The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.
Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by manhal62000, 2018-08-03 04:30:44

مذكرات راهب 3

مذكرات راهب 3

‫كنوز الارض وتسخير الطبيعة لصالحه ‪ ،‬وما تغيرت‬
‫السنة مرة الا لضعف قابلية الانسان ‪.‬‬

‫كان جدي يقول لي دائما وعلى وجهه اش ارقة‬
‫ابتسامة عريضة ‪:‬‬

‫ــــ لقد اكتمل حظي بمقدمك يا ابني ‪.‬‬

‫وكنت لا أفقه معنى الحظ آنذاك ولم أسأل عن‬
‫فحواه ‪ ،‬وما أخاله الا شيئاً جميلاً مفيداً ‪ ،‬وهذا ما‬
‫أدخل في قلبي البهجة والسرور‪ ،‬فأضحك وأطبع قبلة‬

‫على يده ‪.‬‬

‫وخلال أيام قلائل ازلت أح ازني وكآبتي بعض‬
‫الشيء ‪ ،‬حتى أني لم أشعر بانتقالي الى بيت لا أعرفه‬
‫بل الى منزلي وأهلي ‪ ،‬ووجدت تعويضاً عن حنان أمي‬
‫لدى رجل يحبني كابنه بل أكثر من نفسه ‪ ،‬وكن ُت‬
‫سعيداً كل السعادة بعائلتي الجديدة اذ لم يكن مع جدي‬
‫سوى زوجته لثانية العقيم لأن جدتي الأولى تركت له‬
‫أبي وعمتي التي هاجرت مع زوجها أيضا ‪ ،‬بقيت‬

‫‪151‬‬

‫طوال المدة أنادي زوجة جدي بـ (ستي) ولم أستطع أن‬
‫أناديها بجدتي أبداً ‪ ،‬فتباً لي ما أبخلني بالقاب التكريم‬

‫آنذاك ‪.‬‬

‫لازمت جدي في ذهابه وايابه ‪ ،‬يتجه الى البستان‬
‫صباحاً ويمر بالسوق في العاشرة ويجلس عند بعض‬
‫أصدقائه ويعود الى الدار ظه اًر أحمل معه أكياس‬
‫الطعام ‪ ،‬وتكون ستي قد أعدت مائدة الغذاء‪ ،‬ويجلسني‬
‫بجانبه يقدم لي ما لذ وطاب ‪ ،‬ومثل ذلك في العشاء ‪.‬‬

‫عرفت أن الطعام الذي تقدمه لنا الأرض هو بداية‬
‫المنفعة المتبادلة بين الأرض والانسان ‪ ..‬وسوف يصل‬

‫الجسم الحد الذي تسترد الأرض منه ما قدمته له ‪.‬‬

‫تعلم ُت من أصـدقاء جدي الشيء الكثير حينما‬
‫يتـنادرون ويتفكهون بشتى الأحاديث ويتسامرون ليلًا‬
‫في دار جدي وأنا أستمع مرة اليهم ومرة أشاركهم في‬
‫أحاديثهم ويشجعوني على سرد الحكايات التي إستمع ُت‬
‫لها ويستعذبون طريقتي بعرضها ‪ ،‬وينتبهون الى أشياء‬

‫لم يذكروها ‪.‬‬

‫‪152‬‬

‫فعلا كان ديوان جدي مدرسة حرة متنوعة مشوقة ‪.‬‬

‫مرحلة اليفاعة‬

‫دخلت مدرسة الديار فى بيسان وما شعرت‬
‫بانتهاء سني الد ارسة‪ ،‬مع العلم أني كنت أحبذ العزلة‬
‫فلا أشارك الأطفال لعبهم ومرحهم ‪ ،‬وأجلس عند جذع‬
‫شجرة التفاح وقت الفسح الزمنية ‪ ،‬فقد كان عقلي أكبر‬
‫من لعبهم ‪ ،‬وما شعرُت بالسعادة الا مع الكبار حيث‬

‫أحس بمتعة بالغة فى كلامهم ‪.‬‬

‫كان الشتاء في بيسان طويلاً مملاً وكنت أمقته إذ‬
‫أنه يقلل من حركتنا وحيويتنا ويمنعنا من النزهة ‪ ،‬وهو‬
‫قارس جداً ‪ ،‬ونبقى خاملين مختبئين في عقور دورنا‬
‫خاصة اذا تعطلت الد ارسة ‪ ،‬وضباب الوادي يملأ‬
‫الغور وحينما أحاول النظر خلال النوافذ فلا أستطيع‬

