The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

النشرة الفصل الثالث 2020

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by editor, 2020-10-31 04:52:02

النشرة الفصل الثالث 2020

النشرة الفصل الثالث 2020

‫دراسات ومقالات‬

‫الزيتون الى مستشفى لعلاج اللاجئين الفلسطينيين‪ ،‬بالتعاون مع وكالة الغوث وتشغيل‬
‫اللاجئين‪ ،‬وهو ما زال يعمل حتى يومنا هذا باشراف الاتحاد اللوثري العالمي‪ .‬يذكر‬
‫ان هذا المستشفى هو اليوم الأكبر بين مستشفيات القدس الشرقية وهو متخصص‬
‫بمعالجة الامراض العضال‪ .‬ثاني ًا اهتم الاتحاد اللوثري بتأهيل قيادات كنسية جديدة‬
‫تم ارسالها الى أمريكا او المانيا لدراسة اللاهوت‪ .‬بعض هذه القيادات رجع وبعضها‬
‫الآخر لم يرجع‪ ،‬ولكن شكل هذا الفوج الرعيل الثاني من القيادات الكنسية اللوثرية‪،‬‬
‫اذكر منها المرحوم القس الياس شحادة الخوري والقس نعيم نصار‪ ،‬والقس باسم نجم‬
‫والقس نعمان سمير‪ .‬وثالث ًا اهتم الاتحاد اللوثري بلم شمل الكنائس اللوثرية المختلفة‬
‫ودعم طلب الكنائس المحلية‪ .‬وكانت هذه فترة القومية العربية‪ ،‬بتأسيس كنيسة وطنية‬
‫بدلاً من الطوائف المشتتة‪ .‬ولقد استمر العمل على هذا المشروع قرابة العشر سنوات‪،‬‬
‫حيث تم في أيار من عام ‪ ١٩٥٩‬تأسيس الكنيسة الانجيلية اللوثرية في الأردن‪ .‬كما وتم‬
‫انتخاب أول مجمع لهذه الكنيسة وانتخب البربست الألماني رئيس ًا له‪ .‬اما هوية المجمع‬
‫فتم التشديد على أن تكون لوثرية وذلك نتيجة لدور الاتحاد اللوثري‪ .‬وبما ان الضفة‬
‫الغربية كانت تحت السيادة الأردنية فقد تم ادراج الأردن في الاسم‪ .‬يذكر ان مطلب‬
‫القيادات المحلية ادراج كلمة العربية في اسم الكنيسة قد قوبل برفض الماني وذلك بناء‬
‫على الدور المأساوي للقومية الألمانية‪ .‬وقد ُش ِّكل المجمع من مندوبي خمسة كنائس‪،‬‬
‫اربع منها كانت قد تأسست في القرن التاسع عشر‪ ،‬اضيف اليها لاحق ًا كنيسة جديدة‬
‫في مدينة رام الله شمالي القدس كان جل أعضائها من خريجي مدرسة شنلر ومن سكان‬
‫مدن اللد والرملة‪ ،‬حيث كانوا قد هجروا من هناك ابان النكبة عام ‪ ١٩٤٨‬واستقر‬

‫‪49‬‬

‫بهم الحال في رام الله‪ ،‬حيث اسسوا هناك كنيسة الرجاء عام ‪ .١٩٥٤‬وأخيرا تم تأسيس‬
‫كنيسة لوثرية سادسة‪ ،‬كنيسة الراعي الصالح‪ ،‬في عمان وذلك سنة ‪ .١٩٧٩‬وفي العام‬
‫نفسه‪ ،‬تم انتخاب القس داود حداد كأول مطران عربي لوثري للكنيسة‪ ،‬وذلك بعد‬
‫ان تم في عام ‪ ١٩٧٦‬نقل إدارة العمل التربوي (ما عدا مدرسة طاليثا قومي) من‬
‫الإدارة الألمانية الى الإدارة العربية‪ .‬وفي دورة المجمع الأخير تم تغيير اسم الكنيسة عبر‬
‫إضافة «والأراضي المقدسة» ليصير الاسم الرسمي اليوم‪ :‬الكنيسة الانجيلية اللوثرية‬
‫في الأردن والأراضي المقدسة‪ ،‬ويرأسها منذ عام ‪ ٢٠١٨‬المطران سني إبراهيم عازر‪.‬‬
‫وبالإضافة الى الكنائس الست الآنفة الذكر‪ ،‬تدير الكنيسة اليوم ثلاث مدارس في كل‬
‫من بيت لحم وبيت ساحور ورام الله‪ ،‬بالإضافة الى دارين للضيافة‪ .‬كما وأسس القس‬
‫د‪ .‬متري الراهب عام ‪ ١٩٩٥‬دار الندوة‪ ،‬وفي عام ‪ ٢٠٠٦‬جامعة دار الكلمة ومقرها‬
‫في بيت لحم‪ ،‬والتي تحظى باستقلالية ويديرها مجلس أمناء مسكوني والذي لعب دور ًا‬
‫محوري ًا في تطوير لاهوت انجيلي شرق اوسطي‪ .‬وتكمن أهمية هذه الكنيسة في أنها‬
‫الكنيسة اللوثرية الوحيدة في العالم العربي والكنيسة الانجيلية الأكبر (رغم صغرها‬
‫المتناهي) في الضفة الغربية‪ ،‬والدور المسكوني واللاهوتي الإقليمي والعالمي لبعض‬
‫قياداتها‪ ،‬نذكر على سبيل المثال لا الحصر انتخاب المطران منيب يونان رئيس ًا للاتحاد‬
‫اللوثري العالمي‪ .‬ويشكل الاحتلال الإسرائيلي والهجرة وصغر الكنيسة وشح الموارد‬

‫تحديات تواجه هذه الكنيسة اليوم وتهدد استمرارية رسالتها وصوتها النبوي‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫الكنيسة الإنجيلية الأسقفية‬
‫العربية (الانكليكانية)‬

‫في القدس والشرق الأوسط القس جورج جبرا قبطي*‬

‫البدايات التي شكلت الحاضر‬

‫لمحة تاريخية‪:‬‬

‫تسمى الكنيسة الإنجيلية الأسقفية عالم ًيا بالكنيسة الأنكليكانية (‪Anglican‬‬
‫‪ )Church‬وذلك نسبة إلى البلد الذي نشأت فيه وهو انكلترا‪.‬‬

‫ويعود تاريخ تأسيس أول كنيسة في انكلترا إلى القرن الرابع الميلادي‪ ،‬حينما أرسل‬
‫البابا غريغوريوس الكبير القديس أوغسطينوس إلى كانتربري في انكلترا للتبشير‬
‫بالمسيحية ولتأسيس الكنيسة فيها عام ‪597‬م‪ .‬واستمرت كنيسة انكلترا بانتمائها‬
‫للكنيسة الجامعة وخضوعها لبابا الكنيسة الكاثوليكية في روما حتى عام ‪1534‬م‬
‫حينما نشأ نزاع سياسي بين الملك هنري الثامن ملك انكلترا و بابا روما آنذاك حول‬
‫قضية طلاق الملك من زوجته‪ ،‬واتخاذ أخرى لإنجاب ولي للعهد‪ ،‬بالاضافة الى صراع‬
‫على السلطة‪ ،‬وخلاف مع عائلة الملكة الاسبانية الأصل‪ .‬وعلى اثر ذلك الخلاف‪ ،‬أعلن‬
‫الملك هنري الثامن انفصال (استقلال) انكلترا عن سلطة البابا الزمنية في أوروبا عام‬

‫‪ ،1534‬بموافقة البرلمان البريطاني الذي سماه « حامي الايمان»‪.‬‬
‫* قسيس خادم في مطران ّية القدس للكنيسة الاسقفية في القدس والشرق الاوسط‬
‫راعي كنيسة القديس بولس الأسقف ّية في الأشرف ّية‪ -‬ع ّمن ‪51‬‬

‫وبذلك القرار السياسي فتح الملك‬
‫المجال لرئيس أساقفة كانتربري توماس‬
‫كرانمر ‪( Cranmer‬الذي كان متأثرا‬
‫بفكر لوثر وحركته الاصلاحية في المانيا‬
‫بعد زيارته لها) ومصلحون آخرون‪ ،‬مثل‬
‫تاينول وتوماس كرومويل‪ ،‬والمتأثرين‬
‫بفكر مارتن لوثر‪ .‬أفسح القرار بالاستقلال‬
‫لهم في المجال لإصلاح الكنيسة فكر ًيا‬
‫وعقائد ًيا‪ ،‬وممارسة طقسية لتتناسب مع‬
‫الفكر اللوثري المصلح‪ ،‬الأمر الذي انعكس في العقائد التسع والثلاثين التي وضعها‬
‫كرانمر عام ‪ 1562‬كقاعدة أساسية للكنيسة‪ ،‬من خلال مجمع أساقفة اجتمع في لندن‪.‬‬
‫وقد تم إصدار أول كتاب للصلاة العامة ليتناسب مع الفكرالاصلاحي عام ‪،1542‬‬
‫وتلته بعض التعديلات‪ ،‬حتى رسا أخي ًرا على نسخة عام ‪ ،1662‬والتي تعتبر حتى‬
‫هذه اللحظة واحدة من أهم العوامل التي توحد الأسقفيين الانكليكان في شتى بقاع‬
‫الأرض‪ .‬فمنها أخذت جميع كتب الصلاة العامة‪ ،‬مع بعض التعديلات التي تناسب‬
‫الثقافات المختلفة التي نشأت فيها الكنيسة الأسقفية حول العالم‪.‬‬

‫التنظيم الإداري والطقسي عالم ًيا‪:‬‬
‫انتهجت الكنيسة الأسقفية منذ نشأتها نظا ًما ديمقراط ًيا أسقف ًيا‪ ،‬حيث يترأس‬
‫أسقف الكنيسة قيادة المجامع المحلية روحيا واداريا‪ .‬وتتكون هذه المجامع (مجمع‬

‫‪52‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫القدس والشرق الاوسط مثالا) من مجموع المرسومين العاملين في أرجاء المطرانية‬
‫(اسقف وقساوسة وشمامسة) ومن العلمانيين الممثلين للعمدة الرعوية لكل كنيسة‬
‫محلية‪ ،‬علما ان العمدة ايضا هي لجنة منتخبة من أبناء الكنائس المحلية بشروط خاصة‬

‫للانتخاب‪.‬‬
‫وتعتمد الكنيسة الاسقفية ثلاثة رتب كنسية كهنوتية هي الشماس ويقوم بأقامته‬
‫شما ًسا الاسقف وحده بحضور الكنيسة وباقي المرسومين‪ ،‬والقسيس الذي يرسمه‬
‫الاسقف بوضع اليد مع مجموع القساوسة الحاضرين‪ ،‬والاسقف (المطران) يكرسه‬

‫ثلاثة اساقفة آخرين على الأقل‪.‬‬
‫ويتمتع رئيس أساقفة كانتربري برئاسة روحية فخرية ورمزية للكنيسة الأنكليكانية‬
‫في العالم‪ ،‬حيث تجمع الكنائس والمطرانيات شراكة أسقفية (أنكليكانية) عالمية تضم‬
‫واحد واربعين رئيس اساقفة واكثر من ثمانمئة اسقف يديرون شؤون أكثر من ثمانين‬

‫مليون أسقفي حول العالم‪ ،‬أكثرهم في القارة الأفريقية‪.‬‬
‫والجدير بالذكر أن المجامع المحلية تقوم بانتخاب اساقفتها ديمقراط ًيا من قبل‬
‫مجموع المرسومين والعلمانيين ممثلي العمد الرعوية للكنائس المحلية‪ ،‬ولا يتم تعيين‬
‫الأسقف من اية جهة كانت‪ .‬وتشكل مجموعة من الأسقفيات في منطقة جغرافية معينة‬
‫ما يسمى بالاقليم أو السينودس المركزي‪ ،‬حيث يترأس أحد الأساقفة هذا السينودس‬

‫مدة خمسة سنوات قابلة لإعادة الانتخاب‪.‬‬
‫أما بالنسبة للطقوس الكنسية‪ ،‬فهناك جناحان للكنيسة الأسقفية هما الكنيسة‬

‫‪53‬‬

‫العليا ‪ High Anglicanism‬التي لا زالت تمارس طقو ًسا أقرب ما تكون إلى‬
‫الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية‪ ،‬وهو ما يظهر جل ًيا في طريقة اللباس وممارسة الطقوس‬
‫الليتورجية‪ ،‬والكنيسة السفلى ‪ ،Low Anglicanism‬التي تميل إلى البساطة‬
‫الإنجيلية في عبادتها وتصميم كنائسها ولباسها الكهنوتي‪ ،‬عل ًم أن الجناحان يعتمدان‬
‫ذات كتاب الصلاة العامة وتعديلاته حسب المناطة والثقافات‪ .‬ونجد احيانا تيارا‬
‫وسطيا بين الاثنين‪ .‬كما ان للقساوسة كامل الحرية في اختيار النهج الليتورجي في‬
‫خدمتهم‪ ،‬على أن يلتزموا بنصوص كتاب الصلاة العامة وتعليماته وقوانين الكنيسة‬
‫الاسقفية‪ .‬والجدير بالذكر أن الكنيسة الاسقفية تعتمد الكتاب المقدس وحده مصدرا‬
‫لإيمانها‪ .‬كما وتعتمد قانونا ايمان الرسل والنيقاوي‪ -‬القسطنطيني وقرارات المجامع‬
‫المسكونية الاربعة الاولى كمصادر لإيمانها مع اعطاء مجالا للعقل والفكر وحقائق‬

‫العلم في تفسيرها والبناء عليها‪.‬‬

‫الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في القدس والشرق الأوسط‪:‬‬

‫نشأت الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية في منطقتنا إثر تعاون بريطاني ألماني في‬
‫بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬حيث تم إرسال مطران نمساوي للتأسيس عام ‪ 1841‬م إلى‬
‫القدس يمثل الكنيستين الأنكليكانية واللوثرية (تم الفصل بينهما عام ‪ 1887‬لأسباب‬

‫سياسية وكنسية)‪.‬‬

‫حمل المطران مايكل سولومون الكساندر في جعبته هدفين‪ ،‬أ َّولهما إقامة علاقات‬
‫تاريخية (أو إعادة إحيائها) بين الكنيسة الأنكليكانية‪ -‬اللوثرية (تمثل الكنيسة الغربية)‬
‫والكنائس الشرقية والأرثوذكسية القديمة في مهد المسيحية‪ ،‬وثانيهما التبشير المسيحي‬

‫‪54‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫بين غير المسيحيين من أبناء المنطقة‪.‬‬

‫تشير الوثائق التأسيسية للمطرانية في القدس الى رسالة من رئيس اساقفة كانتربري‬
‫الى بطاركة الكنائس في المدينة المقدسة وايضا الى برتوكول اقامة مطرانية القدس‬
‫الصادرين عام ‪ ،1841‬الى دوافع الكنيسة الانكليكانية لتأسيس مطرانية لها في‬
‫القدس‪ ،‬وذلك لتجديد الاتصالات مع كنائس الشرق القديمة ومساعدتها في خدمتها‬
‫وشهادتها (مثلا قبول كهنة الكنيسة الارثوذكسية بموافقة بطريركهم في كلية اللاهوت‬
‫المنوي تأسيسها في القدس) وايضا للتبشير بالمسيحية بين غير المسيحيين‪ .‬ومما لا شك‬
‫فيه أن الكنيسة الاسقفية نجحت نجاحا كبيرا في تحقيق الهدف الاول من وجودها ولم‬

‫تحقق المرجو من الهدف الثاني لاعتبارات سياسية ودينية ومجتمعية‪.‬‬

‫استمرت الكنيسة في العمل التبشيري وإقامة العلاقات مع كنائس المنطقة‪،‬‬
‫بالإضافة إلى تركيزها الأساسي على بناء المؤسسات التعليمية والخدماتية‪ ،‬حيث قام‬
‫المطران الثالث في القدس صموئيل غوبات بتأسيس ‪ 42‬مدرسة في فلسطين وشرق‬
‫الأردن بين عامي ‪ .1878 -1852‬وقد نشطت جمعية ‪ JEMCA،CMS ،LJS‬في‬

