The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by Syuhada Ibrahim, 2020-12-15 08:28:41

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

مختصر_السيرة_النبوية_لابن_هشام_د_أحمد_المزيد_

‫‪ | 011‬مختصر السيرة النبوية‬

‫و َمك َرهنا‪ ،‬وأثر ٍة علينا‪ ،‬وألا ُنناز َع الأم َر أه َله‪ ،‬وأن نقو َل بالح ِّق أينما كنا‪ ،‬لا نخا ُف‬
‫في الله لوم َة لائ ٍم‪.‬‬

‫‪ -6‬نُزولُ الأم ِر لرسو ِل الله ﷺ في القتا ِل‬
‫عن محم ِد بن إسحا َق ال ُم َّطلبي‪ :‬وكان رسو ُل الله ﷺ قبل بيع ِة العقب ِة لم ُيؤ َذن‬
‫له في الحر ِب ولم ُتح َّلل له الدما ُء‪ ،‬إنما ُيؤم ُر بالدعا ِء إلى الله والصب ِر على الأ َذى‪،‬‬
‫والصف ِح عن الجاه ِل‪ ،‬وكانت قري ٌش قد اضطهدت من ا َّتبعه من المهاجري َن حتى‬
‫َفتنوهم عن دينِهم ونفوهم من بلا ِدهم‪ ،‬فهم من بين َمفتو ٍن في دينه‪ ،‬ومن بين‬
‫ُمع َّذب في أيدُم‪ ،‬وبين هار ٍب في البلا ِد فِرا ًرا منهم‪ :‬منهم َمن بأرض الحبش ِة‪،‬‬

‫ومنهم َمن بالمدينة‪ ،‬وفي ك ِّل وج ٍه‪.‬‬
‫فلما عتت قري ٌش على الله ‪ ،‬ور ُّدوا عليه ما أرادهم به من الكرام ِة‪،‬‬
‫وك َّذبوا نب َّيه ﷺ‪ ،‬وع َّذبوا ونفوا من عب َده وو َّحده وصدق نب َّيه واعتص َم بدينه‪ ،‬أذن‬

‫اللهُ ‪ ‬لرسولِه ﷺ في القتا ِل والانتصا ِر ممن ظل َمهم وبغى عليهم‪.‬‬
‫فكانت أ َّو َل آية أنزلت في إذنِه له في الحر ِب‪ ،‬وإحلالِه له الدماء والقتال‪ ،‬لمن‬
‫بغى عليهم ‪-‬فيما ب َلغني‪ -‬عن ُعرو َة بن الزبي ِر وغي ِره من ال ُعلما ِء‪ ،‬قو ُل الله تبارك‬

‫وتعالى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ)‬

‫[الحج‪.]32:‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما أذ َن اللهُ تعالى له ﷺ في الحر ِب‪ ،‬وبايعه هذا الح ُّي من‬
‫الأنصا ِر على الإسلام والنُّصرة له ولمن ا َّتبعه وأوى إليهم من المسلمين‪ ،‬أمر‬
‫رسو ُل الله ﷺ أصحا َبه من المهاجري َن من قو ِمه‪ ،‬ومن معه بم َّك َة من المسلمين‪،‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪010‬‬

‫بالخرو ِج إلى المدين ِة واَلجر ِة إليها‪ ،‬واللحو ِق بإخوانِهم من الأنصا ِر‪ ،‬وقال‪« :‬إن‬
‫اللهَ ‪ ‬قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها»‪.‬‬

‫فخرجوا أرسا ًلا(‪ ،)1‬وأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة ينتظ ُر أن يأذ َن له ر ُّبه في‬
‫الخرو ِج من م َّك َة‪ ،‬واَلجرة إلى المدين ِة‪.‬‬

‫‪ِ -7‬ذك ُر المهاجرين إلى المدين ِة‬
‫فكان أ َّو َل من هاجر إلى المدين ِة من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ من ال ُمهاجرين من‬
‫قري ٍش‪ ،‬من بني مَخزوم‪ :‬أبو سل َم َة بن عب ِد الأسد‪ ،‬ثم كان أ َّو َل من ق ِدمها من‬
‫المُهاجرين بعد أبي سلم َة‪ :‬عام ُر بن ربيع َة معه امرأ ُته ليلى بن ُت أبي َحثم َة‪ ،‬ثم‬
‫عب ُد الله بن جح ٍش احتم َل بأه ِله وبأخيه عب ُد بن جح ٍش‪ ،‬ثم خرج عم ُر ب ُن الخطاب‪،‬‬

‫وع َّيا ُش بن أبي ربيع َة المخزومي‪ ،‬حتى ق ِدما المدين َة‪ ،‬ثم تتاب َع ال ُمهاجرون‪.‬‬

‫‪ِ -8‬هجرةُ الرسو ِل ﷺ‬

‫وأقام رسو ُل الله ﷺ بم َّك َة بعد أصحابِه من ال ُمهاجرين ينتظ ُر أن ُيؤ َذن له في‬
‫اَلجر ِة‪ ،‬ولم يتخ َّلف معه بم َّك َة أح ٌد من المهاجرين إلا من ُحب َس أو ُفتن‪ ،‬إلا عل ُّي‬
‫بن أبي طالب‪ ،‬وأبو بك ِر ب ُن أبي قحافة الص ِّدي ُق ‪ ،‬وكان أبو بك ٍر كثي ًرا ما‬
‫يستأذن رسو َل الله ﷺ في اَلجر ِة‪ ،‬فيقو ُل له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لا َتعج ْل لع َّل الل َه‬

‫يجع ُل لك صاحبا»‪ ،‬فيطمع أبو بك ٍر أن يكو َن ُه‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما رأت قري ٌش أن رسو َل الله ﷺ قد صارت له شيع ٌة‬
‫وأصحا ٌب من غي ِرهم بغير بل ِدهم‪ ،‬ورأوا خروج أصحابِه من ال ُمهاجرين إليهم‪،‬‬

‫(‪َ )1‬أ ْرسا ًلا‪ :‬جماعة في إثر جماعة‪.‬‬

‫‪ | 012‬مختصر السيرة النبوية‬

‫عرفوا أنهم قد نزلوا دا ًرا‪ ،‬وأصابوا منهم َمنع ًة‪ ،‬ف َح ِذروا خرو َج رسو ِل الله ﷺ‬
‫إليهم‪ ،‬وعرفوا أنه قد َأج َم َع لحربهم‪.‬‬

‫فاج َتمعوا له في دار الندوة ‪-‬وهي دا ُر قص ِّي ب ِن كلاب التي كانت قري ٌش لا‬
‫تقضي أم ًرا إلا فيها‪ -‬ي َتشاورون فيها ما َيصنعون في أم ِر رسو ِل الله ﷺ حين‬

‫خافوه‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عبد الله بن عبا ٍس ‪ ‬قال‪ :‬لما أجمعوا لذلك‪،‬‬
‫وا َّتعدوا أن َيدخلوا في دار الندو ِة ل َيتشاوروا فيها في أم ِر رسول الله ﷺ‪َ ،‬غدوا في‬
‫اليوم الذي ا َّتعدوا له‪ ،‬وكان ذلك اليوم ُيسمى يو َم الزحمة‪ ،‬فاعتر َضهم إبلي ُس في‬
‫هيئ ِة شيخ جلي ٍل عليه َب ْت َل ٌة‪ ،‬فوقف على باب الدار‪ ،‬فلما رأوه واق ًفا على بابها‪ ،‬قالوا‪:‬‬

‫َمن الشي ُخ؟‬
‫قال‪ :‬شي ٌخ من أهل نج ٍد سم َع بالذي ا َّتعدتم له‪ ،‬فح َض معكم ل َيسمع ما‬

‫تقولون‪ ،‬وعسى ألا ُيع ِدمكم منه رأ ًيا و ُنص ًحا‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬أجل‪ ،‬فاد ُخ ْل‪ ،‬فدخل معهم‪ ،‬وقد اجتمع فيها أشرا ُف قري ٍش‪ ،‬ومن‬
‫كان معهم وغي ُرهم ممن لا ُيع ُّد من قري ٍش‪.‬‬

‫فقال بع ُضهم لبعض‪ :‬إن هذا الرجل قد كان من أم ِره ما قد رأي ُتم‪ ،‬فإنا والله‬
‫ما نأ َمنُه على الوثو ِب علينا فيمن قد ا َّتبعه من غي ِرنا؛ فأجمِعوا فيه رأ ًيا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فتشاوروا ثم قال قائ ٌل منهم‪ :‬احبِسوه في الحدي ِد‪ ،‬وأغ ِلقوا عليه با ًبا‪ ،‬ثم‬
‫َتر َّبصوا به ما أصا َب أشبا َهه من الشعرا ِء الذين كانوا قب َله‪ :‬زهي ًرا والنابغ َة ومن‬

‫مضى منهم من هذا المو ِت‪ ،‬حتى يصي َبه ما أصا َبهم‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪013‬‬

‫فقال الشي ُخ النجد ُّي‪ :‬لا والله‪ ،‬ما هذا لكم برأ ٍي‪ ،‬والله لئن حبس ُتموه ‪-‬كما‬
‫تقولون‪ -‬ل َيخ ُرج َّن أم ُره من ورا ِء الباب الذي أغلق ُتم دو َنه إلى أصحابِه‪،‬‬
‫فلأوشكوا أن َيثِبوا عليكم‪ ،‬ف َين ِزعوه من أيديكم‪ ،‬ثم ُيكاثروكم به‪ ،‬حتى َيغلبوكم‬

‫على أم ِركم‪ ،‬ما هذا لكم برأ ٍي؛ فانظروا في غي ِره‪ ،‬ف َتشاوروا‪.‬‬

‫ثم قال قائ ٌل منهم‪ُ :‬نخر ُجه من بين أظ ُهرنا‪ ،‬فننفيه من بلادنا‪ ،‬فإذا ُأخرج عنا‬
‫فوالله ما ُنبالي أين ذهب‪ ،‬ولا حي ُث وقع إذا غاب عنا وف َرغنا منه؛ فأصل ْحنا أم َرنا‬

‫و ُألف َتنا كما كانت‪.‬‬

‫فقال الشي ُخ النجد ُّي‪ :‬لا والله‪ ،‬ما هذا لكم برأ ٍي‪ ،‬ألم تروا ُحس َن حديثِه‪،‬‬
‫وحلاو َة َمنط ِقه‪ ،‬و َغل َبته على ُقلوب الرجا ِل بما يأتي به‪ ،‬والله لو فعل ُتم ذلك ما أ ِمنتم‬
‫أن يح َّل على ح ٍّي من العرب‪ ،‬فيغ ِل َب عليهم بذلك من قولِه وحديثه حتى ُيتابعوه‬
‫عليه‪ ،‬ثم َيسي ُر بهم إليكم حتى َيط َأ ُكم بهم في بلا ِدكم‪ ،‬فيأخذ أم َركم من أيديكم‪،‬‬

‫ثم يفع ُل بكم ما أرا َد‪ ،‬د ِّبروا فيه رأ ًيا غير هذا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال أبو جه ِل بن هشا ٍم‪ :‬والله إن لي فيه لرأ ًيا ما أراكم وقع ُتم عليه‬
‫بع ُد‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وما هو يا أبا الحكم؟‬

‫قال‪ :‬أرى أن نأ ُخ َذ من كل قبيل ٍة ف ًتى شا ابا جلي ًدا نسي ًبا وسي ًطا فِينا‪ ،‬ثم نعطي‬
‫ُك َّل ف ًتى منهم سي ًفا صار ًما‪ ،‬ثم َيعمدوا إليه‪ ،‬ف َيضبوه بها ضب َة رج ٍل واح ٍد‬
‫ف َيقتلوه؛ فنستريح منه‪ ،‬فإنهم إذا فعلوا ذلك تف َّرق د ُمه في القبائ ِل جمي ًعا‪ ،‬فلم َيقدر‬

‫بنو عب ِد مناف على حر ِب قو ِمهم جمي ًعا‪ ،‬فر ُضوا منا بالعق ِل‪ ،‬فعقلناه َلم‪.‬‬

‫‪ | 014‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬فقال الشي ُخ النجد ُّي‪ :‬القو ُل ما قا َل الرج ُل‪ ،‬هذا الرأ ُي الذي لا رأي‬
‫غي َره‪ ،‬فتفر َق القو ُم على ذلك وهم جُلمعون له‪.‬‬

‫فأتى جبري ُل عليه السلا ُم رسو َل الله ﷺ فقال‪ :‬لا َتبِ ْت هذه الليل َة على‬
‫فرا ِشك الذي كنت تبي ُت عليه‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلما كانت َع َتم ٌة من اللي ِل اجتمعوا على بابه َير ُصدونه متى ينام؛ ف َيثِبون‬
‫عليه‪.‬‬

‫فلما رأى رسو ُل الله ﷺ مكانَهم‪ ،‬قال لعل ِّي بن أبي طالب‪َ « :‬ن ْم على فِراش‬
‫و َت َس َّج ب ُبردي هذا ال َحضرم ِي الأخض ِر‪ ،‬فنَم فيه‪ ،‬فإنه لن َي ُل َص إليك شء تكر ُه ُه‬

‫منهم»‪ ،‬وكان رسو ُل الله ﷺ ينا ُم في ُبرده ذلك إذا نا َم‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن محم ِد بن كع ٍب القرظ ِّي قال‪ :‬لما اج َتمعوا له‪ ،‬وفيهم‬
‫أبو جه ِل بن هشا ٍم‪ ،‬فقال و ُهم على بابه‪ :‬إن محم ًدا يزعم أنكم إن تابع ُتموه على‬
‫أم ِره‪ ،‬كنتم ملو َك العرب وال َع َجم‪ ،‬ثم ُبعث ُتم من بعد موتِكم‪ ،‬فجعلت لكم جنا ٌن‬
‫كجنان الأُر ُد ِّن‪ ،‬وإن لم َتفعلوا كان له فيكم َذب ٌح‪ ،‬ثم ُبعث ُتم من بعد َموتكم‪ ،‬ثم‬

‫ُجعلت لكم نا ٌر ُتحرقون فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وخر َج عليهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فأخذ َحفن ًة من ترا ٍب في ي ِده‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫«أنا أقو ُل ذلك‪ ،‬أنت أح ُدهم»‪.‬‬

‫وأخذ الله تعالى على أبصا ِرهم عنه‪ ،‬فلا يرو َنه‪ ،‬فجع َل ين ُثر ذلك الترا َب على‬
‫رءو ِسهم وهو يتلو هؤلاء الآيا ِت من يس‪( :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) إلى‬
‫قوله‪( :‬ﮡ ﮢﮣﮤ ﮥ) [يس‪ ،]2-5:‬حتى فرغ رسو ُل الله ﷺ من‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪015‬‬

‫هؤلاء الآيا ِت‪ ،‬ولم يب َق منهم رج ٌل إلا وقد َوضع على رأ ِسه ترا ًبا‪ ،‬ثم انصر َف إلى‬
‫حيث أراد أن يذه َب‪.‬‬

‫فأتاهم آ ٍت ممن لم يكن معهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما َتنتظرون هاهنا؟‬

‫قالوا‪ :‬محم ًدا‪.‬‬

‫قال‪ :‬خ َّيبكم الل ُه! قد والله خرج عليكم محم ٌد‪ ،‬ثم ما ترك منكم رج ًلا إلا‬
‫وقد وض َع على رأ ِسه ترا ًبا‪ ،‬وانط َل َق لحا َجته‪ ،‬أفما ترون ما بِكم؟‬

‫قال‪ :‬فوضع ك ُّل رجل منهم ي َده على رأ ِسه‪ ،‬فإذا عليه ترا ٌب‪ ،‬ثم جعلوا‬
‫يتط َّلعون فيرون عل ايا على الفرا ِش ُمتسج ًيا ب ُبر ِد رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فيقولون‪ :‬والله إن‬

‫هذا لمحم ٌد نائ ًما عليه بر ُده‪.‬‬
‫فلم َيبرحوا كذلك حتى أصبحوا‪ ،‬فقا َم علي ‪ ‬عن ال ِفرا ِش فقالوا‪:‬‬

