رئيس التحرير ال ُمد ّقق اللغوي
القس ربيع طالب لينا أبو جودة زعرب
المسؤولية أمام هيئة التحرير
الجهات الرسم ّية
الشيخة إلهام أبو عبسي
القس جورج ديب مراد القس بطرس زاعور
القس سليم فرح
الق ّسيسة نجلا ق ّصاب
الواعظة هالة بيطار
مج ّلـة إنجيل ّيـة جامعة
أولى المجـات العربيـة ،تأ ّسسـت عـام ،1863يصدرهـا السـينودس الإنجيلي الوطني في سـورية ولبنان 1
الفصل الثالث2020
الحضور الإنجيلي في الشرق الأوسط
تأ ّملات وعظات ١
النوستالجياوالحضورالمسيحي ..........................................الأخ أدون نعمان 4
هل من ضوء في آخر النفق؟ �������������������������������������� الأخ خيرالله عطاالله 12
أين نحن من أزمات 2020؟ �������������������������������������� الشيخة وفا س ّعود 18
إذا انقلبت الأعمدة ،ماذا يفعل الص ّديق ؟ ............................الشيخ إيليا الح ّداد 21
دراسات ومقالات ٢
السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان ............................. :القس أديب 25
إرث مجيد ...شهادة ح ّية
الكنيسة الانجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة........:القس د .متري الراهب 43
البدايات التي ش ّكلت الحاضر
الكنيسةالإنجيليةالأسقفيةالعربية(الانكليكانية) ...........القس جورج جبرا القبطي 51
في القدس والشرق الأوسط :تاريخ وشهادة وتحديات
الكنيسة المعمدان ّية الانجيل ّية في لبنان ������������������������ :القس د .حكمت ق ّشوع 62
بين إرث الماضي وتط ّلعات المستقبل
درس كتاب 3
الخليقة في العهد القديم��������������������������������������� القس د .هادي غنطوس 83 4
هل خلق الله العالم ...في ستة أيام؟ 84 .................................................
ألم يخلقنا الله على صورته كشبهه ...ويسلطنا على كل خليقته؟ 102 ......................
أ ْخ َبا ُرنا
مركز أبناء الكلمة الإنجيلي الطبي يبصر النور في حلب 115 ................................
الكنيسة الإنجيلية الوطنية في حمص ُتك ّرم راعيها القس يوسف ج ّبور 116 ..................
جمعية تح ّنن الإنجيلية ُتطلق مشروع «أمل بيروت 118 .................. »Beirut Hope
رئيس الجمهورية اللبنانية ُيك ّرم رئيس الجامعة اللبنانية الأميركية 119 ......................
ما جمعه الله لا يف ّرقه إنسان121 ............................................................
على رجاء القيامة122 .....................................................................
2
1تأ ّملاتوعظات
النوستالجيا والحضور المسيحي
هل من ضوء في آخر النفق؟
أين نحن من أزمات 2020؟
إذا انقلبت الأعمدة ،ماذا يفعل الص ّديق؟
النوستالجيا
والحضور المسيحي
الأخ أدون نعمان*
« َق ْد َك َّل ْم ُت ُك ْم ِب َذا لِ َي ُكو َن َل ُك ْم ِ َّف َسل َا ٌمِ .ف ا ْل َعا َلِ َس َي ُكو ُن َل ُك ْم ِضي ٌقَ ،ول ِك ْن ثِ ُقوا:
َأ َنا َق ْد َغ َل ْب ُت ا ْل َعا َ َل» .إنجيل يوحنا ()33 :16
النوستالجيا أو التوق إلى الماضي ،هي حالة عاطفية ُتص َنع في إطا ٍر مح ّدد وفي أوقا ٍت
وأماك َن معينة ،وتوصف بأنها عملية استرجاع مشاعر عابرة ولحظا ٍت سعيدة من
الذاكرة ،وطرد اللحظات السلبية جميعها .وهي كلمة ُمر ّكبة من جذرين يونانيين
(رومنة) nóstos νόστος :وتعني العودة للوطن أو للجذور ،وكلمة ἄλγος
álgosوتعني الألم المتواصل الخفيف.
يقول الروائي الفرنسي مارسيل بروس « :Marcel Proustإن تذ ُّك َر أشيا َء من
الماضي ليس بالضرورة أن يكون مثل تذ ُّكر الأشيا ِء كما كانت عليه في وق ٍت مضى…».
ويقول الأستاذ في علم السلوكيات نيك تشاتر « :Nick Chaterإذا ك ّنا نعتقد ح ًقا
أ َّن الأمور كانت أفضل في الماضي ،ينبغي لنا أن نتصور أ َّنه إذا استطعنا «استرجاع
الوقت» فلا ب ّد أن نرى الحياة تتحسن بشكل ُمطرد… لكن تلك العودة ستقودنا من
بين أمور ش ّتى إلى أحداث 11سبتمبر ،والمواجهة النووية العالمية ،وحربين عالميتين،
وزيادة في وفيات الأطفال ،وانخفاض العمر المتوقع للفرد ،وفقدان الاختراعات
* خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في اليازدية
4
تأملات وعظات
والاكتشافات التكنولوجية جميعها التي جعلت حياتنا أسهل مثل الانترنت والهواتف
المحمولة والحواسيب الشخصية وهلم ج ًرا… ».
في الحقيقة ،ت ُما َرس في النوستالجيا أو استرجاع ذكريات الماضي بع ٌض من أخطاء
التفكير ومنها :التفكير الانتقائي بإختيار الإيجابيات وتجاهل السلبيات ،والمبالغة،
والتعميم الزائد ،والتفكير المستق َطب (الكل أو لا شيء ،أبيض أو أسود) ،والتفكير
العاطفي (تفسير الأمور وفق ًا لرغبة الفرد وحاجته) ،واستيعاب شيئ وتصويره
اعتماد ًا على جزء منه وإهمال الباقي .وتميل الذاكرة البشرية إلى نسيان الأحداث السيئة
في الماضي ،وهناك نزعة للإسهاب في ذكر الأشياء الجيدة التي حدثت حينها .ويميل
الناس إلى التركيز على مساوئ الحاضر ،وبالمقارنة مع محاسن الماضي -بعد تصفيته من
مساوئه -تبدو حياتهم الراهنة أكثر سو ًءا مما هي فعل ًيا.
تقول استاذة الإرشاد النفسي والتربوي سماح عليان« :لا شك أ َّن الحنين إلى الماضي
بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة ،ولكن تكمن الخطورة في إدمان استرجاع
5
ذكريات الماضي؛ وفي المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل النكوص (ممارسة
سلوكيات لا تتناسب مع العمر) وأحلام اليقظة ،والإنكار (مثل :إنكار موت عزيز
أو إنكار التعرض لتجربة مريرة) .وإن اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية
للتخلص من التوتر والألم النفسي وفي البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم
يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة ،ويصبح الفرد عاجز ًا عن
اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات» .ويقول برتراند راسل Bertrand
Russellفي كتابه «الفوز بالسعادة»« :السعادة ليست هروب ًا من الواقع ومآسيه إنما
التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا… والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط
في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا…».
بتعبي ٍر أخر ،إذا ما أمعنا النظر في اللحظات التي نح ُّن فيها إلى الماضي ،نلاحظ أنها
تتصادف مع خوفنا من المستقبل .الأمر متعلق فقط بقلقنا مما ينتظرنا ،وعقلنا يدفعنا
في تلك الحالة إلى الاحتماء بالذكريات .في الحقيقية ،الماضي لم يكن بتلك الروعة ،و
الحاضر ليس قبي ًحا كما نتصور ،لكننا دائم ًا نح ُّن إلى ما انتهى لأن مساوئه انتهت .ونظن
أننا لو ُعدنا ،فسننجو من تلك المساوئ .وهذا غير صحيح ،وما علينا فعله هو الامتنان
لما بين يدينا.
إن الحاضر هو الزمن الوحيد الذي نملك مفاتيح سعادته لأ َّننا نعي ُش فيه ،وهذه
السعادة مرتبطة بطبيعة الفرد وتكوينه ومزاجه وشخصيته ومقدار رضاه عن نفسه،
وفي القدرة على الاستمتاع بالمشاعر العميقة والشعور بالامتنان والشكر والانتماء
لهذه الحياة ،وإدراك الواقع بفعالية من خلال إيقاظ الغايات النبيلة والإنسانية وليس
للأحداث الخارجية إلا تأثي ٌر غير مباشر.
6
تأملات وعظات
أعلم صعوبة تقبل الجملة الأخيرة مقارن ًة مع ما نعيشه في أوطاننا اليوم .وهذا تمام ًا
ما لاحظته عند قراءتي لحوار على إحدى منصات التواصل الاجتماعي ،والذي كان
حول دور المؤمن المسيحي في تغيير واقع المجتمع والوطن عموم ًا ،بالإضافة لتناوله
مسألة وجود هذا الدور من عدمه .لقد أحزنني أ َّن أغلب التعليقات كانت مليئة
بالخوف والإحباط والخنوع بل وبالاستسلام للواقع الذي ُيعت َقد أنه ميؤو ٌس منه وغير
قابل للإصلاح .وهذا ما يدفع شبا َبنا معظمهم اليوم إلى التفكير بالهجرة على أنها هي
الحل الأمثل للتخلص من هذا الواقع المزري.
أذكر هنا حوار ًا دار بيني وبين أحد خدام كنائسنا المشهود لهم والذي تركني بإنطباع
يملؤه التساؤل .حيث قال لي« :أريد أن أهاجر ،ليس لأني أعاني من مشكلات مالية أو
لشعوري بعدم الأمان .بل أريد المغادرة لأني لا أستطيع أن أعيش إيماني ومسيحيتي كما
يجب .فلكي تكون في مأمن وتكسب مال ًا وفير ًا يضمن لك ولعائلتك الحياة الكريمة؛
عليك العمل بعقلية تخالف ما نؤمن به ،وتتضارب مع أخلاقك المسيحية .لذلك أنت
مضطر لمجاراة الفساد المستشري أو أنك ببساطة ستجد نفسك خارج سوق العمل».
والسؤال القديم الجديد الذي تبادر إلى ذهني عندها هو :هل نحن حق ًا غرباء في
أوطاننا؟ هل دعوتنا بصفتنا مسيحيين مؤمنين هي للبقاء أم للمغادرة عند أول فرصة
تتاح لنا؟ بالنسبة لي ،يمكن أن أتحمل مسؤولية قراري عندما أتخذت قرار البقاء في هذه
البلدان المضطربة .ولكن هل يحق لي تشجيع الآخرين على فعل ذلك أيض ًا في ظل كل
هذه المعاناة والتحديات التي ُأعاي ُنها في حياة الناس كل يوم؟
إنها أسئلة صعبة جد ًا ،وأعتقد أن أي إنسان حكيم عاقل سيتردد في الإجابة عن
7
هذه الأسئلة رهب ًة من تحمل وزر المسؤولية .ولكن الشيء الوحيد الذي ما أزال متيقن ًا
منه هو أنني سأستمر في الصلاة لربنا وإلهنا يسوع المسيح ليكون معنا في هذه المحنة،
وسأطلب منه أن يمنحنا روح الحكمة لنعيش حياتنا وفق ًا لإيماننا وأخلاقنا المسيحية في
أي مكان من هذا العالم ،وسأصلي يومي ًا أن يكون حضورنا بصفتنا مسيحيين عموم ًا
وإنجيليين تحديد ًا في هذا الشرق التاريخي العظيم أكثر فاعلي ًة وتأثير ًا كما هو الحال منذ
بدء قدوم الإرساليات التبشيرية قبل أكثر من مئتي عام.
في الحقيقة ،عند كل حوا ٍر يتعلق بالحضور المسيحي الإنجيلي في الشرق الأوسط،
دائم ًا ما ُيشار إلى كم هذا الحضور ونوعه ،وأ َّن أثر الإنجيليين هو بنوعه بغض النظر
عن حقيقة الأعداد التي تهاجر عند تجدد أي صراع في المنطقة .وكثير ًا ما ُتستخ َدم في
هذه الحوارات تشابيه من الكتاب المقدس ،مثل أ َّن الإنجيليين هم ملح في هذا العالم
وكمية قليلة منه كافيه لتترك مذاقها في المجتمع الكنسي والوطني أمثال فارس الخوري
وبطرس البستاني وغيرهم .ولكن هنا يتم تجاهل حقيقة منطقية وهي أ َّن زيادة العدد
هي أيض ًا ملازمة لزيادة التأثير .واليوم ،إذا ما ُأ ِري َد تقييم مستقبل الحضور المسيحي في
الشرق انطلاق ًا من الواقع الحالي فهو بائ ٌس وتعيس .وبالتمعن بالإحصائيات السكانية
نجد أ َّن الواقع كئيب جد ًا ،لا سيما بعد الحرب السورية.
