The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.
Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by manhal62000, 2018-08-03 04:30:44

مذكرات راهب 3

مذكرات راهب 3

‫يوم معقوف‬

‫جاءني الأب شاول يستفسرني عن عدم وجودي‬
‫يوم الأحد الماضي في الكنيسة ويبدي لي كيف‬

‫أفتقدني ذلك اليوم بعد أن يأس من العثور علي ‪.‬‬

‫وأخبرته عن ذهابي خارج المدينة واستمتاعي بأُمنا‬
‫الطبيعة بل منحة السماء لأهل الأرض كما قال‬

‫هوميروس ‪.‬‬

‫طفق يحدثني عن خطبته التي القاها وكانت حول‬
‫آلآم السيد المسيح ونهايته المفجعة على الصليب ‪.‬‬

‫فرددت عليه قائلا ‪:‬‬

‫ـــ ان المسيح تألم ألماً جسدياً ‪ ،‬وانتهت ألآمه بعد‬
‫فترة وجيزة من الزمن ‪ ،‬حيث حلقت روحه الى اللاكيان‬
‫‪ ،‬فأين منه الذي علكه الألم نفسياً ‪ ،‬ومضغه الحزن‬
‫عقلياً ‪ ،‬عندما فجعه بأعز ما يحب وأغلى ما يملك ‪..‬‬
‫وما انفك بعين الآلام والتعاسة كل يوم ‪ ،‬لأن كل ما‬

‫‪51‬‬

‫يربطه مع الحياة قد انقطع ‪ ،‬وصار قلبه وكبده يتآكلان‬
‫كل لحظة ذكرى ‪ ..‬فلا هو بمنتٍه ولا الذاكرة تموت ‪.‬‬

‫دهش من قولي ‪ ،‬ونظر في وجهي بامعان كمن‬
‫يحاول أن يسبر أغوار نفسي ويكشف ب ارقع قلبي ‪.‬‬

‫وقال بتلهف ‪:‬‬
‫ـــ من يكون هذا بحق المسيح ؟‬

‫ـــ إنه ماثل أمامك يا صديقي ‪ ،‬كثمرة تعطب جوفها‬
‫وأمست خاوية على عرشها فعند أول لمسة أو هزة‬
‫ستتحطم الى أشلاء مبعثرة ‪ ،‬ولكن كيف للزمن أن‬
‫يرحم ويعجل بانامله ليخلع ما تبقى ويواريه العدم‬
‫الاسمر ‪ ،‬حيث لا أضواء ساطعة ولا رياح اركضة ولا‬

‫أرض مغتصبة ‪.‬‬

‫وتركني الأب شاول بعد أن دمدم بكلام لم أسمعه‬
‫جيداً ‪ ..‬فناجي ُت نفسي قائلا لها ‪:‬‬

‫‪52‬‬

‫( أصبري أيتها الروح لجسمك المصلوب على‬
‫الصليب المعقوف ‪ ..‬فقد ُكتب عليك أن تتعذبي في‬

‫الدنيا لكي تذوقي طعم الحرية شهداً في الآخرة ) ‪.‬‬
‫ورح ُت أدون ‪:‬‬

‫( سأركب عربة الغ ارم وألهب ظهر قلبي بالسياط لكي‬
‫تركض بخيولها في ساحة الحبيب ‪ ،‬فان وجدت كثي اًر‬
‫من العربات تتسابق في هذه الساحة ‪ ،‬أجعل السوط‬
‫يلهب ظهر قلبي أكثر واقسو عليه لينهب الساحة نهبًا‬
‫‪ ،‬وأن ُرشق ُت بسهام الاعداء فسوف أصدها بصدري‬
‫بكل ج أرة وأتركها تغور في جسمي ليقطر قلبي دماً‬
‫أكثر وأكثر ‪ ،‬ويطير بالعربة ويسبق باقي العربات ‪،‬‬
‫عند ذاك أصل الى من أُحبها دامي الجسد منهوك‬
‫القوى ‪ ،‬وأفوز بقلبها ‪ ،‬وتبدأ بيديها الرقيقتين تزيل‬

‫السهام وتضمد الج ارح بالحب والحنان ) ‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫يوم ملون‬

‫تكاثرت في هذا اليوم أعداد الزهور المتفتحة حتى‬
‫ليكاد الناظر أن لا يرفع بصره عنها لحظة ‪ ،‬لان‬
‫العيون قلما ترى مثل هذه الاو ارد الجميلة ال ازهية بكل‬
‫الالوان وشتى الاحجام والاشكال واستذكرت قول‬

‫الشاعر ‪:‬‬

‫تمتع من شميم ع ارر نجد‬

‫فما بعد العشية من ع ارر‬

‫ولكن فرحتي بورودي هذه ستكون مثل فرحتي ببناتي‬
‫التي لم تدم طويلاً ‪ ،‬وما أن أتممت هذا الخاطر حتى‬
‫أبصرُت حارس البوابة يجني من الزهور الأجمل‬
‫والأبهى والأشد عط اًر والأكثر جاذبية دون حياء من‬
‫أحد أو أرفة بالجمال ‪ ..‬وحين أبصرني لم يأبه بي‬

‫فكأنه يمتلك تلك الزهور وهو أحق بذبحها من غيره ‪.‬‬

‫دمعت عيناي فاخفيت دمعي باط ارقة الى الارض‬
‫‪ ،‬وانتشلني من ضعف عاطفتي صوت ق ٍس فالتف ُت اليه‬

‫‪54‬‬

‫بعد أن كفكفت أدمعي ‪ ،‬و ارح يعّرفني بنفسه ‪ ،‬عرف ُت‬
‫إن إسمه (أدور) وعرض علي لوحة رسمها لتوه لتلك‬

‫الزهور المنتشرة المشرقة ‪.‬‬

‫غصصت بالكلام ولم أستطع أن أُعبر له عن شيء‬
‫‪ ،‬فانا أرى الانسان يسعى الى الخلود بشتى الطرق وما‬

‫الرسم الا دليل على ذلك ‪.‬‬

‫طلب أريي في الصورة وال َّح علي فقلت له ‪:‬‬

‫ـــ يا بني ان لك ب ارعة في تقليد الطبيعية مما يدل‬
‫على دقـة ملاحظتك وجمال ذوقك ورشاقة فرشاتك‬
‫بوضع الالوان ‪ ،‬ولكن البشر لا يهتمون لما يرونه‬
‫اعتيادياً بل يميلون الى اللوحة المعبرة عن موقف‬
‫انساني شامل وتسلب مشاعرهم الكامنة فتدهشهم‬
‫وتعريهم على حقيقتهم دون ان يشعروا بذلك اذ لو‬

‫شعروا لصلبوك ‪.‬‬

‫ــــ يا سيدي ان لك أرياً غريباً هلا أفصحت لي عن‬
‫طريقة أنتهجها في الرسم ‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫ــــ أسلك كل طرق الرسامين قبل أن تحدد طريقتك ‪..‬‬
‫خذ مواقف غويا ‪ ،‬ودقة ديلاكروا ‪ ،‬ورموز بيكاسو ‪،‬‬
‫وتخطيطات دافنشي ‪ ،‬ومزج الالوان عند فان كوخ ‪،‬‬
‫وتكوينات سلفادور دالي ‪ ،‬والب ارءة عند سي ازن وماتيس‬
‫كل هؤلاء اجعلهم وسيلة الى التكامل الذاتي لكي‬
‫تتجاوز به مرحلاتهم الفنية وتتسم أنت بطابع خاص ‪،‬‬
‫لان البشر يميلون الى ما يشدهم نحو أعماقهم وحلمهم‬
‫وآمالهم أكثر ما يميلون الى واقعهم القاحل ‪ ..‬بل خذ‬

‫واقعهم وارحل به عبر السماء ‪.‬‬

‫وشكرني وترك لي الصورة هدية ‪ ،‬حملتها الى‬
‫غرفتي معت اًز بها ‪ ،‬فهي خير وسيلة لشد الروح عبر‬

‫نافذة تطل أبدًا على مهديها ‪.‬‬

‫يوم قاتم‬

‫أتى صديقي الشماس وأنا منشغل فى الحديقة‬
‫الخلفية وطلب منى أن أتهيىء للذهاب معهم الى قصر‬
‫السيدة ( ماري ) حيث دعت الجميع لتناول الغداء ‪،‬‬
‫فاعتذرُت منه لعدم رغبتي في تلبية الدعوة ‪ ،‬فلي‬

‫‪56‬‬

‫مشاغلي ‪ ،‬وطلب ُت منه أن يعتذر لي ‪ ،‬فتركني على‬
‫أمل الاعتذار ‪.‬‬

‫كن ُت أعرف صاحبة الدعوة فهي نفس الم أرة التي‬
‫داعبت قلبي في الايام الخوالي ولم أقترن بها لان الله‬
‫بعث لي إم أرة أجمل وأطهر وأطيب ولكن كيف للقدر‬
‫أن يدع الاحياء سعداء بعد هبات الله ‪ ،‬وهو المشهور‬
‫بفضاعة مقالبه ‪ ،‬لم لم يدعني هانىء القلب والخاطر‬
‫بزوجتي وبناتي حتى قصم ظهري وقطع نياط قلبي ‪،‬‬

