة ومن
مضى منهم من هذا المو ِت ،حتى يصي َبه ما أصا َبهم.
مختصر السيرة النبوية|013
فقال الشي ُخ النجد ُّي :لا والله ،ما هذا لكم برأ ٍي ،والله لئن حبس ُتموه -كما
تقولون -ل َيخ ُرج َّن أم ُره من ورا ِء الباب الذي أغلق ُتم دو َنه إلى أصحابِه،
فلأوشكوا أن َيثِبوا عليكم ،ف َين ِزعوه من أيديكم ،ثم ُيكاثروكم به ،حتى َيغلبوكم
على أم ِركم ،ما هذا لكم برأ ٍي؛ فانظروا في غي ِره ،ف َتشاوروا.
ثم قال قائ ٌل منهمُ :نخر ُجه من بين أظ ُهرنا ،فننفيه من بلادنا ،فإذا ُأخرج عنا
فوالله ما ُنبالي أين ذهب ،ولا حي ُث وقع إذا غاب عنا وف َرغنا منه؛ فأصل ْحنا أم َرنا
و ُألف َتنا كما كانت.
فقال الشي ُخ النجد ُّي :لا والله ،ما هذا لكم برأ ٍي ،ألم تروا ُحس َن حديثِه،
وحلاو َة َمنط ِقه ،و َغل َبته على ُقلوب الرجا ِل بما يأتي به ،والله لو فعل ُتم ذلك ما أ ِمنتم
أن يح َّل على ح ٍّي من العرب ،فيغ ِل َب عليهم بذلك من قولِه وحديثه حتى ُيتابعوه
عليه ،ثم َيسي ُر بهم إليكم حتى َيط َأ ُكم بهم في بلا ِدكم ،فيأخذ أم َركم من أيديكم،
ثم يفع ُل بكم ما أرا َد ،د ِّبروا فيه رأ ًيا غير هذا.
قال :فقال أبو جه ِل بن هشا ٍم :والله إن لي فيه لرأ ًيا ما أراكم وقع ُتم عليه
بع ُد.
قالوا :وما هو يا أبا الحكم؟
قال :أرى أن نأ ُخ َذ من كل قبيل ٍة ف ًتى شا ابا جلي ًدا نسي ًبا وسي ًطا فِينا ،ثم نعطي
ُك َّل ف ًتى منهم سي ًفا صار ًما ،ثم َيعمدوا إليه ،ف َيضبوه بها ضب َة رج ٍل واح ٍد
ف َيقتلوه؛ فنستريح منه ،فإنهم إذا فعلوا ذلك تف َّرق د ُمه في القبائ ِل جمي ًعا ،فلم َيقدر
بنو عب ِد مناف على حر ِب قو ِمهم جمي ًعا ،فر ُضوا منا بالعق ِل ،فعقلناه َلم.
| 014مختصر السيرة النبوية
قال :فقال الشي ُخ النجد ُّي :القو ُل ما قا َل الرج ُل ،هذا الرأ ُي الذي لا رأي
غي َره ،فتفر َق القو ُم على ذلك وهم جُلمعون له.
فأتى جبري ُل عليه السلا ُم رسو َل الله ﷺ فقال :لا َتبِ ْت هذه الليل َة على
فرا ِشك الذي كنت تبي ُت عليه.
قال :فلما كانت َع َتم ٌة من اللي ِل اجتمعوا على بابه َير ُصدونه متى ينام؛ ف َيثِبون
عليه.
فلما رأى رسو ُل الله ﷺ مكانَهم ،قال لعل ِّي بن أبي طالبَ « :ن ْم على فِراش
و َت َس َّج ب ُبردي هذا ال َحضرم ِي الأخض ِر ،فنَم فيه ،فإنه لن َي ُل َص إليك شء تكر ُه ُه
منهم» ،وكان رسو ُل الله ﷺ ينا ُم في ُبرده ذلك إذا نا َم.
قال اب ُن إسحا َق :عن محم ِد بن كع ٍب القرظ ِّي قال :لما اج َتمعوا له ،وفيهم
أبو جه ِل بن هشا ٍم ،فقال و ُهم على بابه :إن محم ًدا يزعم أنكم إن تابع ُتموه على
أم ِره ،كنتم ملو َك العرب وال َع َجم ،ثم ُبعث ُتم من بعد موتِكم ،فجعلت لكم جنا ٌن
كجنان الأُر ُد ِّن ،وإن لم َتفعلوا كان له فيكم َذب ٌح ،ثم ُبعث ُتم من بعد َموتكم ،ثم
ُجعلت لكم نا ٌر ُتحرقون فيها.
قال :وخر َج عليهم رسو ُل الله ﷺ ،فأخذ َحفن ًة من ترا ٍب في ي ِده ،ثم قال:
«أنا أقو ُل ذلك ،أنت أح ُدهم».
وأخذ الله تعالى على أبصا ِرهم عنه ،فلا يرو َنه ،فجع َل ين ُثر ذلك الترا َب على
رءو ِسهم وهو يتلو هؤلاء الآيا ِت من يس( :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) إلى
قوله( :ﮡ ﮢﮣﮤ ﮥ) [يس ،]2-5:حتى فرغ رسو ُل الله ﷺ من
مختصر السيرة النبوية|015
هؤلاء الآيا ِت ،ولم يب َق منهم رج ٌل إلا وقد َوضع على رأ ِسه ترا ًبا ،ثم انصر َف إلى
حيث أراد أن يذه َب.
فأتاهم آ ٍت ممن لم يكن معهم ،فقال :ما َتنتظرون هاهنا؟
قالوا :محم ًدا.
قال :خ َّيبكم الل ُه! قد والله خرج عليكم محم ٌد ،ثم ما ترك منكم رج ًلا إلا
وقد وض َع على رأ ِسه ترا ًبا ،وانط َل َق لحا َجته ،أفما ترون ما بِكم؟
قال :فوضع ك ُّل رجل منهم ي َده على رأ ِسه ،فإذا عليه ترا ٌب ،ثم جعلوا
يتط َّلعون فيرون عل ايا على الفرا ِش ُمتسج ًيا ب ُبر ِد رسو ِل الله ﷺ ،فيقولون :والله إن
هذا لمحم ٌد نائ ًما عليه بر ُده.
فلم َيبرحوا كذلك حتى أصبحوا ،فقا َم علي عن ال ِفرا ِش فقالوا:
والله لقد كان ص َدقنا الذي ح َّدثنا.
قال اب ُن إسحا َق :وأ ِذن الله تعالى لنب ِّيه ﷺ عند ذلك في اَلجر ِة.
قال اب ُن إسحا َق :وكان أبو بك ٍر رج ًلا ذا ما ٍل ،فكان حين استأذن
رسو َل الله ﷺ في اَلجر ِة ،فقال له رسو ُل الله ﷺ« :لا َتعجل ،لعل الل َه يجعل لك
صاحبا» قد طمع بأن يكون رسو ُل الله ﷺ إنما َيعني نف َسه حين قال له ذلك ،فابتا َع
را ِحلتين فاح َتبسهما في دا ِره َيعلفهما إعدا ًدا لذلك.
قال اب ُن إسحا َق :عن عائش َة أ ِّم المؤمنين أنها قالت :كان لا يُخطئ رسو ُل الله
ﷺ أن يأت َي بي َت أبي بك ٍر أح َد طرف ِي النها ِر :إما ُبكر ًة ،وإما عشي ًة ،حتى إذا كان
اليو ُم الذي ُأذن فيه لرسو ِل الله ﷺ في اَلج َر ِة والخرو ِج من م َّك َة من بين َظه َري
قو ِمه أتانا رسو ُل الله ﷺ باَلاجر ِة ،في ساع ٍة كان لا يأتي فيها.
| 016مختصر السيرة النبوية
قالت :فلما رآه أبو بك ٍر قال :ما جاء رسو ُل الله ﷺ هذه الساع َة إلا لأم ٍر ح َد َث.
قالت :فلما دخل ،تأ َّخر له أبو بك ٍر عن سري ِره ،فجلس رسو ُل الله ﷺ،
وليس عند أبي بك ٍر إلا أنا وأختي أسما ُء بنت أبي بكر ،فقال رسو ُل الله ﷺَ « :أخ ِرج
ع ِني َمن ِعن َدك».
فقال :يا رسو َل الله ،إنما هما ابنتاي ،وما ذاك فدا َك أبي وأمي؟!
فقال« :إن الل َه قد أ ِذن ل في ال ُخروج واهمجر ِة».
قالت :فقال أبو بكر :الصحب َة يا رسو َل الله.
قال« :الصحب َة».
قالت :فوالله ما َش ُعرت ق ُّط قبل ذلك اليو ِم أن أح ًدا َيبكي من الف َر ِح ،حتى
رأيت أبا بك ٍر يبكي يومئ ٍذ.
ثم قال :يا نب َّي الله ،إ َّن هاتين راحلتا ِن قد كنت أعدد ُتهما َلذا.
فاستأجرا عب َد الله بن أ ْر َق َط -رج ًلا من بني ال ُّدئل بن بك ٍر ،وكانت أ ُّمه امرأ ًة
من بني سه ِم بن عمرو ،وكان ُمشر ًكا -يدَُّلما على الطري ِق ،فدفعا إليه راحل َتيهما،
فكانتا عنده َيرعاهما لمِيعا ِدهما.
قال اب ُن إسحا َق :فلما أجم َع رسو ُل الله ﷺ الخرو َج أتى أبا بكر ب َن أبي
ُقحاف َة ،فخرجا من َخو َخ ٍة لأبي بكر في ظهر بيتِه ،ثم ع ِمد إلى غا ٍر بثو ٍر -جب ٍل
بأسف َل مك َة -فدخلاه.
وأمر أبو بك ٍر ابنَه عب َد الله بن أبي بكر أن يتس َّمع َلما ما يقو ُل النا ُس فيهما
نها َره ،ثم يأتيهما إذا أم َسى بما يكو ُن في ذلك اليو ِم من الخب ِر.
مختصر السيرة النبوية|017
وأمر عام َر بن ُفهير َة مولاه أن يرعى غنَمه نها َره ،ثم ُيري ُحها عليهما ،يأتيهما إذا
أمسى في الغا ِر.
وكانت أسما ُء بن ُت أبي بكر تأتيهما من الطعا ِم إذا أمست بما ُيصلحهما.
قال اب ُن إسحا َق :فأقا َم رسو ُل الله ﷺ في الغا ِر ثلا ًثا ومعه أبو بكر و َجعلت
قري ٌش فيه حين ف َقدوه مئ َة ناق ٍة لمن َير ُّده عليهم.
وكان عب ُد الله بن أبي بكر يكو ُن في قري ٍش نها َره معهم يسمع ما يأتَمرون به ،وما
يقولو َن في شأ ِن رسو ِل الله ﷺ وأبي بك ٍر ،ثم يأتيهما إذا أم َسى ف ُيخب ُرهما الخب َر.
وكان عام ُر بن ُفهير َة -مولى أبي بكر -ير َعى في ُرعيا ِن أهل م َّك َة ،فإذا
أمسى أراح عليهما غن َم أبي بكر؛ فاح َتلبا وذ َبحا ،فإذا عب ُد الله بن أبي بكر غ َدا من
عندهما إلى م َّك َة ،ا َّتبع عام ُر بن فهير َة أث َره بالغن ِم حتى ُي َع ِّفي عليه ،حتى إذا مضت
الثلا ُث ،وسك َن عنهما النا ُس أتاهما صاح ُبهما الذي استأ َجراه ببعي َرُما وبعي ٍر له،
وأتتهما أسما ُء بنت أبي بك ٍر رضى الله عنهما ب ُسفرتِهما ،و َنسيت أن تع َل َلا ِعصا ًما ،فلما
ارتحلا ذهبت ل ُتع ِّل َق السفر َة فإذا ليس َلا ِعصا ٌم ،فتحل نطا َقها فتجعله عصا ًما ،ثم
ع َّلقتها به ،فكان ُيقال لأسما َء بن ِت أبي بكر :ذا ُت النطاق لذلك.
قال اب ُن إسحا َق :فلما ق َّرب أبو بكر الراحلتي ِن إلى رسو ِل الله ﷺ
ق َّدم له أفض َلهما ،ثم قال :ارك ْب ،فِداك أبي وأمي.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :إ ِني لا أرك ُب بعيرا ليس ل».
قال :فهي لك يا رسو َل الله ،بأبي أن َت وأ ِّمي.
قال «لا ،ولكن ما الثم ُن الذي ابتع َتها به؟».
| 018مختصر السيرة النبوية
قال :كذا وكذا.
قال« :قد أخذ ُتا به».
قال :هي لك يا رسول الله.