في هذا الصدد ،ألخص بشكل مختصر ثلاث نقاط رئيسة تح َّدث عنها الدكتور
جورج صبرا في إحدى محاضراته التي كانت بعنوان «المستقبل المسيحي في الشرق
الأوسط» حيث أشار إلى أ َّن هناك ثلاثة نقاط يجب العمل على تطويرها من أجل تغيير
هذا الواقع.
8
تأملات وعظات
• النقطة الأولى :تتعلق بعلاقة الطوائف المسيحية ببعضها البعض .على قادة
الطوائف المسيحية الإستعداد للعمل والتطلع مع ًا في كيفية مواجهة التحديات التي
يعيشونها كلهم على ح ٍد سواء ،لذلك على كل قادة الكنائس وخدامها أن يعملوا ،ليس
فقط على تطوير العلاقة المسكونية فيما بينهم ،بل على استعجال حدوث هذا التطور.
وإل ّا فلن يكون لهذا العمل المسكوني أي تأثير حقيقي؛ إذا ما جاء ُمتأ ِخر ًا في هذا الزمن
المتسارع.
• النقطة الثانية :تهتم بوحدة المصير الإسلامي المسيحي في الشرق الأوسط.
عند قراءة تاريخ المنطقة نجد العديد من الشواهد التي تربط المصيرين مع ًا ارتباط ًا
وثيق ًا؛ لا تجدي معه الحلول الموجه لطرف واحد دون الآخر .فصيرورة الإسلام في
الشرق الأوسط هي صيرورة المسيحية أيض ًا .وبالتالي البحث عن حلول للمسيحيين
فقط في الشرق الأوسط هو وهم يلزم الحذر منه.
• النقطة الثالثة :تختص بعلاقة «مستقبل الحضور المسيحي في الشرق الأوسط»
مع نظرة الغرب السياسية للمنطقة وكيفية تعاطيه معها .فهل يمكن للغرب أن ينظر
لمنطقة الشرق الأوسط بعيد ًا عن المصالح الاقتصادية والمحاباة السياسية لأي طرف
كان في المنطقة؟
أعتقد أ َّنه يجب َأن تؤخذ هذه النقاط بالحسبان عند الإجابة عن السؤال المتعلق
بمستقبل الحضور المسيحي في الشرق الأوسط .والغالب أن هذه النقاط تعمق من
معضلة الوصول إلى إجابة أو إجابات مباشرة وواضحة ،ولكن هذا هو الواقع الذي
يجمعنا كلنا بغض النظر عن طائفتنا وديننا والمجموعة التي ننتمي إليها .وتفعيل
9
الحضور المسيحي يحتاج إلى خطوات ف ّعالة في الاتجاهات جميعها ،والخطوات الفردية
أصبحت مثل ذر الرماد في العيون.
هذا هو واقع الحال ،ولكن هل نستسلم؟ بالتأكيد لا .هل الهجرة ح ٌل ملائم
للجميع؟ هل هي الخلاص الأخير؟ هل هي النهاية المحتومة؟ أشك في ذلك .إن
كانت عقولنا كما قرأنا في البداية مبرمجة لتذكر الأحداث الجميلة فقط؛ فإن مهمتنا هي
أن نخلق تلك الأحداث السعيدة التي لن ننساها .لذلك ،دعوتنا هي في أن نصن َع من
حاضرنا ما ٍض جميل نتذكره في المستقبل.
عام 2020عا ٌم جميل إذا ما كنا فاعلين في بيئتنا ،وقمنا بأعمال تبث الفرح والسرور.
مثل :الإطمئنان على مريض ،أو مساعدة محتاج ،أو متابعة أشخاص يشعرون بالآلم
والتعب النفسي ،أو تنظيف مكان عام ،أو تزيينه ،إلخ .لذلك على كل أب وأم أن
يبتكروا أحداث ًا ملهمة لتبقى في ذاكرة أولادهم .وعلى الأبناء أن يشاركوا مع أهاليهم
نشاطات تملؤها السعادة لتخلدها ذاكرتهم في المستقبل .وكذلك الأمر بالنسبة
للمديرين ورؤساء العمل وقادة الكنائس وخدامها ،عليهم العمل أكثر لإيجاد حلول
للأزمات التي يواجهونها ،وتعلم كيفية إدارتها ،وتطوير دور قادة وخدام الكنائس
ليكون ذا تأثير أكبر في المجتمع المحلي والوطني.
ولنتذكر نحن جميع ًا كلمات بولس الرسول في رسالته إلى أهل روميةَ « :وا ِّدي َن
َب ْع ُض ُك ْم َب ْع ًضا بِا ْلَ َح َّب ِة ال َأ َخ ِو َّي ِةُ ،م َق ِّد ِمي َن َب ْع ُض ُك ْم َب ْع ًضا ِف ا ْل َك َرا َم ِةَ .غ ْ َي ُم َت َكا ِس ِلي َن
ِف الا ْجتِ َها ِدَ ،حا ِّري َن ِف ال ُّرو ِحَ ،عابِ ِدي َن ال َّر َّبَ ،ف ِر ِحي َن ِف ال َّر َجا ِءَ ،صابِ ِري َن ِف ال َِّض ْي ِق،
ُموا ِظبِي َن َع َل ال َّصل َا ِةُ ،م ْش َ ِت ِكي َن ِف ا ْحتِ َيا َجا ِت ا ْل ِق ِّدي ِسي َنَ ،عا ِك ِفي َن َع َل إِ َضا َف ِة ا ْل ُغ َر َبا ِء».
10
هناك دائما فرصة جديدة ،هنا في هذا المكان الذي نتواجد فيه ،و الآن في هذه
اللحظة التي نقرأ فيها هذه الكلمات.
فلنصنع ماضينا.
للتوسع:
*1 https://www.wbs.ac.uk/news/why-we-think-life-was-
better-in-the-good-old-days/
*2 https://www.aljazeera.net/blogs/20186/10//
% D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 9 8 6 % %D 9 8 8 % %D 8 % B 3
% D 8 % A A % D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 8 % A C % D 9 8 %
A % D 8 % A 7 - % D 9 8 4 % %D 9 8 5 % %D 8 % A 7 % D 8 %
B0%D8%A7-%D98 %A%D984% %D8%AC%D8%A3-
% D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 8 % A 5 % D 9 8 6 % %
D8%B3%D8%A7%D986-%
%D984%%D984%%D8%B9%D98%A%D8%B4
* 3الفوز بالسعادة .برتراند راسل.
* 4في سبيل الحوار المسكوني :مقالات لاهوتية إنجيلية .الدكتور جورج صبرا،
.2001
* 5محاضرة ألقاها الدكتور جورج صبرا باللغة الألمانية في الاجتماع السينودسي
السنوي للكنيسة الإنجيلية في هيسن وناساو ،في فرانكفورت ،في 24نيسان .2009
11
هل من ضوء
في آخر النفق؟
الأخ خيرالله عطاالله*
مسيحيو الشرق الأوسط :ظروف وتحديات
يعتبر التساؤل عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط أحد أهم الأسئلة التي ما
زالت تطرح نفسها منذ نهايات القرن التاسع عشر على أي مفكر أو باحث مهتم
بقضايا المنطقة .ولكن جدية هذا التساؤل أخذت بالازدياد بشكل مطرد إثر الحرب
الأهلية في لبنان ،التي مالت من بعدها ملامح استشراف المستقبل نحو السوداوية لا
سيما بعد الغزو الأميركي للعراق ،ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر
ولو لفترة وجيزة ،واشتداد الأزمة السورية وما رافقها من صعود للأصولية الإسلامية
المتمثلة بداعش والنصرة وغيرها إضاف ًة إلى تدهور الحالة الاقتصادية وتدني مستوى
المعيشة.
قد دفعت كل تلك المتغيرات الكثير من المسيحيين وغيرهم إلى الاعتقاد أن
مستقبلهم سيكون أفضل إذا اختاروا الهجرة وترك الشرق الأوسط ومشكلاته .ولكن
على الرغم من أن الظروف السيئة في المنطقة لم تلق بظلالها على المسيحيين فقط بل على
كل شخص في الشرق الأوسط ،إلا أن الأعداد القليلة للمسيحيين مقارنة بالمسلمين
في المنطقة تجعل مستقبلهم على المحك وتجعل السؤال عن هذا المستقبل قضية حياة أو
موت.
* خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في المالكية
12
تأملات وعظات
لا يخفى على أحد كم سال من الحبر في مناقشة هذه القضية ،فالسؤال عن مستقبل
مسيحيي الشرق الأوسط سؤال معقد ومركب تشترك فيه عوامل تاريخية وسياسية
واقتصادية واجتماعية وثقافية ولاهوتية متنوعة .وبالنتيجة يختلف المفكرون والباحثون
من علمانيين ورجال دين في تلخيص التحديات التي تواجه مسيحيي الشرق الأوسط؛
فمنهم من اعتبر أن الأصولية الإسلامية تشكل تحدي ًا واحد ًا وحيد ًا أمام الوجود
المسيحي في الشرق ،وذهب المتطرفون إلى القول أن الإسلام أصولي بطبعه ولا يمكن
له أن يقبل بوجود مسيحي إلى جواره ،متجاهلين في قولهم ذلك حقيقة وجود حقبات
تاريخية -ولو قصيرة -عاش فيها المسيحيون إلى جانب المسلمين في الشرق الأوسط
بدون نزاعات أو صراعات دموية تهدد الوجود المسيحي ككل ،ومتجاهلين أيض ًا
وجود تيارات إسلامية معتدلة تنبذ الأصولية والتطرف .وعلى الجانب الآخر أكد
بعض المعتدلون أن الأصولية الإسلامية حد ٌث طارئ في مسار التاريخ سرعان ما
سيزول وتزول نتائجه وآثاره السلبية ،ورفضوا اعتبار الأصولية جوه َر الإسلام لأن
ذلك لا يختلف عن اعتبار نهج الحملات الصليبية بعنفها وبربريتها جوه َر المسيحية .إلا
أن القارئ الموضوعي للواقع لا يكتفي بحصر التحديات أمام المسيحيين بالأصولية
13
الإسلامية ،بل يذهب أبعد من ذلك ليشير إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية التي تدفع المسيحيين لفقدان الأمل من شرقهم واتخاذ قرار الهجرة.
بجميع الأحوال ،تعكس هذه الآراء على اختلافها اتفاق ًا يربط مستقبل مسيحيي
الشرق الأوسط بمؤثرات خارجية غيرية ،ويصنف التحديات أمام وجودهم كما
لو كانت مرتبطة فقط بعوامل لا يستطيع المسيحيون التعاطي معها أو تغيرها لأنها
مرتبطة بشكل كلي بالغير .إلا أن قلة قليلة من الباحثين المسيحيين توجهت إلى الذات
المسيحية المشرقية ونظرت لها نظرة الناقد واعتبرتها مساهمة بشكل أو بآخر في مشكلتها
الحالية .ومن هنا أعتقد أن أي حديث عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط لا ينطلق
من تقييم صادق للذات ليس إلا حبر ًا على ورق ،وأن أي مقترح لدعم المسيحيين في
الشرق الأوسط لا يبدأ من تحليل منطقي موضوعي لفهم المسيحيين أنفسهم لأنفسهم
ليس إلا محاولة فاشلة وجعجعة بلا طحين.
إن القراءة المتأنية للذات المسيحية الشرق أوسطية من الداخل تكشف لنا أن الكثير
من المسيحيين اليوم يرون في المسيحية مجرد انتماء اسمي لجماعة ثقافية أو إثنية أكثر من
كونها حياة التزام أو مسؤولية ،ويعتبرون أن هذه (المسيحية) هي عضوية في جماعة
متفوقة أخلاقي ًا وفكري ًا على باقي الجماعات في المنطقة أكثر من كونها حامل ًا فاعل ًا
لرسالة إلهية جوهرها المحبة الباذلة المضحية .ويعتقد بعضهم أن عضويتهم في الجماعة
(المسيحية) تخولهم السعي وراء بناء كيانات أو (غيتوهات) خاصة مستقلة في المنطقة
تكبر وتصغر مساحتها بحسب الظروف المتاحة.
كل هذا يجعل (المسيحية) على الرغم من لاهوتها العلاقاتي عائق ًا أمام بناء حياة
شراكة حقيقية مع الآخر -مسلم ًا كان أو حتى مسيحي ًا من كنيسة أخرى ،-ويضع
14
تأملات وعظات
بالنتيجة أمام الوجود المسيحي الشرق أوسطي تحدي ًا جديد ًا مرتبط ًا بطبيعة نظر
المسيحي نفسه إلى العلاقات المسيحية -المسيحية والمسيحية -الإسلامية في المنطقة.