‫والله لقد كان ص َدقنا الذي ح َّدثنا‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وأ ِذن الله تعالى لنب ِّيه ﷺ عند ذلك في اَلجر ِة‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان أبو بك ٍر ‪ ‬رج ًلا ذا ما ٍل‪ ،‬فكان حين استأذن‬
‫رسو َل الله ﷺ في اَلجر ِة‪ ،‬فقال له رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لا َتعجل‪ ،‬لعل الل َه يجعل لك‬
‫صاحبا» قد طمع بأن يكون رسو ُل الله ﷺ إنما َيعني نف َسه حين قال له ذلك‪ ،‬فابتا َع‬

‫را ِحلتين فاح َتبسهما في دا ِره َيعلفهما إعدا ًدا لذلك‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة أ ِّم المؤمنين أنها قالت‪ :‬كان لا يُخطئ رسو ُل الله‬
‫ﷺ أن يأت َي بي َت أبي بك ٍر أح َد طرف ِي النها ِر‪ :‬إما ُبكر ًة‪ ،‬وإما عشي ًة‪ ،‬حتى إذا كان‬
‫اليو ُم الذي ُأذن فيه لرسو ِل الله ﷺ في اَلج َر ِة والخرو ِج من م َّك َة من بين َظه َري‬

‫قو ِمه أتانا رسو ُل الله ﷺ باَلاجر ِة‪ ،‬في ساع ٍة كان لا يأتي فيها‪.‬‬

‫‪ | 016‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قالت‪ :‬فلما رآه أبو بك ٍر قال‪ :‬ما جاء رسو ُل الله ﷺ هذه الساع َة إلا لأم ٍر ح َد َث‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلما دخل‪ ،‬تأ َّخر له أبو بك ٍر عن سري ِره‪ ،‬فجلس رسو ُل الله ﷺ‪،‬‬
‫وليس عند أبي بك ٍر إلا أنا وأختي أسما ُء بنت أبي بكر‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪َ « :‬أخ ِرج‬

‫ع ِني َمن ِعن َدك»‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنما هما ابنتاي‪ ،‬وما ذاك فدا َك أبي وأمي؟!‬

‫فقال‪« :‬إن الل َه قد أ ِذن ل في ال ُخروج واهمجر ِة»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فقال أبو بكر‪ :‬الصحب َة يا رسو َل الله‪.‬‬

‫قال‪« :‬الصحب َة»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فوالله ما َش ُعرت ق ُّط قبل ذلك اليو ِم أن أح ًدا َيبكي من الف َر ِح‪ ،‬حتى‬
‫رأيت أبا بك ٍر يبكي يومئ ٍذ‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬يا نب َّي الله‪ ،‬إ َّن هاتين راحلتا ِن قد كنت أعدد ُتهما َلذا‪.‬‬
‫فاستأجرا عب َد الله بن أ ْر َق َط ‪-‬رج ًلا من بني ال ُّدئل بن بك ٍر‪ ،‬وكانت أ ُّمه امرأ ًة‬
‫من بني سه ِم بن عمرو‪ ،‬وكان ُمشر ًكا‪ -‬يدَُّلما على الطري ِق‪ ،‬فدفعا إليه راحل َتيهما‪،‬‬

‫فكانتا عنده َيرعاهما لمِيعا ِدهما‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما أجم َع رسو ُل الله ﷺ الخرو َج أتى أبا بكر ب َن أبي‬
‫ُقحاف َة‪ ،‬فخرجا من َخو َخ ٍة لأبي بكر في ظهر بيتِه‪ ،‬ثم ع ِمد إلى غا ٍر بثو ٍر ‪-‬جب ٍل‬

‫بأسف َل مك َة‪ -‬فدخلاه‪.‬‬

‫وأمر أبو بك ٍر ابنَه عب َد الله بن أبي بكر أن يتس َّمع َلما ما يقو ُل النا ُس فيهما‬
‫نها َره‪ ،‬ثم يأتيهما إذا أم َسى بما يكو ُن في ذلك اليو ِم من الخب ِر‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪017‬‬

‫وأمر عام َر بن ُفهير َة مولاه أن يرعى غنَمه نها َره‪ ،‬ثم ُيري ُحها عليهما‪ ،‬يأتيهما إذا‬
‫أمسى في الغا ِر‪.‬‬

‫وكانت أسما ُء بن ُت أبي بكر تأتيهما من الطعا ِم إذا أمست بما ُيصلحهما‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فأقا َم رسو ُل الله ﷺ في الغا ِر ثلا ًثا ومعه أبو بكر و َجعلت‬

‫قري ٌش فيه حين ف َقدوه مئ َة ناق ٍة لمن َير ُّده عليهم‪.‬‬

‫وكان عب ُد الله بن أبي بكر يكو ُن في قري ٍش نها َره معهم يسمع ما يأتَمرون به‪ ،‬وما‬
‫يقولو َن في شأ ِن رسو ِل الله ﷺ وأبي بك ٍر‪ ،‬ثم يأتيهما إذا أم َسى ف ُيخب ُرهما الخب َر‪.‬‬

‫وكان عام ُر بن ُفهير َة ‪-‬مولى أبي بكر ‪ -‬ير َعى في ُرعيا ِن أهل م َّك َة‪ ،‬فإذا‬
‫أمسى أراح عليهما غن َم أبي بكر؛ فاح َتلبا وذ َبحا‪ ،‬فإذا عب ُد الله بن أبي بكر غ َدا من‬
‫عندهما إلى م َّك َة‪ ،‬ا َّتبع عام ُر بن فهير َة أث َره بالغن ِم حتى ُي َع ِّفي عليه‪ ،‬حتى إذا مضت‬
‫الثلا ُث‪ ،‬وسك َن عنهما النا ُس أتاهما صاح ُبهما الذي استأ َجراه ببعي َرُما وبعي ٍر له‪،‬‬
‫وأتتهما أسما ُء بنت أبي بك ٍر رضى الله عنهما ب ُسفرتِهما‪ ،‬و َنسيت أن تع َل َلا ِعصا ًما‪ ،‬فلما‬
‫ارتحلا ذهبت ل ُتع ِّل َق السفر َة فإذا ليس َلا ِعصا ٌم‪ ،‬فتحل نطا َقها فتجعله عصا ًما‪ ،‬ثم‬

‫ع َّلقتها به‪ ،‬فكان ُيقال لأسما َء بن ِت أبي بكر‪ :‬ذا ُت النطاق لذلك‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما ق َّرب أبو بكر ‪ ‬الراحلتي ِن إلى رسو ِل الله ﷺ‬

‫ق َّدم له أفض َلهما‪ ،‬ثم قال‪ :‬ارك ْب‪ ،‬فِداك أبي وأمي‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬إ ِني لا أرك ُب بعيرا ليس ل»‪.‬‬

‫قال‪ :‬فهي لك يا رسو َل الله‪ ،‬بأبي أن َت وأ ِّمي‪.‬‬

‫قال «لا‪ ،‬ولكن ما الثم ُن الذي ابتع َتها به؟»‪.‬‬

‫‪ | 018‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬كذا وكذا‪.‬‬

‫قال‪« :‬قد أخذ ُتا به»‪.‬‬

‫قال‪ :‬هي لك يا رسول الله‪.‬‬
‫فر ِكبا وانطلقا وأرد َف أبو بك ٍر الصديق ‪ ‬عام َر ب َن ُفهير َة مولاه خل َفه؛‬

‫ليخ ِدمهما في الطري ِق‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فمكثنا ثلا َث ليا ٍل وما ندري أين وج ُه رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬حتى أقبل‬
‫رج ٌل من ال ِج ِّن من أسف ِل مك َة‪ ،‬يتغنى بأبيا ٍت من شع ٍر غناء العر ِب‪ ،‬وإن النا َس‬

‫لي َّتبعونه َيسمعون صو َته وما َيرونه حتى خرج من أعلى مك َة وهو يقول‪:‬‬
‫جزى الله ر ُّب النا ِس خي َر جزا ِئه ** رفيقي ِن ح َّلا خي َمت ْي أ ِّم َمع َب ِد‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬قالت أسما ُء بن ُت أبي بكر ‪ :‬فلما سمعنا قو َله عرفنا‬

‫حيث وج ُه رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وأن وج َهه إلى المدين ِة‪.‬‬
‫وكانوا أربع ًة‪ :‬رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وأبو بك ٍر الصدي ُق ‪ ،‬وعام ُر بن ُفهير َة‬

‫مولى أبي بكر‪ ،‬وعب ُد الله بن أرق َط دلي ُلهما‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن سراق َة بن مال ٍك قال‪ :‬لما خرج رسو ُل الله ﷺ من م َّك َة‬
‫ُمهاج ًرا إلى المدين ِة جعلت قري ٌش فيه مئ َة ناق ٍة لمن ر َّده عليهم‪ .‬قال‪ :‬فبينا أنا جال ٌس‬
‫في نادي قومي إذ أقب َل رج ٌل منا‪ ،‬حتى وقف علينا‪ ،‬فقال‪ :‬والله لقد رأيت َرك َب ًة‬
‫ثلاث ًة مروا عل َّي آن ًفا‪ ،‬إني لأُراهم محم ًدا وأصحا َبه‪ .‬قال‪ :‬فأومأت إليه ِبعيني‪ :‬أن‬
‫اس ُكت‪ .‬ثم قل ُت‪ :‬إنما هم بنو فلان َيبتغون ضال ًة َلم‪ .‬قال‪ :‬لع َّله‪ .‬ثم سك َت‪ .‬قال‪:‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪019‬‬

‫ثم مكث ُت قلي ًلا‪ ،‬ثم قم ُت فدخلت بيتي‪ ،‬ثم أمر ُت بفرسي ف ُق ِّيد لي إلى بط ِن‬
‫الوادي‪ ،‬وأمر ُت بسلاحي ف ُأخر َج لي من ُدبر ُحجرتي‪ ،‬ثم أخذت ِقداحي التي‬
‫أست ْق ِسم بها‪ ،‬ثم انطلق ُت فلبِست لأْ َمتي(‪ ،)1‬ثم أخرجت ِقداحي فاس َتقسمت بها‪،‬‬
‫فخرج السه ُم الذي أكره‪« :‬لا َي ُضر ُه»(‪ .)2‬قال‪ :‬وكنت أرجو أن أر َّده على قري ٍش‪،‬‬
‫فآخذ المئ َة الناقة‪ .‬قال‪ :‬فركبت على أث ِره‪ ،‬فبينما فرسي َيشت ُّد بي َع َث َر بي؛ فسقط ُت‬
‫عنه‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬ما هذا؟ قال‪ :‬ثم أخرجت ِقداحي فاس َتقسمت بها‪ ،‬فخر َج‬
‫السه ُم الذي أكره‪« :‬لا َيضره»‪ .‬قال‪ :‬فأ َبي ُت إلا أن أ َّتبعه‪ .‬قال‪ :‬فركبت في أث ِره‪،‬‬
‫فبينا فرسي َيشت ُّد بي‪َ ،‬ع َثر بي؛ فسقط ُت عنه‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬ما هذا؟ قال‪ :‬ثم‬
‫أخرجت ِقداحي فاستقسمت بها فخرج السه ُم الذي أكره‪« :‬لا َيضره»‪ .‬قال‪:‬‬
‫فأبي ُت إلا أن أ َّتبعه‪ ،‬فركبت في أث ِره‪ ،‬فلما بدا لي القو ُم ورأي ُتهم‪ ،‬ع َثر بي فرسي‪،‬‬
‫فذه َبت يداه في الأر ِض؛ وسقط ُت عنه‪ ،‬ثم انتز َع ي َديه من الأر ِض‪ ،‬و َتبعهما دخا ٌن‬
‫كالإعصار‪ .‬قال‪ :‬فع َرفت حين رأي ُت ذلك أنه قد ُمنِ َع منِّي‪ ،‬وأنه ظاه ٌر‪ .‬قال‪:‬‬
‫فنادي ُت القو َم فقلت‪ :‬أنا سراق ُة بن ُجع ُش ٍم‪ ،‬انظروني أك ِّل ْمكم‪ ،‬فوالله لا أري ُبكم‪،‬‬
‫ولا يأتيكم م ّنِي شي ٌء تكرهو َنه‪ .‬قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ لأبي بكر‪ُ « :‬ق ْل له‪ :‬وما‬
‫َتبت ِغي م َنّا؟»‪ .‬قال‪ :‬فقال ذلك أبو بكر‪ .‬قال‪ :‬قل ُت‪ :‬تك ُتب لي كتا ًبا يكون آي ًة بيني‬

‫وبينِك‪ .‬قال‪« :‬اك ُت ْب له يا أبا بك ٍر»‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما خرج بهما دلي ُلهما عب ُد الله بن أرق َط سلك بهما أسف َل‬
‫م َّك َة‪ ،‬ثم مضى بهما على الساح ِل‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّل ْأ َمة‪ :‬الدرع والسلاح‪.‬‬
‫(‪)2‬فخرج السه ُم الذي أكره «لا يضه»‪ :‬أي‪ :‬خرج السهم المكتوب فيه «لا يضه»‪.‬‬

‫‪ | 001‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ثم ق ِدم بهما ُقبا َء على بني عم ِرو بن عو ٍف لاثن َتي عشر َة ليل ًة خلت من شهر‬
‫ربي ٍع الأول يو َم الاثنين حين اشت َّد ال َّضحا ُء وكادت الشم ُس تعتدل‪.‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عبد الرحمن بن عويم ٍر قال‪ :‬حدثني رجا ٌل من قومي‬
‫من أصحا ِب رسو ِل الله ﷺ قالوا‪ :‬لما س ِمعنا ب َمخر ِج رسو ِل الله ﷺ من م َّك َة‪،‬‬
‫وتو َّكفنا(‪ُ )1‬قدو َمه‪ ،‬كنا نخرج إذا ص َّلينا الصب َح‪ ،‬إلى ظاه ِر ح َّرتنا ننتظ ُر رسو َل الله‬

‫ﷺ‪.‬‬
‫فوالله ما نبر ُح حتى َتغل َبنا الشم ُس على الظلا ِل فإذا لم نجد ِظ الا دخلنا‪،‬‬

‫وذلك في أيام حار ٍة‪.‬‬
‫حتى إذا كان اليو ُم الذي ق ِدم فيه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬جلسنا كما كنا َنجلس‪،‬‬
‫حتى إذا لم َيب َق ظل دخلنا بيو َتنا‪ ،‬وقدم رسو ُل الله ﷺ حين دخلنا ال ُبيو َت‪ ،‬فكان‬
‫أ َّو َل من رآه رج ٌل من اليهو ِد وقد رأى ما كنا نصن ُع‪ ،‬وأنا ننتظر ُقدو َم رسو ِل الله‬

‫ﷺ علينا‪ ،‬فصر َخ بأعلى صوتِه‪ :‬يا َبني َقي َل َة(‪ ،)2‬هذا ج ُّدكم قد جاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخرجنا إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وهو في ِظ ِّل نخل ٍة‪ ،‬ومعه أبو بك ٍر ‪‬‬
‫في ِمثل سنِّه‪ ،‬وأكث ُرنا لم يكن رأى رسو َل الله ﷺ قبل ذلك‪ ،‬و َر ِك َب ُه النا ُس(‪ )3‬وما‬
‫َيعرفو َنه من أبي بك ٍر‪ ،‬حتى زال ال ِّظ ُّل عن رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقام أبو بك ٍر فأظ َّله‬

‫بردا ِئه؛ فعرفناه عند ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬توكفنا‪ :‬استشعرنا وانتظرنا‪.‬‬
‫(‪ )2‬بنو َق ْي َلة‪ :‬يعني الأنصار‪ ،‬وهو اسم جدة كانت َلم‪.‬‬

‫(‪ )3‬أي‪ :‬ازدحموا عليه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪000‬‬

‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬فأقام رسو ُل الله ﷺ ب ُقبا َء في َبني عم ِرو بن عو ٍف‪ ،‬يو َم‬
‫الاثنين ويو َم الثلاثاء ويو َم الأربعاء ويوم الخمي ِس‪ ،‬وأ َّسس مسج َده‪.‬‬

‫ثم أخرجه الل ُه من بين أظ ُهرهم يو َم الجمع ِة‪ ،‬وبنو عم ِرو بن عو ٍف يزعمون‬
‫أنه َمكث فيهم أكث َر من ذلك‪ ،‬فالل ُه أعلم أ َّي ذلك كان‪.‬‬