‫هذا النشاط‪.‬‬

‫وقد تم رسامة أول ‪ 3‬قسس عرب لخدمة الكنيسة الأسقفية عام ‪ ،1877‬وهم‬
‫ميخائيل خليل قعوار وسيرافيم تيوفيل بوتاجي وخليل ناصرجمل في خدمة واحدة‬
‫في كنيسة القديس بولس في القدس (علم ًا ان رسامتهم شمامسة عام ‪ 1871‬و‪1874‬‬
‫كانت في كنيسة المسيح في الناصرة)‪ .‬وقد كان القسيسين سرافيم وميخائيل أصل ًا من‬
‫الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين‪ ،‬أما القس خليل فكان لاتين ًيا‪ .‬وقد لعبت المدارس‬

‫‪55‬‬

‫الاسقفية دورا في انضمام هؤلاء وعائلات مسيحية اخرى كثيرة الى الكنيسة الاسقفية‬
‫واقتناعهم بإيمانها وخدمتها ونهجها‪.‬‬

‫وبعد جهاد وتعب ونقاشات‪ ،‬تع ّرب المجمع الكنسي في لقائه التاريخي في مدينة‬
‫يافا الفلسطينية عام ‪ ،1905‬وتم قبول سيامة أول مطران عربي في شركة الكنائس‬
‫الانكليكانية هو المطران نجيب قبعين عام ‪ ،1958‬حيث ُع ِّي مطرا ًنا مساع ًدا لأبرشية‬

‫الأردن وسوريا ولبنان‪.‬‬

‫في العام ‪ ،1976‬تعربت المطرانية تما ًما بانتخاب أول مطران عربي مترأس في‬
‫القدس‪ ،‬هو المرحوم فائق درزي حداد‪ ،‬وقد خلفه المطران سمير قفعيتي (‪-1984‬‬
‫‪ )1998‬والمطران رياح أو العسل (‪ ،)2007-1998‬والمطران سهيل دواني (‪2007‬‬
‫‪ -‬وسيتقاعد العام القادم ‪ )2021‬وقد تم انتخاب المطران حسام نعوم وتكريسه مع‬
‫بداية العام الحالي ‪ 2020‬مطرانا مشاركا حتى موعد تقاعد المطران سهيل دواني‪ .‬كما‬
‫واستعادت مطرانية القدس لقب «رئيس الاساقفة» عام ‪ .2012‬ويبقى المطران ‪/‬‬
‫رئيس الاساقفة في منصبه حتى بلوغه السبعين من العمر‪ ،‬وينتخب المجمع ‪-‬حسب‬
‫القوانين المجمعية‪ -‬احد قساوسته مطرانا مشاركا للأسقف عند بلوغه الثامنة والستين‪،‬‬

‫افسا ًحا في المجال للتسليم والتسلم والتعرف على الخدمة والمسؤوليات الاسقفية ‪.‬‬
‫واقع وإحصائيات‪:‬‬

‫تمتد مطرانية القدس والشرق الأوسط على أراضي أربعة دول من بلاد الشام‪،‬‬
‫وهي فلسطين‪ ،‬بشقيها المحتل عام ‪ 1948‬والضفة الغربية‪ ،‬والأردن ولبنان وسوريا‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫وتعتبر مطرانية القدس ُأ ًّما للمطرانيات الأسقفية في القدس والشرق الأوسط‪ ،‬حيث‬
‫كانت تشكل (حتى تموز ‪ )2020‬مع ثلاثة مطرانيات من إخواتها السينودس المركزي‬
‫للكنيسة الأسقفية في الشرق الأوسط والذي يتألف من مطرانية مصر وشمال افريقيا‪،‬‬
‫ومطرانية قبرص والخليج وأي ًضا مطرانية إيران‪ .‬لكن بعد اعلان «أقليم الاسكندرية»‬
‫للكنيسة الاسقفية‪ ،‬والذي يضم مصروشمال افريقيا والقرن الافريقي واثيوبيا في تموز‬

‫‪ ،2020‬اصبح اقليم القدس (حاليا على الأقل) مك َّون من ثلاث مطرانيات فقط‪.‬‬
‫يبلغ الإحصاء التقريبي لعدد الأعضاء في مطرانية القدس وحدها حوال ‪7000‬‬
‫عضو يتمركزون في فلسطين والأردن اسا ًسا‪ ،‬ويتوزعون على ثلاثة وعشرون كنيسة‬
‫ويقوم على خدمتهم اليوم واحد وعشرين راع ًيا وطن ًيا بقيادة رئيس الاساقفة والمطران‬
‫المشارك‪ .‬كما وتتوزع في أكثر من مدينة رئيسية في المنطقة‪ ،‬مثل عمان وبيروت والعقبة‬
‫ودمشق والقدس‪ ،‬رعايا ناطقة بالإنكليزية يخدمها رعاة مرسلون من ‪ CMS‬أو‬
‫‪ USPG‬أو إرساليات أخرى‪ ،‬بالإضافة إلى رعية سودانية في دمشق يخدمها عادة را ٍع‬

‫من السودان‪.‬‬
‫وتشرف المطرانية على ‪ 32‬مؤسسة (أذرع الخدمة اتباعا لمثال الرب يسوع الذي ع ّل َم‬
‫واهت ّم بحاجات الناس وشفى) تمتد في كافة أنحاء المطرانية وتشمل مدارس ثانوية‪،‬‬
‫مستشفيات‪ ،‬وعيادات صحية‪ ،‬مراكز خدمة اجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة‬
‫والصم‪ ،‬مراكز ثقافية‪ ،‬روضات الأطفال والمياتم‪ ،‬وبيوت مسنين وكلية اللاهوت في‬

‫القدس (وفي بيروت)‪.‬‬

‫‪57‬‬

‫التحديات التي تواجه المطرانية‪:‬‬

‫ُيعتبر امتداد المطرانية الشاسع وعدد الأعضاء الجيد نسب ًيا كما وجود المؤسسات‬
‫الضخمة الممتدة نعمة كبيرة‪ ،‬إلا أ َّن هذا الامتداد يضع المطرانية أمام تحديات أجملها‬

‫في الآتي‪:‬‬

‫‪ - 1‬الوضع الفلسطيني والشرق أوسطي‪:‬‬

‫شكلت الهجرة الفلسطينية‪ ،‬منذ عام ‪ ،1948‬والصراع العربي الاسرائيلي هاج ًسا‬
‫لدى الكنيسة على كافة مستوياتها‪ .‬فقد ُه ِّجر الكثير من أبنائها وت َّم إغلاق أكثر من‬
‫كنيسة‪ ،‬أشهرها في القدس وعكا ويافا‪ ،‬حيث تفيد السجلات قبل عام ‪ 1948‬أن‬
‫أعضاء كنيسة يافا تجاوز ثمانمئة عضو لم يعد منهم أحد في هذه الأيام‪ .‬وبنعمة الرب‪،‬‬
‫ت ّم ترميم كنيسة القديس بولس في القدس‪ ،‬و ُتس َتخ َدم الان كمركز مسكوني‪ ،‬وكنيسة‬
‫عكا التي اعيد تكريسها عام ‪ ،2018‬وفيها اليوم نواة لرعية ممن بقوا في المدينة‪ .‬لكن‬
‫الوضع السياسي القائم أدى بالأساقفة والقساوسة وبعض العلمانيين إلى تجنيد طاقاتهم‬
‫للدفاع عن القضية الفلسطينية والسعي لتحصيل حقوق الشعب الفلسطيني وتحرير‬

‫أرضه‪.‬‬

‫وكلما كبر النزاع في المنطقة ‪ -‬خصوصا بعد ما يسمى بالربيع العربي منذ عام ‪2011‬‬
‫‪ -‬كلما زا َد َه ّم العمل المسيحي‪ ،‬وخاصة أن كنيستنا التي تسعى لتثبت أن المسيحيين‬
‫العرب لهم دور إيجابي وف َّعال وغير عنيف في ال ِّدفاع عن شعبهم وأرضهم‪ .‬وهذا‬
‫يستنزف طاقات الكنيسة ومؤسساتها وقدراتها التي يمكن أن تنفق في أوجه بنائية‬

‫‪58‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫أكبر‪ .‬وعليه‪ ،‬نجد الكنيسة تعمل مع اللاجئين والنازحين من كافة المناطق والبلاد‬
‫العربية‪ ،‬وتحاول جهدها تقديم العون والمساعدة لهم‪.‬‬
‫‪ -2‬الهجرة الشبابية‪:‬‬

‫وهي تش ِّكل اله ّم الكبير للمجتمعات العربية ككل‪ ،‬وأكثر ما تعانيه كنيستنا بسبب‬
‫الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية الصعبة‪ ،‬مما يجعل شبابنا امام تحدي البقاء‬
‫أو المغادرة‪ ،‬والكنيسة أمام تحدي الحفاظ على هؤلاء الشباب‪ ،‬ومحاولة توفير العيش‬
‫الكريم لهم من خلال بناء مساكن لهم أو تشغيلهم في المؤسسات أو فتح فرص للعيش‬
‫أمامهم‪ .‬هذا وتحاول كل كنيسة محلية التواصل الدائم مع أبناء الكنيسة في الخارج‪ ،‬عبر‬

‫وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة‪.‬‬
‫وقد اصبحت هجرة الشباب من الكنيسة الى العالم الافتراضي والمغريات العالمية‬
‫اكثر وضوحا وتشكل تحديا امام الرعاة والقيادة الكنسية‪ ،‬مما يستدعي وضع‬
‫استراتيجية متقدمة للتواصل مع الاطفال والشباب ومساعدتهم في النمو في الايمان‬
‫والشهادة‪ .‬كما وتعمل المطرانية حاليا على تشجيع الدعوات الخاصة للشباب للتق ُّدم‬

‫لدراسة اللاهوت والسعي نحو الرسامة المقدسة‪.‬‬
‫‪ -3‬الاوضاع الاقتصادية‪:‬‬

‫تتح َّمل مطران َّية القدس مسؤول َّية ادارة ‪ 32‬مؤسسة على الاقل‪ ،‬وتشغيل حوالي‬
‫‪ 1500‬موظف في شتى انواع الاعمال الخدماتية والتعليمية والرعائية والتأهيلية‪ ،‬مما‬
‫يضع على عاتقها مسؤولية مالية ضخمة‪ .‬ذلك عدا دعم ابناء الكنيسة وبناتها بطرق‬

‫‪59‬‬

‫متنوعة‪ .‬وبسبب طبيعة بعض المؤسسات الخيرية‪ ،‬تحتاج المطرانية الى دعم دائم من‬
‫الاصدقاء والشركاء حول العالم‪ ،‬عدا ما تتبرع به المؤسسات والاشخاص والكنائس‬
‫المحل َّية‪ ،‬وما تجمعه الكنيسة من ايجارات واستثمارات وقف َّية‪ .‬وفي ظل جائحة كورونا‪،‬‬
‫اصبحت الامور أصعب وأكثر تعقيدا بالنِّسبة إلى الوضع المعيشي والاقتصادي‬

‫للمطرانية والناس‪ ،‬مما يضعنا امام تحديات جديدة وصعبة‪.‬‬

‫‪ -4‬العمل المسكوني والبحث عن هوية‪:‬‬

‫ُتعت َب الكنيسة الأسقفية سباقة في العمل المسكوني في العالم والمنطقة‪ ،‬وقد كانت‬
‫من اوائل المساهمين في تأسيس مجلسي الكنائس العالمي والشرق الاوسط‪ .‬وتحاول‬
‫الكنيسة تحديد هويتها الخاصة التي تجمع الكاثوليكية والإنجيلية م ًعا‪ ،‬وأي ًضا من‬
‫حرصها على إسم الإنجيليين في منطقة ملتهبة من عالم أصبح الإنجيليون متهمون‬
‫فيه بالتطرف خصو ًصا في الولايات المتحدة الأميركية‪ ،‬ان التحديات كبيرة والعمل‬

‫مستمر في مواجهتها وإيجاد الحلول المناسبة مع جميع الأطراف‪.‬‬

‫وبرأي ّي الشخصي‪ ،‬على كنيستنا الاسقفية أن تنتهج الوسطية في هويتها الاسقفية‬
‫التي كانت منذ البدء جس ًرا بين الكنائس‪ ،‬حيث فكرها الانجيلي الكتابي والمنفتح على‬
‫العقل والعلوم‪ ،‬وطقوسها القريبة من الكاثوليكية الغربية‪ ،‬ونظامها الاداري المجمعي‪،‬‬
‫بالاضافة الى التقارب الايماني «والعقائدي» الكبير مع الارثوذكس‪ .‬كل هذه العوامل‬
‫يجعلها قادرة على ان تكون على علاقة طيبة مع الجميع‪ ،‬وجسرا للمسكونية‪ .‬ولا مما لا‬

‫ش َّك فيه أن الالتفات الى احد هذه العوامل دون سواه س ُيفقدنا جز ًءا من دورنا‪.‬‬

‫‪60‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫وفي النهاية اقتبس قولاً لرئيس أساقفة كانتربري إدوارد وايت بنسون‪ ،‬الذي‬
‫قال عام ‪« :1896‬إن الكنيسة (الانجيلية) الإنجليكانية هي كاثوليكية‪ ،‬رسولية‪،‬‬

‫بروتستانتية ُمص َلحة»‪.‬‬
‫مراجع المقال‪:‬‬

‫‪ -‬الآرشديكون رفيق فرح‪ .‬تاريخ الكنيسة الاسقفية في مطرانية القدس ‪-1841‬‬
‫‪ 1991‬في جزئين‪ .‬اصدار مطرانية القدس‪.1995 ،‬‬

‫‪ -‬الآرشديكون رفيق فرح‪ .‬معالم الطريق‪ .‬صادر عن مطرانية القدس‪. ..... ،‬‬
‫‪A.L. Tibawi. British Interests in Palestine 1800-1901. -‬‬

‫‪.London: Oxford University Press, 1961‬‬
‫‪ -‬القس د‪ .‬عيسى دياب‪ .‬مدخل الى تاريخ الكنائس الانجيلية ولاهوتها‪ .‬بيروت‪:‬‬

‫دار منهل الحياة ‪.2009،‬‬
‫‪ -‬القس جورج القبطي‪ .‬الكنيسة الانجيلية الاسقفية العربية في القدس والشرق‬

‫الاوسط ( مجلة الاخبار الكنسية ‪ ،)2006-1‬ص ‪.23-20‬‬

‫‪61‬‬

‫القس د‪ .‬حكمت ق ّشوع*‬ ‫الكنيسة المعمدان ّية‬
‫الانجيل ّية في لبنان‬

‫بين إرث الماضي وتط ّلعات المستقبل‬

‫الكنيسة في المشرق‪:‬‬

‫يكشف لنا إنجيل م ّتى حقيقة تاريخ ّية نسته ّلها بهذا المقال؛ جاء في الإنجيل المق ّدس‪:‬‬
‫«ث ّم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا» (متى ‪ .)٢١ :١٥‬أمامنا‪،‬‬
‫إحدى أه ّم الشهادات الكتاب ّية التي تؤ ّكد مرور الر ّب يسوع المسيح بلبناننا العزيز‪ .‬لا‬
‫ش ّك في أ ّن لهذا المشهد مدلولاً لاهوت ًّيا مه ًّم‪ ،‬هو أ ّن الأُممي ّي ن ِعموا هم أي ًضا بخدمة‬
‫يسوع على الأرض‪ ،‬ح ّتى قبل قيامته من بين الأموات وانطلاق الرسل بالكرازة لهم‪.‬‬
‫وما ُيلفت انتباهنا في هذه الحادثة الكتاب ّية‪ ،‬هو مبادرة المرأة اللبنان ّية الكنعان ّية نحو‬
‫المسيح‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬الأمر الذي جعل المسيح يمتدح إيمانها العظيم‪ .‬وفي نهاية‬

