ورفع أحدهم يده قائلا :
ـــــ أنا أطلب يدها لابني ( آ ار ) وها هو معي ..يعمل
بيديه ويكسب رزقه بعرق جبينه ويستطيع اعالتها معنا
،ولعل الله يرزقه أكثر على حظها .
ينهض شاب في مقتبل العمر قائلاً :
ـــــ أنا أطيع أوامر أبي وأوافق على طلبه .
فدعا الشماس (آ ار) و(جانيت) وأوقفهما أمامه
ووضع رباطاً على يديهما المتصافحتين وق أر عليهما
ترتيلة الرباط المقدس ،وباركهما على أن يتم زواجهما
يوم الاحد القادم بحضور جميع الناس .
بعد ذلك خرج الجميع وآ ار متأبطاً يد جانيت ..كم
كانت فرحتي هذا الصباح وأنا أشم ارئحة قلب العنب
وهو يتبرعم ليظلل الع ارئش ،ولكني خرج ُت من قاعة
الكنيسة وكلي ك ارهية لروح العنب وما تسببه من تحطيم
للش ارئع .
101
يوم مفزع
أيقظتني ــــ عند انبلاج الصبح ــــ طرقات مسرعة
على زجاج نافذتي ،ففتحت عيني لأرى من الطارق ،
فاذا بالأب شاول يطرق وقد إش أرب ب أرسه من شباكي
المفتوح ناظ اًر الى وجهي بامعان شديد ،نهضت فزعًا
وفتحت له الباب بعد أن حياني وطمأنني بأن الامر
ليس له أهمية ،وقال بعد أن دلف الى الغرفة :
ــــ لنجلس يا سيدي ال ارهب لكي أروى لك حلماً حلمته
قبل قليل وهو يخصك .
جلسنا على حافة السرير ،واستطرد يقول :
ــــ قبل أن يداعب سلطان الاحلام أجفاني صليت ثم
طلبت من الرب أن أرى في شريط أحلامي الحوادث
التي مرت عليك وزعزعت حياتك ،وما أن صرعني
الوسن حتى بدأت ت ارودني الاحلام ،فشاهدت فيما ي اره
النائم أن فيضاناً كبي اًر قد عم البلاد ،وأبصرتك كأنك
النبي نوح تصنع سفينة فارهة لكي تقلك أنت وأطفالك
102
وزوجتك لتنجو من هول الفيضان وقد أتممت صنع
الفلك ،وحملت فيه عيالك ،وطلبت منك أن تحملني
معك ولكنك أبيت بحجة أن الرب لا يرضى ،فركبت
على حين غفلة منك ،وارتفعت المياه ،وحملت
الامواج سيفنتك ،وكنت تخاطب الله قائلًا :
( رب أني سأنقذ خلقك من الفيضان ،فمجدني
وأنصرني )
وحين بلعت الارض عصير السماء وظهرت اليابسة
من جديد وحطت السفينة ونزلت أنت وبناتك وزوجتك ،
ومضيت تصلي وتبتهل الى الله وتقول :
( ها أنا أيها الرب المقدس قد أبقيت ذرية أبينا آدم ،
فباركني ..فباركني ).
وما أن انتهيت من كلامك حتى أصاب أف ارد عائلتك
مرض قاتل ،و ارحوا يولولون ويئنون حتى لفظوا
أرواحهم واحداً بعد الآخر ،ولم يبق الا أنا وأنت ،
لكنك لم تبصرني لأنني بقيت منزوياً عن أنظارك ،لا
103
أدري هل رهبة منك أم احت ارماً لرفضك أياي في بادىء
الأمر ،فما أن عرفت أنت بمـوت كل أهلك حتى طفقت
تـنتف شعـر أرسك ثم تذره للرياح وتخاطب السماء
بغيظ قائلاً :
( رباه ماذا جنيت لكي تسلب مني أعز ما لروحي ؟ )
فاذا بصوت سماوي يجيبك قائلاً :
ــــ أتظن أيها الانسان الصغير أن عملك هذا عظيم
ويجب أن يباركك عليه الرب ،ألم تعلم أن لله قدرة
على أي شيء غير موجود أن يقول له كن فيكون
موجوداً ،أوتخال أنك ذو فضل على ابقاء نسل آدم ،
ألم تعلم أن الفيضان لم يقض على الاحياء كافة لان
أحياء في جوف الماء ولا حياة لها الا فيه ،وان الله
قادر على ان يطورها الى مخلوقات برية ،فما
الحاجة لأهلك ،أما أنت فاستعد لملاقاة نهايتك فقد
دنت .
