دراسات ومقالات
الزيتون الى مستشفى لعلاج اللاجئين الفلسطينيين ،بالتعاون مع وكالة الغوث وتشغيل
اللاجئين ،وهو ما زال يعمل حتى يومنا هذا باشراف الاتحاد اللوثري العالمي .يذكر
ان هذا المستشفى هو اليوم الأكبر بين مستشفيات القدس الشرقية وهو متخصص
بمعالجة الامراض العضال .ثاني ًا اهتم الاتحاد اللوثري بتأهيل قيادات كنسية جديدة
تم ارسالها الى أمريكا او المانيا لدراسة اللاهوت .بعض هذه القيادات رجع وبعضها
الآخر لم يرجع ،ولكن شكل هذا الفوج الرعيل الثاني من القيادات الكنسية اللوثرية،
اذكر منها المرحوم القس الياس شحادة الخوري والقس نعيم نصار ،والقس باسم نجم
والقس نعمان سمير .وثالث ًا اهتم الاتحاد اللوثري بلم شمل الكنائس اللوثرية المختلفة
ودعم طلب الكنائس المحلية .وكانت هذه فترة القومية العربية ،بتأسيس كنيسة وطنية
بدلاً من الطوائف المشتتة .ولقد استمر العمل على هذا المشروع قرابة العشر سنوات،
حيث تم في أيار من عام ١٩٥٩تأسيس الكنيسة الانجيلية اللوثرية في الأردن .كما وتم
انتخاب أول مجمع لهذه الكنيسة وانتخب البربست الألماني رئيس ًا له .اما هوية المجمع
فتم التشديد على أن تكون لوثرية وذلك نتيجة لدور الاتحاد اللوثري .وبما ان الضفة
الغربية كانت تحت السيادة الأردنية فقد تم ادراج الأردن في الاسم .يذكر ان مطلب
القيادات المحلية ادراج كلمة العربية في اسم الكنيسة قد قوبل برفض الماني وذلك بناء
على الدور المأساوي للقومية الألمانية .وقد ُش ِّكل المجمع من مندوبي خمسة كنائس،
اربع منها كانت قد تأسست في القرن التاسع عشر ،اضيف اليها لاحق ًا كنيسة جديدة
في مدينة رام الله شمالي القدس كان جل أعضائها من خريجي مدرسة شنلر ومن سكان
مدن اللد والرملة ،حيث كانوا قد هجروا من هناك ابان النكبة عام ١٩٤٨واستقر
49
بهم الحال في رام الله ،حيث اسسوا هناك كنيسة الرجاء عام .١٩٥٤وأخيرا تم تأسيس
كنيسة لوثرية سادسة ،كنيسة الراعي الصالح ،في عمان وذلك سنة .١٩٧٩وفي العام
نفسه ،تم انتخاب القس داود حداد كأول مطران عربي لوثري للكنيسة ،وذلك بعد
ان تم في عام ١٩٧٦نقل إدارة العمل التربوي (ما عدا مدرسة طاليثا قومي) من
الإدارة الألمانية الى الإدارة العربية .وفي دورة المجمع الأخير تم تغيير اسم الكنيسة عبر
إضافة «والأراضي المقدسة» ليصير الاسم الرسمي اليوم :الكنيسة الانجيلية اللوثرية
في الأردن والأراضي المقدسة ،ويرأسها منذ عام ٢٠١٨المطران سني إبراهيم عازر.
وبالإضافة الى الكنائس الست الآنفة الذكر ،تدير الكنيسة اليوم ثلاث مدارس في كل
من بيت لحم وبيت ساحور ورام الله ،بالإضافة الى دارين للضيافة .كما وأسس القس
د .متري الراهب عام ١٩٩٥دار الندوة ،وفي عام ٢٠٠٦جامعة دار الكلمة ومقرها
في بيت لحم ،والتي تحظى باستقلالية ويديرها مجلس أمناء مسكوني والذي لعب دور ًا
محوري ًا في تطوير لاهوت انجيلي شرق اوسطي .وتكمن أهمية هذه الكنيسة في أنها
الكنيسة اللوثرية الوحيدة في العالم العربي والكنيسة الانجيلية الأكبر (رغم صغرها
المتناهي) في الضفة الغربية ،والدور المسكوني واللاهوتي الإقليمي والعالمي لبعض
قياداتها ،نذكر على سبيل المثال لا الحصر انتخاب المطران منيب يونان رئيس ًا للاتحاد
اللوثري العالمي .ويشكل الاحتلال الإسرائيلي والهجرة وصغر الكنيسة وشح الموارد
تحديات تواجه هذه الكنيسة اليوم وتهدد استمرارية رسالتها وصوتها النبوي.
50
دراسات ومقالات
الكنيسة الإنجيلية الأسقفية
العربية (الانكليكانية)
في القدس والشرق الأوسط القس جورج جبرا قبطي*
البدايات التي شكلت الحاضر
لمحة تاريخية:
تسمى الكنيسة الإنجيلية الأسقفية عالم ًيا بالكنيسة الأنكليكانية (Anglican
)Churchوذلك نسبة إلى البلد الذي نشأت فيه وهو انكلترا.
ويعود تاريخ تأسيس أول كنيسة في انكلترا إلى القرن الرابع الميلادي ،حينما أرسل
البابا غريغوريوس الكبير القديس أوغسطينوس إلى كانتربري في انكلترا للتبشير
بالمسيحية ولتأسيس الكنيسة فيها عام 597م .واستمرت كنيسة انكلترا بانتمائها
للكنيسة الجامعة وخضوعها لبابا الكنيسة الكاثوليكية في روما حتى عام 1534م
حينما نشأ نزاع سياسي بين الملك هنري الثامن ملك انكلترا و بابا روما آنذاك حول
قضية طلاق الملك من زوجته ،واتخاذ أخرى لإنجاب ولي للعهد ،بالاضافة الى صراع
على السلطة ،وخلاف مع عائلة الملكة الاسبانية الأصل .وعلى اثر ذلك الخلاف ،أعلن
الملك هنري الثامن انفصال (استقلال) انكلترا عن سلطة البابا الزمنية في أوروبا عام
،1534بموافقة البرلمان البريطاني الذي سماه « حامي الايمان».
* قسيس خادم في مطران ّية القدس للكنيسة الاسقفية في القدس والشرق الاوسط
راعي كنيسة القديس بولس الأسقف ّية في الأشرف ّية -ع ّمن 51
وبذلك القرار السياسي فتح الملك
المجال لرئيس أساقفة كانتربري توماس
كرانمر ( Cranmerالذي كان متأثرا
بفكر لوثر وحركته الاصلاحية في المانيا
بعد زيارته لها) ومصلحون آخرون ،مثل
تاينول وتوماس كرومويل ،والمتأثرين
بفكر مارتن لوثر .أفسح القرار بالاستقلال
لهم في المجال لإصلاح الكنيسة فكر ًيا
وعقائد ًيا ،وممارسة طقسية لتتناسب مع
الفكر اللوثري المصلح ،الأمر الذي انعكس في العقائد التسع والثلاثين التي وضعها
كرانمر عام 1562كقاعدة أساسية للكنيسة ،من خلال مجمع أساقفة اجتمع في لندن.
وقد تم إصدار أول كتاب للصلاة العامة ليتناسب مع الفكرالاصلاحي عام ،1542
وتلته بعض التعديلات ،حتى رسا أخي ًرا على نسخة عام ،1662والتي تعتبر حتى
هذه اللحظة واحدة من أهم العوامل التي توحد الأسقفيين الانكليكان في شتى بقاع
الأرض .فمنها أخذت جميع كتب الصلاة العامة ،مع بعض التعديلات التي تناسب
الثقافات المختلفة التي نشأت فيها الكنيسة الأسقفية حول العالم.
التنظيم الإداري والطقسي عالم ًيا:
انتهجت الكنيسة الأسقفية منذ نشأتها نظا ًما ديمقراط ًيا أسقف ًيا ،حيث يترأس
أسقف الكنيسة قيادة المجامع المحلية روحيا واداريا .وتتكون هذه المجامع (مجمع
52
دراسات ومقالات
القدس والشرق الاوسط مثالا) من مجموع المرسومين العاملين في أرجاء المطرانية
(اسقف وقساوسة وشمامسة) ومن العلمانيين الممثلين للعمدة الرعوية لكل كنيسة
محلية ،علما ان العمدة ايضا هي لجنة منتخبة من أبناء الكنائس المحلية بشروط خاصة
للانتخاب.
وتعتمد الكنيسة الاسقفية ثلاثة رتب كنسية كهنوتية هي الشماس ويقوم بأقامته
شما ًسا الاسقف وحده بحضور الكنيسة وباقي المرسومين ،والقسيس الذي يرسمه
الاسقف بوضع اليد مع مجموع القساوسة الحاضرين ،والاسقف (المطران) يكرسه
ثلاثة اساقفة آخرين على الأقل.
ويتمتع رئيس أساقفة كانتربري برئاسة روحية فخرية ورمزية للكنيسة الأنكليكانية
في العالم ،حيث تجمع الكنائس والمطرانيات شراكة أسقفية (أنكليكانية) عالمية تضم
واحد واربعين رئيس اساقفة واكثر من ثمانمئة اسقف يديرون شؤون أكثر من ثمانين
مليون أسقفي حول العالم ،أكثرهم في القارة الأفريقية.
والجدير بالذكر أن المجامع المحلية تقوم بانتخاب اساقفتها ديمقراط ًيا من قبل
مجموع المرسومين والعلمانيين ممثلي العمد الرعوية للكنائس المحلية ،ولا يتم تعيين
الأسقف من اية جهة كانت .وتشكل مجموعة من الأسقفيات في منطقة جغرافية معينة
ما يسمى بالاقليم أو السينودس المركزي ،حيث يترأس أحد الأساقفة هذا السينودس
مدة خمسة سنوات قابلة لإعادة الانتخاب.
أما بالنسبة للطقوس الكنسية ،فهناك جناحان للكنيسة الأسقفية هما الكنيسة
53
العليا High Anglicanismالتي لا زالت تمارس طقو ًسا أقرب ما تكون إلى
الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية ،وهو ما يظهر جل ًيا في طريقة اللباس وممارسة الطقوس
الليتورجية ،والكنيسة السفلى ،Low Anglicanismالتي تميل إلى البساطة
الإنجيلية في عبادتها وتصميم كنائسها ولباسها الكهنوتي ،عل ًم أن الجناحان يعتمدان
ذات كتاب الصلاة العامة وتعديلاته حسب المناطة والثقافات .ونجد احيانا تيارا
وسطيا بين الاثنين .كما ان للقساوسة كامل الحرية في اختيار النهج الليتورجي في
خدمتهم ،على أن يلتزموا بنصوص كتاب الصلاة العامة وتعليماته وقوانين الكنيسة
الاسقفية .والجدير بالذكر أن الكنيسة الاسقفية تعتمد الكتاب المقدس وحده مصدرا
لإيمانها .كما وتعتمد قانونا ايمان الرسل والنيقاوي -القسطنطيني وقرارات المجامع
المسكونية الاربعة الاولى كمصادر لإيمانها مع اعطاء مجالا للعقل والفكر وحقائق
العلم في تفسيرها والبناء عليها.
الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في القدس والشرق الأوسط:
نشأت الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في منطقتنا إثر تعاون بريطاني ألماني في
بداية القرن التاسع عشر ،حيث تم إرسال مطران نمساوي للتأسيس عام 1841م إلى
القدس يمثل الكنيستين الأنكليكانية واللوثرية (تم الفصل بينهما عام 1887لأسباب
سياسية وكنسية).
حمل المطران مايكل سولومون الكساندر في جعبته هدفين ،أ َّولهما إقامة علاقات
تاريخية (أو إعادة إحيائها) بين الكنيسة الأنكليكانية -اللوثرية (تمثل الكنيسة الغربية)
والكنائس الشرقية والأرثوذكسية القديمة في مهد المسيحية ،وثانيهما التبشير المسيحي
54
دراسات ومقالات
بين غير المسيحيين من أبناء المنطقة.
تشير الوثائق التأسيسية للمطرانية في القدس الى رسالة من رئيس اساقفة كانتربري
الى بطاركة الكنائس في المدينة المقدسة وايضا الى برتوكول اقامة مطرانية القدس
الصادرين عام ،1841الى دوافع الكنيسة الانكليكانية لتأسيس مطرانية لها في
القدس ،وذلك لتجديد الاتصالات مع كنائس الشرق القديمة ومساعدتها في خدمتها
وشهادتها (مثلا قبول كهنة الكنيسة الارثوذكسية بموافقة بطريركهم في كلية اللاهوت
المنوي تأسيسها في القدس) وايضا للتبشير بالمسيحية بين غير المسيحيين .ومما لا شك
فيه أن الكنيسة الاسقفية نجحت نجاحا كبيرا في تحقيق الهدف الاول من وجودها ولم
تحقق المرجو من الهدف الثاني لاعتبارات سياسية ودينية ومجتمعية.