‫فأدرك ْت رسو َل الله ﷺ الجمع ُة في بني سالم بن عو ٍف‪ ،‬فص َّلاها في المسجد‬
‫الذي في بط ِن الوادي‪ ،‬وادي رانونا َء‪ ،‬فكانت أ َّو َل جُ ُمع ٍة صلاها بالمدين ِة‪.‬‬

‫فأتاه رجا ٌل من بني سالمِ بن عوف‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أ ِقم عندنا في ال َعد ِد‬
‫والع َّدة وال َمنع ِة‪.‬‬

‫قال‪« :‬خلوا سبيلها‪ ،‬فإنها مأمورة» لناقته‪ ،‬فخلوا سبي َلها‪ ،‬فانطلقت حتى إذا‬
‫وازنت دا َر بني بياض َة؛ تل َّقاه رجا ٌل من بني بياض َة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪َ :‬ه ُل َّم‬

‫إلينا‪ ،‬إلى ال َعدد وال ُعدة والمنع ِة‪.‬‬

‫قال‪« :‬خلوا سبي َلها فإنها مأمورة»‪ ،‬فخلوا سبيلها‪ ،‬فانطل َق ْت‪ ،‬حتى إذا مرت‬
‫بدار بني ساعد َة‪ ،‬اعترضه رجا ٌل من بني ساعد َة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪َ ،‬ه ُل َّم إلينا‬

‫إلى ال َعدد وال ُع َّد ِة والمَنع ِة‪.‬‬

‫قال‪« :‬خلوا سبي َلها‪ ،‬فإنها مأمورة»‪ ،‬فخلوا سبي َلها‪ ،‬فانطلق ْت‪ ،‬حتى إذا‬
‫وا َزنت دا َر بني الحار ِث بن الخزرج اعتر َضه رجا ٌل من بني الحار ِث بن الخزر ِج‬

‫فقالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪َ ،‬ه ُل َّم إلينا إلى ال َعدد والعد ِة والمنع ِة‪.‬‬

‫قال‪« :‬خلوا سبي َلها‪ ،‬فإنها مأمورة»‪ ،‬فخلوا سبيلها‪ ،‬فانطلق ْت‪ ،‬حتى إذا‬
‫م َّرت بدار َبني عد ِّي بن النجار‪ ،‬وهم أخوا ُله ‪-‬أ ُّم عبد الم َّطلب‪ :‬سلمى بن ُت‬

‫‪ | 002‬مختصر السيرة النبوية‬

‫عمرو‪ ،‬إحدى نسائهم‪ -‬اعتر َضه رجا ٌل من بني عد ِّي بن النجار‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسو َل‬
‫الله‪َ ،‬ه ُل َّم إلى أخوالِك‪ ،‬إلى العد ِد وال ُعدة والمنع ِة‪.‬‬

‫قال‪« :‬خلوا سبي َلها فإنها مأمورة»‪ ،‬فخلوا سبي َلها‪ ،‬فانطلق ْت‪ ،‬حتى إذا أتت‬
‫دا َر بني مال ِك بن النجار‪ ،‬ب َركت على با ِب مسج ِده ﷺ‪ ،‬وهو يومئ ٍذ ِمر َب ٌد(‪)1‬‬

‫لغلامين يتيمي ِن من بني النجا ِر‪ ،‬ثم من َبني مال ِك بن النجا ِر‪.‬‬
‫فلما بر َكت ‪-‬ورسو ُل الله ﷺ عليها لم ينز ْل ‪-‬وث َبت فسارت غي َر بعي ٍد‪،‬‬
‫ورسو ُل الله ﷺ واض ٌع َلا زما َمها لا ُيثنيها به‪ ،‬ثم التفتت إلى خل ِفها‪ ،‬فرجعت إلى‬
‫َمبر ِكها أ َّو َل مر ٍة‪ ،‬فبركت فيه‪ ،‬ثم َت َح ْل َح َل ْت(‪ )2‬و َر َز َم ْت(‪ )3‬ووضع َت ِجرانها(‪،)4‬‬
‫فنزل عنها رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فاحتمل أبو أيو َب خال ُد بن زي ٍد رح َله‪ ،‬فوضعه في بيتِه‪،‬‬

‫ونزل عليه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وسأل عن المِربد‪« :‬لمن هو؟»‬

‫فقال له معا ُذ بن َعفرا َء‪ :‬هو يا رسو َل الله لسه ٍل و ُسهي ٍل ابني عمرو‪ ،‬وهما‬
‫يتيمان لي‪ ،‬وس ُأرضيهما منه‪ ،‬فا َّتخذه مسج ًدا‪.‬‬

‫قال‪ :‬فأمر به رسو ُل الله ﷺ أن ُيبنَى مسج ًدا‪ ،‬ونز َل رسو ُل الله ﷺ على أبي‬
‫أيو َب حتى ُبني مسج ُده ومساكنه‪ ،‬فع ِمل فيه رسو ُل الله ﷺ ل ُير ِّغ َب المسلمين في‬

‫العم ِل فيه‪ ،‬فع ِمل فيه المُهاجرون والأنصا ُر‪ ،‬ودأبوا فيه‪.‬‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وتلاح َق ال ُمهاجرو َن إلى رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فلم َيبق بم َّك َة‬

‫منهم أح ٌد‪ ،‬إلا َمفتو ٌن أو مَحبو ٌس‪.‬‬

‫(‪ )1‬المِ ْر َبد‪ :‬الموضع الذي يجفف فيه التمر‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ت َح ْل َح َل ْت‪ :‬تحركت وانزجرت‪.‬‬

‫(‪َ )3‬ر َز َم ْت‪ :‬قامت من الإعياء واَلزال ولم تتحرك‪.‬‬
‫(‪ )4‬ال ِج َران‪ :‬ما يصيب الأرض من صدر الناقة وباطن حلقها‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪003‬‬

‫[القسم الثاني‪ :‬العهد المدني]‬

‫‪ | 004‬مختصر السيرة النبوية‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪005‬‬

‫[أولا‪ :‬تأسيس الدولة]‬

‫‪ -1‬كتاُبه ﷺ بين الُمهاجرين والأنصار ومُوادعة يهودَ‬
‫قال اب ُن إسحا َق‪ :‬وكتب رسو ُل الله ﷺ كتا ًبا بين ال ُمهاجرين والأنصا ِر واد َع‬

‫فيه ُو َد وعاهدهم‪ ،‬وأق َّرهم على دينِهم وأمواَ ِلم‪ ،‬وشر َط َلم‪ ،‬واشتر َط عليهم‪.‬‬
‫‪ -2‬المُؤاخاةُ بين المهاجرين والأنصاِر‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وآخى رسو ُل الله ﷺ بين أصحابِه من المُهاجرين‬
‫والأنصار‪.‬‬

‫‪ -3‬الأعدا ُء من يهودَ‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ونصبت عند ذلك أحبا ُر ُود لرسو ِل الله ﷺ العداو َة‪،‬‬
‫بغ ًيا وحس ًدا و ِضغنًا؛ لما خ َّص الله تعالى به العر َب من أخ ِذه رسو َله منهم‪،‬‬
‫وانضاف إليهم رجا ٌل من الأو ِس والخزرج‪ ،‬ممن كان َع ِس َي على جاهليته فكانوا‬
‫أه َل نفا ٍق على دين آبا ِئهم من الشر ِك والتكذيب بال َبعث‪ ،‬إلا أن الإسلا َم ق َهرهم‬
‫بظهو ِره واجتما ِع قو ِمهم عليه‪ ،‬فظهروا بالإسلام‪ ،‬واتخذوه ُجنَّ ًة من القت ِل ونافقوا‬

‫في الس ِّر‪ ،‬وكان هوا ُهم مع ُو َد؛ لتكذيبهم النب َّي ﷺ‪ ،‬و ُجحودهم الإسلا َم‪.‬‬
‫وكانت أحبا ُر ُو َد هم الذين َيسألون رسو َل الله ﷺ ويتعنَّتونه‪ ،‬ويأتونه‬
‫بال َّلبس؛ ل َيلبسوا الح َّق بالباط ِل‪ ،‬فكان القرآ ُن ينزل فيهم فيما يسألون عنه‪ ،‬إلا قلي ًلا‬

‫من المسائ ِل في الحلا ِل والحرام كان المُسلمون َيسألون عنها‪.‬‬

‫‪ | 006‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فهؤلاء أحبا ُر اليهو ِد وأه ُل الشرو ِر والعداو ِة لرسو ِل الله ﷺ وأصحابِه‪،‬‬
‫وأصحاب المسألة‪ ،‬والنصب لأم ِر الإسلام الشرو َر ل ُيطفئوه‪ ،‬إلا ما كان من عب ِد‬

‫الله بن سلام ومُخيري ٍق‪.‬‬

‫‪َ -4‬من اجتمع إلى يهو َد من مُنافقي الأنصارِ‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان ممن انضا َف إلى ُو َد‪ ،‬من ُس ِّمي لنا من المنافقين من‬
‫الأو ِس والخزرج‪.‬‬

‫وكان هؤلاء المنافقون َيحضون المسج َد فيستمعون أحادي َث المسلمين‪،‬‬
‫ويسخرون ويستهزؤون بدينِهم‪ ،‬فاجتمع يو ًما في المسج ِد منهم نا ٌس‪ ،‬فرآهم‬
‫رسو ُل الله ﷺ يتح َّدثون بينهم‪ ،‬خافِضي أصواتِهم‪ ،‬قد لصق بع ُضهم ببع ٍض‪ ،‬فأمر‬

‫بهم رسو ُل الله ﷺ ف ُأخرجوا من المسج ِد إخرا ًجا عني ًفا‪.‬‬

‫ففي هؤلاء ‪-‬من أحبار ُو َد والمنافقين من الأو ِس والخزرج‪ -‬نز َل صد ُر‬
‫سورة البقر ِة إلى المئة منها ‪-‬فيما بلغني‪ -‬والله أعل ُم‪.‬‬

‫‪ِ -5‬ذك ُر من اعت َلّ من أصحابِ رسو ِل الله ﷺ‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة ‪ ،‬قالت‪ :‬لما ق ِدم رسو ُل الله ﷺ‬
‫المدين َة‪ ،‬ق ِدمها وهي أوب ُأ أر ِض الله من الحُ َّمى‪ ،‬فأصاب أصحابه منها بلا ٌء وسق ٌم‪،‬‬

‫فصرف الله تعالى ذلك عن نب ِّيه ﷺ‪.‬‬

‫قالت فكان أبو بكر‪ ،‬وعام ُر بن ُفهير َة‪ ،‬وبلا ٌل ‪َ -‬م ْوليا أبي بكر‪ -‬مع أبي بكر‬
‫في بي ٍت واحد‪ ،‬فأصابتهم ال ُح َّمى‪ ،‬فدخل ُت عليهم َأ ُعو ُدهم‪ ،‬وذلك قبل أن ُيض َب‬

‫علينا الحجا ُب‪ ،‬وبهم ما لا يعلمه إلا اللهُ من ش َّد ِة الوعك‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪007‬‬

‫فقلت لرسو ِل الله ﷺ‪ :‬إنهم ل َيهذون وما َيع ِقلون من شد ِة الح َّمى؛ فقال‬
‫رسو ُل الله ﷺ‪« :‬اللهم ح ِبب إلينا المدين َة كما حب َّبت إلينا م َّك َة أو أشد‪ ،‬وبا ِرك لنا في‬

‫ُم ِدها وصاعها‪ ،‬وان ُقل وباءها إلى َم ْهيع َة»‪ .‬ومهيع ُة‪ :‬ال ُجحفة‪.‬‬

‫‪ -6‬تاريخُ الهجرِة‬
‫ق ِدم رسو ُل الله ﷺ المدين َة يو َم الاثنين‪ ،‬حين اشت َّد ال َّضحاء‪ ،‬وكاد ِت‬
‫الشم ُس تعتدل لثنتي عشر َة ليل ًة مضت من شهر ربي ٍع الأ َّو ِل‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ‬
‫يومئ ٍذ اب ُن ثلاث وخمسين سن ًة‪ ،‬وذلك بعد أن بعثه الل ُه ‪ ‬بثلاث عشر َة سنة‪،‬‬
‫فأقام بها بقي َة شهر ربي ٍع الأول‪ ،‬وشهر ربي ٍع الآخ ِر‪ ،‬وجُماديين‪ ،‬ورج ًبا‪ ،‬وشعبا َن‪،‬‬
‫وشهر رمضا َن‪ ،‬وش َّوالا‪ ،‬وذا القعدة‪ ،‬وذا الح َّجة ‪-‬و َو ِل َي تلك الحج َة المشركون‪-‬‬

‫والمحرم‪.‬‬

‫‪ | 008‬مختصر السيرة النبوية‬

‫[ثانيا‪ :‬الغزوات والسرايا والبعوث]‬

‫‪َ -1‬غزوُة و َّدان وهي أول غزواته عليه الصلاُة والسلام‬
‫ثم خرج غاز ًيا في صفر على رأ ِس اثني ع َشر شه ًرا من َمق َدمه المدين َة حتى‬
‫بلغ ودا َن ‪-‬وهي غزو ُة الأبوا ِء‪ -‬يريد قري ًشا وبني ضمر َة بن بكر‪ ،‬فواد َعته فيها بنو‬

‫ضمر َة‪ ،‬ثم رجع رسو ُل الله ﷺ إلى المدين ِة ولم يلق كي ًد‪.‬‬
‫‪َ -2‬سريةُ عبيدة بن الحار ِث وهي أول راي ٍة عقدها عليه الصلاُة والسلام‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وبعث رسو ُل الله ﷺ في ُمقامه ذلك بالمدين ِة ُعبيد َة ب َن‬
‫الحارث في س ِّتين أو ثمانين راك ًبا من المهاجرين‪ ،‬ليس فيهم من الأنصا ِر أح ٌد‪ ،‬فسار‬
‫حتى بلغ ما ًء بالحجاز بأسفل ثنية المُ َّر ِة‪ ،‬فلقي بها جم ًعا عظي ًما من قري ٍش‪ ،‬فلم يكن‬
‫بينهم قتا ٌل‪ ،‬إلا أن سع َد بن أبي وقا ٍص قد َرمى يومئ ٍذ بسهم‪ ،‬فكان أ َّو َل سهم ُر ِم َي‬

‫به في الإسلام‪ ،‬ثم انصرف القو ُم عن القو ِم‪ ،‬وللمسلمين حامي ٌة‪.‬‬
‫‪َ -3‬غزوةُ َس َف َوانَ وهي غزوة بدٍر الأولى‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولم ُيقم رسو ُل الله ﷺ بالمدينة حين ق ِدم من غزو ِة ال ُعشيرة‬
‫إلا ليالي قلائ َل لا تب ُلغ العش َر‪ ،‬حتى أغار ُكرز ب ُن جاب ٍر ال ِفهر ُّي على َس ْر ِح(‪)1‬‬
‫المدينة‪ ،‬فخرج رسو ُل الله ﷺ في طلبِه حتى بلغ واد ًيا ُيقال له‪َ :‬س َف َوا ُن‪ ،‬من ناحية‬

‫بد ٍر‪ ،‬وفاته كر ُز بن جاب ٍر‪ ،‬فلم يدركه‪ ،‬وهي غزو ُة بدر الأولى‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّس ْرح‪ :‬مرعى الأنعام‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪009‬‬

‫‪ -4‬سري ُة عب ِد الله بنِ َجحشٍ‬

‫وبعث رسو ُل الله ﷺ عب َد الله ب َن جحش بن رئاب الأسدي في رج ٍب‪،‬‬
‫َمقف َله من بد ٍر الأولى‪ ،‬وبعث معه ثماني َة ره ٍط من المُهاجرين‪ ،‬ليس فيهم من‬
‫الأنصار أح ٌد‪ ،‬وكتب له كتا ًبا وأم َره ألا ينظ َر فيه حتى يسي َر يومي ِن ثم ينظر فيه‬

‫ف َيمضي لما أم َره به‪ ،‬ولا َيستكره من أصحابه أح ًدا‪.‬‬
‫فلما سار عب ُد الله بن جح ٍش يومي ِن فتح الكتا َب فنظر فيه فإذا فيه‪« :‬إذا‬
‫نظر َت في كتابي هذا فام ِض حتى تنز َل نخل َة‪ ،‬بين مك َة والطائ ِف‪ ،‬فت ُصد بها قريشا‬