فر ِكبا وانطلقا وأرد َف أبو بك ٍر الصديق عام َر ب َن ُفهير َة مولاه خل َفه؛
ليخ ِدمهما في الطري ِق.
قالت :فمكثنا ثلا َث ليا ٍل وما ندري أين وج ُه رسو ِل الله ﷺ ،حتى أقبل
رج ٌل من ال ِج ِّن من أسف ِل مك َة ،يتغنى بأبيا ٍت من شع ٍر غناء العر ِب ،وإن النا َس
لي َّتبعونه َيسمعون صو َته وما َيرونه حتى خرج من أعلى مك َة وهو يقول:
جزى الله ر ُّب النا ِس خي َر جزا ِئه ** رفيقي ِن ح َّلا خي َمت ْي أ ِّم َمع َب ِد
قال اب ُن إسحا َق :قالت أسما ُء بن ُت أبي بكر :فلما سمعنا قو َله عرفنا
حيث وج ُه رسو ِل الله ﷺ ،وأن وج َهه إلى المدين ِة.
وكانوا أربع ًة :رسو ُل الله ﷺ ،وأبو بك ٍر الصدي ُق ،وعام ُر بن ُفهير َة
مولى أبي بكر ،وعب ُد الله بن أرق َط دلي ُلهما.
قال اب ُن إسحا َق :عن سراق َة بن مال ٍك قال :لما خرج رسو ُل الله ﷺ من م َّك َة
ُمهاج ًرا إلى المدين ِة جعلت قري ٌش فيه مئ َة ناق ٍة لمن ر َّده عليهم .قال :فبينا أنا جال ٌس
في نادي قومي إذ أقب َل رج ٌل منا ،حتى وقف علينا ،فقال :والله لقد رأيت َرك َب ًة
ثلاث ًة مروا عل َّي آن ًفا ،إني لأُراهم محم ًدا وأصحا َبه .قال :فأومأت إليه ِبعيني :أن
اس ُكت .ثم قل ُت :إنما هم بنو فلان َيبتغون ضال ًة َلم .قال :لع َّله .ثم سك َت .قال:
مختصر السيرة النبوية|019
ثم مكث ُت قلي ًلا ،ثم قم ُت فدخلت بيتي ،ثم أمر ُت بفرسي ف ُق ِّيد لي إلى بط ِن
الوادي ،وأمر ُت بسلاحي ف ُأخر َج لي من ُدبر ُحجرتي ،ثم أخذت ِقداحي التي
أست ْق ِسم بها ،ثم انطلق ُت فلبِست لأْ َمتي( ،)1ثم أخرجت ِقداحي فاس َتقسمت بها،
فخرج السه ُم الذي أكره« :لا َي ُضر ُه»( .)2قال :وكنت أرجو أن أر َّده على قري ٍش،
فآخذ المئ َة الناقة .قال :فركبت على أث ِره ،فبينما فرسي َيشت ُّد بي َع َث َر بي؛ فسقط ُت
عنه .قال :فقلت :ما هذا؟ قال :ثم أخرجت ِقداحي فاس َتقسمت بها ،فخر َج
السه ُم الذي أكره« :لا َيضره» .قال :فأ َبي ُت إلا أن أ َّتبعه .قال :فركبت في أث ِره،
فبينا فرسي َيشت ُّد بيَ ،ع َثر بي؛ فسقط ُت عنه .قال :فقلت :ما هذا؟ قال :ثم
أخرجت ِقداحي فاستقسمت بها فخرج السه ُم الذي أكره« :لا َيضره» .قال:
فأبي ُت إلا أن أ َّتبعه ،فركبت في أث ِره ،فلما بدا لي القو ُم ورأي ُتهم ،ع َثر بي فرسي،
فذه َبت يداه في الأر ِض؛ وسقط ُت عنه ،ثم انتز َع ي َديه من الأر ِض ،و َتبعهما دخا ٌن
كالإعصار .قال :فع َرفت حين رأي ُت ذلك أنه قد ُمنِ َع منِّي ،وأنه ظاه ٌر .قال:
فنادي ُت القو َم فقلت :أنا سراق ُة بن ُجع ُش ٍم ،انظروني أك ِّل ْمكم ،فوالله لا أري ُبكم،
ولا يأتيكم م ّنِي شي ٌء تكرهو َنه .قال :فقال رسو ُل الله ﷺ لأبي بكرُ « :ق ْل له :وما
َتبت ِغي م َنّا؟» .قال :فقال ذلك أبو بكر .قال :قل ُت :تك ُتب لي كتا ًبا يكون آي ًة بيني
وبينِك .قال« :اك ُت ْب له يا أبا بك ٍر».
قال اب ُن إسحا َق :فلما خرج بهما دلي ُلهما عب ُد الله بن أرق َط سلك بهما أسف َل
م َّك َة ،ثم مضى بهما على الساح ِل.
( )1ال َّل ْأ َمة :الدرع والسلاح.
()2فخرج السه ُم الذي أكره «لا يضه» :أي :خرج السهم المكتوب فيه «لا يضه».
| 001مختصر السيرة النبوية
ثم ق ِدم بهما ُقبا َء على بني عم ِرو بن عو ٍف لاثن َتي عشر َة ليل ًة خلت من شهر
ربي ٍع الأول يو َم الاثنين حين اشت َّد ال َّضحا ُء وكادت الشم ُس تعتدل.
قال اب ُن إسحا َق :عن عبد الرحمن بن عويم ٍر قال :حدثني رجا ٌل من قومي
من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ قالوا :لما س ِمعنا ب َمخر ِج رسو ِل الله ﷺ من م َّك َة،
وتو َّكفنا(ُ )1قدو َمه ،كنا نخرج إذا ص َّلينا الصب َح ،إلى ظاه ِر ح َّرتنا ننتظ ُر رسو َل الله
ﷺ.
فوالله ما نبر ُح حتى َتغل َبنا الشم ُس على الظلا ِل فإذا لم نجد ِظ الا دخلنا،
وذلك في أيام حار ٍة.
حتى إذا كان اليو ُم الذي ق ِدم فيه رسو ُل الله ﷺ ،جلسنا كما كنا َنجلس،
حتى إذا لم َيب َق ظل دخلنا بيو َتنا ،وقدم رسو ُل الله ﷺ حين دخلنا ال ُبيو َت ،فكان
أ َّو َل من رآه رج ٌل من اليهو ِد وقد رأى ما كنا نصن ُع ،وأنا ننتظر ُقدو َم رسو ِل الله
ﷺ علينا ،فصر َخ بأعلى صوتِه :يا َبني َقي َل َة( ،)2هذا ج ُّدكم قد جاء.
قال :فخرجنا إلى رسو ِل الله ﷺ ،وهو في ِظ ِّل نخل ٍة ،ومعه أبو بك ٍر
في ِمثل سنِّه ،وأكث ُرنا لم يكن رأى رسو َل الله ﷺ قبل ذلك ،و َر ِك َب ُه النا ُس( )3وما
َيعرفو َنه من أبي بك ٍر ،حتى زال ال ِّظ ُّل عن رسو ِل الله ﷺ ،فقام أبو بك ٍر فأظ َّله
بردا ِئه؛ فعرفناه عند ذلك.
( )1توكفنا :استشعرنا وانتظرنا.
( )2بنو َق ْي َلة :يعني الأنصار ،وهو اسم جدة كانت َلم.
( )3أي :ازدحموا عليه.
مختصر السيرة النبوية|000
قال اب ُن إسحا َق :فأقام رسو ُل الله ﷺ ب ُقبا َء في َبني عم ِرو بن عو ٍف ،يو َم
الاثنين ويو َم الثلاثاء ويو َم الأربعاء ويوم الخمي ِس ،وأ َّسس مسج َده.
ثم أخرجه الل ُه من بين أظ ُهرهم يو َم الجمع ِة ،وبنو عم ِرو بن عو ٍف يزعمون
أنه َمكث فيهم أكث َر من ذلك ،فالل ُه أعلم أ َّي ذلك كان.
فأدرك ْت رسو َل الله ﷺ الجمع ُة في بني سالم بن عو ٍف ،فص َّلاها في المسجد
الذي في بط ِن الوادي ،وادي رانونا َء ،فكانت أ َّو َل جُ ُمع ٍة صلاها بالمدين ِة.
فأتاه رجا ٌل من بني سالمِ بن عوف ،فقالوا :يا رسو َل الله ،أ ِقم عندنا في ال َعد ِد
والع َّدة وال َمنع ِة.
قال« :خلوا سبيلها ،فإنها مأمورة» لناقته ،فخلوا سبي َلها ،فانطلقت حتى إذا
وازنت دا َر بني بياض َة؛ تل َّقاه رجا ٌل من بني بياض َة ،فقالوا :يا رسو َل اللهَ :ه ُل َّم
إلينا ،إلى ال َعدد وال ُعدة والمنع ِة.
قال« :خلوا سبي َلها فإنها مأمورة» ،فخلوا سبيلها ،فانطل َق ْت ،حتى إذا مرت
بدار بني ساعد َة ،اعترضه رجا ٌل من بني ساعد َة ،فقالوا :يا رسو َل اللهَ ،ه ُل َّم إلينا
إلى ال َعدد وال ُع َّد ِة والمَنع ِة.
قال« :خلوا سبي َلها ،فإنها مأمورة» ،فخلوا سبي َلها ،فانطلق ْت ،حتى إذا
وا َزنت دا َر بني الحار ِث بن الخزرج اعتر َضه رجا ٌل من بني الحار ِث بن الخزر ِج
فقالوا :يا رسو َل اللهَ ،ه ُل َّم إلينا إلى ال َعدد والعد ِة والمنع ِة.
قال« :خلوا سبي َلها ،فإنها مأمورة» ،فخلوا سبيلها ،فانطلق ْت ،حتى إذا
م َّرت بدار َبني عد ِّي بن النجار ،وهم أخوا ُله -أ ُّم عبد الم َّطلب :سلمى بن ُت
| 002مختصر السيرة النبوية
عمرو ،إحدى نسائهم -اعتر َضه رجا ٌل من بني عد ِّي بن النجار ،فقالوا :يا رسو َل
اللهَ ،ه ُل َّم إلى أخوالِك ،إلى العد ِد وال ُعدة والمنع ِة.
قال« :خلوا سبي َلها فإنها مأمورة» ،فخلوا سبي َلها ،فانطلق ْت ،حتى إذا أتت
دا َر بني مال ِك بن النجار ،ب َركت على با ِب مسج ِده ﷺ ،وهو يومئ ٍذ ِمر َب ٌد()1
لغلامين يتيمي ِن من بني النجا ِر ،ثم من َبني مال ِك بن النجا ِر.
فلما بر َكت -ورسو ُل الله ﷺ عليها لم ينز ْل -وث َبت فسارت غي َر بعي ٍد،
ورسو ُل الله ﷺ واض ٌع َلا زما َمها لا ُيثنيها به ،ثم التفتت إلى خل ِفها ،فرجعت إلى
َمبر ِكها أ َّو َل مر ٍة ،فبركت فيه ،ثم َت َح ْل َح َل ْت( )2و َر َز َم ْت( )3ووضع َت ِجرانها(،)4
فنزل عنها رسو ُل الله ﷺ ،فاحتمل أبو أيو َب خال ُد بن زي ٍد رح َله ،فوضعه في بيتِه،
ونزل عليه رسو ُل الله ﷺ ،وسأل عن المِربد« :لمن هو؟»
فقال له معا ُذ بن َعفرا َء :هو يا رسو َل الله لسه ٍل و ُسهي ٍل ابني عمرو ،وهما
يتيمان لي ،وس ُأرضيهما منه ،فا َّتخذه مسج ًدا.
قال :فأمر به رسو ُل الله ﷺ أن ُيبنَى مسج ًدا ،ونز َل رسو ُل الله ﷺ على أبي
أيو َب حتى ُبني مسج ُده ومساكنه ،فع ِمل فيه رسو ُل الله ﷺ ل ُير ِّغ َب المسلمين في
العم ِل فيه ،فع ِمل فيه المُهاجرون والأنصا ُر ،ودأبوا فيه.
قال اب ُن إسحا َق :وتلاح َق ال ُمهاجرو َن إلى رسو ِل الله ﷺ ،فلم َيبق بم َّك َة
منهم أح ٌد ،إلا َمفتو ٌن أو مَحبو ٌس.
( )1المِ ْر َبد :الموضع الذي يجفف فيه التمر.
(َ )2ت َح ْل َح َل ْت :تحركت وانزجرت.
(َ )3ر َز َم ْت :قامت من الإعياء واَلزال ولم تتحرك.
( )4ال ِج َران :ما يصيب الأرض من صدر الناقة وباطن حلقها.
