كنوز الارض وتسخير الطبيعة لصالحه ،وما تغيرت
السنة مرة الا لضعف قابلية الانسان .
كان جدي يقول لي دائما وعلى وجهه اش ارقة
ابتسامة عريضة :
ــــ لقد اكتمل حظي بمقدمك يا ابني .
وكنت لا أفقه معنى الحظ آنذاك ولم أسأل عن
فحواه ،وما أخاله الا شيئاً جميلاً مفيداً ،وهذا ما
أدخل في قلبي البهجة والسرور ،فأضحك وأطبع قبلة
على يده .
وخلال أيام قلائل ازلت أح ازني وكآبتي بعض
الشيء ،حتى أني لم أشعر بانتقالي الى بيت لا أعرفه
بل الى منزلي وأهلي ،ووجدت تعويضاً عن حنان أمي
لدى رجل يحبني كابنه بل أكثر من نفسه ،وكن ُت
سعيداً كل السعادة بعائلتي الجديدة اذ لم يكن مع جدي
سوى زوجته لثانية العقيم لأن جدتي الأولى تركت له
أبي وعمتي التي هاجرت مع زوجها أيضا ،بقيت
151
طوال المدة أنادي زوجة جدي بـ (ستي) ولم أستطع أن
أناديها بجدتي أبداً ،فتباً لي ما أبخلني بالقاب التكريم
آنذاك .
لازمت جدي في ذهابه وايابه ،يتجه الى البستان
صباحاً ويمر بالسوق في العاشرة ويجلس عند بعض
أصدقائه ويعود الى الدار ظه اًر أحمل معه أكياس
الطعام ،وتكون ستي قد أعدت مائدة الغذاء ،ويجلسني
بجانبه يقدم لي ما لذ وطاب ،ومثل ذلك في العشاء .
عرفت أن الطعام الذي تقدمه لنا الأرض هو بداية
المنفعة المتبادلة بين الأرض والانسان ..وسوف يصل
الجسم الحد الذي تسترد الأرض منه ما قدمته له .
تعلم ُت من أصـدقاء جدي الشيء الكثير حينما
يتـنادرون ويتفكهون بشتى الأحاديث ويتسامرون ليلًا
في دار جدي وأنا أستمع مرة اليهم ومرة أشاركهم في
أحاديثهم ويشجعوني على سرد الحكايات التي إستمع ُت
لها ويستعذبون طريقتي بعرضها ،وينتبهون الى أشياء
لم يذكروها .
152
فعلا كان ديوان جدي مدرسة حرة متنوعة مشوقة .
مرحلة اليفاعة
دخلت مدرسة الديار فى بيسان وما شعرت
بانتهاء سني الد ارسة ،مع العلم أني كنت أحبذ العزلة
فلا أشارك الأطفال لعبهم ومرحهم ،وأجلس عند جذع
شجرة التفاح وقت الفسح الزمنية ،فقد كان عقلي أكبر
من لعبهم ،وما شعرُت بالسعادة الا مع الكبار حيث
أحس بمتعة بالغة فى كلامهم .
كان الشتاء في بيسان طويلاً مملاً وكنت أمقته إذ
أنه يقلل من حركتنا وحيويتنا ويمنعنا من النزهة ،وهو
قارس جداً ،ونبقى خاملين مختبئين في عقور دورنا
خاصة اذا تعطلت الد ارسة ،وضباب الوادي يملأ
الغور وحينما أحاول النظر خلال النوافذ فلا أستطيع
الرؤيا لأن بخار أنفاسنا قد ضبب الزجاج .
كان جدي يجلسني في غرفته ذات المكتبة الضخمة
أيام البرد ،خاصة عندما تكون السماء ممطرة ،او
153
تـن ُّث وف اًر ،ونتمتع بالموقد ودفئه وتوهج ناره والجمر
المتلألىء بألوان ساحرة ،كانت الني ارن تسلب تفكيري
وتجعلني متأملاً روعتها وأشكالها الخيالية ،وكنت
أطعمها كلما خفتت من خشب التوت الذي جمعناه
وقت الخريف ،وحيناً آخر كنت أنشغل برسم الحرف
العربي ،ويعينني على ذلك جدي أكثر من معلم
المدرسة ،وفي أحيان أخرى يناولني الكتب المبسطة
المعاني ويعلمني ق ارءة الجمل والأسطر وكتابتها
صحائف صحائف دون أن أم َّل حتى أضحي ُت لا
يجاريني أحد في الق ارءة والاملاء كل الم ارحل الد ارسية.
