The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

النشرة الفصل الثالث 2020

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by editor, 2020-10-31 04:52:02

النشرة الفصل الثالث 2020

النشرة الفصل الثالث 2020

‫رئيس التحرير‬ ‫ال ُمد ّقق اللغوي‬
‫القس ربيع طالب‬ ‫لينا أبو جودة زعرب‬

‫المسؤولية أمام‬ ‫هيئة التحرير‬
‫الجهات الرسم ّية‬
‫الشيخة إلهام أبو عبسي‬
‫القس جورج ديب مراد‬ ‫القس بطرس زاعور‬

‫القس سليم فرح‬
‫الق ّسيسة نجلا ق ّصاب‬
‫الواعظة هالة بيطار‬

‫مج ّلـة إنجيل ّيـة جامعة‬
‫أولى المجـات العربيـة‪ ،‬تأ ّسسـت عـام ‪ ،1863‬يصدرهـا السـينودس الإنجيلي الوطني في سـورية ولبنان ‪1‬‬

‫الفصل الثالث‪2020‬‬

‫الحضور الإنجيلي في الشرق الأوسط‬

‫تأ ّملات وعظات‬ ‫‪١‬‬
‫النوستالجياوالحضورالمسيحي ‪..........................................‬الأخ أدون نعمان ‪4‬‬

‫هل من ضوء في آخر النفق؟ �������������������������������������� الأخ خيرالله عطاالله ‪12‬‬

‫أين نحن من أزمات ‪2020‬؟ �������������������������������������� الشيخة وفا س ّعود ‪18‬‬
‫إذا انقلبت الأعمدة‪ ،‬ماذا يفعل الص ّديق ؟ ‪............................‬الشيخ إيليا الح ّداد ‪21‬‬

‫دراسات ومقالات‬ ‫‪٢‬‬
‫السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان‪ ............................. :‬القس أديب ‪25‬‬

‫إرث مجيد ‪ ...‬شهادة ح ّية‬
‫الكنيسة الانجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة‪........:‬القس د‪ .‬متري الراهب ‪43‬‬

‫البدايات التي ش ّكلت الحاضر‬

‫الكنيسةالإنجيليةالأسقفيةالعربية(الانكليكانية) ‪...........‬القس جورج جبرا القبطي ‪51‬‬

‫في القدس والشرق الأوسط‪ :‬تاريخ وشهادة وتحديات‬

‫الكنيسة المعمدان ّية الانجيل ّية في لبنان‪ ������������������������ :‬القس د‪ .‬حكمت ق ّشوع ‪62‬‬
‫بين إرث الماضي وتط ّلعات المستقبل‬

‫درس كتاب‬ ‫‪3‬‬
‫الخليقة في العهد القديم��������������������������������������� القس د‪ .‬هادي غنطوس ‪83‬‬ ‫‪4‬‬

‫ هل خلق الله العالم‪ ...‬في ستة أيام؟ ‪84 .................................................‬‬

‫ ألم يخلقنا الله على صورته كشبهه‪ ...‬ويسلطنا على كل خليقته؟ ‪102 ......................‬‬

‫أ ْخ َبا ُرنا‬
‫مركز أبناء الكلمة الإنجيلي الطبي يبصر النور في حلب ‪115 ................................‬‬

‫الكنيسة الإنجيلية الوطنية في حمص ُتك ّرم راعيها القس يوسف ج ّبور ‪116 ..................‬‬
‫جمعية تح ّنن الإنجيلية ُتطلق مشروع «أمل بيروت ‪118 .................. »Beirut Hope‬‬
‫رئيس الجمهورية اللبنانية ُيك ّرم رئيس الجامعة اللبنانية الأميركية ‪119 ......................‬‬
‫ما جمعه الله لا يف ّرقه إنسان‪121 ............................................................‬‬
‫على رجاء القيامة‪122 .....................................................................‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ 1‬تأ ّملاتوعظات‬

‫النوستالجيا والحضور المسيحي‬
‫هل من ضوء في آخر النفق؟‬
‫أين نحن من أزمات ‪2020‬؟‬

‫إذا انقلبت الأعمدة‪ ،‬ماذا يفعل الص ّديق؟‬

‫النوستالجيا‬
‫والحضور المسيحي‬

‫الأخ أدون نعمان*‬
‫« َق ْد َك َّل ْم ُت ُك ْم ِب َذا لِ َي ُكو َن َل ُك ْم ِ َّف َسل َا ٌم‪ِ .‬ف ا ْل َعا َلِ َس َي ُكو ُن َل ُك ْم ِضي ٌق‪َ ،‬ول ِك ْن ثِ ُقوا‪:‬‬

‫َأ َنا َق ْد َغ َل ْب ُت ا ْل َعا َ َل»‪ .‬إنجيل يوحنا (‪)33 :16‬‬
‫النوستالجيا أو التوق إلى الماضي‪ ،‬هي حالة عاطفية ُتص َنع في إطا ٍر مح ّدد وفي أوقا ٍت‬
‫وأماك َن معينة‪ ،‬وتوصف بأنها عملية استرجاع مشاعر عابرة ولحظا ٍت سعيدة من‬
‫الذاكرة‪ ،‬وطرد اللحظات السلبية جميعها‪ .‬وهي كلمة ُمر ّكبة من جذرين يونانيين‬
‫(رومنة)‪ nóstos νόστος :‬وتعني العودة للوطن أو للجذور‪ ،‬وكلمة ‪ἄλγος‬‬

‫‪ álgos‬وتعني الألم المتواصل الخفيف‪.‬‬

‫يقول الروائي الفرنسي مارسيل بروس ‪« :Marcel Proust‬إن تذ ُّك َر أشيا َء من‬
‫الماضي ليس بالضرورة أن يكون مثل تذ ُّكر الأشيا ِء كما كانت عليه في وق ٍت مضى…»‪.‬‬
‫ويقول الأستاذ في علم السلوكيات نيك تشاتر ‪« :Nick Chater‬إذا ك ّنا نعتقد ح ًقا‬
‫أ َّن الأمور كانت أفضل في الماضي‪ ،‬ينبغي لنا أن نتصور أ َّنه إذا استطعنا «استرجاع‬

‫الوقت» فلا ب ّد أن نرى الحياة تتحسن بشكل ُمطرد… لكن تلك العودة ستقودنا من‬
‫بين أمور ش ّتى إلى أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ ،‬والمواجهة النووية العالمية‪ ،‬وحربين عالميتين‪،‬‬
‫وزيادة في وفيات الأطفال‪ ،‬وانخفاض العمر المتوقع للفرد‪ ،‬وفقدان الاختراعات‬

‫* خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في اليازدية‬

‫‪4‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫والاكتشافات التكنولوجية جميعها التي جعلت حياتنا أسهل مثل الانترنت والهواتف‬
‫المحمولة والحواسيب الشخصية وهلم ج ًرا… »‪.‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬ت ُما َرس في النوستالجيا أو استرجاع ذكريات الماضي بع ٌض من أخطاء‬
‫التفكير ومنها‪ :‬التفكير الانتقائي بإختيار الإيجابيات وتجاهل السلبيات‪ ،‬والمبالغة‪،‬‬
‫والتعميم الزائد‪ ،‬والتفكير المستق َطب (الكل أو لا شيء‪ ،‬أبيض أو أسود)‪ ،‬والتفكير‬
‫العاطفي (تفسير الأمور وفق ًا لرغبة الفرد وحاجته)‪ ،‬واستيعاب شيئ وتصويره‬
‫اعتماد ًا على جزء منه وإهمال الباقي‪ .‬وتميل الذاكرة البشرية إلى نسيان الأحداث السيئة‬
‫في الماضي‪ ،‬وهناك نزعة للإسهاب في ذكر الأشياء الجيدة التي حدثت حينها‪ .‬ويميل‬
‫الناس إلى التركيز على مساوئ الحاضر‪ ،‬وبالمقارنة مع محاسن الماضي ‪-‬بعد تصفيته من‬

‫مساوئه‪ -‬تبدو حياتهم الراهنة أكثر سو ًءا مما هي فعل ًيا‪.‬‬
‫تقول استاذة الإرشاد النفسي والتربوي سماح عليان‪« :‬لا شك أ َّن الحنين إلى الماضي‬
‫بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة‪ ،‬ولكن تكمن الخطورة في إدمان استرجاع‬

‫‪5‬‬

‫ذكريات الماضي؛ وفي المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل النكوص (ممارسة‬
‫سلوكيات لا تتناسب مع العمر) وأحلام اليقظة‪ ،‬والإنكار (مثل‪ :‬إنكار موت عزيز‬
‫أو إنكار التعرض لتجربة مريرة)‪ .‬وإن اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية‬
‫للتخلص من التوتر والألم النفسي وفي البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم‬
‫يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة‪ ،‬ويصبح الفرد عاجز ًا عن‬
‫اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات»‪ .‬ويقول برتراند راسل ‪Bertrand‬‬
‫‪ Russell‬في كتابه «الفوز بالسعادة»‪« :‬السعادة ليست هروب ًا من الواقع ومآسيه إنما‬
‫التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا… والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط‬

‫في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا…»‪.‬‬

‫بتعبي ٍر أخر‪ ،‬إذا ما أمعنا النظر في اللحظات التي نح ُّن فيها إلى الماضي‪ ،‬نلاحظ أنها‬
‫تتصادف مع خوفنا من المستقبل‪ .‬الأمر متعلق فقط بقلقنا مما ينتظرنا‪ ،‬وعقلنا يدفعنا‬
‫في تلك الحالة إلى الاحتماء بالذكريات‪ .‬في الحقيقية‪ ،‬الماضي لم يكن بتلك الروعة‪ ،‬و‬
‫الحاضر ليس قبي ًحا كما نتصور‪ ،‬لكننا دائم ًا نح ُّن إلى ما انتهى لأن مساوئه انتهت‪ .‬ونظن‬
‫أننا لو ُعدنا‪ ،‬فسننجو من تلك المساوئ‪ .‬وهذا غير صحيح‪ ،‬وما علينا فعله هو الامتنان‬

‫لما بين يدينا‪.‬‬

‫إن الحاضر هو الزمن الوحيد الذي نملك مفاتيح سعادته لأ َّننا نعي ُش فيه‪ ،‬وهذه‬
‫السعادة مرتبطة بطبيعة الفرد وتكوينه ومزاجه وشخصيته ومقدار رضاه عن نفسه‪،‬‬
‫وفي القدرة على الاستمتاع بالمشاعر العميقة والشعور بالامتنان والشكر والانتماء‬
‫لهذه الحياة‪ ،‬وإدراك الواقع بفعالية من خلال إيقاظ الغايات النبيلة والإنسانية وليس‬

‫للأحداث الخارجية إلا تأثي ٌر غير مباشر‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫أعلم صعوبة تقبل الجملة الأخيرة مقارن ًة مع ما نعيشه في أوطاننا اليوم‪ .‬وهذا تمام ًا‬
‫ما لاحظته عند قراءتي لحوار على إحدى منصات التواصل الاجتماعي‪ ،‬والذي كان‬
‫حول دور المؤمن المسيحي في تغيير واقع المجتمع والوطن عموم ًا‪ ،‬بالإضافة لتناوله‬
‫مسألة وجود هذا الدور من عدمه‪ .‬لقد أحزنني أ َّن أغلب التعليقات كانت مليئة‬
‫بالخوف والإحباط والخنوع بل وبالاستسلام للواقع الذي ُيعت َقد أنه ميؤو ٌس منه وغير‬
‫قابل للإصلاح‪ .‬وهذا ما يدفع شبا َبنا معظمهم اليوم إلى التفكير بالهجرة على أنها هي‬

‫الحل الأمثل للتخلص من هذا الواقع المزري‪.‬‬
‫أذكر هنا حوار ًا دار بيني وبين أحد خدام كنائسنا المشهود لهم والذي تركني بإنطباع‬
‫يملؤه التساؤل‪ .‬حيث قال لي‪« :‬أريد أن أهاجر‪ ،‬ليس لأني أعاني من مشكلات مالية أو‬
‫لشعوري بعدم الأمان‪ .‬بل أريد المغادرة لأني لا أستطيع أن أعيش إيماني ومسيحيتي كما‬
‫يجب‪ .‬فلكي تكون في مأمن وتكسب مال ًا وفير ًا يضمن لك ولعائلتك الحياة الكريمة؛‬
‫عليك العمل بعقلية تخالف ما نؤمن به‪ ،‬وتتضارب مع أخلاقك المسيحية‪ .‬لذلك أنت‬
‫مضطر لمجاراة الفساد المستشري أو أنك ببساطة ستجد نفسك خارج سوق العمل»‪.‬‬
‫والسؤال القديم الجديد الذي تبادر إلى ذهني عندها هو‪ :‬هل نحن حق ًا غرباء في‬
‫أوطاننا؟ هل دعوتنا بصفتنا مسيحيين مؤمنين هي للبقاء أم للمغادرة عند أول فرصة‬
‫تتاح لنا؟ بالنسبة لي‪ ،‬يمكن أن أتحمل مسؤولية قراري عندما أتخذت قرار البقاء في هذه‬
‫البلدان المضطربة‪ .‬ولكن هل يحق لي تشجيع الآخرين على فعل ذلك أيض ًا في ظل كل‬

‫هذه المعاناة والتحديات التي ُأعاي ُنها في حياة الناس كل يوم؟‬
‫إنها أسئلة صعبة جد ًا‪ ،‬وأعتقد أن أي إنسان حكيم عاقل سيتردد في الإجابة عن‬

‫‪7‬‬

‫هذه الأسئلة رهب ًة من تحمل وزر المسؤولية‪ .‬ولكن الشيء الوحيد الذي ما أزال متيقن ًا‬
‫منه هو أنني سأستمر في الصلاة لربنا وإلهنا يسوع المسيح ليكون معنا في هذه المحنة‪،‬‬
‫وسأطلب منه أن يمنحنا روح الحكمة لنعيش حياتنا وفق ًا لإيماننا وأخلاقنا المسيحية في‬
‫أي مكان من هذا العالم‪ ،‬وسأصلي يومي ًا أن يكون حضورنا بصفتنا مسيحيين عموم ًا‬
‫وإنجيليين تحديد ًا في هذا الشرق التاريخي العظيم أكثر فاعلي ًة وتأثير ًا كما هو الحال منذ‬

‫بدء قدوم الإرساليات التبشيرية قبل أكثر من مئتي عام‪.‬‬
‫في الحقيقة‪ ،‬عند كل حوا ٍر يتعلق بالحضور المسيحي الإنجيلي في الشرق الأوسط‪،‬‬
‫دائم ًا ما ُيشار إلى كم هذا الحضور ونوعه‪ ،‬وأ َّن أثر الإنجيليين هو بنوعه بغض النظر‬
‫عن حقيقة الأعداد التي تهاجر عند تجدد أي صراع في المنطقة‪ .‬وكثير ًا ما ُتستخ َدم في‬
‫هذه الحوارات تشابيه من الكتاب المقدس‪ ،‬مثل أ َّن الإنجيليين هم ملح في هذا العالم‬
‫وكمية قليلة منه كافيه لتترك مذاقها في المجتمع الكنسي والوطني أمثال فارس الخوري‬
‫وبطرس البستاني وغيرهم‪ .‬ولكن هنا يتم تجاهل حقيقة منطقية وهي أ َّن زيادة العدد‬
‫هي أيض ًا ملازمة لزيادة التأثير‪ .‬واليوم‪ ،‬إذا ما ُأ ِري َد تقييم مستقبل الحضور المسيحي في‬
‫الشرق انطلاق ًا من الواقع الحالي فهو بائ ٌس وتعيس‪ .‬وبالتمعن بالإحصائيات السكانية‬