مختصر السيرة النبوية|003
[القسم الثاني :العهد المدني]
| 004مختصر السيرة النبوية
مختصر السيرة النبوية|005
[أولا :تأسيس الدولة]
-1كتاُبه ﷺ بين الُمهاجرين والأنصار ومُوادعة يهودَ
قال اب ُن إسحا َق :وكتب رسو ُل الله ﷺ كتا ًبا بين ال ُمهاجرين والأنصا ِر واد َع
فيه ُو َد وعاهدهم ،وأق َّرهم على دينِهم وأمواَ ِلم ،وشر َط َلم ،واشتر َط عليهم.
-2المُؤاخاةُ بين المهاجرين والأنصاِر
قا َل اب ُن إسحا َق :وآخى رسو ُل الله ﷺ بين أصحابِه من المُهاجرين
والأنصار.
-3الأعدا ُء من يهودَ
قا َل اب ُن إسحا َق :ونصبت عند ذلك أحبا ُر ُود لرسو ِل الله ﷺ العداو َة،
بغ ًيا وحس ًدا و ِضغنًا؛ لما خ َّص الله تعالى به العر َب من أخ ِذه رسو َله منهم،
وانضاف إليهم رجا ٌل من الأو ِس والخزرج ،ممن كان َع ِس َي على جاهليته فكانوا
أه َل نفا ٍق على دين آبا ِئهم من الشر ِك والتكذيب بال َبعث ،إلا أن الإسلا َم ق َهرهم
بظهو ِره واجتما ِع قو ِمهم عليه ،فظهروا بالإسلام ،واتخذوه ُجنَّ ًة من القت ِل ونافقوا
في الس ِّر ،وكان هوا ُهم مع ُو َد؛ لتكذيبهم النب َّي ﷺ ،و ُجحودهم الإسلا َم.
وكانت أحبا ُر ُو َد هم الذين َيسألون رسو َل الله ﷺ ويتعنَّتونه ،ويأتونه
بال َّلبس؛ ل َيلبسوا الح َّق بالباط ِل ،فكان القرآ ُن ينزل فيهم فيما يسألون عنه ،إلا قلي ًلا
من المسائ ِل في الحلا ِل والحرام كان المُسلمون َيسألون عنها.
| 006مختصر السيرة النبوية
فهؤلاء أحبا ُر اليهو ِد وأه ُل الشرو ِر والعداو ِة لرسو ِل الله ﷺ وأصحابِه،
وأصحاب المسألة ،والنصب لأم ِر الإسلام الشرو َر ل ُيطفئوه ،إلا ما كان من عب ِد
الله بن سلام ومُخيري ٍق.
َ -4من اجتمع إلى يهو َد من مُنافقي الأنصارِ
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان ممن انضا َف إلى ُو َد ،من ُس ِّمي لنا من المنافقين من
الأو ِس والخزرج.
وكان هؤلاء المنافقون َيحضون المسج َد فيستمعون أحادي َث المسلمين،
ويسخرون ويستهزؤون بدينِهم ،فاجتمع يو ًما في المسج ِد منهم نا ٌس ،فرآهم
رسو ُل الله ﷺ يتح َّدثون بينهم ،خافِضي أصواتِهم ،قد لصق بع ُضهم ببع ٍض ،فأمر
بهم رسو ُل الله ﷺ ف ُأخرجوا من المسج ِد إخرا ًجا عني ًفا.
ففي هؤلاء -من أحبار ُو َد والمنافقين من الأو ِس والخزرج -نز َل صد ُر
سورة البقر ِة إلى المئة منها -فيما بلغني -والله أعل ُم.
ِ -5ذك ُر من اعت َلّ من أصحابِ رسو ِل الله ﷺ
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة ،قالت :لما ق ِدم رسو ُل الله ﷺ
المدين َة ،ق ِدمها وهي أوب ُأ أر ِض الله من الحُ َّمى ،فأصاب أصحابه منها بلا ٌء وسق ٌم،
فصرف الله تعالى ذلك عن نب ِّيه ﷺ.
قالت فكان أبو بكر ،وعام ُر بن ُفهير َة ،وبلا ٌل َ -م ْوليا أبي بكر -مع أبي بكر
في بي ٍت واحد ،فأصابتهم ال ُح َّمى ،فدخل ُت عليهم َأ ُعو ُدهم ،وذلك قبل أن ُيض َب
علينا الحجا ُب ،وبهم ما لا يعلمه إلا اللهُ من ش َّد ِة الوعك.
مختصر السيرة النبوية|007
فقلت لرسو ِل الله ﷺ :إنهم ل َيهذون وما َيع ِقلون من شد ِة الح َّمى؛ فقال
رسو ُل الله ﷺ« :اللهم ح ِبب إلينا المدين َة كما حب َّبت إلينا م َّك َة أو أشد ،وبا ِرك لنا في
ُم ِدها وصاعها ،وان ُقل وباءها إلى َم ْهيع َة» .ومهيع ُة :ال ُجحفة.
-6تاريخُ الهجرِة
ق ِدم رسو ُل الله ﷺ المدين َة يو َم الاثنين ،حين اشت َّد ال َّضحاء ،وكاد ِت
الشم ُس تعتدل لثنتي عشر َة ليل ًة مضت من شهر ربي ٍع الأ َّو ِل ،ورسو ُل الله ﷺ
يومئ ٍذ اب ُن ثلاث وخمسين سن ًة ،وذلك بعد أن بعثه الل ُه بثلاث عشر َة سنة،
فأقام بها بقي َة شهر ربي ٍع الأول ،وشهر ربي ٍع الآخ ِر ،وجُماديين ،ورج ًبا ،وشعبا َن،
وشهر رمضا َن ،وش َّوالا ،وذا القعدة ،وذا الح َّجة -و َو ِل َي تلك الحج َة المشركون-
والمحرم.
| 008مختصر السيرة النبوية
[ثانيا :الغزوات والسرايا والبعوث]
َ -1غزوُة و َّدان وهي أول غزواته عليه الصلاُة والسلام
ثم خرج غاز ًيا في صفر على رأ ِس اثني ع َشر شه ًرا من َمق َدمه المدين َة حتى
بلغ ودا َن -وهي غزو ُة الأبوا ِء -يريد قري ًشا وبني ضمر َة بن بكر ،فواد َعته فيها بنو
ضمر َة ،ثم رجع رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة ولم يلق كي ًد.
َ -2سريةُ عبيدة بن الحار ِث وهي أول راي ٍة عقدها عليه الصلاُة والسلام
قا َل اب ُن إسحا َق :وبعث رسو ُل الله ﷺ في ُمقامه ذلك بالمدين ِة ُعبيد َة ب َن
الحارث في س ِّتين أو ثمانين راك ًبا من المهاجرين ،ليس فيهم من الأنصا ِر أح ٌد ،فسار
حتى بلغ ما ًء بالحجاز بأسفل ثنية المُ َّر ِة ،فلقي بها جم ًعا عظي ًما من قري ٍش ،فلم يكن
بينهم قتا ٌل ،إلا أن سع َد بن أبي وقا ٍص قد َرمى يومئ ٍذ بسهم ،فكان أ َّو َل سهم ُر ِم َي
به في الإسلام ،ثم انصرف القو ُم عن القو ِم ،وللمسلمين حامي ٌة.
َ -3غزوةُ َس َف َوانَ وهي غزوة بدٍر الأولى
قا َل اب ُن إسحا َق :ولم ُيقم رسو ُل الله ﷺ بالمدينة حين ق ِدم من غزو ِة ال ُعشيرة
إلا ليالي قلائ َل لا تب ُلغ العش َر ،حتى أغار ُكرز ب ُن جاب ٍر ال ِفهر ُّي على َس ْر ِح()1
المدينة ،فخرج رسو ُل الله ﷺ في طلبِه حتى بلغ واد ًيا ُيقال لهَ :س َف َوا ُن ،من ناحية
بد ٍر ،وفاته كر ُز بن جاب ٍر ،فلم يدركه ،وهي غزو ُة بدر الأولى.
( )1ال َّس ْرح :مرعى الأنعام.
مختصر السيرة النبوية|009
-4سري ُة عب ِد الله بنِ َجحشٍ
وبعث رسو ُل الله ﷺ عب َد الله ب َن جحش بن رئاب الأسدي في رج ٍب،
َمقف َله من بد ٍر الأولى ،وبعث معه ثماني َة ره ٍط من المُهاجرين ،ليس فيهم من
الأنصار أح ٌد ،وكتب له كتا ًبا وأم َره ألا ينظ َر فيه حتى يسي َر يومي ِن ثم ينظر فيه
ف َيمضي لما أم َره به ،ولا َيستكره من أصحابه أح ًدا.
فلما سار عب ُد الله بن جح ٍش يومي ِن فتح الكتا َب فنظر فيه فإذا فيه« :إذا
نظر َت في كتابي هذا فام ِض حتى تنز َل نخل َة ،بين مك َة والطائ ِف ،فت ُصد بها قريشا
وتعل َم لنا من أخبا ِرهم».
فلما نظر عب ُد الله بن جح ٍش في الكتاب قال :سم ًعا وطاع ًة ،ثم قال
لأصحابه :قد أمرني رسو ُل الله ﷺ أن أمض َي إلى نخل َة ،أرص َد بها قري ًشا ،حتى آتيه
منهم بخب ٍر ،وقد نهاني أن أستكره أح ًدا منكم ،فمن كان منكم يريد الشهاد َة
ويرغ ُب فيها فلينطل ْق ،ومن كره ذلك فليرج ْع ،فأما أنا فما ٍض لأمر رسو ِل الله
ﷺ ،فمضى ومضى معه أصحا ُبه لم يتخ َّلف عنه منهم أح ٌد.
ومضى عب ُد الله بن جح ٍش وأصحا ُبه حتى نزل بنخل َة ،فمرت به ِعي ٌر لقري ٍش
تحمل زبي ًبا وأد ًما وتار ًة من تارة قريش فيها عمرو ب ُن الحضمي.
فلما رآهم القو ُم هابوهم وقد نزلوا قري ًبا منهم ،وتشاور القو ُم فيهم وذلك
في آخر يو ٍم من رج ٍب فقال القو ُم :والله لئن تركتم القو َم هذه الليل َة ل َيد ُخل َّن
الحر َمَ ،ف َل َي ْم َتنِ ُع َّن منكم به ،ولئن قتلتموهم َل َت ْق ُت ُلنَّ ُه ْم في الشهر الحرا ِم ،فتردد القو ُم
وهابوا الإقدا َم عليهم ،ثم ش َّجعوا أنف َسهم عليهم ،وأجمعوا على قت ِل من قدروا
عليه منهم وأخ ِذ ما معهم.
| 021مختصر السيرة النبوية
فرمى واق ُد بن عب ِد الله التميم ُّي عم َرو بن الحضم ِّي بسهم فقتله ،واستأس َر
عثما َن ب َن عبد الله ،والحك َم بن كيسا َن ،وأفلت القو ُم نوف َل بن عبد الله فأعجزهم.
وأقبل عب ُد الله بن جح ٍش وأصحا ُبه بالعي ِر وبالأسيرين ،حتى ق ِدموا على
رسو ِل الله ﷺ المدين َة.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما قدموا على رسو ِل الله ﷺ المدين َة قال« :ما أمر ُتكم
بقتا ٍل في الشهر الحرا ِم».
فو َّقف العي َر والأسيرين ،وأبى أن يأخ َذ من ذلك شي ًئا ،فلما قال ذلك رسو ُل
الله ﷺ ُسق َط في أيدي القو ِم ،وظنوا أنهم قد َه َلكوا ،وعنَّفهم إخوانُهم من
المسلمين فيما صنعوا.
وقالت قري ٌش قد استح َّل محم ٌد وأصحا ُبه الشه َر الحرا َم ،وسفكوا فيه الد َم،
وأخذوا فيه الأموا َل ،وأسروا فيه الرجا َل ،فقال من َي ُر ُّد عليهم من المسلمين ممن
كان بم َّك َة :إنما أصابوا ما أصابوا في شعبا َن.
فلما أكثر النا ُس في ذلك أنزل اللهُ على رسولِه ﷺ( :ﭮﭯﭰﭱ
ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ
ﮔﮕﮖ) [البقرة.]557:
فلما نزل القرآ ُن بهذا من الأم ِر ،وف َّرج الل ُه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من
الشف ِق قب َض رسو ُل الله ﷺ العي َر والأسيرين.
مختصر السيرة النبوية|020
-5صر ُف القبل ِة إلى الكعبةِ
قا َل اب ُن إسحا َق :ويقالُ :صرفت القبل ُة في شعبا َن على رأ ِس ثمانية ع َشر
شه ًرا من َمق َدم رسو ِل الله ﷺ المدينة.