استمرت الكنيسة في العمل التبشيري وإقامة العلاقات مع كنائس المنطقة،
بالإضافة إلى تركيزها الأساسي على بناء المؤسسات التعليمية والخدماتية ،حيث قام
المطران الثالث في القدس صموئيل غوبات بتأسيس 42مدرسة في فلسطين وشرق
الأردن بين عامي .1878 -1852وقد نشطت جمعية JEMCA،CMS ،LJSفي
هذا النشاط.
وقد تم رسامة أول 3قسس عرب لخدمة الكنيسة الأسقفية عام ،1877وهم
ميخائيل خليل قعوار وسيرافيم تيوفيل بوتاجي وخليل ناصرجمل في خدمة واحدة
في كنيسة القديس بولس في القدس (علم ًا ان رسامتهم شمامسة عام 1871و1874
كانت في كنيسة المسيح في الناصرة) .وقد كان القسيسين سرافيم وميخائيل أصل ًا من
الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين ،أما القس خليل فكان لاتين ًيا .وقد لعبت المدارس
55
الاسقفية دورا في انضمام هؤلاء وعائلات مسيحية اخرى كثيرة الى الكنيسة الاسقفية
واقتناعهم بإيمانها وخدمتها ونهجها.
وبعد جهاد وتعب ونقاشات ،تع ّرب المجمع الكنسي في لقائه التاريخي في مدينة
يافا الفلسطينية عام ،1905وتم قبول سيامة أول مطران عربي في شركة الكنائس
الانكليكانية هو المطران نجيب قبعين عام ،1958حيث ُع ِّي مطرا ًنا مساع ًدا لأبرشية
الأردن وسوريا ولبنان.
في العام ،1976تعربت المطرانية تما ًما بانتخاب أول مطران عربي مترأس في
القدس ،هو المرحوم فائق درزي حداد ،وقد خلفه المطران سمير قفعيتي (-1984
)1998والمطران رياح أو العسل ( ،)2007-1998والمطران سهيل دواني (2007
-وسيتقاعد العام القادم )2021وقد تم انتخاب المطران حسام نعوم وتكريسه مع
بداية العام الحالي 2020مطرانا مشاركا حتى موعد تقاعد المطران سهيل دواني .كما
واستعادت مطرانية القدس لقب «رئيس الاساقفة» عام .2012ويبقى المطران /
رئيس الاساقفة في منصبه حتى بلوغه السبعين من العمر ،وينتخب المجمع -حسب
القوانين المجمعية -احد قساوسته مطرانا مشاركا للأسقف عند بلوغه الثامنة والستين،
افسا ًحا في المجال للتسليم والتسلم والتعرف على الخدمة والمسؤوليات الاسقفية .
واقع وإحصائيات:
تمتد مطرانية القدس والشرق الأوسط على أراضي أربعة دول من بلاد الشام،
وهي فلسطين ،بشقيها المحتل عام 1948والضفة الغربية ،والأردن ولبنان وسوريا.
56
دراسات ومقالات
وتعتبر مطرانية القدس ُأ ًّما للمطرانيات الأسقفية في القدس والشرق الأوسط ،حيث
كانت تشكل (حتى تموز )2020مع ثلاثة مطرانيات من إخواتها السينودس المركزي
للكنيسة الأسقفية في الشرق الأوسط والذي يتألف من مطرانية مصر وشمال افريقيا،
ومطرانية قبرص والخليج وأي ًضا مطرانية إيران .لكن بعد اعلان «أقليم الاسكندرية»
للكنيسة الاسقفية ،والذي يضم مصروشمال افريقيا والقرن الافريقي واثيوبيا في تموز
،2020اصبح اقليم القدس (حاليا على الأقل) مك َّون من ثلاث مطرانيات فقط.
يبلغ الإحصاء التقريبي لعدد الأعضاء في مطرانية القدس وحدها حوال 7000
عضو يتمركزون في فلسطين والأردن اسا ًسا ،ويتوزعون على ثلاثة وعشرون كنيسة
ويقوم على خدمتهم اليوم واحد وعشرين راع ًيا وطن ًيا بقيادة رئيس الاساقفة والمطران
المشارك .كما وتتوزع في أكثر من مدينة رئيسية في المنطقة ،مثل عمان وبيروت والعقبة
ودمشق والقدس ،رعايا ناطقة بالإنكليزية يخدمها رعاة مرسلون من CMSأو
USPGأو إرساليات أخرى ،بالإضافة إلى رعية سودانية في دمشق يخدمها عادة را ٍع
من السودان.
وتشرف المطرانية على 32مؤسسة (أذرع الخدمة اتباعا لمثال الرب يسوع الذي ع ّل َم
واهت ّم بحاجات الناس وشفى) تمتد في كافة أنحاء المطرانية وتشمل مدارس ثانوية،
مستشفيات ،وعيادات صحية ،مراكز خدمة اجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة
والصم ،مراكز ثقافية ،روضات الأطفال والمياتم ،وبيوت مسنين وكلية اللاهوت في
القدس (وفي بيروت).
57
التحديات التي تواجه المطرانية:
ُيعتبر امتداد المطرانية الشاسع وعدد الأعضاء الجيد نسب ًيا كما وجود المؤسسات
الضخمة الممتدة نعمة كبيرة ،إلا أ َّن هذا الامتداد يضع المطرانية أمام تحديات أجملها
في الآتي:
- 1الوضع الفلسطيني والشرق أوسطي:
شكلت الهجرة الفلسطينية ،منذ عام ،1948والصراع العربي الاسرائيلي هاج ًسا
لدى الكنيسة على كافة مستوياتها .فقد ُه ِّجر الكثير من أبنائها وت َّم إغلاق أكثر من
كنيسة ،أشهرها في القدس وعكا ويافا ،حيث تفيد السجلات قبل عام 1948أن
أعضاء كنيسة يافا تجاوز ثمانمئة عضو لم يعد منهم أحد في هذه الأيام .وبنعمة الرب،
ت ّم ترميم كنيسة القديس بولس في القدس ،و ُتس َتخ َدم الان كمركز مسكوني ،وكنيسة
عكا التي اعيد تكريسها عام ،2018وفيها اليوم نواة لرعية ممن بقوا في المدينة .لكن
الوضع السياسي القائم أدى بالأساقفة والقساوسة وبعض العلمانيين إلى تجنيد طاقاتهم
للدفاع عن القضية الفلسطينية والسعي لتحصيل حقوق الشعب الفلسطيني وتحرير
أرضه.
وكلما كبر النزاع في المنطقة -خصوصا بعد ما يسمى بالربيع العربي منذ عام 2011
-كلما زا َد َه ّم العمل المسيحي ،وخاصة أن كنيستنا التي تسعى لتثبت أن المسيحيين
العرب لهم دور إيجابي وف َّعال وغير عنيف في ال ِّدفاع عن شعبهم وأرضهم .وهذا
يستنزف طاقات الكنيسة ومؤسساتها وقدراتها التي يمكن أن تنفق في أوجه بنائية
58
دراسات ومقالات
أكبر .وعليه ،نجد الكنيسة تعمل مع اللاجئين والنازحين من كافة المناطق والبلاد
العربية ،وتحاول جهدها تقديم العون والمساعدة لهم.
-2الهجرة الشبابية:
وهي تش ِّكل اله ّم الكبير للمجتمعات العربية ككل ،وأكثر ما تعانيه كنيستنا بسبب
الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية الصعبة ،مما يجعل شبابنا امام تحدي البقاء
أو المغادرة ،والكنيسة أمام تحدي الحفاظ على هؤلاء الشباب ،ومحاولة توفير العيش
الكريم لهم من خلال بناء مساكن لهم أو تشغيلهم في المؤسسات أو فتح فرص للعيش
أمامهم .هذا وتحاول كل كنيسة محلية التواصل الدائم مع أبناء الكنيسة في الخارج ،عبر
وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة.
وقد اصبحت هجرة الشباب من الكنيسة الى العالم الافتراضي والمغريات العالمية
اكثر وضوحا وتشكل تحديا امام الرعاة والقيادة الكنسية ،مما يستدعي وضع
استراتيجية متقدمة للتواصل مع الاطفال والشباب ومساعدتهم في النمو في الايمان
والشهادة .كما وتعمل المطرانية حاليا على تشجيع الدعوات الخاصة للشباب للتق ُّدم
لدراسة اللاهوت والسعي نحو الرسامة المقدسة.
-3الاوضاع الاقتصادية:
تتح َّمل مطران َّية القدس مسؤول َّية ادارة 32مؤسسة على الاقل ،وتشغيل حوالي
1500موظف في شتى انواع الاعمال الخدماتية والتعليمية والرعائية والتأهيلية ،مما
يضع على عاتقها مسؤولية مالية ضخمة .ذلك عدا دعم ابناء الكنيسة وبناتها بطرق
59
متنوعة .وبسبب طبيعة بعض المؤسسات الخيرية ،تحتاج المطرانية الى دعم دائم من
الاصدقاء والشركاء حول العالم ،عدا ما تتبرع به المؤسسات والاشخاص والكنائس
المحل َّية ،وما تجمعه الكنيسة من ايجارات واستثمارات وقف َّية .وفي ظل جائحة كورونا،
اصبحت الامور أصعب وأكثر تعقيدا بالنِّسبة إلى الوضع المعيشي والاقتصادي
للمطرانية والناس ،مما يضعنا امام تحديات جديدة وصعبة.
-4العمل المسكوني والبحث عن هوية:
ُتعت َب الكنيسة الأسقفية سباقة في العمل المسكوني في العالم والمنطقة ،وقد كانت
من اوائل المساهمين في تأسيس مجلسي الكنائس العالمي والشرق الاوسط .وتحاول
الكنيسة تحديد هويتها الخاصة التي تجمع الكاثوليكية والإنجيلية م ًعا ،وأي ًضا من
حرصها على إسم الإنجيليين في منطقة ملتهبة من عالم أصبح الإنجيليون متهمون
فيه بالتطرف خصو ًصا في الولايات المتحدة الأميركية ،ان التحديات كبيرة والعمل
مستمر في مواجهتها وإيجاد الحلول المناسبة مع جميع الأطراف.
وبرأي ّي الشخصي ،على كنيستنا الاسقفية أن تنتهج الوسطية في هويتها الاسقفية
التي كانت منذ البدء جس ًرا بين الكنائس ،حيث فكرها الانجيلي الكتابي والمنفتح على
العقل والعلوم ،وطقوسها القريبة من الكاثوليكية الغربية ،ونظامها الاداري المجمعي،
بالاضافة الى التقارب الايماني «والعقائدي» الكبير مع الارثوذكس .كل هذه العوامل
يجعلها قادرة على ان تكون على علاقة طيبة مع الجميع ،وجسرا للمسكونية .ولا مما لا
ش َّك فيه أن الالتفات الى احد هذه العوامل دون سواه س ُيفقدنا جز ًءا من دورنا.
60
دراسات ومقالات
وفي النهاية اقتبس قولاً لرئيس أساقفة كانتربري إدوارد وايت بنسون ،الذي
قال عام « :1896إن الكنيسة (الانجيلية) الإنجليكانية هي كاثوليكية ،رسولية،
بروتستانتية ُمص َلحة».
مراجع المقال:
-الآرشديكون رفيق فرح .تاريخ الكنيسة الاسقفية في مطرانية القدس -1841
1991في جزئين .اصدار مطرانية القدس.1995 ،
-الآرشديكون رفيق فرح .معالم الطريق .صادر عن مطرانية القدس. ..... ،
A.L. Tibawi. British Interests in Palestine 1800-1901. -
.London: Oxford University Press, 1961
-القس د .عيسى دياب .مدخل الى تاريخ الكنائس الانجيلية ولاهوتها .بيروت:
دار منهل الحياة .2009،
-القس جورج القبطي .الكنيسة الانجيلية الاسقفية العربية في القدس والشرق
الاوسط ( مجلة الاخبار الكنسية ،)2006-1ص .23-20
61
القس د .حكمت ق ّشوع* الكنيسة المعمدان ّية
الانجيل ّية في لبنان
بين إرث الماضي وتط ّلعات المستقبل
الكنيسة في المشرق:
يكشف لنا إنجيل م ّتى حقيقة تاريخ ّية نسته ّلها بهذا المقال؛ جاء في الإنجيل المق ّدس:
«ث ّم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا» (متى .)٢١ :١٥أمامنا،
إحدى أه ّم الشهادات الكتاب ّية التي تؤ ّكد مرور الر ّب يسوع المسيح بلبناننا العزيز .لا
ش ّك في أ ّن لهذا المشهد مدلولاً لاهوت ًّيا مه ًّم ،هو أ ّن الأُممي ّي ن ِعموا هم أي ًضا بخدمة
يسوع على الأرض ،ح ّتى قبل قيامته من بين الأموات وانطلاق الرسل بالكرازة لهم.