‫المطاف‪ ،‬نال هذا الايمان الجريء مطل َبه ف ُشفيت ابن ُتها من تلك الساعة‪.‬‬

‫وبعد حلول الروح القدس‪ ،‬وانطلاق الكنيسة إلى العالم مب ِّش ًة بالمسيح‪ُ ،‬ولدت‬
‫ما بين العامين ‪ ٣٥‬و‪ ٦٠‬للميلاد كنيستان على الأق ّل في لبنان؛ واحدة في صور (أعمال‬
‫‪ )٧-١ :٢١‬وأخرى في صيدا (أعمال ‪ .)٤-٣ :٢٧‬فالنشاط الرسول ّي الذي كان قائ ًم‬

‫* راعي كنيسة القيامة ‪ -‬بيروت‬

‫‪62‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫بين أورشليم وأنطاكية‪ ،‬على مدى العصور المختلفة‪ ،‬أسهم في تأسيس كنائس على‬
‫طول الساحل اللبناني بداي ًة‪ ،‬ث ّم في ازدهار الكنيسة واتساعها على مدى الوطن‪.‬‬

‫م َّر تاريخ الكنيسة في لبنان‪ ،‬كسائر الكنائس في العالم‪ ،‬بحقبا ٍت من النم ّو والازدهار‬
‫والعمران‪ ،‬ولكن أي ًضا بأزمنة اضطها ٍد وضي ٍق وفتو ٍر وخمول‪ .‬لقد كافحت الكنيسة‪،‬‬
‫من خلال قاد ٍة أوفياء‪ ،‬ثابتين في الإيمان‪ ،‬من أجل المحافظة على شهادتها والمجاهرة‬
‫بإيمانها في ظ ّل ك ٍّل من الامبراطور ّية الوثن ّية (ح ّتى عام ‪٣١٣‬م)‪ ،‬والامبراطور ّية‬
‫المسيح ّية (‪٦١٠-٣١٣‬م)‪ ،‬ومنذ ظهور الإسلام ح ّتى الحملات الصليب ّية (‪-٦١٠‬‬
‫‪١١٠٠‬م)‪ ،‬ومنذ الحملات الصليب ّية ح ّتى الفتح العثماني (‪١٥١٦-١١٠٠‬م)‪ ،‬ومنذ‬
‫الفتح العثماني إلى إعلان دولة لبنان الكبير عام ‪ ،١٩٢٠‬وهي لا تزال تكافح ح ّتى يومنا‬
‫هذا‪ .‬وكان للإصلاح البروتستانت ّي أو الإنجيل ّي دو ٌر رائ ٌد في «إصلاح» الكنيسة‪ ،‬من‬
‫خلال التشديد على كلمة الله المغ ّية‪ ،‬وعقيدة الخلاص بالإيمان‪ ،‬والاعتقاد بكهنوت‬
‫جميع المؤمنين‪ ،‬كما ش ّدد على ح ّر ّية الضمير‪ ،‬وأه ّم ّية الكرازة‪ .‬كما وأولى الإنجيل ّيون‬
‫اهتما ًما كبي ًرا بالنواحي الأخلاق ّية‪ ،‬فعاشوا حيا ًة تليق بالر ّب في المجتمع الذي انتموا‬

‫إليه‪ ،‬ور ّكزوا على أه ّم ّية تربية شعوبهم ومجتمعاتهم وتثقيفهم‪.‬‬

‫وفي مق ّدمة الفصل الرابع والعشرين من كتاب «المسيح ّية عبر تاريخها في المشرق»‪،‬‬
‫يشير مح ّررو الكتاب‪ ،‬الق ّس الدكتور حبيب بدر‪ ،‬والدكتورة سعاد سليم‪ ،‬والدكتور‬
‫جوزيف أبو نهرا‪ ،‬إلى أ ّن «الكنائس الإنجيل ّية الموجودة في الشرق الأوسط وشمال‬
‫أفريقيا هي جز ٌء من الكنائس الإنجيل ّية في العالم (المعروفة أي ًضا بالبروتستانت ّية) والتي‬
‫نشأت بعد قيام حركة إصلاح داخل الكنيسة الكاثوليك ّية في أوروبا‪ ،‬في القرن السادس‬

‫‪63‬‬

‫عشر‪ .‬جذور الفكر الإنجيل ّي في المشرق ولاهوته وثقافته مستم ّدة من ينابيع أوروب ّية‪.‬‬
‫غير أ ّن عائلة الكنائس الإنجيل ّية الشرق ّية اكتسبت‪ ،‬عبر السنوات‪ ،‬طاب ًعا محل ًّيا متأ ّصل ًا‬
‫م ّكنها من أن تصبح جز ًءا طبيع ًّيا من هذا الشرق ‪ -‬تنهل منه وتغتني‪ ،‬كما تسهم فيه‬
‫و ُتغنيه‪( ».‬الطبعة الأولى‪ ،‬ص‪ .)٧١٣ .‬وهذا الكلام صحي ٌح ودقي ٌق خصو ًصا في ما‬
‫يخ ّص ولادة الكنيسة المعمدان ّية في العالم وعلاقتها بالكنيسة المعمدان ّية في لبنان بوج ٍه‬

‫خا ّص‪.‬‬

‫الكنيسة المعمدان ّية في العالم‪:‬‬

‫ُولدت الكنيسة المعمدان ّية من حضن الإصلاح الإنجيل ّي‪ ،‬وهي اليوم فر ٌع من‬
‫فروعه‪ .‬ويشهد تاريخ الكنيسة المعمدان ّية على كون هذه الأخيرة تأ ّثرت بحركة‬
‫راديكال ّية عرفت ب ِـ«الأنابابتيست» (أي معيدو المعمود ّية)‪ ،‬وتعود جذور هذه الحركة‬
‫إلى المصلح المشهور أورليخ زوينغلي‪ ،‬من مدينة زيورخ السويسر ّية‪ .‬فقد أ َّدى الكاهن‬
‫الأنجليكاني جون سيمث‪ ،‬الذي انفصل عن الكنيسة الرسم ّية سنة ‪١٦٠٦‬م‪ ،‬وتوماس‬
‫هلويس‪ ،‬وغيرهم من قادة الحركات البيوريتان ّية (التطهير ّية)‪ ،‬دو ًرا ُمهمًّ في تأسيس‬
‫الكنيسة المعمدان ّية‪ .‬ويوجز الق ّس الدكتور غ ّسان خلف بدايات الكنيسة المعمدان ّية‪،‬‬
‫الغامضة بعض الشيء‪ ،‬بأ ّنه بعدما ُطرد ال ُمن َش ّقون عن الكنيسة الرسم ّية من إنكلترا‬

‫واضط ُّر المؤمنون إلى الهرب إلى أمستردام في هولندا‪ ،‬حدث الآتي‪:‬‬

‫«في أمستردام‪ ،‬اقتنع جون سميث وقومه بهذه العقائد من خلال درسهم المتواصل‬
‫للعهد الجديد‪ ،‬ومن تأثير المينوو ّيين (‪ )Mennonites‬جيرانهم‪ ،‬فتبنّوا موقف‬
‫الأنابابتيست الخا ّص بمعمود ّية البالغين‪ .‬وبعد مناقشة الموضوع مع مستق ّلين إنكليز‬

‫‪64‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫آخرين في أمستردام بهذا الصدد‪ ،‬ا ّتبع نحو أربعين شخ ًصا من جماعة كاينز بوروه رأي‬
‫سميث وهلويسومورتن في خطوتهم‪ ،‬نحو تأسيس كنيسة إنجيل ّية ُتع ّمد البالغين‪.‬‬
‫فطلبوا من المينوو ّيين الأنابابتيست أن ُيع ّمدوهم‪ ،‬فع ّمدوهم بعد اعترافهم علنًا‬

‫بإيمانهم بالمسيح»‪ .‬كان ذلك في عام ‪.١٦١٠‬‬

‫رجع توماس هلويس وفريق من الكنيسة إلى إنكلترا أوائل عام ‪ ،١٦١٢‬وهناك‬
‫كانوا أ ّول كنيسة «معمدان ّية» تتأ ّسس على الأرض الإنكليز ّية‪( ».‬تاريخ الكنائس‬
‫المعمدان ّية في لبنان‪ُ :‬تراث مسيح ّي أصيل في فسيفساء لبنان ‪ ،٢٠٠٠-١٨٩٥‬ص‪.‬‬

‫‪.)٣٦‬‬

‫وقبل أن نتط ّرق إلى الحديث عن تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان‪ ،‬يجدر بنا أن‬
‫نذكر أبرز ما كان الأنابابتيست يؤمنون به‪ ،‬لأ ّنه يشبه إلى ح ٍّد كبير ما يؤمن به اليوم‬
‫المعمدان ّيون حول العالم‪ ،‬ح ّتى ولو اختلفوا في وجهات النظر بشأن بعض التفاصيل‬

‫الصغيرة‪ ،‬أو صار التشديد على نقا ٍط مع ّينة أكثر من سواها‪.‬‬
‫لقد ع ّب الأنابابتيست عن إيمانهم على النحو الآتي‪:‬‬

‫ ‪ -‬الإيمان بالله الواحد في ثلاثة أقانيم‪ :‬الآب والابن والروح القدس‪.‬‬

‫‪ -‬الثالوث الأقدس جوه ٌر واح ٌد متماي ٌز في الأقنوم ّية‪.‬‬
‫ ‪ -‬تج ّسد الكلمة من مريم العذراء ليصير الإله‪-‬الإنسان يسوع المسيح‪.‬‬

‫ ‪ -‬عمل المسيح الك ّفار يالبديلي على الصليب‪.‬‬

‫‪ -‬سلطة الكتاب المق ّدس ووحيه وكونه القاعدة الوحيدة ‪Sola Scriptura‬‬

‫‪65‬‬

‫للإيمان والسلوك‪.‬‬

‫ ‪ -‬الإعلان الإلهي تق ّدمي يبلغ ذروته في العهد الجديد‪.‬‬
‫ ‪ -‬سرد العقائد على منوال قانون الإيمان النيقاوي وتفاصيله‪ ،‬والروح القدس‬

‫منبثق من الآب والابن‪.‬‬

‫ ‪ -‬التبرير بالإيمان وحده‪ ،‬ولكنه ُيبر َهن الإيمان بالأعمال‪ .‬التبرير بالإيمان ليس‬
‫إقرا ًرا لفظ ًّيا‪ ،‬بل ُينتج حيا ًة جديدة‪.‬‬

‫‪ -‬يعني الإيمان التو ّجه الح ّر نحو الله‪ ،‬لذلك لا إكراه في العلاقة مع الله‪.‬‬
‫‪ -‬تخ ّص المعمود ّية المؤمن البالغ الذي يجب أن يجيب بوع ٍي عن سبب إيمانه‬

‫بالمسيح‪.‬‬
‫ ‪ -‬الكنيسة منظورة وغير منظورة‪ ،‬مح ّل ّية وكون ّية‪ ،‬والتشديد عندهم على الصفة‬

‫الأولى‪.‬‬

‫ ‪ -‬أساس الكنيسة الأوحد هو يسوع المسيح‪ ،‬وهو رأسها وفاديها وشفيعها‪.‬‬
‫‪ -‬تتأ ّلف الكنيسة من جماعة ُمع ّمدة تنادي بالإنجيل وتمارس المعمود ّية والعشاء‬

‫الر ّبان ّي‪.‬‬
‫‪ -‬نظام الكنيسة جمهور ّي والإدارة مح ّل ّية في معظم الحالات‪ .‬ق ّلما نادوا بسلطة‬
‫مركز ّية تربط ك ّل الجماعات ضمن نظام أبرش ّي‪ُ .‬ت ّتخذ القرارات بالأكثر ّية الواضحة‬

‫وبروح الصلاة والمح ّبة والإيمان‪ ،‬بلا سلطة آمرة‪ ،‬أو إكراه‪ ،‬أو إرغام‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫ ‪ -‬خطوات الإيمان المسيح ّي‪ :‬التوبة‪ ،‬الخلاص‪ ،‬المعمود ّية‪ ،‬الانضمام إلى الكنيسة‪،‬‬
‫النم ّو في النعمة وحياة القداسة‪ ،‬ونشر الإنجيل والخدمة الاجتماع ّية‪.‬‬

‫‪ -‬المعمود ّية هي باب الدخول إلى الكنيسة المح ّل ّية وإلى شركة الق ّديسين‪.‬‬
‫‪ -‬العشاء الر ّباني ذكرى وا ّتاد بالمسيح لا ذبيحة‪ ،‬ولا ُيق َّدم لأح ٍد منفر ًدا‪ ،‬بل مع‬

‫الجماعة التي تؤ ّلف الجسد الواحد‪.‬‬

‫ ‪ -‬شروط الاشتراك في العشاء الر ّباني‪ :‬المعمود ّية‪ ،‬السلوك المق ّدس‪ ،‬العقيدة‬
‫السليمة‪ ،‬المح ّبة الأخو ّية‪ ،‬عدم استخدام السيف‪ .‬المذنب بخطايا تستح ّق التأديب‬

‫ُيفصل عن عشاء الر ّب‪.‬‬
‫‪ -‬فصل الدين عن الدولة‪ .‬لا رابط بين الكنيسة والدولة‪ ،‬أو الدولة والكنيسة‪.‬‬
‫فالكنيسة تعيش في الدولة‪ ،‬وتطيع ك ّل الأنظمة التي ُتق ّرها الدولة‪ ،‬عدا تلك التي يأباها‬
‫الضمير المسيح ّي‪ .‬كان شعارهم‪« :‬أعطوا السيف للدولة‪ ،‬هذا ترتيب الله لضبط النظام‬

‫العا ّم والمدافعة ض ّد أعداء الوطن»‪ ،‬ورفضوا استعماله ككنيسة‪.‬‬
‫‪ -‬رفض استعمال العنف والإذلال والتعذيب والإعدام ض ّد أي إنسان بسبب‬
‫موقفه الإيماني الضميري من أي جن ٍس أو دي ٍن كان‪ ،‬بمن فيهم الهراطقة وأصحاب‬
‫البدع‪ .‬فيح ّق لك ّل إنسان أن يؤمن بالمسيح أو لا يؤمن به‪ ،‬أكان ُمسل ًم‪ ،‬أم يهود ًّيا‪ ،‬أم‬
‫كاثوليك ًّيا‪ ،‬أم أنابابتيس ًّيا‪ ،‬فهذا ح ّق من حقوق البشر‪ ،‬والمساءلة في ذلك تخ ّص ضمير‬

‫ك ّل إنسان والله‪.‬‬

‫ ‪ -‬بسبب الاضطهاد المستم ّر والعنيف ض ّدهم‪ ،‬نما رجاؤهم بعودة المسيح‬

‫‪67‬‬

‫شخص ًّيا للحكم العادل والسلام‪ ،‬فكان الرجاء برجوع المسيح الوشيك وتأسيس‬
‫ملكوت الله في الأرض مأملهم الأ ّول‪ .‬ولا ش ّك في أ ّن هذا الاعتقاد ساعدهم على‬

‫تح ّمل العذاب والاستشهاد‪(».‬تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان‪ ،‬ص‪.)٣٤-٣٣ .‬‬

‫لقد وصل اليوم عدد المعمدان ّيين إلى أكثر من مئة مليون‪ ،‬ينتمون إلى أكثر من مئتين‬
‫وخمسين ألف كنيسة مح ّل ّية في أكثر من ‪ ١٣٠‬بل ًدا حول العالم‪ ،‬من ضمنها لبنان‪.‬‬