وأجبت أنت مخاطباً السماء ببكاء جزع قائلاً :
104
(واتعباه أيتها الا اردة العجيبة ألا الحقيني باهلي سريعاً
فلم يبق من روحي الا النفس الاخير) .
فرد عليك الصوت مرة أخرى :
ـــ ليس هنا بل سر بعيداً وقدم روحك من أجل
الآخرين .
ورحت تعدو وتعدو مبتعداً ،وحاولت أن أصرخ
خلفلك مناديك للعودة ولكن دون جدوى فقد انعقد لساني
،وبح صوتي ،واستيقظت قبل قليل وجئت اركضاً الى
غرفتك لكي أطمئن عليك فقد ارودتني ظنون كثيرة .
عجبت مما رواه الأب شاول عن حلمه فقد كان
يقارب قصتي من حيث المضمون ويشابهها من حيث
الشكل ،ولكن ما معنى أن نهايتي تتم بعيداً ومن أجل
الآخرين ؟ .
وبعد أن خيمت علينا السكينة ووجم أحدنا في وجه
الآخر وقد شردت افكارنا تكلمت فقلت له :
105
ــــ أنا أحس أن الهاتف محق فى تعيين نهايتي ،
وأخالها قد أوشكت أن تقترب ،فاتركني أيها الصديق
العزيز أفكر فيما رويت ،وساخبرك بحكايتي التي
تتلهف لسماعها عن قريب ،فما سرد الذكرى المؤلمة
بهينة علي الآن .
اظلمت الدنيا في عيني واختفى كل ما هو جميل ،
وبان شبح الموت في كل ما أبصر وما أفكر وما أحس
حتى الشمس أمسى شعاعها أسود قاتماً ،وأن الطبيعة
الملونة صارت موشحة بالسواد الحالك ،والسماء
أبصرتها أغوا اًر من العدم ،حقاً أنه يوم صبغته أفكار
عقلي بلون القار .
تمضي أزمنتي سارية في مهب الريح ،تقتات
لحمي وتقضم عظامي ،أتمسك في قشة ،أحس أني
أطير مع طيوري الصغار وكل العيون شاخصة نحوي
،تبحث عن سري ،تبحث عن أمري ،تبحث عن
مصيري ،كل قط ارت العمر تنساب فى محيط الزمن ،
فلا موج ولا تأريخ ولا إسطـورة ،تحقق ذاتي المقهورة ،
106
كل الليالي السود تخنق أغنيتي ،وكل صور الماضي
تتساقط في جمجمتي ،تتوقف نبضات القلم من دهش
،وأحس الروح تنساب في أقبية العدم ،لا صمتي
يغني ،ولا صوتي يسعف ،لن ُيعّبر الهم عن معاناتي
،فأنا بالهم أعرف .
يوم بخيل
ملأ الدمع عيني وجرى ،لا أدري هل فرحاً لأني
ذاهب الى بناتي وزوجتي عن قريب ،أم ألماً لأني
سوف أموت وأنا لا أعرف ما خفايا الموت ،هل أنها
عملية موت الروح والجسد ،أم هدأة الجسم الابدية
وانطلاقة الروح الى المجهول ،والأمر سيان فأنا
سأتحرر عن ا اردتي لأدلف ا اردة العقل الأعظم ،
والمهم أن تجربة الموت عملية لابد من دخولها بالنسبة
للشيوخ أمثالي بصرف النظر عن النتائج لأننا مللنا
الحياة الى أقصى حد .
كان القساوسة يمرون من أمامي ويسلمون علي
حيث كنت جالساً تحت شجرة التين ،وكنت في تفكير
107
عميق لا يسعني أن أرد عليهم سوى بنظرة وابتسامة
صغيرة مصطنعة .