وما ُيلفت انتباهنا في هذه الحادثة الكتاب ّية ،هو مبادرة المرأة اللبنان ّية الكنعان ّية نحو
المسيح ،وليس العكس ،الأمر الذي جعل المسيح يمتدح إيمانها العظيم .وفي نهاية
المطاف ،نال هذا الايمان الجريء مطل َبه ف ُشفيت ابن ُتها من تلك الساعة.
وبعد حلول الروح القدس ،وانطلاق الكنيسة إلى العالم مب ِّش ًة بالمسيحُ ،ولدت
ما بين العامين ٣٥و ٦٠للميلاد كنيستان على الأق ّل في لبنان؛ واحدة في صور (أعمال
)٧-١ :٢١وأخرى في صيدا (أعمال .)٤-٣ :٢٧فالنشاط الرسول ّي الذي كان قائ ًم
* راعي كنيسة القيامة -بيروت
62
دراسات ومقالات
بين أورشليم وأنطاكية ،على مدى العصور المختلفة ،أسهم في تأسيس كنائس على
طول الساحل اللبناني بداي ًة ،ث ّم في ازدهار الكنيسة واتساعها على مدى الوطن.
م َّر تاريخ الكنيسة في لبنان ،كسائر الكنائس في العالم ،بحقبا ٍت من النم ّو والازدهار
والعمران ،ولكن أي ًضا بأزمنة اضطها ٍد وضي ٍق وفتو ٍر وخمول .لقد كافحت الكنيسة،
من خلال قاد ٍة أوفياء ،ثابتين في الإيمان ،من أجل المحافظة على شهادتها والمجاهرة
بإيمانها في ظ ّل ك ٍّل من الامبراطور ّية الوثن ّية (ح ّتى عام ٣١٣م) ،والامبراطور ّية
المسيح ّية (٦١٠-٣١٣م) ،ومنذ ظهور الإسلام ح ّتى الحملات الصليب ّية (-٦١٠
١١٠٠م) ،ومنذ الحملات الصليب ّية ح ّتى الفتح العثماني (١٥١٦-١١٠٠م) ،ومنذ
الفتح العثماني إلى إعلان دولة لبنان الكبير عام ،١٩٢٠وهي لا تزال تكافح ح ّتى يومنا
هذا .وكان للإصلاح البروتستانت ّي أو الإنجيل ّي دو ٌر رائ ٌد في «إصلاح» الكنيسة ،من
خلال التشديد على كلمة الله المغ ّية ،وعقيدة الخلاص بالإيمان ،والاعتقاد بكهنوت
جميع المؤمنين ،كما ش ّدد على ح ّر ّية الضمير ،وأه ّم ّية الكرازة .كما وأولى الإنجيل ّيون
اهتما ًما كبي ًرا بالنواحي الأخلاق ّية ،فعاشوا حيا ًة تليق بالر ّب في المجتمع الذي انتموا
إليه ،ور ّكزوا على أه ّم ّية تربية شعوبهم ومجتمعاتهم وتثقيفهم.
وفي مق ّدمة الفصل الرابع والعشرين من كتاب «المسيح ّية عبر تاريخها في المشرق»،
يشير مح ّررو الكتاب ،الق ّس الدكتور حبيب بدر ،والدكتورة سعاد سليم ،والدكتور
جوزيف أبو نهرا ،إلى أ ّن «الكنائس الإنجيل ّية الموجودة في الشرق الأوسط وشمال
أفريقيا هي جز ٌء من الكنائس الإنجيل ّية في العالم (المعروفة أي ًضا بالبروتستانت ّية) والتي
نشأت بعد قيام حركة إصلاح داخل الكنيسة الكاثوليك ّية في أوروبا ،في القرن السادس
63
عشر .جذور الفكر الإنجيل ّي في المشرق ولاهوته وثقافته مستم ّدة من ينابيع أوروب ّية.
غير أ ّن عائلة الكنائس الإنجيل ّية الشرق ّية اكتسبت ،عبر السنوات ،طاب ًعا محل ًّيا متأ ّصل ًا
م ّكنها من أن تصبح جز ًءا طبيع ًّيا من هذا الشرق -تنهل منه وتغتني ،كما تسهم فيه
و ُتغنيه( ».الطبعة الأولى ،ص .)٧١٣ .وهذا الكلام صحي ٌح ودقي ٌق خصو ًصا في ما
يخ ّص ولادة الكنيسة المعمدان ّية في العالم وعلاقتها بالكنيسة المعمدان ّية في لبنان بوج ٍه
خا ّص.
الكنيسة المعمدان ّية في العالم:
ُولدت الكنيسة المعمدان ّية من حضن الإصلاح الإنجيل ّي ،وهي اليوم فر ٌع من
فروعه .ويشهد تاريخ الكنيسة المعمدان ّية على كون هذه الأخيرة تأ ّثرت بحركة
راديكال ّية عرفت ب ِـ«الأنابابتيست» (أي معيدو المعمود ّية) ،وتعود جذور هذه الحركة
إلى المصلح المشهور أورليخ زوينغلي ،من مدينة زيورخ السويسر ّية .فقد أ َّدى الكاهن
الأنجليكاني جون سيمث ،الذي انفصل عن الكنيسة الرسم ّية سنة ١٦٠٦م ،وتوماس
هلويس ،وغيرهم من قادة الحركات البيوريتان ّية (التطهير ّية) ،دو ًرا ُمهمًّ في تأسيس
الكنيسة المعمدان ّية .ويوجز الق ّس الدكتور غ ّسان خلف بدايات الكنيسة المعمدان ّية،
الغامضة بعض الشيء ،بأ ّنه بعدما ُطرد ال ُمن َش ّقون عن الكنيسة الرسم ّية من إنكلترا
واضط ُّر المؤمنون إلى الهرب إلى أمستردام في هولندا ،حدث الآتي:
«في أمستردام ،اقتنع جون سميث وقومه بهذه العقائد من خلال درسهم المتواصل
للعهد الجديد ،ومن تأثير المينوو ّيين ( )Mennonitesجيرانهم ،فتبنّوا موقف
الأنابابتيست الخا ّص بمعمود ّية البالغين .وبعد مناقشة الموضوع مع مستق ّلين إنكليز
64
دراسات ومقالات
آخرين في أمستردام بهذا الصدد ،ا ّتبع نحو أربعين شخ ًصا من جماعة كاينز بوروه رأي
سميث وهلويسومورتن في خطوتهم ،نحو تأسيس كنيسة إنجيل ّية ُتع ّمد البالغين.
فطلبوا من المينوو ّيين الأنابابتيست أن ُيع ّمدوهم ،فع ّمدوهم بعد اعترافهم علنًا
بإيمانهم بالمسيح» .كان ذلك في عام .١٦١٠
رجع توماس هلويس وفريق من الكنيسة إلى إنكلترا أوائل عام ،١٦١٢وهناك
كانوا أ ّول كنيسة «معمدان ّية» تتأ ّسس على الأرض الإنكليز ّية( ».تاريخ الكنائس
المعمدان ّية في لبنانُ :تراث مسيح ّي أصيل في فسيفساء لبنان ،٢٠٠٠-١٨٩٥ص.
.)٣٦
وقبل أن نتط ّرق إلى الحديث عن تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان ،يجدر بنا أن
نذكر أبرز ما كان الأنابابتيست يؤمنون به ،لأ ّنه يشبه إلى ح ٍّد كبير ما يؤمن به اليوم
المعمدان ّيون حول العالم ،ح ّتى ولو اختلفوا في وجهات النظر بشأن بعض التفاصيل
الصغيرة ،أو صار التشديد على نقا ٍط مع ّينة أكثر من سواها.
لقد ع ّب الأنابابتيست عن إيمانهم على النحو الآتي:
-الإيمان بالله الواحد في ثلاثة أقانيم :الآب والابن والروح القدس.
-الثالوث الأقدس جوه ٌر واح ٌد متماي ٌز في الأقنوم ّية.
-تج ّسد الكلمة من مريم العذراء ليصير الإله-الإنسان يسوع المسيح.
-عمل المسيح الك ّفار يالبديلي على الصليب.
-سلطة الكتاب المق ّدس ووحيه وكونه القاعدة الوحيدة Sola Scriptura
65
للإيمان والسلوك.
-الإعلان الإلهي تق ّدمي يبلغ ذروته في العهد الجديد.
-سرد العقائد على منوال قانون الإيمان النيقاوي وتفاصيله ،والروح القدس
منبثق من الآب والابن.
-التبرير بالإيمان وحده ،ولكنه ُيبر َهن الإيمان بالأعمال .التبرير بالإيمان ليس
إقرا ًرا لفظ ًّيا ،بل ُينتج حيا ًة جديدة.
-يعني الإيمان التو ّجه الح ّر نحو الله ،لذلك لا إكراه في العلاقة مع الله.
-تخ ّص المعمود ّية المؤمن البالغ الذي يجب أن يجيب بوع ٍي عن سبب إيمانه
بالمسيح.
-الكنيسة منظورة وغير منظورة ،مح ّل ّية وكون ّية ،والتشديد عندهم على الصفة
الأولى.
-أساس الكنيسة الأوحد هو يسوع المسيح ،وهو رأسها وفاديها وشفيعها.
-تتأ ّلف الكنيسة من جماعة ُمع ّمدة تنادي بالإنجيل وتمارس المعمود ّية والعشاء
الر ّبان ّي.
-نظام الكنيسة جمهور ّي والإدارة مح ّل ّية في معظم الحالات .ق ّلما نادوا بسلطة
مركز ّية تربط ك ّل الجماعات ضمن نظام أبرش ّيُ .ت ّتخذ القرارات بالأكثر ّية الواضحة
وبروح الصلاة والمح ّبة والإيمان ،بلا سلطة آمرة ،أو إكراه ،أو إرغام.
66
دراسات ومقالات
-خطوات الإيمان المسيح ّي :التوبة ،الخلاص ،المعمود ّية ،الانضمام إلى الكنيسة،
النم ّو في النعمة وحياة القداسة ،ونشر الإنجيل والخدمة الاجتماع ّية.
-المعمود ّية هي باب الدخول إلى الكنيسة المح ّل ّية وإلى شركة الق ّديسين.
-العشاء الر ّباني ذكرى وا ّتاد بالمسيح لا ذبيحة ،ولا ُيق َّدم لأح ٍد منفر ًدا ،بل مع
الجماعة التي تؤ ّلف الجسد الواحد.
-شروط الاشتراك في العشاء الر ّباني :المعمود ّية ،السلوك المق ّدس ،العقيدة
السليمة ،المح ّبة الأخو ّية ،عدم استخدام السيف .المذنب بخطايا تستح ّق التأديب
ُيفصل عن عشاء الر ّب.
-فصل الدين عن الدولة .لا رابط بين الكنيسة والدولة ،أو الدولة والكنيسة.
فالكنيسة تعيش في الدولة ،وتطيع ك ّل الأنظمة التي ُتق ّرها الدولة ،عدا تلك التي يأباها
الضمير المسيح ّي .كان شعارهم« :أعطوا السيف للدولة ،هذا ترتيب الله لضبط النظام
العا ّم والمدافعة ض ّد أعداء الوطن» ،ورفضوا استعماله ككنيسة.
-رفض استعمال العنف والإذلال والتعذيب والإعدام ض ّد أي إنسان بسبب
موقفه الإيماني الضميري من أي جن ٍس أو دي ٍن كان ،بمن فيهم الهراطقة وأصحاب
البدع .فيح ّق لك ّل إنسان أن يؤمن بالمسيح أو لا يؤمن به ،أكان ُمسل ًم ،أم يهود ًّيا ،أم
كاثوليك ًّيا ،أم أنابابتيس ًّيا ،فهذا ح ّق من حقوق البشر ،والمساءلة في ذلك تخ ّص ضمير
ك ّل إنسان والله.
-بسبب الاضطهاد المستم ّر والعنيف ض ّدهم ،نما رجاؤهم بعودة المسيح
67
شخص ًّيا للحكم العادل والسلام ،فكان الرجاء برجوع المسيح الوشيك وتأسيس
ملكوت الله في الأرض مأملهم الأ ّول .ولا ش ّك في أ ّن هذا الاعتقاد ساعدهم على
تح ّمل العذاب والاستشهاد(».تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان ،ص.)٣٤-٣٣ .
لقد وصل اليوم عدد المعمدان ّيين إلى أكثر من مئة مليون ،ينتمون إلى أكثر من مئتين
وخمسين ألف كنيسة مح ّل ّية في أكثر من ١٣٠بل ًدا حول العالم ،من ضمنها لبنان.