‫فواحسرتاه لفقدهم ‪ ،‬ويا لتعاستي من بعدهم ‪.‬‬

‫طفق ُت أبكي بصمت وبلا دموع حتى شعرت أن‬
‫فؤادي يتفطر ويتمزق ‪ ،‬وأن نفسي تدلهم ويضيق بها‬
‫جسمي ‪ ،‬وكأن الدنيا حلم مزعج مظلم ‪ ،‬آنذاك هرب‬
‫الفجر من عيوني وزرعت الظلام فى دمي فلم تـنبت‬
‫أشجاره وحلقت الآلام في سماء نفسي و ارحت تقتات‬
‫الخير والسلام وترقص على دقات طبول الموت معلنة‬
‫الحداد على الاحياء والاموات وعلي أنا الميت الحي ‪.‬‬

‫‪57‬‬

‫وبينما أنا كذلك اذا بيد تربت على كتفي وبصوت‬
‫الاب شاول يقول هون عليك أيها الشيخ والا ينفجر‬

‫فؤادك من الألم !‬

‫ورفع ُت أرسي نحوه وقل ُت والعبرة تخنقني ‪:‬‬

‫‪ -‬يا ليته ينفجر وأنتهي ‪..‬اتركني أرجوك فلي مع‬
‫نفسي سجال دموي ‪.‬‬

‫وعاودت قرع طبول الحرب مع روحي ‪ ،‬عندما‬
‫تهرب الاف ارح من جزيرة قلبي ويخيم الظلام في أرجاء‬
‫فؤادي وتهجم الغيوم السوداء وتلبد الشغاف وترعد ألما‬
‫وتبرق حسرة ‪ ،‬وتطير الش ار ارت لتحرق السويداء ‪،‬‬
‫آنذاك أصيح في أعماق نفسي ( الهي يا ُمنزل الم َّن‬
‫والسلوى رحمتك ‪ ..‬ما هذا الألم الذي يجتاحني ‪ ،‬ما‬
‫هذه التعاسة التى تذيبني ‪ ،‬أ ك ّل الاحياء ُخلقوا مثلي ‪،‬‬
‫علام تعصر فؤادي بقوة وأنا أعرفك رؤوفاً رحيمًا ‪،‬‬
‫علام تطرق قلبي بمطارقك القاسية ولا تمسده بيدك‬
‫الحنون ‪ ،‬علام تقلب لي الحب وهماً والحبيب خيالاً ‪،‬‬

‫‪58‬‬

‫علام الورود تصير أسوداً مفترسة ‪ ..‬إلهي رفقاً رفقًا‬
‫وألف ألف رف ٍق )‪.‬‬

‫يوم فقاعي‬

‫الحياة رتابة دهرية تعطي بلمح البصر وتسلب‬
‫برمشة عين ‪ ،‬فقبل أيام خلت كانت زهرة الارجوان بين‬
‫الورود يانعة مغناجاً ‪ ،‬أما اليوم فقد خنقها العدم‬
‫ويبست وذرتها الرياح‪ ،‬فيا لعاقبة الانبثاق والتنفس ‪..‬‬
‫واصل ُت عملي بدون رغبة ‪ ،‬وجاء صديقي الشماس مع‬
‫القس كلبرت واخب ارني أن السيدة ماري افتقدتـني طوال‬
‫الوقت الذي مكثوه في قصرها ‪ ،‬وكانت ما تفتأ تسألهما‬
‫عني وتوصيهما خي اًر بي‪ ،‬وقد اخبرتهما إنها من نفس‬

‫حارتي في بيسان ‪.‬‬

‫فاجبتهما بقولي ‪:‬‬

‫ــــ عندما يفقد الانسان العالم يبدأ بعض الناس‬
‫بتقديس ذك اره ‪ ،‬وحين كان بينهم وقريباً منهم لم يعيروه‬
‫أدنى أهمية ‪ ،‬يا صديق َّي إنها لا تذكرني بل تحاول أن‬

‫‪59‬‬

‫تخدع نفسها لتتخيل إنها باقية على شبابها فهي قد‬
‫قاربت دخول العدم ‪ ،‬وأنا قد ودعت الدنيا منحد اًر‬
‫بسرعة الى بحر الفناء وما زل ُت أنزل ‪ ،‬وهي تخاف أن‬
‫يمحى من ذاكرتها شريط الصبا الملون المعطر ‪ ،‬أما‬
‫أنا فقد فقد ُت ذكريات الشباب الى الأبد ولم تبق سوى‬

‫ذكرى آلآم الرجولة والشيخوخة ‪.‬‬

‫دهشا من كلامي ‪ ،‬ولا أدري هل فقها ما أرمي اليه‬
‫أم لا ‪ ،‬لكن الشماس التفت الى كلبرت قائلا له ‪:‬‬

‫ــــ أي شيخ قاس شيخنا ‪ ..‬ليحمه الرب من نفسه ‪.‬‬

‫كأن خنج ًار غرز في صفحة قلبي فأدماه ‪ ،‬وليتـني‬
‫كنت بلا لسان لما دخلت غابة الكلام صارخاً معب اًر‬
‫عن همومي فتسمعني الوحوش الكاسرة وتهجم علي‬
‫وتقطعني بأنياب اللفظ وبمخالب الحروف ‪ ،‬فتباً لك يا‬

‫فم بما تجلبه من مصائب جارحة ‪.‬‬

‫‪60‬‬

‫بقي كلبرت واقفاً بعد أن انصرف الاب شاول ينظر‬
‫الي بعين ثاقبة كأنه يريد أن يخترق أعماقي ويكشف‬

‫سريرتي ثم بادرني قائلًا‪:‬‬

‫ـــ سيدي الشيخ هل نبتت الحبوب ؟‬

‫كنت قد نسيتها حقا ‪ ،‬فاجبته ‪:‬‬

‫ـــ هيا بنا ننظرها ‪.‬‬

‫تمعن في التربة لم يبصر شيئاً ‪ ،‬لكني أبصرت‬
‫إرتفاع التربة في بعض الاماكن فقلت له ‪:‬‬

‫ــــ أظن إنها ستنب ُت عن قريب فأصبر أكثر ‪.‬‬
‫وبعد أن تركني قلت في نفسي لتكن تجربة له تعلمه‬
‫الصبر في معرفة الحقيقة المؤلمة ‪ ..‬خلعت قلبي‬
‫وزرعته على الصخر وأنا أدري إنه لن يخضوضر لذا‬

‫سازرع الصخر في قلبي الى الأبد ‪.‬‬

‫باضافري ساحرث مزرعتي وسأشتل فيها بقايا حبي‬
‫وأُسقيها بالدموع ‪ ،‬فان نبتت الاشجار بلا ثمر أمسك‬

‫‪61‬‬

‫فأسي وأنهال على جذوعها قطعاً ‪ ،‬وأنهش جذورها‬
‫نهشاً ‪ ،‬ثم أبث النار لتقضم مزرعة حب غير مثمر‬

‫وتحيله الى رماد ‪.‬‬

‫يوم زنجي‬

‫تحت زنود الليل احتضنت طاولتي السوداء ‪،‬‬
‫ومسكت مح ارث الورق لازرع بمداده لغز الكلمات ‪،‬‬
‫وكان المصباح يطرد بنوره أشباح الظلام فيأتلق الورق‬

‫فوق الطاولة كأسنان الزنجي ‪.‬‬

‫يرسو عند مسامعي نغم الكون المدوي بخفوت ‪ ،‬ولا‬
‫يقطعه سوى وقع خطوات القسيسين في الممر ‪.‬‬

‫كم عسيرة هي الافكار الجديدة ‪ ،‬فاليوم الذي مررت‬
‫به لم يكن جديداً تحت الشمس ‪ ،‬فليس فى فكري سوى‬
‫أصداء الماضي ومن يحب أن يؤلم نفسه بنفسه‬
‫فليستخرج الصفحات الحزينة ويق أرها ‪ ..‬فكل ذكرى‬
‫أستذكرها مسمار قديم يدق في شغاف قلبي ‪ ،‬فكم أنت‬

‫‪62‬‬

‫لذيذة يا مسامير الذكريات حينما تغرزين في تابوت‬
‫الدماء ‪ ،‬فأنت تسلية حياتي الضائعة ‪.‬‬

‫طرقني منظر شتوي ‪ ،‬حيث كنت في عش الزوجية‬
‫الذهبي أجلس قرب المدفأة على كرسي وثير ‪ ،‬وكانت‬
‫زوجتي تربض على بساط الغرفة بقربي واضعة أرسها‬
‫ــ ذا الشعر الاسيل ـــ على حجري وكان يتموج أبنوساً‬
‫يميل الى البنفسجي ‪ ،‬وكانت لذتي الوحيدة هي النظر‬
‫الى محاسن وجهها المتورد وسط هذا البحر من السواد‬
‫الذي تخضبه ألسنة الني ارن بأشعتها ‪ ،‬فتتسلل أصابعي‬

‫مبحرة في طياته الناعمة ‪.‬‬

‫آه كأن تنفسها أحس به الآن ‪ ،‬فيا للمنظر ‪ ،‬لو‬
‫أعدته في مخيلتي م ار اًر لما مللت ‪ ..‬وما السعادة الا‬
‫كطيور فى غابة السلام تتـنقل من غصن الى غصن ‪،‬‬
‫كل ما يغريها من ثمر يكون داني القطوف ‪ ،‬وكل ما‬
‫يرويها يكون سهل المنهل ‪ ،‬فتستظل تحت الاو ارق‬
‫الطرية ‪ ،‬لا عمل يتعبها غير أن تزق الحب زقاً ‪،‬‬