‫وتعل َم لنا من أخبا ِرهم»‪.‬‬

‫فلما نظر عب ُد الله بن جح ٍش في الكتاب قال‪ :‬سم ًعا وطاع ًة‪ ،‬ثم قال‬
‫لأصحابه‪ :‬قد أمرني رسو ُل الله ﷺ أن أمض َي إلى نخل َة‪ ،‬أرص َد بها قري ًشا‪ ،‬حتى آتيه‬
‫منهم بخب ٍر‪ ،‬وقد نهاني أن أستكره أح ًدا منكم‪ ،‬فمن كان منكم يريد الشهاد َة‬
‫ويرغ ُب فيها فلينطل ْق‪ ،‬ومن كره ذلك فليرج ْع‪ ،‬فأما أنا فما ٍض لأمر رسو ِل الله‬

‫ﷺ‪ ،‬فمضى ومضى معه أصحا ُبه لم يتخ َّلف عنه منهم أح ٌد‪.‬‬
‫ومضى عب ُد الله بن جح ٍش وأصحا ُبه حتى نزل بنخل َة‪ ،‬فمرت به ِعي ٌر لقري ٍش‬

‫تحمل زبي ًبا وأد ًما وتار ًة من تارة قريش فيها عمرو ب ُن الحضمي‪.‬‬

‫فلما رآهم القو ُم هابوهم وقد نزلوا قري ًبا منهم‪ ،‬وتشاور القو ُم فيهم وذلك‬
‫في آخر يو ٍم من رج ٍب فقال القو ُم‪ :‬والله لئن تركتم القو َم هذه الليل َة ل َيد ُخل َّن‬
‫الحر َم‪َ ،‬ف َل َي ْم َتنِ ُع َّن منكم به‪ ،‬ولئن قتلتموهم َل َت ْق ُت ُلنَّ ُه ْم في الشهر الحرا ِم‪ ،‬فتردد القو ُم‬
‫وهابوا الإقدا َم عليهم‪ ،‬ثم ش َّجعوا أنف َسهم عليهم‪ ،‬وأجمعوا على قت ِل من قدروا‬

‫عليه منهم وأخ ِذ ما معهم‪.‬‬

‫‪ | 021‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فرمى واق ُد بن عب ِد الله التميم ُّي عم َرو بن الحضم ِّي بسهم فقتله‪ ،‬واستأس َر‬
‫عثما َن ب َن عبد الله‪ ،‬والحك َم بن كيسا َن‪ ،‬وأفلت القو ُم نوف َل بن عبد الله فأعجزهم‪.‬‬

‫وأقبل عب ُد الله بن جح ٍش وأصحا ُبه بالعي ِر وبالأسيرين‪ ،‬حتى ق ِدموا على‬
‫رسو ِل الله ﷺ المدين َة‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما قدموا على رسو ِل الله ﷺ المدين َة قال‪« :‬ما أمر ُتكم‬
‫بقتا ٍل في الشهر الحرا ِم»‪.‬‬

‫فو َّقف العي َر والأسيرين‪ ،‬وأبى أن يأخ َذ من ذلك شي ًئا‪ ،‬فلما قال ذلك رسو ُل‬
‫الله ﷺ ُسق َط في أيدي القو ِم‪ ،‬وظنوا أنهم قد َه َلكوا‪ ،‬وعنَّفهم إخوانُهم من‬

‫المسلمين فيما صنعوا‪.‬‬

‫وقالت قري ٌش قد استح َّل محم ٌد وأصحا ُبه الشه َر الحرا َم‪ ،‬وسفكوا فيه الد َم‪،‬‬
‫وأخذوا فيه الأموا َل‪ ،‬وأسروا فيه الرجا َل‪ ،‬فقال من َي ُر ُّد عليهم من المسلمين ممن‬

‫كان بم َّك َة‪ :‬إنما أصابوا ما أصابوا في شعبا َن‪.‬‬
‫فلما أكثر النا ُس في ذلك أنزل اللهُ على رسولِه ﷺ‪( :‬ﭮﭯﭰﭱ‬
‫ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ‬

‫ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ‬

‫ﮔﮕﮖ) [البقرة‪.]557:‬‬

‫فلما نزل القرآ ُن بهذا من الأم ِر‪ ،‬وف َّرج الل ُه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من‬
‫الشف ِق قب َض رسو ُل الله ﷺ العي َر والأسيرين‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪020‬‬

‫‪ -5‬صر ُف القبل ِة إلى الكعبةِ‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ويقال‪ُ :‬صرفت القبل ُة في شعبا َن على رأ ِس ثمانية ع َشر‬
‫شه ًرا من َمق َدم رسو ِل الله ﷺ المدينة‪.‬‬

‫‪َ -6‬غزوةُ بدرٍ الكُبرى‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن رسو َل الله ﷺ سم َع بأبي سفيا َن بن حرب ُمقب ًلا من‬
‫الشأم في ِعي ٍر لقري ٍش عظيم ٍة‪ ،‬فيها أموا ٌل لقريش وتار ٌة من تاراتهم‪ ،‬وفيها‬

‫ثلاثون رج ًلا من قري ٍش أو أربعون‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬لما سمع رسو ُل الله ﷺ بأبي ُسفيا َن ُمقب ًلا من الشأم‪ ،‬ندب‬
‫المسلمين إليهم وقال‪« :‬هذه ِعي ُر قري ٍش فيها أمواهُمم فاخرجوا إليها لعل اللهَ‬

‫ُين ِفل ُكموها»‪.‬‬

‫فان ُتدب النا ُس‪ ،‬فخف بع ُضهم وث ُقل بع ُضهم‪ ،‬وذلك أنهم لم يظنوا أن‬
‫رسو َل الله ﷺ يلقى َحر ًبا‪.‬‬

‫وكان أبو سفيان حين دنا من الحجا ِز يتح َّس ُس الأخبا َر ويسأل من لقي من‬
‫ال ُّركبان تخ ُّو ًفا على أمر النا ِس‪ ،‬حتى أصاب خب ًرا من بعض الركبا ِن أن محم ًدا قد‬
‫استنفر أصحا َبه لك ول ِعيرك‪ ،‬ف َح ِذ َر عند ذلك؛ فاستأجر َضمض َم بن عم ٍرو‬
‫الغفار َّي‪ ،‬فبعثه إلى مك َة‪ ،‬وأمره أن يأتي قري ًشا فيستن ِف َرهم إلى أمواَلم‪ ،‬ويخبرهم أن‬

‫محم ًدا قد عرض َلا في أصحابِه‪.‬‬

‫‪ | 022‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فتجهز النا ُس ِسرا ًعا وقالوا‪ :‬أيظ ُّن محم ٌد وأصحا ُبه أن تكون كعير ابن‬
‫الحضم ِّي‪ ،‬كلا والله ليعلمن غي َر ذلك‪ ،‬فكانوا بين رجلين‪ :‬إما خار ٍج‪ ،‬وإما باعث‬

‫مكانه رج ًلا‪ ،‬وأو َعب ْت قري ٌش(‪ ،)1‬فلم يتخلف من أشرافِها أح ٌد‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عرو َة بن الزبير قال‪ :‬لما أجمعت قري ٌش المسي َر ذكرت‬
‫الذي كان بينها وبين بني بك ٍر‪ ،‬فكاد ذلك يثنيهم‪ ،‬فتب َّدى َلم إبلي ُس في صورة‬
‫ُسراق َة بن مالك بن ُجع ُشم ال ُمدلجي‪ ،‬وكان من أشراف بني ِكنان َة‪ ،‬فقال َلم‪ :‬أنا‬

‫لكم جا ٌر من أن تأتيكم كنان ُة من خلفكم بشي ٍء تكرهونه؛ فخرجوا سرا ًعا‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وخرج رسو ُل الله ﷺ في ليا ٍل مضت من شهر رمضا َن في‬

‫أصحابه‪ ،‬واستعمل عم َرو بن أم َمكتو ٍم على المدينة‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ودفع اللوا َء إلى ُمصع ِب بن عمير وكان أبي َض‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان أما َم رسو ِل الله ﷺ رايتا ِن سوداوان‪ :‬إحداهما مع‬
‫عل ِّي بن أبي طالب ُيقال َلا‪ :‬ال ُعقاب‪ ،‬والأخرى مع بع ِض الأنصار‪ ،‬وكانت راي ُة‬

‫الأنصار مع سع ِد بن ُمعاذ‪ ،‬فيما قال اب ُن هشام‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكانت إب ُل أصحاب رسو ِل الله ﷺ يومئ ٍذ سبعين بعي ًرا‬

‫فاعتقبوها‪.‬‬

‫وأتاه الخب ُر عن قري ٍش بمسيرهم ليمنعوا عي َرهم‪ ،‬فاستشار النا َس‪،‬‬
‫وأخبرهم عن قري ٍش‪ ،‬فقام أبو بكر الصدي ُق فقال وأحسن‪ ،‬ثم قام عم ُر بن‬

‫الخطاب فقال وأحسن‪.‬‬

‫(‪َ )1‬أ ْو َع َب ْت قريش‪ :‬حشدت‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪023‬‬

‫ثم قام المِقدا ُد بن عمرو فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬ام ِض لما أراك اللهُ فنحن معك‪،‬‬
‫والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل ل ُموسى‪( :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ) [المائدة‪ ،]50:‬ولكن اذهب أنت ور ُّبك فقاتلا إنا َمعكما‬
‫مقاتلون‪ ،‬فوالذي بعثك بالح ِّق لو سر َت بنا إلى َب ْر ِك ال ِغماد(‪ )1‬لجالدنا معك َمن‬

‫دو َنه حتى تب ُل َغه‪ ،‬فقال له رسو ُل الله ﷺ خي ًرا‪ ،‬ودعا له به‪.‬‬
‫ثم قال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬أشيروا ع َّل أيها النا ُس» وإنما يريد الأنصا َر‪ ،‬وذلك‬
‫أنهم عد ُد النا ِس‪ ،‬وأنهم حين بايعوه بال َع َقبة قالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬إنا برا ٌء من‬
‫ذما ِمك حتى تص َل إلى ديارنا‪ ،‬فإذا وصل َت إلينا‪ ،‬فأنت في ذ َّمتنا نمن ُعك مما نمنع‬

‫منه أبناءنا ونسا َءنا‪.‬‬

‫فكان رسو ُل الله ﷺ يتخ َّو ُف ألا تكون الأنصا ُر ترى عليها َنص َره إلا ممن‬
‫د َه َم ُه بالمدين ِة من عد ِّوه‪ ،‬وأن ليس عليهم أن يسي َر بهم إلى عد ٍّو من بلادهم‪.‬‬

‫فلما قال ذلك رسو ُل الله ﷺ؛ قال له سع ُد بن معا ٍذ‪ :‬والله لكأنك تري ُدنا يا‬
‫رسو َل الله؟‬

‫قال‪َ « :‬أ َج ْل»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد آمنا بك وص َّدقناك وش ِهدنا أن ما جئ َت به هو الح ُّق وأعطيناك على‬
‫ذلك ُعهو َدنا ومواثيقنا على السم ِع والطاع ِة؛ فامض يا رسو َل الله لما أرد َت فنحن‬
‫معك‪ ،‬فوالذي بع َثك بالح ِّق‪ ،‬لو استع َر ْضت بنا هذا البح َر ف ُخضته لخضناه معك‪،‬‬
‫ما تخ َّلف منا رج ٌل واح ٌد‪ ،‬وما نكره أن َتلقى بنا عدونا غ ًدا‪ ،‬إنا ل ُص ُبر في الحر ِب‪،‬‬

‫ُص ُد ٌق في اللقا ِء‪ ،‬لعل الله ُيريك منا ما َتق ُّر به عي ُنك؛ ف ِسر بنا على بركة الله‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ب ْرك الغماد‪ :‬موضع باليمن‪.‬‬

‫‪ | 024‬مختصر السيرة النبوية‬

‫ف ُس َّر رسو ُل الله ﷺ بقول سع ٍد‪ ،‬ون َّشطه ذلك‪ ،‬ثم قال‪« :‬سيروا وأبشوا‪،‬‬
‫فإن الل َه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتي ِن‪ ،‬والله لكأني الآن أنظ ُر إلى َمصار ِع القو ِم»‪.‬‬
‫نزل ﷺ قري ًبا من بدر‪ ،‬فركب هو ورج ٌل من أصحابِه حتى وق َف على شي ٍخ‬
‫من العر ِب‪ ،‬فسأله عن قري ٍش‪ ،‬وعن محمد وأصحابِه‪ ،‬وما بلغه عنهم‪ ،‬فقال‬

‫الشي ُخ‪ :‬لا أخب ُركما حتى ُتخبراني ممن أنتما؟‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬إذا أخبر َتنا أخبرناك»‪.‬‬

‫قال‪ :‬أذاك بذاك؟‬

‫قال‪« :‬نعم»‪.‬‬

‫قال الشيخ‪ :‬فإنه بل َغني أن محم ًدا وأصحا َبه خرجوا يو َم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان‬
‫ص َد َق الذي أخبرني‪ ،‬فهم اليو َم بمكا ِن كذا وكذا‪ ،‬للمكا ِن الذي به رسو ُل الله ﷺ‪،‬‬
‫وبلغني أن قري ًشا خرجوا يو َم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان الذي أخبرني ص َدقني فهم اليو َم‬

‫بمكان كذا وكذا للمكا ِن الذي فيه قري ٌش‪.‬‬

‫فلما فرغ من خب ِره قال‪ :‬ممَّن أنتما؟‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬نحن من ما ٍء» ثم انصرف عنه‪.‬‬

‫قال يقول الشي ُخ‪ :‬ما من ماء‪ ،‬أمن ماء ال ِعراق؟!‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم رجع رسو ُل الله ﷺ إلى أصحابِه‪ ،‬فلما أمسى بعث عل َّي‬
‫بن أبي طالب‪ ،‬والزبي َر بن الع َّوام‪ ،‬وسع َد بن أبي وقاص‪ ،‬في نف ٍر من أصحابه‪ ،‬إلى‬
‫ماء بد ٍر‪ ،‬يلتمسون الخبر له عليه ‪-‬كما ح َّدثني يزي ُد بن رومان‪ ،‬عن عرو َة بن‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪025‬‬

‫الزبير‪ -‬فأصابوا راوي ًة لقري ٍش فيها أسل ُم ‪-‬غلا ُم بني الحجاج‪ -‬و َعري ٌض أبو يسا ٍر‬
‫‪-‬غلا ُم بني العاص بن سعي ٍد‪ -‬فأتوا بهما فسألوهما‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ قائ ٌم ُيصلي‪،‬‬

‫فقالا‪ :‬نحن ُسقا ُة قري ٍش‪ ،‬بعثونا َنسقيهم من الما ِء‪.‬‬
‫فكره القو ُم خب َرهما‪ ،‬ورجوا أن يكونا لأبي سفيان؛ فضبوهما‪ ،‬فلما أذلقوهما‬

‫قالا‪ :‬نحن لأبي سفيا َن؛ فتركوهما‪.‬‬

‫وركع رسو ُل الله ﷺ وسجد سجد َتيه‪ ،‬ثم س َّلم‪ ،‬وقال‪« :‬إذا َص َدقاكم‬
‫ضربتموهما‪ ،‬وإذا َك َذباكم ترك ُتموهما‪ ،‬صد َقا والله‪ ،‬إنهما لقري ٍش‪ ،‬أخ ِبراني عن‬

‫قري ٍش؟»‬
‫قالا‪ :‬هم والله ورا َء هذا الكثي ِب الذي ترى بال ُعدوة ال ُقصوى ‪-‬والكثي ُب‪:‬‬

‫ال َعقنق ُل‪ -‬فقال َلما رسو ُل الله ﷺ‪« :‬كم القو ُم؟»‪.‬‬
‫قالا‪ :‬كثي ٌر‪.‬‬

‫قال‪« :‬ما ِع َّد ُتم؟»‪.‬‬

‫قالا‪ :‬لا ندري‪.‬‬

‫قال‪« :‬كم َينحرون ك َّل يوم؟»‪.‬‬
‫قالا‪ :‬يو ًما تس ًعا‪ ،‬ويو ًما عش ًرا‪.‬‬
‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬القو ُم فيما بين التسع مئ ِة والألف»‪.‬‬
‫ثم قال َلما‪« :‬فمن فيهم من أشرا َِ قري ٍش؟»‪.‬‬