إن السؤال الأساسي الذي يجب الإجابة عليه في هذا الخصوص هو «هل هذه
العلاقات علاقات فعالة حقيقية تهدف إلى بناء فهم أفضل للآخر ،أم أنها مجرد التقاط
للصور وعقد مؤتمرات بلا معنى تعجز حتى عن تحديد رزنامة واحدة للاحتفال بعيد
القيامة؟» .قد اختارت بعض الكنائس في الشرق الأوسط اليوم السير قدم ًا باتجاه
علاقات أكثر فعالية مع الآخرين في حين أن بعض الجماعات المسيحية ما تزال تختار
مواقف ًا انعزالية وتبقى عالقة في صراعات تاريخية قديمة أو في مفاهيم مغلوطة عن
التبشير .في الواقع لا يمكن للمسيحيين أن ينسوا بسهولة التاريخ القاسي والدموي
الذي يحفظونه عن العلاقات سواء مع المسيحيين الآخرين أو مع المسلمين .لكن قراءة
التاريخ بعيون مفتوحة تستكشف الأبعاد السياسية للصراعات القديمة تشكل اليوم
حاجة ماسة وملحة.
وأمام كل هذه الظروف المؤلمة والتحديات القاسية ،يغدو السؤال ملح ًا« :هل من
أفق للمستقبل؟»
مسيحيو الشرق الأوسط :ضوء في آخر النفق
أعتقد بداية أن أي سؤال عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط لا يمكن فصله عن
السؤال عن مستقبل المنطقة ككل ،وهي المنطقة الغارقة في الفوضى والنزاع والمشاكل
الاقتصادية والأنظمة التعليمية المتردية والقراءات المنحازة للتاريخ .تتطلب الحالة
اليوم في الشرق الأوسط قفزة نحو الأمام في سبيل السعي وراء حياة أفضل ،وأظن أن
مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط هو في أن يقفزوا هذه القفزة وهذا هو دورهم اليوم
15
وفي قادمات الأيام.
وهنا أرى أن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط مربوط بشكل وثيق بفهم
المسيحيين أنفسهم لهويتهم المسيحية .إن الهوية المسيحية الحقيقية تعتبر العلاقات
وسيلة لبناء حياة أفضل ،وهي هوية من التواضع الذي يضع كل ما يملك في خدمة
الآخر بدلاً من الغرق في ادعاءات انعزالية متكبرة .إن الصراع مع الذات ومع الأنا هو
الصراع الأهم الذي يجب علينا كمسيحيين أن نواجهه لأنه الصراع الذي يقودنا لأن
نعيش حياة مسيحية حقيقية ،التي بدونها يغدو السؤال عن مستقبل مسيحيي الشرق
الأوسط سؤالاً عن استمرارية وجود كيان ثقافي او اجتماعي أكثر من كونه سؤالاً عن
استمرارية وجود رسالة في المنطقة.
إن فهم مسيحيي الشرق الأوسط لمسيحهم ومسيحيتهم فهم ًا حقيقي ًا وعميق ًا
سيقودهم إلى العمل على بناء هوية مشرقية جامعة غير مبنية على أسس عرقية أو
لغوية ،هوية تحترم الحقوق الدينية والخصوصية الثقافية للجماعات المختلفة وتستفيد
من قراءة متجددة للتاريخ لا كمنبع للثأر بل كمنبع للدروس التي لا يجب تكرارها،
هي هوية ترفض استخدام الدين كغطاء للصراعات السياسية والاقتصادية.
لا بد من الاعتراف أن بناء هذه الهوية المشرقية الجامعة ليس بالأمر السهل ،ولا
يمكن تحقيقه بقرار سياسي أو من خلال مؤتمر أكاديمي ،بل هو أمر يبدأ بمبادرات
بسيطة وجادة يقوم بها أشخاص عاديون في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم مع جيرانهم،
فحين تمتد يد المسيحي الشرق أوسطي لتعين بالمحبة متألم ًا أو متعب ًا في المنطقة بغض
النظر عن هويته تبنى لبنة في صرح الهوية المشرقية الجامعة ،وحين يحتضن المسيحي
الشرق أوسطي بالمحبة المضحية لاجئ ًا أو مشرد ًا بغض النظر عن خلفيته الدينية
16
تأملات وعظات
تضاف قطرة في كوب الهوية المشرقية الجامعة ،وحين يزور المسيحي الشرق أوسطي
بالمحبة التي لا تطلب ما لنفسها مريض ًا أو محبوس ًا بدون السؤال عن انتمائه يضاف لون
مبهج إلى لوحة الهوية المشرقية الجامعة.
أعترف مجدد ًا أنها ليست مهمة سهلة ،ولكن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط
ودورهم هو في العمل والكفاح من أجل بناء هذا النوع من الهوية من خلال التعليم،
وتشجيع القراءات النقدية الغير متحيزة للتاريخ ،وتنظيم اللقاءات الجامعة على
مستوى النخبة ومستوى عامة الشعب ،وتعزيز النشاطات المشتركة مع الآخرين على
صعيد الحياة اليومية .إن السير في هذه الرحلة الطويلة الأمد هو طريق لتشجيع كل
فرد في المنطقة ليعيد تقييم الحركات الأصولية الدينية ويرفضها ،كما أنه في الوقت نفسه
سبيل جيد لتقديم صورة حقيقية عن الأديان تمحو الصور السيئة التي تراكمت عبر
قرون من النزاع وتسخير الدين لخدمة الأهداف السياسية والاقتصادية.
أن يعرف المسيحي الشرق أوسطي معنى مسيحيته الحقيقي ويتبنى نهج المسيح
يسوع في حياته اليومية ليس حلم ًا رومانسي ًا بل رحلة تتطلب التضحيات ،إلا أنه
الطريقة الوحيدة التي لا تحافظ على وجود مسيحيي الشرق الأوسط فحسب بل على
أمانتهم لإرساليتهم في أن يكونوا ملح ًا يصنع الفارق ونور ًا يضيء رغم الظلمة.
من المؤكد أن السعي لبناء هوية مشرقية جامعة لا يضمن ازدياد ًا هائل ًا في أعداد
المسيحيين في المنطقة ولكنه يحيي مسيحية لديها شجاعة المسيح وتستحق السؤال عن
مستقبلها ودورها .من المؤكد أن هذا السعي لا يضمن نجاح ًا باهر ًا إلا أنه سعي
متناسب مع هوية المسيح الذي يضحي بحياته من أجل حياة أفضل لآخرين ،والذي
لا يسمح لعتمة العالم أن تمنعه عن السير نحو الضوء في آخر النفق.
17
أين نحن من
أزمات 2020؟
الشيخة وفا س ّعود*
ُتعتبر منطقة الشرق الأوسط من دون أدنى شك منطقة كثيرة المشاكل على الصعيد
السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي ،فهي كما يتم وصفها بالعامية «منطقة
دايم ًا عم تغلي».
ونحن في لبنان بشك ٍل خاص ،حملت لنا سنة 2020الكثير من القسوة في أزماتها.
بدأت إنتفاضة الشعب في تشرين الأول لتتبعها أزم ًة إقتصادية خانقة ،ثم أتى
فيروس كورونا في شهر شباط وفرض الحجر المنزلي فالتسكير وتضخيم أزمتنا
الاقتصادية .وأخير ًا وليس آخر ًا ،وقع إنفجار بيروت المشؤوم في شهر آب وحصد
قتلى ،جرحى ،مفقودين وخسائر مادية هائلة لتزيد معها حدة الأزمة الإقتصادية .أين
نحن من هذه الأحداث وتداعياتها؟
الوضع النفسي لأغلبنا هو س ِّيئ .نحن حزينون ،نبحث عن الأمل والتغيير .نحتاج
للتعزية والمساعدة .ولع َّل أبلغ التعابير الصادقة التي اس ُتع ِملت في ذلك الإنفجار
كانت« :ما متنا بس نحنا مش مناح»..
جز ٌء كبير من اللبنانيين يفكرون بالهجرة ،بالرحيل إلى أي مكان يشعرون فيه
* شيخة في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في منيارة -ع ّكار
18
تأملات وعظات
بالراحة والأمل .نعيش هذا التحدي المستم ّر« :ببقى أو بف ّل؟»
فيأتي الكتاب المق ّدس ليك ِّلمنا بالعديد من آياته العميقة ،أذكر منها:
«قد كلمتكم بهذا ليكون لكم ف ّي سلام .في العالم سيكون لكم ضيق ،ولكن ثقوا أنا
قد غلبت العالم ».يو 16:33
«نفتخر أيض ًا في الضيقات ،عالمين أ َّن الضيق ُينشئ صبر ًا ،والصبر تزكي ًة ،والتزكية
رجا ًء ،والرجاء لا ُيزي ،لأ َّن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى
لنا ».رو 3-5:5
«ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتو َّقعه بالصبر ».رو 8:25
«وأما الإيمان فهو الثقة بما ُيرجى والإيقان بأمو ٍر لا ُترى ».عب 11:1
نحن نؤمن بمسي ٍح قام من الموت ..الموت الذي نعجز ح ّتى عن فهمه .الموت
الذي يعتبره الجميع نهاية ،أما نحن فنعلم أنه بداية .كثيرون يعتبرون أ َّن لبنان ُيتضر
ولا يريدون رؤية ذلك ،آخرون يرون أ َّنه مات ولا أمل من إنعاشه .وإذا أردنا قول
الح ّق فعلينا التصريح بأ َّن أغلبنا أو كلنا ننتمي إلى واحد من هذين الفريقين .ولكن
دعونا نتأمل قليل ًا بإلهنا الذي غلب الموت .هذا الإله الذي يفوق قدرتنا على الإدراك
قد ذهب أبعد من الموت وأعلن نصرة الحياة على الموت .ع َّلمنا أ ّن الموت هو عبو ٌر
إلى الض ّفة الثانية :الحياة الأبدية .هذا الإله العظيم يدعونا للثقة به .يطلب منا التح ّل
بالرجاء نحن أولاً لنتم ّكن بعدها من نشره في نفوس الآخرين.
ربما ما يم ُّر به بلدنا الحبيب هو مرحلة عبور ..قد تكون أصعب مرحلة يم ُّر فيها
وطننا ولكن من يعلم المستقبل ..القيامة ستأتي لا محال ..قد لا نرى قيامة لبنان ولكن
19
يجب أن نؤمن بها .نحن ،أولادنا ،أحفادنا ،أحفادهم ،أو من سيأتي بعدهم سيرون
لبنان ًا جديد ًا يشبه أحلامنا .سيأتي اليوم الذي يتح ّقق فيه حلم لبنان .هذا يذكرنا أ َّن
المسيح نفسه لم يكن يعيش في الزمن الذي انتشرت فيه المسيحية وع ُظمت .لم يشهد على
الأرض موسم الحصاد لكنّه علم أ َّنه آ ٍت حتم ًا لذلك قام بزرع البذور وع ّلم تلاميذه.
ما هو دو ُرنا في الشرق الأوسط؟ وفي لبنان بشك ٍل خا ّص؟
لبنان بحاجة للأمل والإيجابية ..بحاجة لرؤية ضو ٍء في آخر النفق ..بحاجة
للمبادرات الإنسانية ..هو بحاجة لكثي ٍر من الح ّب..
إ ّنه أر ٌض خصبة للعمل .نحن بحاجة لندعم بعضنا البعض بك ْل الإمكانيات
المتوفرة.
بل ُدنا لا يحتاج فقط إلى المزيد من الأشخاص الناجحين ،هو يحتاج لمزيد من صانعي
السلام ،لمزيد من الإنسانيين ،المحبين ،والطامحين إلى التغيير..
قد لا نستطيع أن ُنغ ِّي لبنان لكننا نقدر أن نصنع فرق في بيتنا ،في كنيستنا ،وفي محيط
عملنا .نستطيع أن نساعد مادي ًا حتى لو بالقليل فهناك من قد يكون بأم ّس الحاجة
إليه .نقدر أيض ًا أن نساعد معنوي ًا بمحاولة نشر الإيجابية والأمل .ولنفعل ذلك ،علينا
بالرجاء والمحبة.
فلنص ِّل لله ليمنحنا القوة والصبر ،ليزرع فينا الأمل ولينير قلوبنا بالمحبة ،محبته التي
تستطيع أن تشمل جميع الناس .كما دعونا أن لا ننسى شكره لأنه يعطينا فرصة أن
نصنع فرق .نشكره لأنه يعمل عبرنا وعبر الجميع بطر ٍق تقليدية وغير تقليدية .آمين.
20
تأملات وعظات
إذا انقلبت الأعمدة
فالص ّديق ماذا يفعل؟
الشيخ إيليا الحداد*
يمر العالم اليوم في وقت من أصعب الأوقات حرج ًا ،إجتماعي ًا وإقتصادي ًا وصحي ًا.