الكنيسة المعمدان ّية في لبنان:
تأ ّسست أ ّول كنيسة معمدان ّية في الشرق الأدنى ،في بيروت ،لؤلؤة المتو ّسط،
عام ،١٨٩٥وكان الق ّس سعيد الجريديني الراعي الأ ّول عليها .ولد الجريديني في ١٧
أ ّيار ١٨٦٦في بلدة الشويفات .درس في مدرسة الإرسال ّية البريطان ّية في الشويفات،
ومدرسة الإنكليز في عين زحلتا ،وأصبح في ما بعد مص ّو ًرا فوتوغراف ًّيا معرو ًفا في باب
إدريس في بيروت .سافر سعيد إلى شيكاغو عام ١٩٨٣ليساعد ع ّمه في عمله في معر ٍض
دول ّي مشهور .وفي الولايات الم ّتحدة اهتدى إلى المسيح ،واختبر الإيمان الشخص ّي
به وغفران خطاياه .عاد إلى لبنان ممتل ًئا من روح الر ّب والدعوة للخدمة والشهادة.
ويشير الق ّس سليم ال ّشاروق ،في كتابه «تاريخ المعمدان ّيين» ،إلى أ ّن «الجريديني [كان]
واع ًظا حا ًّرا غ ّيو ًرا ح ّتى ُل ِّقب بالواعظ الساحر لتأثير وع ِظه [ ]...ح ّتى َقبِل الخلاص
كثيرون» (تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان ،للقس د .بيار فرنسيس ،ص.)٧٠ .
وفي أيلول عام ١٨٩٥جرت رسامته على يد الق ّس وليم سميث وخ ّدا ٍم من كنيسته،
كانوا قد قدموا من الولايات الم ّتحدة لهذه الغاية .ومن ذلك الحين بدأت الخدمة
المعمدان ّية تتو ّسع في لبنان ،وبحسب الق ّس د .صموئيل خ ّراط ،رئيس مجمع الكنائس
68
دراسات ومقالات
المعمدان ّية الإنجيل ّية في لبنان ،فإ ّن الكنائس المعمدان ّية تتواجد اليوم في ك ٍّل من راش ّيا
الوادي ،وكفر ِمشكي ،والمصيطبة ،وطرابلس ،والم ّية وم ّية ،وبكف ّيا ،وبدارو ،وخربة
قنافار ،وعين دارة ،وزحلة ،ورأس بيروت ،والحدث ،والفنار ،ورياق ،وكفرحبو،
وراس َمسقا ،وبِشم ِّزين ،ورحبة ،والمنصور ّية ،ودير ميماس ،وكرم الزيتون ،والدورة،
وح ّي الوتوات ،والمنيارة ،ومرجعيون ،والأشرف ّية ،وبعلب ّك ،وبحمدون ،وعمشيت،
وب ّلونة ،وس ّد البوشر ّية ،والجديدة ،وس ّن الفيل ،وعين زحلتا.
وكان للعديد من الرعاة والخ ّدام المعمدان ّيين إسهام ًا في النتاج الأدب ّي والروح ّي في
الشرق ،نذكر بعض الذين سبقونا إلى المجد ،على سبيل المثال لا الحصر ،الق ّس نجيب
خلف ،والق ّس سليم ال ّشاروق ،والق ّس الياس الصليبي ،والق ّس غ ّسان خلف .كما لا
يزال عد ٌد من الرعاة المث ّقفين والقادة ال ّلمعين في مجتمعنا اليومَ ،لُم إسهامات ج ّمة على
الصعيد الروح ّي والأدب ّي والعلم ّي ،قد لا تكفي صفحات هذا المقال لنع ّددها .كما أ ّن
للمؤ ّسسات المعمدان ّية في لبنان حضورها الفاعل وتأثيرها في لبنان والمشرق؛ أبرزها
مدرسة بيروت المعمدان ّية ،ودار النشر المعمدان ّية (دار منهل الحياة) ،وك ّل ّية اللاهوت
المعمدان ّية العرب ّية ،ومجمع الكنائس المعمدان ّية الإنجيل ّية في لبنان ،والجمع ّية المعمدان ّية
(الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء ال ّتبوي والاجتماعي) ،ومدارس لتعليم الأولاد ذوي
الدخل المحدود وعيادة الشافي التابعة لكنيسة القيامة المعمدان ّية في الحدث -بعبدا.
فض ًل عن خدما ٍت ومراكز أخرى أنشأتها كنائس مح ّل ّية ،مثل خدمة السجون ،ومراكز
طب ّية ،ومؤ ّسسات خير ّية عديدة ،ومراكز للإرشاد النفسي والأسري .وما يم ّيز هذه
الخدمات هو أ ّنا في معظم الأحيان تق ّدم خدمات شبه مجّانية من غير أ ّي تميي ٍز بين دي ٍن
وآخر.
69
بعض النماذج عن خدمة الكنائس والمؤ ّسسات المعمدان ّية في لبنان:
كنيسة القيامة المعمدان ّية الإنجيل ّية في الحدث-بعبدا المعروفة بـِResurrection
Church Beirut
من ركائز كنيسة القيامة التشديد على حياة العبادة الجماع ّية والفرد ّية ،والوعظ
التفسيري الكتابي ،والتعليم العمل ّي ،والكرازة الشاهدة لمح ّبة المسيح وخلاصه
الأبد ّي ،والشركة العميقة المؤ َّسسة على قيم مشتركة ،وخدمة المجتمع من حولها.
فالنم ّو الحقيقي هو النم ّو في النوع والعدد والتأثير .ومع بداية الحرب في سوريا
والعراق ،ونزوح اللاجئين إلى الأراضي اللبنان ّية ،رأت كنيسة القيامة الحاجة إلى
خدمة المحتاج والجار والمتألمّ في مجتمعها ،فانك ّبت على تقديم الحصص الغذائ ّية،
والاحتياجات الأساس ّية من حليب ،وحفاضات ،وألبسة ،وب ّطان ّيات ،وأجهزة تدفئة،
وموا ّد إغاث ّية أخرى لحوالي ٩٠٠أسرة شهر ًّيا بين لاجئين ولبنان ّيين .كما أ ّنا أتاحت
برامج تعليم ّية لأطفال اللاجئين من خلال مشروع دعم التعليم «.»LSPوقد تبنّت
أي ًضا مركز « »GROWالذي ُيعنى بالأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة ،وهو يحوي
اليوم أكثر من سبعين طفل ًا تتراوح أعمارهم بين سنة و ٤سنوات .هذا واستحدثت
الكنيسة عيادة خا ّصة أطلقت عليها اسم «كلينيك الشافي» ،تو ّفر الرعاية الطب ّية من
معاينات وأدوية وفحوصات مخبر ّية للاجئين ،وأسر المجتمع المح ّل ،مقابل مبل ٍغ زهي ٍد
من المال .وقد أطلقت مؤ ّخ ًرا خدمة « »NOHAلدعم الاستشفاء ،كخطوة أولى
للعناية بالأشخاص المصابين بأمرا ٍض مزمنة ومستعصية.
وعلى أثر ما لحق بالوطن من نكبات اقتصاد ّية وصح ّية ،كان أوجها انفجار مرفأ
70
دراسات ومقالات
بيروت الكارثي ،ج ّهزت كنيسة القيامة فر ًقا لتقوم بإعداد الطعام وتوزيعه على الأسر
المنكوبة ،وتساعد في التنظيف وإزالة الركام والترميم ،كمبادرة أ ّول ّية من أجل الوقوف
إلى جانب المتأ ّلين في هذه المرحلة العصيبة التي يم ّر بها البلد .وقد و ّفرت خ ًّطا ساخنًا
لمن يرغب في الاتصال من أجل المشورة والإرشاد لمساعدة الأشخاص المتأ ّثرين
بالحادثة.
تؤمن قيادة كنيسة القيامة بأ ّن العالم لا ُتلهمه المشاريع والأفكار بل أفرا ٌد وأنا ٌس
يمتلكون شخص ّيات متم ّيزة ،وقد عمدت إلى تطبيق مفهوم اللامركز ّية في الخدمة،
وتدريب قادة وخ ّدام تجمعهم رؤية واحدة .وقد استطاعت هذه الكنيسة من خلالهم
أن تصنع فر ًقا في مجتمعها المح ّل ،وأن ُتدث تغيي ًرا في حياة الكثير من الأشخاص.
وهي لا تزال ح ّتى اليوم تسعى إلى تحقيق النم ّو لدى أعضائها ،على المستوى الفردي
والجماعي ،من خلال دورات في أسس التربية السليمة والزواج الناجح ،وبرنامج
ألفا الذي يستقطب أفراد المجتمع ويدعوهم إلى الانخراط في حوارات ومناقشات
حول معنى الحياة وغاية الوجود .ولا نن َس أ ّن كنيسة القيامة تقوم بدورات لتدريب
القادة والرعاة بشكل دو ّري ،كما أ ّنا مؤ ّخ ًرا قامت باستحداث صفحة خا ّصة بها على
مواقع التواصل الاجتماعي تستخدمها كمن ّصة لنشر رسالة المسيح ،وقد استطاعت
من خلالها أن تقوم بتلمذة عد ٍد كبير من المتابعين بجهود ومساعي فري ٍق من الخ ّدام
والرعاة المتف ّرغين لهذه الخدمة.
كنيسة عين زحلتا المعمدان ّية:
هي كنيسة منبثقة عن كنيسة القيامة المعمدان ّية في الحدث ،تض ّم ٢٥مجموعة بيت ّية
71
تجتمع أسبوع ًّيا لدراسة الكتاب والشركة .وبحسب راعيها الق ّس أمل سعد ،فإ ّن مه ّمة
هذه الكنيسة الأولى هي العمل على تأهيل قادة من خلف ّية غير مسيحية ،وإعدادهم
لتلمذة أبناء مجتمعهم ،من خلال دورات تدريب ّية في علم التفسير والدفاع ّيات .كما أ ّنا
كنيسة مندفعة لخدمة المجتمع المح ّل ،فهي لم تتوا َن عن تقديم الدعم والمساندة للذين
تض ّررت منازلهم من ج ّراء الانفجار الذي أصاب العاصمة ،وقد أسهمت في عمل ّية
إزالة الركام وترميم الزجاج والأبواب لحوالي ٣٠٠منزل ،كما قامت بتوزيع الأدوات
الكهربائ ّية من ب ّرادات ،وغ ّسالات وأفران غاز على الأسر المتض ّررة .واهت ّمت الكنيسة
أي ًضا بص ّحة أبناء المجتمع النفس ّية ،فأقامت مؤتم ًرا للس ّيدات موضوعه «اضطراب
ما بعد الصدمة و ُس ُبل التعافي منه» ،كما وأ ّنا عمدت إلى متابعة عدد من الس ّيدات
المتأ ّثرات بالحادثة من خلال جلسات إرشا ٍد نفس ّي .وهي اليوم تو ّفر لنساء المجتمع
المح ّل الرعاية والدعم من خلال مركز «أنا امرأة» الذي ُيعنى بص ّحة المرأة.
كنيسة رأس بيروت المعمدان ّية الإنجيل ّية:
انسجا ًما مع دعوتها ورؤيتها ،تق ّدم كنيسة رأس بيروت المعمدان ّية خدما ٍت متن ِّوع ًة
تطال الفئات العمر ّية كا ّفة ،أبرزها نوا ٍد رياض ّية يمكن أن يمارس فيها الأولاد بعض
النشاطات مثل الكاراتيه والرياضة البدن ّية ،وكان للنساء فيها ح ّص ٌة أي ًضا من خلال
صفوف الزومبا التي و ّفرتها الكنيسة لتشجيع الس ّيدات على الرياضة واللياقة البدن ّية.
ويقول راعيها الق ّس شارلي قسطه« :أ ّنه مع بداية الثورة وما نتج منها من تبعات
اقتصاد ّية ،وبعدها جائحة الكورونا ،فالانفجار الكبير الذي أصاب قلب البلد،
عملت الكنيسة على تلبية احتياجات المجتمع على قدر طاقتها .فهي اليوم تدعم ما
72
دراسات ومقالات
يقارب ٤٠٠عائلة شهر ًّيا بصناديق الأطعمة ،وتشارك بعض العائلات في إعادة بناء
ما ته ّدم ،وتق ّدم الدعم العين ّي عند الحاجة .ويقوم عدد من أعضاء الكنيسة بزيارات
إلى الأسر والأفراد المتض ّررين من أجل التف ّقد والدعم والتشجيع .كما وساعد عد ٌد من
شبيبة الكنيسة في عمل ّيات رفع الأنقاض وتنظيف الشوارع وتوزيع الطعام في المناطق
المنكوبة ،خلال الأ ّيام الأولى التي تلت انفجار ٤آب .كما أن للكنيسة من ّصة إلكترون ّية
على صفحات التواصل الاجتماعي تر ّوج من خلالها للخدمات والنشاطات التي
تق ّدمها لأبناء المجتمع».
الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء التربوي والاجتماعي :LSESD
دأبت الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء التربوي والاجتماعي LSESDمنذ تأسيسها عام
،١٩٩٨والمعروفة بالجمع َّية المعمدان َّية ،بخدماتها ومؤ َّسساتها كا ّفة ،على العمل لتقوية
شهادة الكنيسة في لبنان والعالم العربي ،وذلك من خلال تمكين الكنيسة لتكون كنيسة
فاعلة في خدمة مجتمعها.
ويقول الأستاذان نبيل قسطه ووسام نصرالله «إ ّن الجمع ّية أ ّدت دو ًرا مه ًّم في التأثير
على الكنيسة ومن خلالها على المجتمع عبر إعداد قادة لخدم ٍة ف ّعالة ،وتأمين الموارد
الروح ّية لتمكين الكنائس وخدماتها .كما أ ّنا عمدت إلى رفع مستوى الوعي لدى أبناء
المجتمع المح ّل ،ومعالجة قضايا الفقر والظلم والح ّق في التعليم للجميع ،خصو ًصا
للط ّلب الذين يعانون صعوبات تع ّلم ّية واللاجئين .وما ذلك إ ّل نتاج نهجها الشامل
والكامل والذي هو وليد تفاعل مؤ ّسسات الجمع ّية الس ّت التالية ،وعملها جن ًبا إلى
جنب مع الكنيسة ،من أجل تنمية المجتمع من الناحية الروح ّية والثقاف ّية والتربو ّية:
73
-ك ّل ّية اللاهوت المعمدان ّية العرب ّية ABTSالتي لا تزال تخ ِّرج ط ّل ًبا أك ّفاء
ينطلقون إلى خدمة كنائسهم في شرقنا منذ خمسين ّيات القرن الماضي.
-المدرسة المعمدان َّية في بيروت BBSذات المستوى الأكاديمي المعتمد ،وقد
كان لها دو ٌر مفصل ٌّي في تنشئة الأجيال على احترام الآخر ،ومح ّبة الله والوطن.
-دار منهل الحياة ،DMAHالذراع الأدب َّية للجمع َّية ،فقد نشرت مئات
الكتب ،وأطلقت الكثير من المنشورات في عالمنا العربي ذات الطابع الروحي والإنساني
على مدى نصف قرن.
-مركز SKILDالذي يولي اهتما ًما خا ًّصا بذوي الاحتياجات الخا َّصة
والصعوبات التع ّلم َّية ،غايته مساعدة هؤلاء الأولاد وذويهم وتهيئتهم للانخراط في
المجتمع.
-خدمة الأولاد والشبيبة ،BCYMالتي تهت ّم باحتياجات الأولاد والشبيبة،
خصو ًصا الروح َّية منها ،من خلال تنظيم مؤتمرات ونشاطات على مدار السنة.
-خدمة ميراث ،MERATHتأ ّسست منذ عام ٢٠٠٦نتيج ًة للأوضاع
التي م َّر ويم ُّر بها لبنان منذ عقود ،تخ ِّصص نشاطاتها في الخدمات الإنسان َّية والمجتمع َّية
التنمو ّية على مساحة الوطن من خلال الكنيسة المحل َّية.
وهكذا تردم الجمع ّية اللبنانية للإنماء التربوي والاجتماعي في لبنان ثغرا ٍت عديدة،
وتبلسم جرا ًحا ع َّمقتها الكوارث والحروب ،وتمسح دموع أطفا ٍل ظلمتهم الحياة،
وتر ّب أجيالاً هم فخ ٌر لها ،وتنشر الكتب التي تن ّمي الروح والنفس .ولكن الأه ّم من
74
دراسات ومقالات
ك ِّل هذا ،أ ّنا لا تنسى رسالتها الأولى والأخيرة ،ألا وهي دعم الكنيسة المحل َّية لتنطلق
بدورها إلى العالم حامل ًة الأخبار السا ّرة وبشارة الخلاص».
جمع ّية القادة الجدد :NEO Leaders
وردنا من الأستاذ نديم قسطه ،وهو عض ٌو في إحدى الكنائس المعمدان ّية في بيروت،
والذي أسس جمع ّية NEO Leadersأو القادة الجدد ،في لبنان عام ٢٠٠٥أن «هذه
الخدمة انطلقت من لبنان لتمت ّد على نطاق الوطن العرب ّي بأكمله وبعض بلدان شرق
أوروبا ،ليتخ ّطى فريق العمل المئة شخص متف ّر ٍغ لهذه الخدمة وأكثر من ٨٠٠متط ّوع».
وأضاف أن «غاية هذه الخدمة هي نقل الإيمان والفكر المسيح ّيين إلى الممارسة العمل ّية
ليكونا أسلو َب حيا ٍة يوم ًّيا .وبغية تحقيق هذا الهدف ط ّورت الجمع ّية تدريبات دور ّية
تشمل درس الكتاب الاستكشافي ،التخطيط الاستراتيجي ،القيادة بحسب كلمة الله
وغيرها من المواضيع المه ّمة ،كما تتعاون مع عدد كبير من الكنائس المح ّل ّية في البلدان
التي تخدم فيها».
نظرة الى المستقبل:
يحتاج لبنان إلى كنيسة تق ّدم خدمة متم ّيزة وشاملة لمواطنيها ،وتم ّد يد الشراكة إلى
ك ّل مح ّبيها ،وتسعى إلى خدمة ك ّل محتاج ح ّتى مناهضيها .وإ ّن تشكيل قادة فاعلين من
أجل تحقيق هذه الغاية هو الأمر الأساسي الذي ينبغي أن يشغل بالنا ،وإ ّل سوف
نلحظ تراج ًعا ملحو ًظا لتأثير الخدمة المعمدان ّية في بلادنا .والأمور التي تص ّب في
مصلحة كنائسنا وتأثيرها على المجتمع من حولها ،والتي يجب أن نعيرها اهتما ًما خا ًّصا
75
هي الآتية:
أ -ضرورة الاعتراف ببعضنا بع ًضا ،وتقدير جهود ك ّل كنيسة ومساعيها،
معمدان ّية أو غير معمدان ّية ،ح ّتى ولو كنّا نختلف معها في الشكل ،أو في بعض النواحي
التي لا تم ّس جوهر الإيمان .ويجب أن يشمل ذلك الإقرار بدعوة الله بعض المؤمنين
من خلف ّيات غير مسيح ّية للرعاية والقيادة ،ودعمهم ،واحترام مواهبهم كشركاء معنا
في خدمة الإنجيل .هل للمؤمنين من خلف ّية غير مسيح ّية مكا ٌن على طاولة القيادة
والقرار ،وهل لهم صو ٌت في تحديد مصير كنائسنا ومستقبلها؟ أو أ ّنه مر َّح ٌب بهم فقط
من أجل تدفئة المقاعد في الكنيسة ،وكمج ّرد أرقام نستخدمها لمصالحنا الخاصة؟
ب -ضرورة توسيع إطار التعاون بيننا ،ومواجهة الاستقلال ّية المتط ّرفة التي تد ّمر
الهو ّية المعمدان ّية و ُتضعفها .فغياب المساءلة الش ّفافة في ظ ّل الإدارات الكنس ّية المستق ّلة
والمنعزلة عن أ ّي مرجع ّيات أم ٌر يزيد من التط ّرف الديني ومن الانحرافات العقائد ّية
أو المسلك ّية .كيف يمكن للذي يعيش في ضوء الكلمة المق ّدسة ،أن ينعزل عن إخوته؟!
أو يرى أن ليس هناك سواه؟! فإن كان الله الأحد ثالو ًثا مق ّد ًسا ،أي عائل ًة ،كيف يعيش
الإنسان ،المخلوق على صورته ،بمفرده؟
ج -ضرورة تطوير أساليبِنا الكراز ّية من أجل خدمة الجيل اللبناني الجديد بفعال ّية
أكبر .فالكرازة بأدوات القرن العشرين حجبت ق ّوة الكلمة وأبعدت هذا الجيل المبدع
والمنفتح على الكلمة من الكنيسة وقيادتها وأسلوبها .هل الكنيسة س ّباقة في تحقيق
الإبداع والتم ّيز؟! وهل تواكب التط ّور وتتك ّيف مع وسائل التواصل العصر ّية؟! هل
هي التي ُتلهم العالم من حولها ،أو أ ّن العالم دائ ًم في المق ِّدمة وهي متع ّثرة خلفه ،يخاصم
76
دراسات ومقالات
قادتها بعضهم بع ًضا ويتجادلون فيما بينهم؟! هل تو ّقف بنا الزمن وأضعنا كنزنا في قعر
المحيط بسبب التص ّلب في الرأي والإدانة والجهل؟!
د -ضرورة إعادة النظر بمصطلحاتنا المعمدان ّية لتحاكي هموم الجيل الجديد،
خصو ًصا أ ّن عظاتنا اليوم أصبحت متاحة للجميع من خلال التواصل الاجتماعي
والإنترنت .هل تعابيرنا مفهومة للجيل الصاعد؟ وهل أساليبنا في تقديم رسائلنا
تجذب انتباه أبناء بيئتنا؟ وهل شخص ّيتنا المق ّدسة منفتحة نحو قبول الآخر أو منغلقة
على ذاتها؟ وهل مبانينا ومراكزنا تجعل البعيدين يشعرون بالراحة والقبول والأمان
حين يدخلون إليها ح ّتى ُيدركوا حاجتهم إلى الفداء ،والخلاص ،والمصالحة ،والسلام؟
ه -ضرورة ص ّب جهو ٍد إضاف ّية وتسخير موارد ماد ّية من أجل ابتكار برامج
وخدمات مسيح ّية متط ِّورة وخ ّلقة تجذب ك ّل من ُهم على شبكة التواصل الاجتماعي
إلى يسوع وعروسه .هناك الكثير من الموا ّد التي ُت َّمل يوم ًّيا عبر هذه المن ّصات
الإلكترون ّية ،لكن أين هذه الموا ّد من الجودة التي تعكس مزايا خال ٍق مبد ٍع كإلهنا؟
و -ضرورة أن يكون لك ّل كنيسة خدمات اجتماع ّية مر ّكزة ،من إغاثة أو طبابة
أو تعليم ،خصو ًصا في السنوات القادمة ،لأ ّن حاجات رعايانا تزداد يو ًما بعد يوم.
والسنوات العشر المقبلة ستكون مفصل ّية في حياة الكنيسة في لبنان .لذا ،علينا أن
نكون مستع ّدين للوقوف إلى جانب شعبنا .من قال إ ّن دور الكنيسة ينحصر في تقديم
الغذاء الروحي لشعبها من وع ٍظ وتعلي ٍم وتشجيع فقط؟! َأ َو َل تقرؤوا حياة يسوع في
الأناجيل الأربعة؟! ألم تقرؤوا حياة التلامذة الأوائل في أعمال الرسل؟! ألم تسمعوا
نداء بولس رسول للأمم؟! ألم تدرسوا تاريخ الكنيسة الباكرة؟! ألم تلاحظوا أ ّنه في
77
ك ّل هذه الأماكن كانت خدمة المسيح وكنيسته خدم ًة شاملة تطال الشخص ّية والنفس
والروح والعقل والإرادة واحتياجات الجسد والعلاقات؟! من أعطانا الصلاح ّية
ح ّتى نقوم بتجزئة الشخص ّية البشر ّية إلى أجزاء؟! ومن أعطانا الحّق بالح ّد من دور
الكنيسة وز ّجها خلف قضبان التنشئة الروح ّية فقط؟!
ز -ضرورة تشجيع رعايانا على الانخراط الفاعل في خدمة المجتمع اللبناني على
الصعيد السياسي ،خصو ًصا هذه الأ ّيام ،من أجل تغيير هذه الطبقة السياس ّية الفاسدة
واستبدالها بقادة يعتنقون الشفاف ّية ،والنزاهة ،والمساءلة ،والإنتاج ّية ،والاحتراف ّية،
وي ّتخذونها نه ًجا لهم من أجل تحقيق ازدهار البلاد .فكنائ ُسنا التي تسعى إلى تشكيل
شخص ّيات مق ّدسة ومتوازنة ،عليها أي ًضا أن تح ّض أبناءها على الإسهام ،وتلهمهم من
خلال التعليم والوعظ فيتغير الوطن بالأساليب السلم ّية .فكما أعطى المسيح مواه َب
رعاي ٍة وتعلي ٍم وقياد ٍة لأعضائنا يستثمرونها في خدمة كنائسنا .ويمكن لهذه المواهب
عينها أن ُتستخدم في إدارة قضايا لها علاقة بالشأن العا ّم والسياسة النزيهة ،فلنص ِّل
أن يز ّود الله أبناء رعايانا بموهبة خا ّصة وحكمة سماو ّية من أجل قيادة البلاد ،من
غير الانزلاق إلى العنصر ّية والتح ّزب والمحسوب ّية والزعامة .فالسبيل إلى إنقاذ بلدنا
يأتي من طريق شخص ّيات مق ّدسة ،من ش ّبا ٍن وشا ّبات ينتمون إلى كنائسنا ،ويحتاجون
إلى رؤية واضحة وإلى توجيههم وتشجيعهم لتحقيق هذه الغاية .إن كنّا نحن غير
مستع ّدين للنهوض ببلدنا من ركام فساده ،فمن الذي سيقوم بذلك؟
ح -ضرورة وضع استراتيج ّية لدعم رعايانا ،من خلال بناء شبكات تعاون مع
كنائس ومؤ ّسسات حول العالم قادرة على تأمين موارد بشر ّية وما ّد ّية ،من أجل مساندة
78
دراسات ومقالات
عائلاتنا ،ليس فقط لكي يبقوا في بلادهم بل لكي يبدعوا ويح ّققوا التغيير اللازم في
أوطانهم .وك ّلما تدهور اقتصادنا وتع ّثر بلدنا ،ازدادت رغبة الكثيرين ،وبوج ٍه خا ّص
المث ّقفين منّا ،في المغادرة .أين هم القادة الذين يلهموننا على البقاء من جهة ،ويؤ ِّمنون
لنا شبكة تواص ٍل مح ّل ّية و ُدول ّية لتمكين أواصل الشركة وتوفير فرص العمل والموارد
المطلوبة لتحقيق رؤيتنا من هنا من موطننا لبنان؟!