‫‪ | 026‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قالا‪ :‬عتب ُة بن ربيع َة‪ ،‬وشيب ُة بن ربيع َة‪ ،‬وأبو ال َبختري بن هشام‪ ،‬وحكي ُم بن‬
‫ِحزام‪ ،‬ونوفل بن ُخويلد‪ ،‬والحار ُث بن عامر بن نوفل‪ ،‬و ُطعيم ُة بن عد ِّي بن‬
‫نوفل‪ ،‬والنض بن الحارث‪ ،‬وزمع ُة بن الأسود‪ ،‬وأبو جهل بن هشام‪ ،‬وأمي ُة بن‬

‫خلف‪ ،‬و ُن َبيه و ُمن ِّبه ابنا الحجاج‪ ،‬و ُسهيل بن عمرو‪ ،‬وعمرو بن عبد ُو ٍّد‪.‬‬

‫فأقبل رسو ُل الله ﷺ على الناس فقال‪« :‬هذه م َّك ُة قد ألقت إليكم أفلا َذ‬
‫كبِدها»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان َبسب ُس بن عمرو‪ ،‬وعد ُّي بن أبي ال َّزغباء قد مضيا‬
‫حتى نزلا بد ًرا‪ ،‬فأناخا إلى تل قري ٍب من الما ِء‪ ،‬ثم أخذا َش انا َلما يستقيان فيه‪،‬‬

‫وجَلد ُّي بن عمرو الجُهني على الماء‪.‬‬

‫فسمع عدي وبسب ٌس جاريتين من جواري الحاض‪ ،‬وهما يتلازمان على‬
‫الماء‪ ،‬والمَلزوم ُة تقول لصاحبتها‪ :‬إنما تأتي العي ُر غ ًدا أو بعد غ ٍد‪ ،‬فأعمل َلم‪ ،‬ثم‬

‫َأقضيك الذي لك‪.‬‬
‫قال جلدي‪َ :‬ص َدق ِت‪ ،‬ثم خلص بينهما‪.‬‬
‫وسمع ذلك عدي وبسب ٌس‪ ،‬فجلسا على بعي ِرُما‪ ،‬ثم انطلقا حتى أتيا رسو َل‬

‫الله ﷺ‪ ،‬فأخبراه بما س ِمعا‪.‬‬
‫وأقبل أبو سفيا َن بن حرب حتى تقدم العي َر ح ِذ ًرا‪ ،‬حتى ور َد الماء‪ ،‬فقال‬

‫لمجد ِّي بن عمرو‪ :‬هل أحسست أح ًدا؟‬

‫فقال‪ :‬ما رأيت أح ًدا أنكره‪ ،‬إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا الت ِّل‪،‬‬
‫ثم استقيا في َش ٍّن َلما‪ ،‬ثم انطلقا‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪027‬‬

‫فأتى أبو سفيا َن ُمنا َخهما‪ ،‬فأخذ من أبعار بعيرُما‪ ،‬فف َّته‪ ،‬فإذا فيه النوى؛‬
‫فقال‪ :‬هذه والله علائ ُف يثر َب‪ ،‬فرجع إلى أصحابه سري ًعا‪ ،‬فضب وجه عي ِره عن‬

‫الطريق‪ ،‬فسا َح َل بها(‪ ،)1‬وترك بد ًرا بيسار‪ ،‬وانطلق حتى أسر َع‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ولما رأى أبو سفيا َن أنه قد أحرز عي َره‪ ،‬أرسل إلى قري ٍش‪:‬‬
‫إنكم إنما َخرج ُتم لتمنعوا عي َركم ورجا َلكم وأموا َلكم‪ ،‬فقد ن َّجاها الله؛ فار ِجعوا‪.‬‬
‫فقال أبو جه ِل بن هشا ٍم‪ :‬والله لا نرج ُع حتى ن ِرد بد ًرا ‪-‬وكان بد ٌر موس ًما‬
‫من مواسم العرب‪ ،‬يجتمع َلم به سو ٌق ك َّل عام‪ -‬فنقيم عليه ثلا ًثا‪ ،‬فننحر ال ُجزر‪،‬‬
‫و ُنطعم الطعا َم‪ ،‬ونسقي الخم َر‪ ،‬وتع ِزف علينا القيا ُن‪ ،‬وتسمع بنا العر ُب وبمسيرنا‬

‫وجم ِعنا؛ فلا يزالون َُابوننا أب ًدا بعدها‪ ،‬فامضوا‪.‬‬
‫وقال الأخن ُس بن َشريق الثقف ُّي ‪-‬وكان حلي ًفا لبني زهر َة وهم بال ُجحفة‪:-‬‬
‫يا بني زهر َة‪ ،‬قد ن َّجى الل ُه لكم أموالكم‪ ،‬وخ َّلص لكم صاحبكم‪ :‬مَخرم َة بن نوفل‪،‬‬
‫وإنما نفرتم ل َتمنعوه وما َله‪ ،‬فاجعلوا بي ُجبنها وارجعوا‪ ،‬فإنه لا حاج َة لكم بأن‬

‫َتخرجوا في غي ِر ضيع ٍة‪ ،‬لا ما يقول هذا‪ ،‬يعني‪ :‬أبا جه ٍل‪.‬‬

‫فرجعوا‪ ،‬فلم َيشهدها ُزهري واح ٌد‪ ،‬أطاعوه وكان فيهم ُمطا ًعا‪.‬‬

‫ولم يكن بقي من قريش بط ٌن إلا وقد نف َر منهم نا ٌس‪ ،‬إلا بني عد ِّي بن‬
‫كعب‪ ،‬لم يخرج منهم رج ٌل واح ٌد‪ ،‬فرجعت بنو زهر َة مع الأخن ِس بن َشري ٍق‪ ،‬فلم‬

‫يشهد بد ًرا من هاتين القبيلتين أح ٌد‪ ،‬ومضى القوم‪.‬‬

‫(‪َ )1‬سا َح َل‪ :‬أخذها جهة الساحل‪.‬‬

‫‪ | 028‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ومضت قري ٌش حتى نزلوا بال ُعدو ِة ال ُقصوى من الوادي‪،‬‬
‫وال ُق ُلب(‪ )1‬ببد ٍر في ال ُعدوة الدنيا‪ ،‬وبعث الل ُه السماء‪ ،‬وكان الوادي َد ْه ًسا(‪،)2‬‬
‫فأصاب رسو ُل الله ﷺ وأصحا ُبه منها ما ل َّب َد َلم الأر َض ولم يمنعهم عن السي ِر‪،‬‬

‫وأصاب قري ًشا منها ما لم يقدروا على أن يرت ِحلوا معه‪.‬‬
‫فخرج رسو ُل الله ﷺ ُيبادرهم إلى الما ِء‪ ،‬حتى إذا جاء أدنى ما ٍء من بد ٍر نزل‬

‫به‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ف ُح ِّدثت عن رجا ٍل من بني سلم َة‪ ،‬أنهم ذكروا‪ :‬أن ال ُحباب‬
‫ب َن المنذر بن ال َجموح قال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أرأيت هذا المنز َل‪ ،‬أمنز ًلا َأ ْن َز َل َك ُه الل ُه ليس‬

‫لنا أن نتقدمه‪ ،‬ولا نتأخ َر عنه‪ ،‬أم هو الرأ ُي والحرب والمكيد ُة؟‬

‫قال‪« :‬بل هو الرأ ُي والحر ُب والمكيد ُة؟»‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬فإن هذا ليس بمنز ٍل‪ ،‬فانهض بالنا ِس حتى نأت َي أدنى‬
‫ما ٍء من القو ِم‪ ،‬فننزله‪ ،‬ثم ُن َغ ِّو ُر ما ورا َءه من ال ُق ُل ِب‪ ،‬ثم نبني عليه حو ًضا فنملؤه‬

‫ما ًء‪ ،‬ثم نقات ُل القو َم‪ ،‬فنشرب ولا يشربون‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬لقد أشر َت بالرأ ِي»‪.‬‬
‫فنهض رسو ُل الله ﷺ ومن معه من النا ِس‪ ،‬فسا َر حتى إذا أتى أدنى ما ٍء من‬
‫القو ِم نزل عليه‪ ،‬ثم أم َر بال ُق ُل ِب ف ُغ ِّورت‪ ،‬وبنى حو ًضا على ال َقليب الذي نزل‬

‫عليه‪ ،‬ف ُملئ ما ًء ثم قذفوا فيه الآني َة‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال ُق ُلب‪ :‬جمع قليب‪ ،‬وهو البئر‪.‬‬
‫(‪ )2‬ال َّد ْهس‪ :‬المكان السهل اللين لا يبلغ أن يكون رملا وليس هو بتراب أو طين‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪029‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني عب ُد الله ب ُن أبي بكر أنه ُح ِّد َث أن سع َد بن معا ٍذ‬
‫قال‪ :‬يا نب َّي الله‪ ،‬ألا نبني لك عري ًشا(‪ )1‬تكون فيه‪ ،‬و ُنعد عندك ركائ َبك‪ ،‬ثم نلقى‬
‫عد َّونا‪ ،‬فإن أعزنا اللهُ وأظهرنا على عد ِّونا كان ذلك ما أحببنا‪ ،‬وإن كانت‬
‫الأخرى‪ ،‬جلست على ركائبك فل ِحقت بمن وراءنا‪ ،‬فقد تخ َّلف عنك أقوا ٌم يا نب َّي‬
‫الله‪ ،‬ما نحن بأش َّد لك ح ابا منهم‪ ،‬ولو ظنوا أنك تلقى حر ًبا ما تخلفوا عنك‪،‬‬
‫َيمنعك الل ُه بهم‪ ،‬يناصحونك ويُجاهدون معك‪ ،‬فأثنى عليه رسو ُل الله ﷺ خي ًرا‪،‬‬

‫ودعا له بخير‪.‬‬
‫ثم ُبني لرسو ِل الله ﷺ عري ٌش‪ ،‬فكان فيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقد ارتحلت قري ٌش حين أصبحت‪ ،‬فأقبلت‪ ،‬فلما رآها‬
‫رسو ُل الله ﷺ ت َص َّو ُب من ال َعقنق ِل ‪-‬وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي‪-‬‬
‫قال‪« :‬الله َّم هذه قريش قد أقبلت ب ُخيلائها وفخ ِرها‪ُ ،‬تحادك و ُتك ِذب رسو َلك‪،‬‬

‫اللهم فنِ َصك الذي وعدتني‪ ،‬اللهم أ ِحنهم(‪ )2‬الغدا َة»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم تزاحف النا ُس ودنا بع ُضهم من بع ٍض‪ ،‬وقد أمر‬
‫رسو ُل الله ﷺ أصحا َبه أن لا يحملوا حتى يأمرهم‪ ،‬وقال‪« :‬إن اكتنفكم القو ُم‬

‫فانضحوهم عنكم بال َّنبل»‪ ،‬ورسو ُل الله ﷺ في العريش معه أبو بكر الصديق‪.‬‬
‫فكانت وقع ُة بد ٍر يو َم الجمعة صبيح َة سبع عشرة من شهر رمضا َن‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َع ِر ْيش‪ :‬شبه الخيمة يستظل به‪.‬‬
‫(‪َ )2‬أ ِحنهم‪ :‬أي‪ :‬أهلكهم‪.‬‬

‫‪ | 031‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم عدل رسو ُل الله ﷺ الصفو َف‪ ،‬ورجع إلى العري ِش‬
‫فدخله‪ ،‬ومعه فيه أبو بكر الصديق‪ ،‬ليس معه فيه غي ُره‪ ،‬ورسول الله ﷺ يناشد ر َّبه‬
‫ما وعده من النص ِر‪ ،‬ويقول فيما يقول‪« :‬الله َّم إن ْتلِك هذه العصاب ُة اليو َم لا‬

‫ُتعبد»‪.‬‬
‫وأبو بكر يقول‪ :‬يا نب َّي الله‪ :‬بع َض مناشدتِك ر َّبك‪ ،‬فإن الله منج ٌز لك ما‬

‫وعدك‪.‬‬
‫وقد خ َف َق(‪ )1‬رسو ُل الله ﷺ َخفق ًة وهو في العريش‪ ،‬ثم انتبه فقال‪ :‬أبش ْر يا‬

‫أبا بكر‪ ،‬أتاك نص ُر الله‪ ،‬هذا جبري ُل آخ ٌذ بعنان فر ٍس يقوده‪ ،‬على ثناياه النق ُع(‪.)2‬‬
‫قال‪ :‬ثم خرج رسو ُل الله ﷺ إلى الناس فح َّرضهم وقال‪« :‬والذي نف ُس‬
‫محمد بي ِده‪ ،‬لا يقاتلهم اليو َم رجل ف ُيقتل صابرا محتسبا‪ُ ،‬مقبلا غي َر مدبر‪ ،‬إلا أدخله‬

‫الله الجن َة»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عبد الله بن ثعلب َة أنه لما التقى النا ُس‪ ،‬ودنا بع ُضهم من‬
‫بع ٍض‪ ،‬قال أبو جهل بن هشام‪ :‬الله َّم أ ْق َط َعنا للرح ِم‪ ،‬وآتانا بما لا ُيعر ُف‪ ،‬فأ ِحنْه‬

‫الغدا َة‪ .‬فكان هو المستفتِ َح(‪.)3‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم إن رسو َل الله ﷺ أخذ َحفنة من ال َحصبا ِء فاستقبل‬
‫قري ًشا بها‪ ،‬ثم قال‪« :‬شاه ِت الوجو ُه»‪ ،‬ثم َنفحهم بها‪ ،‬وأمر أصحا َبه فقال‪:‬‬

‫(‪َ )1‬خ َف َق‪ :‬نام نوما يسيرا‪.‬‬
‫(‪ )2‬النَّ ْقع‪ :‬الغبار‪.‬‬

‫(‪ )3‬ال ُم ْس َت ْفتِح‪ :‬أي‪ :‬الحاكم على نفسه بهذا الدعاء‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪030‬‬

‫«شدوا»‪ ،‬فكانت اَلزيم ُة‪ ،‬فقتل اللهُ تعالى من قتل من صنادي ِد قري ٍش‪ ،‬وأسر من‬
‫أسر من أشرافِهم‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما فر َغ رسو ُل الله ﷺ من عد ِّوه‪ ،‬أمر بأبي جه ٍل أن‬
‫ُيلتم َس في القتلى‪.‬‬

‫قال عب ُد الله بن مسعود‪ :‬فوجد ُته بآخر رم ٍق فعرفته‪ ،‬فوضعت رجلي على‬
‫ُعن ِقه ‪-‬قال‪ :‬وقد كان َض َب َث(‪ )1‬بي مر ًة بمك َة‪ ،‬فآذاني ولكزني‪ -‬ثم قل ُت له‪ :‬هل‬

‫أخزاك الل ُه يا عد َّو الله؟‬
‫قال‪ :‬وبماذا أخزاني‪ ،‬أع َمد من رج ٍل قتلتموه‪ ،‬أخ ِبرني لمن الدائر ُة اليو َم؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬لله ولرسولِه‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم احتززت رأ َسه ثم جئت به رسو َل الله ﷺ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسو َل الله‪،‬‬
‫هذا رأ ُس عد ِّو الله أبي جه ٍل‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬آلله‪ ،‬الذي لا إله غي ُره» ‪-‬قال‪ :‬وكانت يمي ُن‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ -‬قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬والله الذي لا إله غي ُره‪ ،‬ثم ألقيت رأ َسه بين يدي‬

‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فح ِمد الل َه‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عائش َة قالت‪ :‬لما أمر رسو ُل الله ﷺ بالقتلى أن ُيطرحوا‬
‫في القلي ِب؛ ُطرحوا فيه إلا ما كان من أمي َة بن خل ٍف‪ ،‬فإنه انتفخ في ِدرعه فملأها‪،‬‬
‫فذهبوا ل ُيحركوه‪ ،‬فتزا َي َل(‪ )2‬لح ُمه؛ فأقروه‪ ،‬وألقوا عليه ما غ َّيبه من الترا ِب‬