كل شيء ينهار من حولنا ،فماذا يفعل المؤمن المسيحي في وقت مثل هذا؟! والخوف على
المستقبل هو سيد الموقف عند جميع الناس!
الكل يحارب فيروس كورونا على طريقته .فبعض الدول توقف الطيران منها
وإليها ،والبعض الآخر يحجر المواطنين في بيوتهم ويقفل كل شيء كالمطارات
والمؤسسات الوطنية العامة والمدارس وكذلك الجامعات .وكل هذا ليس بكاف ولا
يصمد أمام هذا الوباء القاتل .الإصابة بالفيروس أضحت محتملة لكل نفس حية
على هذا الكوكب .حتى الدول المتحاربة تركت ضغوط الحرب ونسيت ُم َعادا ِتا
لألد أعدائها ،كل هذا بسبب وجود الفيروس الذي شغل المسكونة وليس من علاج
معتمد.
من هنا التحدي أمام كنيسة المسيح أو جماعة المؤمنين .يقول الرب في المزمور :
« الرب أشرق من علياء قدسه ،لينظر هل من فاهم طالب الله؟»
يتساءل إمام المغنين في المزمور الحادي عشر«:كيف تقولون لنفسي اهربوا إلى
جبالكم كعصفور» .و ُيكمل في العدد الثالث« :إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا
يفعل؟» .ثم يجيب كاتب المزمور مباشر ًة في العدد الذي يليه« :الرب في هيكل قدسه،
* شيخفيالكنيسةالإنجيليةالوطنيةفيصيدا 21
الرب في السماء كرسيه ».وكأنه يقول :ما دام الرب في كرسيه فإن عينا الرب تنظرا
وأجفانه تمتحنا بني آدم .فلماذا أخاف؟! عندما تنقلب جميع الأعمدة فلي في السماء
معين يقف ليحامي عني .وبتصدر المزمور الجواب على كل هذه التساؤلات« :على
الرب توكلت».
بعد عودته من الحرب في إحدى المعارك وهو لم يكن قد استلم ملكه بعد ،حدث
أن أتى بني عماليق ،أعداء الرب ،وغزوا تلك البلدة التي كان يسكن فيها داود ورجاله
الستمائة .لقد أخذوا من داود ورجاله كل ما كان لهم وسبوا النساء والأولاد والبنات،
وقد اخذوا كذلك الأبقار والأغنام وكل المواشي وكل أمتعتهم وذهبهم وفضتهم
وأحرقوا البلدة بعدما غزوها .وبعد وصول الملك داود ورجاله متعبين ،رأوا من
بعيد الدخان والروائح صاعدة من بيوتهم.هل من موقف أصعب من هذا؟! .يقول
الكتاب المقدس « :فرفع داود والشعب الذي معه أصواتهم وبكوا حتى لم تبقى لهم
قوة للبكاء .فتضايق داود جد ًا لأن الشعب قالوا برجمه لأن أنفس الرجال كانت مرة
كل واحد على بنيه وبناته».
في أعمق لحظات الضعف واليأس والإحباط يقول الكتاب:
«أما داود فتشدد بالرب إلهه»
من أين أتت هذه القوة التي أخذها داود من الرب في وسط هذا اليأس؟ لقد انقلبت
من حوله جميع الأعمدة على رأسه .فكيف له أن يتشدد في عمق حالة اليأس هذه؟!.
لقد صلى داود إلى الرب وسأله «إذا لحقت هؤولاء الغزاة هل أدركهم؟ فأجابه الرب
إنك تدرك وتنقذ( ».صموئيل الأول )8 :30
فجمع داود رجاله وقام ولحق بالغزاة وأدركهم وهم يحتفلون بانتصارهم وبربحهم
22
تأملات وعظات
هذه الغنيمة الكبرى .ففاجأهم داود وجيشه وضربهم من العتمة إلى الصباح واسترد
كل شيء من يدهم .لم يبقى شيء مما أخذه بني عماليق إلا واسترده داود .
زمن الكورونا هو فترة الاسترداد لكل ما قد ُسبي من كل واحد منا .إنه الوقت
لكي نتشدد بالرب إلهنا ونقترب منه عالمين أنه ليس ببعيد عن أي منا.
دعونا نحسب هذا الوقت على أنه فرصة لنا لنراجع أنفسنا ،دعوة لكي نطرح
بعض الأسئلة كخدام لرب المجد:
-كم من الأوقات التي َتاربنا فيها مع إخوتنا ونسينا أن موقع محاربتنا هو بوجه
كل ما يسعى لإفشال معظم خدماتنا؟
-هل كنا دائما على أهبة الإستعداد لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء
الموجود فينا؟
-هل كنا دائما سبب بركة لكل من حولنا أم سبب عثرة ؟
-هل فكرنا عن أسباب ركود النهضات في كنائسنا ،وما الذي يدفع كنائسنا
للنهوض من جديد؟
-هل وضعنا رؤيا روحية للكنيسة وخططنا لابتداع الحلول كي تنجح كنائسنا في
أن تكون نور ًا للعالم وملح ًا للأرض؟
أعتقد أننا كثير ًا ما تغافلنا عن تخصيص اجتماع للصلاة في كنائسنا .إجتماع يهدف
لتنمية كل من يسعى أن يتمتع بشركة روحية مباركة مع الرب الاله .شركة تبعدنا عن
كل ما يهبط عزيمتنا كي ننطلق إلى الأمام .ولإلهنا كل المجد .آمين
23
2دراساتومقالات
السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان
الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي
المق ّدسة
الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في القدس
والشرق الأوسط
الكنيسة المعمدانية الإنجيلية في لبنان
دراسات ومقالات
السينودس الإنجيلي
الوطني في سورية
ولبنان
القس أديب*
إر ٌث مجيد ...شهاد ٌة ح ّية
ُيع ّرف نظا ُم السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان (من هنا فصاعد ًا –
«السينودس») السينود َس بأ ّنه «مجموع الكنائس الإنجيل ّية المشيخ ّية الوطن ّية في سورية
ولبنان التي تتبع هذا النظام( )1وتقبل أسا َس عقيدته؛ وتنبثق عنه هيئة روح ّية عا ّمة
تكون المرجع الأعلى لهذه الكنائس وكا ّفة المؤسسات والإدارات التابعة له؛ ويرجع في
أحكامه الدين ّية إلى الكتاب ا ُلق َّدس وله شخص ّية اعتبار ّية (معنو ّية)»(.)2
نشأت هذه الكنائس وتأ ّسست ،بد ًأ من الربع الثاني من القرن التاسع عشر ،نتيجة
تلاقي جهود عدد كبير من المرسلين المشيخيين من الغرب ،مع مواطنين في ولاية
سورية وولاية جبل لبنان( )3كانوا يتوقون إلى إصلاح الكنيسة ويتهيؤون لذلك
بروح الصلاة الصادقة ،بعد أن تو ّصلوا إلى مفهوم أوضح لإنجيل المسيح .وإن كان
الجهد الأكبر في المط َلق قد ُب ِذل من قبل المر َسلين المشيخيين من الولايات الم ّتحدة،
* رئيس سابق لتحرير النشرة ،المدة2017-2008 :
()1نظا ٌميقومعلىالحوكمةوالتدبيرالمشيخ ّيين
( )2النظام الأساسي – تعري ُفه /ص1
()3هذاكانالتقسيمالجغرافيالعثمانيللمنطقةالتيتش ّكلالآنالجمهوريةالسوريةوالجمهورية
اللبنان ّية 25
إ ّل أ ّن جهود ًا أخرى كانت ُتبذل في مناطق متف ّرقة من
ولاية سورية وولاية جبل لبنان ،من قبل إرسال ّيات
أصغر حجم ًا بكثير ،ومن مؤسسات كنس ّية ،ومن
أفراد متف ّرقين من الولايات الم ّتحدة وأوروبا ،وكانوا
في غالبيتهم الساحقة ينتمون إلى التراث الإنجيلي
الـ ُمص َلحُ .عرف أولئك الذين استجابوا لرسالة
الكتاب المق ّدس بتماي ِز سلوك ّياتهم الحياتية وعبادتهم،
واختاروا لأنفسهم تسمي ًة «الإنجيل ّيون» نسب ًة إلى كلمة «إنجيل» .تم ّسكوا بقوانين
الكنيسة الجامعة التاريخ ّية ،لكنهم رفضوا كثير ًا من أنماط العبادة والتعبير عن الإيمان
السائدة في الكنائس الموجودة .لذلك ُس ِّميت الكنائس التي تأسست على هذه المبادئ
بالكنائس الإنجيلية .ومن الجدير بالذكر أ ّن انضمام كنائس إلى عائلة السينودس،
بحسب نظامه هو ،لم يتوقف ،وكان انضمام آخر كنيسة إلى السينودس في تسعينات
القرن العشرين .كما يتض ّمن نظا ُم السينودس ماد ًة خا ّصة بقبول كنائس أعضاء في
السينودس(.)4
هذه النقطة مه ّمة ج ّد ًا لفهم الإرث الذي نس ّميه «السينودس الإنجيلي الوطني في
سورية ولبنان» لناحيتين تركتا طاب َعهما ،و ُتس ِّلطا الضو َء ،على حياة وعبادة وخدمة
السينودس.
من ناحية ،لا توجد كنيسة في الشرق الأوسط تكتنز (نعم تكتنز) هذا الك ّم من
الاختبارات الروح ّية التاريخ ّية والمر َسل ّية كما يكتنز السينودس ،الأمر الذي يف ّس جانب ًا
( )4النظام الداخلي – المادة29
26
دراسات ومقالات
من مزاجه المسكوني المم َّيز والذي كان يضعه دائم ًا -ولم يزل -في طليعة ك ِّل جهد
مسكون ٍّي صادق إقليم ّي ًا وعالم ّي ًا ،كما سنرى لاحق ًا في هذه الورقة؛ ومن ناحي ٍة ثانية،
هناك إر ُث شهادة الد ّم الذي ك ّلل الكنائس المشيخ ّية في جنوب شرق تركيا وأ َج َّلها
(كانت المنطقة جزء ًا من ولاية سورية قبل الجلاء العثماني عن بلدينا) ،نتيجة المذابح
التي أطلقها العثمان ّيون ضد المسيحيين السريان والأرمن ،من دون تمييز بين رجل
وامرأة أو شيخ وطفل ،بشكل خاص في الفترة الممت ّدة من العام 1894وح ّتى العام
1918؛ الأمر الذي أ ّدى إلى هجرة الذين نجوا من المذابح إلى مناطق الجزيرة في شمال
شرق سورية وتأسيس عدد من الكنائس في مدن وبلدات المنطقة ُعرفت بصلابة إيمانها
وتقواها وش ّدة تم ُّسكها بعقيدتها الـ ُمص َلحة .طبع ًا لا يمكن أن ننسى ما خ ّلفته أحداث
العام 1860في لبنان ودمشق ،حيث اس ُتش ِهد عد ٌد كبير من شعب السينودس ،و ُ ِّشد
مئا ٌت آخرون.
بعد أن وضعت الحر ُب العالم ّي ُة الأولى أوزارها ،انكفأت الجيوش العثمان ّية إلى داخل
حدود ترك ّيا اليوم (عام ،)1920وح ّل مح ّلها جي ُش الانتداب الفرنسي في دولتي سورية
ولبنان الحاليتين .نتج عن وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي تط ّوران أ ّثرا في
مسيرة وخدمة السينودس ،هما ،أ ّولاً إعلا ُن دولة لبنان الكبير (الجمهور ّية اللبنان ّية
الآن) ودولة سورية (الجمهور ّية السورية الآن) ،وظ ّلت الجمهوريتان تحت الانتداب
حتى نيلهما استقلل ِاما الوطني النهائي :لبنان عام ،1943وسورية عام 1946؛ وثاني ًا
َسل ُخ لواء الإسكندرون بس ّكانه العرب عن سورية ،الأمر الذي أفضى إلى هجرة عدد
كبير من المشيخيين من مدن وبلدات اللواء إلى حلب واللاذقية وإدلب وغيرهما،
فأ ْغنَوا الكنائس بتقواهم و ِعلمهم وإرثهم المشيخي الـ ُمص َلح.
27
ش ّكلت«هجرة» الإنجيليينسم ًةفارقة ذاتتأثيرسلبيفي حياةكنائس السينودس،
مع قليل جد ًا من الإيجاب ّية.