ط -ضرورة التشديد على مفهوم الخدمة الكنس ّية ،وتعريفها من جديد ،وإيصال
معناها إلى شبيبتنا بك ّل وضوح .أحيا ًنا ،ر ّبما عن غير قصد ،نقوم بتعريف القيادة
الكنس ّية وكأ ّنه لا يوجد عمل مسيحي خارج نطاق الكنيسة .قال لي أحدهم« :ق ّسيس
لد ّي وظيفة شا ّقة في هذا العالم الش ّرير ،لكنّي أح ّب أن أساعد وأخدم في الترتيل أو
في خدمة توزيع المساعدات للمحتاجين .هل يوجد مكان لي؟» ر ّبما لا يوجد ريب
في هذا الطلب ،لكن ث ّمة مشكلة جوهر ّية في مفهوم القيادة الروح ّية .نحن نمارس
القيادة الروح ّية من خلال أعمالنا اليوم ّية .لذا ،من المه ّم أن ندعو أبناء كنائسنا ،ونص ّل
من أجلهم ،ونمسحهم بالروح ،ونطلقهم ليقودوا من خلال أعمالهم واختصاصاتهم،
كمحامين أو أط ّباء أو مهندسين أو مع ّلمين أو فنّانين أو مو ّظفين أو أرباب عمل أو
آباء أو أ ّمهات .فك ّل فر ٍد في كنيستنا هو مؤ ّث ٌر في المجتمع وبالتالي هو قائ ٌد روح ّي وهو
مدع ّو أن يستثمر وزنته بك ّل أمانة كونها دعوة الله له لتغيير مجتمعه .لا ش ّك في أ ّن
الرعاة يعرفون ذلك ،ولكن ما الذي يمنع الجماعة من أن ترى بوضوح أ ّن ما تقوم به
يوم ًّيا من أعما ٍل أو وظائ َف عاد ّي ٍة هي ح ًّقا خدمة روح ّية ضرور ّية وخارقة للمجتمع
الذي نعيش فيه؟
79
ي -ضرورة أن يعلو صوت الكنيسة على الظلم المتف ّش على نطاق واسع في
المؤ ّسسات الخا ّصة والعا ّمة ،وإدارات الدولة ،وح ّتى في المدارس ووسط الأسرة.
الصمت في أ ّيامنا هذه هو أعظم الخطايا وأكثرها تهدي ًدا لوطننا لبنان .فكيف يمكن
لكنيسة تش ّع مثل منار ٍة على جبل شاهق أن تفقد شعاع نورها؟! الصمت علامة فقدان
الهوية ،وفقدان الهو ّية والزوال س ّيان.
ك -ضرورة إعادة التعليم اللاهوتي إلى حضن الكنيسة المح ّل ّية ،المكان الذي كان
فيه بالأصل .كما يجب تدريب القادة المؤمنين الجدد ،خصو ًصا الذين هم من خلف ّيات
غير مسيح ّية ،في قلب كنيستهم ومجتمعهم ،عو ًضا من انتشالهم من بيئتهم والحياة
اليوم ّية التي اعتادوها ،ثم العودة بهم بعد سنوات عديدة ليرعوا كنيستهم المح ّل ّية،
وهم بعد غير مؤ ّهلين لقيادة شعبهم .ويمكن الاستفادة من الموارد اللاهوت ّية المتاحة
عبر الإنترنت ،والمكتبة الإلكترون ّية ،والخدمة العمل ّية في الكنيسة وفي المحيط الذي
يعيشون فيه لتأهيل هؤلاء القادة ،والحرص على أن يحظوا بمتابعة دور ّية من قبل
مع ّلمينومرشدينمؤ َّهلين.ولايمكنأنيتح ّققذلكإ ّلضمنالإطارالكنس ّيالمن ّظم،
بحيث يت ّم منحهم شهادات ودرجات معتمدة إذا اختاروا مواصلة دراستهم .هذا لا
يعني أ ّننا لن نعود بحاجة إلى ك ّل ّيات اللاهوت لتأهيل القادة ،سنحتاج إليها ولكن عن
بعد .سيتع ّلم القادة من أساتذة ك ّل ّية اللاهوت المتخ ّصصين ،لكن من بيوتهم ،ومن
كنائسهم ،وهم وسط شعبهم .فهل رعاتنا على استعداد أن يعيدوا التعليم اللاهوتي إلى
مكانته الأولى؟ ألا يجب أن نتش ّبه بآباء الكنيسة الأ ّولين ،اللاهوت ّيين القدامى ،و ُنش ِّكل
رعاتنا على مثالهم؟!
80
دراسات ومقالات
ل -ضرورة التركيز على أه ّم ّية الصلاة ،لأ َّننا من غيرها لا نستطيع تحقيق أ ّي شيء.
يقول هنري نيوون في كتابه «باسم يسوع» هذه الكلمات :هل قادة المستقبل هم ح ًّقا
رجال ونِسا ُء الله ،وهل ح ًّقا لدى هؤلاء القادة رغب ٌة م ّتقدة لكي يسكنوا في الحضرة
الإله ّية ،ويستمعوا إلى صوت الله ،ويتف ّرسوا في جماله ،ويلمسوا كلمة الله المتج ّسد
ويتذ ّوقوا من خير الله غير المتناهي؟
في الختام ،لا ت ّدعي الكنيسة المعمدان ّية أ ّن لها تاري ًخا أعرق من تاريخ الكنائس
الأخرى ،إطلا ًقا .ولا أظ ّن أ ّن أ ّي كنيسة أخرى ت ّدعي ذلك .فنحن البشر ترا ٌب من
جهة ،ومن جهة أخرى أصبحنا بالنعمة شركاء في الطبيعة الإله ّية .فمن يجرؤ على
الافتخار؟ ليس من عاق ٍل يجرؤ على ذلك .والتغيير يأتي من اتحادنا م ًعا ،أكثر فأكثر ،بالله
أبي ر ّبنا ومخ ّلصنا يسوع المسيح ،ومن الاتكال الكامل على روحه الق ّدوس .فالتغيير
ممك ٌن إن ر ّددنا مع يوحنا المعمدان« :ينبغي أ ّن ذلك يزيد وأ ّن أنا أنقص» (يوحنا :٣
.)٣٠
81
3درسكتاب
الخليقة في ال َع ْهد القديم:
هل خلق الله العالم ...في ستة أيام؟
ألم يخلقنا الله على صورته كشبهه...
ويسلطنا على كل خليقته؟
درس كتاب
الخليقة في ال َع ْهد القديم
القس د .هادي غنطوس*
إذا كان الكتاب المقدس والعلم لا يتفقان في العديد من المواضيع والأمور لدى
الكثير من المؤمنين والملحدين على السواء ،فمما لا شك فيه أن مفهوم خلق الخليقة
وتك ُّون الكون وخلق الأرض والإنسان والكائنات الحية الأخرى ،هو أحد أهم
المواضيع التي يبدو أن الكتاب المقدس والعلم يختلفان ،لا بل ويتناقضان ،فيها
بشكل صارخ ،ما يفرض على الإنسان الاختيار بينهما ،فيتبنى أحدهما ويرفض
الآخر .وهكذا ،يختار «المؤمنون» تصديق الكتاب المقدس ورفض النظريات العلمية
التي تتناقض معه ،بغض النظر عن كل الدلائل والاكتشافات التي تثبتها ،في حين
يختار «الملحدون» تصديق العلم ورفض الكتاب المقدس ككتاب أساطير وخرافات،
وبالتالي ،اتخاذ موقف مشكك ،إن لم يكن رافض ًا لك ِّل ما في هذا الكتاب وللإيمان
المسيحي لا بل ولله بحد ذاته كشيء طفولي وبا ٍل يتناقض مع العلم والمنطق والتطور
والحداثة .كل هذا في وق ٍت يجد فيه الكثيرون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه من
الصراع بين إيمانهم ورغبتهم بالدفاع عن كتابهم المقدس من جهة ،وصوت المنطق
وكل الاكتشافات العلمية التي تتناقض مع قصص الكتاب المقدس من جهة أخرى.
فالكتاب المقدس يبدأ بـ«قصة» الخلق والسقوط الموجودة في تكوين ،3—1والتي
*أمينسرلجنةالشؤونالكنس ّيةوالروح ّية،راعيالكنيسةالإنجيل ّيةالوطن ّيةفيمنيارة،دكتورمتخصص
فيالعهدالقديم.
83
تعتبر واحدة من أكثر قصص الكتاب المقدس شهرة ،وفي نفس الوقت من أكثرها
تأثير ًا في نظرة الكنيسة عبر تاريخها الطويل للخليقة وللعلم ولعلاقة الإنسان بالخليقة،
وللمرأة ولعلاقة الرجل بالمرأة ودور المرأة في المجتمع وفي إرسالية الكنيسة ،وللسقوط
والخطيئة والجنس ،وغيرها من المواضيع الشائكة في الحياة وفي علاقة الكنيسة بالعلم
وبالمجتمع .وللوهلة الأولى ،يبدو أن هناك تناقض ًا بين ما يخبرنا به الكتاب المقدس في
سفر التكوين عن عملية الخلق من جهة ،وما يقوله العلم عن أصل الكون والأرض
والإنسان من جهة ثانية .لكن الحقيقة هي أن هذا التناقض هو ،كما سنرى أدناه ،مجرد
تناقض ظاهري.
وسنخصص هذه الحلقة لدراسة موضوع الخليقة في العهد القديم ،على أن
نقوم في الحلقة القادمة بدراسة موضوع السقوط والخطيئة الأصلية.
هل خلق الله العالم ...في ستة أيام؟
. 1القراءة التقليدية لتكوين 2—1
إذا ما طلبنا إلى شخص ما في الكنيسة أن يل ِّخص «قصة» الخلق الموجودة في سفر
التكوين ،نجد أن الكثيرين يعتبرون بأن الله خلق كل الكون في ستة أيام وارتاح في
اليوم السابع .حيث أنه خلق السماوات والأرض ،وخلق النور والشمس والقمر
والنجوم ،و َف َص َل بين البحر واليابسة ،وخلق ك َّل الكائنا ِت الح َّية التي في البحر وعلى
اليابسة ،وخلق الر ُّب الإنسان على صورته كشبهه ،فخلق الرجل ،آدم ،ونفخ فيه من
روحه ووضعه في جنة عدن وأعطاه سلطان ًا على كل الجنة باستثناء الشجرة التي في
84
درس كتاب
وسط الجنة .ومن ثم بنى الله حواء على ضلع أخذه من الرجل لتكون معين ًا للرجل،
قبل أن تغويها الحية وتقوم هي بإغواء الرجل ،وبالتالي تتسبب مع الحية بسقوط الجنس
البشري وطرده من الجنة مع كل النتائج الكارثية التي امتدت لتشمل كل الجنس
البشري.
لكننا إذا ما قرأنا «قصة» الخلق الموجودة في الإصحاحين الأول والثاني من سفر
التكوين ببعض التمعن والموضوعية ،فإننا سنجد أنها تتألف من قصتين مختلفتين .في
تكوين ،3 :2—1 :1نجد قصة الخلق الشهيرة التي تعلن بأن الله قد خلق العالم في ستة
أيام واستراح في اليوم السابع .وتسجل هذه القصة بأن الله قد تدرج في خلقه للخليقة،
ابتدا ًء من خلق النور حتى وصل إلى خلق الإنسان ،الذكر والأنثى مع ًا ،على صورته
كشبهه في نهاية اليوم السادس ،وهو نفس اليوم الذي خلق فيه الله كل بهائم ودبابات
ووحوش الأرض ،ومن ثم قام الله بمباركة الإنسان وتسليطه على كل الأرض ،قبل
أن يستريح الله من عمله في اليوم السابع ،الذي يقدسه الله ويعلنه يوم ًا مقدس ًا ،سبت ًا،
للإنسان كما ولكل الخليقة.