‫والحجار ِة‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ض َب َث‪ :‬قبض عليه‪.‬‬
‫(‪َ )2‬تزا َي َل‪ :‬تف َّرق‪.‬‬

‫‪ | 032‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فلما ألقاهم في القليب‪ ،‬وقف عليهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬يا أه َل القلي ِب‪،‬‬
‫هل وجد ُتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني قد وجد ُت ما وعدني ربي حقا»‪.‬‬

‫قالت‪ :‬فقال له أصحا ُبه‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أتك ِّلم قو ًما موتى؟ فقال َلم‪« :‬لقد‬
‫علموا أن ما وع َدهم ربهم حقا»‪.‬‬

‫ثم إن رسو َل الله ﷺ أم َر بما في العسك ِر مما جَم َع النا ُس ف ُجمع‪ ،‬فاختلف‬
‫المسلمون فيه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬قال ُعبادة بن الصامت‪ :‬فق َسمه رسول الله ﷺ بين‬
‫المسلمين عن َبوا ٍء(‪.)1‬‬

‫ثم أقبل رسو ُل الله ﷺ قاف ًلا إلى المدينة‪ ،‬ومعه الأُسارى من المشركين‪،‬‬
‫وفيهم ُعقب ُة بن أبي ُمعيط‪ ،‬والن ُض بن الحارث‪ ،‬واحتمل رسو ُل الله ﷺ معه النف َل‬

‫الذي ُأصيب من المشركين‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ع َّباد بن عبد الله بن الزبير قال‪ :‬ناحت قري ٌش على‬
‫قتلاهم‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬لا تفعلوا فيب ُلغ محم ًدا وأصحا َبه‪ ،‬فيش َمتوا بكم‪ ،‬ولا ت ْبعثوا في‬

‫أسراكم حتى تس َتأنوا(‪ )2‬بهم؛ لا َي ْأ ُر ُب(‪ )3‬عليكم محم ٌد وأصحا ُبه في الفداء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم بعثت قري ٌش في فداء الأُسارى‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ب َواء‪ :‬سواء‪.‬‬
‫(‪ )2‬حتى َت ْس َت ْأ ُنوا بهم‪ :‬معناه‪ :‬تؤخرون فداءهم‪.‬‬

‫(‪ )3‬لا َي ْأ ُرب‪ :‬لا يشتد‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪033‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬كان فدا ُء المشركين يومئ ٍذ أربع َة آلاف دره ٍم للرجل‪ ،‬إلى‬
‫ألف دره ٍم‪ ،‬إلا من لا شي َء له‪ ،‬ف َم َّن رسو ِل الله ﷺ عليه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فجمي ُع من شهد بد ًرا من المسلمين من ال ُمهاجرين‬
‫والأنصار‪ ،‬من ش ِهدها منهم ومن ُضب له بسه ِمه وأجره‪ ،‬ثلا ُث مئة رجل‬
‫وأربع َة عش َر رج ًلا‪ ،‬من المهاجرين ثلاث ٌة وثمانون رج ًلا‪ ،‬ومن الأوس واح ٌد‬

‫وستون رج ًلا‪ ،‬ومن الخزرج مئ ٌة وسبعون رج ًلا‪.‬‬

‫‪ -7‬غزوُة ال َّسويق‬

‫عن محمد بن إسحاق ال ُم َّطلبي قال‪ :‬ثم غزا أبو سفيا َن بن حرب غزو َة‬
‫السويق في ذي الحج ِة‪ ،‬وول َي تلك الح َّج َة المشركون من تلك السنة‪ ،‬فكان أبو‬
‫سفيا َن حين رجع إلى م َّك َة‪ ،‬ورجع َف ُّل(‪ )1‬قريش من بد ٍر‪ ،‬نذر أن لا َيم َّس رأ َسه ما ٌء‬

‫من جنابة حتى يغز َو محم ًدا ﷺ‪ ،‬فخرج في مئتي راك ٍب من قري ٍش؛ ليب َّر يمينَه‪.‬‬
‫فنزل من المدين ِة على َبري ٍد أو نحوه‪ ،‬ثم خرج من اللي ِل‪ ،‬حتى أتى س َّلا َم بن‬
‫ِمشك ٍم‪ ،‬وكان س ِّيد بني النضي ِر في زمانه ذلك‪ ،‬وصاح َب َكن ِزهم‪ ،‬فاستأذن عليه‪،‬‬

‫ف َأذ َن له‪َ ،‬ف َقراه وسقاه‪ ،‬و َب َط َن(‪ )2‬له من خب ِر النا ِس‪.‬‬
‫ثم خرج في ع ِقب ليلته حتى أتى أصحا َبه‪ ،‬فبع َث رجا ًلا من قري ٍش إلى‬
‫المدينة‪ ،‬فأتوا ناحي ًة منها‪ ،‬فح َرقوا في أصوا ٍر من نخل بها‪ ،‬ووجدوا بها رج ًلا من‬

‫الأنصا ِر و َحلي ًفا له في حر ٍث َلما فقتلوهما‪ ،‬ثم انصرفوا راجعين‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َف ُّل‪ :‬القوم المنهزمون‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ب َط َن له‪ :‬أي‪ :‬علم له من سرهم‪ ،‬ومنه بطانة الرجل‪.‬‬

‫‪ | 034‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فخر َج رسو ُل الله ﷺ في ط َلبهم‪ ،‬ثم انصر َف راج ًعا وقد فاته أبو سفيان‬
‫وأصحا ُبه‪ ،‬وقد رأوا أزوا ًدا من أزوا ِد القوم قد طرحوها في الحر ِث يتخ َّففون منها‬
‫للنَّجا ِء‪ ،‬فقال المسلمون حين رجع بهم رسو ُل الله ﷺ‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أتطم ُع لنا أن‬

‫تكون غزو ًة؟‬

‫قال «نعم»‪.‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وإنما س ِّميت غزو َة السويق ‪-‬فيما حدثني أبو عبيد َة‪ -‬أن أكث َر‬
‫ما طرح القو ُم من أزوادهم ال َّس ِو ْي َق(‪ ،)1‬فهجم المسلمون على سويق كثي ٍر؛ ف ُس ِّميت‬

‫غزو َة السويق‪.‬‬
‫‪ -8‬أمرُ بني َقينُقاعَ‬
‫وكان من حديث بني قينقا َع أن رسول الله ﷺ جَمعهم بسو ِق بني قينقا َع‪ ،‬ثم‬
‫قال‪« :‬يا مع َش يهو َد‪ ،‬احذروا من الله مث َل ما نزل بقري ٍش من النِقم ِة‪ ،‬وأسلموا‪،‬‬
‫فإنكم قد ع َرفتم أني نب يي مرسل‪ ،‬تدون ذلك في كتابكم وعه ِد الله إليكم»‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬إنك ُترى أ َّنا قو ُمك! لا يغر َّنك أنك لقيت قو ًما لا علم َلم‬
‫بالحر ِب‪ ،‬فأصب َت منهم ُفرص ًة‪ ،‬إنا والله لئن حاربناك ل َتعلم َّن أنا نحن النا ُس‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني عا ُصم بن عم َر بن قتاد َة أن بني قينُقا َع كانوا أ َّو َل‬
‫ُو ٍد نقضوا ما بينهم وبين رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وحاربوا فيما بين بد ٍر و ُأ ُح ٍد‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّس ِو ْيق‪ :‬هو أن تحمص الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك‪ ،‬ثم تطحن ثم يسافر بها‪ ،‬وقد تمزج باللبن‬
‫والعسل والسمن تلت به‪ ،‬فإن لم يكن شيء من ذلك مزج بالماء‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪035‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬عن أبي عون قال‪ :‬كان من أم ِر بني قينقا َع أن امرأة من‬
‫العرب قدمت بج َل ٍب(‪َ )1‬لا‪ ،‬فباعته بسو ِق بني قينُقا َع‪ ،‬وجلست إلى صائ ٍغ بها‪،‬‬
‫فجعلوا ُيريدونَها على كش ِف وجهها فأبت‪ ،‬فع ِمد الصائ ُغ إلى ط َرف ثوبها فعقده‬
‫إلى ظه ِرها‪ ،‬فلما قامت انكشفت سوأ ُتها‪ ،‬فض ِحكوا بها‪ ،‬فصاحت؛ فوثب رج ٌل من‬

‫المسلمين على الصائغ فقتله‪ ،‬وكان ُود ايا‪ ،‬وشدت اليهو ُد على المسلم فقتلوه‪،‬‬
‫فاستصرخ أه ُل المسل ِم المسلمين على اليهو ِد‪ ،‬فغ ِض َب المسلمون‪ ،‬فوقع الش ُّر بينهم‬

‫وبين بني قينقا َع‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني عاص ُم بن عم َر بن قتاد َة قال‪ :‬فحاصرهم رسو ُل‬
‫الله ﷺ حتى نزلوا على ُحك ِمه‪ ،‬فقام إليه عب ُد الله بن ُأب ِّي ابن َسلول‪ ،‬حين أمكنه الل ُه‬
‫منهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬أح ِسن في َموال َّي‪ ،‬وكانوا حلفا َء الخزرج‪ ،‬قال‪ :‬فأبط َأ عليه‬

‫رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬أح ِسن في موال َّي‪ ،‬قال‪ :‬فأعرض عنه‪.‬‬
‫فأدخل ي َده في جي ِب در ِع رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬فقال له رسو ُل الله ﷺ‪:‬‬

‫«أر ِس ْلني»‪ ،‬وغض َب رسو ُل الله ﷺ حتى رأوا لوج ِهه ُظل ًلا‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬وي َحك! أر ِس ْلني»‪.‬‬

‫قال‪ :‬لا والله لا ُأرس ُلك حتى ُتحسن في موال َّي‪ ،‬أربع مئ ِة حاس ٍر(‪ )2‬وثلاث مئ ِة‬
‫دار ٍع قد منعوني من الأحم ِر والأسود‪ ،‬تح ُصدهم في غدا ٍة واحد ٍة‪ ،‬إني والله امرؤ‬

‫أخشى الدوائ َر‪ ،‬قال‪ :‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪ُ « :‬هم لك»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َج َلب‪ :‬كل ما يجلب للأسواق ليباع فيها من إبل وغنم وغيرهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحَا ِسر‪ :‬من لا درع له‪.‬‬

‫‪ | 036‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وكانت محاصر ُته إياهم خم َس عشرة ليل ًة‪.‬‬
‫‪ -9‬غزوة أُحُ ٍد‬

‫لما أصي َب يو َم بد ٍر ‪-‬من كفا ِر قريش‪ -‬أصحا ُب القلي ِب‪ ،‬ورجع َف ُّلهم إلى‬
‫مك َة‪ ،‬ورجع أبو سفيان بن حرب بِعي ِره‪ ،‬مشى عب ُد الله بن أبي ربيع َة‪ ،‬وعكرم ُة بن‬
‫أبي جهل وصفوا ُن بن أمية في رجا ٍل من قري ٍش‪ ،‬ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم‬
‫وإخوانُهم يو َم بد ٍر‪ ،‬فكلموا أبا سفيا َن بن حر ٍب‪ ،‬ومن كانت له في تلك ال ِعير من‬
‫قري ٍش تار ٌة فقالوا‪ :‬يا معش َر قري ٍش‪ ،‬إن محم ًدا قد َو َتركم‪ ،‬وقتل خيا َركم‪ ،‬فأعينونا‬

‫بهذا الما ِل على حربِه‪ ،‬فلع َّلنا ُندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا؛ ففعلوا‪.‬‬
‫فاجتمعت قري ٌش لحر ِب رسو ِل الله ﷺ حين فع َل ذلك أبو سفيان ب ُن‬

‫حرب‪ ،‬وأصحا ُب العير بأحابِيشها‪ ،‬ومن أطا َعها من قبائ ِل كنان َة‪ ،‬وأهل تِهام َة‪.‬‬
‫فخرجت قريش ب َح ِّدها وج ِّدها وحديدها وأحابِيشها‪ ،‬ومن تابعها من بني‬

‫كنان َة‪ ،‬وأهل تهام َة‪ ،‬وخرجوا معهم بال ُّظ ُع ِن(‪)1‬؛ التما َس الحفيظ ِة وألا َي ِف ُّروا‪.‬‬
‫فأقبلوا حتى نزلوا بعينين ‪-‬بجب ٍل ببطن السبخ ِة من قناة على َشفير الوادي‪-‬‬

‫ُمقاب َل المدين ِة‪.‬‬
‫فلما سمع بهم رسو ُل الله ﷺ والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا‪ ،‬قال رسو ُل‬
‫الله ﷺ لل ُمسلمين‪« :‬إني قد رأي ُت والله خيرا‪ ،‬رأيت بقرا‪ ،‬ورأيت في ُذباب سيفي‬

‫َث ْلما‪ ،‬ورأيت أني أدخلت يدي في ِدر ٍع حصين ٍة‪ ،‬فأ َّول ُتها المدين َة»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال ُظ ُعن‪ :‬جمع ظعينة‪ ،‬وهو اَلودج كانت فيه امرأة أو لم تكن‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪037‬‬

‫قال ابن هشا ٍم‪ :‬وحدثني بع ُض أهل العل ِم أن رسو َل الله ﷺ قال‪« :‬رأيت‬
‫بقرا ل ُتذبح»‪.‬‬

‫قال‪« :‬فأما البق ُر فهي ناس من أصحابي ُيقتلون‪ ،‬وأما ال َّثل ُم الذي رأي ُت في‬
‫ذباب سيفي فهو رجل من أه ِل بيتي ُيقتل»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فإن رأي ُتم أن ُتقيموا بالمدين ِة وتدعوهم حيث نزلوا‪ ،‬فإن‬
‫أقاموا أقاموا َبش ِّر ُمقا ٍم‪ ،‬وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها‪ ،‬وكان رأ ُي عبد الله بن‬
‫أب ِّي ابن سلو ٍل مع رأي رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬يرى رأ َيه في ذلك‪ ،‬وألا يخر َج إليهم‪ ،‬وكان‬
‫رسو ُل الله ﷺ يكره الخُرو َج‪ ،‬فقال رجا ٌل من المسلمين ‪-‬ممن أكرم الل ُه بالشهادة‬
‫يو َم أح ٍد وغيره ممن كان فاته بد ٌر‪ :-‬يا رسو َل الله‪ ،‬اخ ُرج بنا إلى أعدا ِئنا‪ ،‬لا يرون‬

‫أنا جبنا عنهم وض ُعفنا؟‬

‫فقال عب ُد الله بن ُأبي ابن سلو ٍل‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أقم بالمدينة لا تخر ْج إليهم‪،‬‬
‫فوالله ما خرجنا منها إلى عد ٍّو لنا ق ُّط إلا أصا َب منا‪ ،‬ولا دخلها علينا إلا أصبنا‬
‫منه‪ ،‬فدع ُهم يا رسو َل الله‪ ،‬فإن أقاموا‪ ،‬أقاموا ب َش ِّر مَحب ٍس‪ ،‬وإن دخلوا قا َت َلهم‬
‫الرجا ُل في وجههم‪ ،‬ورماهم النسا ُء والصبيا ُن بالحجار ِة من فو ِقهم‪ ،‬وإن رجعوا‬

‫رجعوا خائبي َن كما جاءوا‪.‬‬

‫فلم يزل النا ُس برسو ِل الله ﷺ ‪-‬الذين كان من أمرهم ُح ُّب لقاء القو ِم‪-‬‬
‫حتى دخل رسو ُل الله ﷺ بيته‪ ،‬فلبِس لأْ َمته‪ ،‬وذلك يو َم الجمعة حين فر َغ من‬
‫الصلاة‪ ،‬وقد مات في ذلك اليو ِم رج ٌل من الأنصار ُيقال له‪ :‬مال ُك بن عمرو أح ُد‬

‫‪ | 038‬مختصر السيرة النبوية‬

‫بني النجار‪ ،‬فص َّلى عليه رسو ُل الله ﷺ ثم خرج عليهم وقد ن ِدم النا ُس‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫استك َرهنا رسو َل الله ﷺ‪ ،‬ولم يكن لنا ذلك‪.‬‬