‫الرؤيا لأن بخار أنفاسنا قد ضبب الزجاج ‪.‬‬

‫كان جدي يجلسني في غرفته ذات المكتبة الضخمة‬
‫أيام البرد ‪ ،‬خاصة عندما تكون السماء ممطرة ‪ ،‬او‬

‫‪153‬‬

‫تـن ُّث وف اًر ‪ ،‬ونتمتع بالموقد ودفئه وتوهج ناره والجمر‬
‫المتلألىء بألوان ساحرة ‪ ،‬كانت الني ارن تسلب تفكيري‬
‫وتجعلني متأملاً روعتها وأشكالها الخيالية ‪ ،‬وكنت‬
‫أطعمها كلما خفتت من خشب التوت الذي جمعناه‬
‫وقت الخريف ‪ ،‬وحيناً آخر كنت أنشغل برسم الحرف‬
‫العربي ‪ ،‬ويعينني على ذلك جدي أكثر من معلم‬
‫المدرسة ‪ ،‬وفي أحيان أخرى يناولني الكتب المبسطة‬
‫المعاني ويعلمني ق ارءة الجمل والأسطر وكتابتها‬
‫صحائف صحائف دون أن أم َّل حتى أضحي ُت لا‬
‫يجاريني أحد في الق ارءة والاملاء كل الم ارحل الد ارسية‪.‬‬

‫طوال هذه الفترة الابتدائية كانت تتوارد في ذهني‬
‫أسئلة جديدة ‪ ،‬فمنها ما أجد له جواباً في بعض الكتب‬
‫والباقي يبقى دفيناً في أعماقي لمدة حتى اذا لم أطق‬
‫الكتمان أنشد الجواب من جدي وأنتهز الفرص السانحة‬

‫لذلك وأسأله ‪:‬‬

‫ــــ جدى لماذا خلقنا ؟‬

‫ويرفع جدي حاجبيه دهشاً ثم يقول ‪:‬‬

‫‪154‬‬

‫ــــ لقد بدأت النبتة تنضج ‪ ،‬ولكن يا إبني لماذا‬
‫تشغل عقلك بهذه الأفكار التي لم تغير من أمر وجودنا‬

‫شيئاً ‪ ،‬أن عرفت الجواب أولم تعرف ؟ ‪.‬‬

‫ــــ ولكن يا جدي أنها تشغل تفكيري ‪.‬‬

‫ـــــ حسناً خلقنا من أجل ان نشعر بالحياة الدائمة ‪.‬‬

‫ــــ وهل هنالك حياة غير دائمة ؟ ‪.‬‬

‫ــــ يا إبنى توجد حياة ازئلة وهي الارض بما عليها‬
‫نحن بل ما فى الكون من قمر وشمس ونجوم ‪ ،‬اما‬

‫الحياة الدائمة فهي عند الله الخالد وهي لا تزول ‪.‬‬

‫هكذا تستمر أسئلتي عن الله والملائكة والانبياء‬
‫والجن والروح والجنة والنار والحساب والعقاب والحلال‬
‫والح ارم حتى ينام جدي وأبقى مستيقظاً مفك اًر الى أن‬
‫يتعب عقلي وأغرق في سبات عميق ‪ ،‬وعندما كنت‬
‫أستيقظ فى الصباح الباكر أتطلع الى منظر الجبال‬
‫المحيطة بالمدينة من الجهة الغربية وخاصة أيام الربيع‬
‫حيث تكتسي بحلة ازهية فكأنها سجاد مطرز بالوان‬

‫‪155‬‬

‫فاتـنة ‪ ،‬وأنظر الى امتداد السفح المنحدر نحو الغور‬
‫الساحر بخضرته فأرى مدينتي وسط جنة من جنان الله‬

‫وما أيام الد ارسة في الديار الا أيام الغبطة والسعادة‬
‫والامان ‪.‬‬

‫مرحلة الفتوة‬

‫تمر أيام الحلاوة مسرعة كأنها تأبى أن تسعد‬
‫الأحياء فترة أطول ‪ ،‬قد مرت متعة النظر الى جمال‬
‫الطبيعة الخلابة كلمح البصر‪ ،‬مثلما الورود ما أن‬
‫تبرز مفاتنها وتعبق بأريجها حتى تتلاشى ‪ ،‬مثلها‬
‫كانت مرحلة الثانوية فقد أنهيتها ابان الحرب العالمية‬