‫الكنيسة المعمدان ّية في لبنان‪:‬‬

‫تأ ّسست أ ّول كنيسة معمدان ّية في الشرق الأدنى‪ ،‬في بيروت‪ ،‬لؤلؤة المتو ّسط‪،‬‬
‫عام‪ ،١٨٩٥‬وكان الق ّس سعيد الجريديني الراعي الأ ّول عليها‪ .‬ولد الجريديني في ‪١٧‬‬
‫أ ّيار ‪ ١٨٦٦‬في بلدة الشويفات‪ .‬درس في مدرسة الإرسال ّية البريطان ّية في الشويفات‪،‬‬
‫ومدرسة الإنكليز في عين زحلتا‪ ،‬وأصبح في ما بعد مص ّو ًرا فوتوغراف ًّيا معرو ًفا في باب‬
‫إدريس في بيروت‪ .‬سافر سعيد إلى شيكاغو عام ‪ ١٩٨٣‬ليساعد ع ّمه في عمله في معر ٍض‬
‫دول ّي مشهور‪ .‬وفي الولايات الم ّتحدة اهتدى إلى المسيح‪ ،‬واختبر الإيمان الشخص ّي‬
‫به وغفران خطاياه‪ .‬عاد إلى لبنان ممتل ًئا من روح الر ّب والدعوة للخدمة والشهادة‪.‬‬
‫ويشير الق ّس سليم ال ّشاروق‪ ،‬في كتابه «تاريخ المعمدان ّيين»‪ ،‬إلى أ ّن «الجريديني [كان]‬
‫واع ًظا حا ًّرا غ ّيو ًرا ح ّتى ُل ِّقب بالواعظ الساحر لتأثير وع ِظه [‪ ]...‬ح ّتى َقبِل الخلاص‬
‫كثيرون» (تاريخ الكنائس المعمدان ّية في لبنان‪ ،‬للقس د‪ .‬بيار فرنسيس‪ ،‬ص‪.)٧٠ .‬‬
‫وفي أيلول عام ‪١٨٩٥‬جرت رسامته على يد الق ّس وليم سميث وخ ّدا ٍم من كنيسته‪،‬‬
‫كانوا قد قدموا من الولايات الم ّتحدة لهذه الغاية‪ .‬ومن ذلك الحين بدأت الخدمة‬
‫المعمدان ّية تتو ّسع في لبنان‪ ،‬وبحسب الق ّس د‪ .‬صموئيل خ ّراط‪ ،‬رئيس مجمع الكنائس‬

‫‪68‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫المعمدان ّية الإنجيل ّية في لبنان‪ ،‬فإ ّن الكنائس المعمدان ّية تتواجد اليوم في ك ٍّل من راش ّيا‬
‫الوادي‪ ،‬وكفر ِمشكي‪ ،‬والمصيطبة‪ ،‬وطرابلس‪ ،‬والم ّية وم ّية‪ ،‬وبكف ّيا‪ ،‬وبدارو‪ ،‬وخربة‬
‫قنافار‪ ،‬وعين دارة‪ ،‬وزحلة‪ ،‬ورأس بيروت‪ ،‬والحدث‪ ،‬والفنار‪ ،‬ورياق‪ ،‬وكفرحبو‪،‬‬
‫وراس َمسقا‪ ،‬وبِشم ِّزين‪ ،‬ورحبة‪ ،‬والمنصور ّية‪ ،‬ودير ميماس‪ ،‬وكرم الزيتون‪ ،‬والدورة‪،‬‬
‫وح ّي الوتوات‪ ،‬والمنيارة‪ ،‬ومرجعيون‪ ،‬والأشرف ّية‪ ،‬وبعلب ّك‪ ،‬وبحمدون‪ ،‬وعمشيت‪،‬‬

‫وب ّلونة‪ ،‬وس ّد البوشر ّية‪ ،‬والجديدة‪ ،‬وس ّن الفيل‪ ،‬وعين زحلتا‪.‬‬

‫وكان للعديد من الرعاة والخ ّدام المعمدان ّيين إسهام ًا في النتاج الأدب ّي والروح ّي في‬
‫الشرق‪ ،‬نذكر بعض الذين سبقونا إلى المجد‪ ،‬على سبيل المثال لا الحصر‪ ،‬الق ّس نجيب‬
‫خلف‪ ،‬والق ّس سليم ال ّشاروق‪ ،‬والق ّس الياس الصليبي‪ ،‬والق ّس غ ّسان خلف‪ .‬كما لا‬
‫يزال عد ٌد من الرعاة المث ّقفين والقادة ال ّلمعين في مجتمعنا اليوم‪َ ،‬لُم إسهامات ج ّمة على‬
‫الصعيد الروح ّي والأدب ّي والعلم ّي‪ ،‬قد لا تكفي صفحات هذا المقال لنع ّددها‪ .‬كما أ ّن‬
‫للمؤ ّسسات المعمدان ّية في لبنان حضورها الفاعل وتأثيرها في لبنان والمشرق؛ أبرزها‬
‫مدرسة بيروت المعمدان ّية‪ ،‬ودار النشر المعمدان ّية (دار منهل الحياة)‪ ،‬وك ّل ّية اللاهوت‬
‫المعمدان ّية العرب ّية‪ ،‬ومجمع الكنائس المعمدان ّية الإنجيل ّية في لبنان‪ ،‬والجمع ّية المعمدان ّية‬
‫(الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء ال ّتبوي والاجتماعي)‪ ،‬ومدارس لتعليم الأولاد ذوي‬
‫الدخل المحدود وعيادة الشافي التابعة لكنيسة القيامة المعمدان ّية في الحدث‪ -‬بعبدا‪.‬‬
‫فض ًل عن خدما ٍت ومراكز أخرى أنشأتها كنائس مح ّل ّية‪ ،‬مثل خدمة السجون‪ ،‬ومراكز‬
‫طب ّية‪ ،‬ومؤ ّسسات خير ّية عديدة‪ ،‬ومراكز للإرشاد النفسي والأسري‪ .‬وما يم ّيز هذه‬
‫الخدمات هو أ ّنا في معظم الأحيان تق ّدم خدمات شبه مجّانية من غير أ ّي تميي ٍز بين دي ٍن‬

‫وآخر‪.‬‬

‫‪69‬‬

‫بعض النماذج عن خدمة الكنائس والمؤ ّسسات المعمدان ّية في لبنان‪:‬‬

‫كنيسة القيامة المعمدان ّية الإنجيل ّية في الحدث‪-‬بعبدا المعروفة بـِ‪Resurrection‬‬
‫‪Church Beirut‬‬

‫من ركائز كنيسة القيامة التشديد على حياة العبادة الجماع ّية والفرد ّية‪ ،‬والوعظ‬
‫التفسيري الكتابي‪ ،‬والتعليم العمل ّي‪ ،‬والكرازة الشاهدة لمح ّبة المسيح وخلاصه‬
‫الأبد ّي‪ ،‬والشركة العميقة المؤ َّسسة على قيم مشتركة‪ ،‬وخدمة المجتمع من حولها‪.‬‬
‫فالنم ّو الحقيقي هو النم ّو في النوع والعدد والتأثير‪ .‬ومع بداية الحرب في سوريا‬
‫والعراق‪ ،‬ونزوح اللاجئين إلى الأراضي اللبنان ّية‪ ،‬رأت كنيسة القيامة الحاجة إلى‬
‫خدمة المحتاج والجار والمتألمّ في مجتمعها‪ ،‬فانك ّبت على تقديم الحصص الغذائ ّية‪،‬‬
‫والاحتياجات الأساس ّية من حليب‪ ،‬وحفاضات‪ ،‬وألبسة‪ ،‬وب ّطان ّيات‪ ،‬وأجهزة تدفئة‪،‬‬
‫وموا ّد إغاث ّية أخرى لحوالي‪ ٩٠٠‬أسرة شهر ًّيا بين لاجئين ولبنان ّيين‪ .‬كما أ ّنا أتاحت‬
‫برامج تعليم ّية لأطفال اللاجئين من خلال مشروع دعم التعليم «‪.»LSP‬وقد تبنّت‬
‫أي ًضا مركز «‪ »GROW‬الذي ُيعنى بالأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة‪ ،‬وهو يحوي‬
‫اليوم أكثر من سبعين طفل ًا تتراوح أعمارهم بين سنة و‪ ٤‬سنوات‪ .‬هذا واستحدثت‬
‫الكنيسة عيادة خا ّصة أطلقت عليها اسم «كلينيك الشافي»‪ ،‬تو ّفر الرعاية الطب ّية من‬
‫معاينات وأدوية وفحوصات مخبر ّية للاجئين‪ ،‬وأسر المجتمع المح ّل‪ ،‬مقابل مبل ٍغ زهي ٍد‬
‫من المال‪ .‬وقد أطلقت مؤ ّخ ًرا خدمة «‪ »NOHA‬لدعم الاستشفاء‪ ،‬كخطوة أولى‬

‫للعناية بالأشخاص المصابين بأمرا ٍض مزمنة ومستعصية‪.‬‬

‫وعلى أثر ما لحق بالوطن من نكبات اقتصاد ّية وصح ّية‪ ،‬كان أوجها انفجار مرفأ‬

‫‪70‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫بيروت الكارثي‪ ،‬ج ّهزت كنيسة القيامة فر ًقا لتقوم بإعداد الطعام وتوزيعه على الأسر‬
‫المنكوبة‪ ،‬وتساعد في التنظيف وإزالة الركام والترميم‪ ،‬كمبادرة أ ّول ّية من أجل الوقوف‬
‫إلى جانب المتأ ّلين في هذه المرحلة العصيبة التي يم ّر بها البلد‪ .‬وقد و ّفرت خ ًّطا ساخنًا‬
‫لمن يرغب في الاتصال من أجل المشورة والإرشاد لمساعدة الأشخاص المتأ ّثرين‬

‫بالحادثة‪.‬‬

‫تؤمن قيادة كنيسة القيامة بأ ّن العالم لا ُتلهمه المشاريع والأفكار بل أفرا ٌد وأنا ٌس‬
‫يمتلكون شخص ّيات متم ّيزة‪ ،‬وقد عمدت إلى تطبيق مفهوم اللامركز ّية في الخدمة‪،‬‬
‫وتدريب قادة وخ ّدام تجمعهم رؤية واحدة‪ .‬وقد استطاعت هذه الكنيسة من خلالهم‬
‫أن تصنع فر ًقا في مجتمعها المح ّل‪ ،‬وأن ُتدث تغيي ًرا في حياة الكثير من الأشخاص‪.‬‬
‫وهي لا تزال ح ّتى اليوم تسعى إلى تحقيق النم ّو لدى أعضائها‪ ،‬على المستوى الفردي‬
‫والجماعي‪ ،‬من خلال دورات في أسس التربية السليمة والزواج الناجح‪ ،‬وبرنامج‬
‫ألفا الذي يستقطب أفراد المجتمع ويدعوهم إلى الانخراط في حوارات ومناقشات‬
‫حول معنى الحياة وغاية الوجود‪ .‬ولا نن َس أ ّن كنيسة القيامة تقوم بدورات لتدريب‬
‫القادة والرعاة بشكل دو ّري‪ ،‬كما أ ّنا مؤ ّخ ًرا قامت باستحداث صفحة خا ّصة بها على‬
‫مواقع التواصل الاجتماعي تستخدمها كمن ّصة لنشر رسالة المسيح‪ ،‬وقد استطاعت‬
‫من خلالها أن تقوم بتلمذة عد ٍد كبير من المتابعين بجهود ومساعي فري ٍق من الخ ّدام‬

‫والرعاة المتف ّرغين لهذه الخدمة‪.‬‬

‫كنيسة عين زحلتا المعمدان ّية‪:‬‬

‫هي كنيسة منبثقة عن كنيسة القيامة المعمدان ّية في الحدث‪ ،‬تض ّم ‪ ٢٥‬مجموعة بيت ّية‬

‫‪71‬‬

‫تجتمع أسبوع ًّيا لدراسة الكتاب والشركة‪ .‬وبحسب راعيها الق ّس أمل سعد‪ ،‬فإ ّن مه ّمة‬
‫هذه الكنيسة الأولى هي العمل على تأهيل قادة من خلف ّية غير مسيحية‪ ،‬وإعدادهم‬
‫لتلمذة أبناء مجتمعهم‪ ،‬من خلال دورات تدريب ّية في علم التفسير والدفاع ّيات‪ .‬كما أ ّنا‬
‫كنيسة مندفعة لخدمة المجتمع المح ّل‪ ،‬فهي لم تتوا َن عن تقديم الدعم والمساندة للذين‬
‫تض ّررت منازلهم من ج ّراء الانفجار الذي أصاب العاصمة‪ ،‬وقد أسهمت في عمل ّية‬
‫إزالة الركام وترميم الزجاج والأبواب لحوالي ‪ ٣٠٠‬منزل‪ ،‬كما قامت بتوزيع الأدوات‬
‫الكهربائ ّية من ب ّرادات‪ ،‬وغ ّسالات وأفران غاز على الأسر المتض ّررة‪ .‬واهت ّمت الكنيسة‬
‫أي ًضا بص ّحة أبناء المجتمع النفس ّية‪ ،‬فأقامت مؤتم ًرا للس ّيدات موضوعه «اضطراب‬
‫ما بعد الصدمة و ُس ُبل التعافي منه»‪ ،‬كما وأ ّنا عمدت إلى متابعة عدد من الس ّيدات‬
‫المتأ ّثرات بالحادثة من خلال جلسات إرشا ٍد نفس ّي‪ .‬وهي اليوم تو ّفر لنساء المجتمع‬

‫المح ّل الرعاية والدعم من خلال مركز «أنا امرأة» الذي ُيعنى بص ّحة المرأة‪.‬‬

‫كنيسة رأس بيروت المعمدان ّية الإنجيل ّية‪:‬‬
‫انسجا ًما مع دعوتها ورؤيتها‪ ،‬تق ّدم كنيسة رأس بيروت المعمدان ّية خدما ٍت متن ِّوع ًة‬
‫تطال الفئات العمر ّية كا ّفة‪ ،‬أبرزها نوا ٍد رياض ّية يمكن أن يمارس فيها الأولاد بعض‬
‫النشاطات مثل الكاراتيه والرياضة البدن ّية‪ ،‬وكان للنساء فيها ح ّص ٌة أي ًضا من خلال‬
‫صفوف الزومبا التي و ّفرتها الكنيسة لتشجيع الس ّيدات على الرياضة واللياقة البدن ّية‪.‬‬

‫ويقول راعيها الق ّس شارلي قسطه‪« :‬أ ّنه مع بداية الثورة وما نتج منها من تبعات‬
‫اقتصاد ّية‪ ،‬وبعدها جائحة الكورونا‪ ،‬فالانفجار الكبير الذي أصاب قلب البلد‪،‬‬
‫عملت الكنيسة على تلبية احتياجات المجتمع على قدر طاقتها‪ .‬فهي اليوم تدعم ما‬

‫‪72‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫يقارب ‪ ٤٠٠‬عائلة شهر ًّيا بصناديق الأطعمة‪ ،‬وتشارك بعض العائلات في إعادة بناء‬
‫ما ته ّدم‪ ،‬وتق ّدم الدعم العين ّي عند الحاجة‪ .‬ويقوم عدد من أعضاء الكنيسة بزيارات‬
‫إلى الأسر والأفراد المتض ّررين من أجل التف ّقد والدعم والتشجيع‪ .‬كما وساعد عد ٌد من‬
‫شبيبة الكنيسة في عمل ّيات رفع الأنقاض وتنظيف الشوارع وتوزيع الطعام في المناطق‬
‫المنكوبة‪ ،‬خلال الأ ّيام الأولى التي تلت انفجار ‪ ٤‬آب‪ .‬كما أن للكنيسة من ّصة إلكترون ّية‬
‫على صفحات التواصل الاجتماعي تر ّوج من خلالها للخدمات والنشاطات التي‬

‫تق ّدمها لأبناء المجتمع»‪.‬‬

‫الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء التربوي والاجتماعي ‪:LSESD‬‬