بينما يقدم الجزء المتبقي من الإصحاح الثاني (تك )25-4 :2قصة خلق مختلفة،
هي القصة الشهيرة الأخرى التي تعلن بأن الله قد جبل «الرجل الأول» ،آدم ،من
تراب الأرض ونفخ فيه من روحه ،ومن ثم غرس جنة عدن ووضع آدم فيها وأعطاه
سلطان ًا على كل أشجارها ،إلا شجرة معرفة الخير والشر (وشجرة الحياة؟) ،ثم جبل
الرب كل حيوانات البرية وطيور السماء وأعطي آدم سلطان ًا عليها كلها ،قبل أن يبني
«المرأة الأولى» ،حواء ،من ضلع أخذها من آدم لتكون معين ًا لآدم.
85
تقليدي ًا قرأت الكنيسة هاتين القصتين كقصة واحدة ،وحاولت ربطهما بطرق
متنوعة كجعلهما متداخلتين وإهمال التنوع والاختلاف بينهما ،أو فهم قصة الخلق
الثانية كتفسير لقصة الخلق الأولى .في كل الحالات ،قرأت الكنيسة ،تقليدي ًا ،ولفترة
طويلة ،قصتي الخلق كقصة تسجل كيفية حصول الخلق ،وتشرح آلية الخلق وتاريخه،
لا بل واعتبرت هذه «القصة (القصتين)» ،ولفترة طويلة على أنها «النظرية» الوحيدة
للخلق ،الذي من المفترض ،بحسب القصة وتسلسل الأجيال الذي يقدمه الكتاب
المقدس ،أن يكون قد حصل قبل حوالي ال 60, 00سنة من يومنا هذا.
تلك القراءة التقليدية الحرفية لقصتي الخلق في تكوين 2—1وضعت الكنيسة
في مواجهة النظريات العلمية التي ظهرت وبدأت تتطور في العصر الحديث ،والتي
شهدت تطور ًا هائل ًا في القرنين العشرين والحادي والعشرين ،حيث يعتقد العلماء
اليوم أن عمر الكون هو حوالي 13.8بليون (مليار) سنة ،ويتبنون نظريات مختلفة في
تكونه ،أهمها نظرية «الانفجار العظيم ( ،»)the Big Bangفي حين أن عمر نظامنا
الشمسي ،بما في ذلك الأرض التي نعيش عليها ،حوالي 4.5بليون (مليار) سنة .كما
يقول العلماء اليوم أن أسلاف الإنسان ظهروا على الأرض حوالي 7-5مليون سنة،
ويتبنون نظريات مختلفة ترتبط بنظرية التطور في تفسير ظهور الإنسان ،الذي يعود
أقدم هيكل عظمي لإنسان عثرنا عليه حتى اليوم لحوالي 300,000سنة.
بالإضافة إلى ذلك ،نظرت الكنيسة ولفترة طويلة إلى الأرض على أنها مسطحة
وتشكل مركز الكون ،وحاربت كل من وما شكك بذلك .واستندت الكنيسة في
قناعتها تلك إلى القراءة التقليدية الحرفية للكتاب المقدس ،والتي يكون شكل الكون
بحسبها كما هو مبين في الصورة رقم 1أدناه.
86
درس كتاب
وذلك الاعتقاد يتناقض بدوره مع كل ما يثبته العلم حالي ًا عن شكل الكون ومكانة
الأرض ،التي تمثل كوكب ًا صغير ًا في مجموعة شمسية صغيرة موجودة على طرف مجرة
صغيرة موجودة في طرف هذا الكون الشاسع الذي يضم ملايين ومليارات الكواكب
والنجوم والمجرات (الصور .)6 ،5 ،4 ،3 ،2
هذا التناقض «الصارخ» دفع بالكثيرين لرفض الكتاب المقدس وأحيان ًا رفض
الله ذاته .لكن المشكلة ببساطة هي ،كما سننتقل لنرى الآن ،في تلك القراءة التقليدية
الحرفية لقصتي الخلق وللكتاب المقدس ككل.
الصورة :1
الكون بحسب تكوين 3 :2—1 :1
الصورة :2
الأرض بالمقارنـة مـع الشـمس وكواكـب
مجموعتنـا الشمسـية
الصورة :3
موقـع المجموعـة الشمسـية في مجـرة درب
التبانـة ()Milky Way
87
الصورة :4
مجــرة درب التبانــة ()Milky Way
بالمقارنــة مــع بعــض المجــرات الأخــرى
في الكــون
الصورة :5
الأرض ،المجموعــة الشمســية ،ومجــرة
درب التبانـة ( )Milky Wayفي الكـون
الصورة :6
صــورة تعــود إلى العــام 1990التقطهــا
المكــوك الفضائــي ( )Voyageur 1خــال
رحلتــه إلى الفضــاء مــن مســافة 6مليــارات
كــم عــن الأرض ،والتــي تظهــر في الصــورة
كنقطــة زرقــاء باهتــة ،وهــو الاســم الــذي
تعــرف بــه الصــورة (The Pale Blue
،)Dotوالتـي تعتـر أبعـد صـورة لـأرض
حتــى هــذا اليــوم
88
درس كتاب
وذلك الاعتقاد يتناقض بدوره مع كل ما يثبته العلم حالي ًا عن شكل الكون ومكانة
الأرض ،التي تمثل كوكب ًا صغير ًا في مجموعة شمسية صغيرة موجودة على طرف مجرة
صغيرة موجودة في طرف هذا الكون الشاسع الذي يضم ملايين ومليارات الكواكب
والنجوم والمجرات (الصور .)6 ،5 ،4 ،3 ،2
هذا التناقض «الصارخ» دفع بالكثيرين لرفض الكتاب المقدس وأحيان ًا رفض
الله ذاته .لكن المشكلة ببساطة هي ،كما سننتقل لنرى الآن ،في تلك القراءة التقليدية
الحرفية لقصتي الخلق وللكتاب المقدس ككل.
.2تح ٍد للقراءة التقليدية لتكوين 2—1
إن هذه القراءة التقليدية للنص الموجود في تك 2—1هي قراءة بالتعريف وبالمبدأ
خاطئة لأنها تنطلق من قراءة وفهم مغلوطين للكتاب المقدس ككل من جهة ،وتعاني
من العديد من نقاط الضعف في قراءة قصتي الخلق ،موضوع البحث ،بشكل خاص
من جهة ثانية.
أ .طبيعة الكتاب المقدس
من المهم في البداية أن نتذكر هنا بأن الكتاب المقدس ،بعهديه ،هو أساس ًا وقبل
كل شيء آخر كتاب لاهوت ،وليس كتاب علم أحياء أو كتاب فلك ،كما أنه ليس
كتاب تاريخ أو جغرافية ،أو كتاب قانون ،على الرغم من احتوائه على عناصر من
ذلك كله .وصحيح أن ُك ّتاب الكتاب المقدس استخدموا بعض المعلومات التي كانت
ُتعتبر معلومات علمية بحسب مفهوم العصر الذي ُكتبت فيه الأسفار المختلفة ،لكن
يبقى الكتاب المقدس كتاب لاهوت يسجل شهادات المؤمنين لاختباراتهم لله في أزمنة
89
وأمكنة وظروف مختلفة.
كما أن كتابنا المقدس ككتاب لاهوت ليس كتاب ًا ُمنزلاً وهو ليس كلمة الله الحرفية،
وبالتالي فأي تعامل حرفي معه هو أبعد ما يكون عن طبيعة هذا الكتاب .فالكتاب
المقدس موحى به من الله وروحه القدوس الذي لعب ويلعب دور ًا هام ًا في تأليف
هذا الكتاب وعمله المستمر على مر العصور .ولكن كون الكتاب المقدس هو كتاب
موحى به فذلك لا يعني بأن الكتاب المقدس هو الكلام المباشر لله أو الوحي المباشر
لله ،لأننا نؤمن كمسيحيين بأن الوحي المباشر والشخصي لله هو شخص يسوع المسيح
الذي هو كلمة الله المتجسدة الموحى بها مباشرة من عند الله .بينما الكلمة المكتوبة والتي
هي الكتاب المقدس ،فإنها شهادة لكلمة الله الحية يسوع المسيح ،ولاختبار المؤمنين لها
ولإلههم ولحياتهم ولعلاقتهم معه في أز ِمنة وأم ِكنة وظروف مختلفة.
إن الكتاب المقدس هو شاهد وشهادة ،وأسفار الكتاب المقدس لم تنزل من السماء
ولكنها كتبت على مراحل مختلفة ،وشهدت تطور ًا وإضافا ٍت متنوعة ومستمرة بما
يتناسب وتغير اختبارات المؤمنين لله واختلاف لاهوتهم وشخصياتهم وظروفهم
التي عاشوا وكتبوا فيها .فالكتاب المقدس هو مجموعة من الكتابات المكتوبة في أماكن
وأزمنة مختلفة ،من قبل مجموعة مختلفة من الأشخاص والمدارس اللاهوتية والأدبية،
الذين كتبوا لجماعة معينة تعيش في مكان معين وزمان معين وتواجه ظروف ًا معين ًة،
متأثرين بفكر عصرهم ولغته ،ليشهدوا عن اختبارهم لله .ولذلك فنحن نجد في
الكتاب المقدس مواقف مختلفة وأفكار لاهوتية متنوعة من مختلف مواضيع الحياة.
ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ أي نص بطريقة حرفية ونبني على أساس تلك القراءة
90
درس كتاب
الحرفية موقف ًا وعقيدة وممارسة إيمانية نعتبر بأنها منزلة إلهي ًا .فنحن لا نستطيع ،ولا يجوز
لنا ،أن نفهم أسفار وقصص ومقاطع وشرائع الكتاب المقدس بمعزل عن الظروف
والخلفية التاريخية واللاهوتية والثقافية والفكرية التي كتبت فيها .وبالتالي فلا يجوز
لنا أن نتعامل بشكل حرفي مع النص الموجود في تك 2—1وأن نستعمل ذلك النص
في بناء نظريات لعملية الخلق وللخليقة ،ولمكانة الإنسان فيها وعلاقته بها ،ولعلاقة
الرجل بالمرأة ،دون دراسة ذلك النص بعمق وفي ضوء الخلفية اللاهوتية والزمانية
والمكانية التي كتب فيها.
ب .إعادة قراءة تك 2—1
كما ذكرنا أعلاه ،إذا قرأنا أول إصحاحين من سفر التكوين ،سنلاحظ وجود
قصتي خلق عوض ًا عن قصة خلق واحدة .وهاتان القصتان الموجودتان في تكوين :1
3 :2—1وتكوين 25-4 :2تختلفان عن بعضهما بشكل كبير ،ولكنهما تتفقان على
شيء واحد رئيسي وهو أن الخالق هو الله.
91
مقارنة بين قصتي الخلق في سفر التكوين
تك 25-4 :2 تك 3 :2—1 :1
-اسم الإله في الأصل العبري في القصة الأولى -اسم الإله في الأصل العبري في القصة الثانية
فهو «يهوه» (الرب).. هو «إلوهيم» (الله)..
-الرب يخلق بيده (جبل ،غرس ،بنى).. -الله يخلق بكلمته (قال)..
-قصة خلق الأرض فقط.. -قصة خلق كل الكون..
-لا ِذكر للأسماك والحيوانات مائية.. -كل المخلوقات الموجودة على الأرض..
-الإنسان في النهاية ،بعد الكائنات الأخرى- ..الإنسان في البداية ،قبل الكائنات الأخرى..
-الرجل ومن ثم الحيوانات ،ومن ثم المرأة.. -الرجل والمرأة مع ًا..
-الرجل والمرأة مع ًا وهما مع ًا على صورة الله -الرجل وحده هو من نفخ فيه الله من نفسه،
قبل أن يبني المرأة من الرجل.. كشبهه..
-مهمة وسلطان للرجل والمرأة مع ًا على كل -مهمة وسلطان للرجل على الجنة قبل
السقوط وحتى قبل خلق المرأة؛ والرجل هو الأرض..
من يطلق على الحيوانات أسماءها..
-يوجد محظورات.. -لا يوجد محظورات..
-السقوط هو القمة.. -لا سقوط ،والسبت هو القمة..
-القصة تنتمي إلى التقليد التثنوي -القصة تنتمي إلى التقليد الكهنوتي
ما سبق يظهر أن الإصحاحين الأولين في سفر التكوين يحتويان على قصتين مختلفتين
عوض ًا عن قصة واحدة للخلق .هاتان القصتان تختلفان عن بعضهما بشكل واضح في
صورة الخلق التي تقدمها كل منهما .والسبب في ذلك الاختلاف الصريح والواضح
هو أن ك ًّل من هاتين القصتين تنتمي إلى تقليد لاهوتي مختلف.