‫الأولى ‪.‬‬

‫كن ُت منشغلاً بحبيبة القلب الاولى (ماري) التي‬
‫كانت تحب أن تتمتع بالحياة الى أقصى حد ‪ ،‬لذا لم‬
‫تصبر وتـنتظرني لحين تخرجي‪ ،‬وأردتها أن تستمع‬
‫لكلماتي في التضحية والوفاء ولكن دون جدوى ‪ ،‬بل‬

‫‪156‬‬

‫مدت يدها الى أول فارس يملك المال والرجولة وسلمت‬
‫نفسها له وهي تقول لي ‪:‬‬

‫ــــ طريقك ما ي ازل طويلاً وحبنا سيموت على قارعته‬
‫قبل أن نصل ‪ ،‬ليودع أحدنا الآخر كأصدقاء تربطنا‬

‫ذكرى جميلة ‪.‬‬

‫ولم تعلم أنها طعنت قلبي آنذاك وعلمتـني درساً‬
‫مؤلماً زعزع ثقتي بالم أرة وصار في يقيني أن لا‬
‫إخلاص لها ‪ ،‬وأن المال هو التفاحة السحرية التي‬
‫تجذبها ‪ ،‬وعند ذلك وضعت قلبي مع آماله في قنينة‬

‫زجاجية وأغلقتها ثم رميتها في بحر المتاهات ‪.‬‬

‫كان صديق جدي عبد القادر القسام ‪ ،‬وحين كان‬
‫يجول في المدن الفلسطينية ويذكي نار الثورة ضد‬
‫الانكليز ‪ ،‬ح َّل ضيفاً في بيت جدي ‪ ،‬واستمعت له‬

‫وهو يقول مؤكداً ‪:‬‬

‫( ان الثقافة والعلم لأجيالنا ضرورية لكي يطردوا بها‬
‫الغ ازة ) ‪.‬‬

‫‪157‬‬

‫وعند استشهاد القسام في غابات ( يعبد ) ‪ ،‬تألم‬
‫جدي وحزن حزناً شديداً ‪ ،‬وكانت خيبة مَّرة بالنسبة له‬
‫وودع الحياة بعدها ‪ ،‬وتعلمت منها أن النكسة ما أن‬
‫تحل ضيفة على أحد الا وتنادي على بقية صويحباتها‬
‫فيقدمن مسرعات ‪ ،‬وقد إنفطر فؤادي ثانية بوفاة جدي‬
‫اذ لم يتحمل قلبه الحكم الانكليزي واستشهاد صديقه‬

‫البطل القسام ‪.‬‬

‫شعرُت أن خيمتي التي أستظل تحتها طارت مع‬
‫الريح والأدهى من ذلك بدأ الصهاينة يطردوننا من‬
‫مدينتنا بالقوة وقد هدد ُت بالقتل عدة م ارت وليتني ُقتل ُت‬
‫حينذاك ‪ ،‬فقد وجد ُت جا اًر لنا مقتولاً عند الصباح وتلاه‬
‫آخر‪ ،‬لذا أصرت (ستي) أن نرحل مع ال ارحلين ونترك‬
‫أرضنا وبيتنا وبستاننا ‪ ،‬أي نترك فلسطين ونلتجىء‬

‫الى سورية وهي تقول لي ‪:‬‬

‫ــــ أنت اذا ذهبت ستعود لأن الارض باقية وستعود‬
‫بهمتك وهمة الرجال الباقين ‪.‬‬

‫‪158‬‬

‫لكنني رفض ُت أن نترك الارض كما فعلت آلاف‬
‫العوائل من مسلمين ومسيحيين ‪ ،‬واشتغلت بشهادة‬
‫الثانوية معلمًا فى المدرسة التي خرجتـني ‪ ،‬ورحت‬
‫أعيل ستي حتى وافاها الأجل قبل زواجي ‪ ..‬ويومها‬

‫شعرت بالوحدة والوحشة من جديد ‪.‬‬

‫كنت أكتب للمجلات والصحف افكاري الثورية فقد‬
‫خططت لمشروع وحدة الأقطار العربية ‪ ،‬كما خططت‬
‫لمشروع ارواء الجزيرة العربية من مياه خليج العقبة ‪،‬‬
‫وخططت لمشروع منع الهجرة من فلسطين ‪ ،‬ولم‬
‫يتحقق من هذه المشاريع شيء ‪ ،‬فاتجهت الى الأدب‬
‫اكتب الى مجلة المقتطف اللبنانية ومجلة الهلال‬
‫المصرية ومجلة مرحلة المعلم الجديد الع ارقية ومجلة‬