بسبب ضيق الحال الشديد وال َع َوز إ ّبان الاحتلال العثماني ،هاجر عد ٌد غفير من
الإنجيليين من القرى والبلدات والمدن من حقل السينودس ،قاصدين أحوالاً أفضل
واعد ًة في الأميركيتين ،حتى تش ّكلت جاليات إنجيل ّية «سينودس ّية» (إن ص َّح التعبير)
في عدد من مناطق الاغتراب أسست لنفسها كنائس تعبد وتعظ باللغة العرب ّية حتى
الجيل الثاني ،وكانت تردف الكنائس الأم بمساعدا ٍت ق ّيمة للعائلات والكنيسة .تك ّرر
هذا الأمر في القرن العشرين ،عندما صحا السور ّيون واللبنان ّيون على مناطق هجرة
جديدة ،مثل كندا وأوستراليا وأفريقيا ،مع واقع مس ِّهل للهجرة تم ّثل في سهولة السفر
(ج ّو ًا ،بالمقارنة مع السفر بحر ًا في دفقات الهجرة السابقة) ،ووجود أقارب وأهل من
مواطني بلدان الاغتراب ،وقوانين هجرة سهلة إلى هذه البلدان ...أ ّدى هذا إلى أن
تخسر الكنائس عدد ًا كبير ًا من أفرادها وعائلاتها ومصادر ق ّوتها البشر ّية.
وعندما شرعت كنائس السينودس في تأسيس المدارس والجامعات (منذ نهايات
النصف الأ ّول من القرن التاسع عشر) بدأ الشباب الإنجيل ّيون يتخ ّرجون بمعرفة
جديدة وطلاقة في اللغة الإنكليز ّية .وعندما خ ّططت بريطانيا للتم ّدد باتجاه مصر
والسودان ،احتاجوا إلى عدد كبير من الناطقين بلغة الضاد الذين يجيدون اللغة
الإنكليز ّية ...فكانت النتيجة أ ّن الكنائس الإنجيل ّية فقدت معظ َم عدي ِدها العلماني
المتع ّلم نتيجة توظيفهم في ال ُقطرين.
بعد أن استق ّل السينودس في إدارته وتدبيره (منتصف القرن العشرين) ،واجه
28
دراسات ومقالات
أوضاع ًا أخرى أ ّثرت على توزيع كنائسه ووجو ِدها .حربان أهليتان في لبنان (،1958
و )1991 – 1975أفقدتا السينودس عدد ًا كبير ًا من أعضاء كنائسه وعائلاتها؛ لك ّن
الثانية كانت أبعد أثر ًا لناحية نتائجها الكارث ّية على معظم كنائس السينودس في لبنان،
بسبب استمرارها لسنوات ،وانخراط دول ومنظمات في إضرامها واستعارها ،وتدمير
قرى وبلدات بأسرها ،مما أ ّدى إلى موجة كبيرة من الهجرة إلى الخارج وإلى المدن،
خصوص ًا بيروت ،وإلى تفريغ عدد كبير من الكنائس من أعضائها .واجهت كنائس
السينودس في سورية ،في سبعينات القرن العشرين ،وضع ًا مشابه ًا إنما لسبب مختلف.
في تلك الفترة شهدت منطق ُة الشرق العربي ما ُس ِّمي «طفرة البترول» ،وكانت ح ّصة
الدولة السور ّية منها وفيرة؛ لكن ،لسوء الحظ ،وبسبب سوء التخطيط ،استفادت المدن
السور ّية على حساب المناطق والأرياف ،مما أطلق موجة عارمة من هجرة الأرياف إلى
المدن .وعندما اس ُتد ِرك الأمر كانت خسارة الأرياف فادحة ،وكانت قد ُه ِجرت قرى
بصور ٍة شبه جماع ّية ،وتركها أهلوها تحتضر شيئ ًا فشيئ ًا ،وفرغ عدد كبير من كنائس
السينودس ،خصوص ًا في محافظات حمص ودمشق والسويداء والجزيرة.
بعد استقرار الأوضاع في لبنان ،بعد الحرب الأهل ّية ،شرع السينودس في تقويم
أوضاع كنائسه التي ُد ِّمرت أو ُه ِّجرت ،وقام بترميم وإعادة بناء بعضها حيث أمكن
عودة عائلات الكنيسة إلى بلداتهم وقراهم ،وبدأت الخدمات الكنس ّية المنتظمة فيها.
تم ّيز نم ُّو الكنائس الإنجيل ّية في المراحل الأولى بالدور الكبير الذي لعبته القيادات
العلمان ّية المؤمنة؛ وكان بعض هذه القيادات ذا َت شأ ٍن مرمو ٍق جد ًا – اجتماعي ًا وعلم ّي ًا
وعلاقات ّي ًا؛ نذكر منهم -على سبيل المثال ،لا الحصر -مخائيل مشاقة الدمشقي ،الذي
كان طبيب ًا بارع ًا وقنصل ًا ومستشار ًا وكاتب ًا غن َّي القلم ،وبطرس البستاني المتب ِّحر في
29
اللغات ،خصوص ًا العبران ّية والسريان ّية واليونان ّية ،والذي لعب دور ًا أساسي ًا في ترجمة
الكتاب المق ّدس إلى اللغة العرب ّية مع كورنيليوس ڤان دايك ،ووضع في اللغة العرب ّية
دائر َة معارف وعدد ًا من الكتب العلم ّية والأدب ّية ،وأسس مدرسة «ثانو ّية» أردفت
الك ّلية الإنجيل ّية السور ّية (الجامعة الأميركية في بيروت) بالطلاب .ومع صغر حجمها
العددي ،أخرجت الكنائس الإنجيل ّية ،عبر تاريخها ،خيرة الشابات والشباب والنساء
والرجال ليكونوا قادة فك ٍر وعل ٍم وفضيلة في مجتمعاتهم.
عندما أعلنت سلطات الانتداب تأسيس دولتي لبنان وسورية الحاليتين ،في العام
،1920ن ّظمت الكنائس الإنجيل ّية (المشيخ ّية) ذاتها في سينودس واحد لأ ّول م ّرة،
واختاروا بيروت مق ّر ًا لإدارته؛ وفي العام ،1959تس ّلم السينودس كامل المسؤول ّية
-الإدار ّية والمال ّية والرعائ ّية -عن المؤسسات والكنائس والمراكز في حقلي خدمته في
سورية ولبنان ،الأمر الذي استلزم بع َض التنظيم في هيكل ّيته لتتك ّيف مع تط ّلعات
كنائسه الأعضاء .في هذا المجال تحضرني كلمات المر َسل الشهير ،القس هنري ِج ِسپ،
قبل مائة وعشر سنين ،في ختام كتابه «ثلاث وخمسون سنة في سورية»« :إ ّن التق ّد َم
الذي أحرزته الكنيسة الإنجيل ّية السور ّية ،بجهود رعاتها وشيوخها السوريين،
والمرسلين الأميركان ،مش ّجعة وواعدة للمستقبل .نحن الأجانب أعضا ٌء إكرام ّيون،
ويجري انتقا ُل المسؤول ّية بسلاسة وجدارة ،مما يبوح بالأمل بالوقت الذي تصبح فيه
الكنيسة السور ّية مكتف َي ًة ذات ّي ًا وقادرة على تطوير ذاتها .أ ّما نوع التدبير الذي ستتبناه
هذه الكنائس فشأ ٌن ثانوي ...فعندما ينهضون بأنفسهم ،ويح ّققون اكتفاءهم الذاتي،
ويتك ّفلون برعاتهم ومدارسهم ،سيكونون أحرار ًا في اختيار نوع الحوكمة والتدبير
الكنسيين اللذين يناسبان ذوقهم وأفضل ّياتهم»(.)5
(Henry Harris Jessup, Fifty Three Years in Syria; P 749 )5
ُط ِبع الكتاب سنة ،1910أي عندما كانت منطقة الشرق الأوسط بأسرها تحت الحكم
30العثماني؛ لذلكُ ،ك ِتب بالمفاهيم الجغرافيّة التي كانت سائدة آنذاك
دراسات ومقالات
ح ّق ًا إنها كلما ٌت َت ِش بحصاف ِة كاتبها و ُبع ِد نظره وحكمتِه؛ فالسينودس وضع،
في العام ،)6(1959نظا َمه الخاص بما يناسب ذو َق كنائ ِسه وأفضل ّيا ِتا ،على أساس
الأركان الرئيس ّية للنظام المشيخي .تبع هذا ن ُم ٌّو بارز على مستوى القيادات ومفهو ِم
الإرسال ّية والوكالة المسيح ّية.
ا ّتسمت الشهاد ُة الإنجيل ّي ُة منذ البداية بتشجيعها المعرفة والعلوم ،تم ّشي ًا مع
خلفيتِها الـ ُمص َل َحة التي رأت في التعليم باب ًا أكيد ًا إلى تمكين الإنسان من قراءة كلمة
الله ودراستها .ففتح الإنجيل ّيون [المشيخ ّيون] المدارس في كل مدينة وبلدة في سورية
ولبنان وقر ًى كثيرة ،حتى بلغ عدد المدارس هذه في وق ٍت واحد 177مدرسة ومركز
للتعليم ،وكان التعليم فيها شب َه مجّاني .كما أسسوا ،في العام ،1828أ ّول مدرسة
للإناث في طول الإمبراطور ّية العثمان ّية وعرضها ،في زمن كانت المدرسة في أوروبا
وأميركا شب َه ِحكر على الذكور؛ هذا بالإضافة إلى جامعات ذاع صي ُتها في العالم،
كالكل ّية السور ّية الإنجيل ّية (الجامعة الأميرك ّية في بيروت) ،وك ّلية حلب التي كانت
ُتع َتبر شقيقة الجامعة الأميرك ّية ورديف َتها ،وك ّلية بيروت للبنات (حال ّي ًا الجامعة اللبنان ّية
الأميرك ّية) .كان تدريس كلمة الله أساسي ًا في جميع هذه المؤسسات.
بسبب نم ّو المدارس وحاجتها إلى كتب التدريس في اللغة العرب ّية ،وحاجة الشهادة
الإنجيل ّية إلى أدب ّيا ٍت مطبوعة ،أسست الكنيسة في العام 1834أول مطبعة آل ّية كانت
تطبع مئات ألوف الصفحات في السنة ،خصوص ًا عندما ابتدأوا في ترجمة الكتاب
المق ّدس إلى اللغة العرب ّية ،فغدت كلمة الله في متناول شعوب الشرق الأوسط قاطب ًة.
أ ّلفوا وطبعوا مئات الكتب العلم ّية والأدب ّية ،والنبذات الروح ّية التي كانت تصل
()6استق ّلالسينودسرسم ّي ًافيالعام،1940لك ّنهلميكناستقلال ًافعل ّي ًا،إذبقييعتمدعلىالدعم
منالكنيسةالمشيخ ّيةفيالولاياتالم ّتحدةفيأكثرمنمجال،خصوص ًاالمجالينالماليوالوظيفي 31
كنائس الشرق الأوسط الإنجيل ّية وغير الإنجيل ّية بالسرعة التي كانت ُتنتجها المطبعة،
حتى اض ُط َّرت الكنيسة إلى تطويرها أكثر من م ّرة لتلاقي الحاجة المتزايدة .كما أطلقت
الكنيسة الإنجيل ّية ،في العام ،1863أ ّول مج ّلة باللغة العرب ّية في الإمبراطور ّية العثمان ّية،
هي مجلة «النشرة» ،التي ساهمت ،مع
المدارس والجامعات والمطبوعات
الإنجيل ّية ،في إضاءة شمعة النهضة
العرب ّية الكبرى ،وفي بناء جي ٍل وطن ٍّي
مث َّق ٍف وا ٍع َن َ َش نو َر الح ِّق والمعرفة في
أرجاء الشرق الأوسط ...وأبعد،
وأ ّمن التواص َل الح ّي بين الكنائس بعضها مع بعض ،وبين الكنائس الأ ّم وأولادها في
ديار الاغترابُ .تعت َب أعدا ُد «النشرة» كامل ًة (مجموع ٌة في حوزة السينودس ومجموعة
أخرى في مكتبة ك ّلية اللاهوت للشرق الأدنى) مصدر ًا أرشيف ّي ًا مه ّ ًم لأحوال الشرق
الأوسط وتاريخه لفترة تمتد أكثر من 150سنة ،يقصدها (أعداد النشرة) طالبات
وطلاب المعرفة المس َتزا َدة عن أحوال الشرق الأوسط في الماضي« .النشرة´لم تزل تصدر
حتى يومنا هذا ...وتزهو.
اهت ّم السينودس بالعافية الجسد ّية كاهتمامه بالعافيتين الروح ّية والذهن ّية ،من خلال
عدد من المستشفيات الرائدة في الشرق الأوسط ومص ّح للسل كان يؤ ّمه مرضى السل
من الإقليم وما بعد؛ وكانت كلم ُة الله ال ِغذا َء اليومي لنزلاء هذه المؤسسات من جميع
المذاهب والأجناس ،وكانت ُتق َبل بفرح واشتياق.