‫ويداعب الحبيب الحبيبة ‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫ليتك يا سعادة قلبي بقيت ترفرفين علينا ‪ ،‬وليت‬
‫مقص الزمن تكسر قبل قصك ‪.‬‬

‫لم استطع النوم فخرجت الى الحديقة الخلفية‬
‫لاسترق السمع لموسيقى الليل الكونية ‪ ..‬صرير‬
‫عش ارت الص ارصير يقطعه نقيق ضفدع ‪ ،‬حفيف‬
‫سعفات النخيل يتخلله نباح كلب من بعيد يعقبه هدير‬
‫شاحنة ‪ ..‬وخلف كل هذه الاصوات هناك صوت‬
‫هرموني كوني هائل‪ ،‬حقا انها لسمفونية بعيدة الاغوار‪.‬‬

‫طرق سمعي صوت أحد القساوسة وهو يحاول أن‬
‫ينظم بعض بيات الشعر ويتوقف عند المقطع ويعيده‬
‫بصوت حزين ‪ ..‬اقتربت من مكانه فوجدته جالساً على‬

‫المصطبة الخشبية ينظر الى أشعة القمر الزورقي ‪.‬‬

‫حييته ‪ ،‬كأن تحيتي تيار كهربي مسه ‪ ،‬فإرتجف‬
‫جافلاً من صوتي ورد علي تحيتي بحروف متقطعة ‪،‬‬
‫فإعتذرُت منه لقطعي سلسلة مشاعره ‪ ،‬لكنه إبتسم‬

‫برضى بعد أن سيطر على إرتباكه وقال ‪:‬‬

‫‪64‬‬

‫ـــ أبداً ‪ ..‬أنا أنظم قصيدة وقد عصت علي الالفاظ‬
‫الدقيقة فلعلك ترشدني اليها فقد اخبرني أخوتي عن‬
‫درجتك العلمية والأدبية ‪ ،‬والحق أنا أريد أن أكلمك منذ‬

‫فترة ‪.‬‬

‫حدجته بنظرة فاحصة ‪ ،‬فقد كان شاباً خجولاً ‪،‬‬
‫باسم الوجه بعينين حزينتين تتكسر نظ ارتهما كلما التقتا‬
‫بعيني ‪ ..‬قلت في نفسي حقاً إنه يحمل صفات الشاعر‬

‫أسرع ُت وقلت له ‪:‬‬

‫ــــ تفضل ستجد عندي ما يسرك ‪.‬‬

‫قال ‪ :‬منذ سنوات وأنا أنظم الشعر ‪ ،‬وقد قلدت‬
‫الشع ارء الاقدمين ‪ ،‬لكني كرهت قيود القافية ‪ ،‬وملت‬
‫الى الشعر الحر ‪ ،‬فتأثرت بالرواد العرب علماً إني‬
‫أحسن الفرنسية وأتذوق شعر ارمبو وفيرلين ‪ ،‬وقد‬
‫نظمت قصائد كثيرة وارسلتها الى الصحف والمجلات‬
‫وما علمت إني أرميها فى نهٍر جاٍر ‪ ..‬ولا أعرف سبباً‬

‫لرفضهم قصائدي ؟!‬

‫‪65‬‬

‫ـــ أسمعني شيئاً ؟‬
‫ارح يق أر لي بعضاً مما يحفظه من نظمه ‪ ،‬عرف ُت‬
‫‪ ،‬أن له أذناً موسيقية ويتحسس النغم بدقة وعذوبة وهذه‬

‫أولى علامات الشاعرية‪.‬‬

‫كما أعجبني إستخدامه للالفاظ بشكل جديد يوحي‬
‫بمعا ٍن مجنحة تسلب الخيال بسرعة ‪ ،‬وتأخذه الى‬
‫عوالم غريبة ساحرة وهذه ثاني الشاعرية ‪ ،‬وطابع‬

‫الحزن غالب على شعره فقلت له ‪:‬‬

‫ـــ أني أجد الشاعرية مكتملة عندك فهلا أسمعتني‬
‫قصيدة نظمتها بعد تجربة عنيفة هزت قلبك وأحاسيسك‬

‫وتجدها أقرب الى مشاعرك‪.‬‬

‫و ارح ينشدني شع اًر كشعر أودونيس حفظت منه‬
‫هذا المقطع ‪:‬‬

‫لغتي خشب ولست كالأشجار‬

‫لكنني من مدن غريبة أتيتكم‬

‫‪66‬‬

‫عبرت في عيونكم مفاوز القصدير والنساء‬
‫أبحرت من بحاري البعيدة المسار‬
‫وجئت حيث خطت الع ارفة الضريرة‬

‫وبعد ما عَّلقت في مدينتي أعوامي العشرين‬
‫في مشنقة‬

‫تستقبل الجفاف والزوار‬
‫أتيت يا ملهمتي لأنني مسافر بضاعتي الاح ازن‬

‫أعرضها أبيعها بحزني الغريب‬
‫أصرها في جزر غريبة عليك‬
‫ففي غد وها هنا اذ تنضج الاثمار‬
‫وتسأل الطيور عن أغصانها‬
‫وأن ِت في عينيك عن جزيرتي‬

‫ملهمتي لا تتعبي السؤال‬

‫‪67‬‬

‫إنني ولدت مثل طائر ومت كالنهار ‪.‬‬

‫قل ُت له عندما إنتهى ‪ :‬أخرج من معطف أودونيس‬
‫‪ ..‬أترك الفاظه وعبا ارته فشاعريتك قوية وجارفة ‪،‬‬
‫ابحث لها عن عبا ارت والفاظ جديدة لم تخطر ببال أي‬

‫شاعر ‪ ..‬وسيكون النجاح حليفك ‪.‬‬

‫شكرني بألم ‪ ..‬وودعني على ليلة هانئة ‪ ..‬وبقي ُت‬
‫أحاسب نفسي وأنتظر نجمة الصباح لعلها تخفف من‬

‫ص ارع أفكاري ‪.‬‬

‫يوم موحش‬

‫سوف تهاجر أس ارب الطيور من الجزيرة‬
‫الخض ارء ‪ ،‬ويعم السكون فؤاد الجزيرة ‪ ،‬لا نغمة طائر‬
‫ولا خفقة جناح ‪ ،‬وتبكي الغد ارن وتنتحب الشلالات ‪،‬‬
‫اذ لا بلبل يشرب من منابعها ومعينها ولا عصفور‬
‫يكركر مع قط ارت مائها ‪ ،‬نافضاً ريشه بسعادة ‪ ،‬كما‬
‫تلطم الأشجار خدودها أسفاً وحسرة ‪ ،‬اذ لا حمامة‬
‫تعشعش فى وكناتها ‪ ،‬ولا ببغاء تتأرجح بأغصانها ‪،‬‬

‫‪68‬‬

‫ولا ه ازر يغرد بين زهورها ‪ ،‬عندها تهجم الاشباح تبث‬
‫الرعب في نفس الجزيرة ‪ ،‬فتتأوه الجزيرة وحشة والماً ‪،‬‬
‫ولا تجد منجاة من وحدتها الكأداء فتغطس الى قاع‬
‫البحر للأبد وتبقى فى سباتها حيث ترقص فوقها‬

‫الأمواج والتيا ارت ‪.‬‬

‫فما أن أنهيت تأملاتي بجزيرة حياتي حتى إقترب‬
‫الأب شاول وحياني واطمأن على أحوالي ثم أردف‬

‫قائلاً بجٍد ‪:‬‬

‫ــــ سيدي ال ارهب أننا قد وضعنا أنفسنا لخدمة الرب ‪،‬‬
‫وخدمته لا تتم الا بعد خدمة المجتمع معنوياً ومادياً‬
‫وبما أني أ ارك ضعيف النفس متألم الذات ‪ ،‬فهل تسمح‬

‫لي أن أبث فيك روح السعادة ؟‬

‫ــــ وما هي السعادة في نظرك ؟‬

‫ــــ هي ارحة البال ‪ ،‬وطمأنينة النفس ‪.‬‬

‫ــــ وما هي وسائل ال ارحة ؟!‬

‫ــــ أن يقنع بما وهبه الله ‪.‬‬

‫‪69‬‬

‫ــــ اذا كانت ال ارحة أن يرضى بما يعطيه الله ‪ ،‬فان‬
‫الله أخذ مني كل شيء ‪ ،‬فمن أين ستأتيني ارحة النفس‬
‫‪ ،‬والسعادة إستردها الله مني ورزقني بدلها الشقاء‬

‫الأبدي ‪.‬‬

‫ختم الصمت افواهنا لهنيهة ثم بادرني الأب شاول‬
‫متسائلاً ‪:‬‬

‫ــــ ولكن ألا تخبرني ما الذي جرده منك الرب ؟‬

‫ــــ لقد أخذ مني بناتي وزوجتي وداري ومزرعتي‬
‫ووطني ولفظني من هذه الحياة لفظ النواة ‪.‬‬