‫نجد أ َّن الواقع كئيب جد ًا‪ ،‬لا سيما بعد الحرب السورية‪.‬‬

‫في هذا الصدد‪ ،‬ألخص بشكل مختصر ثلاث نقاط رئيسة تح َّدث عنها الدكتور‬
‫جورج صبرا في إحدى محاضراته التي كانت بعنوان «المستقبل المسيحي في الشرق‬
‫الأوسط» حيث أشار إلى أ َّن هناك ثلاثة نقاط يجب العمل على تطويرها من أجل تغيير‬

‫هذا الواقع‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫ • النقطة الأولى‪ :‬تتعلق بعلاقة الطوائف المسيحية ببعضها البعض‪ .‬على قادة‬
‫الطوائف المسيحية الإستعداد للعمل والتطلع مع ًا في كيفية مواجهة التحديات التي‬
‫يعيشونها كلهم على ح ٍد سواء‪ ،‬لذلك على كل قادة الكنائس وخدامها أن يعملوا‪ ،‬ليس‬
‫فقط على تطوير العلاقة المسكونية فيما بينهم‪ ،‬بل على استعجال حدوث هذا التطور‪.‬‬
‫وإل ّا فلن يكون لهذا العمل المسكوني أي تأثير حقيقي؛ إذا ما جاء ُمتأ ِخر ًا في هذا الزمن‬

‫المتسارع‪.‬‬

‫ • النقطة الثانية‪ :‬تهتم بوحدة المصير الإسلامي المسيحي في الشرق الأوسط‪.‬‬
‫عند قراءة تاريخ المنطقة نجد العديد من الشواهد التي تربط المصيرين مع ًا ارتباط ًا‬
‫وثيق ًا؛ لا تجدي معه الحلول الموجه لطرف واحد دون الآخر‪ .‬فصيرورة الإسلام في‬
‫الشرق الأوسط هي صيرورة المسيحية أيض ًا‪ .‬وبالتالي البحث عن حلول للمسيحيين‬

‫فقط في الشرق الأوسط هو وهم يلزم الحذر منه‪.‬‬

‫• النقطة الثالثة‪ :‬تختص بعلاقة «مستقبل الحضور المسيحي في الشرق الأوسط»‬
‫مع نظرة الغرب السياسية للمنطقة وكيفية تعاطيه معها‪ .‬فهل يمكن للغرب أن ينظر‬
‫لمنطقة الشرق الأوسط بعيد ًا عن المصالح الاقتصادية والمحاباة السياسية لأي طرف‬

‫كان في المنطقة؟‬
‫أعتقد أ َّنه يجب َأن تؤخذ هذه النقاط بالحسبان عند الإجابة عن السؤال المتعلق‬
‫بمستقبل الحضور المسيحي في الشرق الأوسط‪ .‬والغالب أن هذه النقاط تعمق من‬
‫معضلة الوصول إلى إجابة أو إجابات مباشرة وواضحة‪ ،‬ولكن هذا هو الواقع الذي‬
‫يجمعنا كلنا بغض النظر عن طائفتنا وديننا والمجموعة التي ننتمي إليها‪ .‬وتفعيل‬

‫‪9‬‬

‫الحضور المسيحي يحتاج إلى خطوات ف ّعالة في الاتجاهات جميعها‪ ،‬والخطوات الفردية‬
‫أصبحت مثل ذر الرماد في العيون‪.‬‬

‫هذا هو واقع الحال‪ ،‬ولكن هل نستسلم؟ بالتأكيد لا‪ .‬هل الهجرة ح ٌل ملائم‬
‫للجميع؟ هل هي الخلاص الأخير؟ هل هي النهاية المحتومة؟ أشك في ذلك‪ .‬إن‬
‫كانت عقولنا كما قرأنا في البداية مبرمجة لتذكر الأحداث الجميلة فقط؛ فإن مهمتنا هي‬
‫أن نخلق تلك الأحداث السعيدة التي لن ننساها‪ .‬لذلك‪ ،‬دعوتنا هي في أن نصن َع من‬

‫حاضرنا ما ٍض جميل نتذكره في المستقبل‪.‬‬

‫عام ‪ 2020‬عا ٌم جميل إذا ما كنا فاعلين في بيئتنا‪ ،‬وقمنا بأعمال تبث الفرح والسرور‪.‬‬
‫مثل‪ :‬الإطمئنان على مريض‪ ،‬أو مساعدة محتاج‪ ،‬أو متابعة أشخاص يشعرون بالآلم‬
‫والتعب النفسي‪ ،‬أو تنظيف مكان عام‪ ،‬أو تزيينه‪ ،‬إلخ‪ .‬لذلك على كل أب وأم أن‬
‫يبتكروا أحداث ًا ملهمة لتبقى في ذاكرة أولادهم‪ .‬وعلى الأبناء أن يشاركوا مع أهاليهم‬
‫نشاطات تملؤها السعادة لتخلدها ذاكرتهم في المستقبل‪ .‬وكذلك الأمر بالنسبة‬
‫للمديرين ورؤساء العمل وقادة الكنائس وخدامها‪ ،‬عليهم العمل أكثر لإيجاد حلول‬
‫للأزمات التي يواجهونها‪ ،‬وتعلم كيفية إدارتها‪ ،‬وتطوير دور قادة وخدام الكنائس‬

‫ليكون ذا تأثير أكبر في المجتمع المحلي والوطني‪.‬‬

‫ولنتذكر نحن جميع ًا كلمات بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية‪َ « :‬وا ِّدي َن‬
‫َب ْع ُض ُك ْم َب ْع ًضا بِا ْلَ َح َّب ِة ال َأ َخ ِو َّي ِة‪ُ ،‬م َق ِّد ِمي َن َب ْع ُض ُك ْم َب ْع ًضا ِف ا ْل َك َرا َم ِة‪َ .‬غ ْ َي ُم َت َكا ِس ِلي َن‬
‫ِف الا ْجتِ َها ِد‪َ ،‬حا ِّري َن ِف ال ُّرو ِح‪َ ،‬عابِ ِدي َن ال َّر َّب‪َ ،‬ف ِر ِحي َن ِف ال َّر َجا ِء‪َ ،‬صابِ ِري َن ِف ال َِّض ْي ِق‪،‬‬
‫ُموا ِظبِي َن َع َل ال َّصل َا ِة‪ُ ،‬م ْش َ ِت ِكي َن ِف ا ْحتِ َيا َجا ِت ا ْل ِق ِّدي ِسي َن‪َ ،‬عا ِك ِفي َن َع َل إِ َضا َف ِة ا ْل ُغ َر َبا ِء»‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫هناك دائما فرصة جديدة‪ ،‬هنا في هذا المكان الذي نتواجد فيه‪ ،‬و الآن في هذه‬
‫اللحظة التي نقرأ فيها هذه الكلمات‪.‬‬

‫فلنصنع ماضينا‪.‬‬

‫للتوسع‪:‬‬

‫‪*1 https://www.wbs.ac.uk/news/why-we-think-life-was-‬‬
‫‪better-in-the-good-old-days/‬‬

‫‪*2 https://www.aljazeera.net/blogs/20186/10//‬‬
‫‪% D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 9 8 6 % %D 9 8 8 % %D 8 % B 3‬‬
‫‪% D 8 % A A % D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 8 % A C % D 9 8 %‬‬
‫‪A % D 8 % A 7 - % D 9 8 4 % %D 9 8 5 % %D 8 % A 7 % D 8 %‬‬
‫‪B0%D8%A7-%D98 %A%D984% %D8%AC%D8%A3-‬‬
‫‪% D 8 % A 7 % D 9 8 4 % %D 8 % A 5 % D 9 8 6 % %‬‬
‫‪D8%B3%D8%A7%D986-%‬‬
‫‪%D984%%D984%%D8%B9%D98%A%D8%B4‬‬

‫*‪ 3‬الفوز بالسعادة‪ .‬برتراند راسل‪.‬‬

‫*‪ 4‬في سبيل الحوار المسكوني‪ :‬مقالات لاهوتية إنجيلية‪ .‬الدكتور جورج صبرا‪،‬‬
‫‪.2001‬‬

‫*‪ 5‬محاضرة ألقاها الدكتور جورج صبرا باللغة الألمانية في الاجتماع السينودسي‬
‫السنوي للكنيسة الإنجيلية في هيسن وناساو ‪ ،‬في فرانكفورت ‪ ،‬في ‪ 24‬نيسان ‪.2009‬‬

‫‪11‬‬

‫هل من ضوء‬
‫في آخر النفق؟‬

‫الأخ خيرالله عطاالله*‬

‫مسيحيو الشرق الأوسط‪ :‬ظروف وتحديات‬

‫يعتبر التساؤل عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط أحد أهم الأسئلة التي ما‬
‫زالت تطرح نفسها منذ نهايات القرن التاسع عشر على أي مفكر أو باحث مهتم‬
‫بقضايا المنطقة‪ .‬ولكن جدية هذا التساؤل أخذت بالازدياد بشكل مطرد إثر الحرب‬
‫الأهلية في لبنان‪ ،‬التي مالت من بعدها ملامح استشراف المستقبل نحو السوداوية لا‬
‫سيما بعد الغزو الأميركي للعراق‪ ،‬ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر‬
‫ولو لفترة وجيزة‪ ،‬واشتداد الأزمة السورية وما رافقها من صعود للأصولية الإسلامية‬
‫المتمثلة بداعش والنصرة وغيرها إضاف ًة إلى تدهور الحالة الاقتصادية وتدني مستوى‬

‫المعيشة‪.‬‬

‫قد دفعت كل تلك المتغيرات الكثير من المسيحيين وغيرهم إلى الاعتقاد أن‬
‫مستقبلهم سيكون أفضل إذا اختاروا الهجرة وترك الشرق الأوسط ومشكلاته‪ .‬ولكن‬
‫على الرغم من أن الظروف السيئة في المنطقة لم تلق بظلالها على المسيحيين فقط بل على‬
‫كل شخص في الشرق الأوسط‪ ،‬إلا أن الأعداد القليلة للمسيحيين مقارنة بالمسلمين‬
‫في المنطقة تجعل مستقبلهم على المحك وتجعل السؤال عن هذا المستقبل قضية حياة أو‬

‫موت‪.‬‬
‫* خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في المالكية‬

‫‪12‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫لا يخفى على أحد كم سال من الحبر في مناقشة هذه القضية‪ ،‬فالسؤال عن مستقبل‬
‫مسيحيي الشرق الأوسط سؤال معقد ومركب تشترك فيه عوامل تاريخية وسياسية‬
‫واقتصادية واجتماعية وثقافية ولاهوتية متنوعة‪ .‬وبالنتيجة يختلف المفكرون والباحثون‬
‫من علمانيين ورجال دين في تلخيص التحديات التي تواجه مسيحيي الشرق الأوسط؛‬
‫فمنهم من اعتبر أن الأصولية الإسلامية تشكل تحدي ًا واحد ًا وحيد ًا أمام الوجود‬
‫المسيحي في الشرق‪ ،‬وذهب المتطرفون إلى القول أن الإسلام أصولي بطبعه ولا يمكن‬
‫له أن يقبل بوجود مسيحي إلى جواره‪ ،‬متجاهلين في قولهم ذلك حقيقة وجود حقبات‬
‫تاريخية ‪-‬ولو قصيرة‪ -‬عاش فيها المسيحيون إلى جانب المسلمين في الشرق الأوسط‬
‫بدون نزاعات أو صراعات دموية تهدد الوجود المسيحي ككل‪ ،‬ومتجاهلين أيض ًا‬
‫وجود تيارات إسلامية معتدلة تنبذ الأصولية والتطرف‪ .‬وعلى الجانب الآخر أكد‬
‫بعض المعتدلون أن الأصولية الإسلامية حد ٌث طارئ في مسار التاريخ سرعان ما‬
‫سيزول وتزول نتائجه وآثاره السلبية‪ ،‬ورفضوا اعتبار الأصولية جوه َر الإسلام لأن‬
‫ذلك لا يختلف عن اعتبار نهج الحملات الصليبية بعنفها وبربريتها جوه َر المسيحية‪ .‬إلا‬
‫أن القارئ الموضوعي للواقع لا يكتفي بحصر التحديات أمام المسيحيين بالأصولية‬

‫‪13‬‬

‫الإسلامية‪ ،‬بل يذهب أبعد من ذلك ليشير إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية‬
‫والسياسية التي تدفع المسيحيين لفقدان الأمل من شرقهم واتخاذ قرار الهجرة‪.‬‬

‫بجميع الأحوال‪ ،‬تعكس هذه الآراء على اختلافها اتفاق ًا يربط مستقبل مسيحيي‬
‫الشرق الأوسط بمؤثرات خارجية غيرية‪ ،‬ويصنف التحديات أمام وجودهم كما‬
‫لو كانت مرتبطة فقط بعوامل لا يستطيع المسيحيون التعاطي معها أو تغيرها لأنها‬
‫مرتبطة بشكل كلي بالغير‪ .‬إلا أن قلة قليلة من الباحثين المسيحيين توجهت إلى الذات‬
‫المسيحية المشرقية ونظرت لها نظرة الناقد واعتبرتها مساهمة بشكل أو بآخر في مشكلتها‬
‫الحالية‪ .‬ومن هنا أعتقد أن أي حديث عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط لا ينطلق‬
‫من تقييم صادق للذات ليس إلا حبر ًا على ورق‪ ،‬وأن أي مقترح لدعم المسيحيين في‬
‫الشرق الأوسط لا يبدأ من تحليل منطقي موضوعي لفهم المسيحيين أنفسهم لأنفسهم‬

‫ليس إلا محاولة فاشلة وجعجعة بلا طحين‪.‬‬

‫إن القراءة المتأنية للذات المسيحية الشرق أوسطية من الداخل تكشف لنا أن الكثير‬
‫من المسيحيين اليوم يرون في المسيحية مجرد انتماء اسمي لجماعة ثقافية أو إثنية أكثر من‬
‫كونها حياة التزام أو مسؤولية‪ ،‬ويعتبرون أن هذه (المسيحية) هي عضوية في جماعة‬
‫متفوقة أخلاقي ًا وفكري ًا على باقي الجماعات في المنطقة أكثر من كونها حامل ًا فاعل ًا‬
‫لرسالة إلهية جوهرها المحبة الباذلة المضحية‪ .‬ويعتقد بعضهم أن عضويتهم في الجماعة‬
‫(المسيحية) تخولهم السعي وراء بناء كيانات أو (غيتوهات) خاصة مستقلة في المنطقة‬

‫تكبر وتصغر مساحتها بحسب الظروف المتاحة‪.‬‬

‫كل هذا يجعل (المسيحية) على الرغم من لاهوتها العلاقاتي عائق ًا أمام بناء حياة‬
‫شراكة حقيقية مع الآخر ‪ -‬مسلم ًا كان أو حتى مسيحي ًا من كنيسة أخرى‪ ،-‬ويضع‬