يتر ّبع السينودس على إر ٍث فريد من الانفتاح على الإنسان الآخر .ففي حقل
32
دراسات ومقالات
التعليم ،حفلت مقاعد الدراسة في المدارس والك ّليات والجامعات الإنجيل ّية (في
حقل السينودس) على أعلى نسبة من غير المسيحيين بين كل المؤ ّسسات التعليم ّية التي
أنشأتها الكنائس؛ أ َّمها الطلاب والطالبات من غير الإنجيليين ومن غير المسيحيين
بسبب تركيز التدريس في هذه المدارس في العلم الصحيح والأخلاق الحميدة والتدبير
المنزلي والتربية المدن ّية المم َّيزة والعلاقات البشر ّية السليمة القائمة على المح ّبة والوئام
واحترام الآخرين في مواقعهم ،فخرج ط ّل ُبا إلى العالم الفسيح ينشرون الإبداع
والمح ّبة والانفتاح والتواصل.
وفي حقل العلاقات بين الكنائس ،كان للسينودس ،بهيئاته وكنائسه ،البا ُع الطويل
والمؤ ِّثر في الدعوة إلى التقارب بين الكنائس والسعي إلى وحدة شهادتها؛ ليس فقط
في الدعوة ،بل في العمل أيض ًا؛ فعمل السينودس جاهد ًا في مجال الوحدة الإنجيل ّية
في المشرق العربي ،وكان من الس ّباقين إلى دعوة الكنائس الإنجيل ّية في الوطن العربي
للمشاركة في «مؤتمر قادة الكنائس الإنجيل ّية في الوطن العربي» ،الذي انعقد في
بيروت ،من 30 – 28نيسان ،1955وحضره مندوبون من كنائس مصر والسودان
والأردن والعراق والكويت والبحرين وسورية ولبنان ( ،)7انبثقت عنه لجن ٌة لوضع
نظام الكنيسة الإنجيل ّية الم ّتحدة .صدر «دستور الكنيسة الإنجيل ّية الم َّتحدة في الشرق
العربي» بعد فترة ،مستلهم ًا دستو َر الكنيسة الإنجيل ّية الم ّتحدة في جنوب الهند ،وورد
اسم السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان أ ّولاً عند تعداد المبادرين إلى هذا
المسعى النبيل .للأسف ،أوقف تسار ُع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط المض َّي
ُق ُدم ًا في تحقيق المشروع .لك ّن السينودس استطاع ،من خلال جهود رابطة الكنائس
()7كانوفدالسينودسأكب َروف ٍدعددي ًا،وتأ ّلفمن:القسجورجخوري(أمينس ّرالسينودس)،
القس إبراهيم ملحم داغر ،القس شوقي حولي ،القس وليم نادر ،القس حنا خوري ،القس جبرا
الحلو ،الواعظ جوزيف حوراني ،الشيخ إدمون إلباوي ،الشيخ عبدالله حصني ،الشيخ الدكتور
إبراهيمشحادة 33
الإنجيل ّية في الشرق الأوسط ،أن يساهم مساهمة ناجعة في مشروع «وحدة ال ِشكة
بين الكنائس الإنجيل ّية في الشرق الأوسط» ،وو ّقع اتفاق ًا مش َ َتك ًا مع الاتحاد الإنجيلي
الأرمني في الشرق الأدنى والاتحاد الإنجيلي اللبناني ،لل ِشكة الكاملة مع الكنيسة
الإنجيل ّية اللوثر ّية في الأردن والأراضي المق ّدسة عام ،2006المعروف با ّتفاق ع ّمن.
سبق هذه التط ّورات جهو ٌد أخرى مضيئة قام بها السينودس لجمع كلمة المسيحيين.
كانت الهيئات المرسل ّية (المص َلحون ،اللوثريون الإنجيل ّيون ،والأنجليكان) العاملة في
الشرق الأوسط قد عقدوا في إدنبره (اسكوتلندا) ،في العام ،1910اجتماع ًا بينهم بغية
«توحيد كنيسة المسيح المنقسمة»؛ تبع هذا عد ٌد من الاجتماعات ،في القدس وحلوان
وغيرها ،انتهت إلى تشكيل «المجلس المسيحي في الشرق الأدنى» ،في العام .1924
لكن بعد أربعين عام ًا ( )1964حصل تط ّو ٌر مه ّم ،حين قام السينود ُس مع الكنائس
الإنجيل ّية الأخرى (ذات الخط الرئيسي والتطلعات المسكون ّية) في منطقة الشرق
الأوسط بتشكيل «مجلس كنائس الشرق الأدنى» .كان هذا جهد ًا مح ّلي ًا بالكامل،
لعب المرسلون فيه دورا استشاري ًا .في العام ذاته ر ّحبت الهيئة العا ّمة الأولى للمجلس
الجديد ،التي ُعقدت في مصر ،بالكنيسة السريان ّية الأرثوذكس ّية عضو ًا كامل ًا في
المجلس؛ وهكذا كان السينودس ركن ًا أساسي ًا في انطلاقة الحركة المسكون ّية في الشرق
الأوسط.
بدأت فور ًا المباحثات لانضمام الكنائس الأرثوذكس ّية الأخرى (روم أرثوذكس،
أقباط أرثوذكس ،أرمن أررثوذكس) إلى المجلس .خلال أربع سنوات انض ّم الأقباط
والأرمن ،وفي العام ،1974في الهيئة العامة التي ُعقدت في لبنان ،انضمت بطركيتان
أرثوذكسيتان (أنطاكية والإسكندر ّية) وأسقف ّية (أسقف ّية قبرص) ،وتغ ّي اسم المجلس
إلى «مجلس كنائس الشرق الأوسط» ،و ُع ِمل بنظام العائلات الكنس ّية (العائلة
34
دراسات ومقالات
الإنجيل ّية ،العائلة الأرثوذكس ّية البيزنط ّية ،العائلة الأرثوذكسية القديمة).
عند انعطافة تاريخ ّية ،استشعر الأعضاء الإنجيل ّيون (المصلحون ،الأنجليكان،
اللوثر ّيون) في المجلس حاج َتهم ،كعائلة كنس ّية واحدة ،إلى وجود «من ّصة» يستطيعون
بها أن يختبروا ال ِشكة الإنجيل ّية التي تجمعهم ،وفي الوقت ذاته يواصلون سع َيهم إلى
الوحدة الإنجيل ّية المنشودة؛ فش ّكلوا في العام ذاته (« )1974رابطة الكنائس الإنجيل ّية
في الشرق الأوسط» (مصر ،سورية ،لبنان ،فلسطين ،الأردن ،إيران ،الكويت،
السودان ،الخليج ،الجزائر ،تونس ،ومؤ ّخر ًا العراق) .كان للسينودس دو ٌر أساس ٌّي في
تطوير خدمة الرابطة في ك ّل المجالات ،وفي سعيها التوحيدي.
في العام 1992اكتمل عقد الكنائس في الشرق الأوسط بانضمام مجموعة الكنائس
الكاثوليك ّية (لاتين ،روم كاثوليك ،موارنة ،سريان كاثوليك ،أرمن كاثوليك ،أقباط
كاثوليك ،كلدان) ،فغدت «العائل ُة الكاثوليك ّية» العائل َة الرابعة في المجلس.
بالإضافة إلى ما تق ّدم ،السينودس اليوم عض ٌو نشي ٌط وفاعل أيض ًا في :المجمع الأعلى
للطائفة الإنجيل ّية في سورية ولبنان ،مجلس الكنائس العالمي ،ال ِشكة العالم ّية للكنائس
المص َلحة ،إرسال ّية العمل المسيحي في الشرقُ ،يم َّثل في هيئاتها الإدار ّية والتنفيذ ّية،
بل أ ّن ال ِشكة العالم ّية للكنائس المص َلحة انتخبت مؤ َّخر ًا الق ّسيسة نجلا أبو ص ّوان
ق ّصاب ،من السينودس ،رئيس ًة لها للدورة الحال ّية التي تمتد لسبع سنوات .كما ان ُت ِخب
القس جوزيف ق ّصاب ،أمين عام السينودس ،رئيس ًا للمجمع الأعلى للطائفة الإنجيل ّية
في سورية ولبنان للدورة الحال ّية التي تمتد لأربع سنوات .يعمل أعضاء سينودس ّيون،
يسميهم السينودس ،في مجلس أمناء الجامعة اللبنان ّية الأميرك ّية وفي مجلس أمناء ك ّلية
اللاهوت للشرق الأدنى ،وفي هيئاتهما المختلفة .وللسينودس شركاء ُك ُثر ،من كنائس
35
وهيئات كنس ّية ،حول العالم ،طبع ًا في مق َّدمهم الكنيسة المشيخ ّية الم ّتحدة في الولايات
الم ّتحدة الأميرك ّية ،جمي ُعهم يق ّدرون شهادة السينودس من خلال كنائسه ومؤسساته
ويساندونها.
هذا غي ٌض من فيض ،جئ ُت به لمساعدة شعبنا الإنجيلي السينودسي ،وسواهم،
على الإحاطة ،ولو يسير ًا ،بتاريخ السينودس بكنائسه وهيئاته وأعضائه ،والدور الذي
لعبه السينودس في تط ُّور ك ِّل ما هو خ ِّ ٌي وصالح في حقل خدمته ،فاق كثير ًا حج َمه
ومصاد َره وحق َل عمله.
قال كارل إدوارد ساغان ،عا ِلُ ِعلم الأجرام والفيزياء الفلك ّية والبيولوجيا الفلك ّية
والمؤلف الشهير« :يجب أن تعرف الماضي لتفهم الحاضر»؛ وقال حكيم الصين،
كونفوشيوس« :ا ْد ُر ِس الماضي لتستوع َب الحاض َر وتستش َّف المستقبل» .قولان
سديدان ،يب ّرران استعرا َضنا لهذا الماضي المجيد ،ويس ِّوغان ما قلناه في بداية الكلام
من أ ّنه لا توجد كنيسة في الشرق الأوسط تكتنز هذا الك ّم من الاختبارات الروح ّية
التاريخ ّية والمر َسل ّية المتن ِّوعة كما يكتنز السينودس ،ويس ِّهلان انتقا َلنا من هذا الماضي
المجيد إلى الحاضر والمستقبل الذي نصبو إليه ،مدركين أ ّن الحاض َر امتدا ٌد للماضي
وجذ ٌع منه وبنا ٌء عليه.
طبيعة تكوين السينودس -كنائ َس وأه َل إيمان -تم ّكنه من الارتقاء فوق العثرات
والعراقيل والنكبات ،ليزداد الإيما ُن َمضا ًء و َسنا .نعم ،ما كانت الاضطهادا ُت والمذابح
والتشريد والحرمان ،بالنسبة لكنائس وشعب السينودس ،سوى أزمن ِة افتقا ٍد و ُفر ٍص
ليختبروا «اب َن الله» معهم في أتون النار .واليوم ،كما الأمس ،يتغنّى شع ُب السينودس
بفخر وفر ٍح :إيما ُننا الح ُّي القدي ْم ميرا ُثنا من الجدو ْد
36
دراسات ومقالات
لا يسع المرء إ ّل أن يقف وقفة إجلا ٍل وتقدير أمام ماضي السينودس الإنجيلي
الوطني في سورية ولبنان هذا! ما هذا الزخم الرائع من الاختبارات الفريدة والكنوز
الثمينة والخدمة المضح َية إ ّل دليل على صلابة السينودس ومناعتِه وأهل ّيته.
ر ّبما كانت أبرز ملامح السينودس اليوم هي قيادا ُته الشابة المث ّقفة في قضايا الدين
والدنيا ،من نسا ٍء ورجال -أكان هذا على مستوى الإدارة أم على مستوى الرعاية
والرعايا .قيادات شا ّبة ،لكنّها متأ ّصلة في الإرث المجيد ،والإيمان الـ ُمص َلح؛ وارثة
ومق ِّد َرة للماضي التليد بكل معاناته وانتصاراته ...ومعاركه ،لكنّها من معدن الحاضر
الصلب بك ِّل مهاراته وعلومه ...وتح ّدياته .يقودون السينودس بكل جدارة وتقوى
في ش ّتى مجالات الخدمة والشهادة ،يتط ّلعون إلى المستقبل بشجاعة ويقين ،سلاحهم
الإيمان وكلمة الله .في هذا السياق يجدر التذكير بأ ّن أح َد بنود إرسال ّية السينودس
تنص على «تكافؤ دور الرجل والمرأة في امتداد ملكوت الله وشهادة الكنيسة» ،أي
أ ّن السينودس مقتن ٌع بتظهير دور المرأة المكافئ لدور الرجل في الكنيسة في ك ِّل مجالات
الخدمة .أ ّولاً ،وبحسب نظامه ،ساوى السينودس بين الرجل والمرأة في رتبة التدبير
(الشيخ/الشيخة) ،ث ّم في منح شهادة الوعظ القانون ّية للمرأة كما للرجل ،ومنذ بضع
سنوات سا َم السينودس امرأتين للرتبة القسوس ّية المباركة ،إحداهما ترعى كنيسة لأكثر
من َعق ٍد من الزمن.