رنوت الى أعالي الشجرة حيث بدأت كواكب التين
منتفخة كنهود العذارى ،لامعة في أشعة الشمس
كالدرر ،وانبرت نفسي تحدث التين قائلة :
ــــ أيها التين ،أيها المقدس لدى الرب أنت والزيتون ،
لقد سقيتك من معين الحياة حتى ارتويت وتغذيت
ونموت ،وكم قتل ُت الطحالب لكي لا تسرق غذاءك ..
وها أنا أتمنى أن تهبني بعضاً مما وهبتك ،وتسمح لي
أن أقطف تينة من بينك ؟ .
نقلت بصري مفتشاً ,ولمحت أنضج تينة قد انفلقت
قليلا وسال الشهد المحلب يقطر من ثغرها ،وكانت
معترشة غصناً عالياً ،فهمم ُت أن أنهض وأرتقي
لقطفها ،فاذا ببلبل يحط على ذلك الغصن وينقر تلك
التينة بمنقاره الدقيق وينهشها نهشاً حتى أتى على
معظمها ،وقد كان شديد الجوع كما يبدو ،وبقي ُت أنظر
اليه بغبطة بالغة ،وقبل أن يبرح الغصن ،غرد
108
أغرودة النصر ،خلتها مزمو اًر من م ازمير داود مسبحاً
للرب ..ثم سكت وطار محلقاً فى الفضاء .
ولم أتمن بعدها أية تينة لأنني فهمت ما كل ما
نتعب فيه نجني ثمره .
جاء بعد قليل جمع من القساوسة وأخذوا يجنون من
التين كل ما أيديهم تقربه وتصله ،وأرد ُت أن أقطف لهم
بنفسي ،ولكنهم عارضوا ذلك بحجة أني شيخ متعب
وال ارحة لي أفضل ..وشعرت في قلبي ألماً وغبطة في
آن واحد ،لأني عرفت أيضاً أن هذه الحياة تأبى أن
أجني منها ثمار أتعابي ،حتى وأن كان الجني لغيري
،وهذا ما جعلني أستخف من نظام الحياة ،وأعمل بلا
عقل ولا قلب كآلة لا غير .
وتذكرُت حينما كنت فى سوق من أسواق انكلت ار
و أري ُت يهودياً يبيع البرتقال وينادي أنه برتقال
«اس ارئيل» فكأنه طعنني في قلبي لأنني أشاهد البرتقال
الذي زرعه أبي العربي في فلسطين يجنيه الصهاينة
109
ويَّدعون أنهم زرعوه ،فيا لأتعابنا المسروقة والتي جنى
ثمرها أعداؤنا .
وتذكرُت كيف سخر الناس مني حينما رح ُت أثب ُت
لهم زيف دعاء هذا اليهودي الذي سرق أرضنا .
أه لماذا أفتح باب كهف مشاعري الدفينة ،لماذا لا
أوهم أحساسي بأن لا وجود لوجود ،ولكن هيهات فان
حزة السكين ما ازلت تخنقني ،وأ ارفس كطائر ذبيح .
أأهرب من ظلي ،أأهرب من قلبي ،أأشرد من
مشاعري ،ربما يستطيع الانسان أن يهرب من أرضه
ومن سمائه ولكنه لن يستطيع أن يهرب من نفسه .
وفجأة شعرت بباب كهف أعماقي يسقط ،فاذا
بدوامة سوداء تلفني وتصرعني فأتدحرج في أعماقها ،
واذا بي وجهاً لوجه مع ما كنت أخافه وأهرب منه ،أنه
شبح الانتقام الذي يطاردني ،وطالما ابتعدت عنه
مهرولاً الى حد الأفق .
110
ماذا يريد مني ..أنه يسحبني ويدفعني . .لكي
أذهب وأرجع ك ارمتي ..ك ارمة كل الفلسطينيين .