‫دأبت الجمع ّية اللبنان ّية للإنماء التربوي والاجتماعي ‪ LSESD‬منذ تأسيسها عام‬
‫‪ ،١٩٩٨‬والمعروفة بالجمع َّية المعمدان َّية‪ ،‬بخدماتها ومؤ َّسساتها كا ّفة‪ ،‬على العمل لتقوية‬
‫شهادة الكنيسة في لبنان والعالم العربي‪ ،‬وذلك من خلال تمكين الكنيسة لتكون كنيسة‬

‫فاعلة في خدمة مجتمعها‪.‬‬

‫ويقول الأستاذان نبيل قسطه ووسام نصرالله «إ ّن الجمع ّية أ ّدت دو ًرا مه ًّم في التأثير‬
‫على الكنيسة ومن خلالها على المجتمع عبر إعداد قادة لخدم ٍة ف ّعالة‪ ،‬وتأمين الموارد‬
‫الروح ّية لتمكين الكنائس وخدماتها‪ .‬كما أ ّنا عمدت إلى رفع مستوى الوعي لدى أبناء‬
‫المجتمع المح ّل‪ ،‬ومعالجة قضايا الفقر والظلم والح ّق في التعليم للجميع‪ ،‬خصو ًصا‬
‫للط ّلب الذين يعانون صعوبات تع ّلم ّية واللاجئين‪ .‬وما ذلك إ ّل نتاج نهجها الشامل‬
‫والكامل والذي هو وليد تفاعل مؤ ّسسات الجمع ّية الس ّت التالية‪ ،‬وعملها جن ًبا إلى‬

‫جنب مع الكنيسة‪ ،‬من أجل تنمية المجتمع من الناحية الروح ّية والثقاف ّية والتربو ّية‪:‬‬

‫‪73‬‬

‫ ‪ -‬ك ّل ّية اللاهوت المعمدان ّية العرب ّية ‪ ABTS‬التي لا تزال تخ ِّرج ط ّل ًبا أك ّفاء‬
‫ينطلقون إلى خدمة كنائسهم في شرقنا منذ خمسين ّيات القرن الماضي‪.‬‬

‫ ‪ -‬المدرسة المعمدان َّية في بيروت ‪ BBS‬ذات المستوى الأكاديمي المعتمد‪ ،‬وقد‬
‫كان لها دو ٌر مفصل ٌّي في تنشئة الأجيال على احترام الآخر‪ ،‬ومح ّبة الله والوطن‪.‬‬

‫ ‪ -‬دار منهل الحياة ‪ ،DMAH‬الذراع الأدب َّية للجمع َّية‪ ،‬فقد نشرت مئات‬
‫الكتب‪ ،‬وأطلقت الكثير من المنشورات في عالمنا العربي ذات الطابع الروحي والإنساني‬

‫على مدى نصف قرن‪.‬‬

‫‪ -‬مركز ‪ SKILD‬الذي يولي اهتما ًما خا ًّصا بذوي الاحتياجات الخا َّصة‬
‫والصعوبات التع ّلم َّية‪ ،‬غايته مساعدة هؤلاء الأولاد وذويهم وتهيئتهم للانخراط في‬

‫المجتمع‪.‬‬

‫‪ -‬خدمة الأولاد والشبيبة ‪ ،BCYM‬التي تهت ّم باحتياجات الأولاد والشبيبة‪،‬‬
‫خصو ًصا الروح َّية منها‪ ،‬من خلال تنظيم مؤتمرات ونشاطات على مدار السنة‪.‬‬

‫‪ -‬خدمة ميراث ‪ ،MERATH‬تأ ّسست منذ عام ‪ ٢٠٠٦‬نتيج ًة للأوضاع‬
‫التي م َّر ويم ُّر بها لبنان منذ عقود‪ ،‬تخ ِّصص نشاطاتها في الخدمات الإنسان َّية والمجتمع َّية‬

‫التنمو ّية على مساحة الوطن من خلال الكنيسة المحل َّية‪.‬‬
‫وهكذا تردم الجمع ّية اللبنانية للإنماء التربوي والاجتماعي في لبنان ثغرا ٍت عديدة‪،‬‬
‫وتبلسم جرا ًحا ع َّمقتها الكوارث والحروب‪ ،‬وتمسح دموع أطفا ٍل ظلمتهم الحياة‪،‬‬
‫وتر ّب أجيالاً هم فخ ٌر لها‪ ،‬وتنشر الكتب التي تن ّمي الروح والنفس‪ .‬ولكن الأه ّم من‬

‫‪74‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫ك ِّل هذا‪ ،‬أ ّنا لا تنسى رسالتها الأولى والأخيرة‪ ،‬ألا وهي دعم الكنيسة المحل َّية لتنطلق‬
‫بدورها إلى العالم حامل ًة الأخبار السا ّرة وبشارة الخلاص»‪.‬‬
‫جمع ّية القادة الجدد ‪:NEO Leaders‬‬

‫وردنا من الأستاذ نديم قسطه‪ ،‬وهو عض ٌو في إحدى الكنائس المعمدان ّية في بيروت‪،‬‬
‫والذي أسس جمع ّية ‪ NEO Leaders‬أو القادة الجدد‪ ،‬في لبنان عام ‪ ٢٠٠٥‬أن «هذه‬
‫الخدمة انطلقت من لبنان لتمت ّد على نطاق الوطن العرب ّي بأكمله وبعض بلدان شرق‬
‫أوروبا‪ ،‬ليتخ ّطى فريق العمل المئة شخص متف ّر ٍغ لهذه الخدمة وأكثر من ‪ ٨٠٠‬متط ّوع‪».‬‬
‫وأضاف أن «غاية هذه الخدمة هي نقل الإيمان والفكر المسيح ّيين إلى الممارسة العمل ّية‬
‫ليكونا أسلو َب حيا ٍة يوم ًّيا‪ .‬وبغية تحقيق هذا الهدف ط ّورت الجمع ّية تدريبات دور ّية‬
‫تشمل درس الكتاب الاستكشافي‪ ،‬التخطيط الاستراتيجي‪ ،‬القيادة بحسب كلمة الله‬
‫وغيرها من المواضيع المه ّمة‪ ،‬كما تتعاون مع عدد كبير من الكنائس المح ّل ّية في البلدان‬

‫التي تخدم فيها‪».‬‬

‫نظرة الى المستقبل‪:‬‬

‫يحتاج لبنان إلى كنيسة تق ّدم خدمة متم ّيزة وشاملة لمواطنيها‪ ،‬وتم ّد يد الشراكة إلى‬
‫ك ّل مح ّبيها‪ ،‬وتسعى إلى خدمة ك ّل محتاج ح ّتى مناهضيها‪ .‬وإ ّن تشكيل قادة فاعلين من‬
‫أجل تحقيق هذه الغاية هو الأمر الأساسي الذي ينبغي أن يشغل بالنا‪ ،‬وإ ّل سوف‬
‫نلحظ تراج ًعا ملحو ًظا لتأثير الخدمة المعمدان ّية في بلادنا‪ .‬والأمور التي تص ّب في‬
‫مصلحة كنائسنا وتأثيرها على المجتمع من حولها‪ ،‬والتي يجب أن نعيرها اهتما ًما خا ًّصا‬

‫‪75‬‬

‫هي الآتية‪:‬‬

‫‌أ‪ -‬ضرورة الاعتراف ببعضنا بع ًضا‪ ،‬وتقدير جهود ك ّل كنيسة ومساعيها‪،‬‬
‫معمدان ّية أو غير معمدان ّية‪ ،‬ح ّتى ولو كنّا نختلف معها في الشكل‪ ،‬أو في بعض النواحي‬
‫التي لا تم ّس جوهر الإيمان‪ .‬ويجب أن يشمل ذلك الإقرار بدعوة الله بعض المؤمنين‬
‫من خلف ّيات غير مسيح ّية للرعاية والقيادة‪ ،‬ودعمهم‪ ،‬واحترام مواهبهم كشركاء معنا‬
‫في خدمة الإنجيل‪ .‬هل للمؤمنين من خلف ّية غير مسيح ّية مكا ٌن على طاولة القيادة‬
‫والقرار‪ ،‬وهل لهم صو ٌت في تحديد مصير كنائسنا ومستقبلها؟ أو أ ّنه مر َّح ٌب بهم فقط‬

‫من أجل تدفئة المقاعد في الكنيسة‪ ،‬وكمج ّرد أرقام نستخدمها لمصالحنا الخاصة؟‬

‫‌ب ‪ -‬ضرورة توسيع إطار التعاون بيننا‪ ،‬ومواجهة الاستقلال ّية المتط ّرفة التي تد ّمر‬
‫الهو ّية المعمدان ّية و ُتضعفها‪ .‬فغياب المساءلة الش ّفافة في ظ ّل الإدارات الكنس ّية المستق ّلة‬
‫والمنعزلة عن أ ّي مرجع ّيات أم ٌر يزيد من التط ّرف الديني ومن الانحرافات العقائد ّية‬
‫أو المسلك ّية‪ .‬كيف يمكن للذي يعيش في ضوء الكلمة المق ّدسة‪ ،‬أن ينعزل عن إخوته؟!‬
‫أو يرى أن ليس هناك سواه؟! فإن كان الله الأحد ثالو ًثا مق ّد ًسا‪ ،‬أي عائل ًة‪ ،‬كيف يعيش‬

‫الإنسان‪ ،‬المخلوق على صورته‪ ،‬بمفرده؟‬

‫‌ج ‪ -‬ضرورة تطوير أساليبِنا الكراز ّية من أجل خدمة الجيل اللبناني الجديد بفعال ّية‬
‫أكبر‪ .‬فالكرازة بأدوات القرن العشرين حجبت ق ّوة الكلمة وأبعدت هذا الجيل المبدع‬
‫والمنفتح على الكلمة من الكنيسة وقيادتها وأسلوبها‪ .‬هل الكنيسة س ّباقة في تحقيق‬
‫الإبداع والتم ّيز؟! وهل تواكب التط ّور وتتك ّيف مع وسائل التواصل العصر ّية؟! هل‬
‫هي التي ُتلهم العالم من حولها‪ ،‬أو أ ّن العالم دائ ًم في المق ِّدمة وهي متع ّثرة خلفه‪ ،‬يخاصم‬

‫‪76‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫قادتها بعضهم بع ًضا ويتجادلون فيما بينهم؟! هل تو ّقف بنا الزمن وأضعنا كنزنا في قعر‬
‫المحيط بسبب التص ّلب في الرأي والإدانة والجهل؟!‬

‫‌د ‪ -‬ضرورة إعادة النظر بمصطلحاتنا المعمدان ّية لتحاكي هموم الجيل الجديد‪،‬‬
‫خصو ًصا أ ّن عظاتنا اليوم أصبحت متاحة للجميع من خلال التواصل الاجتماعي‬
‫والإنترنت‪ .‬هل تعابيرنا مفهومة للجيل الصاعد؟ وهل أساليبنا في تقديم رسائلنا‬
‫تجذب انتباه أبناء بيئتنا؟ وهل شخص ّيتنا المق ّدسة منفتحة نحو قبول الآخر أو منغلقة‬
‫على ذاتها؟ وهل مبانينا ومراكزنا تجعل البعيدين يشعرون بالراحة والقبول والأمان‬
‫حين يدخلون إليها ح ّتى ُيدركوا حاجتهم إلى الفداء‪ ،‬والخلاص‪ ،‬والمصالحة‪ ،‬والسلام؟‬
‫‌ه‪ -‬ضرورة ص ّب جهو ٍد إضاف ّية وتسخير موارد ماد ّية من أجل ابتكار برامج‬
‫وخدمات مسيح ّية متط ِّورة وخ ّلقة تجذب ك ّل من ُهم على شبكة التواصل الاجتماعي‬
‫إلى يسوع وعروسه‪ .‬هناك الكثير من الموا ّد التي ُت َّمل يوم ًّيا عبر هذه المن ّصات‬

‫الإلكترون ّية‪ ،‬لكن أين هذه الموا ّد من الجودة التي تعكس مزايا خال ٍق مبد ٍع كإلهنا؟‬

‫‌و ‪ -‬ضرورة أن يكون لك ّل كنيسة خدمات اجتماع ّية مر ّكزة‪ ،‬من إغاثة أو طبابة‬
‫أو تعليم‪ ،‬خصو ًصا في السنوات القادمة‪ ،‬لأ ّن حاجات رعايانا تزداد يو ًما بعد يوم‪.‬‬
‫والسنوات العشر المقبلة ستكون مفصل ّية في حياة الكنيسة في لبنان‪ .‬لذا‪ ،‬علينا أن‬
‫نكون مستع ّدين للوقوف إلى جانب شعبنا‪ .‬من قال إ ّن دور الكنيسة ينحصر في تقديم‬
‫الغذاء الروحي لشعبها من وع ٍظ وتعلي ٍم وتشجيع فقط؟! َأ َو َل تقرؤوا حياة يسوع في‬
‫الأناجيل الأربعة؟! ألم تقرؤوا حياة التلامذة الأوائل في أعمال الرسل؟! ألم تسمعوا‬
‫نداء بولس رسول للأمم؟! ألم تدرسوا تاريخ الكنيسة الباكرة؟! ألم تلاحظوا أ ّنه في‬

‫‪77‬‬

‫ك ّل هذه الأماكن كانت خدمة المسيح وكنيسته خدم ًة شاملة تطال الشخص ّية والنفس‬
‫والروح والعقل والإرادة واحتياجات الجسد والعلاقات؟! من أعطانا الصلاح ّية‬
‫ح ّتى نقوم بتجزئة الشخص ّية البشر ّية إلى أجزاء؟! ومن أعطانا الحّق بالح ّد من دور‬

‫الكنيسة وز ّجها خلف قضبان التنشئة الروح ّية فقط؟!‬

‫‌ز‪ -‬ضرورة تشجيع رعايانا على الانخراط الفاعل في خدمة المجتمع اللبناني على‬
‫الصعيد السياسي‪ ،‬خصو ًصا هذه الأ ّيام‪ ،‬من أجل تغيير هذه الطبقة السياس ّية الفاسدة‬
‫واستبدالها بقادة يعتنقون الشفاف ّية‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬والمساءلة‪ ،‬والإنتاج ّية‪ ،‬والاحتراف ّية‪،‬‬
‫وي ّتخذونها نه ًجا لهم من أجل تحقيق ازدهار البلاد‪ .‬فكنائ ُسنا التي تسعى إلى تشكيل‬
‫شخص ّيات مق ّدسة ومتوازنة‪ ،‬عليها أي ًضا أن تح ّض أبناءها على الإسهام‪ ،‬وتلهمهم من‬
‫خلال التعليم والوعظ فيتغير الوطن بالأساليب السلم ّية‪ .‬فكما أعطى المسيح مواه َب‬
‫رعاي ٍة وتعلي ٍم وقياد ٍة لأعضائنا يستثمرونها في خدمة كنائسنا‪ .‬ويمكن لهذه المواهب‬
‫عينها أن ُتستخدم في إدارة قضايا لها علاقة بالشأن العا ّم والسياسة النزيهة‪ ،‬فلنص ِّل‬
‫أن يز ّود الله أبناء رعايانا بموهبة خا ّصة وحكمة سماو ّية من أجل قيادة البلاد‪ ،‬من‬
‫غير الانزلاق إلى العنصر ّية والتح ّزب والمحسوب ّية والزعامة‪ .‬فالسبيل إلى إنقاذ بلدنا‬
‫يأتي من طريق شخص ّيات مق ّدسة‪ ،‬من ش ّبا ٍن وشا ّبات ينتمون إلى كنائسنا‪ ،‬ويحتاجون‬
‫إلى رؤية واضحة وإلى توجيههم وتشجيعهم لتحقيق هذه الغاية‪ .‬إن كنّا نحن غير‬