‫المجمع العلمي في دمشق ‪.‬‬

‫قد حمدت الله على أن (ماري) لم تبق في محطة‬
‫انتظاري ‪ ،‬لأن الحياة أصعب مما كنت أتصورها ‪،‬‬
‫فالمعيشة أرض متعبة الحرث ‪ ،‬والبناء يحتاج من‬
‫طابوق الجهد الكثير‪ ،‬وتكوين عائلة في هذه المرحلة‬

‫‪159‬‬

‫القاسية كمن يريد أن يزرع بستاناً وسط الصح ارء ‪،‬‬
‫والمال لا يتكون الا بالجمع بين الزمن والجهد‬

‫والحرمان ‪.‬‬

‫وفكرت أن أهاجر باحثاً عن أبي لولا اش ارقة نجمة‬
‫في ليل حياتي‪ ،‬أبقتـني لمصيري ومصير عائلتي ‪.‬‬

‫مرحلة الرجولة‬

‫هاج بحر المتاهات وعاد لا يطيق حمل زجاجة‬
‫قد سجن في جوفها قلب انسان حتى صار غير قادر‬
‫على الاحتفاظ بها سالمة فوق رفوف أمواجه ‪ ،‬وعند‬
‫أول موجة عاتية رمى الزجاجة على صخور الواقع‬
‫فتحطمت وخرج قلبي للحياة من جديد وعشق (نادين)‬
‫أول فتاة أرى في عينيها بحيرة المجد ‪ ،‬وفى قلبها ورد‬
‫الهناء ‪ ،‬وفي رقتها جميع احلام الحنان مجسدة ‪ ،‬فمال‬
‫نحو ظلها ومدت له الظل وارفاً بكل كيانها وعواطفها‬

‫حتى غرق بسحرها ‪.‬‬

‫‪160‬‬

‫طلبت يدها ‪ ،‬وكانت عائلتها من نفس مدينتي‬
‫ووالدها كان صديقاً لجدي ‪ ،‬فما أسرع ما تم زواجي‬
‫فقد ضمنا الفردوس المنشود‪ ،‬حتى أني لم أكن أتصور‬
‫بأن الحب بعد الزواج أعنف وأقوى من الحب قبل‬
‫الزواج ‪ ،‬وشاء الله ان يرزقني من زوجتي فتاتين ‪ ،‬هما‬
‫حسناء وخولة ‪ ،‬ملئا الدار نو ار واشرقت الدنيا بجمالهن‬
‫‪ ،‬وكنت لا أصدق هذه السعادة التي بعثت في قلبي‬

‫مهرجاناً لم يسبق وأن عش ُت مثله ‪.‬‬

‫ارحت الحياة تبتسم في وجهي ولم أخل أنها ستقطب‬
‫وجهها في يوم من الأيام ‪ ،‬وتشيح بوجهها عني نهائيا‬

‫‪ ،‬ولم أتوقع ذلك ولا حتى أتخيله أبداً ‪.‬‬

‫أحسست بألم في قلبي وأنا في البستان أساعد‬
‫العاملين في تقليم الاشجار‪ ،‬فتغاضيت عنه ‪ ،‬وكثي اًر ما‬
‫أصابني دوار بعد ذلك ‪ ،‬ولكني كنت أمثل دور‬
‫المتعب فلا أجعل أحداً يشعر بما أعاني ‪ ،‬ومضى‬
‫عمري يركض في شارع الزمن وأنا أستخدم العقاقير‬

‫‪161‬‬

‫الطبية لعلي أشفى ولكن دون جدوى فقد استفحل‬
‫المرض الى درجة سقوطي على الأرض دون وعي ‪.‬‬

‫وحينما صارت حسناء بعمر الاربع سنوات وخولة‬
‫بعمر الثلاث سنوات ‪ ،‬كانت سعادتي لا توصف‬
‫خاصة حينما يحوطانني ليلاً لأستمع لهما واحدة واحدة‬
‫يتسائلان في أمور شتى ‪ ،‬أحس أني في أوج مجـدي ‪،‬‬
‫ولكن أّنى للسعادة أن تدوم فقد قرر الاطباء أن أسافر‬
‫الى انكلت ار لعمل عملية «القسطرة» فش ارييني ما عادت‬
‫تحتمل الادوية ‪ ،‬ومثل هذه العملية لا تنجح عندهم‬
‫لعدم وجود الآلات الطبية الحديثة لديهم ‪ ،‬ونجاحها‬