‫فلما خرج عليهم رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬استك َرهناك ولم يكن‬
‫ذلك لنا‪ ،‬فإن شئت فاق ُعد صلى الل ُه عليك‪.‬‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْ َمته أن يض َعها حتى يقات َل»‪.‬‬
‫فخرج رسول الله ﷺ في أل ٍف من أصحابِه‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬حتى إذا كانوا بالشو ِط بين المدين ِة و ُأ ُح ٍد‪ ،‬انخذل عنه‬
‫عب ُد الله بن أب ِّي ابن سلول ب ُثلث النا ِس‪ ،‬وقال‪ :‬أطاعهم وعصاني‪ ،‬ما ندري علا َم‬
‫نقتل أنف َسنا هاهنا أُا النا ُس‪ ،‬فرجع بمن ا َّتبعه من قو ِمه من أه ِل النفا ِق وال َّري ِب‪،‬‬
‫واتبعهم عب ُد الله بن عمرو بن حرا ٍم أخو بني سلم َة‪ ،‬يقول‪ :‬يا قو ِم‪ ،‬أذ ِّكركم الل َه ألا‬

‫َتخذلوا قو َمكم ونب َّيكم عندما حض من عد ِّوهم‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬لو نعل ُم أنكم ُتقاتلون لما أسلمنا ُكم‪ ،‬ولكنا لا نرى أنه يكون قتا ٌل‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصرا َف عنهم قال‪ :‬أبع َدكم الل ُه أعدا َء‬
‫الله‪ ،‬ف ُسيغني الله عنكم نب َّيه‪.‬‬

‫قال‪ :‬ومضى رسو ُل الله ﷺ حتى نز َل ال ِّشع َب من أح ٍد‪ ،‬في ُعدوة الوادي إلى‬
‫الجب ِل‪ ،‬فجعل ظه َره وعس َك َره إلى ُأ ُح ٍد‪ ،‬وقال‪« :‬لا يقاتلن أحد منكم حتى نأ ُم َره‬

‫بالقتال»‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪039‬‬

‫وقد س َّرحت قري ٌش ال َّظه َر وال ُكرا َع(‪ )1‬في زرو ٍع كانت بال َّصمغ ِة(‪ ،)2‬من قناة‬
‫للمسلمين‪.‬‬

‫وتع َّبى رسو ُل الله ﷺ للقتا ِل‪ ،‬وهو في سب ِع مئ ِة رج ٍل‪ ،‬وأ َّمر على الرماة‬
‫عب َد الله بن جبي ٍر أخا بني عمرو بن عو ٍف وهو ُمع َّل ٌم يومئذ بثيا ٍب بي ٍض‪ ،‬والرماة‬

‫خمسون رج ًلا‪.‬‬
‫فقال‪« :‬انضح الخي َل عنا بالنب ِل‪ ،‬لا يأتونا من خل ِفنا‪ ،‬إن كانت لنا أو علينا‪،‬‬

‫فاث ُبت مكا َنك لا ُنؤ َت َي َّن من ِقبلك»‪.‬‬
‫وظاه َر رسو ُل الله ﷺ بين ِدرعي ِن(‪ ،)3‬ودف َع اللوا َء إلى ُمصع ِب بن عمي ٍر‬

‫أخي بني عبد الدا ِر‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وتع َّبأت قري ٌش‪ ،‬وهم ثلاث ُة آلاف رج ٍل‪ ،‬ومعهم مئتا‬
‫فر ٍس قد جنَبوها(‪ ،)4‬فجعلوا على ميمن ِة الخي ِل خال َد بن الولي ِد‪ ،‬وعلى َميسرتها‬

‫عكرم َة بن أبي جه ٍل‪.‬‬

‫وقال رسو ُل الله ﷺ‪َ « :‬من يأخ ُذ هذا السي َف بح ِقه؟» فقا َم إليه رجا ٌل‪،‬‬
‫فأمسكه عنهم‪ ،‬حتى قام إليه أبو ُدجان َة ِسما ُك بن َخ َرش َة أخو بني ساعد َة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫وما ح ُّقه يا رسو َل الله؟ قال‪« :‬أن َتضر َب به العد َّو حتى َينحن َي»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّظهر‪ :‬الإبل‪ .‬وال ُك َراع‪ :‬الخيل‪.‬‬
‫(‪ )2‬ال َّصم َغة‪ :‬اسم موضع قريب من أحد‪.‬‬
‫(‪َ )3‬ظا َه َر بين درعين‪ :‬أي‪ :‬لبس درعا فوق درع‪.‬‬
‫(‪َ )4‬جنَبوها‪ :‬أي قادوها‪ ،‬والجنيب‪ :‬الفرس الذي يقاد‪.‬‬

‫‪ | 041‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قال‪ :‬أنا آخذه يا رسو َل الله بح ِّقه‪ ،‬فأعطاه إياه‪ ،‬وكان أبو دجان َة رج ًلا‬
‫شجا ًعا يختال عند الحر ِب إذا كانت‪ ،‬وكان إذا ُأعل َم بعصاب ٍة له حمرا َء فاعتصب بها‬
‫علم النا ُس أنه سيقاتِل‪ ،‬فلما أخذ السي َف من ي ِد رسو ِل الله ﷺ أخر َج عصاب َته‬

‫تلك‪ ،‬فعصب بها رأ َسه‪ ،‬وجعل يتبخت ُر بين الصفي ِن‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فحدثني جعف ُر بن عب ِد الله بن أسل َم مولى عم َر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬عن رج ٍل من الأنصا ِر من بني سلم َة قال‪ :‬قال رسو ُل الله ﷺ حين رأى‬

‫أبا ُدجان َة يتبختر‪« :‬إنها لمِشية ُيبغضها الل ُه‪ ،‬إلا في مثل هذا ال َموط ِن»‪.‬‬
‫وكان ِشعا ُر أصحاب رسو ِل الله ﷺ يو َم ُأ ُح ٍد‪ :‬أ ِم ْت‪ ،‬أ ِم ْت‪ ،‬فيما قال اب ُن‬

‫هشام‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فاقتتل النا ُس حتى حَميت الحر ُب‪ ،‬وقاتل أبو ُدجانة حتى‬
‫أمعن في النا ِس‪.‬‬

‫وقات َل حمز ُة بن عبد المطل ِب حتى قت َل أرطا َة بن عبد ُشرحبي َل وكان أح َد‬
‫النفر الذين يحملون اللوا َء‪.‬‬

‫قال وحشي ‪-‬غلا ُم ُجبير بن ُمطعم‪ :-‬والله إني لأنظ ُر إلى حمز َة َ ُُ ُّد النا َس‬
‫بسي ِفه ما ُيليق به شي ًئا‪ ،‬مثل الجم ِل الأَ ْو َر ِق(‪ )1‬إذ تقدمني إليه سبا ُع بن عبد ال ُع َّزى‪،‬‬
‫فضبه ضب ًة‪ ،‬فكأن ما أخط َأ رأ َسه‪ ،‬وهزز ُت حر َبتي حتى إذا رضي ُت منها َدفع ُتها‬
‫عليه‪ ،‬فوقع ْت في ُث َّنتِ ِه(‪ )2‬حتى خرجت من بين ِرجليه‪ ،‬فأقب َل نحوي‪ ،‬ف ُغلب فوق َع‪،‬‬

‫(‪ )1‬الأَ ْو َرق‪ :‬من الإبل‪ ،‬وهو الذي في لونه بياض إلى السواد‬
‫(‪ )2‬ال ُّثنَّة‪ :‬ما بين أسفل البطن إلى العانة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪040‬‬

‫وأمه ْل ُته حتى إذا مات جئ ُت فأخذ ُت حربتي‪ ،‬ثم تنحي ُت إلى العسك ِر‪ ،‬ولم تكن لي‬
‫بشي ٍء حاج ٌة غي َره‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وقاتل مصع ُب بن عمي ٍر دون رسو ِل الله ﷺ حتى ُقت َل‪،‬‬
‫وكان الذي قتله اب ُن َقمئ َة الليث ُّي‪ ،‬وهو يظن أنه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فرج َع إلى قري ٍش‬

‫فقال‪ :‬قتلت محم ًدا‪.‬‬

‫فلما ُقتل مصع ُب بن عمير أعطى رسو ُل الله ﷺ اللوا َء عل َّي ب َن أبي طالب‪،‬‬
‫وقاتل عل ُّي بن أبي طالب ورجا ٌل من المسلمين‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم أنزل اللهُ نص َره على المسلمين وص َدقهم وع َده‪،‬‬
‫فح ُّسوهم(‪ )1‬بالسيو ِف حتى كشفوهم عن العسك ِر‪ ،‬وكانت اَلزيم ُة لا شك فيها‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن الزبي ِر أنه قال‪ :‬والله لقد رأي ُتني أنظر إلى َخ َدم هن ِد‬
‫بن ِت عتب َة وصواحبها ُمش ِّمرات هوار َب‪ ،‬ما دون أخذه َّن قلي ٌل ولا كثي ٌر إذ مالت‬
‫الرما ُة إلى العسك ِر‪ ،‬حين كشفنا القو َم عنه وخلوا ظهو َرنا للخي ِل؛ ف ُأتينا من خل ِفنا‪،‬‬
‫وصر َخ صار ٌخ‪ :‬ألا إن محم ًدا قد ُقتل‪ ،‬فانكفأنا وانكفأ علينا القو ُم بعد أن أصبنا‬

‫أصحا َب اللوا ِء حتى ما يدنو منه أح ٌد من القو ِم‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وانكش َف المسلمون‪ ،‬فأصا َب فيهم العد ُّو‪ ،‬وكان يو َم بلا ٍء‬
‫وتمحي ٍص أكرم الل ُه فيه من أكر َم من المسلمين بالشهاد ِة‪ ،‬حتى خ ُل َص العد ُّو إلى‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬ف ُد َّث(‪ )2‬بالحجارة حتى وق َع لش ِّقه‪ ،‬فأصيبت َرباعي ُته‪ ،‬و ُش َّج في‬

‫وجهه‪ ،‬و ُك ِلمت َشف ُته‪ ،‬وكان الذي أصا َبه عتب ُة بن أبي وقا ٍص‪.‬‬

‫(‪َ )1‬ح ُّسوهم‪ :‬قتلوهم‪.‬‬
‫(‪ُ )2‬د َّث‪ :‬التوى بعض جسده‪.‬‬

‫‪ | 042‬مختصر السيرة النبوية‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أن ِس بن مال ٍك قال‪ُ :‬كسرت َرباعي ُة النب ِّي ﷺ يو َم‬
‫ُأ ُح ٍد‪ ،‬و ُش َّج في وجهه‪ ،‬فجعل الد ُم يسي ُل على وجهه‪ ،‬وجع َل يمس ُح الد َم وهو‬
‫يقول‪« :‬كيف ُيفلح قوم خضبوا وج َه نب ِيهم‪ ،‬وهو يدعوهم إلى ر ِبهم؟!» فأنزل الله‬
‫‪ ‬في ذلك‪( :‬ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ)‬

‫[آل عمران‪.]552:‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬و َت َّر َس دو َن رسول الله ﷺ أبو دجان َة بنف ِسه‪ ،‬يق ُع النبل في‬
‫ظه ِره وهو ُمنح ٍن عليه‪ ،‬حتى ك ُثر فيه النب ُل‪ ،‬ورمى سع ُد بن أبي وقا ٍص دو َن‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬قال سعد‪ :‬فلقد رأي ُته ُيناولني النب َل وهو يقول‪« :‬ار ِم فدا َك أبي‬

‫وأمي» حتى إنه ليناو ُلني السه َم ما له نص ٌل‪ ،‬فيقو ُل‪« :‬ار ِم به»‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وحدثني القاس ُم ب ُن عبد الرحمن بن راف ٍع أخو بني عد ِّي‬
‫بن النجار قال‪ :‬انتهى أن ُس بن الن ِض ع ُّم أنس بن مالك‪ ،‬إلى عم َر بن الخطاب‪،‬‬

‫وطلح َة بن عبي ِد الله‪ ،‬في رجا ٍل من المهاجرين والأنصا ِر‪ ،‬وقد َأ ْل َقوا بأيدُم‪.‬‬

‫فقال‪ :‬ما يُجلسكم؟‬
‫قالوا‪ُ :‬قت َل رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬قال‪ :‬فماذا َتصنعون بالحيا ِة بع َده؟ قوموا فموتوا‬
‫على ما ما َت عليه رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬ثم استقب َل القو َم‪ ،‬فقات َل حتى ُقتل‪ ،‬وبه ُس ِّمي‬

‫أن ُس بن مال ٍك‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن أن ِس بن مالك قال‪ :‬لقد وجدنا بأن ِس بن الن ِض يومئ ٍذ‬

‫سبعين ضب ًة‪ ،‬فما عرف ُه إلا أخ ُته‪ ،‬عرفته ب َبنانِه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪043‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان أ َّو َل من عر َف رسو َل الله ﷺ بعد اَلزيم ِة ‪-‬وقو ُل‬
‫الناس‪ُ :‬قتل رسو ُل الله ﷺ‪ -‬كع ُب بن مال ٍك‪ ،‬قال‪ :‬عرفت عينَيه تزهران من تحت‬
‫المِغف ِر‪ ،‬فنادي ُت بأعلى صوتي‪ :‬يا معش َر المسلمين‪ ،‬أبشروا‪ ،‬هذا رسو ُل الله ﷺ‪،‬‬

‫فأشا َر إل َّي رسو ُل الله ﷺ أن أن ِصت‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فلما عر َف المسلمون رسو َل الله ﷺ نهضوا به‪ ،‬ونه َض معهم‬
‫نحو ال ِّشع ِب معه أبو بك ٍر الصدي ُق‪ ،‬وعم ُر بن الخطاب‪ ،‬وعل ُّي بن أبي طال ٍب‪ ،‬وطلح ُة‬

‫بن عبي ِد الله‪ ،‬والزبي ُر بن العوا ِم‪ ،‬والحار ُث بن ال ِّصم ِة‪ ،‬وره ٌط من المسلمين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلما ُأسن َد رسو ُل الله ﷺ في ال ِّشع ِب أدركه أب ُّي بن خل ٍف وهو يقول‪:‬‬
‫أ ْي محم ُد‪ ،‬لا نجو ُت إن نجو َت‪ ،‬فقال القو ُم‪ :‬يا رسو َل الله‪ ،‬أيعط ُف عليه رج ٌل‬

‫منا؟‬

‫فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬دعوه»‪ ،‬فلما دنا‪ ،‬تناو َل رسو ُل الله ﷺ الحرب َة من‬
‫الحار ِث بن ال ِّصم ِة‪ ،‬يقول بع ُض القو ِم‪ ،‬فيما ذكر لي‪ :‬فلما أخذها رسو ُل الله ﷺ منه‬
‫انتف َض بها انتفاض ًة‪ ،‬تطايرنا عنه تطا ُي َر ال َّش ْعرا ِء(‪ )1‬عن ظه ِر البعي ِر إذا انتفض بها‪،‬‬

‫ثم استقبله فطعنه في ُعنقه طعن ًة َتد ْأ َدأ منها عن فر ِسه ِمرا ًرا‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان أب ُّي بن خل ٍف‪ ،‬يلقى رسو َل الله ﷺ بم َّك َة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫يا محم ُد إن عندي ال َعو َذ‪ ،‬فر ًسا أعلفه ك َّل يوم فر ًقا من ُذر ٍة‪ ،‬أقتلك عليه‪ ،‬فيقول‬

‫رسو ُل الله ﷺ‪« :‬بل أنا أق ُتلك إن شاء الل ُه»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال َّش ْع َراء‪ :‬ذباب أزرق يقع على ظهر البعير‪.‬‬

‫‪ | 044‬مختصر السيرة النبوية‬

‫فلما رجع إلى قري ٍش وقد خدشه في ُعنقه خد ًشا غير كبي ٍر‪ ،‬فاحتقن الد ُم‪،‬‬
‫قال‪ :‬قتلني والله محم ٌد! قالوا له‪ :‬ذهب والله فؤا ُدك! والله ِإ ْن بك من بأ ٍس‪.‬‬