طوال هذه الفترة الابتدائية كانت تتوارد في ذهني
أسئلة جديدة ،فمنها ما أجد له جواباً في بعض الكتب
والباقي يبقى دفيناً في أعماقي لمدة حتى اذا لم أطق
الكتمان أنشد الجواب من جدي وأنتهز الفرص السانحة
لذلك وأسأله :
ــــ جدى لماذا خلقنا ؟
ويرفع جدي حاجبيه دهشاً ثم يقول :
154
ــــ لقد بدأت النبتة تنضج ،ولكن يا إبني لماذا
تشغل عقلك بهذه الأفكار التي لم تغير من أمر وجودنا
شيئاً ،أن عرفت الجواب أولم تعرف ؟ .
ــــ ولكن يا جدي أنها تشغل تفكيري .
ـــــ حسناً خلقنا من أجل ان نشعر بالحياة الدائمة .
ــــ وهل هنالك حياة غير دائمة ؟ .
ــــ يا إبنى توجد حياة ازئلة وهي الارض بما عليها
نحن بل ما فى الكون من قمر وشمس ونجوم ،اما
الحياة الدائمة فهي عند الله الخالد وهي لا تزول .
هكذا تستمر أسئلتي عن الله والملائكة والانبياء
والجن والروح والجنة والنار والحساب والعقاب والحلال
والح ارم حتى ينام جدي وأبقى مستيقظاً مفك اًر الى أن
يتعب عقلي وأغرق في سبات عميق ،وعندما كنت
أستيقظ فى الصباح الباكر أتطلع الى منظر الجبال
المحيطة بالمدينة من الجهة الغربية وخاصة أيام الربيع
حيث تكتسي بحلة ازهية فكأنها سجاد مطرز بالوان
155
فاتـنة ،وأنظر الى امتداد السفح المنحدر نحو الغور
الساحر بخضرته فأرى مدينتي وسط جنة من جنان الله
وما أيام الد ارسة في الديار الا أيام الغبطة والسعادة
والامان .
مرحلة الفتوة
تمر أيام الحلاوة مسرعة كأنها تأبى أن تسعد
الأحياء فترة أطول ،قد مرت متعة النظر الى جمال
الطبيعة الخلابة كلمح البصر ،مثلما الورود ما أن
تبرز مفاتنها وتعبق بأريجها حتى تتلاشى ،مثلها
كانت مرحلة الثانوية فقد أنهيتها ابان الحرب العالمية
الأولى .
كن ُت منشغلاً بحبيبة القلب الاولى (ماري) التي
كانت تحب أن تتمتع بالحياة الى أقصى حد ،لذا لم
تصبر وتـنتظرني لحين تخرجي ،وأردتها أن تستمع
لكلماتي في التضحية والوفاء ولكن دون جدوى ،بل
156
مدت يدها الى أول فارس يملك المال والرجولة وسلمت
نفسها له وهي تقول لي :
ــــ طريقك ما ي ازل طويلاً وحبنا سيموت على قارعته
قبل أن نصل ،ليودع أحدنا الآخر كأصدقاء تربطنا
ذكرى جميلة .
ولم تعلم أنها طعنت قلبي آنذاك وعلمتـني درساً
مؤلماً زعزع ثقتي بالم أرة وصار في يقيني أن لا
إخلاص لها ،وأن المال هو التفاحة السحرية التي
تجذبها ،وعند ذلك وضعت قلبي مع آماله في قنينة
زجاجية وأغلقتها ثم رميتها في بحر المتاهات .
كان صديق جدي عبد القادر القسام ،وحين كان
يجول في المدن الفلسطينية ويذكي نار الثورة ضد
الانكليز ،ح َّل ضيفاً في بيت جدي ،واستمعت له
وهو يقول مؤكداً :
( ان الثقافة والعلم لأجيالنا ضرورية لكي يطردوا بها
الغ ازة ) .
157
وعند استشهاد القسام في غابات ( يعبد ) ،تألم
جدي وحزن حزناً شديداً ،وكانت خيبة مَّرة بالنسبة له
وودع الحياة بعدها ،وتعلمت منها أن النكسة ما أن
تحل ضيفة على أحد الا وتنادي على بقية صويحباتها
فيقدمن مسرعات ،وقد إنفطر فؤادي ثانية بوفاة جدي
اذ لم يتحمل قلبه الحكم الانكليزي واستشهاد صديقه
البطل القسام .