يوم بطولي
صوتت صافرة الانذار ،فجمدت الدماء في
الش اريين ،واختبأت الطيور في أوكارها ،ومنها من فزع
شارداً تتلاطم أجنحته في الفضاء ،و ارن سكون سريع
،فلا أصوات لحركة سير السيا ارت ولا أصوات زقزقة
عصافير توجه معظم القساوسة الى قاعة الكنيسة
للصلاة ،أما أنا فأسرعت مرتقياً السلالم المؤدية الى
برج النواقيس .
من الشرفة المطلة على المدينة أريت الناس فوق
سطوح المنازل ي ارقبون السماء ..ولعلع الرصاص بقوة
..واذا بسهام نارية تخترق جوف السماء ..مما
أجبرت الطائ ارت على عدم الدنو من أهدافها ،واذا
بصواريخ فضية يخرج منها ذنب دخان أبيض تلاحق
الطائ ارت وكل صاروخ يدخل طائرة يفجرها ،و ارح
الشعب يحسبها واحدة ،اثنتين ،خمس ..عجبت من
111
الشعب الع ارقي البطل ،وعظم في عيني وأعاد لي
الثقة بنفسي وبشعبي العربي .
كنا في أرضنا الحبيبة ـــ من طائرة واحدة مهاجمة
ـــ نختبىء في كل الاماكن الحصينة ان وجدت ،أما
ما أ اره فهو مذهل ولم يحدث قطعاً لا في زمان ولا في
مكان ،الشعب قاطبة ــــ من صغار وكبار ــــ شيوخًا
ورجالاً ونساء ،اعتلوا أعالي المنازل لكي ينظروا الى
مشاهد تفجير الطائ ارت الاي ارنية المغيرة على بغداد .
عديدة الطائ ارت التي تساقطت ..أنها خسارة كبيرة
لاي ارن ،فقد جاءت باسطولها الجوي على مدينة وادعة
تظن أنها ستسيطر بقوتها الجوية من هجمة مكثفة ،
ولكنها مادرت أن بغداد ستكون مقبرة لطائ ارتها ..
الناس يهتفون ويصفقون فرحاً بعد كل طائرة تنفجر في
سماء بغداد ،كأنهم ينظرون الى لعبة كرة القدم لا الى
معركة حربية ..اذ ربما شظايا الانفجار تودي بحياتهم
،ولكنهم لا يبالون ولا يخشون .
112
ما أشجعهم ،لم أكن أخال حينما ارتقيت السلالم
أني سارى الناس مثلي لا يبالون بحياتهم ..أنا من
يأسي وهم من ايمانهم .
ما أريته أدهشني فعلاً ،وأعاد لي الثقة بشعبي
العربي ،والايمان با اردة الشعوب التي تصنع مصيرها
..والا اردة عندما تبعث ستبعث الأمة من جديد .
أي صيادين أرى ،وأية نسور تصاد ،وأية دقة
تصويب ،وما أجله من مشهد ،ما أريت مثله من قبل
الا في الألعاب النارية أيام الاعياد والاحتفالات حينما
تنطلق الصعادات الى السماء وتنفلق عن منظر
زخرفي يبعث الفرح في النفس ،أما هذا المنظر فهو
يبعث الفرح والرعب في آن واحد ،فما ألذ الرعب
والفرح ،لأن امت ازجهما هو البطولة ،فما أسماها من
لحظة حاسمة ،حيث يتعانق الانسان مع مصيره فأما
أن يزول وأما أن يكون ..أنها حقاً ا اردة الانسان
الع ارقي الجديد .
113
يوم مادي
جاءنا نبأ رجل يحتضر ،وهو ممن كنزوا من كنوز
الارض القناطير المقنطرة ،فاسرع القساوسة الى قصر
ذلك الرجل ،وحضروا وفاته وصلوا على جثمانه ،ثم
نقلوه الى قاعة الكنيسة واقاموا له قداساً فخماً مشحونًا
بالعطور والزهور والاناشيد الح ازئنية والت ارتيل الدينية
والموسيقى الجنائزية ،حتى نقلوه الى مثواه الأخير
بافخر سيارة موتى مخصصة لذلك ،وقد نالت الكنيسة
من خي ارت الرجل الكثير مما جعل القساوسة
يتخاصمون حولها ،و ارحوا يتهامسون على تقسيمها
بينهم لولا وقوف الشماس والأب شاول لهم بالمرصاد ،
حيث وضعا كل شيء في خزينة الكنيسة .