‫مضمون هناك مائة بالمائة ‪.‬‬

‫كم ثمينة هي الحياة حينما يكون الانسان فيها‬
‫سعيداً بل ومهماً لدى أهله ‪ ،‬فبدونه لا حياة لهم ‪ ،‬لذا‬
‫أسرعت بجمع المال الكافي لرحلتي وعمليتي بتشجيع‬
‫من زوجتي ‪ ،‬وحزمت أمتعتي وودعت روحي وقلبي‬
‫وعمري وعقلي وسعادتي ولم أدر أني أودع عائلتي‬
‫الوداع الأخير والى الأبد ‪ ،‬فقد كنت أعتقد أن ما أتركه‬

‫‪162‬‬

‫ساجده سالماً حين عودتي ‪ ،‬ولم أتصور مطلقًا أن‬
‫الصهاينة سيرسلون غ ارب (ادغار الان بو) ليحط على‬

‫بيتي ‪.‬‬

‫سرقتني الطائرة من مطار بيروت الى لندن‬
‫بمحض أ اردتي ‪ ،‬هبط ُت في مطار هيثرو ومنه‬
‫توجهت مباشرة الى مستشفى جيمس بناء على موعد‬
‫اتفقنا عليه بالم ارسلة وبقيت فيه أشه ًار بين المماطلة‬
‫والعلاج والم ارقبة السريرية ‪ ،‬وصرفت الكثير من المال‬
‫‪ ،‬وكانت رواتبي التي تصرفها لي المدرسة هي الامداد‬
‫الوحيد الذي أبقاني فى دولة قانونها النقود ‪ ،‬ولقد ندمت‬
‫كثي ار على تركي لأهلي محاولاً التشبث بالحياة هي بيد‬
‫الله ‪ ،‬ولكن ما يسمى بالقدر أظنه هو الذي حاك‬

‫مصيري وفق منهاجه المأساوي ‪.‬‬

‫كانت رسائل زوجتي وبناتي هي سلوتي الوحيدة‬
‫في بلاد الغربة ‪ ،‬حيث أعيش مع كلماتهم كأنهم حولي‬
‫فعلاً يحدثوني وأستمع لهم بكل جوارحي فافرح لفرحهم‬

‫‪163‬‬

‫‪ ،‬اذ كل ما كتبوه لي بهجة وحنيناً ما بعده من بهجه‬
‫وحنين ‪.‬‬

‫وحين أوشكت فترة الاستشفاء على الاكتمال النهائي‬
‫وصلتني أخبار النكبة على مدينتي بيسان ‪ ،‬وهجوم‬
‫الصهاينة القتلة على البيوت لطرد المسلمين منها ‪،‬‬
‫والذين يرفضون يحرقون دورهم ليلاً وهم نيام ‪ ،‬وكانت‬

‫داري ملاسقة لجارين مسيحيين ‪.‬‬

‫انقطعت الرسائل عني وتكتمت الصحف عما‬
‫يحدث في بيسان ‪ ،‬شعرت بأن أوتا اًر في قلبي قطعت‬
‫‪ ،‬وحدث إنهيار فظيع في داخلي ‪ ،‬وخشى الأطباء ان‬
‫تذهب أتعابهم هباء بعد أن عرفوا ما أفكر به ‪،‬‬

‫ونصحوني أن أسرع بالرحيل الى أهلي ‪.‬‬

‫كانت الأخبار تتضارب بعدد المهجرين من كل‬
‫المدن والقرى الفلسطينية ‪ ،‬واعلان دولة الكيان‬
‫الاس ارئيلي ‪ ،‬فازدادت لهفتي لرؤية عائلتي ‪ ،‬ولم أكن‬
‫أملك مالاً كافياً لرحلة العودة فاستعنت بالكنيسة وقدموا‬
‫لي الدعم الكافي لايصالي الى بيروت ‪ ،‬ومنها ركبت‬

‫‪164‬‬

‫الى مدينة القدس ‪ ،‬ولم أجد أحداً يأخذني الى مدينتي‬
‫بيسان ‪ ،‬فاستعنت بخيالة الثوار بعد أن علموا اسم‬
‫جدي ‪ ،‬وأنا بين يأس وأمل وقلبي يضطرب خوفاً من‬
‫عدم وجود أهلي في دارنا ‪ ،‬ورحت القي سيلا من‬
‫الاستفسا ارت على الرجال الذين تطوعوا لايصالي‪،‬‬
‫ولكنهم لاذوا بالصمت المطبق ‪ ،‬وهزوا رؤوسهم بعدم‬
‫المعرفة ‪ ،‬وأوصلوني الى مخيمات خارج بيسان‬
‫وتركوني هناك ‪ ،‬ورحت ابحث عن من يعرفني وأعرفه‬
‫لكن دون جدوى فكلهم مصدومون ويئنون ألماً من‬
‫الفاجعة التي نكبوا فيها ‪ ،‬فقررت التسلل ليلاً الى‬
‫المدينة ‪ ،‬ونفذت ذلك بعد أن زحفت مئات الامتار بين‬
‫الاح ارش وما أن أصبح الصباح حتى كنت قرب الحي‬