و َل ِئن كان إر ُث السينودس وأث ُره في الماضي ،في حقل التربية والتعليم -الثقافي
والمِهني والجامعيُ ،يشار إليه بال َبنان و ُت ِق ُّر به الدول ،فإ ّن مساهمة السينودس في
الحاضر ،في حقل التربية والتعليم هي استمرا ٌر لتلك المساهمات من حيث تركيز
هيئات السينودس التربو ّية والتعليم ّية على التم ُّيز العلمي والسلوكي لط ّلبها ،وبناء
شخص ّيتهم الناضجة الناجحة المنط ِلقة؛ وها هم خ ّريجو وخ ّريجات مدارس السينودس
37
يحت ّلون المراكز المتق ّدمة في حقولهم في الوطن وفي كل أصقاع الدنيا ،ويحوزون أرفع
التقدير.
يدير السينودس ،وكنائ ُسه ،اليوم إحدى ع ْشة مدرسة في سورية ولبنان تض ّم
نحو ًا من 12000طالب وطالبة من ش ّتى المذاهب والإثنيات ،ينهلون العل َم والمعرف َة
والأخلاق في أجواء المح ّبة والتآخي بين الجميع؛ تستقبل بع ُض هذه المدارس طالبا ٍت
وط ّلب ًا من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ وهكذا تستم ّر مدارس السينودس بعزيمة
ثابتة ،في قل ِب مجتم ٍع تسوده العصبيا ُت المذهب ّية والفئو ّية ،شاهد ًة لمحيطها بإمكان ّية
العيش المشترك والوئام و َتشا ُط ِر الاهتمامات الإنسان ّية.
لتحقيق إرسال ّيتِهَ ،أولى السينودس اهتمام ًا منقط َع النظير لبناء الإنسان المسيحي ،من
س ّن الطفولة حتى الشيخوخة ،بما فيه الطفل ،والمراهق ،والشا ّب ،والزوج والزوجة،
والمرأة ،والقادة من الجنسين ،والشيوخ ،والرعاة ،والقيادات التي يحتاجها لتحقيق
مسؤول ّيات لجانه المختلفة .وضع السينودس لهذا الهدف مرك َزي مؤتمرات ولقاءات
واجتماعات وأنشطة روح ّية وتدريب في لبنان -واحد في عين القسيس ،في بلدة
الشوير ،والآخر في منطقة ال َح ّمر ،في زحلة .أتت الحرب اللبنان ّية الأهل ّية ،في سبعينات
وثمانينات القرن الماضي ،على مركز عين القسيس بالكامل تقريب ًا .لكن ما أن وضعت
الحر ُب أوزا َرها حتى ه ّب السينودس ور َّمم المركز وج َّهزه بأحدث مستلزمات الإقامة
والراحة وا ِلنشراح ،وأساليب التواصل الحديثة ،مع الحفاظ على طبيعة المركز التراث ّية
الفريدة .أ ّما مركز الحَ ّمر فقد ُبنِ َي في أواخر ال َعقد السابع من القرن الماضي على تل ٍة ُت ِط ُّل
على مدينة زحلة ،و ُج ِّهز بكل وسائل الراحة والعمل والإقامة .شرع السينودس في بناء
مركز للمؤتمرات واللقاءات والاجتماعات والأنشطة الروح ّية على موق ٍع جمي ٍل ُمطِ ٍّل في
بلدة عمار الحصن ،محافظة حمص ،في سورية؛ انتهى الجزء الخرساني ،والعمل جا ٍر بإذن
38
دراسات ومقالات
الرب وبركته وه ّمة المسؤولين في السينودس لإنجاز المشروع ،رغم َجسامة تح ّديات
الأوضاع وصعوبتها في سورية ،كو ُنه سيل ّبي حاجة كبيرة لكنائس السينودس هناك.
طبع ًا ،يقوم السينودس بكل هذا جنب ًا إلى جنب مع ما تقوم به كنائ ُسه مح ّلي ًا وبالتعاون.
تتح ّدث الحول ّيا ُت والوثائق عن الدور التي اضطلعت به كنائس السينودس منذ
تأسيسها في حقل الإغاثة وم ّد ي ِد المساعدة للغريب كما للقريب دون تميي ٍز أو محاباة،
إيمان ًا منها أ ّن هذا المجال هو في صلب الدعوة الإنجيل ّية كما دعا إليها الرب يسوع
ومارسها ،وكما نادى بها أنبيا ُء الله؛ لذلك أفرد السينودس في أنظمته موا َّد خاصة
بتشكيل وتوصيف لجنة أصيلة خاصة بالخدمات الاجتماع ّية والطب ّية .وحديث ًا،
عندما بدأ ِت حر ُب الإرهاب على سورية ( ،)2011وبدأت تظهر ملامحُها التدمير ّية،
وأحاقت بشعب الكنائس وخارجها ،ه َّبت هيئا ُت السينودس تلقائ ّي ًا وأطلقت خدمة
ن ِشطة للإغاثة على كامل التراب السوري وبين السوريين الذين لجأوا إلى لبنان ،تح َت
إشراف اللجنة الأصيلة ،راصد ًة الأموال اللازمة لذلك .ولـ ّم بدا أ ّن الحاجة تفوق
مصادر السينودس ،ر ّحب السينودس بقيام شركائه حول العالم بإبداء رغبتهم في
دعم جهوده في هذا المجال ...وكانت مساهمات الشركاء تن ُّم عن صلابة علاقات
السينودس بشركائه ،وعن مصداق ّية السينودس وشفاف ّيته في التعامل مع الأوضاع
الصعبة المستج ّدة .لذلك ،وبسبب تط ّور الأحداث في حقله ،خصوص ًا الحرب على
سورية ووجود مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان ،رأى السينودس ضرورة
تأسيس جمع ّية خاصة بحقل الإغاثة والمعونة الإنسان ّية ذات شخص ّية اعتبار ّية لها نظا ٌم
خاص ترتبط بالسينودس وتعمل وفق ًا ِلد ّق المعايير ال ُدول ّية ،بغي َة أن تبقى الأمور
من َّظ َم ًة ،ولزيادة فاعل ّية خدمة الدياكون ّيا في السينودس ،لمساعدة الفقراء والمه َّمشين
39
في لبنان وسورية؛ فأ ّسسها و َأط ِلق عليها التسمية
«جمع ّية تحنُّن الإنجيل ّية» ،وع ّي لها الموظفين
الكفوئين .باشرت الجمع ّية خدم َتها بزخم
وجدارة ،وكان عليها أن تواجه ظروف ًا مأساو ّي ًة
مستج ّدة باستمرار في سورية ولبنان ،خصوص ًا
مواجهة الحالة الكارث ّية التي نتجت عن انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكث ُر
من 170إنسا ٍن ،وإصابة أكثر من 5000شخ ٍص ،جرو ُح كثيرين منهم بليغة وذا ُت
أثر دائم ،وتدمير مئات البيوت وتشريد ساكنيها .يأمل السينودس أن تنمو خدمة هذه
الجمع ّية لتغد َو مصدر ًا أساسي ًا للمشاريع الإنسان ّية والمستقبل ّية ،داف ُعها المح ّبة والنعمة
الإله ّيتان .تدير الجمعية حالي ًا مشروعين كبيرين ،الأ ّول في لبنان من خلال أربعة مراكز
ثقاف ّية اجتماع ّية لأطفال اللاجئين ،والآخر في سورية بالشراكة مع دان-ميشين في
الدانمارك .في الوقت ذاته تتابع لجنة الخدمات الاجتماع ّية والط ّبية تدريب الكوادر في
الكنائس لتأهيلهم لعمل الدياكونيا في مجتمعاتهم.
يملك السينودس ويدير بي َت المسنّين في
هملن ،مؤ َّسسة لا تبغي الربح ،تق ّدم خدمة
العناية المم َّيزة ،بما فيها الط ّبية والعلاج
الفيزيولوجي الحديث ،لنح ٍو من ستين م ِس ٍّن
وم ِسنَّة ،شعا ُره الهناء للمسنين ،وراحة البال،
والسلامة.
تملك كنيسة حمص وتدير بي َت المسنّين الإنجيلي في حمص ،ويخدم أربعين مسنّ ًا من
الذكور والإناث من ش ّتى الخلف ّيات ،بأجواء المح ّبة المسيح ّية العاملة والاحترام .يعجز
40
دراسات ومقالات
المركز عن استقبال نزلاء كثيرين بسبب
محدود ّية استيعابه وسمعته التي جعلت
العائلات تختاره لمسنّيهم على أ ِّي مكان آخر.
يحتوي المركز قسم ًا خاص ًا متط ِّور ًا للمعالجة
الفيزيولوج ّية.
تدير الكنيسة في منيارة مركز ًا اجتماعي ًا ثقافي ًا يخدم بلدة منيارة ومحي َطها ،يتض ّمن
عيادة خير ّية ،ومكتبة للمطالعة والاستزادة من المعرفة ،قسم ًا لبيع القرطاس ّية والكتب،
مركز ًا تعليمي ًا ،مركز ًا رياضي ًا ،مركز ًا للموسيقا والفن ،ومركز ًا للترفيه .يخدم قسم
العيادة الخير ّية عدد ًا كبير ًا من اللبنانيين واللاجئين السوريين ،ويتناوب على س ِّد
حاجات الناس الص ّحية اثنا عشر طبيب ًا أخصائي ًا في الطب العام ،الطب الداخلي،
طب الأطفال ،الطب النسائي ،طب القلب والأوعية الدمو ّية ،طب العظام ،طب
المسالك البول ّية ،طب الجهاز الهضمي ،والإسعافات الأ ّولية .افتتحت الكنيسة مؤ َّخر ًا
قسم ًا للمعالجة السنّية ،واتفقت مع عدد من المخابر والصيدل ّيات ومراكز المعالجة
الفيزيولوج ّية بهدف توسيع دائرة خدمة المركز.
للسينودس مستوصف خيري وصيدل ّية في دير ميماس ،يديرهما طبيب قدير شي ٌخ
في الكنيسة متب ّرع ،يق ّدم الخدمة الطبية لك َّل المنطقة المجاورة.
يتح ّمل السينودس هذه المسؤوليات بغبطة ورضا ،ولسان الحال تعكسه كلمات
الترنيمة:
َن ْش ُع ُر في ِضــــــي ِق الأ ِخ ِعن َد الــ ُم ِلـــــــــــــــــــــــ ّم ِت
وبِ َيـــــــــ ٍد لا تـــ َــ ْر َتي لِــــــــــــــــــــــــــــــــ َعونِه َن ْأتي
41
في وسط عالمٍ متغ ِّ ٍي مضط ِرب ،تصبو رعايا ومؤسسات وشعب السينودس
الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان لأن يو َجدوا أمناء في الشهادة لمح ّبة الله وح ِّقه،
وليكونوا أدا ًة للخدمة والمصالحة في مجتمعاتهم .ومن المفيد هنا أن ُن ْثبِت ما تن ُّص عليه
«إرسالية السينودس» في نظامه الأساسي ،فقد يكون في هذا اختصا ٌر لك ِّل ما سبق:
الما ّدة - 6إرسال ّيته:
إن ُممل خدمة السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان -من خلال كنائسه
ومؤسساته التعليم ّية والاجتماع ّية وهيئآته وعلاقاته -تهدف إلى:
- 1الشهادة لإنجيل المسيح؛
- 2اللقاء الحقيقي والشركة الكاملة مع كنيسة المسيح في ك ّل مكان؛
- 3دعم المسيرة المسكون ّية على طريق وحدة كنيسة المسيح؛
- 4تحقيق العدالة والسلام وكرامة خليقة الله؛
- 5بناء الإنسان ال ُمتكامل كأساس ل ُمجتمع أفضل؛
-6تفعيل دور الشبيبة ،والتأكيد على تكافؤ دور الرجل والمرأة في امتداد ملكوت
الله وشهادة الكنيسة؛
-7الانفتاح على الآخر والتعاون معه في سبيل خدمة الإنسان ،دونما تمييز بين عرق
أو دين أو لون أو جنس.