و مما حَّز في نفسي ما عملوه حين مات رجل آخر
في نفس اليوم ،وهو لا يملك من المال سوى أطماره
البالية ،فتماطلوا فى دفنه ،وترك القساوسة الأب
شارل يقوم بتلك الم ارسيم وحده ،وكانت حجتهم أنهم
متعبون من القداس السابق .
114
لتختلف مظاهر التشييع فالت ارب واحد ،والحساب
واحد ،ولن تنفع الأغاريد والطبول .
ومما أثار موجـدتي مدن القبور عند المسيحيين
والمسلمين ،حيث أمست تتسع وتمتد ،حتى أنها
ستشغل في المستقبل أرضاً أكثر من الارض التي
يسكنها الاحياء ،وما أكثر الموسرين المبالغين الذين
يجعلون من أضرحة موتاهم عما ارت فخمة وقصو ًار
فارهة ..ليقدسوها في المستقبل ويمسون لها عابدين
من حيث لا يشعرون .
كم بدأت أحن الى عادات الهندوس الذين يفضلون
حرق الجسد ورمي رماده في النهر المقدس اذ أنه لن
يشغل مساحة من الارض ،ولن يكون له مكان ثابت
كي ي ازر ويقدس بل رماد الجسم يشغل الماء والسماء
والأرض والأحياء ،ونحس به قريباً منا ،وبعيداً عنا
في آ ٍن واحد .
115
ألا ليتقدس احتفال الهندوس ،فهو يساوي بين
الفقير والغني على حٍد سواء ،والم ارسيم واحدة والمكان
واحد واللامكان واحد أيضاً .
ألا لتحزني يا أرض والتطمي يا سماء والتصرخي يا
شريعة الله ،كم من أناس يعيشون على موت الآخرين
.
يوم حلاجي
هرب إسبوعان من محيط الزمن الأحدب ،وأنا على
المنوال ذاته ،أحمل بقايا ثياب الأشجار المتساقطة
من أكتاف التوت والعنب ،لأرميها في توابيت النفايات
،لأن الخريف جاء مهرولاً ،ويريد أن يفَّر مسرعاً .
وهذا الصباح بدأ ُت بجز حشائش الحديقتين
الأمامية والخلفية بآلة الجز ،حتى تساوت بصورة
مستوية ،وأضحت كبساط سندسي يفترش الأرض .
116
حقاً أنها آلة عادلة فقد ساوت بين الحشائش في
الطول والاكتفاء بكمية الغذاء ،وجعلت الكل في عدالة
النمو والبقاء والحياة .
وحينما أوت الأطيار في قصورها ،وعلا نعيق
الغربان ،طفقت سمفونية الحش ارت تعزف الحانها
النشاز ،وبين الصرصرة والدردرة صارت الأشجار
كأشباح تتكلم بعد الغسق .
ف ّضل ُت أن أتوسد الأرض ،وأبقى طوال الليل ارقداً
هنا مفترشاً هذه الحشائش الندية الغضة الطرية ،التي
تعبق ب ارئحة زكية .
وبعد أن إستلقيت ُخيل لي أن هذه الأشباح تلتف
حولي ثم تحملني وتصلبني على جذع الشجرة ،ثم
أتت الغربان تقطع يد َّي وقدم َّي ,وكأن صوت القص
هو صوت الحش ارت ،وسالت دمائي الى الأرض ،
واحتشد الناس أمامي يتطلعون ال َّي بعيون لامعة ،
صرخ ُت من شدة الألم قائلاً :
117
ــــ لماذا تصلبوني ؟ لماذا ؟ .
جاءني صوت كحفيف الرياح :
ــــ لأنك تتصبر مع الله وتدعي بأن ألملك أكثر من
ألم المسيح فنل ج ازء الحلاج .