‫الذي فيه بيتي ‪.‬‬

‫كانت صدمة لي ما بعـادهـا من صدمة حينما لم‬
‫أجد داري ولا دور جي ارني ‪ ،‬بل وجدت أرضًا عليها‬
‫ركام أسود قد أكلته النار‪ ،‬وكانت ارئحة الاقمشة‬
‫المحروقة ممتزجة ب ارئحة عفونة غريبة انتشرت في‬

‫الحي المحروق ‪.‬‬

‫‪165‬‬

‫يا لهوله من خ ارب ‪ ،‬تمنيت حينها أن تـنشق‬
‫الأرض تحت قدمي وتطحن عظامي فى جوفها وتكتم‬
‫أنفاسي ‪ ،‬ركضت كالمجذوب الى بيت شقيق زوجتي‬
‫وكان قريباً من حَّينا‪ ..‬وأنا أركض باقصى سرعتي‬
‫جاءتـني صلية رصاص لم تصبني تمنيت بعدها لو‬
‫مت بها‪ ،‬فهي لم تصرعني حقاً ولكني مت بعدها عدة‬

‫ميتات ‪.‬‬

‫وحين وصلت الدار قفزت بكل ثقلي على الباب‬
‫وكسرتها ودخلت‪ ،‬عنوة ‪ ،‬وحين صرت داخلاً أريت كل‬
‫من في البيت ينظرون الي والشهقة عقدت أفواههم من‬
‫هول المفاجأة ‪ ،‬وعندما عرفني شقيق زوجتي ‪ ،‬رمى‬
‫نفسه علي وهو يبكي بشدة أثارت أعصابي ‪ ،‬وصرخت‬

‫به بعد أن أمسكته من زنديه وهززته بقوة ‪:‬‬

‫ـــــ قل لي بربك ما حدث ‪ ،‬أين زوجتي ‪ ،‬أين بناتي‬
‫أكاد أجن ؟ أنطق ‪ ..‬تكلم ؟ ‪.‬‬

‫فردت علي أصوات نسائية ‪:‬‬

‫‪166‬‬

‫ـــــ حرقهم المجرمون ‪.‬‬

‫ــــــ لقد احترقوا وهم نيام ‪.‬‬

‫ـــــ سقطوا شهداء ‪.‬‬

‫ــــ أخذهم الله الى جنته ‪.‬‬

‫ـــــ الله سينتقم من القتلة ‪.‬‬

‫كأن جبلاً ينهار وكل كلمة صخرة تسقط على‬
‫أرسي فيرتج ‪ ،‬وجدحت نار كبرق ضربني مثل نصل‬
‫السيف في أرسي ‪ ،‬ودارت بي الأرض السماء ‪،‬‬

‫وأحسس ُت بجسمي يهوي الى واٍد عميق مظلم ‪.‬‬
‫ثلاثون سنة وأنا الميت الحي ‪ ،‬لا أعي شيئاً من‬
‫الدنيا كيف عش ُت في بيت أهل زوجتي ‪ ،‬وكيف تركتهم‬
‫وهم ُت على وجهي في الب ارري والمدن ‪ ..‬أين نم ُت ‪..‬‬
‫ماذا أكل ُت ‪ ..‬ماذا لبس ُت ‪ ..‬الحر ‪ ..‬البرد ‪ ..‬الأيام ‪..‬‬

‫السنين ‪ ..‬كلها ما شعرت بها قط ‪.‬‬

‫‪167‬‬

‫رجعت الى عالم الذاكرة عندما وجدت نفسي ارقدا على‬
‫سرير في مستشفى أردني ‪ ،‬وحين سألت عن حالتي‬

‫أخبروني قائلين ‪:‬‬

‫ـــــ احمد الله أنك لم تمت ‪ ،‬فالسيارة التي دهستك‬
‫أحدثت بك بعض الرضوض فقط ‪.‬‬

‫بدأ شريط ذاكرتي يعود في ذهني من جديد فسأل ُت ‪:‬‬
‫ـــــ أين أنا وفي أية سنة نحن ؟‬