‫‪14‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫بالنتيجة أمام الوجود المسيحي الشرق أوسطي تحدي ًا جديد ًا مرتبط ًا بطبيعة نظر‬
‫المسيحي نفسه إلى العلاقات المسيحية ‪ -‬المسيحية والمسيحية ‪ -‬الإسلامية في المنطقة‪.‬‬
‫إن السؤال الأساسي الذي يجب الإجابة عليه في هذا الخصوص هو «هل هذه‬
‫العلاقات علاقات فعالة حقيقية تهدف إلى بناء فهم أفضل للآخر‪ ،‬أم أنها مجرد التقاط‬
‫للصور وعقد مؤتمرات بلا معنى تعجز حتى عن تحديد رزنامة واحدة للاحتفال بعيد‬
‫القيامة؟»‪ .‬قد اختارت بعض الكنائس في الشرق الأوسط اليوم السير قدم ًا باتجاه‬
‫علاقات أكثر فعالية مع الآخرين في حين أن بعض الجماعات المسيحية ما تزال تختار‬
‫مواقف ًا انعزالية وتبقى عالقة في صراعات تاريخية قديمة أو في مفاهيم مغلوطة عن‬
‫التبشير‪ .‬في الواقع لا يمكن للمسيحيين أن ينسوا بسهولة التاريخ القاسي والدموي‬
‫الذي يحفظونه عن العلاقات سواء مع المسيحيين الآخرين أو مع المسلمين‪ .‬لكن قراءة‬
‫التاريخ بعيون مفتوحة تستكشف الأبعاد السياسية للصراعات القديمة تشكل اليوم‬

‫حاجة ماسة وملحة‪.‬‬

‫وأمام كل هذه الظروف المؤلمة والتحديات القاسية‪ ،‬يغدو السؤال ملح ًا‪« :‬هل من‬
‫أفق للمستقبل؟»‬

‫مسيحيو الشرق الأوسط‪ :‬ضوء في آخر النفق‬

‫أعتقد بداية أن أي سؤال عن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط لا يمكن فصله عن‬
‫السؤال عن مستقبل المنطقة ككل‪ ،‬وهي المنطقة الغارقة في الفوضى والنزاع والمشاكل‬
‫الاقتصادية والأنظمة التعليمية المتردية والقراءات المنحازة للتاريخ‪ .‬تتطلب الحالة‬
‫اليوم في الشرق الأوسط قفزة نحو الأمام في سبيل السعي وراء حياة أفضل‪ ،‬وأظن أن‬
‫مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط هو في أن يقفزوا هذه القفزة وهذا هو دورهم اليوم‬

‫‪15‬‬

‫وفي قادمات الأيام‪.‬‬

‫وهنا أرى أن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط مربوط بشكل وثيق بفهم‬
‫المسيحيين أنفسهم لهويتهم المسيحية‪ .‬إن الهوية المسيحية الحقيقية تعتبر العلاقات‬
‫وسيلة لبناء حياة أفضل‪ ،‬وهي هوية من التواضع الذي يضع كل ما يملك في خدمة‬
‫الآخر بدلاً من الغرق في ادعاءات انعزالية متكبرة‪ .‬إن الصراع مع الذات ومع الأنا هو‬
‫الصراع الأهم الذي يجب علينا كمسيحيين أن نواجهه لأنه الصراع الذي يقودنا لأن‬
‫نعيش حياة مسيحية حقيقية‪ ،‬التي بدونها يغدو السؤال عن مستقبل مسيحيي الشرق‬
‫الأوسط سؤالاً عن استمرارية وجود كيان ثقافي او اجتماعي أكثر من كونه سؤالاً عن‬

‫استمرارية وجود رسالة في المنطقة‪.‬‬

‫إن فهم مسيحيي الشرق الأوسط لمسيحهم ومسيحيتهم فهم ًا حقيقي ًا وعميق ًا‬
‫سيقودهم إلى العمل على بناء هوية مشرقية جامعة غير مبنية على أسس عرقية أو‬
‫لغوية‪ ،‬هوية تحترم الحقوق الدينية والخصوصية الثقافية للجماعات المختلفة وتستفيد‬
‫من قراءة متجددة للتاريخ لا كمنبع للثأر بل كمنبع للدروس التي لا يجب تكرارها‪،‬‬

‫هي هوية ترفض استخدام الدين كغطاء للصراعات السياسية والاقتصادية‪.‬‬

‫لا بد من الاعتراف أن بناء هذه الهوية المشرقية الجامعة ليس بالأمر السهل‪ ،‬ولا‬
‫يمكن تحقيقه بقرار سياسي أو من خلال مؤتمر أكاديمي‪ ،‬بل هو أمر يبدأ بمبادرات‬
‫بسيطة وجادة يقوم بها أشخاص عاديون في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم مع جيرانهم‪،‬‬
‫فحين تمتد يد المسيحي الشرق أوسطي لتعين بالمحبة متألم ًا أو متعب ًا في المنطقة بغض‬
‫النظر عن هويته تبنى لبنة في صرح الهوية المشرقية الجامعة‪ ،‬وحين يحتضن المسيحي‬
‫الشرق أوسطي بالمحبة المضحية لاجئ ًا أو مشرد ًا بغض النظر عن خلفيته الدينية‬

‫‪16‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫تضاف قطرة في كوب الهوية المشرقية الجامعة‪ ،‬وحين يزور المسيحي الشرق أوسطي‬
‫بالمحبة التي لا تطلب ما لنفسها مريض ًا أو محبوس ًا بدون السؤال عن انتمائه يضاف لون‬

‫مبهج إلى لوحة الهوية المشرقية الجامعة‪.‬‬

‫أعترف مجدد ًا أنها ليست مهمة سهلة‪ ،‬ولكن مستقبل مسيحيي الشرق الأوسط‬
‫ودورهم هو في العمل والكفاح من أجل بناء هذا النوع من الهوية من خلال التعليم‪،‬‬
‫وتشجيع القراءات النقدية الغير متحيزة للتاريخ‪ ،‬وتنظيم اللقاءات الجامعة على‬
‫مستوى النخبة ومستوى عامة الشعب‪ ،‬وتعزيز النشاطات المشتركة مع الآخرين على‬
‫صعيد الحياة اليومية‪ .‬إن السير في هذه الرحلة الطويلة الأمد هو طريق لتشجيع كل‬
‫فرد في المنطقة ليعيد تقييم الحركات الأصولية الدينية ويرفضها‪ ،‬كما أنه في الوقت نفسه‬
‫سبيل جيد لتقديم صورة حقيقية عن الأديان تمحو الصور السيئة التي تراكمت عبر‬

‫قرون من النزاع وتسخير الدين لخدمة الأهداف السياسية والاقتصادية‪.‬‬

‫أن يعرف المسيحي الشرق أوسطي معنى مسيحيته الحقيقي ويتبنى نهج المسيح‬
‫يسوع في حياته اليومية ليس حلم ًا رومانسي ًا بل رحلة تتطلب التضحيات‪ ،‬إلا أنه‬
‫الطريقة الوحيدة التي لا تحافظ على وجود مسيحيي الشرق الأوسط فحسب بل على‬

‫أمانتهم لإرساليتهم في أن يكونوا ملح ًا يصنع الفارق ونور ًا يضيء رغم الظلمة‪.‬‬

‫من المؤكد أن السعي لبناء هوية مشرقية جامعة لا يضمن ازدياد ًا هائل ًا في أعداد‬
‫المسيحيين في المنطقة ولكنه يحيي مسيحية لديها شجاعة المسيح وتستحق السؤال عن‬
‫مستقبلها ودورها‪ .‬من المؤكد أن هذا السعي لا يضمن نجاح ًا باهر ًا إلا أنه سعي‬
‫متناسب مع هوية المسيح الذي يضحي بحياته من أجل حياة أفضل لآخرين‪ ،‬والذي‬

‫لا يسمح لعتمة العالم أن تمنعه عن السير نحو الضوء في آخر النفق‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫أين نحن من‬
‫أزمات ‪2020‬؟‬

‫الشيخة وفا س ّعود*‬

‫ُتعتبر منطقة الشرق الأوسط من دون أدنى شك منطقة كثيرة المشاكل على الصعيد‬
‫السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي‪ ،‬فهي كما يتم وصفها بالعامية «منطقة‬

‫دايم ًا عم تغلي»‪.‬‬

‫ونحن في لبنان بشك ٍل خاص‪ ،‬حملت لنا سنة ‪ 2020‬الكثير من القسوة في أزماتها‪.‬‬

‫بدأت إنتفاضة الشعب في تشرين الأول لتتبعها أزم ًة إقتصادية خانقة‪ ،‬ثم أتى‬
‫فيروس كورونا في شهر شباط وفرض الحجر المنزلي فالتسكير وتضخيم أزمتنا‬
‫الاقتصادية‪ .‬وأخير ًا وليس آخر ًا‪ ،‬وقع إنفجار بيروت المشؤوم في شهر آب وحصد‬
‫قتلى‪ ،‬جرحى‪ ،‬مفقودين وخسائر مادية هائلة لتزيد معها حدة الأزمة الإقتصادية‪ .‬أين‬

‫نحن من هذه الأحداث وتداعياتها؟‬

‫الوضع النفسي لأغلبنا هو س ِّيئ‪ .‬نحن حزينون‪ ،‬نبحث عن الأمل والتغيير‪ .‬نحتاج‬
‫للتعزية والمساعدة‪ .‬ولع َّل أبلغ التعابير الصادقة التي اس ُتع ِملت في ذلك الإنفجار‬

‫كانت‪« :‬ما متنا بس نحنا مش مناح‪»..‬‬

‫جز ٌء كبير من اللبنانيين يفكرون بالهجرة‪ ،‬بالرحيل إلى أي مكان يشعرون فيه‬
‫* شيخة في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في منيارة ‪ -‬ع ّكار‬

‫‪18‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫بالراحة والأمل‪ .‬نعيش هذا التحدي المستم ّر‪« :‬ببقى أو بف ّل؟»‬
‫فيأتي الكتاب المق ّدس ليك ِّلمنا بالعديد من آياته العميقة‪ ،‬أذكر منها‪:‬‬

‫«قد كلمتكم بهذا ليكون لكم ف ّي سلام‪ .‬في العالم سيكون لكم ضيق‪ ،‬ولكن ثقوا أنا‬
‫قد غلبت العالم‪ ».‬يو ‪16:33‬‬

‫«نفتخر أيض ًا في الضيقات‪ ،‬عالمين أ َّن الضيق ُينشئ صبر ًا‪ ،‬والصبر تزكي ًة‪ ،‬والتزكية‬
‫رجا ًء‪ ،‬والرجاء لا ُيزي‪ ،‬لأ َّن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى‬

‫لنا‪ ».‬رو ‪3-5:5‬‬

‫«ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتو َّقعه بالصبر‪ ».‬رو ‪8:25‬‬
‫«وأما الإيمان فهو الثقة بما ُيرجى والإيقان بأمو ٍر لا ُترى‪ ».‬عب ‪11:1‬‬
‫نحن نؤمن بمسي ٍح قام من الموت‪ ..‬الموت الذي نعجز ح ّتى عن فهمه‪ .‬الموت‬
‫الذي يعتبره الجميع نهاية‪ ،‬أما نحن فنعلم أنه بداية‪ .‬كثيرون يعتبرون أ َّن لبنان ُيتضر‬
‫ولا يريدون رؤية ذلك‪ ،‬آخرون يرون أ َّنه مات ولا أمل من إنعاشه‪ .‬وإذا أردنا قول‬
‫الح ّق فعلينا التصريح بأ َّن أغلبنا أو كلنا ننتمي إلى واحد من هذين الفريقين‪ .‬ولكن‬
‫دعونا نتأمل قليل ًا بإلهنا الذي غلب الموت‪ .‬هذا الإله الذي يفوق قدرتنا على الإدراك‬
‫قد ذهب أبعد من الموت وأعلن نصرة الحياة على الموت‪ .‬ع َّلمنا أ ّن الموت هو عبو ٌر‬
‫إلى الض ّفة الثانية‪ :‬الحياة الأبدية‪ .‬هذا الإله العظيم يدعونا للثقة به‪ .‬يطلب منا التح ّل‬

‫بالرجاء نحن أولاً لنتم ّكن بعدها من نشره في نفوس الآخرين‪.‬‬

‫ربما ما يم ُّر به بلدنا الحبيب هو مرحلة عبور‪ ..‬قد تكون أصعب مرحلة يم ُّر فيها‬
‫وطننا ولكن من يعلم المستقبل‪ ..‬القيامة ستأتي لا محال‪ ..‬قد لا نرى قيامة لبنان ولكن‬

‫‪19‬‬

‫يجب أن نؤمن بها‪ .‬نحن‪ ،‬أولادنا‪ ،‬أحفادنا‪ ،‬أحفادهم‪ ،‬أو من سيأتي بعدهم سيرون‬
‫لبنان ًا جديد ًا يشبه أحلامنا‪ .‬سيأتي اليوم الذي يتح ّقق فيه حلم لبنان‪ .‬هذا يذكرنا أ َّن‬
‫المسيح نفسه لم يكن يعيش في الزمن الذي انتشرت فيه المسيحية وع ُظمت‪ .‬لم يشهد على‬
‫الأرض موسم الحصاد لكنّه علم أ َّنه آ ٍت حتم ًا لذلك قام بزرع البذور وع ّلم تلاميذه‪.‬‬

‫ما هو دو ُرنا في الشرق الأوسط؟ وفي لبنان بشك ٍل خا ّص؟‬
‫لبنان بحاجة للأمل والإيجابية‪ ..‬بحاجة لرؤية ضو ٍء في آخر النفق‪ ..‬بحاجة‬

‫للمبادرات الإنسانية‪ ..‬هو بحاجة لكثي ٍر من الح ّب‪..‬‬
‫إ ّنه أر ٌض خصبة للعمل‪ .‬نحن بحاجة لندعم بعضنا البعض بك ْل الإمكانيات‬

‫المتوفرة‪.‬‬

‫بل ُدنا لا يحتاج فقط إلى المزيد من الأشخاص الناجحين‪ ،‬هو يحتاج لمزيد من صانعي‬
‫السلام‪ ،‬لمزيد من الإنسانيين‪ ،‬المحبين‪ ،‬والطامحين إلى التغيير‪..‬‬

‫قد لا نستطيع أن ُنغ ِّي لبنان لكننا نقدر أن نصنع فرق في بيتنا‪ ،‬في كنيستنا‪ ،‬وفي محيط‬
‫عملنا‪ .‬نستطيع أن نساعد مادي ًا حتى لو بالقليل فهناك من قد يكون بأم ّس الحاجة‬
‫إليه‪ .‬نقدر أيض ًا أن نساعد معنوي ًا بمحاولة نشر الإيجابية والأمل‪ .‬ولنفعل ذلك‪ ،‬علينا‬

‫بالرجاء والمحبة‪.‬‬

‫فلنص ِّل لله ليمنحنا القوة والصبر‪ ،‬ليزرع فينا الأمل ولينير قلوبنا بالمحبة‪ ،‬محبته التي‬
‫تستطيع أن تشمل جميع الناس‪ .‬كما دعونا أن لا ننسى شكره لأنه يعطينا فرصة أن‬
‫نصنع فرق‪ .‬نشكره لأنه يعمل عبرنا وعبر الجميع بطر ٍق تقليدية وغير تقليدية‪ .‬آمين‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫إذا انقلبت الأعمدة‬
‫فالص ّديق ماذا يفعل؟‬