شعرُت أن خيمتي التي أستظل تحتها طارت مع
الريح والأدهى من ذلك بدأ الصهاينة يطردوننا من
مدينتنا بالقوة وقد هدد ُت بالقتل عدة م ارت وليتني ُقتل ُت
حينذاك ،فقد وجد ُت جا اًر لنا مقتولاً عند الصباح وتلاه
آخر ،لذا أصرت (ستي) أن نرحل مع ال ارحلين ونترك
أرضنا وبيتنا وبستاننا ،أي نترك فلسطين ونلتجىء
الى سورية وهي تقول لي :
ــــ أنت اذا ذهبت ستعود لأن الارض باقية وستعود
بهمتك وهمة الرجال الباقين .
158
لكنني رفض ُت أن نترك الارض كما فعلت آلاف
العوائل من مسلمين ومسيحيين ،واشتغلت بشهادة
الثانوية معلمًا فى المدرسة التي خرجتـني ،ورحت
أعيل ستي حتى وافاها الأجل قبل زواجي ..ويومها
شعرت بالوحدة والوحشة من جديد .
كنت أكتب للمجلات والصحف افكاري الثورية فقد
خططت لمشروع وحدة الأقطار العربية ،كما خططت
لمشروع ارواء الجزيرة العربية من مياه خليج العقبة ،
وخططت لمشروع منع الهجرة من فلسطين ،ولم
يتحقق من هذه المشاريع شيء ،فاتجهت الى الأدب
اكتب الى مجلة المقتطف اللبنانية ومجلة الهلال
المصرية ومجلة مرحلة المعلم الجديد الع ارقية ومجلة
المجمع العلمي في دمشق .
قد حمدت الله على أن (ماري) لم تبق في محطة
انتظاري ،لأن الحياة أصعب مما كنت أتصورها ،
فالمعيشة أرض متعبة الحرث ،والبناء يحتاج من
طابوق الجهد الكثير ،وتكوين عائلة في هذه المرحلة
159
القاسية كمن يريد أن يزرع بستاناً وسط الصح ارء ،
والمال لا يتكون الا بالجمع بين الزمن والجهد
والحرمان .
وفكرت أن أهاجر باحثاً عن أبي لولا اش ارقة نجمة
في ليل حياتي ،أبقتـني لمصيري ومصير عائلتي .
مرحلة الرجولة
هاج بحر المتاهات وعاد لا يطيق حمل زجاجة
قد سجن في جوفها قلب انسان حتى صار غير قادر
على الاحتفاظ بها سالمة فوق رفوف أمواجه ،وعند
أول موجة عاتية رمى الزجاجة على صخور الواقع
فتحطمت وخرج قلبي للحياة من جديد وعشق (نادين)
أول فتاة أرى في عينيها بحيرة المجد ،وفى قلبها ورد
الهناء ،وفي رقتها جميع احلام الحنان مجسدة ،فمال
نحو ظلها ومدت له الظل وارفاً بكل كيانها وعواطفها
حتى غرق بسحرها .
160
طلبت يدها ،وكانت عائلتها من نفس مدينتي
ووالدها كان صديقاً لجدي ،فما أسرع ما تم زواجي
فقد ضمنا الفردوس المنشود ،حتى أني لم أكن أتصور
بأن الحب بعد الزواج أعنف وأقوى من الحب قبل
الزواج ،وشاء الله ان يرزقني من زوجتي فتاتين ،هما
حسناء وخولة ،ملئا الدار نو ار واشرقت الدنيا بجمالهن
،وكنت لا أصدق هذه السعادة التي بعثت في قلبي
مهرجاناً لم يسبق وأن عش ُت مثله .
ارحت الحياة تبتسم في وجهي ولم أخل أنها ستقطب
وجهها في يوم من الأيام ،وتشيح بوجهها عني نهائيا
،ولم أتوقع ذلك ولا حتى أتخيله أبداً .
أحسست بألم في قلبي وأنا في البستان أساعد
العاملين في تقليم الاشجار ،فتغاضيت عنه ،وكثي اًر ما
أصابني دوار بعد ذلك ،ولكني كنت أمثل دور
المتعب فلا أجعل أحداً يشعر بما أعاني ،ومضى
عمري يركض في شارع الزمن وأنا أستخدم العقاقير
161
الطبية لعلي أشفى ولكن دون جدوى فقد استفحل
المرض الى درجة سقوطي على الأرض دون وعي .