َ -6غزوةُ بدرٍ الكُبرى
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم إن رسو َل الله ﷺ سم َع بأبي سفيا َن بن حرب ُمقب ًلا من
الشأم في ِعي ٍر لقري ٍش عظيم ٍة ،فيها أموا ٌل لقريش وتار ٌة من تاراتهم ،وفيها
ثلاثون رج ًلا من قري ٍش أو أربعون.
قا َل اب ُن إسحا َق :لما سمع رسو ُل الله ﷺ بأبي ُسفيا َن ُمقب ًلا من الشأم ،ندب
المسلمين إليهم وقال« :هذه ِعي ُر قري ٍش فيها أمواهُمم فاخرجوا إليها لعل اللهَ
ُين ِفل ُكموها».
فان ُتدب النا ُس ،فخف بع ُضهم وث ُقل بع ُضهم ،وذلك أنهم لم يظنوا أن
رسو َل الله ﷺ يلقى َحر ًبا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجا ِز يتح َّس ُس الأخبا َر ويسأل من لقي من
ال ُّركبان تخ ُّو ًفا على أمر النا ِس ،حتى أصاب خب ًرا من بعض الركبا ِن أن محم ًدا قد
استنفر أصحا َبه لك ول ِعيرك ،ف َح ِذ َر عند ذلك؛ فاستأجر َضمض َم بن عم ٍرو
الغفار َّي ،فبعثه إلى مك َة ،وأمره أن يأتي قري ًشا فيستن ِف َرهم إلى أمواَلم ،ويخبرهم أن
محم ًدا قد عرض َلا في أصحابِه.
| 022مختصر السيرة النبوية
فتجهز النا ُس ِسرا ًعا وقالوا :أيظ ُّن محم ٌد وأصحا ُبه أن تكون كعير ابن
الحضم ِّي ،كلا والله ليعلمن غي َر ذلك ،فكانوا بين رجلين :إما خار ٍج ،وإما باعث
مكانه رج ًلا ،وأو َعب ْت قري ٌش( ،)1فلم يتخلف من أشرافِها أح ٌد.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عرو َة بن الزبير قال :لما أجمعت قري ٌش المسي َر ذكرت
الذي كان بينها وبين بني بك ٍر ،فكاد ذلك يثنيهم ،فتب َّدى َلم إبلي ُس في صورة
ُسراق َة بن مالك بن ُجع ُشم ال ُمدلجي ،وكان من أشراف بني ِكنان َة ،فقال َلم :أنا
لكم جا ٌر من أن تأتيكم كنان ُة من خلفكم بشي ٍء تكرهونه؛ فخرجوا سرا ًعا.
قا َل اب ُن إسحا َق :وخرج رسو ُل الله ﷺ في ليا ٍل مضت من شهر رمضا َن في
أصحابه ،واستعمل عم َرو بن أم َمكتو ٍم على المدينة.
قا َل اب ُن إسحا َق :ودفع اللوا َء إلى ُمصع ِب بن عمير وكان أبي َض.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان أما َم رسو ِل الله ﷺ رايتا ِن سوداوان :إحداهما مع
عل ِّي بن أبي طالب ُيقال َلا :ال ُعقاب ،والأخرى مع بع ِض الأنصار ،وكانت راي ُة
الأنصار مع سع ِد بن ُمعاذ ،فيما قال اب ُن هشام.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكانت إب ُل أصحاب رسو ِل الله ﷺ يومئ ٍذ سبعين بعي ًرا
فاعتقبوها.
وأتاه الخب ُر عن قري ٍش بمسيرهم ليمنعوا عي َرهم ،فاستشار النا َس،
وأخبرهم عن قري ٍش ،فقام أبو بكر الصدي ُق فقال وأحسن ،ثم قام عم ُر بن
الخطاب فقال وأحسن.
(َ )1أ ْو َع َب ْت قريش :حشدت.
مختصر السيرة النبوية|023
ثم قام المِقدا ُد بن عمرو فقال :يا رسو َل الله ،ام ِض لما أراك اللهُ فنحن معك،
والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل ل ُموسى( :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ) [المائدة ،]50:ولكن اذهب أنت ور ُّبك فقاتلا إنا َمعكما
مقاتلون ،فوالذي بعثك بالح ِّق لو سر َت بنا إلى َب ْر ِك ال ِغماد( )1لجالدنا معك َمن
دو َنه حتى تب ُل َغه ،فقال له رسو ُل الله ﷺ خي ًرا ،ودعا له به.
ثم قال رسو ُل الله ﷺ« :أشيروا ع َّل أيها النا ُس» وإنما يريد الأنصا َر ،وذلك
أنهم عد ُد النا ِس ،وأنهم حين بايعوه بال َع َقبة قالوا :يا رسو َل الله ،إنا برا ٌء من
ذما ِمك حتى تص َل إلى ديارنا ،فإذا وصل َت إلينا ،فأنت في ذ َّمتنا نمن ُعك مما نمنع
منه أبناءنا ونسا َءنا.
فكان رسو ُل الله ﷺ يتخ َّو ُف ألا تكون الأنصا ُر ترى عليها َنص َره إلا ممن
د َه َم ُه بالمدين ِة من عد ِّوه ،وأن ليس عليهم أن يسي َر بهم إلى عد ٍّو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسو ُل الله ﷺ؛ قال له سع ُد بن معا ٍذ :والله لكأنك تري ُدنا يا
رسو َل الله؟
قالَ « :أ َج ْل».
قال :فقد آمنا بك وص َّدقناك وش ِهدنا أن ما جئ َت به هو الح ُّق وأعطيناك على
ذلك ُعهو َدنا ومواثيقنا على السم ِع والطاع ِة؛ فامض يا رسو َل الله لما أرد َت فنحن
معك ،فوالذي بع َثك بالح ِّق ،لو استع َر ْضت بنا هذا البح َر ف ُخضته لخضناه معك،
ما تخ َّلف منا رج ٌل واح ٌد ،وما نكره أن َتلقى بنا عدونا غ ًدا ،إنا ل ُص ُبر في الحر ِب،
ُص ُد ٌق في اللقا ِء ،لعل الله ُيريك منا ما َتق ُّر به عي ُنك؛ ف ِسر بنا على بركة الله.
(َ )1ب ْرك الغماد :موضع باليمن.
| 024مختصر السيرة النبوية
ف ُس َّر رسو ُل الله ﷺ بقول سع ٍد ،ون َّشطه ذلك ،ثم قال« :سيروا وأبشوا،
فإن الل َه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتي ِن ،والله لكأني الآن أنظ ُر إلى َمصار ِع القو ِم».
نزل ﷺ قري ًبا من بدر ،فركب هو ورج ٌل من أصحابِه حتى وق َف على شي ٍخ
من العر ِب ،فسأله عن قري ٍش ،وعن محمد وأصحابِه ،وما بلغه عنهم ،فقال
الشي ُخ :لا أخب ُركما حتى ُتخبراني ممن أنتما؟
فقال رسو ُل الله ﷺ« :إذا أخبر َتنا أخبرناك».
قال :أذاك بذاك؟
قال« :نعم».
قال الشيخ :فإنه بل َغني أن محم ًدا وأصحا َبه خرجوا يو َم كذا وكذا ،فإن كان
ص َد َق الذي أخبرني ،فهم اليو َم بمكا ِن كذا وكذا ،للمكا ِن الذي به رسو ُل الله ﷺ،
وبلغني أن قري ًشا خرجوا يو َم كذا وكذا ،فإن كان الذي أخبرني ص َدقني فهم اليو َم
بمكان كذا وكذا للمكا ِن الذي فيه قري ٌش.
فلما فرغ من خب ِره قال :ممَّن أنتما؟
فقال رسو ُل الله ﷺ« :نحن من ما ٍء» ثم انصرف عنه.
قال يقول الشي ُخ :ما من ماء ،أمن ماء ال ِعراق؟!
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم رجع رسو ُل الله ﷺ إلى أصحابِه ،فلما أمسى بعث عل َّي
بن أبي طالب ،والزبي َر بن الع َّوام ،وسع َد بن أبي وقاص ،في نف ٍر من أصحابه ،إلى
ماء بد ٍر ،يلتمسون الخبر له عليه -كما ح َّدثني يزي ُد بن رومان ،عن عرو َة بن
مختصر السيرة النبوية|025
الزبير -فأصابوا راوي ًة لقري ٍش فيها أسل ُم -غلا ُم بني الحجاج -و َعري ٌض أبو يسا ٍر
-غلا ُم بني العاص بن سعي ٍد -فأتوا بهما فسألوهما ،ورسو ُل الله ﷺ قائ ٌم ُيصلي،
فقالا :نحن ُسقا ُة قري ٍش ،بعثونا َنسقيهم من الما ِء.
فكره القو ُم خب َرهما ،ورجوا أن يكونا لأبي سفيان؛ فضبوهما ،فلما أذلقوهما
قالا :نحن لأبي سفيا َن؛ فتركوهما.
وركع رسو ُل الله ﷺ وسجد سجد َتيه ،ثم س َّلم ،وقال« :إذا َص َدقاكم
ضربتموهما ،وإذا َك َذباكم ترك ُتموهما ،صد َقا والله ،إنهما لقري ٍش ،أخ ِبراني عن
قري ٍش؟»
قالا :هم والله ورا َء هذا الكثي ِب الذي ترى بال ُعدوة ال ُقصوى -والكثي ُب:
ال َعقنق ُل -فقال َلما رسو ُل الله ﷺ« :كم القو ُم؟».
قالا :كثي ٌر.
قال« :ما ِع َّد ُتم؟».
قالا :لا ندري.
قال« :كم َينحرون ك َّل يوم؟».
قالا :يو ًما تس ًعا ،ويو ًما عش ًرا.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :القو ُم فيما بين التسع مئ ِة والألف».
ثم قال َلما« :فمن فيهم من أشرا َِ قري ٍش؟».
| 026مختصر السيرة النبوية
قالا :عتب ُة بن ربيع َة ،وشيب ُة بن ربيع َة ،وأبو ال َبختري بن هشام ،وحكي ُم بن
ِحزام ،ونوفل بن ُخويلد ،والحار ُث بن عامر بن نوفل ،و ُطعيم ُة بن عد ِّي بن
نوفل ،والنض بن الحارث ،وزمع ُة بن الأسود ،وأبو جهل بن هشام ،وأمي ُة بن
خلف ،و ُن َبيه و ُمن ِّبه ابنا الحجاج ،و ُسهيل بن عمرو ،وعمرو بن عبد ُو ٍّد.
فأقبل رسو ُل الله ﷺ على الناس فقال« :هذه م َّك ُة قد ألقت إليكم أفلا َذ
كبِدها».
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان َبسب ُس بن عمرو ،وعد ُّي بن أبي ال َّزغباء قد مضيا
حتى نزلا بد ًرا ،فأناخا إلى تل قري ٍب من الما ِء ،ثم أخذا َش انا َلما يستقيان فيه،
وجَلد ُّي بن عمرو الجُهني على الماء.
فسمع عدي وبسب ٌس جاريتين من جواري الحاض ،وهما يتلازمان على
الماء ،والمَلزوم ُة تقول لصاحبتها :إنما تأتي العي ُر غ ًدا أو بعد غ ٍد ،فأعمل َلم ،ثم
َأقضيك الذي لك.
قال جلديَ :ص َدق ِت ،ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدي وبسب ٌس ،فجلسا على بعي ِرُما ،ثم انطلقا حتى أتيا رسو َل
الله ﷺ ،فأخبراه بما س ِمعا.
وأقبل أبو سفيا َن بن حرب حتى تقدم العي َر ح ِذ ًرا ،حتى ور َد الماء ،فقال
لمجد ِّي بن عمرو :هل أحسست أح ًدا؟
فقال :ما رأيت أح ًدا أنكره ،إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا الت ِّل،
ثم استقيا في َش ٍّن َلما ،ثم انطلقا.
مختصر السيرة النبوية|027
فأتى أبو سفيا َن ُمنا َخهما ،فأخذ من أبعار بعيرُما ،فف َّته ،فإذا فيه النوى؛
فقال :هذه والله علائ ُف يثر َب ،فرجع إلى أصحابه سري ًعا ،فضب وجه عي ِره عن
الطريق ،فسا َح َل بها( ،)1وترك بد ًرا بيسار ،وانطلق حتى أسر َع.
قا َل اب ُن إسحا َق :ولما رأى أبو سفيا َن أنه قد أحرز عي َره ،أرسل إلى قري ٍش:
إنكم إنما َخرج ُتم لتمنعوا عي َركم ورجا َلكم وأموا َلكم ،فقد ن َّجاها الله؛ فار ِجعوا.