‫أخبروني بأني في الاردن وأنها سنة ‪، 1978‬‬
‫عندها عرفت أني كنت بلا عقل واٍع طيلة ثلاثين سنة‬
‫‪ ..‬و ارحت الاحداث تتوالى على فكري وأبكي مع كل‬

‫ذكرى أتذكرها ‪:‬‬

‫ـــــ كم أنت قاسية يا حافظة القيادة يا جمجمتي ! ‪،‬‬
‫لماذا أخرجت قنابل الذكريات المفجعة ورحت تنسفين‬
‫بها أحاسيسي نسفاً ‪ ..‬أما يكفي بأني الميت الحي ؟ ‪.‬‬

‫وحينما نظرت في المرآة أبصرُت انساناً ـــ لم أره‬
‫من قبل مطلقاً ـــ هرماً ‪ ،‬جفل ُت منه فقد بان ذا شعر‬

‫‪168‬‬

‫طويل مغبر ‪ ،‬ولحية بيضاء مصفرة ‪ ،‬وبشرة مجعدة‬
‫ذابلة ‪ ،‬وعينين جاحظتين ‪ ،‬وعظام تكاد أن تخترق‬
‫الجلد المخضن ‪ ،‬هل هذا أنا محال ‪ ،‬كم من السنين‬
‫مرت علي ‪ ،‬أكنت من أصحاب الكهف والرقيم ‪ ،‬أم‬
‫انني العازر عدت الى الحياة ‪ ..‬وتلف ُت حولي لعلي‬
‫أجد صاحب هذه الصورة الجنونية ‪ ،‬فلم أجد أحداً ‪،‬‬
‫وأنكرُت أن تكون هذه صورتي ولكن الواقع جعلني‬

‫أصدقها ‪.‬‬

‫كم ينخدع الانسان بعقله ‪ ،‬ويضيع في صح ارء بلا‬
‫ساحل ‪ ،‬وينقاد لتصو ارت ليس لها لدى طيور الحواس‬
‫اي مقياس ‪ ،‬عندها عرفت أن العقل يحب الحياة‬
‫ويتشبث بها ‪ ،‬وأن النفس تكره الحياة وتحاول التخلص‬
‫من سيطرتها كلما أحست بالذل ‪ ،‬والسبب واضح ‪،‬‬
‫فالعقل فا ٍن وكل فا ٍن يحب الحياة ‪ ،‬والنفس خالدة وكل‬

‫خالد يكره الحياة ال ازئفة ‪.‬‬

‫بعدها عرفت أحداث نكبة ‪ 1948‬من الناس‬
‫وعرفت أن أهلي وضعوا في قائمة الشهداء ‪ ،‬ولكني ‪،‬‬

‫‪169‬‬

‫حقد ُت على الصهاينة ومن زودهم بسلاح الفتك ‪ ،‬ولم‬
‫أستطع أن أحتمل بقائي قريباً منهم واتجهت صوب‬
‫الع ارق الى بغداد ‪ ،‬مبتعداً عن اماكن الذل والهوان ‪،‬‬

‫عن قلب المأساة الدامي ‪.‬‬

‫التشرد أهون من الموت ‪ ..‬فلو كان القرب منهم‬
‫يجدي لانقذ ُت عائلتي وبقي ُت ‪ ،‬لكنه لا يجدي أبداً ‪..‬‬
‫فهذا زمن القوة والسلاح ونحن الفلسطينيون ع ارة نصنع‬
‫من جلودنا خيماً كل يوم ‪ ،‬ومن أولادنا طعاماً كل يوم‬
‫‪ ،‬فما جدوى السكن في مخيمات بالصح ارء ‪ ،‬وأرضنا‬

‫ودورنا وحقولنا وبساتيننا أمامنا تسكنها جرذان أوربا ‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫لم تمض بضعة أيام وأنا في بغداد حتى‬
‫اصطادتـني الكنيسة ‪ ،‬والتحق ُت بها وما بقيت فيها الا‬
‫عاماً ونصف العام ‪ ،‬فقد تعلمت أن الحياة اذا لم تقتلها‬
‫بالعمل قتلتك ‪ ..‬فما الفرق فأنا مقتول وسوف أموت‬
‫من أجل الدخول في عالم الآخرة ‪ ،‬وما عودتي الى‬
‫بيسان الا لأدفن هناك ‪ ..‬أودعك يا شاول بدمعة فرح‬

‫‪170‬‬

‫فقد بقيت عندي هذه الدمعة الوحيدة وهي آخر ما تبقى‬
‫في قدح أحداقي ‪ ،‬وأتمنى بكل جوارحي لك ولزوجتك‬
‫أحلى السعادة ‪ ،‬وسادعو لكما في ف ارديس السماء لكى‬
‫ترفرف عليكما ملائكة الحب الخالد وطيور الهناء ‪. .‬‬