‫ــــ أظن أن الحياة قد ساوت بيننا !‬

‫ـــــ كلا فأنت إنتهجت هذا الطريق وفق ظروفك ‪ ،‬أو‬
‫رغبتك ‪ ،‬أما أنا فقد اعتدت على أن أبني مستقبلي‬
‫وأمهد الطريق لبناتي وأسعد زوجتي وأخدم وطني ‪ ،‬فاذا‬
‫كل شيء يتهدم في طرفة عين بعد اتمام البناء ‪،‬‬
‫وأمست الأهداف س ارباً ‪ ،‬فكيف سنتعادل أنت رجل‬

‫ترتفع أما أنا فرجل يهبط الى الأغوار المظلمة ‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫فرد الأب شاول وعلى سيمائه ذهول التفكير‬
‫العميق ‪:‬‬

‫ــــ ألم تعلم أن الرجل لا يكون عظيماً إلا أن يقاسي‬
‫ألماً عظيماً ‪.‬‬

‫ــــ يالها من كلمات خادعة وإن تحققت فان العظمة‬
‫ستأتي على الهامش بعد أن يكون المرء قد وا اره‬

‫الت ارب‪.‬‬

‫ــــ ولكن الذكرى الطيبة هي المجد والخلود وهذا ما‬
‫يسعى اليه الانسان ‪.‬‬

‫ــــ أجل ‪ ..‬ولكن أظنك أردت أن تقول ( لا يكون‬
‫الانسان عظيماً إلا أن يبني بنياناً عظيماً ويقاسي من‬
‫و ارئه الماً عظيماً ) ‪ ..‬أما أنا يا صديقي فقد بنيت‬
‫البنيان وقاسيت الألم وعند الكمال إنهار ك ُّل شيء‬
‫وذهبت ك ُّل آمالي أد ارج الرياح ‪ ،‬وأمسي ُت وحيداً تائهاً‬
‫ليس لبقائي معنى ‪ ،‬بل لموتي ألف معنى في نفسي ‪،‬‬
‫وحين أرحل عن الحياة لن أجد دمعة تسكب فوق‬

‫‪71‬‬

‫قبري‪ ،‬لان أعز ما الى روحي وقلبي سبقوني وبكيت‬
‫عليهم ‪.‬‬

‫ــــ ولكننا خدم الرب سنبكي عليك ونذكرك دائماً‬
‫ونصلي من أجلك ‪ ،‬داعين الله لك بالغفرآن ‪.‬‬

‫ــــ الغفرآن !! وهل قمت بذنب أستحق عليه الغفرآن ؟‬
‫أنا انسان لا أحتاج الغف ارن قط ‪ ،‬فأنا لا أطمع في دنيا‬
‫أو في آخرة ‪ ..‬أطلبوا الغفرآن للذين سرقوا الدنيا‬

‫ويريدون أن يسرقوا الآخرة ‪.‬‬

‫ــــ لقد أعييتني ‪ ..‬إذن ليبق الحمل تائهاً عن القطيع ‪.‬‬

‫يوم مموسق‬

‫جاءني منذ الفجر ــــ وعيناي لم تغتسل بالنور ــــ‬
‫الأب شاول وهو يحمل نفس الصندوق الحديد ‪..‬‬

‫ووضعه على المنضدة بالقرب من سريري وقال ‪:‬‬

‫ــــ يا أبتي خذ هذه الامانة فى عهدتك ‪ ،‬ا ّطلع عليها‬
‫لترى إننا متساويان ‪ ..‬ثم خرج دون أن أبدي له‬
‫ممانعتي ‪ ،‬وكيف أُظهر رفضي وأنا أشعر بأني وحدي‬

‫‪72‬‬

‫الضائع في الحياة ‪ ،‬والآن أريد أن أعرف هل حقاً‬
‫يوجد انسان مثلي ويساويني ‪.‬‬

‫رحت أرمق الصنــدوق الحديد ‪ ،‬الذي كان من‬
‫ط ارز القرن الثامن عشر‪ .‬حيث اكتظ بالزخارف‬
‫الخارجية ‪ ،‬واثر الت ارب والصدأ ما برحا ظاهرين على‬
‫أضلاعه ‪ ..‬فبدأ الفضول يحز في نفسي ح از ‪ ،‬ولكني‬
‫كنت عازماً اليوم على نقل بقايا الاح ارش النباتية الى‬
‫خارج الكنيسة ‪ ،‬لذلك قررت أن أطالع على محتوياته‬

‫غداً ‪ ،‬حيث يصادف يوم است ارحتي المقررة ‪.‬‬

‫حملت الصندوق وأخفيته في درج الخ ازنة‪ ،‬ثم هبب ُت‬
‫للعمل لكي تذيب طاقة الشمس سلاسل الخمول ‪.‬‬

‫بينما أنا مشغول بجمع الاح ارش ‪ ،‬بعد أن أقلعها مع‬
‫جذورها لمحت الحارس جالساً أمام باب غرفته الصغيرة‬

‫الملاصقة للبوابة كأنه يحرس سجناً لا بيتاً للرب ‪.‬‬

‫لا أدري لماذا شعرت أن حارس باب الجنة سيكون‬
‫من الشياطين وليس من الملائكة و ارجعت نفسي‬

‫‪73‬‬

‫متسائلاً ‪ :‬لماذا ؟ ‪ ..‬أ لقسوة ملامحه أم لص ارمته‬
‫وخشونة الفاظه ‪ ،‬فتذكرت حينما قدمت الى الكنيسة مع‬
‫صديقي الشماس حيث فتح الحارس لنا الباب و ارح‬
‫يطيل بي النظر ويتفرس في ملامحي كما يفعل رجال‬

‫الحدود ‪.‬‬

‫في هذا اليوم كان الوقت قبل الظهيرة ومعظم‬
‫القساوسة يدرسون فى المدرسة المحاذية للكنيسة ‪،‬‬
‫وعلى غير عادة الحارس كانت بوابة الكنيسة مفتوحة‬
‫على مص ارعيها ‪ ،‬دخلت مجموعة من الاطفال الصغار‬
‫اركضة ‪ ،‬وكان يداعب أحدهم الآخر بضح ٍك وزعيق‬
‫لطيف ‪ ،‬فزجرهم الحارس مانعاً تقدمهم الى الداخل‬

‫بصوت عا ٍل خشن ‪.‬‬

‫فتجمع الاطفال بعضهم الى بعض مثل الكتاكيت‬
‫الخائفة ‪ ،‬وظهرت بعدهم ارهبة حّيت الحارس واتفقت‬
‫معه بكلام لم أسمعه وأسرعت اركضة الى السيارة التي‬

‫ظهرت واقفة في الشارع عبر البوابة ‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫ناداني الحارس بقوله ‪ :‬أيها ال ارهب هلا رعيت‬
‫هؤلاء الأطفال لحين أُنادي على القس يوسف ‪.‬‬

‫أومأت له ب أرسي بالقبول وناديتهم أن هلموا الى‬
‫افت ارش حشائش الحديقة تحت سيدة الأشجار الوارفة‬
‫الظلال ‪ ..‬ركض الاطفال ولا أدري كيف ت ارءى لي‬
‫بناتي وهن يركضن نحوي ‪ ،‬دمعت عيوني فرحاً اذ أن‬
‫أصواتهن هي هي لم تتغير ووجوههن هي هي لم‬

‫تتبدل ‪.‬‬

‫أية زنابق بيضاء حَّلت في الحديقة ‪ ..‬سألوني أسئلة‬
‫طفولية أجبت عنها برقة ولكنها أخرجتـني من خيالي‬

‫وبرهنت لي أن الاطفال لا يعرفوني قطعاً ‪.‬‬

‫جاء القس يوسف مسـرعـاً ‪ ،‬وذهب الحارس الى‬
‫مكانه قرب البوابة ‪ ،‬حياني القس باضط ارب وهو ينظر‬

‫الى الاطفال العشر ‪ ،‬ويردد مع نفسه ‪:‬‬

‫ــــ ماذا أعلمهم بحق المسيح ؟ ‪.‬‬

‫بدون شعور قلت له ‪ :‬الموسيقى !‬

‫‪75‬‬

‫تعجب من جوابى وتهللت أساريره وقال ‪:‬‬

‫ـــــ كيف ذلك يا أبتي ؟ ‪ ،‬فقد طلبوا مني أن أُعلمهم‬
‫كل يوم ساعة واحدة وأنا لا عهد لي بتدريس الصغار‬

‫‪ ..‬اذ بماذا ابدأ وكيف أنتهي أجبته ‪:‬‬

‫ـــــ إستخدم شعر الاطفال الغنائي فهو خير وسيلة‬
‫لتقوية حافظتهم وكلما لحنته بالحان عذبة كلما رققت‬

‫مشاعرهم ‪.‬‬

‫فسأل بتلهف كغريق وجد قارب النجاة ‪:‬‬

‫ــــ وأي الشع ارء تفضل شعره لهؤلاء الاطفال ؟‬

‫أجبته بسرعة ‪:‬‬

‫ـــــ سليمان العيسى في «غنوا يا أطفال» ولكن على‬
‫شرط أن يكون درس الموسيقى والنشيد ليوم واحد في‬