فقال أبو جه ِل بن هشا ٍم :والله لا نرج ُع حتى ن ِرد بد ًرا -وكان بد ٌر موس ًما
من مواسم العرب ،يجتمع َلم به سو ٌق ك َّل عام -فنقيم عليه ثلا ًثا ،فننحر ال ُجزر،
و ُنطعم الطعا َم ،ونسقي الخم َر ،وتع ِزف علينا القيا ُن ،وتسمع بنا العر ُب وبمسيرنا
وجم ِعنا؛ فلا يزالون َُابوننا أب ًدا بعدها ،فامضوا.
وقال الأخن ُس بن َشريق الثقف ُّي -وكان حلي ًفا لبني زهر َة وهم بال ُجحفة:-
يا بني زهر َة ،قد ن َّجى الل ُه لكم أموالكم ،وخ َّلص لكم صاحبكم :مَخرم َة بن نوفل،
وإنما نفرتم ل َتمنعوه وما َله ،فاجعلوا بي ُجبنها وارجعوا ،فإنه لا حاج َة لكم بأن
َتخرجوا في غي ِر ضيع ٍة ،لا ما يقول هذا ،يعني :أبا جه ٍل.
فرجعوا ،فلم َيشهدها ُزهري واح ٌد ،أطاعوه وكان فيهم ُمطا ًعا.
ولم يكن بقي من قريش بط ٌن إلا وقد نف َر منهم نا ٌس ،إلا بني عد ِّي بن
كعب ،لم يخرج منهم رج ٌل واح ٌد ،فرجعت بنو زهر َة مع الأخن ِس بن َشري ٍق ،فلم
يشهد بد ًرا من هاتين القبيلتين أح ٌد ،ومضى القوم.
(َ )1سا َح َل :أخذها جهة الساحل.
| 028مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :ومضت قري ٌش حتى نزلوا بال ُعدو ِة ال ُقصوى من الوادي،
وال ُق ُلب( )1ببد ٍر في ال ُعدوة الدنيا ،وبعث الل ُه السماء ،وكان الوادي َد ْه ًسا(،)2
فأصاب رسو ُل الله ﷺ وأصحا ُبه منها ما ل َّب َد َلم الأر َض ولم يمنعهم عن السي ِر،
وأصاب قري ًشا منها ما لم يقدروا على أن يرت ِحلوا معه.
فخرج رسو ُل الله ﷺ ُيبادرهم إلى الما ِء ،حتى إذا جاء أدنى ما ٍء من بد ٍر نزل
به.
قا َل اب ُن إسحا َق :ف ُح ِّدثت عن رجا ٍل من بني سلم َة ،أنهم ذكروا :أن ال ُحباب
ب َن المنذر بن ال َجموح قال :يا رسو َل الله ،أرأيت هذا المنز َل ،أمنز ًلا َأ ْن َز َل َك ُه الل ُه ليس
لنا أن نتقدمه ،ولا نتأخ َر عنه ،أم هو الرأ ُي والحرب والمكيد ُة؟
قال« :بل هو الرأ ُي والحر ُب والمكيد ُة؟».
فقال :يا رسو َل الله ،فإن هذا ليس بمنز ٍل ،فانهض بالنا ِس حتى نأت َي أدنى
ما ٍء من القو ِم ،فننزله ،ثم ُن َغ ِّو ُر ما ورا َءه من ال ُق ُل ِب ،ثم نبني عليه حو ًضا فنملؤه
ما ًء ،ثم نقات ُل القو َم ،فنشرب ولا يشربون.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :لقد أشر َت بالرأ ِي».
فنهض رسو ُل الله ﷺ ومن معه من النا ِس ،فسا َر حتى إذا أتى أدنى ما ٍء من
القو ِم نزل عليه ،ثم أم َر بال ُق ُل ِب ف ُغ ِّورت ،وبنى حو ًضا على ال َقليب الذي نزل
عليه ،ف ُملئ ما ًء ثم قذفوا فيه الآني َة.
( )1ال ُق ُلب :جمع قليب ،وهو البئر.
( )2ال َّد ْهس :المكان السهل اللين لا يبلغ أن يكون رملا وليس هو بتراب أو طين.
مختصر السيرة النبوية|029
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني عب ُد الله ب ُن أبي بكر أنه ُح ِّد َث أن سع َد بن معا ٍذ
قال :يا نب َّي الله ،ألا نبني لك عري ًشا( )1تكون فيه ،و ُنعد عندك ركائ َبك ،ثم نلقى
عد َّونا ،فإن أعزنا اللهُ وأظهرنا على عد ِّونا كان ذلك ما أحببنا ،وإن كانت
الأخرى ،جلست على ركائبك فل ِحقت بمن وراءنا ،فقد تخ َّلف عنك أقوا ٌم يا نب َّي
الله ،ما نحن بأش َّد لك ح ابا منهم ،ولو ظنوا أنك تلقى حر ًبا ما تخلفوا عنك،
َيمنعك الل ُه بهم ،يناصحونك ويُجاهدون معك ،فأثنى عليه رسو ُل الله ﷺ خي ًرا،
ودعا له بخير.
ثم ُبني لرسو ِل الله ﷺ عري ٌش ،فكان فيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :وقد ارتحلت قري ٌش حين أصبحت ،فأقبلت ،فلما رآها
رسو ُل الله ﷺ ت َص َّو ُب من ال َعقنق ِل -وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي-
قال« :الله َّم هذه قريش قد أقبلت ب ُخيلائها وفخ ِرهاُ ،تحادك و ُتك ِذب رسو َلك،
اللهم فنِ َصك الذي وعدتني ،اللهم أ ِحنهم( )2الغدا َة».
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم تزاحف النا ُس ودنا بع ُضهم من بع ٍض ،وقد أمر
رسو ُل الله ﷺ أصحا َبه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ،وقال« :إن اكتنفكم القو ُم
فانضحوهم عنكم بال َّنبل» ،ورسو ُل الله ﷺ في العريش معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقع ُة بد ٍر يو َم الجمعة صبيح َة سبع عشرة من شهر رمضا َن.
( )1ال َع ِر ْيش :شبه الخيمة يستظل به.
(َ )2أ ِحنهم :أي :أهلكهم.
| 031مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم عدل رسو ُل الله ﷺ الصفو َف ،ورجع إلى العري ِش
فدخله ،ومعه فيه أبو بكر الصديق ،ليس معه فيه غي ُره ،ورسول الله ﷺ يناشد ر َّبه
ما وعده من النص ِر ،ويقول فيما يقول« :الله َّم إن ْتلِك هذه العصاب ُة اليو َم لا
ُتعبد».
وأبو بكر يقول :يا نب َّي الله :بع َض مناشدتِك ر َّبك ،فإن الله منج ٌز لك ما
وعدك.
وقد خ َف َق( )1رسو ُل الله ﷺ َخفق ًة وهو في العريش ،ثم انتبه فقال :أبش ْر يا
أبا بكر ،أتاك نص ُر الله ،هذا جبري ُل آخ ٌذ بعنان فر ٍس يقوده ،على ثناياه النق ُع(.)2
قال :ثم خرج رسو ُل الله ﷺ إلى الناس فح َّرضهم وقال« :والذي نف ُس
محمد بي ِده ،لا يقاتلهم اليو َم رجل ف ُيقتل صابرا محتسباُ ،مقبلا غي َر مدبر ،إلا أدخله
الله الجن َة».
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عبد الله بن ثعلب َة أنه لما التقى النا ُس ،ودنا بع ُضهم من
بع ٍض ،قال أبو جهل بن هشام :الله َّم أ ْق َط َعنا للرح ِم ،وآتانا بما لا ُيعر ُف ،فأ ِحنْه
الغدا َة .فكان هو المستفتِ َح(.)3
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم إن رسو َل الله ﷺ أخذ َحفنة من ال َحصبا ِء فاستقبل
قري ًشا بها ،ثم قال« :شاه ِت الوجو ُه» ،ثم َنفحهم بها ،وأمر أصحا َبه فقال:
(َ )1خ َف َق :نام نوما يسيرا.
( )2النَّ ْقع :الغبار.
( )3ال ُم ْس َت ْفتِح :أي :الحاكم على نفسه بهذا الدعاء.
مختصر السيرة النبوية|030
«شدوا» ،فكانت اَلزيم ُة ،فقتل اللهُ تعالى من قتل من صنادي ِد قري ٍش ،وأسر من
أسر من أشرافِهم.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من عد ِّوه ،أمر بأبي جه ٍل أن
ُيلتم َس في القتلى.
قال عب ُد الله بن مسعود :فوجد ُته بآخر رم ٍق فعرفته ،فوضعت رجلي على
ُعن ِقه -قال :وقد كان َض َب َث( )1بي مر ًة بمك َة ،فآذاني ولكزني -ثم قل ُت له :هل
أخزاك الل ُه يا عد َّو الله؟
قال :وبماذا أخزاني ،أع َمد من رج ٍل قتلتموه ،أخ ِبرني لمن الدائر ُة اليو َم؟
قال :قلت :لله ولرسولِه.
قال :ثم احتززت رأ َسه ثم جئت به رسو َل الله ﷺ ،فقلت :يا رسو َل الله،
هذا رأ ُس عد ِّو الله أبي جه ٍل.
قال :فقال رسو ُل الله ﷺ« :آلله ،الذي لا إله غي ُره» -قال :وكانت يمي ُن
رسو ِل الله ﷺ -قال :قلت :نعم ،والله الذي لا إله غي ُره ،ثم ألقيت رأ َسه بين يدي
رسو ِل الله ﷺ ،فح ِمد الل َه.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عائش َة قالت :لما أمر رسو ُل الله ﷺ بالقتلى أن ُيطرحوا
في القلي ِب؛ ُطرحوا فيه إلا ما كان من أمي َة بن خل ٍف ،فإنه انتفخ في ِدرعه فملأها،
فذهبوا ل ُيحركوه ،فتزا َي َل( )2لح ُمه؛ فأقروه ،وألقوا عليه ما غ َّيبه من الترا ِب
والحجار ِة.
(َ )1ض َب َث :قبض عليه.
(َ )2تزا َي َل :تف َّرق.
| 032مختصر السيرة النبوية
فلما ألقاهم في القليب ،وقف عليهم رسو ُل الله ﷺ ،فقال« :يا أه َل القلي ِب،
هل وجد ُتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني قد وجد ُت ما وعدني ربي حقا».
قالت :فقال له أصحا ُبه :يا رسو َل الله ،أتك ِّلم قو ًما موتى؟ فقال َلم« :لقد
علموا أن ما وع َدهم ربهم حقا».
ثم إن رسو َل الله ﷺ أم َر بما في العسك ِر مما جَم َع النا ُس ف ُجمع ،فاختلف
المسلمون فيه.
قا َل اب ُن إسحا َق :قال ُعبادة بن الصامت :فق َسمه رسول الله ﷺ بين
المسلمين عن َبوا ٍء(.)1
ثم أقبل رسو ُل الله ﷺ قاف ًلا إلى المدينة ،ومعه الأُسارى من المشركين،
وفيهم ُعقب ُة بن أبي ُمعيط ،والن ُض بن الحارث ،واحتمل رسو ُل الله ﷺ معه النف َل
الذي ُأصيب من المشركين.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ع َّباد بن عبد الله بن الزبير قال :ناحت قري ٌش على
قتلاهم ،ثم قالوا :لا تفعلوا فيب ُلغ محم ًدا وأصحا َبه ،فيش َمتوا بكم ،ولا ت ْبعثوا في
أسراكم حتى تس َتأنوا( )2بهم؛ لا َي ْأ ُر ُب( )3عليكم محم ٌد وأصحا ُبه في الفداء.
قال :ثم بعثت قري ٌش في فداء الأُسارى.
(َ )1ب َواء :سواء.
( )2حتى َت ْس َت ْأ ُنوا بهم :معناه :تؤخرون فداءهم.
( )3لا َي ْأ ُرب :لا يشتد.
مختصر السيرة النبوية|033
قال اب ُن هشا ٍم :كان فدا ُء المشركين يومئ ٍذ أربع َة آلاف دره ٍم للرجل ،إلى
ألف دره ٍم ،إلا من لا شي َء له ،ف َم َّن رسو ِل الله ﷺ عليه.
قا َل اب ُن إسحا َق :فجمي ُع من شهد بد ًرا من المسلمين من ال ُمهاجرين
والأنصار ،من ش ِهدها منهم ومن ُضب له بسه ِمه وأجره ،ثلا ُث مئة رجل
وأربع َة عش َر رج ًلا ،من المهاجرين ثلاث ٌة وثمانون رج ًلا ،ومن الأوس واح ٌد
وستون رج ًلا ،ومن الخزرج مئ ٌة وسبعون رج ًلا.