‫مستع ّدين للنهوض ببلدنا من ركام فساده‪ ،‬فمن الذي سيقوم بذلك؟‬

‫‌ح ‪ -‬ضرورة وضع استراتيج ّية لدعم رعايانا‪ ،‬من خلال بناء شبكات تعاون مع‬
‫كنائس ومؤ ّسسات حول العالم قادرة على تأمين موارد بشر ّية وما ّد ّية‪ ،‬من أجل مساندة‬

‫‪78‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫عائلاتنا‪ ،‬ليس فقط لكي يبقوا في بلادهم بل لكي يبدعوا ويح ّققوا التغيير اللازم في‬
‫أوطانهم‪ .‬وك ّلما تدهور اقتصادنا وتع ّثر بلدنا‪ ،‬ازدادت رغبة الكثيرين‪ ،‬وبوج ٍه خا ّص‬
‫المث ّقفين منّا‪ ،‬في المغادرة‪ .‬أين هم القادة الذين يلهموننا على البقاء من جهة‪ ،‬ويؤ ِّمنون‬
‫لنا شبكة تواص ٍل مح ّل ّية و ُدول ّية لتمكين أواصل الشركة وتوفير فرص العمل والموارد‬

‫المطلوبة لتحقيق رؤيتنا من هنا من موطننا لبنان؟!‬

‫‌ط ‪ -‬ضرورة التشديد على مفهوم الخدمة الكنس ّية‪ ،‬وتعريفها من جديد‪ ،‬وإيصال‬
‫معناها إلى شبيبتنا بك ّل وضوح‪ .‬أحيا ًنا‪ ،‬ر ّبما عن غير قصد‪ ،‬نقوم بتعريف القيادة‬
‫الكنس ّية وكأ ّنه لا يوجد عمل مسيحي خارج نطاق الكنيسة‪ .‬قال لي أحدهم‪« :‬ق ّسيس‬
‫لد ّي وظيفة شا ّقة في هذا العالم الش ّرير‪ ،‬لكنّي أح ّب أن أساعد وأخدم في الترتيل أو‬
‫في خدمة توزيع المساعدات للمحتاجين‪ .‬هل يوجد مكان لي؟» ر ّبما لا يوجد ريب‬
‫في هذا الطلب‪ ،‬لكن ث ّمة مشكلة جوهر ّية في مفهوم القيادة الروح ّية‪ .‬نحن نمارس‬
‫القيادة الروح ّية من خلال أعمالنا اليوم ّية‪ .‬لذا‪ ،‬من المه ّم أن ندعو أبناء كنائسنا‪ ،‬ونص ّل‬
‫من أجلهم‪ ،‬ونمسحهم بالروح‪ ،‬ونطلقهم ليقودوا من خلال أعمالهم واختصاصاتهم‪،‬‬
‫كمحامين أو أط ّباء أو مهندسين أو مع ّلمين أو فنّانين أو مو ّظفين أو أرباب عمل أو‬
‫آباء أو أ ّمهات‪ .‬فك ّل فر ٍد في كنيستنا هو مؤ ّث ٌر في المجتمع وبالتالي هو قائ ٌد روح ّي وهو‬
‫مدع ّو أن يستثمر وزنته بك ّل أمانة كونها دعوة الله له لتغيير مجتمعه‪ .‬لا ش ّك في أ ّن‬
‫الرعاة يعرفون ذلك‪ ،‬ولكن ما الذي يمنع الجماعة من أن ترى بوضوح أ ّن ما تقوم به‬
‫يوم ًّيا من أعما ٍل أو وظائ َف عاد ّي ٍة هي ح ًّقا خدمة روح ّية ضرور ّية وخارقة للمجتمع‬

‫الذي نعيش فيه؟‬

‫‪79‬‬

‫‌ي ‪ -‬ضرورة أن يعلو صوت الكنيسة على الظلم المتف ّش على نطاق واسع في‬
‫المؤ ّسسات الخا ّصة والعا ّمة‪ ،‬وإدارات الدولة‪ ،‬وح ّتى في المدارس ووسط الأسرة‪.‬‬
‫الصمت في أ ّيامنا هذه هو أعظم الخطايا وأكثرها تهدي ًدا لوطننا لبنان‪ .‬فكيف يمكن‬
‫لكنيسة تش ّع مثل منار ٍة على جبل شاهق أن تفقد شعاع نورها؟! الصمت علامة فقدان‬

‫الهوية‪ ،‬وفقدان الهو ّية والزوال س ّيان‪.‬‬

‫‌ك‪ -‬ضرورة إعادة التعليم اللاهوتي إلى حضن الكنيسة المح ّل ّية‪ ،‬المكان الذي كان‬
‫فيه بالأصل‪ .‬كما يجب تدريب القادة المؤمنين الجدد‪ ،‬خصو ًصا الذين هم من خلف ّيات‬
‫غير مسيح ّية‪ ،‬في قلب كنيستهم ومجتمعهم‪ ،‬عو ًضا من انتشالهم من بيئتهم والحياة‬
‫اليوم ّية التي اعتادوها‪ ،‬ثم العودة بهم بعد سنوات عديدة ليرعوا كنيستهم المح ّل ّية‪،‬‬
‫وهم بعد غير مؤ ّهلين لقيادة شعبهم‪ .‬ويمكن الاستفادة من الموارد اللاهوت ّية المتاحة‬
‫عبر الإنترنت‪ ،‬والمكتبة الإلكترون ّية‪ ،‬والخدمة العمل ّية في الكنيسة وفي المحيط الذي‬
‫يعيشون فيه لتأهيل هؤلاء القادة‪ ،‬والحرص على أن يحظوا بمتابعة دور ّية من قبل‬
‫مع ّلمينومرشدينمؤ َّهلين‪.‬ولايمكنأنيتح ّققذلكإ ّلضمنالإطارالكنس ّيالمن ّظم‪،‬‬
‫بحيث يت ّم منحهم شهادات ودرجات معتمدة إذا اختاروا مواصلة دراستهم‪ .‬هذا لا‬
‫يعني أ ّننا لن نعود بحاجة إلى ك ّل ّيات اللاهوت لتأهيل القادة‪ ،‬سنحتاج إليها ولكن عن‬
‫بعد‪ .‬سيتع ّلم القادة من أساتذة ك ّل ّية اللاهوت المتخ ّصصين‪ ،‬لكن من بيوتهم‪ ،‬ومن‬
‫كنائسهم‪ ،‬وهم وسط شعبهم‪ .‬فهل رعاتنا على استعداد أن يعيدوا التعليم اللاهوتي إلى‬
‫مكانته الأولى؟ ألا يجب أن نتش ّبه بآباء الكنيسة الأ ّولين‪ ،‬اللاهوت ّيين القدامى‪ ،‬و ُنش ِّكل‬

‫رعاتنا على مثالهم؟!‬

‫‪80‬‬

‫دراسات ومقالات‬

‫‌ل ‪ -‬ضرورة التركيز على أه ّم ّية الصلاة‪ ،‬لأ َّننا من غيرها لا نستطيع تحقيق أ ّي شيء‪.‬‬
‫يقول هنري نيوون في كتابه «باسم يسوع» هذه الكلمات‪ :‬هل قادة المستقبل هم ح ًّقا‬
‫رجال ونِسا ُء الله‪ ،‬وهل ح ًّقا لدى هؤلاء القادة رغب ٌة م ّتقدة لكي يسكنوا في الحضرة‬
‫الإله ّية‪ ،‬ويستمعوا إلى صوت الله‪ ،‬ويتف ّرسوا في جماله‪ ،‬ويلمسوا كلمة الله المتج ّسد‬

‫ويتذ ّوقوا من خير الله غير المتناهي؟‬
‫في الختام‪ ،‬لا ت ّدعي الكنيسة المعمدان ّية أ ّن لها تاري ًخا أعرق من تاريخ الكنائس‬
‫الأخرى‪ ،‬إطلا ًقا‪ .‬ولا أظ ّن أ ّن أ ّي كنيسة أخرى ت ّدعي ذلك‪ .‬فنحن البشر ترا ٌب من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى أصبحنا بالنعمة شركاء في الطبيعة الإله ّية‪ .‬فمن يجرؤ على‬
‫الافتخار؟ ليس من عاق ٍل يجرؤ على ذلك‪ .‬والتغيير يأتي من اتحادنا م ًعا‪ ،‬أكثر فأكثر‪ ،‬بالله‬
‫أبي ر ّبنا ومخ ّلصنا يسوع المسيح‪ ،‬ومن الاتكال الكامل على روحه الق ّدوس‪ .‬فالتغيير‬
‫ممك ٌن إن ر ّددنا مع يوحنا المعمدان‪« :‬ينبغي أ ّن ذلك يزيد وأ ّن أنا أنقص» (يوحنا ‪:٣‬‬

‫‪.)٣٠‬‬

‫‪81‬‬

‫‪ 3‬درسكتاب‬

‫الخليقة في ال َع ْهد القديم‪:‬‬
‫هل خلق الله العالم‪ ...‬في ستة أيام؟‬
‫ألم يخلقنا الله على صورته كشبهه‪...‬‬

‫ويسلطنا على كل خليقته؟‬

‫درس كتاب‬

‫الخليقة في ال َع ْهد القديم‬

‫القس د‪ .‬هادي غنطوس*‬
‫إذا كان الكتاب المقدس والعلم لا يتفقان في العديد من المواضيع والأمور لدى‬
‫الكثير من المؤمنين والملحدين على السواء‪ ،‬فمما لا شك فيه أن مفهوم خلق الخليقة‬
‫وتك ُّون الكون وخلق الأرض والإنسان والكائنات الحية الأخرى‪ ،‬هو أحد أهم‬
‫المواضيع التي يبدو أن الكتاب المقدس والعلم يختلفان‪ ،‬لا بل ويتناقضان‪ ،‬فيها‬
‫بشكل صارخ‪ ،‬ما يفرض على الإنسان الاختيار بينهما‪ ،‬فيتبنى أحدهما ويرفض‬
‫الآخر‪ .‬وهكذا‪ ،‬يختار «المؤمنون» تصديق الكتاب المقدس ورفض النظريات العلمية‬
‫التي تتناقض معه‪ ،‬بغض النظر عن كل الدلائل والاكتشافات التي تثبتها‪ ،‬في حين‬
‫يختار «الملحدون» تصديق العلم ورفض الكتاب المقدس ككتاب أساطير وخرافات‪،‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬اتخاذ موقف مشكك‪ ،‬إن لم يكن رافض ًا لك ِّل ما في هذا الكتاب وللإيمان‬
‫المسيحي لا بل ولله بحد ذاته كشيء طفولي وبا ٍل يتناقض مع العلم والمنطق والتطور‬
‫والحداثة‪ .‬كل هذا في وق ٍت يجد فيه الكثيرون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه من‬
‫الصراع بين إيمانهم ورغبتهم بالدفاع عن كتابهم المقدس من جهة‪ ،‬وصوت المنطق‬
‫وكل الاكتشافات العلمية التي تتناقض مع قصص الكتاب المقدس من جهة أخرى‪.‬‬
‫فالكتاب المقدس يبدأ بـ«قصة» الخلق والسقوط الموجودة في تكوين ‪ ،3—1‬والتي‬

‫*أمينسرلجنةالشؤونالكنس ّيةوالروح ّية‪،‬راعيالكنيسةالإنجيل ّيةالوطن ّيةفيمنيارة‪،‬دكتورمتخصص‬
‫فيالعهدالقديم‪.‬‬

‫‪83‬‬

‫تعتبر واحدة من أكثر قصص الكتاب المقدس شهرة‪ ،‬وفي نفس الوقت من أكثرها‬
‫تأثير ًا في نظرة الكنيسة عبر تاريخها الطويل للخليقة وللعلم ولعلاقة الإنسان بالخليقة‪،‬‬
‫وللمرأة ولعلاقة الرجل بالمرأة ودور المرأة في المجتمع وفي إرسالية الكنيسة‪ ،‬وللسقوط‬
‫والخطيئة والجنس‪ ،‬وغيرها من المواضيع الشائكة في الحياة وفي علاقة الكنيسة بالعلم‬
‫وبالمجتمع‪ .‬وللوهلة الأولى‪ ،‬يبدو أن هناك تناقض ًا بين ما يخبرنا به الكتاب المقدس في‬
‫سفر التكوين عن عملية الخلق من جهة‪ ،‬وما يقوله العلم عن أصل الكون والأرض‬
‫والإنسان من جهة ثانية‪ .‬لكن الحقيقة هي أن هذا التناقض هو‪ ،‬كما سنرى أدناه‪ ،‬مجرد‬

‫تناقض ظاهري‪.‬‬
‫ وسنخصص هذه الحلقة لدراسة موضوع الخليقة في العهد القديم‪ ،‬على أن‬

‫نقوم في الحلقة القادمة بدراسة موضوع السقوط والخطيئة الأصلية‪.‬‬

‫هل خلق الله العالم‪ ...‬في ستة أيام؟‬

‫‪ . 1‬القراءة التقليدية لتكوين ‪2—1‬‬
‫إذا ما طلبنا إلى شخص ما في الكنيسة أن يل ِّخص «قصة» الخلق الموجودة في سفر‬
‫التكوين‪ ،‬نجد أن الكثيرين يعتبرون بأن الله خلق كل الكون في ستة أيام وارتاح في‬
‫اليوم السابع‪ .‬حيث أنه خلق السماوات والأرض‪ ،‬وخلق النور والشمس والقمر‬
‫والنجوم‪ ،‬و َف َص َل بين البحر واليابسة‪ ،‬وخلق ك َّل الكائنا ِت الح َّية التي في البحر وعلى‬
‫اليابسة‪ ،‬وخلق الر ُّب الإنسان على صورته كشبهه‪ ،‬فخلق الرجل‪ ،‬آدم‪ ،‬ونفخ فيه من‬
‫روحه ووضعه في جنة عدن وأعطاه سلطان ًا على كل الجنة باستثناء الشجرة التي في‬

‫‪84‬‬

‫درس كتاب‬

‫وسط الجنة‪ .‬ومن ثم بنى الله حواء على ضلع أخذه من الرجل لتكون معين ًا للرجل‪،‬‬
‫قبل أن تغويها الحية وتقوم هي بإغواء الرجل‪ ،‬وبالتالي تتسبب مع الحية بسقوط الجنس‬
‫البشري وطرده من الجنة مع كل النتائج الكارثية التي امتدت لتشمل كل الجنس‬

‫البشري‪.‬‬

‫لكننا إذا ما قرأنا «قصة» الخلق الموجودة في الإصحاحين الأول والثاني من سفر‬
‫التكوين ببعض التمعن والموضوعية‪ ،‬فإننا سنجد أنها تتألف من قصتين مختلفتين‪ .‬في‬
‫تكوين ‪ ،3 :2—1 :1‬نجد قصة الخلق الشهيرة التي تعلن بأن الله قد خلق العالم في ستة‬
‫أيام واستراح في اليوم السابع‪ .‬وتسجل هذه القصة بأن الله قد تدرج في خلقه للخليقة‪،‬‬
‫ابتدا ًء من خلق النور حتى وصل إلى خلق الإنسان‪ ،‬الذكر والأنثى مع ًا‪ ،‬على صورته‬
‫كشبهه في نهاية اليوم السادس‪ ،‬وهو نفس اليوم الذي خلق فيه الله كل بهائم ودبابات‬
‫ووحوش الأرض‪ ،‬ومن ثم قام الله بمباركة الإنسان وتسليطه على كل الأرض‪ ،‬قبل‬
‫أن يستريح الله من عمله في اليوم السابع‪ ،‬الذي يقدسه الله ويعلنه يوم ًا مقدس ًا‪ ،‬سبت ًا‪،‬‬