‫الأسبوع ‪.‬‬

‫ـــــ وماذا فى بقية أيام الأسبوع ‪ ،‬وهي ساعة واحدة‬
‫في كل يوم ‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫ـــــ أعرف أنها ساعة واحدة ‪ ،‬لأن الطفل يضجر من‬
‫نمط واحد ‪ ،‬فعليك التنويع ‪ ،‬اليوم تُحّفظ الاطفال‬
‫مقطعاً غنائياً ُمل ّحناً وفي الغد تعلمهم الرسم الحر ‪،‬‬
‫وفي اليوم الثالث تعلمهم الز ارعة ‪ ،‬وأنا مستعد أن أُحدد‬
‫لكل منهم مت اًر مربعاً خاصاً به لز ارعته في الحديقة‬
‫الخلفية ‪ ،‬واليوم ال اربع تعلمهم عمل الاشكال الطينية‬
‫واليوم الخامس الرياضة الحرة ‪ ،‬وفي اليوم السادس‬
‫المطالعة المصورة ‪ ،‬فابتسم بفرح شديد وقال وكله ثقة‬

‫بنفسه‪:‬‬

‫ــــ إذن ستعينني على ذلك يا أبتي ال ارهب ؟‪.‬‬

‫ـــــ على الرحب والسعة ‪.‬‬

‫فأخذهم وإتجه بهم الى البوابة الخاصة بمدرسة‬
‫الكنيسة ‪.‬‬

‫وبعد أن أخرج ُت كثابين الأدغال ورميتها في‬
‫موضع النفايات خارج الكنيسة ‪ ..‬قضيت بعد الظهر‬
‫معظم وقتي في حمام الكنيسة وكنت التُّذ كالاطفال‬

‫‪77‬‬

‫بالماء حينما أسكبه فوق جسمي ‪ ..‬وما فتأ ُت أنصت‬
‫لموسيقى المياه المنسكبة على أرسي المتزحلقة على‬
‫جسـدي والمصطدمة بأرضية الحمام ‪ ،‬فكأن روحي‬
‫تسيل مع كل قطرة فترقص ‪ ،‬وعقلي يذوب مع كل‬
‫نغمة فيطرب ‪ ،‬وما الموسيقى الا هلاهل الجمادات‬
‫معبرة عن سرها فكيف للسمع أن يفقه وهو مسحور‬

‫بالصوت ؟ ‪.‬‬

‫يوم صوفي‬

‫خرجت من الكنيسة بعد أن ارتديت ملابسي‬
‫القديمة ‪ ،‬وإتجهت الى مقبرة من مقابر المسلمين لان‬
‫ظاهرة الموت تبرز بها أكثر من بقية المقابر ‪ ،‬فالقبور‬
‫تلال على حجم الانسان ال ارقد تحت ت اربها ‪ ،‬فما أن‬
‫شارفتها حتى توغل ُت الى وسطها مبتعداً عن ضوضاء‬
‫المدينة ‪ ،‬وهناك تحت نخلة حولها فسيلتين جلس ُت ‪،‬‬
‫و ارحت نظ ارتي تمسح القبور المت ارصة ثم ترتد ساقطة‬
‫على النخلة وفسائلها ‪ ..‬فاذا بالآلام تتقاطر في قلبي ‪،‬‬
‫وانكفأ ُت على وجهي ‪ ،‬ودخل ُت في غفوة فكرية أبعدتني‬

‫‪78‬‬

‫عن ضوء الوجود الى ظلام سرمدي ‪ ،‬لا أعلم هل‬
‫كنت أتمتم أم أصلي ‪ ،‬لكني شعرت بحواسي أجمع‬
‫تندمج بظل كثيف لطيف ‪ ،‬فبدأت أنتحب كطفل وحيد‬
‫في غرفة مظلمة ‪ ،‬وأنكشف لي اللاوجود تدريجياً ‪،‬‬
‫كأن مرآة صافية ازلت عنها الغشاوة‪ ،‬صرت أشاهد‬
‫وجوه بناتي واحدة تلو الآخرى ‪ ،‬وجوه مشدوهة تصرخ‬
‫مستنجدة ‪ ،‬ثم ظهر وجه زوجتي واسعاً قد شبت به‬
‫النار وبجسم مشوه مقطع ‪ ،‬وهي تزعق كالمجنونة وقد‬
‫جحظت عيناها ‪ ،‬فازددت بكا ًء ‪ ،‬وعفرُت وجهي‬
‫بالت ارب ‪ ،‬وكأن غاشية الظلام قد رقدت فوقي فلم أهدأ‬
‫إلا بعد أن أري ُت قبساً من النور إنسكب في نفسي ‪،‬‬

‫وطافت روحي في كيانه واستكانت ‪.‬‬

‫لم أنتشل من اللاشعور الا على يدين غليظتين‬
‫تمسكان بي وتجلساني ‪ ،‬حينئذ أفق ُت وطالعني وجه‬
‫غريب لرجل بدين بملابس متهرئة قذرة ‪ ،‬فما أن لمح‬
‫وجهي حتى إسترسل في القهقهة ‪ ،‬فنهضت ونفض ُت‬
‫ملابسي ‪ ،‬ومسح ُت ووجهي بعمرة أرسي ‪ ،‬ثم قلت له‬

‫وأنا أغادر المكان ‪:‬‬

‫‪79‬‬

‫ـــــ سمن جسمك للديدان ! ‪.‬‬

‫توقف عن الضحك وقال ‪:‬‬

‫ـــــ أعذرني ما ضحكت عليك ‪ ،‬ولكني لمحت وجهك‬
‫وهو معفر بالت ارب فخلتك شبحاً من أشباح المقبرة ‪.‬‬
‫ـــــ وهل الاشباح مضحكة ؟‬

‫ـــــ بالنسبة لي مضحكة فأنا ما أريت شيئاً غريباً الا‬
‫وضحك ُت وكما تعلم الضحك خير من الخوف ‪..‬‬

‫ولكني أظنك لم تعلم شفتيك الضحك ‪.‬‬

‫ـــــ أنك على حق فهو ت اربط طبيعي بين السمن‬
‫والضحك والضعف والحزن ‪.‬‬

‫ـــــ لكن الا تخبرني ما سبب حزنك وبكائك ؟ ‪.‬‬

‫ـــــ أنا لست حزيناً انما أبكي رهبة من عظمة ربي ‪.‬‬
‫ـــــ إذن أنت من المتصوفة ؟ ! ‪.‬‬

‫تركته ولم أجبـه بشيء ولا أعلم لماذا فسرت له‬
‫حزني بهذه الصورة ربما هرباً من تدفق الاسئلة ‪ ،‬وأنا‬

‫‪80‬‬

‫غير مستعٍد للاجابة ‪ ،‬أو ربما جاء الكلام على طرف‬
‫لساني وأطلقه من دون ترٍو فأندم على ذلك ‪ ،‬ورحت‬

‫حادث عقلي ‪:‬‬

‫ــــ أنك كائن غريب الاطوار في هذه الارض ‪ ،‬تشعر‬
‫بالوحدة وسط هذا الكون ‪ ،‬تبحث عن ذاتك في اقطار‬
‫السماوات وفي أعماق البحار والغابات والصحارى‬
‫والوديان وحين يحل بك التعب تتقوقع باحثاً عن ذاتك‬
‫داخل نفسك ‪ ،‬ويتفصد من جسمك العرق دون جدوى‬
‫فتركض شرقًا وغرباً مخترعاً شتى الوسائل الموصلة‬
‫الى أي بعٍد تريد ‪ ،‬متطلعاً تارة فى وجود الآخرين من‬
‫بني جنسك ‪ ،‬وتارة أخرى متمعناً في وجه الطبيعة ‪،‬‬
‫يأسرك الجمال في لحظته ‪ ،‬وتأسرك الهموم في‬
‫لحظات كثيرة ‪ ،‬وتشعر بالدوار ‪ ،‬بالضحالة ‪ ،‬فتصرخ‬
‫ملء فمك في فضاء نفسك ‪ :‬من أنت ؟ ولم جئت ؟‬
‫ومن أين ولاجل ماذا ؟ وعلام تعاني ما تعاني ؟ ولم‬

‫هذا الضياع ؟ وهل من نتيجة لبحثك ولألمك ؟ ‪.‬‬

‫‪81‬‬

‫يوم مكنوز‬

‫اليوم أخرجت صندوق الحديد وفتحته وأخرج ُت‬
‫منه رزمة الأو ارق والصور ‪ ،‬وعزل ُت مجموعة الأو ارق‬
‫عن مجموعة الصور وأخذ ُت أطالع الأخيرة ‪ ،‬وكانت‬
‫تتسلسل من منظر طفل صغير مع والدته حتى نموه‬
‫الى شاب يافع وكانت كل صورة قد دون خلفها اسم‬
‫شاول مع والدته بمواقف شتى ومناسبات محددة‬
‫بالزمان والمكان ‪ ،‬وكانت الأم في كل صورة مبتسمة‬
‫تحتضن وليدها فى صغره وتطوقه بحنان في فتوته ‪،‬‬
‫كانت ام أرة ضعيفة البنية ‪ ،‬دقيقة القسمات ‪ ،‬رشيقة‬
‫القوام ‪ ،‬تتكلف السعادة تكلفاً على ما يبدو ‪ ،‬فمن‬
‫قسمات وجهها الشاحب وجسمها الناحل قد هدتها الايام‬

‫‪ ،‬واتعبتها السنون ‪.‬‬

‫أما شاول وهو طفل فقد كان جميل الملامح ‪ ،‬حلو‬
‫الهندام إبن عز وأُبهة ‪ ،‬وكان في جميع ادوار حياته‬