‫الشيخ إيليا الحداد*‬

‫يمر العالم اليوم في وقت من أصعب الأوقات حرج ًا‪ ،‬إجتماعي ًا وإقتصادي ًا وصحي ًا‪.‬‬
‫كل شيء ينهار من حولنا‪ ،‬فماذا يفعل المؤمن المسيحي في وقت مثل هذا؟! والخوف على‬

‫المستقبل هو سيد الموقف عند جميع الناس!‬
‫الكل يحارب فيروس كورونا على طريقته‪ .‬فبعض الدول توقف الطيران منها‬
‫وإليها‪ ،‬والبعض الآخر يحجر المواطنين في بيوتهم ويقفل كل شيء كالمطارات‬
‫والمؤسسات الوطنية العامة والمدارس وكذلك الجامعات‪ .‬وكل هذا ليس بكاف ولا‬
‫يصمد أمام هذا الوباء القاتل‪ .‬الإصابة بالفيروس أضحت محتملة لكل نفس حية‬
‫على هذا الكوكب‪ .‬حتى الدول المتحاربة تركت ضغوط الحرب ونسيت ُم َعادا ِتا‬
‫لألد أعدائها‪ ،‬كل هذا بسبب وجود الفيروس الذي شغل المسكونة وليس من علاج‬

‫معتمد‪.‬‬
‫من هنا التحدي أمام كنيسة المسيح أو جماعة المؤمنين‪ .‬يقول الرب في المزمور ‪:‬‬

‫« الرب أشرق من علياء قدسه‪ ،‬لينظر هل من فاهم طالب الله؟»‬
‫يتساءل إمام المغنين في المزمور الحادي عشر‪«:‬كيف تقولون لنفسي اهربوا إلى‬
‫جبالكم كعصفور»‪ .‬و ُيكمل في العدد الثالث‪« :‬إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا‬
‫يفعل؟»‪ .‬ثم يجيب كاتب المزمور مباشر ًة في العدد الذي يليه‪« :‬الرب في هيكل قدسه‪،‬‬
‫* شيخفيالكنيسةالإنجيليةالوطنيةفيصيدا ‪21‬‬

‫الرب في السماء كرسيه‪ ».‬وكأنه يقول‪ :‬ما دام الرب في كرسيه فإن عينا الرب تنظرا‬
‫وأجفانه تمتحنا بني آدم‪ .‬فلماذا أخاف؟! عندما تنقلب جميع الأعمدة فلي في السماء‬
‫معين يقف ليحامي عني‪ .‬وبتصدر المزمور الجواب على كل هذه التساؤلات‪« :‬على‬

‫الرب توكلت»‪.‬‬

‫بعد عودته من الحرب في إحدى المعارك وهو لم يكن قد استلم ملكه بعد‪ ،‬حدث‬
‫أن أتى بني عماليق‪ ،‬أعداء الرب‪ ،‬وغزوا تلك البلدة التي كان يسكن فيها داود ورجاله‬
‫الستمائة‪ .‬لقد أخذوا من داود ورجاله كل ما كان لهم وسبوا النساء والأولاد والبنات‪،‬‬
‫وقد اخذوا كذلك الأبقار والأغنام وكل المواشي وكل أمتعتهم وذهبهم وفضتهم‬
‫وأحرقوا البلدة بعدما غزوها‪ .‬وبعد وصول الملك داود ورجاله متعبين‪ ،‬رأوا من‬
‫بعيد الدخان والروائح صاعدة من بيوتهم‪.‬هل من موقف أصعب من هذا؟!‪ .‬يقول‬
‫الكتاب المقدس‪ « :‬فرفع داود والشعب الذي معه أصواتهم وبكوا حتى لم تبقى لهم‬
‫قوة للبكاء‪ .‬فتضايق داود جد ًا لأن الشعب قالوا برجمه لأن أنفس الرجال كانت مرة‬

‫كل واحد على بنيه وبناته‪».‬‬

‫في أعمق لحظات الضعف واليأس والإحباط يقول الكتاب‪:‬‬

‫«أما داود فتشدد بالرب إلهه»‬

‫من أين أتت هذه القوة التي أخذها داود من الرب في وسط هذا اليأس؟ لقد انقلبت‬
‫من حوله جميع الأعمدة على رأسه‪ .‬فكيف له أن يتشدد في عمق حالة اليأس هذه؟!‪.‬‬
‫لقد صلى داود إلى الرب وسأله «إذا لحقت هؤولاء الغزاة هل أدركهم؟ فأجابه الرب‬

‫إنك تدرك وتنقذ‪( ».‬صموئيل الأول ‪)8 :30‬‬

‫فجمع داود رجاله وقام ولحق بالغزاة وأدركهم وهم يحتفلون بانتصارهم وبربحهم‬

‫‪22‬‬

‫تأملات وعظات‬

‫هذه الغنيمة الكبرى‪ .‬ففاجأهم داود وجيشه وضربهم من العتمة إلى الصباح واسترد‬
‫كل شيء من يدهم‪ .‬لم يبقى شيء مما أخذه بني عماليق إلا واسترده داود ‪.‬‬

‫زمن الكورونا هو فترة الاسترداد لكل ما قد ُسبي من كل واحد منا‪ .‬إنه الوقت‬
‫لكي نتشدد بالرب إلهنا ونقترب منه عالمين أنه ليس ببعيد عن أي منا‪.‬‬

‫دعونا نحسب هذا الوقت على أنه فرصة لنا لنراجع أنفسنا‪ ،‬دعوة لكي نطرح‬
‫بعض الأسئلة كخدام لرب المجد‪:‬‬

‫‪ -‬كم من الأوقات التي َتاربنا فيها مع إخوتنا ونسينا أن موقع محاربتنا هو بوجه‬
‫كل ما يسعى لإفشال معظم خدماتنا؟‬

‫‪ -‬هل كنا دائما على أهبة الإستعداد لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء‬
‫الموجود فينا؟‬

‫‪ -‬هل كنا دائما سبب بركة لكل من حولنا أم سبب عثرة ؟‬
‫‪ -‬هل فكرنا عن أسباب ركود النهضات في كنائسنا‪ ،‬وما الذي يدفع كنائسنا‬

‫للنهوض من جديد؟‬
‫‪ -‬هل وضعنا رؤيا روحية للكنيسة وخططنا لابتداع الحلول كي تنجح كنائسنا في‬

‫أن تكون نور ًا للعالم وملح ًا للأرض؟‬
‫أعتقد أننا كثير ًا ما تغافلنا عن تخصيص اجتماع للصلاة في كنائسنا‪ .‬إجتماع يهدف‬
‫لتنمية كل من يسعى أن يتمتع بشركة روحية مباركة مع الرب الاله‪ .‬شركة تبعدنا عن‬

‫كل ما يهبط عزيمتنا كي ننطلق إلى الأمام‪ .‬ولإلهنا كل المجد ‪ .‬آمين‬

‫‪23‬‬

‫‪ 2‬دراساتومقالات‬

‫السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان‬
‫الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي‬

‫المق ّدسة‬
‫الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في القدس‬

‫والشرق الأوسط‬
‫الكنيسة المعمدانية الإنجيلية في لبنان‬

‫دراسات ومقالات‬

‫السينودس الإنجيلي‬
‫الوطني في سورية‬
‫ولبنان‬
‫القس أديب*‬

‫إر ٌث مجيد ‪ ...‬شهاد ٌة ح ّية‬

‫ُيع ّرف نظا ُم السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان (من هنا فصاعد ًا –‬
‫«السينودس») السينود َس بأ ّنه «مجموع الكنائس الإنجيل ّية المشيخ ّية الوطن ّية في سورية‬
‫ولبنان التي تتبع هذا النظام(‪ )1‬وتقبل أسا َس عقيدته؛ وتنبثق عنه هيئة روح ّية عا ّمة‬
‫تكون المرجع الأعلى لهذه الكنائس وكا ّفة المؤسسات والإدارات التابعة له؛ ويرجع في‬

‫أحكامه الدين ّية إلى الكتاب ا ُلق َّدس وله شخص ّية اعتبار ّية (معنو ّية)»(‪.)2‬‬

‫نشأت هذه الكنائس وتأ ّسست‪ ،‬بد ًأ من الربع الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬نتيجة‬
‫تلاقي جهود عدد كبير من المرسلين المشيخيين من الغرب‪ ،‬مع مواطنين في ولاية‬
‫سورية وولاية جبل لبنان(‪ )3‬كانوا يتوقون إلى إصلاح الكنيسة ويتهيؤون لذلك‬
‫بروح الصلاة الصادقة‪ ،‬بعد أن تو ّصلوا إلى مفهوم أوضح لإنجيل المسيح‪ .‬وإن كان‬
‫الجهد الأكبر في المط َلق قد ُب ِذل من قبل المر َسلين المشيخيين من الولايات الم ّتحدة‪،‬‬

‫* رئيس سابق لتحرير النشرة‪ ،‬المدة‪2017-2008 :‬‬

‫(‪)1‬نظا ٌميقومعلىالحوكمةوالتدبيرالمشيخ ّيين‬
‫(‪ )2‬النظام الأساسي – تعري ُفه ‪ /‬ص‪1‬‬

‫(‪)3‬هذاكانالتقسيمالجغرافيالعثمانيللمنطقةالتيتش ّكلالآنالجمهوريةالسوريةوالجمهورية‬
‫اللبنان ّية ‪25‬‬

‫إ ّل أ ّن جهود ًا أخرى كانت ُتبذل في مناطق متف ّرقة من‬
‫ولاية سورية وولاية جبل لبنان‪ ،‬من قبل إرسال ّيات‬
‫أصغر حجم ًا بكثير‪ ،‬ومن مؤسسات كنس ّية‪ ،‬ومن‬
‫أفراد متف ّرقين من الولايات الم ّتحدة وأوروبا‪ ،‬وكانوا‬
‫في غالبيتهم الساحقة ينتمون إلى التراث الإنجيلي‬
‫الـ ُمص َلح‪ُ .‬عرف أولئك الذين استجابوا لرسالة‬
‫الكتاب المق ّدس بتماي ِز سلوك ّياتهم الحياتية وعبادتهم‪،‬‬
‫واختاروا لأنفسهم تسمي ًة «الإنجيل ّيون» نسب ًة إلى كلمة «إنجيل»‪ .‬تم ّسكوا بقوانين‬
‫الكنيسة الجامعة التاريخ ّية‪ ،‬لكنهم رفضوا كثير ًا من أنماط العبادة والتعبير عن الإيمان‬
‫السائدة في الكنائس الموجودة‪ .‬لذلك ُس ِّميت الكنائس التي تأسست على هذه المبادئ‬
‫بالكنائس الإنجيلية‪ .‬ومن الجدير بالذكر أ ّن انضمام كنائس إلى عائلة السينودس‪،‬‬
‫بحسب نظامه هو‪ ،‬لم يتوقف‪ ،‬وكان انضمام آخر كنيسة إلى السينودس في تسعينات‬
‫القرن العشرين‪ .‬كما يتض ّمن نظا ُم السينودس ماد ًة خا ّصة بقبول كنائس أعضاء في‬

‫السينودس(‪.)4‬‬

‫هذه النقطة مه ّمة ج ّد ًا لفهم الإرث الذي نس ّميه «السينودس الإنجيلي الوطني في‬

‫سورية ولبنان» لناحيتين تركتا طاب َعهما‪ ،‬و ُتس ِّلطا الضو َء‪ ،‬على حياة وعبادة وخدمة‬
‫السينودس‪.‬‬

‫من ناحية‪ ،‬لا توجد كنيسة في الشرق الأوسط تكتنز (نعم تكتنز) هذا الك ّم من‬
‫الاختبارات الروح ّية التاريخ ّية والمر َسل ّية كما يكتنز السينودس‪ ،‬الأمر الذي يف ّس جانب ًا‬

‫(‪ )4‬النظام الداخلي – المادة‪29‬‬

‫‪26‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫من مزاجه المسكوني المم َّيز والذي كان يضعه دائم ًا ‪ -‬ولم يزل ‪ -‬في طليعة ك ِّل جهد‬
‫مسكون ٍّي صادق إقليم ّي ًا وعالم ّي ًا‪ ،‬كما سنرى لاحق ًا في هذه الورقة؛ ومن ناحي ٍة ثانية‪،‬‬
‫هناك إر ُث شهادة الد ّم الذي ك ّلل الكنائس المشيخ ّية في جنوب شرق تركيا وأ َج َّلها‬
‫(كانت المنطقة جزء ًا من ولاية سورية قبل الجلاء العثماني عن بلدينا)‪ ،‬نتيجة المذابح‬
‫التي أطلقها العثمان ّيون ضد المسيحيين السريان والأرمن‪ ،‬من دون تمييز بين رجل‬
‫وامرأة أو شيخ وطفل‪ ،‬بشكل خاص في الفترة الممت ّدة من العام ‪ 1894‬وح ّتى العام‬
‫‪1918‬؛ الأمر الذي أ ّدى إلى هجرة الذين نجوا من المذابح إلى مناطق الجزيرة في شمال‬
‫شرق سورية وتأسيس عدد من الكنائس في مدن وبلدات المنطقة ُعرفت بصلابة إيمانها‬
‫وتقواها وش ّدة تم ُّسكها بعقيدتها الـ ُمص َلحة‪ .‬طبع ًا لا يمكن أن ننسى ما خ ّلفته أحداث‬
‫العام ‪ 1860‬في لبنان ودمشق‪ ،‬حيث اس ُتش ِهد عد ٌد كبير من شعب السينودس‪ ،‬و ُ ِّشد‬

‫مئا ٌت آخرون‪.‬‬

‫بعد أن وضعت الحر ُب العالم ّي ُة الأولى أوزارها‪ ،‬انكفأت الجيوش العثمان ّية إلى داخل‬
‫حدود ترك ّيا اليوم (عام ‪ ،)1920‬وح ّل مح ّلها جي ُش الانتداب الفرنسي في دولتي سورية‬
‫ولبنان الحاليتين‪ .‬نتج عن وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي تط ّوران أ ّثرا في‬
‫مسيرة وخدمة السينودس‪ ،‬هما‪ ،‬أ ّولاً إعلا ُن دولة لبنان الكبير (الجمهور ّية اللبنان ّية‬
‫الآن) ودولة سورية (الجمهور ّية السورية الآن)‪ ،‬وظ ّلت الجمهوريتان تحت الانتداب‬
‫حتى نيلهما استقلل ِاما الوطني النهائي‪ :‬لبنان عام ‪ ،1943‬وسورية عام ‪1946‬؛ وثاني ًا‬
‫َسل ُخ لواء الإسكندرون بس ّكانه العرب عن سورية‪ ،‬الأمر الذي أفضى إلى هجرة عدد‬
‫كبير من المشيخيين من مدن وبلدات اللواء إلى حلب واللاذقية وإدلب وغيرهما‪،‬‬

‫فأ ْغنَوا الكنائس بتقواهم و ِعلمهم وإرثهم المشيخي الـ ُمص َلح‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫ش ّكلت«هجرة» الإنجيليينسم ًةفارقة ذاتتأثيرسلبيفي حياةكنائس السينودس‪،‬‬
‫مع قليل جد ًا من الإيجاب ّية‪.‬‬