‫للإنسان كما ولكل الخليقة‪.‬‬

‫بينما يقدم الجزء المتبقي من الإصحاح الثاني (تك ‪ )25-4 :2‬قصة خلق مختلفة‪،‬‬
‫هي القصة الشهيرة الأخرى التي تعلن بأن الله قد جبل «الرجل الأول»‪ ،‬آدم‪ ،‬من‬
‫تراب الأرض ونفخ فيه من روحه‪ ،‬ومن ثم غرس جنة عدن ووضع آدم فيها وأعطاه‬
‫سلطان ًا على كل أشجارها‪ ،‬إلا شجرة معرفة الخير والشر (وشجرة الحياة؟)‪ ،‬ثم جبل‬
‫الرب كل حيوانات البرية وطيور السماء وأعطي آدم سلطان ًا عليها كلها‪ ،‬قبل أن يبني‬

‫«المرأة الأولى»‪ ،‬حواء‪ ،‬من ضلع أخذها من آدم لتكون معين ًا لآدم‪.‬‬

‫‪85‬‬

‫تقليدي ًا قرأت الكنيسة هاتين القصتين كقصة واحدة‪ ،‬وحاولت ربطهما بطرق‬
‫متنوعة كجعلهما متداخلتين وإهمال التنوع والاختلاف بينهما‪ ،‬أو فهم قصة الخلق‬
‫الثانية كتفسير لقصة الخلق الأولى‪ .‬في كل الحالات‪ ،‬قرأت الكنيسة‪ ،‬تقليدي ًا‪ ،‬ولفترة‬
‫طويلة‪ ،‬قصتي الخلق كقصة تسجل كيفية حصول الخلق‪ ،‬وتشرح آلية الخلق وتاريخه‪،‬‬
‫لا بل واعتبرت هذه «القصة (القصتين)»‪ ،‬ولفترة طويلة على أنها «النظرية» الوحيدة‬
‫للخلق‪ ،‬الذي من المفترض‪ ،‬بحسب القصة وتسلسل الأجيال الذي يقدمه الكتاب‬

‫المقدس‪ ،‬أن يكون قد حصل قبل حوالي ال ‪ 60, 00‬سنة من يومنا هذا‪.‬‬

‫تلك القراءة التقليدية الحرفية لقصتي الخلق في تكوين ‪ 2—1‬وضعت الكنيسة‬
‫في مواجهة النظريات العلمية التي ظهرت وبدأت تتطور في العصر الحديث‪ ،‬والتي‬
‫شهدت تطور ًا هائل ًا في القرنين العشرين والحادي والعشرين‪ ،‬حيث يعتقد العلماء‬
‫اليوم أن عمر الكون هو حوالي ‪ 13.8‬بليون (مليار) سنة‪ ،‬ويتبنون نظريات مختلفة في‬
‫تكونه‪ ،‬أهمها نظرية «الانفجار العظيم (‪ ،»)the Big Bang‬في حين أن عمر نظامنا‬
‫الشمسي‪ ،‬بما في ذلك الأرض التي نعيش عليها‪ ،‬حوالي ‪ 4.5‬بليون (مليار) سنة‪ .‬كما‬
‫يقول العلماء اليوم أن أسلاف الإنسان ظهروا على الأرض حوالي ‪ 7-5‬مليون سنة‪،‬‬
‫ويتبنون نظريات مختلفة ترتبط بنظرية التطور في تفسير ظهور الإنسان‪ ،‬الذي يعود‬

‫أقدم هيكل عظمي لإنسان عثرنا عليه حتى اليوم لحوالي ‪ 300,000‬سنة‪.‬‬

‫بالإضافة إلى ذلك‪ ،‬نظرت الكنيسة ولفترة طويلة إلى الأرض على أنها مسطحة‬
‫وتشكل مركز الكون‪ ،‬وحاربت كل من وما شكك بذلك‪ .‬واستندت الكنيسة في‬
‫قناعتها تلك إلى القراءة التقليدية الحرفية للكتاب المقدس‪ ،‬والتي يكون شكل الكون‬

‫بحسبها كما هو مبين في الصورة رقم ‪ 1‬أدناه‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫درس كتاب‬

‫وذلك الاعتقاد يتناقض بدوره مع كل ما يثبته العلم حالي ًا عن شكل الكون ومكانة‬
‫الأرض‪ ،‬التي تمثل كوكب ًا صغير ًا في مجموعة شمسية صغيرة موجودة على طرف مجرة‬
‫صغيرة موجودة في طرف هذا الكون الشاسع الذي يضم ملايين ومليارات الكواكب‬

‫والنجوم والمجرات (الصور ‪.)6 ،5 ،4 ،3 ،2‬‬
‫هذا التناقض «الصارخ» دفع بالكثيرين لرفض الكتاب المقدس وأحيان ًا رفض‬
‫الله ذاته‪ .‬لكن المشكلة ببساطة هي‪ ،‬كما سننتقل لنرى الآن‪ ،‬في تلك القراءة التقليدية‬

‫الحرفية لقصتي الخلق وللكتاب المقدس ككل‪.‬‬

‫الصورة ‪:1‬‬
‫الكون بحسب تكوين ‪3 :2—1 :1‬‬

‫الصورة ‪:2‬‬
‫الأرض بالمقارنـة مـع الشـمس وكواكـب‬

‫مجموعتنـا الشمسـية‬

‫الصورة ‪:3‬‬
‫موقـع المجموعـة الشمسـية في مجـرة درب‬

‫التبانـة (‪)Milky Way‬‬

‫‪87‬‬

‫الصورة ‪:4‬‬
‫مجــرة درب التبانــة (‪)Milky Way‬‬
‫بالمقارنــة مــع بعــض المجــرات الأخــرى‬

‫في الكــون‬

‫الصورة ‪:5‬‬
‫الأرض‪ ،‬المجموعــة الشمســية‪ ،‬ومجــرة‬
‫درب التبانـة (‪ )Milky Way‬في الكـون‬

‫الصورة ‪:6‬‬
‫صــورة تعــود إلى العــام ‪ 1990‬التقطهــا‬
‫المكــوك الفضائــي (‪ )Voyageur 1‬خــال‬
‫رحلتــه إلى الفضــاء مــن مســافة ‪ 6‬مليــارات‬
‫كــم عــن الأرض‪ ،‬والتــي تظهــر في الصــورة‬
‫كنقطــة زرقــاء باهتــة‪ ،‬وهــو الاســم الــذي‬
‫تعــرف بــه الصــورة (‪The Pale Blue‬‬
‫‪ ،)Dot‬والتـي تعتـر أبعـد صـورة لـأرض‬

‫حتــى هــذا اليــوم‬

‫‪88‬‬

‫درس كتاب‬

‫وذلك الاعتقاد يتناقض بدوره مع كل ما يثبته العلم حالي ًا عن شكل الكون ومكانة‬
‫الأرض‪ ،‬التي تمثل كوكب ًا صغير ًا في مجموعة شمسية صغيرة موجودة على طرف مجرة‬
‫صغيرة موجودة في طرف هذا الكون الشاسع الذي يضم ملايين ومليارات الكواكب‬

‫والنجوم والمجرات (الصور ‪.)6 ،5 ،4 ،3 ،2‬‬
‫هذا التناقض «الصارخ» دفع بالكثيرين لرفض الكتاب المقدس وأحيان ًا رفض‬
‫الله ذاته‪ .‬لكن المشكلة ببساطة هي‪ ،‬كما سننتقل لنرى الآن‪ ،‬في تلك القراءة التقليدية‬

‫الحرفية لقصتي الخلق وللكتاب المقدس ككل‪.‬‬
‫‪ .2‬تح ٍد للقراءة التقليدية لتكوين ‪2—1‬‬

‫إن هذه القراءة التقليدية للنص الموجود في تك ‪ 2—1‬هي قراءة بالتعريف وبالمبدأ‬
‫خاطئة لأنها تنطلق من قراءة وفهم مغلوطين للكتاب المقدس ككل من جهة‪ ،‬وتعاني‬
‫من العديد من نقاط الضعف في قراءة قصتي الخلق‪ ،‬موضوع البحث‪ ،‬بشكل خاص‬

‫من جهة ثانية‪.‬‬

‫أ‌ ‪ .‬طبيعة الكتاب المقدس‬
‫من المهم في البداية أن نتذكر هنا بأن الكتاب المقدس‪ ،‬بعهديه‪ ،‬هو أساس ًا وقبل‬
‫كل شيء آخر كتاب لاهوت‪ ،‬وليس كتاب علم أحياء أو كتاب فلك‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫كتاب تاريخ أو جغرافية‪ ،‬أو كتاب قانون‪ ،‬على الرغم من احتوائه على عناصر من‬
‫ذلك كله‪ .‬وصحيح أن ُك ّتاب الكتاب المقدس استخدموا بعض المعلومات التي كانت‬
‫ُتعتبر معلومات علمية بحسب مفهوم العصر الذي ُكتبت فيه الأسفار المختلفة‪ ،‬لكن‬
‫يبقى الكتاب المقدس كتاب لاهوت يسجل شهادات المؤمنين لاختباراتهم لله في أزمنة‬

‫‪89‬‬

‫وأمكنة وظروف مختلفة‪.‬‬

‫كما أن كتابنا المقدس ككتاب لاهوت ليس كتاب ًا ُمنزلاً وهو ليس كلمة الله الحرفية‪،‬‬
‫وبالتالي فأي تعامل حرفي معه هو أبعد ما يكون عن طبيعة هذا الكتاب‪ .‬فالكتاب‬
‫المقدس موحى به من الله وروحه القدوس الذي لعب ويلعب دور ًا هام ًا في تأليف‬
‫هذا الكتاب وعمله المستمر على مر العصور‪ .‬ولكن كون الكتاب المقدس هو كتاب‬
‫موحى به فذلك لا يعني بأن الكتاب المقدس هو الكلام المباشر لله أو الوحي المباشر‬
‫لله‪ ،‬لأننا نؤمن كمسيحيين بأن الوحي المباشر والشخصي لله هو شخص يسوع المسيح‬
‫الذي هو كلمة الله المتجسدة الموحى بها مباشرة من عند الله‪ .‬بينما الكلمة المكتوبة والتي‬
‫هي الكتاب المقدس‪ ،‬فإنها شهادة لكلمة الله الحية يسوع المسيح‪ ،‬ولاختبار المؤمنين لها‬

‫ولإلههم ولحياتهم ولعلاقتهم معه في أز ِمنة وأم ِكنة وظروف مختلفة‪.‬‬

‫إن الكتاب المقدس هو شاهد وشهادة‪ ،‬وأسفار الكتاب المقدس لم تنزل من السماء‬
‫ولكنها كتبت على مراحل مختلفة‪ ،‬وشهدت تطور ًا وإضافا ٍت متنوعة ومستمرة بما‬
‫يتناسب وتغير اختبارات المؤمنين لله واختلاف لاهوتهم وشخصياتهم وظروفهم‬
‫التي عاشوا وكتبوا فيها‪ .‬فالكتاب المقدس هو مجموعة من الكتابات المكتوبة في أماكن‬
‫وأزمنة مختلفة‪ ،‬من قبل مجموعة مختلفة من الأشخاص والمدارس اللاهوتية والأدبية‪،‬‬
‫الذين كتبوا لجماعة معينة تعيش في مكان معين وزمان معين وتواجه ظروف ًا معين ًة‪،‬‬
‫متأثرين بفكر عصرهم ولغته‪ ،‬ليشهدوا عن اختبارهم لله‪ .‬ولذلك فنحن نجد في‬

‫الكتاب المقدس مواقف مختلفة وأفكار لاهوتية متنوعة من مختلف مواضيع الحياة‪.‬‬

‫ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ أي نص بطريقة حرفية ونبني على أساس تلك القراءة‬

‫‪90‬‬

‫درس كتاب‬

‫الحرفية موقف ًا وعقيدة وممارسة إيمانية نعتبر بأنها منزلة إلهي ًا‪ .‬فنحن لا نستطيع‪ ،‬ولا يجوز‬
‫لنا‪ ،‬أن نفهم أسفار وقصص ومقاطع وشرائع الكتاب المقدس بمعزل عن الظروف‬
‫والخلفية التاريخية واللاهوتية والثقافية والفكرية التي كتبت فيها‪ .‬وبالتالي فلا يجوز‬
‫لنا أن نتعامل بشكل حرفي مع النص الموجود في تك ‪ 2—1‬وأن نستعمل ذلك النص‬
‫في بناء نظريات لعملية الخلق وللخليقة‪ ،‬ولمكانة الإنسان فيها وعلاقته بها‪ ،‬ولعلاقة‬
‫الرجل بالمرأة‪ ،‬دون دراسة ذلك النص بعمق وفي ضوء الخلفية اللاهوتية والزمانية‬

‫والمكانية التي كتب فيها‪.‬‬
‫ب‌‪ .‬إعادة قراءة تك ‪2—1‬‬
‫كما ذكرنا أعلاه‪ ،‬إذا قرأنا أول إصحاحين من سفر التكوين‪ ،‬سنلاحظ وجود‬
‫قصتي خلق عوض ًا عن قصة خلق واحدة‪ .‬وهاتان القصتان الموجودتان في تكوين ‪:1‬‬
‫‪ 3 :2—1‬وتكوين ‪ 25-4 :2‬تختلفان عن بعضهما بشكل كبير‪ ،‬ولكنهما تتفقان على‬
‫شيء واحد رئيسي وهو أن الخالق هو الله‪.‬‬

‫‪91‬‬

‫مقارنة بين قصتي الخلق في سفر التكوين‬

‫تك ‪25-4 :2‬‬ ‫تك ‪3 :2—1 :1‬‬

‫‪-‬اسم الإله في الأصل العبري في القصة الأولى ‪-‬اسم الإله في الأصل العبري في القصة الثانية‬

‫فهو «يهوه» (الرب)‪..‬‬ ‫هو «إلوهيم» (الله)‪..‬‬

‫‪-‬الرب يخلق بيده (جبل‪ ،‬غرس‪ ،‬بنى)‪..‬‬ ‫‪-‬الله يخلق بكلمته (قال)‪..‬‬

‫‪-‬قصة خلق الأرض فقط‪..‬‬ ‫‪-‬قصة خلق كل الكون‪..‬‬
‫‪-‬لا ِذكر للأسماك والحيوانات مائية‪..‬‬ ‫‪-‬كل المخلوقات الموجودة على الأرض‪..‬‬

‫‪-‬الإنسان في النهاية‪ ،‬بعد الكائنات الأخرى‪- ..‬الإنسان في البداية‪ ،‬قبل الكائنات الأخرى‪..‬‬

‫‪-‬الرجل ومن ثم الحيوانات‪ ،‬ومن ثم المرأة‪..‬‬ ‫‪-‬الرجل والمرأة مع ًا‪..‬‬

‫‪-‬الرجل والمرأة مع ًا وهما مع ًا على صورة الله ‪-‬الرجل وحده هو من نفخ فيه الله من نفسه‪،‬‬

‫قبل أن يبني المرأة من الرجل‪..‬‬ ‫كشبهه‪..‬‬

‫‪-‬مهمة وسلطان للرجل والمرأة مع ًا على كل ‪-‬مهمة وسلطان للرجل على الجنة قبل‬

‫السقوط وحتى قبل خلق المرأة؛ والرجل هو‬ ‫الأرض‪..‬‬

‫من يطلق على الحيوانات أسماءها‪..‬‬

‫‪-‬يوجد محظورات‪..‬‬ ‫‪-‬لا يوجد محظورات‪..‬‬

‫‪-‬السقوط هو القمة‪..‬‬ ‫‪-‬لا سقوط‪ ،‬والسبت هو القمة‪..‬‬

‫‪-‬القصة تنتمي إلى التقليد التثنوي‬ ‫‪-‬القصة تنتمي إلى التقليد الكهنوتي‬

‫ما سبق يظهر أن الإصحاحين الأولين في سفر التكوين يحتويان على قصتين مختلفتين‬
‫عوض ًا عن قصة واحدة للخلق‪ .‬هاتان القصتان تختلفان عن بعضهما بشكل واضح في‬
‫صورة الخلق التي تقدمها كل منهما‪ .‬والسبب في ذلك الاختلاف الصريح والواضح‬