-7غزوُة ال َّسويق
عن محمد بن إسحاق ال ُم َّطلبي قال :ثم غزا أبو سفيا َن بن حرب غزو َة
السويق في ذي الحج ِة ،وول َي تلك الح َّج َة المشركون من تلك السنة ،فكان أبو
سفيا َن حين رجع إلى م َّك َة ،ورجع َف ُّل( )1قريش من بد ٍر ،نذر أن لا َيم َّس رأ َسه ما ٌء
من جنابة حتى يغز َو محم ًدا ﷺ ،فخرج في مئتي راك ٍب من قري ٍش؛ ليب َّر يمينَه.
فنزل من المدين ِة على َبري ٍد أو نحوه ،ثم خرج من اللي ِل ،حتى أتى س َّلا َم بن
ِمشك ٍم ،وكان س ِّيد بني النضي ِر في زمانه ذلك ،وصاح َب َكن ِزهم ،فاستأذن عليه،
ف َأذ َن لهَ ،ف َقراه وسقاه ،و َب َط َن( )2له من خب ِر النا ِس.
ثم خرج في ع ِقب ليلته حتى أتى أصحا َبه ،فبع َث رجا ًلا من قري ٍش إلى
المدينة ،فأتوا ناحي ًة منها ،فح َرقوا في أصوا ٍر من نخل بها ،ووجدوا بها رج ًلا من
الأنصا ِر و َحلي ًفا له في حر ٍث َلما فقتلوهما ،ثم انصرفوا راجعين.
( )1ال َف ُّل :القوم المنهزمون.
(َ )2ب َط َن له :أي :علم له من سرهم ،ومنه بطانة الرجل.
| 034مختصر السيرة النبوية
فخر َج رسو ُل الله ﷺ في ط َلبهم ،ثم انصر َف راج ًعا وقد فاته أبو سفيان
وأصحا ُبه ،وقد رأوا أزوا ًدا من أزوا ِد القوم قد طرحوها في الحر ِث يتخ َّففون منها
للنَّجا ِء ،فقال المسلمون حين رجع بهم رسو ُل الله ﷺ :يا رسو َل الله ،أتطم ُع لنا أن
تكون غزو ًة؟
قال «نعم».
قال اب ُن هشا ٍم :وإنما س ِّميت غزو َة السويق -فيما حدثني أبو عبيد َة -أن أكث َر
ما طرح القو ُم من أزوادهم ال َّس ِو ْي َق( ،)1فهجم المسلمون على سويق كثي ٍر؛ ف ُس ِّميت
غزو َة السويق.
-8أمرُ بني َقينُقاعَ
وكان من حديث بني قينقا َع أن رسول الله ﷺ جَمعهم بسو ِق بني قينقا َع ،ثم
قال« :يا مع َش يهو َد ،احذروا من الله مث َل ما نزل بقري ٍش من النِقم ِة ،وأسلموا،
فإنكم قد ع َرفتم أني نب يي مرسل ،تدون ذلك في كتابكم وعه ِد الله إليكم».
قالوا :يا محم ُد ،إنك ُترى أ َّنا قو ُمك! لا يغر َّنك أنك لقيت قو ًما لا علم َلم
بالحر ِب ،فأصب َت منهم ُفرص ًة ،إنا والله لئن حاربناك ل َتعلم َّن أنا نحن النا ُس.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني عا ُصم بن عم َر بن قتاد َة أن بني قينُقا َع كانوا أ َّو َل
ُو ٍد نقضوا ما بينهم وبين رسو ِل الله ﷺ ،وحاربوا فيما بين بد ٍر و ُأ ُح ٍد.
( )1ال َّس ِو ْيق :هو أن تحمص الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك ،ثم تطحن ثم يسافر بها ،وقد تمزج باللبن
والعسل والسمن تلت به ،فإن لم يكن شيء من ذلك مزج بالماء.
مختصر السيرة النبوية|035
قال اب ُن هشا ٍم :عن أبي عون قال :كان من أم ِر بني قينقا َع أن امرأة من
العرب قدمت بج َل ٍب(َ )1لا ،فباعته بسو ِق بني قينُقا َع ،وجلست إلى صائ ٍغ بها،
فجعلوا ُيريدونَها على كش ِف وجهها فأبت ،فع ِمد الصائ ُغ إلى ط َرف ثوبها فعقده
إلى ظه ِرها ،فلما قامت انكشفت سوأ ُتها ،فض ِحكوا بها ،فصاحت؛ فوثب رج ٌل من
المسلمين على الصائغ فقتله ،وكان ُود ايا ،وشدت اليهو ُد على المسلم فقتلوه،
فاستصرخ أه ُل المسل ِم المسلمين على اليهو ِد ،فغ ِض َب المسلمون ،فوقع الش ُّر بينهم
وبين بني قينقا َع.
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني عاص ُم بن عم َر بن قتاد َة قال :فحاصرهم رسو ُل
الله ﷺ حتى نزلوا على ُحك ِمه ،فقام إليه عب ُد الله بن ُأب ِّي ابن َسلول ،حين أمكنه الل ُه
منهم ،فقال :يا محم ُد ،أح ِسن في َموال َّي ،وكانوا حلفا َء الخزرج ،قال :فأبط َأ عليه
رسو ُل الله ﷺ ،فقال :يا محم ُد ،أح ِسن في موال َّي ،قال :فأعرض عنه.
فأدخل ي َده في جي ِب در ِع رسو ِل الله ﷺ ،فقال له رسو ُل الله ﷺ:
«أر ِس ْلني» ،وغض َب رسو ُل الله ﷺ حتى رأوا لوج ِهه ُظل ًلا.
ثم قال« :وي َحك! أر ِس ْلني».
قال :لا والله لا ُأرس ُلك حتى ُتحسن في موال َّي ،أربع مئ ِة حاس ٍر( )2وثلاث مئ ِة
دار ٍع قد منعوني من الأحم ِر والأسود ،تح ُصدهم في غدا ٍة واحد ٍة ،إني والله امرؤ
أخشى الدوائ َر ،قال :فقال رسو ُل الله ﷺُ « :هم لك».
( )1ال َج َلب :كل ما يجلب للأسواق ليباع فيها من إبل وغنم وغيرهما.
( )2الحَا ِسر :من لا درع له.
| 036مختصر السيرة النبوية
قال اب ُن هشا ٍم :وكانت محاصر ُته إياهم خم َس عشرة ليل ًة.
-9غزوة أُحُ ٍد
لما أصي َب يو َم بد ٍر -من كفا ِر قريش -أصحا ُب القلي ِب ،ورجع َف ُّلهم إلى
مك َة ،ورجع أبو سفيان بن حرب بِعي ِره ،مشى عب ُد الله بن أبي ربيع َة ،وعكرم ُة بن
أبي جهل وصفوا ُن بن أمية في رجا ٍل من قري ٍش ،ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم
وإخوانُهم يو َم بد ٍر ،فكلموا أبا سفيا َن بن حر ٍب ،ومن كانت له في تلك ال ِعير من
قري ٍش تار ٌة فقالوا :يا معش َر قري ٍش ،إن محم ًدا قد َو َتركم ،وقتل خيا َركم ،فأعينونا
بهذا الما ِل على حربِه ،فلع َّلنا ُندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا؛ ففعلوا.
فاجتمعت قري ٌش لحر ِب رسو ِل الله ﷺ حين فع َل ذلك أبو سفيان ب ُن
حرب ،وأصحا ُب العير بأحابِيشها ،ومن أطا َعها من قبائ ِل كنان َة ،وأهل تِهام َة.
فخرجت قريش ب َح ِّدها وج ِّدها وحديدها وأحابِيشها ،ومن تابعها من بني
كنان َة ،وأهل تهام َة ،وخرجوا معهم بال ُّظ ُع ِن()1؛ التما َس الحفيظ ِة وألا َي ِف ُّروا.
فأقبلوا حتى نزلوا بعينين -بجب ٍل ببطن السبخ ِة من قناة على َشفير الوادي-
ُمقاب َل المدين ِة.
فلما سمع بهم رسو ُل الله ﷺ والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا ،قال رسو ُل
الله ﷺ لل ُمسلمين« :إني قد رأي ُت والله خيرا ،رأيت بقرا ،ورأيت في ُذباب سيفي
َث ْلما ،ورأيت أني أدخلت يدي في ِدر ٍع حصين ٍة ،فأ َّول ُتها المدين َة».
( )1ال ُظ ُعن :جمع ظعينة ،وهو اَلودج كانت فيه امرأة أو لم تكن.
مختصر السيرة النبوية|037
قال ابن هشا ٍم :وحدثني بع ُض أهل العل ِم أن رسو َل الله ﷺ قال« :رأيت
بقرا ل ُتذبح».
قال« :فأما البق ُر فهي ناس من أصحابي ُيقتلون ،وأما ال َّثل ُم الذي رأي ُت في
ذباب سيفي فهو رجل من أه ِل بيتي ُيقتل».
قا َل اب ُن إسحا َق :فإن رأي ُتم أن ُتقيموا بالمدين ِة وتدعوهم حيث نزلوا ،فإن
أقاموا أقاموا َبش ِّر ُمقا ٍم ،وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ،وكان رأ ُي عبد الله بن
أب ِّي ابن سلو ٍل مع رأي رسو ِل الله ﷺ ،يرى رأ َيه في ذلك ،وألا يخر َج إليهم ،وكان
رسو ُل الله ﷺ يكره الخُرو َج ،فقال رجا ٌل من المسلمين -ممن أكرم الل ُه بالشهادة
يو َم أح ٍد وغيره ممن كان فاته بد ٌر :-يا رسو َل الله ،اخ ُرج بنا إلى أعدا ِئنا ،لا يرون
أنا جبنا عنهم وض ُعفنا؟
فقال عب ُد الله بن ُأبي ابن سلو ٍل :يا رسو َل الله ،أقم بالمدينة لا تخر ْج إليهم،
فوالله ما خرجنا منها إلى عد ٍّو لنا ق ُّط إلا أصا َب منا ،ولا دخلها علينا إلا أصبنا
منه ،فدع ُهم يا رسو َل الله ،فإن أقاموا ،أقاموا ب َش ِّر مَحب ٍس ،وإن دخلوا قا َت َلهم
الرجا ُل في وجههم ،ورماهم النسا ُء والصبيا ُن بالحجار ِة من فو ِقهم ،وإن رجعوا
رجعوا خائبي َن كما جاءوا.
فلم يزل النا ُس برسو ِل الله ﷺ -الذين كان من أمرهم ُح ُّب لقاء القو ِم-
حتى دخل رسو ُل الله ﷺ بيته ،فلبِس لأْ َمته ،وذلك يو َم الجمعة حين فر َغ من
الصلاة ،وقد مات في ذلك اليو ِم رج ٌل من الأنصار ُيقال له :مال ُك بن عمرو أح ُد
| 038مختصر السيرة النبوية
بني النجار ،فص َّلى عليه رسو ُل الله ﷺ ثم خرج عليهم وقد ن ِدم النا ُس ،وقالوا:
استك َرهنا رسو َل الله ﷺ ،ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم رسو ُل الله ﷺ ،قالوا :يا رسو َل الله ،استك َرهناك ولم يكن
ذلك لنا ،فإن شئت فاق ُعد صلى الل ُه عليك.
فقال رسو ُل الله ﷺ« :ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْ َمته أن يض َعها حتى يقات َل».
فخرج رسول الله ﷺ في أل ٍف من أصحابِه.
قا َل اب ُن إسحا َق :حتى إذا كانوا بالشو ِط بين المدين ِة و ُأ ُح ٍد ،انخذل عنه
عب ُد الله بن أب ِّي ابن سلول ب ُثلث النا ِس ،وقال :أطاعهم وعصاني ،ما ندري علا َم
نقتل أنف َسنا هاهنا أُا النا ُس ،فرجع بمن ا َّتبعه من قو ِمه من أه ِل النفا ِق وال َّري ِب،
واتبعهم عب ُد الله بن عمرو بن حرا ٍم أخو بني سلم َة ،يقول :يا قو ِم ،أذ ِّكركم الل َه ألا
َتخذلوا قو َمكم ونب َّيكم عندما حض من عد ِّوهم.
فقالوا :لو نعل ُم أنكم ُتقاتلون لما أسلمنا ُكم ،ولكنا لا نرى أنه يكون قتا ٌل.
قال :فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصرا َف عنهم قال :أبع َدكم الل ُه أعدا َء
الله ،ف ُسيغني الله عنكم نب َّيه.
قال :ومضى رسو ُل الله ﷺ حتى نز َل ال ِّشع َب من أح ٍد ،في ُعدوة الوادي إلى
الجب ِل ،فجعل ظه َره وعس َك َره إلى ُأ ُح ٍد ،وقال« :لا يقاتلن أحد منكم حتى نأ ُم َره
بالقتال».
مختصر السيرة النبوية|039
وقد س َّرحت قري ٌش ال َّظه َر وال ُكرا َع( )1في زرو ٍع كانت بال َّصمغ ِة( ،)2من قناة
للمسلمين.