انتبه ُت من هذا التخيل ..وكانت عيناي فائضتين
بالدموع وتواردت الى ذهني هذه القصيدة :
وخيم الظلام
أغرق في الآلام
يا أيها الحلاج
أنك أني
أحس بالعذاب
يا أيها المسيح
الدم في الكون يصيح :
الرمل يخنق الجمال
118
والقافلة تتيه والرجال
تدفنهم غب ارء
فت أزر الرياح
الدم قد ساح
وتخرق الخناجر العظام
أوردتي تسيح
فيغرق الزحام
وتعصف الريح
أيا مسيح
يسقط فوق الارض كفاي
كورقتين في الرياح
كنجمتين في الصباح
أح ُّس لذة الاله
119
ه َّب العجاج قائلا :
الموت يا حلاج
تخصف تحتي قدماي
وترسم الدماء
الله يا الله
والفق ارء
قد سمعوا النداء
فاحتلقوا بالذكر والمواء
أيا خ ارف
الموت منكم يخاف .
120
يوم مجرم
أيا يومي ما أنت يا يومي ،أغنوة نظمتها ورنمتها
فسحرتني أم دمية كونتها فاستعبدتني ،أضحكة
ضحكتها أم عبرة أرسلتها ،أسعادة أستعذبتها أم ألم
قاسيته ،قد خلتلك حلماً وردياً فاذا أنت واقع كالح
يطعنني بخنجره الصدىء .
تباً لك يا يومي الممل ،فما عملي في ساعاتك الا
لكي أنسى دقائقك وثوانيك السامة ،فكم أمقتك يا يومي
الكريه ،وكم أتمنى أن تكون شيئاً لا بداية لك ولا
نهاية ،تحس بي أكثر مما أح ُّس بك ،أعصر عمرك
أسرع مما تعصر عمري .
آه ما أكثر ما أريد ،أريد أن أتخلص منك في
القريب العاجل ،لقد مقتك أعمق مما مقتني ،وكل
شيء وصل حده انقلب ضده ،فأنا قد إجتزت حدودك
فلماذا لا تنقلب وتتغير الى يوم آخر ليس فيه سماء ولا
أرض ،وليس فيه شمس ولا قمر ،لا ولا نجوم عالية
بل نجوم قريبة تكونني وتحفني في آن واحد ،أتنفس
121
من نورها ،وأحس بأنها ف َّي وأنا فيها ،نجوم لا نهاية
لها ولا بداية .
أواه منك يا نبع السنين ،يا نبع الني ارن والحمم ،
كنت أظن أن العزلة عن العالم طريق يوصلني الى
باب الهرب من وجهك البشع ،لكن طال الطريق
وتمدد الزمان ولم أصل ،ولم أهتد .
خلت أن العمل سلوى تشغلني في بوتقتها عن
التفكير بظلك الكثيف الثقيل ،فخفق ُت لأنه كان بلوى
ولم أدر .
وأخي اًر عرفتك حق المعرفة ،فأنت مخلوق لا ترى
والناس يدعونك الزمان ،والدهر ،والوقت ،والليل
والنهار ،لذا أنت جبار موهوب ،ولو تجسدت لكنت
طوع البنان ،بل لفعل ُت بك مثلما قال المتنبي :
ولو برز الزمان ال َّي شخصا
لخضب شعر مفرقه حسامي
122
لذا سوف أغيرك با اردتي ،أنا الانسان ساتمرد
عليك مثلما تمرد سيزيف على صخرته ،سأبدلك
بنفسي ولن أخضع لك أكثر مثلما خضع لك الزهاد
والمتصوفة ،لقد تعلمت من شعب الع ارق الدرس يجب
أن أكـون ،يجب أن أثبت كينونتي ،يجب أن أقطع
أيادي الاخطبوط الذي شردني وخنق أهلي وشعبي
الفلسطيني ..فأن أياديه تمتد على وطني العربي ..
فويل له من الفأس العربية .
وبعد ذلك ليس مهماً أن أنتظر يومي أم ينتظرني ،
أن أحبه أم أبغضه ،المهم سيكون اليوم الذي يحلو
بعيني .
حنانيك يارب خذ بيدي الى باب الخلاص من يومي
المجرم .