‫هو أن ك ًّل من هاتين القصتين تنتمي إلى تقليد لاهوتي مختلف‪.‬‬

‫فالتوراة بشكل عام تحتوي على تقليدين لاهوتيين أساسيين‪ ،‬التقليد الكهنوتي‬
‫والتقليد التثنوي‪ ،‬يقفان وراء مختلف نصوصها‪ ،‬ويعتبر كل منهما مسؤول عن إنتاج‬

‫‪92‬‬

‫درس كتاب‬

‫إحدى قصتي الخلق الموجودتين في بداية سفر التكوين وما تقدمانه من لاهوت‬
‫ومن نظرة للخليقة ككل‪ .‬وهذان التقليدان متداخلان ومتراكبان بشكل كبير‪ ،‬وإن‬
‫كان بنسب مختلفة‪ ،‬في أسفار التوراة الخمسة‪ .‬ولذلك عكف الباحثون على دراسة‬
‫النصوص ومحاولة الفصل بين هذين التقليدين المختلفين بشكل واضح‪ ،‬وذلك اعتماد ًا‬
‫على الأسلوب الأدبي والروائي والفكر اللاهوتي الذي يميز كل تقليد من التقليدين‬

‫والذي يجعل إمكانية فصلهما عملي ًة سهلة‪.‬‬

‫فالفارق اللاهوتي الرئيسي بين التقليدين واضح وصريح ويتلخص بحقيقة أنه في‬
‫الوقت الذي يقدم فيه اللاهوت التثنوي النظرة التقليدية الشائعة والشهيرة في العهد‬
‫القديم‪ ،‬والتي تعتبر بأن إسرائيل هو شعب الله المختار‪ ،‬يتبنى اللاهوت الكهنوتي نظرة‬
‫مغايرة لذلك‪ .‬فالتقليد التثنوي هو تقليد يتبنى لاهوت شرطي متعصب يميز ويعتبر‬
‫بأن الله يميز بين إنسا ٍن وآخر‪ ،‬على أساس العرق واللون والجنس والدين‪ ،‬في حين أن‬
‫التقليد الكهنوتي هو تقليد عالمي يتبنى لاهوت نعمة يعتبر بأن الله هو إله كل الخليقة‬

‫الذي لا يميز بين الناس على أساس عرقهم أو لونهم أو جنسهم أو دينهم‪.‬‬

‫ومن الملفت هنا أن التقليد الكهنوتي لا يستخدم لخالق الكون اسم «يهوه» (الرب)‪،‬‬
‫إله إسرائيل‪ ،‬ولكنه يدعو خالق هذا الكون بـ»إلوهيم» (الله)‪ .‬وبهذا فالتقليد الكهنوتي‬
‫هو أول لاهوتي في الكتاب المقدس يستعمل كلمة «الله» كاسم شخصي للإله‪ ،‬وهو‬
‫الاسم الذي نستعمله نحن اليوم‪ .‬وهذا تق ُّد ٌم لاهوتي كبير‪ ،‬فبالنسبة للتقليد الكهنوتي‪،‬‬
‫الإله الخالق ليس إله محصور بشعب معين‪ ،‬لأنه خلق كل الكون‪ ،‬ويجب على كل‬
‫إنسان وشعب في هذا الكون أن يكون قادر ًا على التعرف إليه والتواصل معه كإلهه هو‪.‬‬
‫ويستعمل التقليد الكهنوتي الاسم العالمي الكوني لله لأن الله خالق الكون ويتجاوز كل‬

‫‪93‬‬

‫الحدود الدينية‪.‬‬

‫وعلينا هنا أن نلاحظ أن قصة الخلق الأولى تخبرنا بأن الله خلق الإنسان على صورته‬
‫كشبهه (تك ‪ .)27-26 :1‬فبِ ِخلا ِف ما كان شائع ًا في ذلك الوقت بأن الملوك فقط هم‬
‫على صورة الله‪ ،‬يرى التقليد الكهنوتي بأن كل الإنسانية مخلوقة على صورة الله؛ كل‬
‫إنسان‪ ،‬مهما كان جنسه‪ ،‬أو لونه‪ ،‬أو عرقه‪ ،‬أو مرتبته الاجتماعية‪ ،‬أو دينه‪ ،‬هو مخلوق‬
‫على صورة الله وله نفس الأهمية والقيمة أمام الله‪ .‬وهذا بحد ذاته ثورة كتابية ولاهوتية‬
‫في وجه بعض المقاطع الكتابية التي تعلن أن الله هو إله اليهود‪ ،‬شعبه المختار فقط‪ ،‬وأنه‬
‫أمرهم بأن يقتلوا بقية الشعوب باسمه‪ ،‬لا بل ووعدهم بأن يقوم هو بمحاربة بقية‬

‫الشعوب عنهم‪.‬‬

‫ومن المهم أن نلاحظ هنا أن وجود هاتين القصتين المختلفتين للخلق جنب ًا إلى‬
‫جنب‪ ،‬وعلى عكس ما يظن الكثيرون‪ ،‬لا يهدد الكتاب المقدس ومصداقيته‪ ،‬ولكنه‬
‫أمين للكتاب المقدس من جهة‪ ،‬ويحمي كتابنا المقدس في مواجهة الاكتشافات العلمية‬
‫الحديثة التي تتحدى قصة الخلق التكوينية وتثبت عدم صحتها من جهة أخرى‪ .‬فذلك‬
‫لا يشكل خطر ًا على صحة الكتاب المقدس إذا ما فهمنا واعترفنا بأن الكتاب المقدس‬
‫ليس كتاب علو ٍم طبيعي ٍة‪ ،‬أو كتاب فلك‪ .‬فالكتاب المقدس ليس مهتم ًا بالعلم بالمفهوم‬
‫الحديث للعلم‪ ،‬ولكنه كتاب علمي بمفهوم العلم في العصر الكتابي‪ ،‬أي العصر الذي‬
‫كتب فيه الكتاب المقدس‪ .‬والكتاب المقدس‪ ،‬وخاصة العهد القديم‪ُ ،‬كتب في عصر كان‬
‫فيه علم الميثولوجيا‪ ،‬بمفهوم ذلك العصر عن هذه الكلمة‪ ،‬هو العلم الأهم والأسمى‪.‬‬
‫والميثولوجيا في الشرق الأدنى القديم لم تكن تعني أسطورة أو خرافة‪ ،‬بمعنى أنها غير‬
‫صحيحة‪ ،‬ولكنها كانت العلم الذي يدور حول الآلهة والتفاعل بين الآلهة والإنسان‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫درس كتاب‬

‫الميثولوجيا كانت علم الماورائيات‪.‬‬

‫قصص الخلق في الكتاب المقدس هي قصص رمزية كتبت في عصر قدس هذا‬
‫النوع من العلوم‪ ،‬وهي بلا شك متأثرة ومتفاعلة مع الكثير من قصص الخلق لدى‬
‫الحضارات القديمة‪ .‬ولذلك فكلا قصتي الخلق إنما هما مبنيتان على قصص الخلق‬
‫الموجودة لدى الشعوب المجاورة‪ .‬حيث اعتمد التقليد الكهنوتي في بنائه لقصة الخلق‬
‫الأولى على قصة الخلق البابلية «إينوما إيليش»‪ ،‬في حين اعتمد التقليد التثنوي في بناء‬

‫قصة الخلق الثانية على ميثولوجيات الخصب الخاصة بالشعوب الفينيقة والكنعانية‪.‬‬

‫فقد كانت قصة الخلق البابلية‪-‬الآشورية «إينوما إيليش» هي «نظرية» خلق‬
‫الكون الأهم في الشرق الأدنى القديم‪ .‬واسم النص «إينوما إيليش» يعني «عندما في‬
‫الأعالي»‪ ،‬وهو مأخوذ من الكلمات الأولى في النص‪ .‬كما كان الحال مع أسماء أسفار‬
‫العهد القديم‪ .‬فمثل ًا‪ ،‬اسم سفر التكوين في اللغة العبرية هو «بريشيت (في البدء)»‪.‬‬
‫والقصة باختصار هي حول خلق الإله البابلي الأعظم‪« ،‬مردوخ»‪ ،‬للعالم من جسد‬
‫والدته الإلهة «تيامات»‪ ،‬التي هي المياه الأزلية وشكلها التنين‪ .‬حيث تقرر «تيامات»‬
‫أن تقتل الآلهة الصغرى لأنهم قتلوا زوجها الإله الأب «أبسو»‪ ،‬الذي قتله ابنه «إيا»‪.‬‬
‫فيتطوع مردوخ لمواجهتها ويحاربها ويهزمها ويشقها نصفين بريحه‪ .‬وبعد انتصاره‪،‬‬
‫يخلق مرودخ السماء من ظهر تيامات والأرض من بطنها والنجوم والكواكب والقمر‬
‫والشمس من أجساء جسدها‪ .‬ومن ثم يكلف مردوخ الإله إيا بخلق الإنسان من‬
‫دم تيامات وقائد جيشها «كينغو»‪ ،‬وذلك بهدف إراحة الآلهة بأن يقوم الناس بعملها‬
‫عوض ًا عنها‪ .‬بالإضافة إلى ذلك‪ ،‬يضع مردوخ مدينة بابل في مركز الكون‪ .‬ونرى في‬
‫الصور رقم ‪ 7‬و‪ 8‬و‪ 9‬أدناه مخطط ًا للكون بحسب إينوما إيليش‪ ،‬ونستطيع أن نلاحظ‬

‫‪95‬‬

‫بسهولة التشابه الواضح بينه وبين مخطط الكون بحسب تك ‪( 3 :2—1 :1‬الصورة‬
‫رقم ‪ 1‬أعلاه)‪.‬‬

‫صــورة ‪ :7‬الكــون في الفكــر البابــي‪-‬‬
‫الآشــوري‬

‫صــورة ‪ 8‬وصــورة ‪ :9‬مركزيــة بابــل في‬
‫الكــون في الفكــر‬

‫‪96‬‬

‫درس كتاب‬

‫قصة الخلق البابلية هذه كانت قصة الخلق الأشهر في الشرق الأدنى القديم‪ ،‬وهي‬
‫القصة التي كانت سائدة في الامبراطورية الآشورية والامبراطورية البابلية اللتين‬
‫سبتا شعب الله‪ ،‬ومن بعدهما الامبراطورية الفارسية التي تمت كتابة التوراة في زمنها‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فهي «نظرية» الخلق العلمية الأهم التي تعامل معها كاتبوا التقليد الكهنوتي‬
‫في التوراة‪ ،‬حوالي سنة ‪ 515-520‬ق‪.‬م‪ ،‬وتبنوها وعدلوها لإنتاج قصة الخلق الأولى‬
‫(تك ‪ ،)3 :2—1 :1‬التي تأخذ إينوما إيليش وتعدلها لتعلن إعلانات لاهوتية هامة‪.‬‬

‫ففي كلتا القصتين‪ ،‬تيامات (تهوم أو الغمر أي المياه العميقة) ترمز إلى الفوضى‬
‫التي هي ضد الخليقة‪ .‬وفي كلتا القصتين‪ ،‬الخلق يحصل بفصل المياه فوق السماء عن‬
‫المياه تحت السماء بال َج َلد وبفصل البحر عن اليابسة (تك ‪ ،)9-1 :1‬لكن الفوضى‬
‫ليست إلهة في التوراة كما هي في إينوما إيليش‪ ،‬لأن التوراة تؤمن بإله واحد في كل‬
‫الكون‪ .‬وفي كلتا القصتين‪ ،‬الإله يخلق بالكلمة‪ ،‬لكن في الوقت الذي يخلق فيه مردوخ‬
‫بأن يقتل تيامات بأن يلقي عليها لعنة‪ ،‬يخلق الله بأن يقول فيكون ومن ثم يبارك‬
‫خليقته‪ .‬وتسلسل أحداث قصة الخلق متشابه في كلا القصتين‪ ،‬لكن الإله الخالق في‬
‫إينوما إيليش‪ ،‬مردوخ‪ ،‬هو أيض ًا مخلوق‪ ،‬في حين أن الله هو إله أزلي من قبل أن تبدأ‬
‫الخليقة‪ .‬بالإضافة إلى ذلك‪ ،‬يخلق مردوخ الكون في إينوما إيليش لتحقيق مصلحة‬
‫الآلهة‪ ،‬فيمنح السماء للإله «آنو»‪ ،‬والهواء وسطح الأرض للإله «إنليل»‪ ،‬والمياه العذبة‬
‫على سطح الأرض وفي جوفها للإله «إيا»؛ كما أن بابل‪ ،‬مركز الكون‪ ،‬بحد ذاتها يتم‬
‫بناؤها لأجل الآلهة؛ بالإضافة إلى أن كل هدف خلق الإنسان هو خدمة الآلهة والقيام‬

‫بعملها بدلاً منها‪ .‬في حين أن الله يخلق الكون من فيض نعمته ويباركه ويهتم هو به‪.‬‬

‫ من جهتها‪ ،‬تتبنى قصة الخلق الثانية (تك ‪ )25-4 :2‬قصص الخصب‬

‫‪97‬‬

‫الفينيقة‪-‬الكنعانية‪ ،‬حيث إله الريح‪ ،‬بعل‪ ،‬يزرع ويمطر ويجلب الريح وينمي الشجر‬
‫ويعطي الحياة‪ ،‬لتعلن بأن الرب‪ ،‬يهوه‪ ،‬هو من خلق كل ما في هذه الأرض بما في ذلك‬

‫الحيوان والإنسان‪.‬‬

‫وهكذا فكاتبوا التوراة يتبنون قصص الخلق الأشهر في الشرق الأدنى القديم‬
‫ويعدلونها ليعلنا إعلانات لاهوتية هامة تختلف‪ ،‬لا بل وتتناقض‪ ،‬عن بعضها في كثير‬
‫من الأحيان‪ ،‬بحسب اللاهوت الذي تتبناه كل من التقليدين الكهنوتي والتثنوي‪ ،‬كما‬
‫هو الأمر مثل ًا في حالة النظرة إلى المرأة في كلا القصتين (انظر الجدول أعلاه)‪ .‬ولكن‬
‫من خلال وضعهما لكلا القصتين جنب ًا إلى جنب‪ ،‬أراد كاتبوا التوراة أن يعلنوا لكل من‬
‫يقرأ الكتاب المقدس بأن قصة الخلق كما ترد في سفر التكوين لا تريد أن تخبرنا كيف‬
‫خلق الله الكون‪ ،‬ولكنها تريد أن تخبرنا شيئ ًا أساسي ًا‪ ،‬بغض النظر عن فرضية الخلق‬

‫التي نتبناها‪ ،‬وهو أن الله هو خالق هذا الكون‪.‬‬
‫قصتي الخلق ليستا شرح ًا علمي ًا أو بيولوجي ًا‪ ،‬ولكنهما بالأحرى شرح لاهوتي‬
‫لكيفية تشكل الكون‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فهما لا تثبتان‪ ،‬ولا تريدان أن تثبتا بأن الكون قد خلق‬
‫خلال ‪ 144‬ساعة في سنة ‪ 3761‬ق‪.‬م‪ .‬قصة الخلق هي قصة تتبنى العلم الأهم في‬
‫ذلك الزمن‪ ،‬أي الميثولوجيا‪ ،‬وتستخدم أهم نظريات الخلق العلمية في ذلك الزمن‬
‫لتعلن بأن الله هو الخالق‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فهي لا تتنافس مع نظريات تكون الكون ونظريات‬
‫التطور المعاصرة‪ ،‬ولكنها تعلن لتلك النظريات بأن الخالق هو الله‪ ،‬الذي هو من يقف‬

‫وراء تكون الكون وتطور الخليقة‪ ،‬مهما كانت النظرية العلمية المعتمدة‪.‬‬

‫وهذا هو ما نؤمن‪ ،‬وما يجب أن نؤمن‪ ،‬به‪ ،‬بدون أن نشغل بالنا في الدخول في‬

‫‪98‬‬


Click to View FlipBook Version