وتع َّبى رسو ُل الله ﷺ للقتا ِل ،وهو في سب ِع مئ ِة رج ٍل ،وأ َّمر على الرماة
عب َد الله بن جبي ٍر أخا بني عمرو بن عو ٍف وهو ُمع َّل ٌم يومئذ بثيا ٍب بي ٍض ،والرماة
خمسون رج ًلا.
فقال« :انضح الخي َل عنا بالنب ِل ،لا يأتونا من خل ِفنا ،إن كانت لنا أو علينا،
فاث ُبت مكا َنك لا ُنؤ َت َي َّن من ِقبلك».
وظاه َر رسو ُل الله ﷺ بين ِدرعي ِن( ،)3ودف َع اللوا َء إلى ُمصع ِب بن عمي ٍر
أخي بني عبد الدا ِر.
قا َل اب ُن إسحا َق :وتع َّبأت قري ٌش ،وهم ثلاث ُة آلاف رج ٍل ،ومعهم مئتا
فر ٍس قد جنَبوها( ،)4فجعلوا على ميمن ِة الخي ِل خال َد بن الولي ِد ،وعلى َميسرتها
عكرم َة بن أبي جه ٍل.
وقال رسو ُل الله ﷺَ « :من يأخ ُذ هذا السي َف بح ِقه؟» فقا َم إليه رجا ٌل،
فأمسكه عنهم ،حتى قام إليه أبو ُدجان َة ِسما ُك بن َخ َرش َة أخو بني ساعد َة ،فقال:
وما ح ُّقه يا رسو َل الله؟ قال« :أن َتضر َب به العد َّو حتى َينحن َي».
( )1ال َّظهر :الإبل .وال ُك َراع :الخيل.
( )2ال َّصم َغة :اسم موضع قريب من أحد.
(َ )3ظا َه َر بين درعين :أي :لبس درعا فوق درع.
(َ )4جنَبوها :أي قادوها ،والجنيب :الفرس الذي يقاد.
| 041مختصر السيرة النبوية
قال :أنا آخذه يا رسو َل الله بح ِّقه ،فأعطاه إياه ،وكان أبو دجان َة رج ًلا
شجا ًعا يختال عند الحر ِب إذا كانت ،وكان إذا ُأعل َم بعصاب ٍة له حمرا َء فاعتصب بها
علم النا ُس أنه سيقاتِل ،فلما أخذ السي َف من ي ِد رسو ِل الله ﷺ أخر َج عصاب َته
تلك ،فعصب بها رأ َسه ،وجعل يتبخت ُر بين الصفي ِن.
قا َل اب ُن إسحا َق :فحدثني جعف ُر بن عب ِد الله بن أسل َم مولى عم َر بن
الخطاب ،عن رج ٍل من الأنصا ِر من بني سلم َة قال :قال رسو ُل الله ﷺ حين رأى
أبا ُدجان َة يتبختر« :إنها لمِشية ُيبغضها الل ُه ،إلا في مثل هذا ال َموط ِن».
وكان ِشعا ُر أصحاب رسو ِل الله ﷺ يو َم ُأ ُح ٍد :أ ِم ْت ،أ ِم ْت ،فيما قال اب ُن
هشام.
قا َل اب ُن إسحا َق :فاقتتل النا ُس حتى حَميت الحر ُب ،وقاتل أبو ُدجانة حتى
أمعن في النا ِس.
وقات َل حمز ُة بن عبد المطل ِب حتى قت َل أرطا َة بن عبد ُشرحبي َل وكان أح َد
النفر الذين يحملون اللوا َء.
قال وحشي -غلا ُم ُجبير بن ُمطعم :-والله إني لأنظ ُر إلى حمز َة َ ُُ ُّد النا َس
بسي ِفه ما ُيليق به شي ًئا ،مثل الجم ِل الأَ ْو َر ِق( )1إذ تقدمني إليه سبا ُع بن عبد ال ُع َّزى،
فضبه ضب ًة ،فكأن ما أخط َأ رأ َسه ،وهزز ُت حر َبتي حتى إذا رضي ُت منها َدفع ُتها
عليه ،فوقع ْت في ُث َّنتِ ِه( )2حتى خرجت من بين ِرجليه ،فأقب َل نحوي ،ف ُغلب فوق َع،
( )1الأَ ْو َرق :من الإبل ،وهو الذي في لونه بياض إلى السواد
( )2ال ُّثنَّة :ما بين أسفل البطن إلى العانة.
مختصر السيرة النبوية|040
وأمه ْل ُته حتى إذا مات جئ ُت فأخذ ُت حربتي ،ثم تنحي ُت إلى العسك ِر ،ولم تكن لي
بشي ٍء حاج ٌة غي َره.
قا َل اب ُن إسحا َق :وقاتل مصع ُب بن عمي ٍر دون رسو ِل الله ﷺ حتى ُقت َل،
وكان الذي قتله اب ُن َقمئ َة الليث ُّي ،وهو يظن أنه رسو ُل الله ﷺ ،فرج َع إلى قري ٍش
فقال :قتلت محم ًدا.
فلما ُقتل مصع ُب بن عمير أعطى رسو ُل الله ﷺ اللوا َء عل َّي ب َن أبي طالب،
وقاتل عل ُّي بن أبي طالب ورجا ٌل من المسلمين.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم أنزل اللهُ نص َره على المسلمين وص َدقهم وع َده،
فح ُّسوهم( )1بالسيو ِف حتى كشفوهم عن العسك ِر ،وكانت اَلزيم ُة لا شك فيها.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن الزبي ِر أنه قال :والله لقد رأي ُتني أنظر إلى َخ َدم هن ِد
بن ِت عتب َة وصواحبها ُمش ِّمرات هوار َب ،ما دون أخذه َّن قلي ٌل ولا كثي ٌر إذ مالت
الرما ُة إلى العسك ِر ،حين كشفنا القو َم عنه وخلوا ظهو َرنا للخي ِل؛ ف ُأتينا من خل ِفنا،
وصر َخ صار ٌخ :ألا إن محم ًدا قد ُقتل ،فانكفأنا وانكفأ علينا القو ُم بعد أن أصبنا
أصحا َب اللوا ِء حتى ما يدنو منه أح ٌد من القو ِم.
قا َل اب ُن إسحا َق :وانكش َف المسلمون ،فأصا َب فيهم العد ُّو ،وكان يو َم بلا ٍء
وتمحي ٍص أكرم الل ُه فيه من أكر َم من المسلمين بالشهاد ِة ،حتى خ ُل َص العد ُّو إلى
رسو ِل الله ﷺ ،ف ُد َّث( )2بالحجارة حتى وق َع لش ِّقه ،فأصيبت َرباعي ُته ،و ُش َّج في
وجهه ،و ُك ِلمت َشف ُته ،وكان الذي أصا َبه عتب ُة بن أبي وقا ٍص.
(َ )1ح ُّسوهم :قتلوهم.
(ُ )2د َّث :التوى بعض جسده.
| 042مختصر السيرة النبوية
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أن ِس بن مال ٍك قالُ :كسرت َرباعي ُة النب ِّي ﷺ يو َم
ُأ ُح ٍد ،و ُش َّج في وجهه ،فجعل الد ُم يسي ُل على وجهه ،وجع َل يمس ُح الد َم وهو
يقول« :كيف ُيفلح قوم خضبوا وج َه نب ِيهم ،وهو يدعوهم إلى ر ِبهم؟!» فأنزل الله
في ذلك( :ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ)
[آل عمران.]552:
قا َل اب ُن إسحا َق :و َت َّر َس دو َن رسول الله ﷺ أبو دجان َة بنف ِسه ،يق ُع النبل في
ظه ِره وهو ُمنح ٍن عليه ،حتى ك ُثر فيه النب ُل ،ورمى سع ُد بن أبي وقا ٍص دو َن
رسو ِل الله ﷺ ،قال سعد :فلقد رأي ُته ُيناولني النب َل وهو يقول« :ار ِم فدا َك أبي
وأمي» حتى إنه ليناو ُلني السه َم ما له نص ٌل ،فيقو ُل« :ار ِم به».
قا َل اب ُن إسحا َق :وحدثني القاس ُم ب ُن عبد الرحمن بن راف ٍع أخو بني عد ِّي
بن النجار قال :انتهى أن ُس بن الن ِض ع ُّم أنس بن مالك ،إلى عم َر بن الخطاب،
وطلح َة بن عبي ِد الله ،في رجا ٍل من المهاجرين والأنصا ِر ،وقد َأ ْل َقوا بأيدُم.
فقال :ما يُجلسكم؟
قالواُ :قت َل رسو ُل الله ﷺ ،قال :فماذا َتصنعون بالحيا ِة بع َده؟ قوموا فموتوا
على ما ما َت عليه رسو ُل الله ﷺ ،ثم استقب َل القو َم ،فقات َل حتى ُقتل ،وبه ُس ِّمي
أن ُس بن مال ٍك.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن أن ِس بن مالك قال :لقد وجدنا بأن ِس بن الن ِض يومئ ٍذ
سبعين ضب ًة ،فما عرف ُه إلا أخ ُته ،عرفته ب َبنانِه.
مختصر السيرة النبوية|043
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان أ َّو َل من عر َف رسو َل الله ﷺ بعد اَلزيم ِة -وقو ُل
الناسُ :قتل رسو ُل الله ﷺ -كع ُب بن مال ٍك ،قال :عرفت عينَيه تزهران من تحت
المِغف ِر ،فنادي ُت بأعلى صوتي :يا معش َر المسلمين ،أبشروا ،هذا رسو ُل الله ﷺ،
فأشا َر إل َّي رسو ُل الله ﷺ أن أن ِصت.
قا َل اب ُن إسحا َق :فلما عر َف المسلمون رسو َل الله ﷺ نهضوا به ،ونه َض معهم
نحو ال ِّشع ِب معه أبو بك ٍر الصدي ُق ،وعم ُر بن الخطاب ،وعل ُّي بن أبي طال ٍب ،وطلح ُة
بن عبي ِد الله ،والزبي ُر بن العوا ِم ،والحار ُث بن ال ِّصم ِة ،وره ٌط من المسلمين.
قال :فلما ُأسن َد رسو ُل الله ﷺ في ال ِّشع ِب أدركه أب ُّي بن خل ٍف وهو يقول:
أ ْي محم ُد ،لا نجو ُت إن نجو َت ،فقال القو ُم :يا رسو َل الله ،أيعط ُف عليه رج ٌل
منا؟
فقال رسو ُل الله ﷺ« :دعوه» ،فلما دنا ،تناو َل رسو ُل الله ﷺ الحرب َة من
الحار ِث بن ال ِّصم ِة ،يقول بع ُض القو ِم ،فيما ذكر لي :فلما أخذها رسو ُل الله ﷺ منه
انتف َض بها انتفاض ًة ،تطايرنا عنه تطا ُي َر ال َّش ْعرا ِء( )1عن ظه ِر البعي ِر إذا انتفض بها،
ثم استقبله فطعنه في ُعنقه طعن ًة َتد ْأ َدأ منها عن فر ِسه ِمرا ًرا.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان أب ُّي بن خل ٍف ،يلقى رسو َل الله ﷺ بم َّك َة ،فيقول:
يا محم ُد إن عندي ال َعو َذ ،فر ًسا أعلفه ك َّل يوم فر ًقا من ُذر ٍة ،أقتلك عليه ،فيقول
رسو ُل الله ﷺ« :بل أنا أق ُتلك إن شاء الل ُه».
( )1ال َّش ْع َراء :ذباب أزرق يقع على ظهر البعير.
| 044مختصر السيرة النبوية
فلما رجع إلى قري ٍش وقد خدشه في ُعنقه خد ًشا غير كبي ٍر ،فاحتقن الد ُم،
قال :قتلني والله محم ٌد! قالوا له :ذهب والله فؤا ُدك! والله ِإ ْن بك من بأ ٍس.
قال :إنه قد كان قال لي بم َّكة« :أنا أق ُتلك» ،فوالله لو بصق عل َّي لقتلني،
فما َت عد ُّو الله بسر ٍف وهم قافلون به إلى مك َة.
قال :فلما انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى ف ِّم الشعب خر َج عل ُّي بن أبي طالب حتى
ملأ َدر َقته ما ًء من المِهرا ِس( ،)1فجاء به إلى رسو ِل الله ﷺ ليشر َب منه ،فوجد له
ري ًحا ،فعافه فلم يشر ْب منه ،وغسل عن وجهه الد َم ،وص َّب على رأ ِسه وهو يقول:
«اشتد غض ُب الله على من د َّمى وج َه نب ِيه».