‫قال‪ :‬إنه قد كان قال لي بم َّكة‪« :‬أنا أق ُتلك»‪ ،‬فوالله لو بصق عل َّي لقتلني‪،‬‬
‫فما َت عد ُّو الله بسر ٍف وهم قافلون به إلى مك َة‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلما انتهى رسو ُل الله ﷺ إلى ف ِّم الشعب خر َج عل ُّي بن أبي طالب حتى‬
‫ملأ َدر َقته ما ًء من المِهرا ِس(‪ ،)1‬فجاء به إلى رسو ِل الله ﷺ ليشر َب منه‪ ،‬فوجد له‬
‫ري ًحا‪ ،‬فعافه فلم يشر ْب منه‪ ،‬وغسل عن وجهه الد َم‪ ،‬وص َّب على رأ ِسه وهو يقول‪:‬‬

‫«اشتد غض ُب الله على من د َّمى وج َه نب ِيه»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فبينا رسو ُل الله ﷺ بالشع ِب معه أولئك النف ُر من‬
‫أصحابِه‪ ،‬إذ علت عالي ٌة من قري ٍش‪ :‬الجب َل‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪« :‬الله َّم إنه لا‬
‫َينبغي همم أن َيعلونا!» فقات َل عم ُر بن الخطاب وره ٌط معه من المهاجرين حتى‬

‫أهبطوهم من الجب ِل‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ونهض رسو ُل الله ﷺ إلى صخر ٍة من الجب ِل ل َيعلوها‪ ،‬وقد‬
‫كان َب َّد َن(‪ )2‬رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬وظاه َر بين درعين‪ ،‬فلما ذه َب لينه َض ﷺ لم َيستط ْع‪،‬‬
‫فجلس تحته طلح ُة بن ُعبي ِد الله‪ ،‬فنهض به حتى استوى عليها‪ ،‬فقال رسو ُل الله‬

‫ﷺ‪« :‬أوج َب(‪ )3‬طلح ُة»‪.‬‬

‫(‪ )1‬المِ ْهراس‪ :‬ماء بأحد‪ .‬وقيل‪ :‬حجر ينقر ويجعل إلى جانب البئر‪ ،‬ويصب فيه الماء لينتفع به الناس‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ب َّد َن‪ :‬أسن‪.‬‬

‫(‪َ )3‬أ ْو َج َب‪ :‬أي‪ :‬وجبت له الجنة‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪045‬‬

‫قال اب ُن هشا ٍم‪ :‬وذكر عم ُر مولى ُغفر َة أن النب َّي ﷺ صلى الظه َر يو َم أح ٍد‬
‫قاع ًدا من الجرا ِح التي أصابته‪ ،‬وصلى المسلمون خلفه ُقعو ًدا‪.‬‬

‫ثم إن أبا سفيا َن بن حر ٍب‪ ،‬حين أراد الانصرا َف‪ ،‬أشر َف على الجب ِل‪ ،‬ثم‬
‫صر َخ بأعلى صوتِه فقال‪ :‬أنعم َت َفعال(‪ ،)1‬وإن الحر َب سجا ٌل‪ ،‬يو ٌم بيوم‪َ ،‬أع ِل‬
‫ُهب َل ‪-‬أي‪ :‬أظ ِهر دينَك‪ -‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪ُ « :‬قم يا عم ُر فأ ِج ْبه‪ ،‬فقل‪ :‬الله أعلى‬

‫وأجل‪ ،‬لا سواء؛ قتلانا في الجن ِة‪ ،‬وقتلا ُكم في النار»‪.‬‬

‫فلما أجاب عم ُر أبا سفيا َن‪ ،‬قال له أبو سفيان‪َ :‬ه ُل َّم إل َّي يا عم ُر‪ ،‬فقال رسو ُل‬
‫الله ﷺ لعمر‪« :‬ائتِه فانظر ما شأ ُنه»‪.‬‬

‫فجاءه‪ ،‬فقال له أبو سفيان‪ :‬أ ْن ُشدك اللهَ يا عمر‪ ،‬أق َتلنا محم ًدا؟‬

‫قال عم ُر‪ :‬اللهم لا‪ ،‬وإنه ل َيسم ُع كلا َمك الآن‪ ،‬قال‪ :‬أنت أصد ُق عندي من‬
‫اب ِن َقمئ َة وأب ُّر‪ .‬لِقو ِل ابن قمئ َة َلم‪ :‬إني قد قتل ُت محم ًدا‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬ثم نادى أبو سفيا َن‪ :‬إنه قد كان في قتلاكم ُم ُث ٌل‪ ،‬والله ما‬
‫رضيت‪ ،‬وما سخط ُت‪ ،‬وما نَهيت‪ ،‬وما أمر ُت‪.‬‬

‫ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى‪ :‬إن مو ِع َدكم بد ٌر للعام القابِ ِل‪ ،‬فقال‬
‫رسو ُل الله ﷺ لرج ٍل من أصحابِه‪« :‬قل‪ :‬نعم‪ ،‬هو بيننا وبينكم موعد»‪.‬‬

‫ثم بعث رسو ُل الله ﷺ عل َّي بن أبي طالب فقال‪« :‬اخرج في آثا ِر القو ِم‪ ،‬فانظ ْر‬
‫ماذا َيصنعون وما ُيريدون فإن كانوا قد َج ّنَبوا الخي َل‪ ،‬وامتطوا الإب َل‪ ،‬فإنهم ُيريدون‬

‫(‪َ )1‬أن َعم َت َفعال‪ :‬يعني به الحرب والوقيعة‪ ،‬يفتخر بها‪.‬‬

‫‪ | 046‬مختصر السيرة النبوية‬

‫مك َة‪ ،‬وإن ركبوا الخي َل وساقوا الإب َل‪ ،‬فإنهم ُيريدون المدين َة‪ ،‬والذي نفسي بي ِده‪ ،‬لئن‬
‫أرادوها لأسير َّن إليهم فيها‪ ،‬ثم لأُنا ِجز َّنهم»‪.‬‬

‫قال علي‪ :‬فخرجت في آثا ِرهم أنظ ُر ماذا َيصنعون‪ ،‬فجنَّبوا الخي َل‪ ،‬وامتطوا‬
‫الإب َل‪ ،‬ووجهوا إلى مك َة‪.‬‬

‫وفر َغ النا ُس لقتلاهم‪ ،‬فقال رسو ُل الله ﷺ‪َ « :‬من رجل ينظ ُر ل ما فعل سع ُد‬
‫بن الربي ِع؟ أفي الأحيا ِء هو أم في الأموا ِت؟»‪.‬‬

‫فقال رج ٌل من الأنصا ِر‪ :‬أنا أنظ ُر لك يا رسو َل الله ما فع َل سع ٌد‪ ،‬فنظر‬
‫فوجده جري ًحا في القتلى وبه َرم ٌق‪.‬‬

‫قال‪ :‬فقلت له‪ :‬إن رسو َل الله ﷺ َأمرني أن أن ُظ َر‪ ،‬أفي الأحيا ِء أنت أم في‬
‫الأموا ِت؟‬

‫قال‪ :‬أنا في الأموا ِت‪ ،‬فأبل ْغ رسو َل الله ﷺ عني السلا َم‪ ،‬وقل له‪ :‬إن سع َد‬
‫بن الربي ِع يقول لك‪ :‬جزاك الل ُه عنا خي َر ما جزى نب ايا عن أ َّمتِه‪ ،‬وأبلغ قو َمك عني‬
‫السلا َم‪ ،‬وقل َلم‪ :‬إن سع َد بن الربي ِع يقول لكم‪ :‬إنه لا ُعذ َر لكم عند الله إن‬

‫َخ ُلص إلى نب ِّيكم ﷺ ومنكم عي ٌن َتط ِرف‪.‬‬

‫قال‪ :‬ثم لم أب َرح حتى ما َت‪ ،‬قال‪ :‬فجئ ُت رسو َل الله ﷺ فأخبر ُته خب َره‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وخرج رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فيما بلغني‪ ،‬يلتم ُس حمز َة بن عب ِد‬
‫المطلب‪ ،‬فوجده ببط ِن الوادي قد ُبقر بطنُه عن كبِده‪ ،‬و ُم ِّثل به‪ ،‬ف ُجد َع أن ُفه وأذناه‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪047‬‬

‫فحدثني محم ُد بن جعف ِر بن الزبير أن رسو َل الله ﷺ قال حين رأى ما رأى‪:‬‬
‫«لولا أن َتحز َن صف َّي ُة ويكون س َّنة من بعدي؛ لتك ُته حتى يكو َن في بطون السبا ِع‪،‬‬
‫وحوا ِصل الطي ِر‪ ،‬ولئن أظهرني اللهُ على قري ٍش في موط ٍن من المواطن لأم ِثلن بثلاثين‬

‫رجلا منهم»‪.‬‬

‫فلما رأى المسلمون حز َن رسو ِل الله ﷺ وغي َظه على من فع َل بع ِّمه ما فعل‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬والله لئن أظف َرنا الل ُه بهم يو ًما من الده ِر لنُم ِّثلن بهم ُمثل ًة لم ُيم ِّثلها أح ٌد من‬

‫العرب‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عباس أن الل َه ‪ ‬أنز َل في ذلك‪ ،‬من قول‬
‫رسو ِل الله ﷺ‪ ،‬وقو ِل أصحابِه‪( :‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬

‫ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النحل‪]557-556:‬؛ فعفا رسو ُل الله ﷺ‪،‬‬

‫وصب َر ونهى عن المُثل ِة‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن ابن عبا ٍس قال‪ :‬أمر رسو ُل الله ﷺ بحمز َة ف ُس ِّج َي‬
‫ب ُبرد ٍة ثم صلى عليه‪ ،‬فكبر سب َع تكبيرات‪ ،‬ثم ُأت َي بال َقتلى فيو َضعون إلى حمز َة‪ ،‬فصلى‬

‫عليهم وعليه معهم‪ ،‬حتى صلى عليه ثنتي ِن وسبعين صلا ًة‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان قد احتمل نا ٌس من المسلمين قتلاهم إلى المدين ِة‪،‬‬

‫فدفنوهم بها‪ ،‬ثم نهى رسو ُل الله ﷺ عن ذلك‪ ،‬وقال‪« :‬ادفنوهم حيث ُصرعوا»‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬عن عب ِد الله بن ثعلب َة أن رسو َل الله ﷺ لما أشر َف على‬
‫القتلى يو َم ُأ ُح ٍد قال‪« :‬أنا شهيد على هؤلاء‪ ،‬إنه ما من جري ٍح ُيجر ُح في الله إلا واللهُ‬

‫‪ | 048‬مختصر السيرة النبوية‬

‫يبعثه يو َم القيامة َيدمي ُجر ُحه‪ ،‬اللو ُن لون د ٍم والريح ري ُح مسك‪ ،‬انظروا أكث َر‬
‫هؤلاء جمعا للقرآ ِن‪ ،‬فاجعلوه أما َم أصحابِه في القبر» وكانوا َيدفنون الاثني ِن‬

‫والثلاث َة في القب ِر الواح ِد‪.‬‬

‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬وكان يو ُم أ ُحد يو َم السب ِت للنصف من شوال‪.‬‬

‫قال‪ :‬فلما كان الغ ُد من يوم الأحد لست عشر َة ليل ًة مضت من شوال‪ ،‬أ َّذن‬
‫مؤذ ُن رسو ِل الله ﷺ في الناس بطل ِب العد ِّو‪ ،‬فأذن مؤذ ُنه ألا يَخرجن معنا أح ٌد إلا‬
‫أح ٌد ح َض يومنا بالأم ِس‪ ،‬فك َّلمه جاب ُر بن عب ِد الله بن عمرو بن َحرا ٍم فقال‪ :‬يا‬
‫رسو َل الله‪ ،‬إن أبي كان خ َّلفني على أخوا ٍت لي سب ٍع‪ ،‬وقال‪ :‬يا ُبن َّي‪ ،‬إنه لا ينبغي لي‬
‫ولا لك أن نتر َك هؤلاء النسو َة لا رج َل فيهن‪ ،‬ولست بالذي أوثر َك بالجها ِد مع‬

‫رسو ِل الله ﷺ على نفسي‪ ،‬فتخ َّل ْف على أخواتِك‪ ،‬فتخلف ُت عليهن‪.‬‬
‫فأ ِذن له رسو ُل الله ﷺ‪ ،‬فخر َج معه‪ ،‬وإنما خرج رسو ُل الله ﷺ ُمره ًبا‬
‫للعد ِّو‪ ،‬وليب ِّل َغهم أنه خر َج في طلبهم‪ ،‬ليظنوا به ق َّو ًة‪ ،‬وأن الذي أصا َبهم لم يوهنهم‬

‫عن عد ِّوهم‪.‬‬
‫قا َل اب ُن إسحا َق‪ :‬فخر َج رسو ُل الله ﷺ حتى انتهى إلى حمرا ِء الأس ِد‪ ،‬وهي‬
‫من المدين ِة على ثماني ِة أميا ٍل‪ ،‬فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء‪ ،‬ثم رجع إلى‬

‫المدين ِة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد م َّر به معب ُد بن أبي َمعب ٍد الخزاع ُّي‪ ،‬وكانت خزاع ُة‪ ،‬مسل ُمهم‬
‫ومش ِركهم َع ْي َب َة ُنص ٍح(‪ )1‬لرسو ِل الله ﷺ بتِهام َة‪ ،‬صفق ُتهم معه(‪ ،)2‬لا يخفون عنه‬

‫(‪َ )1‬ع ْي َبة ُنصح‪ :‬أي‪ :‬موضع سره‪.‬‬
‫(‪َ )2‬ص ْف َق ُتهم معه‪ :‬من تصافق القوم إذا تبايعوا‪.‬‬

‫مختصر السيرة النبوية‏|‏‪049‬‬

‫شي ًئا كان بها‪ ،‬ومعب ٌد يومئ ٍذ مشر ٌك‪ ،‬فقال‪ :‬يا محم ُد‪ ،‬أما والله لقد ع َّز علينا ما‬
‫أصا َبك‪ ،‬ولوددنا أن الل َه عافاك فيهم‪ ،‬ثم خر َج ورسو ُل الله ﷺ بحمرا ِء الأسد‪،‬‬
‫حتى لقي أبا سفيا َن بن حر ٍب ومن معه بالروحا ِء‪ ،‬وقد أجمعوا الرجع َة إلى رسو ِل‬
‫الله ﷺ وأصحابِه‪ ،‬وقالوا‪ :‬أصبنا ح َّد أصحابِه وأشرا َفهم وقا َدتهم‪ ،‬ثم نرج ُع قبل‬

‫أن نستأ ِص َلهم! ل َن ُك َر َّن على بقيتهم‪ ،‬فلنَف ُرغ َّن منهم‪.‬‬

‫فلما رأى أبو سفيان َمعب ًدا‪ ،‬قال‪ :‬ما ورا َءك يا معب ُد؟ قال‪ :‬محم ٌد قد خر َج في‬
‫أصحابه يطل ُبكم في جم ٍع لم أ َر مث َله قط‪ ،‬يتح َّرقون عليكم تحر ًقا‪ ،‬قد اجتم َع معه من‬
‫كان تخلف عنه في يو ِمكم‪ ،‬ون ِدموا على ما صنعوا‪ ،‬فيهم من ال َحن ِق عليكم شي ٌء لم‬

‫أ َر مث َله قط‪ ،‬قال‪ :‬ويحك! ما تقو ُل؟‬

‫قال‪ :‬والله ما أرى أن َترتح َل حتى أرى نواص َي الخي ِل‪ ،‬قال‪ :‬فوالله لقد أج َمعنا‬
‫الك َّر َة عليهم‪ ،‬لنستأص َل بق َّيتهم‪ :‬قال‪ :‬فإني أنها َك عن ذلك‪.‬‬

‫قال‪ :‬والله لقد حملني ما رأي ُت على أن قل ُت فيهم أبيا ًتا من شع ٍر‪.‬‬

‫قال‪ :‬وما قل َت؟‬

‫قال‪ :‬قلت‪:‬‬
‫كادت ُت َه ُّد من الأصوا ِت را ِحلتي ** إذ سال ِت الأر ُض بال ُجر ِد الأبابي ِل‬
‫َتــردي ب ُأســ ٍد كــرا ٍم لا َتنابِلــ ٍة ** عنــد اللقــا ِء ولا ِميــ ٍل معازيــ ِل‬

‫فثنى ذلك أبا سفيا َن ومن معه‪.‬‬
‫وم َّر به رك ٌب من عب ِد القيس‪ ،‬فقال‪ :‬أين ُتريدون؟ قالوا‪ُ :‬نريد المدين َة؟‬


Click to View FlipBook Version