وحينما صارت حسناء بعمر الاربع سنوات وخولة
بعمر الثلاث سنوات ،كانت سعادتي لا توصف
خاصة حينما يحوطانني ليلاً لأستمع لهما واحدة واحدة
يتسائلان في أمور شتى ،أحس أني في أوج مجـدي ،
ولكن أّنى للسعادة أن تدوم فقد قرر الاطباء أن أسافر
الى انكلت ار لعمل عملية «القسطرة» فش ارييني ما عادت
تحتمل الادوية ،ومثل هذه العملية لا تنجح عندهم
لعدم وجود الآلات الطبية الحديثة لديهم ،ونجاحها
مضمون هناك مائة بالمائة .
كم ثمينة هي الحياة حينما يكون الانسان فيها
سعيداً بل ومهماً لدى أهله ،فبدونه لا حياة لهم ،لذا
أسرعت بجمع المال الكافي لرحلتي وعمليتي بتشجيع
من زوجتي ،وحزمت أمتعتي وودعت روحي وقلبي
وعمري وعقلي وسعادتي ولم أدر أني أودع عائلتي
الوداع الأخير والى الأبد ،فقد كنت أعتقد أن ما أتركه
162
ساجده سالماً حين عودتي ،ولم أتصور مطلقًا أن
الصهاينة سيرسلون غ ارب (ادغار الان بو) ليحط على
بيتي .
سرقتني الطائرة من مطار بيروت الى لندن
بمحض أ اردتي ،هبط ُت في مطار هيثرو ومنه
توجهت مباشرة الى مستشفى جيمس بناء على موعد
اتفقنا عليه بالم ارسلة وبقيت فيه أشه ًار بين المماطلة
والعلاج والم ارقبة السريرية ،وصرفت الكثير من المال
،وكانت رواتبي التي تصرفها لي المدرسة هي الامداد
الوحيد الذي أبقاني فى دولة قانونها النقود ،ولقد ندمت
كثي ار على تركي لأهلي محاولاً التشبث بالحياة هي بيد
الله ،ولكن ما يسمى بالقدر أظنه هو الذي حاك
مصيري وفق منهاجه المأساوي .
كانت رسائل زوجتي وبناتي هي سلوتي الوحيدة
في بلاد الغربة ،حيث أعيش مع كلماتهم كأنهم حولي
فعلاً يحدثوني وأستمع لهم بكل جوارحي فافرح لفرحهم
163
،اذ كل ما كتبوه لي بهجة وحنيناً ما بعده من بهجه
وحنين .
وحين أوشكت فترة الاستشفاء على الاكتمال النهائي
وصلتني أخبار النكبة على مدينتي بيسان ،وهجوم
الصهاينة القتلة على البيوت لطرد المسلمين منها ،
والذين يرفضون يحرقون دورهم ليلاً وهم نيام ،وكانت
داري ملاسقة لجارين مسيحيين .
انقطعت الرسائل عني وتكتمت الصحف عما
يحدث في بيسان ،شعرت بأن أوتا اًر في قلبي قطعت
،وحدث إنهيار فظيع في داخلي ،وخشى الأطباء ان
تذهب أتعابهم هباء بعد أن عرفوا ما أفكر به ،
ونصحوني أن أسرع بالرحيل الى أهلي .
كانت الأخبار تتضارب بعدد المهجرين من كل
المدن والقرى الفلسطينية ،واعلان دولة الكيان
الاس ارئيلي ،فازدادت لهفتي لرؤية عائلتي ،ولم أكن
أملك مالاً كافياً لرحلة العودة فاستعنت بالكنيسة وقدموا
لي الدعم الكافي لايصالي الى بيروت ،ومنها ركبت
164
الى مدينة القدس ،ولم أجد أحداً يأخذني الى مدينتي
بيسان ،فاستعنت بخيالة الثوار بعد أن علموا اسم
جدي ،وأنا بين يأس وأمل وقلبي يضطرب خوفاً من
عدم وجود أهلي في دارنا ،ورحت القي سيلا من
الاستفسا ارت على الرجال الذين تطوعوا لايصالي،
ولكنهم لاذوا بالصمت المطبق ،وهزوا رؤوسهم بعدم
المعرفة ،وأوصلوني الى مخيمات خارج بيسان
وتركوني هناك ،ورحت ابحث عن من يعرفني وأعرفه
لكن دون جدوى فكلهم مصدومون ويئنون ألماً من
الفاجعة التي نكبوا فيها ،فقررت التسلل ليلاً الى
المدينة ،ونفذت ذلك بعد أن زحفت مئات الامتار بين
الاح ارش وما أن أصبح الصباح حتى كنت قرب الحي
الذي فيه بيتي .