‫بسبب ضيق الحال الشديد وال َع َوز إ ّبان الاحتلال العثماني‪ ،‬هاجر عد ٌد غفير من‬
‫الإنجيليين من القرى والبلدات والمدن من حقل السينودس‪ ،‬قاصدين أحوالاً أفضل‬
‫واعد ًة في الأميركيتين‪ ،‬حتى تش ّكلت جاليات إنجيل ّية «سينودس ّية» (إن ص َّح التعبير)‬
‫في عدد من مناطق الاغتراب أسست لنفسها كنائس تعبد وتعظ باللغة العرب ّية حتى‬
‫الجيل الثاني‪ ،‬وكانت تردف الكنائس الأم بمساعدا ٍت ق ّيمة للعائلات والكنيسة‪ .‬تك ّرر‬
‫هذا الأمر في القرن العشرين‪ ،‬عندما صحا السور ّيون واللبنان ّيون على مناطق هجرة‬
‫جديدة‪ ،‬مثل كندا وأوستراليا وأفريقيا‪ ،‬مع واقع مس ِّهل للهجرة تم ّثل في سهولة السفر‬
‫(ج ّو ًا‪ ،‬بالمقارنة مع السفر بحر ًا في دفقات الهجرة السابقة)‪ ،‬ووجود أقارب وأهل من‬
‫مواطني بلدان الاغتراب‪ ،‬وقوانين هجرة سهلة إلى هذه البلدان ‪ ...‬أ ّدى هذا إلى أن‬

‫تخسر الكنائس عدد ًا كبير ًا من أفرادها وعائلاتها ومصادر ق ّوتها البشر ّية‪.‬‬

‫وعندما شرعت كنائس السينودس في تأسيس المدارس والجامعات (منذ نهايات‬
‫النصف الأ ّول من القرن التاسع عشر) بدأ الشباب الإنجيل ّيون يتخ ّرجون بمعرفة‬
‫جديدة وطلاقة في اللغة الإنكليز ّية‪ .‬وعندما خ ّططت بريطانيا للتم ّدد باتجاه مصر‬
‫والسودان‪ ،‬احتاجوا إلى عدد كبير من الناطقين بلغة الضاد الذين يجيدون اللغة‬
‫الإنكليز ّية ‪ ...‬فكانت النتيجة أ ّن الكنائس الإنجيل ّية فقدت معظ َم عدي ِدها العلماني‬

‫المتع ّلم نتيجة توظيفهم في ال ُقطرين‪.‬‬

‫بعد أن استق ّل السينودس في إدارته وتدبيره (منتصف القرن العشرين)‪ ،‬واجه‬

‫‪28‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫أوضاع ًا أخرى أ ّثرت على توزيع كنائسه ووجو ِدها‪ .‬حربان أهليتان في لبنان (‪،1958‬‬
‫و‪ )1991 – 1975‬أفقدتا السينودس عدد ًا كبير ًا من أعضاء كنائسه وعائلاتها؛ لك ّن‬
‫الثانية كانت أبعد أثر ًا لناحية نتائجها الكارث ّية على معظم كنائس السينودس في لبنان‪،‬‬
‫بسبب استمرارها لسنوات‪ ،‬وانخراط دول ومنظمات في إضرامها واستعارها‪ ،‬وتدمير‬
‫قرى وبلدات بأسرها‪ ،‬مما أ ّدى إلى موجة كبيرة من الهجرة إلى الخارج وإلى المدن‪،‬‬
‫خصوص ًا بيروت‪ ،‬وإلى تفريغ عدد كبير من الكنائس من أعضائها‪ .‬واجهت كنائس‬
‫السينودس في سورية‪ ،‬في سبعينات القرن العشرين‪ ،‬وضع ًا مشابه ًا إنما لسبب مختلف‪.‬‬
‫في تلك الفترة شهدت منطق ُة الشرق العربي ما ُس ِّمي «طفرة البترول»‪ ،‬وكانت ح ّصة‬
‫الدولة السور ّية منها وفيرة؛ لكن‪ ،‬لسوء الحظ‪ ،‬وبسبب سوء التخطيط‪ ،‬استفادت المدن‬
‫السور ّية على حساب المناطق والأرياف‪ ،‬مما أطلق موجة عارمة من هجرة الأرياف إلى‬
‫المدن‪ .‬وعندما اس ُتد ِرك الأمر كانت خسارة الأرياف فادحة‪ ،‬وكانت قد ُه ِجرت قرى‬
‫بصور ٍة شبه جماع ّية‪ ،‬وتركها أهلوها تحتضر شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬وفرغ عدد كبير من كنائس‬

‫السينودس‪ ،‬خصوص ًا في محافظات حمص ودمشق والسويداء والجزيرة‪.‬‬

‫بعد استقرار الأوضاع في لبنان‪ ،‬بعد الحرب الأهل ّية‪ ،‬شرع السينودس في تقويم‬
‫أوضاع كنائسه التي ُد ِّمرت أو ُه ِّجرت‪ ،‬وقام بترميم وإعادة بناء بعضها حيث أمكن‬
‫عودة عائلات الكنيسة إلى بلداتهم وقراهم‪ ،‬وبدأت الخدمات الكنس ّية المنتظمة فيها‪.‬‬

‫تم ّيز نم ُّو الكنائس الإنجيل ّية في المراحل الأولى بالدور الكبير الذي لعبته القيادات‬
‫العلمان ّية المؤمنة؛ وكان بعض هذه القيادات ذا َت شأ ٍن مرمو ٍق جد ًا – اجتماعي ًا وعلم ّي ًا‬
‫وعلاقات ّي ًا؛ نذكر منهم ‪ -‬على سبيل المثال‪ ،‬لا الحصر ‪ -‬مخائيل مشاقة الدمشقي‪ ،‬الذي‬
‫كان طبيب ًا بارع ًا وقنصل ًا ومستشار ًا وكاتب ًا غن َّي القلم‪ ،‬وبطرس البستاني المتب ِّحر في‬

‫‪29‬‬

‫اللغات‪ ،‬خصوص ًا العبران ّية والسريان ّية واليونان ّية‪ ،‬والذي لعب دور ًا أساسي ًا في ترجمة‬
‫الكتاب المق ّدس إلى اللغة العرب ّية مع كورنيليوس ڤان دايك‪ ،‬ووضع في اللغة العرب ّية‬
‫دائر َة معارف وعدد ًا من الكتب العلم ّية والأدب ّية‪ ،‬وأسس مدرسة «ثانو ّية» أردفت‬
‫الك ّلية الإنجيل ّية السور ّية (الجامعة الأميركية في بيروت) بالطلاب‪ .‬ومع صغر حجمها‬
‫العددي‪ ،‬أخرجت الكنائس الإنجيل ّية‪ ،‬عبر تاريخها‪ ،‬خيرة الشابات والشباب والنساء‬

‫والرجال ليكونوا قادة فك ٍر وعل ٍم وفضيلة في مجتمعاتهم‪.‬‬

‫عندما أعلنت سلطات الانتداب تأسيس دولتي لبنان وسورية الحاليتين‪ ،‬في العام‬

‫‪ ،1920‬ن ّظمت الكنائس الإنجيل ّية (المشيخ ّية) ذاتها في سينودس واحد لأ ّول م ّرة‪،‬‬
‫واختاروا بيروت مق ّر ًا لإدارته؛ وفي العام ‪ ،1959‬تس ّلم السينودس كامل المسؤول ّية‬
‫‪ -‬الإدار ّية والمال ّية والرعائ ّية ‪ -‬عن المؤسسات والكنائس والمراكز في حقلي خدمته في‬
‫سورية ولبنان‪ ،‬الأمر الذي استلزم بع َض التنظيم في هيكل ّيته لتتك ّيف مع تط ّلعات‬
‫كنائسه الأعضاء‪ .‬في هذا المجال تحضرني كلمات المر َسل الشهير‪ ،‬القس هنري ِج ِسپ‪،‬‬
‫قبل مائة وعشر سنين‪ ،‬في ختام كتابه «ثلاث وخمسون سنة في سورية»‪« :‬إ ّن التق ّد َم‬
‫الذي أحرزته الكنيسة الإنجيل ّية السور ّية‪ ،‬بجهود رعاتها وشيوخها السوريين‪،‬‬
‫والمرسلين الأميركان‪ ،‬مش ّجعة وواعدة للمستقبل‪ .‬نحن الأجانب أعضا ٌء إكرام ّيون‪،‬‬
‫ويجري انتقا ُل المسؤول ّية بسلاسة وجدارة‪ ،‬مما يبوح بالأمل بالوقت الذي تصبح فيه‬
‫الكنيسة السور ّية مكتف َي ًة ذات ّي ًا وقادرة على تطوير ذاتها‪ .‬أ ّما نوع التدبير الذي ستتبناه‬
‫هذه الكنائس فشأ ٌن ثانوي ‪ ...‬فعندما ينهضون بأنفسهم‪ ،‬ويح ّققون اكتفاءهم الذاتي‪،‬‬

‫ويتك ّفلون برعاتهم ومدارسهم‪ ،‬سيكونون أحرار ًا في اختيار نوع الحوكمة والتدبير‬

‫الكنسيين اللذين يناسبان ذوقهم وأفضل ّياتهم»(‪.)5‬‬
‫(‪Henry Harris Jessup, Fifty Three Years in Syria; P 749 )5‬‬
‫ُط ِبع الكتاب سنة ‪ ،1910‬أي عندما كانت منطقة الشرق الأوسط بأسرها تحت الحكم‬

‫‪ 30‬العثماني؛ لذلك‪ُ ،‬ك ِتب بالمفاهيم الجغرافيّة التي كانت سائدة آنذاك‬

‫دراسات ومقالات‬

‫ح ّق ًا إنها كلما ٌت َت ِش بحصاف ِة كاتبها و ُبع ِد نظره وحكمتِه؛ فالسينودس وضع‪،‬‬
‫في العام ‪ ،)6(1959‬نظا َمه الخاص بما يناسب ذو َق كنائ ِسه وأفضل ّيا ِتا‪ ،‬على أساس‬
‫الأركان الرئيس ّية للنظام المشيخي‪ .‬تبع هذا ن ُم ٌّو بارز على مستوى القيادات ومفهو ِم‬

‫الإرسال ّية والوكالة المسيح ّية‪.‬‬

‫ا ّتسمت الشهاد ُة الإنجيل ّي ُة منذ البداية بتشجيعها المعرفة والعلوم‪ ،‬تم ّشي ًا مع‬
‫خلفيتِها الـ ُمص َل َحة التي رأت في التعليم باب ًا أكيد ًا إلى تمكين الإنسان من قراءة كلمة‬
‫الله ودراستها‪ .‬ففتح الإنجيل ّيون [المشيخ ّيون] المدارس في كل مدينة وبلدة في سورية‬
‫ولبنان وقر ًى كثيرة‪ ،‬حتى بلغ عدد المدارس هذه في وق ٍت واحد ‪ 177‬مدرسة ومركز‬
‫للتعليم‪ ،‬وكان التعليم فيها شب َه مجّاني‪ .‬كما أسسوا‪ ،‬في العام ‪ ،1828‬أ ّول مدرسة‬
‫للإناث في طول الإمبراطور ّية العثمان ّية وعرضها‪ ،‬في زمن كانت المدرسة في أوروبا‬
‫وأميركا شب َه ِحكر على الذكور؛ هذا بالإضافة إلى جامعات ذاع صي ُتها في العالم‪،‬‬
‫كالكل ّية السور ّية الإنجيل ّية (الجامعة الأميرك ّية في بيروت)‪ ،‬وك ّلية حلب التي كانت‬
‫ُتع َتبر شقيقة الجامعة الأميرك ّية ورديف َتها‪ ،‬وك ّلية بيروت للبنات (حال ّي ًا الجامعة اللبنان ّية‬

‫الأميرك ّية)‪ .‬كان تدريس كلمة الله أساسي ًا في جميع هذه المؤسسات‪.‬‬

‫بسبب نم ّو المدارس وحاجتها إلى كتب التدريس في اللغة العرب ّية‪ ،‬وحاجة الشهادة‬
‫الإنجيل ّية إلى أدب ّيا ٍت مطبوعة‪ ،‬أسست الكنيسة في العام ‪ 1834‬أول مطبعة آل ّية كانت‬
‫تطبع مئات ألوف الصفحات في السنة‪ ،‬خصوص ًا عندما ابتدأوا في ترجمة الكتاب‬
‫المق ّدس إلى اللغة العرب ّية‪ ،‬فغدت كلمة الله في متناول شعوب الشرق الأوسط قاطب ًة‪.‬‬

‫أ ّلفوا وطبعوا مئات الكتب العلم ّية والأدب ّية‪ ،‬والنبذات الروح ّية التي كانت تصل‬

‫(‪)6‬استق ّلالسينودسرسم ّي ًافيالعام‪،1940‬لك ّنهلميكناستقلال ًافعل ّي ًا‪،‬إذبقييعتمدعلىالدعم‬
‫منالكنيسةالمشيخ ّيةفيالولاياتالم ّتحدةفيأكثرمنمجال‪،‬خصوص ًاالمجالينالماليوالوظيفي ‪31‬‬

‫كنائس الشرق الأوسط الإنجيل ّية وغير الإنجيل ّية بالسرعة التي كانت ُتنتجها المطبعة‪،‬‬
‫حتى اض ُط َّرت الكنيسة إلى تطويرها أكثر من م ّرة لتلاقي الحاجة المتزايدة‪ .‬كما أطلقت‬
‫الكنيسة الإنجيل ّية‪ ،‬في العام ‪ ،1863‬أ ّول مج ّلة باللغة العرب ّية في الإمبراطور ّية العثمان ّية‪،‬‬

‫هي مجلة «النشرة»‪ ،‬التي ساهمت‪ ،‬مع‬

‫المدارس والجامعات والمطبوعات‬

‫الإنجيل ّية‪ ،‬في إضاءة شمعة النهضة‬
‫العرب ّية الكبرى‪ ،‬وفي بناء جي ٍل وطن ٍّي‬
‫مث َّق ٍف وا ٍع َن َ َش نو َر الح ِّق والمعرفة في‬
‫أرجاء الشرق الأوسط ‪ ...‬وأبعد‪،‬‬
‫وأ ّمن التواص َل الح ّي بين الكنائس بعضها مع بعض‪ ،‬وبين الكنائس الأ ّم وأولادها في‬
‫ديار الاغتراب‪ُ .‬تعت َب أعدا ُد «النشرة» كامل ًة (مجموع ٌة في حوزة السينودس ومجموعة‬
‫أخرى في مكتبة ك ّلية اللاهوت للشرق الأدنى) مصدر ًا أرشيف ّي ًا مه ّ ًم لأحوال الشرق‬
‫الأوسط وتاريخه لفترة تمتد أكثر من ‪ 150‬سنة‪ ،‬يقصدها (أعداد النشرة) طالبات‬

‫وطلاب المعرفة المس َتزا َدة عن أحوال الشرق الأوسط في الماضي‪« .‬النشرة´لم تزل تصدر‬
‫حتى يومنا هذا ‪ ...‬وتزهو‪.‬‬

‫اهت ّم السينودس بالعافية الجسد ّية كاهتمامه بالعافيتين الروح ّية والذهن ّية‪ ،‬من خلال‬
‫عدد من المستشفيات الرائدة في الشرق الأوسط ومص ّح للسل كان يؤ ّمه مرضى السل‬
‫من الإقليم وما بعد؛ وكانت كلم ُة الله ال ِغذا َء اليومي لنزلاء هذه المؤسسات من جميع‬

‫المذاهب والأجناس‪ ،‬وكانت ُتق َبل بفرح واشتياق‪.‬‬
‫يتر ّبع السينودس على إر ٍث فريد من الانفتاح على الإنسان الآخر‪ .‬ففي حقل‬