‫حتى دور الشباب حيوياً نشطاً معتدل سمنة الجسم ‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫فما أن إنتهيت من الصور حتى انتقل ُت الى‬
‫الرسائل وكانت كلها بقلم الأب شاول إلا ورقة واحدة‬
‫كانت محررة من والدته وهي ـــ على ما أظن ـــ‬
‫وصيتها الأخيرة ‪ ..‬اذ تقول فيها (ويبدو إنها على وشك‬

‫الرحيل) ‪:‬‬

‫شاول ولدي الحبيب‬

‫أنت نوري على الارض أتبـارك به ‪ ..‬وأنت أملي‬
‫الـذي سيبقى محط أنظار روحي ‪ ،‬أنظر لعينيك‬
‫العميقتين فأحس بالهناء من بعد العناء ‪ ،‬وأرنو الى‬
‫ضحكتك الفجرية المشعة أنجماً فأشعر أن الدنيا تبتسم‬

‫عن مهرجان عذ ٍب ‪.‬‬

‫أي شاول لقـد قاسي ُت ـــ من أجـل أن أهـز بك الايام ـــ‬
‫شتى المصاعب ‪ ،‬وكانت هي لذتي في الحياة ‪ ،‬فكم‬
‫كنت سميري في وحدتي الربداء ‪ ،‬وكم كنت مؤنسي‬
‫في وحشتي الكأداء ‪ ،‬أبكي فتمسح بقبلاتك دموعي ‪،‬‬
‫عاصرنا الفقر سوية ‪ ،‬وذقنا الليالي الباردة تحت سقف‬

‫‪83‬‬

‫واحد ‪ ،‬ولم يدفئني سوى شخصك المرح ‪ ،‬ولم تغنني‬
‫سوى روحك الذهبية ‪.‬‬

‫أواه شاول لقد كنت أتمنى أن أشاهد شريكة حياتك‬
‫في المستقبل ‪ ،‬وأحضر زفافك لكي أ ارك تختال‬
‫كطاووس ‪ ،‬فأفتخر بك بين النساء ‪ ،‬وأحس أن حياتي‬
‫لم تكن عبثاً ‪ ،‬فتملأ الدنيا عيني بمنظرك ‪ ،‬ولكن القدر‬
‫يأبى أن أسعد بذلك ‪ ،‬فان خفقات قلبي بدأت تقل ‪،‬‬
‫وأني أنتظر ال ارحة الأبدية بين خيوط الفجر ‪ ،‬والدنيا‬
‫أمست تظلُّم في بصري كلما أضفت كلمة الى‬
‫وصيتي‪ ،‬وأخذت روحي تنهصر بشدة ‪ ،‬اذ أين‬
‫القصور والأموال التي تتمناها كل أم لابنها ‪ ،‬فانا لا‬
‫أملك سوى أن أوصي بحبي لك الى الأبد ‪ ،‬ودعائي‬
‫في سبيل أن تسعـد مدى العمر سأملأ به السماوات‬
‫والارض ‪ .‬شاول ابني‪ ..‬قلبي ‪ ..‬الوداع‪..‬أمك الحنون‪.‬‬

‫إنتقلت الى رسـائـل شاول وكانت قط ارت مائية قد‬
‫أسالت حروفها‪ ،‬فمضي ُت ألتهم سطورها بنظري التهامًا‪،‬‬
‫فما ذقت طعماً للغة مثل لغة الشعور بالألم والعواطف‬

‫‪84‬‬

‫الحزينة ‪ ،‬فقد إنبرى يبكي ويستبكي حروفه ‪ ،‬فشعرت‬
‫بكلماته تلطم حزناً ‪ ،‬وأحسس ُت بأفكاره تـنوح شوقاً ‪ ،‬فما‬
‫عرف ُت انساناً له مثل هذا القلب الرقيق ‪ ،‬وهذه النفس‬
‫المحترقة ‪ ،‬يبث مشاعره تجاه أمه كطفل رضيع يولول‬
‫لفقدان والدته الحنون ‪ ،‬وكحبيب يناجي حبيبته وهى‬

‫مسجاة بين يديه جثة هامدة ‪.‬‬

‫كانت أمـه هي دنياه ‪ ،‬وحين رحلت طفق يندب‬
‫حظه البائس ‪ ،‬ويش ُّن حملة على الزمن الذي قصم‬
‫ظهره حين سلب منه أعز ما في وجوده ‪ ،‬ويتوعد‬
‫بالويل للأيام التي أشقته ‪ ،‬فكانت ثورة مكبوتة في نفسه‬
‫لا يطلق حممها الا بكتاباته ولا يلطف من هيجانها الا‬

‫بمناجاته لأمه الرؤوم ‪.‬‬

‫وما هذه القط ارت التى أسالت الحروف الا دموعه‬
‫المنثالة فاختلطت دموعي مع دموعه ‪ ،‬فقد فتحت‬
‫كلماته أبواب الحزن من جديد ‪ ..‬ورحت أتأمل أفكاري‬

‫( ما الدنيا إلا كنز عظيم في أعماق البحر لا يصله‬
‫الا من جازف وتعب ‪ ،‬حتى اذا ما امتلكه وحاول‬

‫‪85‬‬

‫الخروج امتدت أذرع اخطبوط وقيدت جسمه ‪ ،‬فلا هو‬
‫قادر على الخلاص والنجاة ‪ ،‬ولا هو يستطيع أن يدفع‬

‫الكنز ثمناً لحياته كتعويض ) ‪.‬‬

‫أن الركض و ارء الأمل حلو ‪ ،‬وعدم تحقيقه أحلى ‪،‬‬
‫ونيله وتحقيقه الأحلى ‪ ،‬وأن الذي بلا أمل تعيس ‪،‬‬
‫والذي أمامه الأمل ولا يسعى صوبه أتعس ‪ ،‬والذي‬
‫حقق الأمل وفجأة يتبخر ويتلاشى من أمامه الأتعس‬
‫والأب شاول على الأرجح بلا أمل فلذلك ظن أننا‬
‫نتساوى بالشقاء ‪ ،‬ولكن محال أن يعادل الربيع الخريف‬

‫وأن يعادل النهر الصح ارء ‪.‬‬

‫يوم قيثاري‬

‫التقيت بالأب شاول في حديقة الكنيسة ‪ ،‬وكانت‬
‫نظا ارته المتسائلة تبحث في وجهي عن تأثير محتويات‬
‫الصندوق ‪ ،‬لكني لذت بالصمت لفترة من الوقت ثم‬

‫قلت له ‪:‬‬

‫‪86‬‬

‫ــــ آه ‪ ..‬أيها الأب شاول ‪ ،‬ما خلتك طفلاً كبي اًر ولكن‬
‫تشبثك بأمك أثبت لي ذلك ‪ ،‬فيا لقلبك الصغير الذي‬
‫زعزعته فاجعة الحياة الطبيعية ‪ ،‬أن تعلقك بوالدتك أمر‬
‫طبيعي لا مفر منه ‪ ،‬ولكن تعظيم هذا الأمر ما هو إلا‬
‫دليل على ضعفك أمام الحياة والموت ‪ ،‬فيا لوهن‬

‫عزيمتك ! ‪.‬‬

‫فأجاب الأب شاول وهو مطرق الى الارض ‪:‬‬

‫ـــــ أنا لست ضعيفاً يا سيدي ‪ ،‬بل إني مفجوع بفقدان‬
‫الكائن الوحيد الذي تربطني واياه أواصر المحبة‬
‫والعطف والحنان ‪ ،‬فحينما خلفتني وحيداً في بحر‬
‫الحياة المصطخب ‪ ،‬غرقت في مستنقع الوجود لعفن‬
‫وشعرت بألم يقطع نياط قلبي ‪ ،‬فأمسيت قيثارة بلا‬
‫الحان ‪ ،‬آدم بلا جنة ‪ ،‬فكيف لا أحن الى ذلك الفؤاد‬
‫الواسع والعين الساهرة ‪ ،‬والثغر المشرق ‪ ،‬والنفس‬

‫الحنون ‪ ،‬واليد الشفوق ‪.‬‬

‫قال ذلك بحسرة مرة كأنها تخرج من قلب كسير‬
‫مقطوع الاوردة ‪ ،‬وبعد أن استرجع عبرته أردف ‪:‬‬

‫‪87‬‬

‫ــــ فكيف تريدني أن لا أقدس ذك ارها ‪ ،‬فأنا في قلبها‬
‫وهي في قلبي ‪ ،‬ونف ُسها ما زل ُت أحس بها نفسي ‪ ،‬أواه‬
‫فلن أجد بديلها ما حييت ‪ ،‬كان أملي أن أُسعدها ولكن‬
‫المرض الذي سرقها مني حطم حلمي الوحيد ‪ ،‬فلا‬
‫يوجد طموح بعدها ‪ ،‬فانا كطير كسير الجناحين ‪،‬‬
‫وشعور في أعماقي يقول ‪ :‬إنني نكرة فى هذه الحياة ‪،‬‬
‫الا أخبرني أيها ال ارهب هل تعادلنا في هذه الدنيا‬