كانت صدمة لي ما بعـادهـا من صدمة حينما لم
أجد داري ولا دور جي ارني ،بل وجدت أرضًا عليها
ركام أسود قد أكلته النار ،وكانت ارئحة الاقمشة
المحروقة ممتزجة ب ارئحة عفونة غريبة انتشرت في
الحي المحروق .
165
يا لهوله من خ ارب ،تمنيت حينها أن تـنشق
الأرض تحت قدمي وتطحن عظامي فى جوفها وتكتم
أنفاسي ،ركضت كالمجذوب الى بيت شقيق زوجتي
وكان قريباً من حَّينا ..وأنا أركض باقصى سرعتي
جاءتـني صلية رصاص لم تصبني تمنيت بعدها لو
مت بها ،فهي لم تصرعني حقاً ولكني مت بعدها عدة
ميتات .
وحين وصلت الدار قفزت بكل ثقلي على الباب
وكسرتها ودخلت ،عنوة ،وحين صرت داخلاً أريت كل
من في البيت ينظرون الي والشهقة عقدت أفواههم من
هول المفاجأة ،وعندما عرفني شقيق زوجتي ،رمى
نفسه علي وهو يبكي بشدة أثارت أعصابي ،وصرخت
به بعد أن أمسكته من زنديه وهززته بقوة :
ـــــ قل لي بربك ما حدث ،أين زوجتي ،أين بناتي
أكاد أجن ؟ أنطق ..تكلم ؟ .
فردت علي أصوات نسائية :
166
ـــــ حرقهم المجرمون .
ــــــ لقد احترقوا وهم نيام .
ـــــ سقطوا شهداء .
ــــ أخذهم الله الى جنته .
ـــــ الله سينتقم من القتلة .
كأن جبلاً ينهار وكل كلمة صخرة تسقط على
أرسي فيرتج ،وجدحت نار كبرق ضربني مثل نصل
السيف في أرسي ،ودارت بي الأرض السماء ،
وأحسس ُت بجسمي يهوي الى واٍد عميق مظلم .
ثلاثون سنة وأنا الميت الحي ،لا أعي شيئاً من
الدنيا كيف عش ُت في بيت أهل زوجتي ،وكيف تركتهم
وهم ُت على وجهي في الب ارري والمدن ..أين نم ُت ..
ماذا أكل ُت ..ماذا لبس ُت ..الحر ..البرد ..الأيام ..
السنين ..كلها ما شعرت بها قط .
167
رجعت الى عالم الذاكرة عندما وجدت نفسي ارقدا على
سرير في مستشفى أردني ،وحين سألت عن حالتي
أخبروني قائلين :
ـــــ احمد الله أنك لم تمت ،فالسيارة التي دهستك
أحدثت بك بعض الرضوض فقط .
بدأ شريط ذاكرتي يعود في ذهني من جديد فسأل ُت :
ـــــ أين أنا وفي أية سنة نحن ؟
أخبروني بأني في الاردن وأنها سنة ، 1978
عندها عرفت أني كنت بلا عقل واٍع طيلة ثلاثين سنة
..و ارحت الاحداث تتوالى على فكري وأبكي مع كل
ذكرى أتذكرها :
ـــــ كم أنت قاسية يا حافظة القيادة يا جمجمتي ! ،
لماذا أخرجت قنابل الذكريات المفجعة ورحت تنسفين
بها أحاسيسي نسفاً ..أما يكفي بأني الميت الحي ؟ .
وحينما نظرت في المرآة أبصرُت انساناً ـــ لم أره
من قبل مطلقاً ـــ هرماً ،جفل ُت منه فقد بان ذا شعر
168
طويل مغبر ،ولحية بيضاء مصفرة ،وبشرة مجعدة
ذابلة ،وعينين جاحظتين ،وعظام تكاد أن تخترق
الجلد المخضن ،هل هذا أنا محال ،كم من السنين
مرت علي ،أكنت من أصحاب الكهف والرقيم ،أم
انني العازر عدت الى الحياة ..وتلف ُت حولي لعلي
أجد صاحب هذه الصورة الجنونية ،فلم أجد أحداً ،
وأنكرُت أن تكون هذه صورتي ولكن الواقع جعلني
أصدقها .