‫الوداع ‪.‬‬
‫اخوك ال ارهب‬

‫‪171‬‬

‫المحتوى‬

‫رقم‬ ‫العناوين‬ ‫ت‬ ‫رقم‬ ‫العناوين‬ ‫ت‬

‫الصفحة‬ ‫الصفحة‬

‫‪ 25‬يوم مكنوز ‪82‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ 1‬توطئة‬

‫‪ 26‬يوم قيثاري ‪86‬‬ ‫‪ 2‬البداية ‪7‬‬

‫‪ 27‬يوم مقدس ‪90‬‬ ‫‪ 3‬يوم طيف ‪9‬‬

‫‪ 28‬يوم رباني ‪95‬‬ ‫‪ 4‬يوم عسلي ‪12‬‬

‫‪ 29‬يوم طفيلي ‪99‬‬ ‫‪ 5‬يوم غريب ‪14‬‬

‫‪ 30‬يوم مفزع ‪102‬‬ ‫‪ 6‬يوم صح اروي ‪17‬‬

‫‪ 31‬يوم بخيل ‪107‬‬ ‫‪ 7‬يوم ملائكي ‪22‬‬

‫‪ 32‬يوم بطولي ‪111‬‬ ‫‪ 8‬يوم عـذب ‪25‬‬

‫‪ 33‬يوم مادي ‪114‬‬ ‫‪ 9‬يوم مشرق ‪28‬‬

‫‪ 34‬يوم حلاجي ‪116‬‬ ‫‪ 10‬يوم فجائي ‪31‬‬

‫‪ 35‬يوم مجرم ‪121‬‬ ‫‪ 11‬يوم وّدي ‪34‬‬
‫‪ 36‬يوم مرتجف ‪124‬‬ ‫‪ 12‬يوم نسوي ‪37‬‬

‫‪172‬‬

‫‪ 37‬يوم جماهيري ‪128‬‬ ‫‪ 13‬يوم عاطفي ‪40‬‬
‫‪ 38‬يوم جـذ ل ‪131‬‬ ‫‪ 14‬يوم عميق ‪42‬‬
‫‪ 39‬يوم عاشق ‪135‬‬ ‫‪ 15‬يوم لاهب ‪45‬‬
‫‪ 40‬يوم ذهبي ‪141‬‬ ‫‪ 16‬يوم أبيض ‪48‬‬
‫‪ 41‬يوم الق ارر ‪143‬‬ ‫‪ 17‬يوم معقوف ‪51‬‬
‫‪ 42‬قصة حياتي ‪146‬‬ ‫‪ 18‬يوم ملون ‪54‬‬
‫‪ 43‬مرحلة الطفولة ‪147‬‬ ‫‪ 19‬يوم قاتم ‪56‬‬
‫‪ 44‬مرحلة اليفاعة ‪153‬‬ ‫‪ 20‬يوم فقاعي ‪59‬‬
‫‪ 45‬مرحلة الفتوة ‪156‬‬ ‫‪ 21‬يوم زنجي ‪62‬‬
‫‪ 46‬مرحلة الرجولة ‪160‬‬ ‫‪ 22‬يوم موحش ‪68‬‬
‫‪ 47‬الخاتمة ‪170‬‬ ‫‪ 23‬يوم مموسق ‪72‬‬
‫‪ 48‬المحتوى ‪172‬‬ ‫‪ 24‬يوم صوفي ‪78‬‬

‫‪173‬‬

‫اصدا ارت الكاتب‬

‫‪ – 1‬عاشق الشمس ( مجموعة قصص قصيرة )‬
‫بغداد – ‪1964‬‬

‫‪ – 2‬ما قاله آدم عند الشجرة ( مذك ارت ارهب )‬
‫بغداد ‪1986 -‬‬

‫‪ – 3‬رسالة للانسان عبر الزمان‬
‫البحرين – ‪2011‬‬

‫‪ – 4‬أصوات الرحيم في القرآن الكريم‬
‫الاردن – عمان – ‪2016‬‬

‫‪ – 5‬مذك ارت ارهب ( طبعة ثانية منقحة )‬
‫الاردن – عمان ‪2018 -‬‬

‫‪ – 6‬مصباح الذكريات ( تحت الطبع )‬
‫‪ – 7‬ديوان الع ازوي ( تحت الطبع )‬

‫‪174‬‬

175


Click to View FlipBook Version