‫القاسية ؟ ‪.‬‬

‫نظرت اليه بامعان وتبسمت ‪ ،‬وقلت ‪:‬‬

‫ــــ أنا أرثي لحالك ‪ ،‬فأنك الآن انسان يعيش بلا أمل ‪،‬‬
‫حادثة بسيطة رجتك رجاً ‪ ،‬وهي من الحتميات التي‬
‫تمر على كل انسان ‪ ،‬فكيف لأعظم حادثة بالنسبة‬
‫لرب أسرة وعمل ‪ ،‬وأقول لك إن فكرة الامومة قد قيدتك‬
‫منذ الطفولة لحد الآن ‪ ،‬ولك السماح في فترة الطفولة‬
‫لان الأم مكملة لشخصية الطفل ‪ ،‬أما في فترة الرجولة‬
‫فلن أستمحيك عذ اًر لتفكيرك بأنك مازلت بحاجة الى أُم‬
‫مع العلم إنها لو كانت على قيد الحياة لاجبرتك على‬

‫‪88‬‬

‫أن تجد شخصاً آخر تشاطره حياتك ‪ ،‬وذلك مما أ اردته‬
‫في وصيتها ‪ ،‬أما بالنسبة الى حوادث الدهر فما ساوت‬
‫بيننا والحمد لله ‪ ،‬فأنت كنهر جمد ماؤه فلا هو ارجع‬
‫الى منبعه ولا هو سائر صوب مصبه ‪ ،‬أما أنا فانسان‬
‫وصل الى جنة الخلد بعد جهود جبارة ومعاناة قاسية ‪،‬‬
‫وحين دخلها سقط في جحيم الني ارن واحترق قلباً ونفسًا‬
‫‪ ،‬وبقي جسداً معذباً ‪ ،‬فأنت حتماً ستطلع عليك الشمس‬
‫من جديد وتذيب الجليد فيجري نهرك ثانية ‪ ،‬أما أنا‬
‫فاحمل جمر جهنم فوق ظهري ‪ ،‬وهيهات أن أعود من‬

‫حيث جئت فما بقي بيني واللحد الا أيام معدودات ‪.‬‬

‫دهش الأب شاول من حديثي وسألني وكله حسرة ‪:‬‬

‫ــــ بروح القدس الا تخبرني بفحوى حكايتك ؟‬

‫ــــ سوف أخبرك في الوقت المناسب ‪ ،‬فقصتي تحتاج‬
‫الى وقت لكي أسردها لك ‪.‬‬

‫‪89‬‬

‫ودعني وذهب ‪ ،‬وانشغل ُت بالحديقة ‪ ،‬وفي تلك‬
‫اللحظة جاء صديقي الشماس وهو يقول والابتسامة‬

‫تضىء محياه ‪:‬‬

‫ـــــ لقد جمع الرب النفوس فى النهاية بعد أن فرقها‬
‫الشيطان بالبداية ! ثم سلم علي وواصل طريقه ‪.‬‬

‫جعلتني كلماته أنجذل وأتعمق في معانيها فقد‬
‫كانت كمزنة هطلت فوق صح ارء عطشى ‪.‬‬

‫يوم مقدس‬

‫لأول مرة أدخل قاعة الكنيسة منذ قدومي اليها لحد‬
‫الآن ‪ ،‬كان الوقت فج اًر والشموع مات ازل موقدة ذؤاباتها‬
‫تضيء ارجاء القاعة بنور ساحر ‪ ،‬وروائح عطرة‬
‫تضوع المكان ‪ ،‬ولمحت صليباً كبي اًر موضوعاً في‬
‫أعالي واجهة الجدار الأمامي ‪ ،‬وقد تجسد سيدنا‬
‫المسيح مصلوباً عليه ‪ ،‬فأمعنت النظر فيه وأنا أقترب‬
‫منه ‪ ،‬ف أريت أجفانه مسبلة ‪ ،‬كأنه غارق فى سبات‬
‫عميق ‪ ،‬وثم هالة خلف أرسه ‪ ,‬كانت تشع ببريق‬

‫‪90‬‬

‫ساطع ‪ ،‬وكأن وجهه قرص الشمس عند فجرها‪ ،‬وكأن‬
‫إكليل الشوك الذي يطوق هامته تاج يذكره بآلآم الحياة‬
‫‪ ،‬وما هذه الآلام سوى الوسيلة التي تمزج روحه بالذات‬

‫الألهية ‪.‬‬

‫خشعت روحي لهذا المشهد الجليل ‪ ،‬وجلست على‬
‫ركبتي ‪ ،‬وأنا أردد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وشعوري‬
‫بأني أحمل الصليب على كتفي مثلما حمله سيدي‬
‫المسيح ‪ ..‬ولأن قلبي قد ق ّطع وكل قطعة منه قد‬
‫سمرت على صليب ‪ ،‬ولذا أخال مصيبتي أفضع من‬
‫مصيبة صلب سيدنا المسيح ‪ ،‬فهو قد تخلص من‬
‫آلآمه بين ليلة وضحاها ‪ ..‬أما أنا فما ازل الحزن‬
‫يقطعني بسكينة صدئة ‪ ،‬وما برحت روحي تتأرجح بين‬
‫الحياة والموت كطير ي ارفس بعد حزة في رقبته لم‬
‫تكتمل ‪ ..‬كم أحتاج الى طلقة الرحمة لتريحني من هذا‬

‫العذاب ‪.‬‬

‫بقيت أقارن بيني وبين الروح القدسية ‪.‬‬

‫وحادثت نفسي قائلاً ‪:‬‬

‫‪91‬‬

‫( ان أعمال سيدي المسيح قد بقيت من بعده ‪،‬‬
‫وتداول البشر شريعته جيلا بعد جيل‪ ،‬أما أنا فان جميع‬
‫أعمالي وأتعابي أمست وقبض الريح ‪ ،‬وليتني لم أر‬

‫الشمس )‬

‫طفقت عيناي تترقرقان بالدموع ‪ ،‬و ارحت غاشية‬
‫تغشي نظري ‪ ،‬وحدقت صوب الصليب وسمرت‬
‫مقلتاي هنالك في النور الفضي ‪ ،‬واذا بسيدي المسيح‬
‫يفتح عينيه ويرنو صوبي ويبتسم لي ‪ ،‬وبعدها انحدر‬
‫من أعالي الصليب الى الارض برشاقة النسيم ‪ ،‬وسار‬
‫نحوي بتؤدة ‪ ،‬فإرتعشت من هول المشهد ‪ ،‬وأكثرت‬
‫عيناي من ذرف أنهار الدموع ‪ ،‬وحين قاربني شعرت‬
‫أني قد جمدت في مكاني ‪ ،‬وقد رفع أذيال مئزره‬
‫الابيض بيده اليمنى ومسح دموعي المنهمرة وأنا في‬
‫وجوم تام والدهشة قد نزعت روحي من جسدي ‪ ،‬أنظر‬
‫الى محياه المشرق فتزداد لهفتي اليه شوقاً وانبها اًر‬
‫وهيبة ورهبة ‪ ..‬ثم ازدادت ابتسامته سح ًار ‪ ،‬فشعرت أن‬

‫أبواب السماء والجنان قد فتحت في وجهي ‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫انكفأ ُت قرب قدميه ورح ُت في نحيب أجش لم أفق‬
‫منه الا على أشعة الشمس وهي تتسرب من الشبابيك‬

‫الكبيرة وتنير القاعة ‪.‬‬

‫رفعت أرسي لأنظر فاذا سيدي المسيح ما ي ازل‬
‫على الصليب غارقاً فى سباته العميقة ‪ ،‬وتلف ُت حولي‬
‫فاذا جمع من القساوسة على جانبي وخلفي يصلون‬
‫بخشوع ومن بينهم الشماس والأب شاول ‪ ،‬برحت‬
‫القاعة على عجل قبل ان ينهوا صلاتهم وفي سريرتي‬
‫إحساس قوي عميق ‪ ،‬بأني لم أخلق عبثاً ‪ ،‬وثمة حكمة‬
‫في خلقي لم أفهمها ‪ ،‬لكن سيدي المسيح يفهمها جيداً‬
‫‪ ،‬وقد عبر لي عنها بابتسامة وطمأنني بمسح أدمعي ‪.‬‬

‫أن وجودي ليكن تافهاً في نظري لكنه ــــ كما أشعر ــــ‬
‫مهم في عين الله ‪.‬‬

‫أيتها الأيام ولولي تحت أسترة المستقبل والطمي‬
‫خدودك أيتها الليالي أسفاً وحسرة ‪ ،‬وأمض أيتها النفس‬
‫باحداق تخرق الحجب ‪ ،‬وفتشي عن أيدي الزمن الذي‬
‫استباح حرمات نجومك ولم يبق شيئا للخلود بعد أن‬

‫‪93‬‬

‫غربل في عاصفة الفناء أعز ما تهوين ‪ ،‬وانسج أيها‬
‫اللسان القصائد مواويل للموت ‪ ،‬واثمل أيها العقل‬
‫المختل بخمرة موسيقى الاكوان ‪ ..‬لأن طيور قلبي في‬
‫السماء تطير بوحي افكاري‪ ،‬وزهور محبتي تعرق‬
‫خجلاً من شهوتي ‪ ،‬وتبقى الاطياف تسبح في بحيرة‬
‫قلبي تت ارشق بالعواطف ‪ ،‬فيلثم الحنان الحقد ‪ ،‬ويقبل‬