كم ينخدع الانسان بعقله ،ويضيع في صح ارء بلا
ساحل ،وينقاد لتصو ارت ليس لها لدى طيور الحواس
اي مقياس ،عندها عرفت أن العقل يحب الحياة
ويتشبث بها ،وأن النفس تكره الحياة وتحاول التخلص
من سيطرتها كلما أحست بالذل ،والسبب واضح ،
فالعقل فا ٍن وكل فا ٍن يحب الحياة ،والنفس خالدة وكل
خالد يكره الحياة ال ازئفة .
بعدها عرفت أحداث نكبة 1948من الناس
وعرفت أن أهلي وضعوا في قائمة الشهداء ،ولكني ،
169
حقد ُت على الصهاينة ومن زودهم بسلاح الفتك ،ولم
أستطع أن أحتمل بقائي قريباً منهم واتجهت صوب
الع ارق الى بغداد ،مبتعداً عن اماكن الذل والهوان ،
عن قلب المأساة الدامي .
التشرد أهون من الموت ..فلو كان القرب منهم
يجدي لانقذ ُت عائلتي وبقي ُت ،لكنه لا يجدي أبداً ..
فهذا زمن القوة والسلاح ونحن الفلسطينيون ع ارة نصنع
من جلودنا خيماً كل يوم ،ومن أولادنا طعاماً كل يوم
،فما جدوى السكن في مخيمات بالصح ارء ،وأرضنا
ودورنا وحقولنا وبساتيننا أمامنا تسكنها جرذان أوربا .
الخاتمة
لم تمض بضعة أيام وأنا في بغداد حتى
اصطادتـني الكنيسة ،والتحق ُت بها وما بقيت فيها الا
عاماً ونصف العام ،فقد تعلمت أن الحياة اذا لم تقتلها
بالعمل قتلتك ..فما الفرق فأنا مقتول وسوف أموت
من أجل الدخول في عالم الآخرة ،وما عودتي الى
بيسان الا لأدفن هناك ..أودعك يا شاول بدمعة فرح
170
فقد بقيت عندي هذه الدمعة الوحيدة وهي آخر ما تبقى
في قدح أحداقي ،وأتمنى بكل جوارحي لك ولزوجتك
أحلى السعادة ،وسادعو لكما في ف ارديس السماء لكى
ترفرف عليكما ملائكة الحب الخالد وطيور الهناء . .
الوداع .
اخوك ال ارهب
171
المحتوى
رقم العناوين ت رقم العناوين ت
الصفحة الصفحة
25يوم مكنوز 82 3 1توطئة
26يوم قيثاري 86 2البداية 7
27يوم مقدس 90 3يوم طيف 9
28يوم رباني 95 4يوم عسلي 12
29يوم طفيلي 99 5يوم غريب 14
30يوم مفزع 102 6يوم صح اروي 17
31يوم بخيل 107 7يوم ملائكي 22
32يوم بطولي 111 8يوم عـذب 25
33يوم مادي 114 9يوم مشرق 28
34يوم حلاجي 116 10يوم فجائي 31
35يوم مجرم 121 11يوم وّدي 34
36يوم مرتجف 124 12يوم نسوي 37
172
37يوم جماهيري 128 13يوم عاطفي 40
38يوم جـذ ل 131 14يوم عميق 42
39يوم عاشق 135 15يوم لاهب 45
40يوم ذهبي 141 16يوم أبيض 48
41يوم الق ارر 143 17يوم معقوف 51
42قصة حياتي 146 18يوم ملون 54
43مرحلة الطفولة 147 19يوم قاتم 56
44مرحلة اليفاعة 153 20يوم فقاعي 59
45مرحلة الفتوة 156 21يوم زنجي 62
46مرحلة الرجولة 160 22يوم موحش 68
47الخاتمة 170 23يوم مموسق 72
48المحتوى 172 24يوم صوفي 78
173
اصدا ارت الكاتب
– 1عاشق الشمس ( مجموعة قصص قصيرة )
بغداد – 1964
– 2ما قاله آدم عند الشجرة ( مذك ارت ارهب )
بغداد 1986 -
– 3رسالة للانسان عبر الزمان
البحرين – 2011
– 4أصوات الرحيم في القرآن الكريم
الاردن – عمان – 2016
– 5مذك ارت ارهب ( طبعة ثانية منقحة )
الاردن – عمان 2018 -
– 6مصباح الذكريات ( تحت الطبع )
– 7ديوان الع ازوي ( تحت الطبع )
174
175