‫‪32‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫التعليم‪ ،‬حفلت مقاعد الدراسة في المدارس والك ّليات والجامعات الإنجيل ّية (في‬
‫حقل السينودس) على أعلى نسبة من غير المسيحيين بين كل المؤ ّسسات التعليم ّية التي‬
‫أنشأتها الكنائس؛ أ َّمها الطلاب والطالبات من غير الإنجيليين ومن غير المسيحيين‬
‫بسبب تركيز التدريس في هذه المدارس في العلم الصحيح والأخلاق الحميدة والتدبير‬
‫المنزلي والتربية المدن ّية المم َّيزة والعلاقات البشر ّية السليمة القائمة على المح ّبة والوئام‬
‫واحترام الآخرين في مواقعهم‪ ،‬فخرج ط ّل ُبا إلى العالم الفسيح ينشرون الإبداع‬

‫والمح ّبة والانفتاح والتواصل‪.‬‬

‫وفي حقل العلاقات بين الكنائس‪ ،‬كان للسينودس‪ ،‬بهيئاته وكنائسه‪ ،‬البا ُع الطويل‬
‫والمؤ ِّثر في الدعوة إلى التقارب بين الكنائس والسعي إلى وحدة شهادتها؛ ليس فقط‬
‫في الدعوة‪ ،‬بل في العمل أيض ًا؛ فعمل السينودس جاهد ًا في مجال الوحدة الإنجيل ّية‬
‫في المشرق العربي‪ ،‬وكان من الس ّباقين إلى دعوة الكنائس الإنجيل ّية في الوطن العربي‬
‫للمشاركة في «مؤتمر قادة الكنائس الإنجيل ّية في الوطن العربي»‪ ،‬الذي انعقد في‬
‫بيروت‪ ،‬من ‪ 30 – 28‬نيسان ‪ ،1955‬وحضره مندوبون من كنائس مصر والسودان‬
‫والأردن والعراق والكويت والبحرين وسورية ولبنان (‪ ،)7‬انبثقت عنه لجن ٌة لوضع‬
‫نظام الكنيسة الإنجيل ّية الم ّتحدة‪ .‬صدر «دستور الكنيسة الإنجيل ّية الم َّتحدة في الشرق‬
‫العربي» بعد فترة‪ ،‬مستلهم ًا دستو َر الكنيسة الإنجيل ّية الم ّتحدة في جنوب الهند‪ ،‬وورد‬
‫اسم السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان أ ّولاً عند تعداد المبادرين إلى هذا‬
‫المسعى النبيل‪ .‬للأسف‪ ،‬أوقف تسار ُع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط المض َّي‬
‫ُق ُدم ًا في تحقيق المشروع‪ .‬لك ّن السينودس استطاع‪ ،‬من خلال جهود رابطة الكنائس‬
‫(‪)7‬كانوفدالسينودسأكب َروف ٍدعددي ًا‪،‬وتأ ّلفمن‪:‬القسجورجخوري(أمينس ّرالسينودس)‪،‬‬
‫القس إبراهيم ملحم داغر‪ ،‬القس شوقي حولي‪ ،‬القس وليم نادر‪ ،‬القس حنا خوري‪ ،‬القس جبرا‬
‫الحلو‪ ،‬الواعظ جوزيف حوراني‪ ،‬الشيخ إدمون إلباوي‪ ،‬الشيخ عبدالله حصني‪ ،‬الشيخ الدكتور‬
‫إبراهيمشحادة ‪33‬‬

‫الإنجيل ّية في الشرق الأوسط‪ ،‬أن يساهم مساهمة ناجعة في مشروع «وحدة ال ِشكة‬
‫بين الكنائس الإنجيل ّية في الشرق الأوسط»‪ ،‬وو ّقع اتفاق ًا مش َ َتك ًا مع الاتحاد الإنجيلي‬
‫الأرمني في الشرق الأدنى والاتحاد الإنجيلي اللبناني‪ ،‬لل ِشكة الكاملة مع الكنيسة‬

‫الإنجيل ّية اللوثر ّية في الأردن والأراضي المق ّدسة عام ‪ ،2006‬المعروف با ّتفاق ع ّمن‪.‬‬

‫سبق هذه التط ّورات جهو ٌد أخرى مضيئة قام بها السينودس لجمع كلمة المسيحيين‪.‬‬
‫كانت الهيئات المرسل ّية (المص َلحون‪ ،‬اللوثريون الإنجيل ّيون‪ ،‬والأنجليكان) العاملة في‬
‫الشرق الأوسط قد عقدوا في إدنبره (اسكوتلندا)‪ ،‬في العام ‪ ،1910‬اجتماع ًا بينهم بغية‬

‫«توحيد كنيسة المسيح المنقسمة»؛ تبع هذا عد ٌد من الاجتماعات‪ ،‬في القدس وحلوان‬
‫وغيرها‪ ،‬انتهت إلى تشكيل «المجلس المسيحي في الشرق الأدنى»‪ ،‬في العام ‪.1924‬‬
‫لكن بعد أربعين عام ًا (‪ )1964‬حصل تط ّو ٌر مه ّم‪ ،‬حين قام السينود ُس مع الكنائس‬
‫الإنجيل ّية الأخرى (ذات الخط الرئيسي والتطلعات المسكون ّية) في منطقة الشرق‬
‫الأوسط بتشكيل «مجلس كنائس الشرق الأدنى»‪ .‬كان هذا جهد ًا مح ّلي ًا بالكامل‪،‬‬
‫لعب المرسلون فيه دورا استشاري ًا‪ .‬في العام ذاته ر ّحبت الهيئة العا ّمة الأولى للمجلس‬
‫الجديد‪ ،‬التي ُعقدت في مصر‪ ،‬بالكنيسة السريان ّية الأرثوذكس ّية عضو ًا كامل ًا في‬
‫المجلس؛ وهكذا كان السينودس ركن ًا أساسي ًا في انطلاقة الحركة المسكون ّية في الشرق‬

‫الأوسط‪.‬‬

‫بدأت فور ًا المباحثات لانضمام الكنائس الأرثوذكس ّية الأخرى (روم أرثوذكس‪،‬‬
‫أقباط أرثوذكس‪ ،‬أرمن أررثوذكس) إلى المجلس‪ .‬خلال أربع سنوات انض ّم الأقباط‬
‫والأرمن‪ ،‬وفي العام ‪ ،1974‬في الهيئة العامة التي ُعقدت في لبنان‪ ،‬انضمت بطركيتان‬
‫أرثوذكسيتان (أنطاكية والإسكندر ّية) وأسقف ّية (أسقف ّية قبرص)‪ ،‬وتغ ّي اسم المجلس‬
‫إلى «مجلس كنائس الشرق الأوسط»‪ ،‬و ُع ِمل بنظام العائلات الكنس ّية (العائلة‬

‫‪34‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫الإنجيل ّية‪ ،‬العائلة الأرثوذكس ّية البيزنط ّية‪ ،‬العائلة الأرثوذكسية القديمة)‪.‬‬

‫عند انعطافة تاريخ ّية‪ ،‬استشعر الأعضاء الإنجيل ّيون (المصلحون‪ ،‬الأنجليكان‪،‬‬
‫اللوثر ّيون) في المجلس حاج َتهم‪ ،‬كعائلة كنس ّية واحدة‪ ،‬إلى وجود «من ّصة» يستطيعون‬
‫بها أن يختبروا ال ِشكة الإنجيل ّية التي تجمعهم‪ ،‬وفي الوقت ذاته يواصلون سع َيهم إلى‬
‫الوحدة الإنجيل ّية المنشودة؛ فش ّكلوا في العام ذاته (‪« )1974‬رابطة الكنائس الإنجيل ّية‬
‫في الشرق الأوسط» (مصر‪ ،‬سورية‪ ،‬لبنان‪ ،‬فلسطين‪ ،‬الأردن‪ ،‬إيران‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫السودان‪ ،‬الخليج‪ ،‬الجزائر‪ ،‬تونس‪ ،‬ومؤ ّخر ًا العراق)‪ .‬كان للسينودس دو ٌر أساس ٌّي في‬

‫تطوير خدمة الرابطة في ك ّل المجالات‪ ،‬وفي سعيها التوحيدي‪.‬‬

‫في العام ‪ 1992‬اكتمل عقد الكنائس في الشرق الأوسط بانضمام مجموعة الكنائس‬
‫الكاثوليك ّية (لاتين‪ ،‬روم كاثوليك‪ ،‬موارنة‪ ،‬سريان كاثوليك‪ ،‬أرمن كاثوليك‪ ،‬أقباط‬

‫كاثوليك‪ ،‬كلدان)‪ ،‬فغدت «العائل ُة الكاثوليك ّية» العائل َة الرابعة في المجلس‪.‬‬

‫بالإضافة إلى ما تق ّدم‪ ،‬السينودس اليوم عض ٌو نشي ٌط وفاعل أيض ًا في‪ :‬المجمع الأعلى‬
‫للطائفة الإنجيل ّية في سورية ولبنان‪ ،‬مجلس الكنائس العالمي‪ ،‬ال ِشكة العالم ّية للكنائس‬
‫المص َلحة‪ ،‬إرسال ّية العمل المسيحي في الشرق‪ُ ،‬يم َّثل في هيئاتها الإدار ّية والتنفيذ ّية‪،‬‬
‫بل أ ّن ال ِشكة العالم ّية للكنائس المص َلحة انتخبت مؤ َّخر ًا الق ّسيسة نجلا أبو ص ّوان‬
‫ق ّصاب‪ ،‬من السينودس‪ ،‬رئيس ًة لها للدورة الحال ّية التي تمتد لسبع سنوات‪ .‬كما ان ُت ِخب‬
‫القس جوزيف ق ّصاب‪ ،‬أمين عام السينودس‪ ،‬رئيس ًا للمجمع الأعلى للطائفة الإنجيل ّية‬
‫في سورية ولبنان للدورة الحال ّية التي تمتد لأربع سنوات‪ .‬يعمل أعضاء سينودس ّيون‪،‬‬
‫يسميهم السينودس‪ ،‬في مجلس أمناء الجامعة اللبنان ّية الأميرك ّية وفي مجلس أمناء ك ّلية‬
‫اللاهوت للشرق الأدنى‪ ،‬وفي هيئاتهما المختلفة‪ .‬وللسينودس شركاء ُك ُثر‪ ،‬من كنائس‬

‫‪35‬‬

‫وهيئات كنس ّية‪ ،‬حول العالم‪ ،‬طبع ًا في مق َّدمهم الكنيسة المشيخ ّية الم ّتحدة في الولايات‬
‫الم ّتحدة الأميرك ّية‪ ،‬جمي ُعهم يق ّدرون شهادة السينودس من خلال كنائسه ومؤسساته‬

‫ويساندونها‪.‬‬

‫هذا غي ٌض من فيض‪ ،‬جئ ُت به لمساعدة شعبنا الإنجيلي السينودسي‪ ،‬وسواهم‪،‬‬
‫على الإحاطة‪ ،‬ولو يسير ًا‪ ،‬بتاريخ السينودس بكنائسه وهيئاته وأعضائه‪ ،‬والدور الذي‬
‫لعبه السينودس في تط ُّور ك ِّل ما هو خ ِّ ٌي وصالح في حقل خدمته‪ ،‬فاق كثير ًا حج َمه‬

‫ومصاد َره وحق َل عمله‪.‬‬
‫قال كارل إدوارد ساغان‪ ،‬عا ِلُ ِعلم الأجرام والفيزياء الفلك ّية والبيولوجيا الفلك ّية‬
‫والمؤلف الشهير‪« :‬يجب أن تعرف الماضي لتفهم الحاضر»؛ وقال حكيم الصين‪،‬‬
‫كونفوشيوس‪« :‬ا ْد ُر ِس الماضي لتستوع َب الحاض َر وتستش َّف المستقبل»‪ .‬قولان‬
‫سديدان‪ ،‬يب ّرران استعرا َضنا لهذا الماضي المجيد‪ ،‬ويس ِّوغان ما قلناه في بداية الكلام‬
‫من أ ّنه لا توجد كنيسة في الشرق الأوسط تكتنز هذا الك ّم من الاختبارات الروح ّية‬
‫التاريخ ّية والمر َسل ّية المتن ِّوعة كما يكتنز السينودس‪ ،‬ويس ِّهلان انتقا َلنا من هذا الماضي‬
‫المجيد إلى الحاضر والمستقبل الذي نصبو إليه‪ ،‬مدركين أ ّن الحاض َر امتدا ٌد للماضي‬

‫وجذ ٌع منه وبنا ٌء عليه‪.‬‬

‫طبيعة تكوين السينودس ‪ -‬كنائ َس وأه َل إيمان ‪ -‬تم ّكنه من الارتقاء فوق العثرات‬
‫والعراقيل والنكبات‪ ،‬ليزداد الإيما ُن َمضا ًء و َسنا‪ .‬نعم‪ ،‬ما كانت الاضطهادا ُت والمذابح‬
‫والتشريد والحرمان‪ ،‬بالنسبة لكنائس وشعب السينودس‪ ،‬سوى أزمن ِة افتقا ٍد و ُفر ٍص‬
‫ليختبروا «اب َن الله» معهم في أتون النار‪ .‬واليوم‪ ،‬كما الأمس‪ ،‬يتغنّى شع ُب السينودس‬

‫بفخر وفر ٍح‪ :‬إيما ُننا الح ُّي القدي ْم ميرا ُثنا من الجدو ْد‬

‫‪36‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫لا يسع المرء إ ّل أن يقف وقفة إجلا ٍل وتقدير أمام ماضي السينودس الإنجيلي‬

‫الوطني في سورية ولبنان هذا! ما هذا الزخم الرائع من الاختبارات الفريدة والكنوز‬
‫الثمينة والخدمة المضح َية إ ّل دليل على صلابة السينودس ومناعتِه وأهل ّيته‪.‬‬

‫ر ّبما كانت أبرز ملامح السينودس اليوم هي قيادا ُته الشابة المث ّقفة في قضايا الدين‬
‫والدنيا‪ ،‬من نسا ٍء ورجال ‪ -‬أكان هذا على مستوى الإدارة أم على مستوى الرعاية‬
‫والرعايا‪ .‬قيادات شا ّبة‪ ،‬لكنّها متأ ّصلة في الإرث المجيد‪ ،‬والإيمان الـ ُمص َلح؛ وارثة‬
‫ومق ِّد َرة للماضي التليد بكل معاناته وانتصاراته ‪ ...‬ومعاركه‪ ،‬لكنّها من معدن الحاضر‬
‫الصلب بك ِّل مهاراته وعلومه ‪ ...‬وتح ّدياته‪ .‬يقودون السينودس بكل جدارة وتقوى‬
‫في ش ّتى مجالات الخدمة والشهادة‪ ،‬يتط ّلعون إلى المستقبل بشجاعة ويقين‪ ،‬سلاحهم‬
‫الإيمان وكلمة الله‪ .‬في هذا السياق يجدر التذكير بأ ّن أح َد بنود إرسال ّية السينودس‬
‫تنص على «تكافؤ دور الرجل والمرأة في امتداد ملكوت الله وشهادة الكنيسة»‪ ،‬أي‬
‫أ ّن السينودس مقتن ٌع بتظهير دور المرأة المكافئ لدور الرجل في الكنيسة في ك ِّل مجالات‬
‫الخدمة‪ .‬أ ّولاً‪ ،‬وبحسب نظامه‪ ،‬ساوى السينودس بين الرجل والمرأة في رتبة التدبير‬
‫(الشيخ‪/‬الشيخة)‪ ،‬ث ّم في منح شهادة الوعظ القانون ّية للمرأة كما للرجل‪ ،‬ومنذ بضع‬
‫سنوات سا َم السينودس امرأتين للرتبة القسوس ّية المباركة‪ ،‬إحداهما ترعى كنيسة لأكثر‬