‫الالم السعادة ‪ ،‬آنذاك ذب ُت في إ اردة اللا إ اردة ‪.‬‬

‫يوم رباني‬

‫اليوم وأنا أعمل وأفكر شغلتني أفكار عديدة ‪،‬‬
‫فكرت بالأحياء كافة التي تعيش معظم حياتها فى‬
‫صمت ‪ ،‬وتـنقل صغارها من مكان الى آخر بصمت ‪،‬‬
‫وتعمل ليل نهار من أجل نيل قوتها بلا وهن وبهدوء‬
‫حتى أنها تتوالد وتتكاثر وتموت بصمت ‪ ،‬عكس‬
‫الانسان الذي يعيش حياته بصخب منذ ولادته حتى‬
‫مماته ‪ ،‬حمدت الله على أنه دفعني الى بقعة هادئة‬
‫بعض الشيء ‪ ،‬لأن خارج الكنيسة الناس تد ُّب‬
‫والغوغاء تـنحت كيانهم الى أن تلاشيهم وهم لا‬

‫‪94‬‬

‫يشعرون ‪ ،‬غوغاء مرة من أجل المال الوسيلة التي‬
‫انقلبت هدفاً وأخرى من أجل السعادة الكلمة الساحرة‬
‫التي يسعى اليها الانسان منذ أن وجد على الارض ‪،‬‬
‫لكن محال أن يجدها الا بعد الموت ‪ ،‬ومرة أخرى من‬
‫أجل اللذة الجسدية التي لا تـنتهي الا في جوف القبر‪،‬‬

‫وأخي اًر من أجل الطموح ال ازئف والمجد الس اربي ‪.‬‬

‫استرسلت بعملي في الحديقة الخلفية بجد ونشاط‬
‫لأن عملي ليس من أجل المال ولا من أجل المجد‬

‫إنما هو من أجل باطل الأباطيل ‪.‬‬

‫جاءني القس يوسف مع مجموعة الاطفال ‪ ،‬وطلب‬
‫مني ما وعدته بتدريب الاطفال على الز ارعة ‪ ،‬أخذتهم‬
‫الى ركن من أركان الحديقة وكنت قد قسمت المساحة‬
‫الى عشرة اقسام متساوية وحددتها باللوائح المقرنصة ‪،‬‬
‫وكان القس يوسف قد صنع لكل منهم علماً جميلًا‬
‫بلون مختلف عن الآخر وكتب إسم الطفل بلون آخر ‪،‬‬
‫وغرز كل طفل علمه بقطعة أرضه الز ارعية ‪ ،‬وذهبت‬
‫الى غرفتي جلب ُت لهم مجارف خشبية صنعتها لهم‬

‫‪95‬‬

‫خصيصاً مع بعض الحبوب المنوعة وسلمتها الى‬
‫القس يوسف ليوزعها عليهم واخبرته أن يعلمهم كيف‬

‫يقلبون التربة أولا ثم ينثرون الحبوب بعمق إصبع ‪.‬‬

‫كان يوماً مشهوداً فقد رحت أعلم قسمًا من‬
‫الاطفال والقسم الآخر يعلمهم القس يوسف‪ ...‬وبعد أن‬
‫إنتهينا سقينا الأرض ‪ ،‬وفرح الأطفال بذلك كثي اًر ‪،‬‬
‫واغتبط ُت بمنظرهم وهم يعملون ‪ ..‬حتى انتهت ساعتهم‬

‫وذهبوا ‪.‬‬

‫وعند الظهيرة برحت الكنيسة ‪ ،‬وتوجهت صوب‬
‫جامع من جوامع المسلمين وهنالك دلفت وكان المؤذن‬
‫يردد كلمة (الله اكبر) من أعالي المنارة ‪ ،‬فأحسست‬
‫لصدى صوته عظمة رفعت روحي وحلقت بها في‬
‫أجواء السماء الازوردية ‪ ،‬فصلي ُت صلاة الجمعة مع‬

‫جمع غفير‪ ،‬مروضاً جسمي برياضة ربانية ‪.‬‬

‫وحينماعدت الى الكنيسة صادفني صديقي الشماس‬
‫فبادرني سائلا ‪:‬‬

‫‪96‬‬

‫ــــ أين كنت يا صديقي ؟ فاجبته بأني كنت في مسجد‬
‫المسلمين أصلي ‪.‬‬

‫فقال لي وعليه اما ارت الدهشة ‪:‬‬

‫ــــ ولكنك لن تكون ذا دين معين ‪ ،‬وهذا لن يرضي‬
‫الرب !‬

‫ـــــ سوف يرضيه لأن إيماني به في أعماقي ‪ ،‬وما‬
‫الدين سوى وسيلة ليه ‪ ،‬والتتنوع الوسائل فالهدف واحد‬
‫أحد ‪ ..‬فلا تتعجب فالفلسطيني أيوب زمانه ‪ ..‬سكت ‪،‬‬

‫وافترقنا كل الى غايته ‪.‬‬

‫وشعرت ب ارحة عظيمة حينما استلقيت على ثيل‬
‫الحديقة الخلفية ناظ ًار الى السماء مفك اًر بالله بذاته‬
‫السرمدية التي لا تدركها الا النفس السامية الكاملة ‪،‬‬
‫أما الحواس فلا تتمكن أن تحيط بهذه الذات العظيمة‬
‫الا اذا وصلت لكمالها ونضوجها ‪ ،‬حينما تصير‬
‫بسيطة كل البساطة ‪ ،‬وديعة كل الوداعة ‪ ،‬صغيرة فى‬
‫عين ذاتها كل الصغر‪ ،‬هادئة لدى الخطوب والآلام‬

‫‪97‬‬

‫بهدوء مثالي ‪ ،‬وسمحاء مترفعة فى كافة الملمات‬
‫والمغريات ‪.‬‬

‫واذا بداخلي يثور تفكير آخر كأنه شخص آخر‬
‫يحاورني قائلا ‪:‬‬

‫ــــ يالك من ضعيف ‪ ،‬كيف تريد أن يلَّم بذات الله‬
‫انسان كما تصفه وهو أقرب الى الحيوانات الاليفة‬
‫الوادعة منه الى الانسان الذي اعطاه الله العقل لكي‬

‫يفكر مثله ويبدع مثله ‪.‬‬
‫ــــ ولكن هنالك ش اًر يجب تجنبه واتباع الرب الذي كله‬

‫خير ‪.‬‬
‫ــــ ما أد ارك أن ك َّل شر تظنه أنما هو مكمل للخير‬

‫الذي ينقصك ‪.‬‬
‫تعب عقلي وغفوت ‪.‬‬

‫‪98‬‬

‫يوم طفيلي‬

‫بينما كن ُت أمد أغصان العنب فوق المشبكات‬
‫القمرية فوجئ ُت بتوافد الناس ودخولهم الى قاعة الكنيسة‬
‫‪ ،‬مع العلم لم يكن اليوم من أيام الآحاد ‪ ،‬وهم يرمون‬
‫علي التحية وأ ُرّد عليهم واحداً واحداً أريت الأب شاول‬
‫يخرج من غرفته مرتدياً مسوح القساوسة ويسير متوجهًا‬
‫الى البوابة الخلفية للقاعة سأل ُت أحد القساوسة عما‬
‫يحدث اليوم فأجابني اجتماع خاص مع مسيحيي‬

‫المنطقة ‪.‬‬

‫قررت مع نفسي أن أتطفل على المجتمعين ‪،‬‬
‫لارى ما فحوى الاجتماع هذا وما جدواه ‪.‬‬

‫ارن صمت جليدي على الجميع بعد أن جلسوا‬
‫بخشوع ‪ ،‬وجلس خلف الطاولة المقابلة الشماس وعدد‬
‫من القساوسة ‪ ،‬رتل الشماس ترتيلة الاجتماع ثم أردف‬

‫قائلا ‪:‬‬

‫‪99‬‬

‫ــــ يا حض ارت الأخوة الحضور ‪ ،‬دعوناكم للاجتماع‬
‫من أجل ح ٍّل لقضية أختنا جانيت ‪ ،‬هذه الفتاة (يشير‬
‫لفتاة تجلس وحيدة في الطرف الأمامي ) ابنة يعقوب‬
‫السكرآن حيث تمادى والدها في شرب الخمر كل يوم‬
‫وصار لا يميز بين الحلال والح ارم فحاول الاعتداء‬
‫على عفاف ابنته الوحيدة عدة م ارت في منتصف الليل‬
‫‪ ،‬وقد حاولنا أن نزوجه بعد وفاة زوجته انقاذاً لسمعته‬
‫وحلا لمشكلته ولكن جميع عوانس الجالية رفضنه‬

‫لادمانه على الخمرة بشكل مقرف ‪.‬‬

‫وكم بعثناه الى مستشفى معالجة الادمان وكان‬
‫يهرب منها ك َّل مرة ‪ ،‬لذا جمعناكم من أجل تزويج ابنته‬
‫هذه وانقاذها من والدها الذي باع نفسه لشيطان‬
‫الخمور ‪ ،‬فطالما جعلها تفر هاربة منه في ظلام الليل‬
‫ملتجئة للجي ارن ‪ ،‬وكلكم يعرف هذه الفتاة الطاهرة‬
‫الاذيال العصامية النفس ‪ ،‬فمن لديه ابن ي اره أهلاً لها‬
‫ويستطيع أن يتأهل بها فليبادر بطلب يدها وسيكون‬
‫عمله هذا مخلداً في تاريخ الكنيسة‪ ،‬فمن منكم من‬

‫يسارع الى هذا العمل الجليل ؟‬

‫‪100‬‬


Click to View FlipBook Version