قا َل اب ُن إسحا َق :فبينا رسو ُل الله ﷺ بالشع ِب معه أولئك النف ُر من
أصحابِه ،إذ علت عالي ٌة من قري ٍش :الجب َل ،فقال رسو ُل الله ﷺ« :الله َّم إنه لا
َينبغي همم أن َيعلونا!» فقات َل عم ُر بن الخطاب وره ٌط معه من المهاجرين حتى
أهبطوهم من الجب ِل.
قا َل اب ُن إسحا َق :ونهض رسو ُل الله ﷺ إلى صخر ٍة من الجب ِل ل َيعلوها ،وقد
كان َب َّد َن( )2رسو ُل الله ﷺ ،وظاه َر بين درعين ،فلما ذه َب لينه َض ﷺ لم َيستط ْع،
فجلس تحته طلح ُة بن ُعبي ِد الله ،فنهض به حتى استوى عليها ،فقال رسو ُل الله
ﷺ« :أوج َب( )3طلح ُة».
( )1المِ ْهراس :ماء بأحد .وقيل :حجر ينقر ويجعل إلى جانب البئر ،ويصب فيه الماء لينتفع به الناس.
(َ )2ب َّد َن :أسن.
(َ )3أ ْو َج َب :أي :وجبت له الجنة.
مختصر السيرة النبوية|045
قال اب ُن هشا ٍم :وذكر عم ُر مولى ُغفر َة أن النب َّي ﷺ صلى الظه َر يو َم أح ٍد
قاع ًدا من الجرا ِح التي أصابته ،وصلى المسلمون خلفه ُقعو ًدا.
ثم إن أبا سفيا َن بن حر ٍب ،حين أراد الانصرا َف ،أشر َف على الجب ِل ،ثم
صر َخ بأعلى صوتِه فقال :أنعم َت َفعال( ،)1وإن الحر َب سجا ٌل ،يو ٌم بيومَ ،أع ِل
ُهب َل -أي :أظ ِهر دينَك -فقال رسو ُل الله ﷺُ « :قم يا عم ُر فأ ِج ْبه ،فقل :الله أعلى
وأجل ،لا سواء؛ قتلانا في الجن ِة ،وقتلا ُكم في النار».
فلما أجاب عم ُر أبا سفيا َن ،قال له أبو سفيانَ :ه ُل َّم إل َّي يا عم ُر ،فقال رسو ُل
الله ﷺ لعمر« :ائتِه فانظر ما شأ ُنه».
فجاءه ،فقال له أبو سفيان :أ ْن ُشدك اللهَ يا عمر ،أق َتلنا محم ًدا؟
قال عم ُر :اللهم لا ،وإنه ل َيسم ُع كلا َمك الآن ،قال :أنت أصد ُق عندي من
اب ِن َقمئ َة وأب ُّر .لِقو ِل ابن قمئ َة َلم :إني قد قتل ُت محم ًدا.
قا َل اب ُن إسحا َق :ثم نادى أبو سفيا َن :إنه قد كان في قتلاكم ُم ُث ٌل ،والله ما
رضيت ،وما سخط ُت ،وما نَهيت ،وما أمر ُت.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى :إن مو ِع َدكم بد ٌر للعام القابِ ِل ،فقال
رسو ُل الله ﷺ لرج ٍل من أصحابِه« :قل :نعم ،هو بيننا وبينكم موعد».
ثم بعث رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طالب فقال« :اخرج في آثا ِر القو ِم ،فانظ ْر
ماذا َيصنعون وما ُيريدون فإن كانوا قد َج ّنَبوا الخي َل ،وامتطوا الإب َل ،فإنهم ُيريدون
(َ )1أن َعم َت َفعال :يعني به الحرب والوقيعة ،يفتخر بها.
| 046مختصر السيرة النبوية
مك َة ،وإن ركبوا الخي َل وساقوا الإب َل ،فإنهم ُيريدون المدين َة ،والذي نفسي بي ِده ،لئن
أرادوها لأسير َّن إليهم فيها ،ثم لأُنا ِجز َّنهم».
قال علي :فخرجت في آثا ِرهم أنظ ُر ماذا َيصنعون ،فجنَّبوا الخي َل ،وامتطوا
الإب َل ،ووجهوا إلى مك َة.
وفر َغ النا ُس لقتلاهم ،فقال رسو ُل الله ﷺَ « :من رجل ينظ ُر ل ما فعل سع ُد
بن الربي ِع؟ أفي الأحيا ِء هو أم في الأموا ِت؟».
فقال رج ٌل من الأنصا ِر :أنا أنظ ُر لك يا رسو َل الله ما فع َل سع ٌد ،فنظر
فوجده جري ًحا في القتلى وبه َرم ٌق.
قال :فقلت له :إن رسو َل الله ﷺ َأمرني أن أن ُظ َر ،أفي الأحيا ِء أنت أم في
الأموا ِت؟
قال :أنا في الأموا ِت ،فأبل ْغ رسو َل الله ﷺ عني السلا َم ،وقل له :إن سع َد
بن الربي ِع يقول لك :جزاك الل ُه عنا خي َر ما جزى نب ايا عن أ َّمتِه ،وأبلغ قو َمك عني
السلا َم ،وقل َلم :إن سع َد بن الربي ِع يقول لكم :إنه لا ُعذ َر لكم عند الله إن
َخ ُلص إلى نب ِّيكم ﷺ ومنكم عي ٌن َتط ِرف.
قال :ثم لم أب َرح حتى ما َت ،قال :فجئ ُت رسو َل الله ﷺ فأخبر ُته خب َره.
قا َل اب ُن إسحا َق :وخرج رسو ُل الله ﷺ ،فيما بلغني ،يلتم ُس حمز َة بن عب ِد
المطلب ،فوجده ببط ِن الوادي قد ُبقر بطنُه عن كبِده ،و ُم ِّثل به ،ف ُجد َع أن ُفه وأذناه.
مختصر السيرة النبوية|047
فحدثني محم ُد بن جعف ِر بن الزبير أن رسو َل الله ﷺ قال حين رأى ما رأى:
«لولا أن َتحز َن صف َّي ُة ويكون س َّنة من بعدي؛ لتك ُته حتى يكو َن في بطون السبا ِع،
وحوا ِصل الطي ِر ،ولئن أظهرني اللهُ على قري ٍش في موط ٍن من المواطن لأم ِثلن بثلاثين
رجلا منهم».
فلما رأى المسلمون حز َن رسو ِل الله ﷺ وغي َظه على من فع َل بع ِّمه ما فعل،
قالوا :والله لئن أظف َرنا الل ُه بهم يو ًما من الده ِر لنُم ِّثلن بهم ُمثل ًة لم ُيم ِّثلها أح ٌد من
العرب.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عباس أن الل َه أنز َل في ذلك ،من قول
رسو ِل الله ﷺ ،وقو ِل أصحابِه( :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النحل]557-556:؛ فعفا رسو ُل الله ﷺ،
وصب َر ونهى عن المُثل ِة.
قا َل اب ُن إسحا َق :عن ابن عبا ٍس قال :أمر رسو ُل الله ﷺ بحمز َة ف ُس ِّج َي
ب ُبرد ٍة ثم صلى عليه ،فكبر سب َع تكبيرات ،ثم ُأت َي بال َقتلى فيو َضعون إلى حمز َة ،فصلى
عليهم وعليه معهم ،حتى صلى عليه ثنتي ِن وسبعين صلا ًة.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان قد احتمل نا ٌس من المسلمين قتلاهم إلى المدين ِة،
فدفنوهم بها ،ثم نهى رسو ُل الله ﷺ عن ذلك ،وقال« :ادفنوهم حيث ُصرعوا».
قا َل اب ُن إسحا َق :عن عب ِد الله بن ثعلب َة أن رسو َل الله ﷺ لما أشر َف على
القتلى يو َم ُأ ُح ٍد قال« :أنا شهيد على هؤلاء ،إنه ما من جري ٍح ُيجر ُح في الله إلا واللهُ
| 048مختصر السيرة النبوية
يبعثه يو َم القيامة َيدمي ُجر ُحه ،اللو ُن لون د ٍم والريح ري ُح مسك ،انظروا أكث َر
هؤلاء جمعا للقرآ ِن ،فاجعلوه أما َم أصحابِه في القبر» وكانوا َيدفنون الاثني ِن
والثلاث َة في القب ِر الواح ِد.
قا َل اب ُن إسحا َق :وكان يو ُم أ ُحد يو َم السب ِت للنصف من شوال.
قال :فلما كان الغ ُد من يوم الأحد لست عشر َة ليل ًة مضت من شوال ،أ َّذن
مؤذ ُن رسو ِل الله ﷺ في الناس بطل ِب العد ِّو ،فأذن مؤذ ُنه ألا يَخرجن معنا أح ٌد إلا
أح ٌد ح َض يومنا بالأم ِس ،فك َّلمه جاب ُر بن عب ِد الله بن عمرو بن َحرا ٍم فقال :يا
رسو َل الله ،إن أبي كان خ َّلفني على أخوا ٍت لي سب ٍع ،وقال :يا ُبن َّي ،إنه لا ينبغي لي
ولا لك أن نتر َك هؤلاء النسو َة لا رج َل فيهن ،ولست بالذي أوثر َك بالجها ِد مع
رسو ِل الله ﷺ على نفسي ،فتخ َّل ْف على أخواتِك ،فتخلف ُت عليهن.
فأ ِذن له رسو ُل الله ﷺ ،فخر َج معه ،وإنما خرج رسو ُل الله ﷺ ُمره ًبا
للعد ِّو ،وليب ِّل َغهم أنه خر َج في طلبهم ،ليظنوا به ق َّو ًة ،وأن الذي أصا َبهم لم يوهنهم
عن عد ِّوهم.
قا َل اب ُن إسحا َق :فخر َج رسو ُل الله ﷺ حتى انتهى إلى حمرا ِء الأس ِد ،وهي
من المدين ِة على ثماني ِة أميا ٍل ،فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ،ثم رجع إلى
المدين ِة.
قال :وقد م َّر به معب ُد بن أبي َمعب ٍد الخزاع ُّي ،وكانت خزاع ُة ،مسل ُمهم
ومش ِركهم َع ْي َب َة ُنص ٍح( )1لرسو ِل الله ﷺ بتِهام َة ،صفق ُتهم معه( ،)2لا يخفون عنه
(َ )1ع ْي َبة ُنصح :أي :موضع سره.
(َ )2ص ْف َق ُتهم معه :من تصافق القوم إذا تبايعوا.
مختصر السيرة النبوية|049
شي ًئا كان بها ،ومعب ٌد يومئ ٍذ مشر ٌك ،فقال :يا محم ُد ،أما والله لقد ع َّز علينا ما
أصا َبك ،ولوددنا أن الل َه عافاك فيهم ،ثم خر َج ورسو ُل الله ﷺ بحمرا ِء الأسد،
حتى لقي أبا سفيا َن بن حر ٍب ومن معه بالروحا ِء ،وقد أجمعوا الرجع َة إلى رسو ِل
الله ﷺ وأصحابِه ،وقالوا :أصبنا ح َّد أصحابِه وأشرا َفهم وقا َدتهم ،ثم نرج ُع قبل
أن نستأ ِص َلهم! ل َن ُك َر َّن على بقيتهم ،فلنَف ُرغ َّن منهم.
فلما رأى أبو سفيان َمعب ًدا ،قال :ما ورا َءك يا معب ُد؟ قال :محم ٌد قد خر َج في
أصحابه يطل ُبكم في جم ٍع لم أ َر مث َله قط ،يتح َّرقون عليكم تحر ًقا ،قد اجتم َع معه من
كان تخلف عنه في يو ِمكم ،ون ِدموا على ما صنعوا ،فيهم من ال َحن ِق عليكم شي ٌء لم
أ َر مث َله قط ،قال :ويحك! ما تقو ُل؟
قال :والله ما أرى أن َترتح َل حتى أرى نواص َي الخي ِل ،قال :فوالله لقد أج َمعنا
الك َّر َة عليهم ،لنستأص َل بق َّيتهم :قال :فإني أنها َك عن ذلك.
قال :والله لقد حملني ما رأي ُت على أن قل ُت فيهم أبيا ًتا من شع ٍر.
قال :وما قل َت؟
قال :قلت:
كادت ُت َه ُّد من الأصوا ِت را ِحلتي ** إذ سال ِت الأر ُض بال ُجر ِد الأبابي ِل
َتــردي ب ُأســ ٍد كــرا ٍم لا َتنابِلــ ٍة ** عنــد اللقــا ِء ولا ِميــ ٍل معازيــ ِل
فثنى ذلك أبا سفيا َن ومن معه.
وم َّر به رك ٌب من عب ِد القيس ،فقال :أين ُتريدون؟ قالواُ :نريد المدين َة؟