‫من َعق ٍد من الزمن‪.‬‬
‫و َل ِئن كان إر ُث السينودس وأث ُره في الماضي‪ ،‬في حقل التربية والتعليم ‪ -‬الثقافي‬
‫والمِهني والجامعي‪ُ ،‬يشار إليه بال َبنان و ُت ِق ُّر به الدول‪ ،‬فإ ّن مساهمة السينودس في‬
‫الحاضر‪ ،‬في حقل التربية والتعليم هي استمرا ٌر لتلك المساهمات من حيث تركيز‬
‫هيئات السينودس التربو ّية والتعليم ّية على التم ُّيز العلمي والسلوكي لط ّلبها‪ ،‬وبناء‬
‫شخص ّيتهم الناضجة الناجحة المنط ِلقة؛ وها هم خ ّريجو وخ ّريجات مدارس السينودس‬

‫‪37‬‬

‫يحت ّلون المراكز المتق ّدمة في حقولهم في الوطن وفي كل أصقاع الدنيا‪ ،‬ويحوزون أرفع‬

‫التقدير‪.‬‬

‫يدير السينودس‪ ،‬وكنائ ُسه‪ ،‬اليوم إحدى ع ْشة مدرسة في سورية ولبنان تض ّم‬
‫نحو ًا من ‪ 12000‬طالب وطالبة من ش ّتى المذاهب والإثنيات‪ ،‬ينهلون العل َم والمعرف َة‬
‫والأخلاق في أجواء المح ّبة والتآخي بين الجميع؛ تستقبل بع ُض هذه المدارس طالبا ٍت‬
‫وط ّلب ًا من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ وهكذا تستم ّر مدارس السينودس بعزيمة‬
‫ثابتة‪ ،‬في قل ِب مجتم ٍع تسوده العصبيا ُت المذهب ّية والفئو ّية‪ ،‬شاهد ًة لمحيطها بإمكان ّية‬

‫العيش المشترك والوئام و َتشا ُط ِر الاهتمامات الإنسان ّية‪.‬‬
‫لتحقيق إرسال ّيتِه‪َ ،‬أولى السينودس اهتمام ًا منقط َع النظير لبناء الإنسان المسيحي‪ ،‬من‬
‫س ّن الطفولة حتى الشيخوخة‪ ،‬بما فيه الطفل‪ ،‬والمراهق‪ ،‬والشا ّب‪ ،‬والزوج والزوجة‪،‬‬
‫والمرأة‪ ،‬والقادة من الجنسين‪ ،‬والشيوخ‪ ،‬والرعاة‪ ،‬والقيادات التي يحتاجها لتحقيق‬

‫مسؤول ّيات لجانه المختلفة‪ .‬وضع السينودس لهذا الهدف مرك َزي مؤتمرات ولقاءات‬
‫واجتماعات وأنشطة روح ّية وتدريب في لبنان ‪ -‬واحد في عين القسيس‪ ،‬في بلدة‬
‫الشوير‪ ،‬والآخر في منطقة ال َح ّمر‪ ،‬في زحلة‪ .‬أتت الحرب اللبنان ّية الأهل ّية‪ ،‬في سبعينات‬
‫وثمانينات القرن الماضي‪ ،‬على مركز عين القسيس بالكامل تقريب ًا‪ .‬لكن ما أن وضعت‬

‫الحر ُب أوزا َرها حتى ه ّب السينودس ور َّمم المركز وج َّهزه بأحدث مستلزمات الإقامة‬
‫والراحة وا ِلنشراح‪ ،‬وأساليب التواصل الحديثة‪ ،‬مع الحفاظ على طبيعة المركز التراث ّية‬
‫الفريدة‪ .‬أ ّما مركز الحَ ّمر فقد ُبنِ َي في أواخر ال َعقد السابع من القرن الماضي على تل ٍة ُت ِط ُّل‬
‫على مدينة زحلة‪ ،‬و ُج ِّهز بكل وسائل الراحة والعمل والإقامة‪ .‬شرع السينودس في بناء‬
‫مركز للمؤتمرات واللقاءات والاجتماعات والأنشطة الروح ّية على موق ٍع جمي ٍل ُمطِ ٍّل في‬
‫بلدة عمار الحصن‪ ،‬محافظة حمص‪ ،‬في سورية؛ انتهى الجزء الخرساني‪ ،‬والعمل جا ٍر بإذن‬

‫‪38‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫الرب وبركته وه ّمة المسؤولين في السينودس لإنجاز المشروع‪ ،‬رغم َجسامة تح ّديات‬
‫الأوضاع وصعوبتها في سورية‪ ،‬كو ُنه سيل ّبي حاجة كبيرة لكنائس السينودس هناك‪.‬‬
‫طبع ًا‪ ،‬يقوم السينودس بكل هذا جنب ًا إلى جنب مع ما تقوم به كنائ ُسه مح ّلي ًا وبالتعاون‪.‬‬

‫تتح ّدث الحول ّيا ُت والوثائق عن الدور التي اضطلعت به كنائس السينودس منذ‬
‫تأسيسها في حقل الإغاثة وم ّد ي ِد المساعدة للغريب كما للقريب دون تميي ٍز أو محاباة‪،‬‬
‫إيمان ًا منها أ ّن هذا المجال هو في صلب الدعوة الإنجيل ّية كما دعا إليها الرب يسوع‬
‫ومارسها‪ ،‬وكما نادى بها أنبيا ُء الله؛ لذلك أفرد السينودس في أنظمته موا َّد خاصة‬
‫بتشكيل وتوصيف لجنة أصيلة خاصة بالخدمات الاجتماع ّية والطب ّية‪ .‬وحديث ًا‪،‬‬
‫عندما بدأ ِت حر ُب الإرهاب على سورية (‪ ،)2011‬وبدأت تظهر ملامحُها التدمير ّية‪،‬‬
‫وأحاقت بشعب الكنائس وخارجها‪ ،‬ه َّبت هيئا ُت السينودس تلقائ ّي ًا وأطلقت خدمة‬
‫ن ِشطة للإغاثة على كامل التراب السوري وبين السوريين الذين لجأوا إلى لبنان‪ ،‬تح َت‬
‫إشراف اللجنة الأصيلة‪ ،‬راصد ًة الأموال اللازمة لذلك‪ .‬ولـ ّم بدا أ ّن الحاجة تفوق‬
‫مصادر السينودس‪ ،‬ر ّحب السينودس بقيام شركائه حول العالم بإبداء رغبتهم في‬
‫دعم جهوده في هذا المجال ‪ ...‬وكانت مساهمات الشركاء تن ُّم عن صلابة علاقات‬
‫السينودس بشركائه‪ ،‬وعن مصداق ّية السينودس وشفاف ّيته في التعامل مع الأوضاع‬
‫الصعبة المستج ّدة‪ .‬لذلك‪ ،‬وبسبب تط ّور الأحداث في حقله‪ ،‬خصوص ًا الحرب على‬
‫سورية ووجود مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان‪ ،‬رأى السينودس ضرورة‬
‫تأسيس جمع ّية خاصة بحقل الإغاثة والمعونة الإنسان ّية ذات شخص ّية اعتبار ّية لها نظا ٌم‬
‫خاص ترتبط بالسينودس وتعمل وفق ًا ِلد ّق المعايير ال ُدول ّية‪ ،‬بغي َة أن تبقى الأمور‬
‫من َّظ َم ًة‪ ،‬ولزيادة فاعل ّية خدمة الدياكون ّيا في السينودس‪ ،‬لمساعدة الفقراء والمه َّمشين‬

‫‪39‬‬

‫في لبنان وسورية؛ فأ ّسسها و َأط ِلق عليها التسمية‬
‫«جمع ّية تحنُّن الإنجيل ّية»‪ ،‬وع ّي لها الموظفين‬
‫الكفوئين‪ .‬باشرت الجمع ّية خدم َتها بزخم‬
‫وجدارة‪ ،‬وكان عليها أن تواجه ظروف ًا مأساو ّي ًة‬
‫مستج ّدة باستمرار في سورية ولبنان‪ ،‬خصوص ًا‬
‫مواجهة الحالة الكارث ّية التي نتجت عن انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكث ُر‬
‫من ‪ 170‬إنسا ٍن‪ ،‬وإصابة أكثر من ‪ 5000‬شخ ٍص‪ ،‬جرو ُح كثيرين منهم بليغة وذا ُت‬
‫أثر دائم‪ ،‬وتدمير مئات البيوت وتشريد ساكنيها‪ .‬يأمل السينودس أن تنمو خدمة هذه‬
‫الجمع ّية لتغد َو مصدر ًا أساسي ًا للمشاريع الإنسان ّية والمستقبل ّية‪ ،‬داف ُعها المح ّبة والنعمة‬
‫الإله ّيتان‪ .‬تدير الجمعية حالي ًا مشروعين كبيرين‪ ،‬الأ ّول في لبنان من خلال أربعة مراكز‬
‫ثقاف ّية اجتماع ّية لأطفال اللاجئين‪ ،‬والآخر في سورية بالشراكة مع دان‪-‬ميشين في‬
‫الدانمارك‪ .‬في الوقت ذاته تتابع لجنة الخدمات الاجتماع ّية والط ّبية تدريب الكوادر في‬
‫الكنائس لتأهيلهم لعمل الدياكونيا في مجتمعاتهم‪.‬‬

‫يملك السينودس ويدير بي َت المسنّين في‬
‫هملن‪ ،‬مؤ َّسسة لا تبغي الربح‪ ،‬تق ّدم خدمة‬
‫العناية المم َّيزة‪ ،‬بما فيها الط ّبية والعلاج‬
‫الفيزيولوجي الحديث‪ ،‬لنح ٍو من ستين م ِس ٍّن‬
‫وم ِسنَّة‪ ،‬شعا ُره الهناء للمسنين‪ ،‬وراحة البال‪،‬‬

‫والسلامة‪.‬‬

‫تملك كنيسة حمص وتدير بي َت المسنّين الإنجيلي في حمص‪ ،‬ويخدم أربعين مسنّ ًا من‬
‫الذكور والإناث من ش ّتى الخلف ّيات‪ ،‬بأجواء المح ّبة المسيح ّية العاملة والاحترام‪ .‬يعجز‬

‫‪40‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫المركز عن استقبال نزلاء كثيرين بسبب‬
‫محدود ّية استيعابه وسمعته التي جعلت‬
‫العائلات تختاره لمسنّيهم على أ ِّي مكان آخر‪.‬‬
‫يحتوي المركز قسم ًا خاص ًا متط ِّور ًا للمعالجة‬

‫الفيزيولوج ّية‪.‬‬

‫تدير الكنيسة في منيارة مركز ًا اجتماعي ًا ثقافي ًا يخدم بلدة منيارة ومحي َطها‪ ،‬يتض ّمن‬
‫عيادة خير ّية‪ ،‬ومكتبة للمطالعة والاستزادة من المعرفة‪ ،‬قسم ًا لبيع القرطاس ّية والكتب‪،‬‬
‫مركز ًا تعليمي ًا‪ ،‬مركز ًا رياضي ًا‪ ،‬مركز ًا للموسيقا والفن‪ ،‬ومركز ًا للترفيه‪ .‬يخدم قسم‬
‫العيادة الخير ّية عدد ًا كبير ًا من اللبنانيين واللاجئين السوريين‪ ،‬ويتناوب على س ِّد‬
‫حاجات الناس الص ّحية اثنا عشر طبيب ًا أخصائي ًا في الطب العام‪ ،‬الطب الداخلي‪،‬‬
‫طب الأطفال‪ ،‬الطب النسائي‪ ،‬طب القلب والأوعية الدمو ّية‪ ،‬طب العظام‪ ،‬طب‬
‫المسالك البول ّية‪ ،‬طب الجهاز الهضمي‪ ،‬والإسعافات الأ ّولية‪ .‬افتتحت الكنيسة مؤ َّخر ًا‬
‫قسم ًا للمعالجة السنّية‪ ،‬واتفقت مع عدد من المخابر والصيدل ّيات ومراكز المعالجة‬

‫الفيزيولوج ّية بهدف توسيع دائرة خدمة المركز‪.‬‬

‫للسينودس مستوصف خيري وصيدل ّية في دير ميماس‪ ،‬يديرهما طبيب قدير شي ٌخ‬
‫في الكنيسة متب ّرع‪ ،‬يق ّدم الخدمة الطبية لك َّل المنطقة المجاورة‪.‬‬

‫يتح ّمل السينودس هذه المسؤوليات بغبطة ورضا‪ ،‬ولسان الحال تعكسه كلمات‬
‫الترنيمة‪:‬‬

‫َن ْش ُع ُر في ِضــــــي ِق الأ ِخ ِعن َد الــ ُم ِلـــــــــــــــــــــــ ّم ِت‬
‫وبِ َيـــــــــ ٍد لا تـــ َــ ْر َتي لِــــــــــــــــــــــــــــــــ َعونِه َن ْأتي‬

‫‪41‬‬

‫في وسط عالمٍ متغ ِّ ٍي مضط ِرب‪ ،‬تصبو رعايا ومؤسسات وشعب السينودس‬
‫الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان لأن يو َجدوا أمناء في الشهادة لمح ّبة الله وح ِّقه‪،‬‬
‫وليكونوا أدا ًة للخدمة والمصالحة في مجتمعاتهم‪ .‬ومن المفيد هنا أن ُن ْثبِت ما تن ُّص عليه‬

‫«إرسالية السينودس» في نظامه الأساسي‪ ،‬فقد يكون في هذا اختصا ٌر لك ِّل ما سبق‪:‬‬
‫الما ّدة ‪ - 6‬إرسال ّيته‪:‬‬

‫إن ُممل خدمة السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان ‪ -‬من خلال كنائسه‬
‫ومؤسساته التعليم ّية والاجتماع ّية وهيئآته وعلاقاته ‪ -‬تهدف إلى‪:‬‬
‫‪ - 1‬الشهادة لإنجيل المسيح؛‬

‫‪ - 2‬اللقاء الحقيقي والشركة الكاملة مع كنيسة المسيح في ك ّل مكان؛‬
‫‪ - 3‬دعم المسيرة المسكون ّية على طريق وحدة كنيسة المسيح؛‬
‫‪ - 4‬تحقيق العدالة والسلام وكرامة خليقة الله؛‬
‫‪ - 5‬بناء الإنسان ال ُمتكامل كأساس ل ُمجتمع أفضل؛‬

‫‪ -6‬تفعيل دور الشبيبة‪ ،‬والتأكيد على تكافؤ دور الرجل والمرأة في امتداد ملكوت‬
‫الله وشهادة الكنيسة؛‬

‫‪ -7‬الانفتاح على الآخر والتعاون معه في سبيل خدمة الإنسان‪ ،‬دونما تمييز بين عرق‬
‫أو دين أو لون أو جنس‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫القس د‪ .‬متري الراهب *‬ ‫الكنيسة الانجيلية‬
‫اللوثرية في الأردن‬
‫والأراضي المقدسة‬