فالتوراة بشكل عام تحتوي على تقليدين لاهوتيين أساسيين ،التقليد الكهنوتي
والتقليد التثنوي ،يقفان وراء مختلف نصوصها ،ويعتبر كل منهما مسؤول عن إنتاج
92
درس كتاب
إحدى قصتي الخلق الموجودتين في بداية سفر التكوين وما تقدمانه من لاهوت
ومن نظرة للخليقة ككل .وهذان التقليدان متداخلان ومتراكبان بشكل كبير ،وإن
كان بنسب مختلفة ،في أسفار التوراة الخمسة .ولذلك عكف الباحثون على دراسة
النصوص ومحاولة الفصل بين هذين التقليدين المختلفين بشكل واضح ،وذلك اعتماد ًا
على الأسلوب الأدبي والروائي والفكر اللاهوتي الذي يميز كل تقليد من التقليدين
والذي يجعل إمكانية فصلهما عملي ًة سهلة.
فالفارق اللاهوتي الرئيسي بين التقليدين واضح وصريح ويتلخص بحقيقة أنه في
الوقت الذي يقدم فيه اللاهوت التثنوي النظرة التقليدية الشائعة والشهيرة في العهد
القديم ،والتي تعتبر بأن إسرائيل هو شعب الله المختار ،يتبنى اللاهوت الكهنوتي نظرة
مغايرة لذلك .فالتقليد التثنوي هو تقليد يتبنى لاهوت شرطي متعصب يميز ويعتبر
بأن الله يميز بين إنسا ٍن وآخر ،على أساس العرق واللون والجنس والدين ،في حين أن
التقليد الكهنوتي هو تقليد عالمي يتبنى لاهوت نعمة يعتبر بأن الله هو إله كل الخليقة
الذي لا يميز بين الناس على أساس عرقهم أو لونهم أو جنسهم أو دينهم.
ومن الملفت هنا أن التقليد الكهنوتي لا يستخدم لخالق الكون اسم «يهوه» (الرب)،
إله إسرائيل ،ولكنه يدعو خالق هذا الكون بـ»إلوهيم» (الله) .وبهذا فالتقليد الكهنوتي
هو أول لاهوتي في الكتاب المقدس يستعمل كلمة «الله» كاسم شخصي للإله ،وهو
الاسم الذي نستعمله نحن اليوم .وهذا تق ُّد ٌم لاهوتي كبير ،فبالنسبة للتقليد الكهنوتي،
الإله الخالق ليس إله محصور بشعب معين ،لأنه خلق كل الكون ،ويجب على كل
إنسان وشعب في هذا الكون أن يكون قادر ًا على التعرف إليه والتواصل معه كإلهه هو.
ويستعمل التقليد الكهنوتي الاسم العالمي الكوني لله لأن الله خالق الكون ويتجاوز كل
93
الحدود الدينية.
وعلينا هنا أن نلاحظ أن قصة الخلق الأولى تخبرنا بأن الله خلق الإنسان على صورته
كشبهه (تك .)27-26 :1فبِ ِخلا ِف ما كان شائع ًا في ذلك الوقت بأن الملوك فقط هم
على صورة الله ،يرى التقليد الكهنوتي بأن كل الإنسانية مخلوقة على صورة الله؛ كل
إنسان ،مهما كان جنسه ،أو لونه ،أو عرقه ،أو مرتبته الاجتماعية ،أو دينه ،هو مخلوق
على صورة الله وله نفس الأهمية والقيمة أمام الله .وهذا بحد ذاته ثورة كتابية ولاهوتية
في وجه بعض المقاطع الكتابية التي تعلن أن الله هو إله اليهود ،شعبه المختار فقط ،وأنه
أمرهم بأن يقتلوا بقية الشعوب باسمه ،لا بل ووعدهم بأن يقوم هو بمحاربة بقية
الشعوب عنهم.
ومن المهم أن نلاحظ هنا أن وجود هاتين القصتين المختلفتين للخلق جنب ًا إلى
جنب ،وعلى عكس ما يظن الكثيرون ،لا يهدد الكتاب المقدس ومصداقيته ،ولكنه
أمين للكتاب المقدس من جهة ،ويحمي كتابنا المقدس في مواجهة الاكتشافات العلمية
الحديثة التي تتحدى قصة الخلق التكوينية وتثبت عدم صحتها من جهة أخرى .فذلك
لا يشكل خطر ًا على صحة الكتاب المقدس إذا ما فهمنا واعترفنا بأن الكتاب المقدس
ليس كتاب علو ٍم طبيعي ٍة ،أو كتاب فلك .فالكتاب المقدس ليس مهتم ًا بالعلم بالمفهوم
الحديث للعلم ،ولكنه كتاب علمي بمفهوم العلم في العصر الكتابي ،أي العصر الذي
كتب فيه الكتاب المقدس .والكتاب المقدس ،وخاصة العهد القديمُ ،كتب في عصر كان
فيه علم الميثولوجيا ،بمفهوم ذلك العصر عن هذه الكلمة ،هو العلم الأهم والأسمى.
والميثولوجيا في الشرق الأدنى القديم لم تكن تعني أسطورة أو خرافة ،بمعنى أنها غير
صحيحة ،ولكنها كانت العلم الذي يدور حول الآلهة والتفاعل بين الآلهة والإنسان.
94
درس كتاب
الميثولوجيا كانت علم الماورائيات.
قصص الخلق في الكتاب المقدس هي قصص رمزية كتبت في عصر قدس هذا
النوع من العلوم ،وهي بلا شك متأثرة ومتفاعلة مع الكثير من قصص الخلق لدى
الحضارات القديمة .ولذلك فكلا قصتي الخلق إنما هما مبنيتان على قصص الخلق
الموجودة لدى الشعوب المجاورة .حيث اعتمد التقليد الكهنوتي في بنائه لقصة الخلق
الأولى على قصة الخلق البابلية «إينوما إيليش» ،في حين اعتمد التقليد التثنوي في بناء
قصة الخلق الثانية على ميثولوجيات الخصب الخاصة بالشعوب الفينيقة والكنعانية.
فقد كانت قصة الخلق البابلية-الآشورية «إينوما إيليش» هي «نظرية» خلق
الكون الأهم في الشرق الأدنى القديم .واسم النص «إينوما إيليش» يعني «عندما في
الأعالي» ،وهو مأخوذ من الكلمات الأولى في النص .كما كان الحال مع أسماء أسفار
العهد القديم .فمثل ًا ،اسم سفر التكوين في اللغة العبرية هو «بريشيت (في البدء)».
والقصة باختصار هي حول خلق الإله البابلي الأعظم« ،مردوخ» ،للعالم من جسد
والدته الإلهة «تيامات» ،التي هي المياه الأزلية وشكلها التنين .حيث تقرر «تيامات»
أن تقتل الآلهة الصغرى لأنهم قتلوا زوجها الإله الأب «أبسو» ،الذي قتله ابنه «إيا».
فيتطوع مردوخ لمواجهتها ويحاربها ويهزمها ويشقها نصفين بريحه .وبعد انتصاره،
يخلق مرودخ السماء من ظهر تيامات والأرض من بطنها والنجوم والكواكب والقمر
والشمس من أجساء جسدها .ومن ثم يكلف مردوخ الإله إيا بخلق الإنسان من
دم تيامات وقائد جيشها «كينغو» ،وذلك بهدف إراحة الآلهة بأن يقوم الناس بعملها
عوض ًا عنها .بالإضافة إلى ذلك ،يضع مردوخ مدينة بابل في مركز الكون .ونرى في
الصور رقم 7و 8و 9أدناه مخطط ًا للكون بحسب إينوما إيليش ،ونستطيع أن نلاحظ
95
بسهولة التشابه الواضح بينه وبين مخطط الكون بحسب تك ( 3 :2—1 :1الصورة
رقم 1أعلاه).
صــورة :7الكــون في الفكــر البابــي-
الآشــوري
صــورة 8وصــورة :9مركزيــة بابــل في
الكــون في الفكــر
96
درس كتاب
قصة الخلق البابلية هذه كانت قصة الخلق الأشهر في الشرق الأدنى القديم ،وهي
القصة التي كانت سائدة في الامبراطورية الآشورية والامبراطورية البابلية اللتين
سبتا شعب الله ،ومن بعدهما الامبراطورية الفارسية التي تمت كتابة التوراة في زمنها.
وبالتالي ،فهي «نظرية» الخلق العلمية الأهم التي تعامل معها كاتبوا التقليد الكهنوتي
في التوراة ،حوالي سنة 515-520ق.م ،وتبنوها وعدلوها لإنتاج قصة الخلق الأولى
(تك ،)3 :2—1 :1التي تأخذ إينوما إيليش وتعدلها لتعلن إعلانات لاهوتية هامة.
ففي كلتا القصتين ،تيامات (تهوم أو الغمر أي المياه العميقة) ترمز إلى الفوضى
التي هي ضد الخليقة .وفي كلتا القصتين ،الخلق يحصل بفصل المياه فوق السماء عن
المياه تحت السماء بال َج َلد وبفصل البحر عن اليابسة (تك ،)9-1 :1لكن الفوضى
ليست إلهة في التوراة كما هي في إينوما إيليش ،لأن التوراة تؤمن بإله واحد في كل
الكون .وفي كلتا القصتين ،الإله يخلق بالكلمة ،لكن في الوقت الذي يخلق فيه مردوخ
بأن يقتل تيامات بأن يلقي عليها لعنة ،يخلق الله بأن يقول فيكون ومن ثم يبارك
خليقته .وتسلسل أحداث قصة الخلق متشابه في كلا القصتين ،لكن الإله الخالق في
إينوما إيليش ،مردوخ ،هو أيض ًا مخلوق ،في حين أن الله هو إله أزلي من قبل أن تبدأ
الخليقة .بالإضافة إلى ذلك ،يخلق مردوخ الكون في إينوما إيليش لتحقيق مصلحة
الآلهة ،فيمنح السماء للإله «آنو» ،والهواء وسطح الأرض للإله «إنليل» ،والمياه العذبة
على سطح الأرض وفي جوفها للإله «إيا»؛ كما أن بابل ،مركز الكون ،بحد ذاتها يتم
بناؤها لأجل الآلهة؛ بالإضافة إلى أن كل هدف خلق الإنسان هو خدمة الآلهة والقيام
بعملها بدلاً منها .في حين أن الله يخلق الكون من فيض نعمته ويباركه ويهتم هو به.
من جهتها ،تتبنى قصة الخلق الثانية (تك )25-4 :2قصص الخصب
97
الفينيقة-الكنعانية ،حيث إله الريح ،بعل ،يزرع ويمطر ويجلب الريح وينمي الشجر
ويعطي الحياة ،لتعلن بأن الرب ،يهوه ،هو من خلق كل ما في هذه الأرض بما في ذلك
الحيوان والإنسان.
وهكذا فكاتبوا التوراة يتبنون قصص الخلق الأشهر في الشرق الأدنى القديم
ويعدلونها ليعلنا إعلانات لاهوتية هامة تختلف ،لا بل وتتناقض ،عن بعضها في كثير
من الأحيان ،بحسب اللاهوت الذي تتبناه كل من التقليدين الكهنوتي والتثنوي ،كما
هو الأمر مثل ًا في حالة النظرة إلى المرأة في كلا القصتين (انظر الجدول أعلاه) .ولكن
من خلال وضعهما لكلا القصتين جنب ًا إلى جنب ،أراد كاتبوا التوراة أن يعلنوا لكل من
يقرأ الكتاب المقدس بأن قصة الخلق كما ترد في سفر التكوين لا تريد أن تخبرنا كيف
خلق الله الكون ،ولكنها تريد أن تخبرنا شيئ ًا أساسي ًا ،بغض النظر عن فرضية الخلق
التي نتبناها ،وهو أن الله هو خالق هذا الكون.
قصتي الخلق ليستا شرح ًا علمي ًا أو بيولوجي ًا ،ولكنهما بالأحرى شرح لاهوتي
لكيفية تشكل الكون .وبالتالي ،فهما لا تثبتان ،ولا تريدان أن تثبتا بأن الكون قد خلق
خلال 144ساعة في سنة 3761ق.م .قصة الخلق هي قصة تتبنى العلم الأهم في
ذلك الزمن ،أي الميثولوجيا ،وتستخدم أهم نظريات الخلق العلمية في ذلك الزمن
لتعلن بأن الله هو الخالق .وبالتالي ،فهي لا تتنافس مع نظريات تكون الكون ونظريات
التطور المعاصرة ،ولكنها تعلن لتلك النظريات بأن الخالق هو الله ،الذي هو من يقف
وراء تكون الكون وتطور الخليقة ،مهما كانت النظرية العلمية المعتمدة.
وهذا هو ما نؤمن ،وما يجب أن نؤمن ،به ،بدون أن نشغل بالنا في الدخول في
98