42
دراسات ومقالات
القس د .متري الراهب * الكنيسة الانجيلية
اللوثرية في الأردن
والأراضي المقدسة
البدايات التي شكلت الحاضر
لقد ش ّكلت حملة نابليون الى الشرق الأوسط نقطة تحول بالنسبة للغرب ،إذ زادت
من اهتمام هذه الدول بالمنطقة بشكل عام وبفلسطين بشكل خاص .ولم يقتصر هذا
الاهتمام على السياسيين فحسب بل وازداد بين المسيحيين ايض ًا بخاصة مع ظهور
حركة التجديد الديني هناك .ولقد انصب اهتمام المرسلين الأوروبيين الاوائل الى
فلسطين وخاصة الانكليز منهم على التبشير بين اليهود ،أما ملك بروسيا فريدرك
وليم الرابع ،فقد أراد ان يؤسس لملة بروتستانتية اسوة بالملل المسيحية الأخرى في
الإمبراطورية العثمانية ،وان يضع هذه الملة تحت حماية بروسيا ،وبذلك يصبح لبروسيا
موطئ قدم في الشرق الأوسط اسوة بفرنسا التي جعلت من نفسها حامية للكاثوليك
ولروسيا ،والتي استحوذت على حماية الأرثوذكس.
ولقد وجد ملك بروسيا فرصته لتحقيق هذا الهدف مع التغيرات التي عصفت
بالشرق الاوسط ،بعد استلام محمد علي سدة الحكم في مصر ،واحتلال ابنه إبراهيم
باشا لسوريا الكبرى عام ،١٨٣١وتكاتف بريطانيا والنمسا لدحره من سوريا .فبسبب
*مؤ ّسسورئيسكليةدارالكلمةالجامعيةللفنونوالثقافةفيبيتلحم
43
هذه المساعدة الأوروبية من جهة وسياسات
داخلية ملحة من جهة أخرى ،أدخل الحكام
العثمانيون الإصلاحات في مجالات السياسة
والدين ،مما سمح للمرسلين الأوروبيين العمل
رسمي ًا في الشرق الأوسط .لقد أدرك الملك
فريدرك وليم الرابع ان ليس باستطاعة بروسيا
ان تؤسس لملة بروتستانتية بقواها الذاتية ،خاصة
أنه لم يكن لبروسيا أي خبرة دولية او أي ثقل
سياسي في الشرق الأوسط .لذلك لجاء الملك البروسي الى ملكة انجلترا مقترح ًا إقامة
مطرانية انجيلية مشتركة في القدس ،تكون اسقفية الطابع شرط ان يتم اختيار الاسقف
بالتبادل مرة من ملكة انجلترا والأخرى من ملك بروسيا ،وكان أمل الملك غير المعلن
ان يتم لاحق ًا ،ومتى سنحت الظروف لبروسيا بإقامة مطرانية لوثرية ومستقلة يكون
مقرها في بيت لحم.
بنا ًء على هذا التحرك البروسي ،تم في ٧كانون الثاني سنة ١٨٤١توقيع اتفاقية بين
الجانبين الإنكليزي والألماني بتأسيس اسقفية انكلترا وايرلندا المتحدة في القدس .وكما
يشير الاسم لم يكن لبروسيا الدور الكبير في هذه الاتفاقية .وبسبب اهتمام الانكليز
بالتبشير بين اليهود ،اختارت إنكلترا البروفيسور مايكل سلمون اليكساندر ،وكان
يهوديا متنصر ًا ،كأول اسقف ير َسل الى القدس .ولم يترك هذا الاسقف أي أثر يذكر
اذ توفي بعد اقل من اربع سنوات على خدمته ليخلفه صاموئيل غوبات ،الذي كان
44
دراسات ومقالات
سويسري الأصل ،مصلح ًا عمل مع ارسالية CMSالإنجليزية وتم اختياره من قبل
ملك بروسيا .والحق يقال ان غوبات هو الذي وضع الأساس الذي بنيت عليه لاحق ًا
الكنيستين الأسقفية واللوثرية .فقد غير غوبات في اولويات المطرانية من تبشير اليهود
الى العمل بين مسيحيي الشرق العرب .فلقد اتقن غوبات اللغة العربية ،كما كان حاضر ًا
في بيروت في ٥آذار ،١٨٢٧عندما وضعت اللبنات الأولى للكنيسة الانجيلية الوطنية
في بيروت بمعمودية ابن المطران ديونيسيوس قربات من قبل المرسل الأمريكي اسحق
بيرد .وبسبب عمله في بلاد الحبشة من عام ١٨٢٩وحتى ،١٨٣٨ادرك أهمية العمل
على اصلاح الكنائس الشرقية .وفي غضون خدمته التي امتدت من عام ١٨٤٦وحتى
،١٨٧٩افتتح غوبات ٢٥مدرسة انجيلية وأسس ١٢كنيسة انجيلية ،أصبحت
هي نواة كل من الكنيسة الأسقفية العربية والكنيسة الانجيلية اللوثرية في فلسطين
والأردن .ولتنسيق العمل ما بين الجمعيات التبشيرية الألمانية والجمعيات التبشيرية
الإنكليزية وحسب النهج الاستعماري للقرن التاسع عشر ،فقد صاغ غوبات اتفاقية
شفهية Gentlemen Agreementتم بموجبها اعلان شمال فلسطين منطقة
لعمل الإرساليات الإنكليزية وجنوب فلسطين منطقة لعمل الارساليات الألمانية.
وبناء على هذا التقسيم ،توجد الكنائس اللوثرية اليوم في جنوب فلسطين ،في حين
ان الكنائس الانجليكانية تقع الى الشمال .توفي المطران غوبات سنة ١٨٧٩ولم يصمد
الاتفاق الإنكليزي البروسي فترة طويلة بعد وفاته ،اذ شعر الالمان خاصة بعد تأسيس
المانيا على يد بسمارك سنة ١٨٧١ان لا حاجة لإتفاقية يكونوا هم فيها تابعين لإنكلترا.
وبناء عليه ،تم في ٣تشرين الثاني سنة ١٨٨٦فض الأسقفية المشتركة وصارت هذه
45
الأسقفية اسقفية للطوائف الانجليكانية فقط.
لقد أ ّدى المطران غوبات دور ًا محوري ًا بنيت على اساساته أعمدة الكنيسة اللوثرية.
فبالإضافة الى تأسيس المدارس والكنائس الانجيلية ،كان المطران غوبات هو الذي
طلب من جمعيات تبشيرية المانية مختلفة ان تأتي للعمل في فلسطين .ففي سنة ١٨٥٠
وبعد ان ضربت الأوبئة مدينة القدس ،طلب المطران غوبات من ثيودور فليدنر ،مدير
بيت شماسات كايزرفرت ،ان يرسل شماسات الى القدس .وقد افتتحت شماستان اول
مستشفى انكيلي في فلسطين وأول مدرسة انجيلية للبنات ُس ِّم َيت «طاليثا قومي».
وعلى عهد المطران غوبات ابتدأ يوهان لودفيج شنلر عمله في فلسطين وأسس دار
الايتام السورية في القدس ،رد ًا على مذابح المسيحيين في كل من جبل لبنان وسوريا،
وكان هدفه ان يؤسس لمعهد يستطيع الايتام الفقراء ان يتحولوا من اشخاص لا حول
لهم ولا قوة الى أعضاء منتجين في المجتمع ونشيطين في الكنيسة .وفي سبيل تحقيق
هذه الغاية ،أكد على التربية المسيحية والتدريب المهني والتقني ،وكان شعاره «صل
واعمل» .وفي سنة ،١٨٦٠طلب غوبات من جمعية القدس ،ومقرها برلين ،ان ترعى
شؤون الطوائف الانجيلية التي خرجت من رحم العمل المرسلي الألماني.
ولقد شكلت هذه الجمعيات الألمانية الثلاث الحاضنة التي خرج من رحمها أعضاء
الكنيسة اللوثرية .فمدرسة طاليثا قومي كانت الحاضنة التي ربت آلاف النساء
الانجيليات ،مؤكدة على أهمية ان تكون المرأة الانجيلية قادرة ومدبرة ومثقفة .أما دار
الايتام السورية ،التي عرفت بمدرسة شنلر نسبة الى مؤسسها ،فقد خرجت الفرد
الإنجيلي المهني والمحترف Meisterوالذي مد فلسطين على مدى مئة عام بالأيدي
46
دراسات ومقالات
العاملة الماهرة .كما وانها كانت المدرسة التي صقلت هوية انجيلية مميزة ووضعت
الأساس لطائفة انجيلية في القدس .أما جمعية القدس التبشيرية ،فقد أسست ثلاث من
الكنائس اللوثرية كانت أولها في بيت لحم عام ،١٨٦٠تبعتها كنيسة أخرى في مدينة
بيت جالا المجاورة سنة ١٨٧٩وثالثة في بيت ساحور شرقي بيت لحم سنة .١٩٠٠
وما زالت هذه الكنائس الثلاث موجودة وفاعلة حتى يومنا هذا .وقد كان الرئيس
الأعلى لهذه الكنائس الثلاث ،وعلى الدوام ،قسيس الماني الجنسية ،عاونه وعاظ او
قسس محليين .ومن الجدير ذكره ان الرعيل الأول من الوعاظ والقسس العرب لهذه
الكنائس الثلاث كانوا في الأصل من منطقة مرجعيون في الجنوب اللبناني او ما ُعرف
حينها بالجليل الأعلى .فقد تتلمذ كل من القسيس بشارة كنعان وسعيد عبود واسبر
ضومط وشديد باز حداد واسكندر حداد وداود حداد في مدرسة شنلر ،وكانوا كلهم
ايتام جيء بهم من جنوب لبنان الى دار الايتام السورية حيث تعلموا اولاً حرفة ،ثم تم
اعدادهم كمدرسين وتم تأهيلهم للقيادة الكنسية تحت اشراف شنلر.
ويمكن القول انه لم يكن عند الجمعيات الألمانية فكر كنسي واضح ولم يكن
قصدهم إقامة كنيسة وطنية مستقلة ،فعملت كل جمعية باستقلالية كاملة عن
الجمعيات الأخرى .كما وأنها عملت وكأنها مستعمرات للسكان الأصليين يحاول
العنصر الألماني فيها تكوين انسان انجيلي العقيدة ولكن الماني الثقافة .وبقيت قيادة
هذه المؤسسات الثلاث تحت قيادة المانية حتى الحرب العالمية الثانية ،عندما احتلت
عصابات الإرهاب الصهيونية مدرسة شنلر واملاكها في كل من القدس وبئر سالم
وخيمة الله والتي قدرت بآلاف الدونمات .كما وتم مصادرتها كاملاك المانية وتم
47
لاحق ًا تعويض شنلر بأموال قليلة قسمت بين أبناء شنلر ،فاشترى هرمن شنلر في
عام ١٩٥٢ارض ًا في خربة قنفار في البقاع ،ليؤسس مدرسة يوهان لودفيج شنلر
والتي تم الحاقها بالكنيسة الانجيلية الوطنية .أما ارنست شنلر فقد اشترى في عام
١٩٥٩ارض ًا في الزرقاء في الأردن ،ليؤسس مدرسة ثيودور شنلر والتي تم الحاقها
بالكنيسة الأسقفية هناك .أما مستشفى الشماسات الانجيليات ،فتم مصادرته وتحويله
الى مستشفى اسرائيلي حكومي ،ومدرسة طاليثا قومي الاصلية تم هدمها وإقامة سوق
تجاري مكانها .وقد اشترت الشماسات الالمانيات بالتعويض الذي حصلن عليه مقابل
مصادرة مدرستهن في عام ١٩٥٩ارض ًا جديدة في مدينة بيت جالا حيث تم افتتاح
مدرسة طاليثا قومي الجديدة عام ،١٩٦٠والتي ما زالت مدرسة قائمة الى يومنا هذا،
وأصبحت في العقد الماضي مدرسة المانية تحت اشراف مباشر من جمعية برلين وليس
تحت اشراف الكنيسة اللوثرية .أما الأملاك الكنسية الألمانية في القدس الشرقية فقد
بقيت حتى هذا اليوم ملك ًا للكنيسة الألمانية .ان خسارة الكم الأكبر من الأملاك الى
دولة الاحتلال الإسرائيلي افقدت الكنيسة اللوثرية الأساس المادي اللازم لازدهارها
مما جعلها رهينة للتمويل الخارجي وبالتالي عرضة للصدمات.
ولو بقي الأمر بأيدي الجمعيات الألمانية لما قامت للكنيسة اللوثرية قائمة .ف ُبعيد
الحرب العالمية الثانية ،وبعد ان فقدت الجمعيات الألمانية املاكها وتم استدعاء قادتها
الالمان الى المانيا او نفيهم من قبل الانكليز الى استراليا ،تدخل الاتحاد اللوثري العالمي
لينقذ ما يمكن إنقاذه .وقد عمل الاتحاد اللوثري على ثلاث صعد :أولا تم انشاء
برنامج ًا لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ،وتم تحويل مبنى الاوغستا فكتوريا على جبل
48