‫البدايات التي شكلت الحاضر‬

‫لقد ش ّكلت حملة نابليون الى الشرق الأوسط نقطة تحول بالنسبة للغرب‪ ،‬إذ زادت‬
‫من اهتمام هذه الدول بالمنطقة بشكل عام وبفلسطين بشكل خاص‪ .‬ولم يقتصر هذا‬
‫الاهتمام على السياسيين فحسب بل وازداد بين المسيحيين ايض ًا بخاصة مع ظهور‬
‫حركة التجديد الديني هناك‪ .‬ولقد انصب اهتمام المرسلين الأوروبيين الاوائل الى‬
‫فلسطين وخاصة الانكليز منهم على التبشير بين اليهود‪ ،‬أما ملك بروسيا فريدرك‬
‫وليم الرابع‪ ،‬فقد أراد ان يؤسس لملة بروتستانتية اسوة بالملل المسيحية الأخرى في‬
‫الإمبراطورية العثمانية‪ ،‬وان يضع هذه الملة تحت حماية بروسيا‪ ،‬وبذلك يصبح لبروسيا‬
‫موطئ قدم في الشرق الأوسط اسوة بفرنسا التي جعلت من نفسها حامية للكاثوليك‬

‫ولروسيا‪ ،‬والتي استحوذت على حماية الأرثوذكس‪.‬‬

‫ولقد وجد ملك بروسيا فرصته لتحقيق هذا الهدف مع التغيرات التي عصفت‬
‫بالشرق الاوسط‪ ،‬بعد استلام محمد علي سدة الحكم في مصر‪ ،‬واحتلال ابنه إبراهيم‬
‫باشا لسوريا الكبرى عام ‪ ،١٨٣١‬وتكاتف بريطانيا والنمسا لدحره من سوريا‪ .‬فبسبب‬

‫*مؤ ّسسورئيسكليةدارالكلمةالجامعيةللفنونوالثقافةفيبيتلحم‬

‫‪43‬‬

‫هذه المساعدة الأوروبية من جهة وسياسات‬
‫داخلية ملحة من جهة أخرى‪ ،‬أدخل الحكام‬
‫العثمانيون الإصلاحات في مجالات السياسة‬
‫والدين‪ ،‬مما سمح للمرسلين الأوروبيين العمل‬
‫رسمي ًا في الشرق الأوسط‪ .‬لقد أدرك الملك‬
‫فريدرك وليم الرابع ان ليس باستطاعة بروسيا‬
‫ان تؤسس لملة بروتستانتية بقواها الذاتية‪ ،‬خاصة‬
‫أنه لم يكن لبروسيا أي خبرة دولية او أي ثقل‬
‫سياسي في الشرق الأوسط‪ .‬لذلك لجاء الملك البروسي الى ملكة انجلترا مقترح ًا إقامة‬
‫مطرانية انجيلية مشتركة في القدس‪ ،‬تكون اسقفية الطابع شرط ان يتم اختيار الاسقف‬
‫بالتبادل مرة من ملكة انجلترا والأخرى من ملك بروسيا‪ ،‬وكان أمل الملك غير المعلن‬
‫ان يتم لاحق ًا‪ ،‬ومتى سنحت الظروف لبروسيا بإقامة مطرانية لوثرية ومستقلة يكون‬

‫مقرها في بيت لحم‪.‬‬

‫بنا ًء على هذا التحرك البروسي‪ ،‬تم في ‪ ٧‬كانون الثاني سنة ‪ ١٨٤١‬توقيع اتفاقية بين‬
‫الجانبين الإنكليزي والألماني بتأسيس اسقفية انكلترا وايرلندا المتحدة في القدس‪ .‬وكما‬
‫يشير الاسم لم يكن لبروسيا الدور الكبير في هذه الاتفاقية‪ .‬وبسبب اهتمام الانكليز‬
‫بالتبشير بين اليهود‪ ،‬اختارت إنكلترا البروفيسور مايكل سلمون اليكساندر‪ ،‬وكان‬
‫يهوديا متنصر ًا‪ ،‬كأول اسقف ير َسل الى القدس‪ .‬ولم يترك هذا الاسقف أي أثر يذكر‬
‫اذ توفي بعد اقل من اربع سنوات على خدمته ليخلفه صاموئيل غوبات‪ ،‬الذي كان‬

‫‪44‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫سويسري الأصل‪ ،‬مصلح ًا عمل مع ارسالية ‪ CMS‬الإنجليزية وتم اختياره من قبل‬
‫ملك بروسيا‪ .‬والحق يقال ان غوبات هو الذي وضع الأساس الذي بنيت عليه لاحق ًا‬
‫الكنيستين الأسقفية واللوثرية‪ .‬فقد غير غوبات في اولويات المطرانية من تبشير اليهود‬
‫الى العمل بين مسيحيي الشرق العرب‪ .‬فلقد اتقن غوبات اللغة العربية‪ ،‬كما كان حاضر ًا‬
‫في بيروت في ‪ ٥‬آذار ‪ ،١٨٢٧‬عندما وضعت اللبنات الأولى للكنيسة الانجيلية الوطنية‬
‫في بيروت بمعمودية ابن المطران ديونيسيوس قربات من قبل المرسل الأمريكي اسحق‬
‫بيرد‪ .‬وبسبب عمله في بلاد الحبشة من عام ‪ ١٨٢٩‬وحتى ‪ ،١٨٣٨‬ادرك أهمية العمل‬
‫على اصلاح الكنائس الشرقية‪ .‬وفي غضون خدمته التي امتدت من عام ‪ ١٨٤٦‬وحتى‬
‫‪ ،١٨٧٩‬افتتح غوبات ‪ ٢٥‬مدرسة انجيلية وأسس ‪ ١٢‬كنيسة انجيلية‪ ،‬أصبحت‬
‫هي نواة كل من الكنيسة الأسقفية العربية والكنيسة الانجيلية اللوثرية في فلسطين‬
‫والأردن‪ .‬ولتنسيق العمل ما بين الجمعيات التبشيرية الألمانية والجمعيات التبشيرية‬
‫الإنكليزية وحسب النهج الاستعماري للقرن التاسع عشر‪ ،‬فقد صاغ غوبات اتفاقية‬
‫شفهية ‪ Gentlemen Agreement‬تم بموجبها اعلان شمال فلسطين منطقة‬
‫لعمل الإرساليات الإنكليزية وجنوب فلسطين منطقة لعمل الارساليات الألمانية‪.‬‬
‫وبناء على هذا التقسيم‪ ،‬توجد الكنائس اللوثرية اليوم في جنوب فلسطين‪ ،‬في حين‬
‫ان الكنائس الانجليكانية تقع الى الشمال‪ .‬توفي المطران غوبات سنة ‪ ١٨٧٩‬ولم يصمد‬
‫الاتفاق الإنكليزي البروسي فترة طويلة بعد وفاته‪ ،‬اذ شعر الالمان خاصة بعد تأسيس‬
‫المانيا على يد بسمارك سنة ‪ ١٨٧١‬ان لا حاجة لإتفاقية يكونوا هم فيها تابعين لإنكلترا‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬تم في ‪ ٣‬تشرين الثاني سنة ‪ ١٨٨٦‬فض الأسقفية المشتركة وصارت هذه‬

‫‪45‬‬

‫الأسقفية اسقفية للطوائف الانجليكانية فقط‪.‬‬

‫لقد أ ّدى المطران غوبات دور ًا محوري ًا بنيت على اساساته أعمدة الكنيسة اللوثرية‪.‬‬
‫فبالإضافة الى تأسيس المدارس والكنائس الانجيلية‪ ،‬كان المطران غوبات هو الذي‬
‫طلب من جمعيات تبشيرية المانية مختلفة ان تأتي للعمل في فلسطين‪ .‬ففي سنة ‪١٨٥٠‬‬
‫وبعد ان ضربت الأوبئة مدينة القدس‪ ،‬طلب المطران غوبات من ثيودور فليدنر‪ ،‬مدير‬
‫بيت شماسات كايزرفرت‪ ،‬ان يرسل شماسات الى القدس‪ .‬وقد افتتحت شماستان اول‬
‫مستشفى انكيلي في فلسطين وأول مدرسة انجيلية للبنات ُس ِّم َيت «طاليثا قومي»‪.‬‬
‫وعلى عهد المطران غوبات ابتدأ يوهان لودفيج شنلر عمله في فلسطين وأسس دار‬
‫الايتام السورية في القدس‪ ،‬رد ًا على مذابح المسيحيين في كل من جبل لبنان وسوريا‪،‬‬
‫وكان هدفه ان يؤسس لمعهد يستطيع الايتام الفقراء ان يتحولوا من اشخاص لا حول‬
‫لهم ولا قوة الى أعضاء منتجين في المجتمع ونشيطين في الكنيسة‪ .‬وفي سبيل تحقيق‬
‫هذه الغاية‪ ،‬أكد على التربية المسيحية والتدريب المهني والتقني‪ ،‬وكان شعاره «صل‬
‫واعمل»‪ .‬وفي سنة ‪ ،١٨٦٠‬طلب غوبات من جمعية القدس‪ ،‬ومقرها برلين‪ ،‬ان ترعى‬

‫شؤون الطوائف الانجيلية التي خرجت من رحم العمل المرسلي الألماني‪.‬‬

‫ولقد شكلت هذه الجمعيات الألمانية الثلاث الحاضنة التي خرج من رحمها أعضاء‬
‫الكنيسة اللوثرية‪ .‬فمدرسة طاليثا قومي كانت الحاضنة التي ربت آلاف النساء‬
‫الانجيليات‪ ،‬مؤكدة على أهمية ان تكون المرأة الانجيلية قادرة ومدبرة ومثقفة‪ .‬أما دار‬
‫الايتام السورية‪ ،‬التي عرفت بمدرسة شنلر نسبة الى مؤسسها‪ ،‬فقد خرجت الفرد‬
‫الإنجيلي المهني والمحترف ‪ Meister‬والذي مد فلسطين على مدى مئة عام بالأيدي‬

‫‪46‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫العاملة الماهرة‪ .‬كما وانها كانت المدرسة التي صقلت هوية انجيلية مميزة ووضعت‬
‫الأساس لطائفة انجيلية في القدس‪ .‬أما جمعية القدس التبشيرية‪ ،‬فقد أسست ثلاث من‬
‫الكنائس اللوثرية كانت أولها في بيت لحم عام ‪ ،١٨٦٠‬تبعتها كنيسة أخرى في مدينة‬
‫بيت جالا المجاورة سنة ‪ ١٨٧٩‬وثالثة في بيت ساحور شرقي بيت لحم سنة ‪.١٩٠٠‬‬
‫وما زالت هذه الكنائس الثلاث موجودة وفاعلة حتى يومنا هذا‪ .‬وقد كان الرئيس‬
‫الأعلى لهذه الكنائس الثلاث‪ ،‬وعلى الدوام‪ ،‬قسيس الماني الجنسية‪ ،‬عاونه وعاظ او‬
‫قسس محليين‪ .‬ومن الجدير ذكره ان الرعيل الأول من الوعاظ والقسس العرب لهذه‬
‫الكنائس الثلاث كانوا في الأصل من منطقة مرجعيون في الجنوب اللبناني او ما ُعرف‬
‫حينها بالجليل الأعلى‪ .‬فقد تتلمذ كل من القسيس بشارة كنعان وسعيد عبود واسبر‬
‫ضومط وشديد باز حداد واسكندر حداد وداود حداد في مدرسة شنلر‪ ،‬وكانوا كلهم‬
‫ايتام جيء بهم من جنوب لبنان الى دار الايتام السورية حيث تعلموا اولاً حرفة‪ ،‬ثم تم‬

‫اعدادهم كمدرسين وتم تأهيلهم للقيادة الكنسية تحت اشراف شنلر‪.‬‬

‫ويمكن القول انه لم يكن عند الجمعيات الألمانية فكر كنسي واضح ولم يكن‬
‫قصدهم إقامة كنيسة وطنية مستقلة‪ ،‬فعملت كل جمعية باستقلالية كاملة عن‬
‫الجمعيات الأخرى‪ .‬كما وأنها عملت وكأنها مستعمرات للسكان الأصليين يحاول‬
‫العنصر الألماني فيها تكوين انسان انجيلي العقيدة ولكن الماني الثقافة‪ .‬وبقيت قيادة‬
‫هذه المؤسسات الثلاث تحت قيادة المانية حتى الحرب العالمية الثانية‪ ،‬عندما احتلت‬
‫عصابات الإرهاب الصهيونية مدرسة شنلر واملاكها في كل من القدس وبئر سالم‬
‫وخيمة الله والتي قدرت بآلاف الدونمات‪ .‬كما وتم مصادرتها كاملاك المانية وتم‬

‫‪47‬‬

‫لاحق ًا تعويض شنلر بأموال قليلة قسمت بين أبناء شنلر‪ ،‬فاشترى هرمن شنلر في‬
‫عام ‪ ١٩٥٢‬ارض ًا في خربة قنفار في البقاع‪ ،‬ليؤسس مدرسة يوهان لودفيج شنلر‬
‫والتي تم الحاقها بالكنيسة الانجيلية الوطنية‪ .‬أما ارنست شنلر فقد اشترى في عام‬
‫‪ ١٩٥٩‬ارض ًا في الزرقاء في الأردن‪ ،‬ليؤسس مدرسة ثيودور شنلر والتي تم الحاقها‬
‫بالكنيسة الأسقفية هناك‪ .‬أما مستشفى الشماسات الانجيليات‪ ،‬فتم مصادرته وتحويله‬
‫الى مستشفى اسرائيلي حكومي‪ ،‬ومدرسة طاليثا قومي الاصلية تم هدمها وإقامة سوق‬
‫تجاري مكانها‪ .‬وقد اشترت الشماسات الالمانيات بالتعويض الذي حصلن عليه مقابل‬
‫مصادرة مدرستهن في عام ‪ ١٩٥٩‬ارض ًا جديدة في مدينة بيت جالا حيث تم افتتاح‬
‫مدرسة طاليثا قومي الجديدة عام ‪ ،١٩٦٠‬والتي ما زالت مدرسة قائمة الى يومنا هذا‪،‬‬
‫وأصبحت في العقد الماضي مدرسة المانية تحت اشراف مباشر من جمعية برلين وليس‬
‫تحت اشراف الكنيسة اللوثرية‪ .‬أما الأملاك الكنسية الألمانية في القدس الشرقية فقد‬
‫بقيت حتى هذا اليوم ملك ًا للكنيسة الألمانية‪ .‬ان خسارة الكم الأكبر من الأملاك الى‬
‫دولة الاحتلال الإسرائيلي افقدت الكنيسة اللوثرية الأساس المادي اللازم لازدهارها‬

‫مما جعلها رهينة للتمويل الخارجي وبالتالي عرضة للصدمات‪.‬‬

‫ولو بقي الأمر بأيدي الجمعيات الألمانية لما قامت للكنيسة اللوثرية قائمة‪ .‬ف ُبعيد‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبعد ان فقدت الجمعيات الألمانية املاكها وتم استدعاء قادتها‬
‫الالمان الى المانيا او نفيهم من قبل الانكليز الى استراليا‪ ،‬تدخل الاتحاد اللوثري العالمي‬
‫لينقذ ما يمكن إنقاذه‪ .‬وقد عمل الاتحاد اللوثري على ثلاث صعد‪ :‬أولا تم انشاء‬
‫برنامج ًا لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين‪ ،‬وتم تحويل مبنى الاوغستا فكتوريا على جبل‬

‫‪48‬‬


Click to View FlipBook Version