123
يوم مرتجف
دنا مني الأب شاول عند الظهيرة ،و ارح يهمس
في ذهني :
ـــــ يا أبتي أن الشمس أشرقت عل َّي من جديد فهل
أدخل في التجربة ؟ .
ولم أفقه كلامه بادىء الأمر ،فقلت له :
ـــــ أفصح عما ترمي اليه ،فأنا لم أفهم مقصدك ؟!
فاجاب بح اررة :
ـــــ ألم تقل لي بأن الشمس سوف تشرق في قلبي من
جديد ! وتذيب نهر العواطف المنجمد ؟ ! .
ــــ أوه لقد نسيت ،بالله أخبرني ما الذي جرى ؟
ـــــ أن التجربة قد فتحت أبوابها في وجهي ،وأنا الآن
بين أن أجتاز عتبتها وأدلف في جوفها أو أت ارجع الى
الو ارء مخافة الخطيئة التي أتوسل الى الرب في كل
مرة أن يبعدني عنها ،فماذا أفعل ؟ .
124
قل ُت وأنا أبتسم له بإخلاص :
ــــ أن التجارب محك الانسان ،وأنا أخالف سيدنا
المسيح في دعائي (ربنا أدخلنا في التجربة) حتى
وصل ُت الى مكانة مرموقة ،وقبل المصيبة الكبرى
التي حلت بعائلتي تركت ذلك ومضيت أردد ما قاله
يسوع (ربنا لا تدخلنا فى التجربة).
وذا به يضعني في تجربة بشعة مخيفة هزت
كياني وحطمتني تحطيماً كصخرة هشة انقضت عليها
صاعقة ففتتّها ،فما عليك الا أن تقول فى صلاتك
(ربنا أدخلنا في التجربة الأحلى والأجمل والأكثر لذة)
وسترى النتائج الجميلة بعون الله .
ــــ لكن هذه التجربة ستجعلني أقع في حب فتاة
تجيئني أيام الغف ارن وتعترف لي عن خطاياها ..وبما
أني لم أجد لها خطيئة ،وأن ما تخاله خطيئة هو كبت
وحرمان عاطفي ..أعاني أنا منه مثلما هي تعاني .
125
ــــ ذاك ما كنت اتوقعه فكلاكما محروم من الآخر ،
ألا نعم التجربة .
ـــــ ولكني كما تعلم قد وضعت نفسي في خدمة الرب
والكنيسة من أجل إصلاح المجتمع .
ــــ أن كل شخص من لمجتمع يحاول أن يصلح غيره
وكم بالأحرى أن يصلح نفسه ويكتمل أمام الله ،وأرجو
المعذرة فأن نبي المسلمين يقول (الزواج نصف الدين)
معنى ذلك أصلاح المجتمع لا يتم بيد انسان ناقص
الدين ..أما الكنيسة فما أجبرت أحدًا في يوم من
الايام على التقوقع في هيكلها ومح اربها لتكون له قب اًر
بل بنيت للعبادة ونشر الخير على المجتمع .
صمت الأب شاول كأنـه غرق فى تفكير عميق ،
تركني دون أن ينبس بكلمة ،ورح ُت أنقل طرفي بين
الأزهار ،فأ ارها ازهية نضرة مبتسمة الحياة ..عندها
شعرُت أن الكآبة بدأت تنقشع غيومها عن سماء روحي
واذا بسلطان القلوب يهدر في نفسىي قائلاً:
126
ــــ إيه أيها الحب المقدس ،يا من ملكت الكيان في
أقل سويعات العشق ،يا من جعلت الطيور تصدح
بنشيدك الساحري ،يا من إنتشت الطبيعة بظلالك
الملونة ،وأصبحت الورود محمرة الخدود ،خجلة منك
أيها الحب .
الاف ارح والاهازيج ،والموسيقى والاغاريد ،والقصائد
والاناشيد جميعها غلاف شفاف ينُّم عما بجوفك من
سعادة متنوعة ،فالاضواء تنير ما بداخل القصور
والمنازل ،أما أنت فتنير النفوس المظلمة بشعاع من
العاطفة ،فتجذل المحزون ،وتقهقر المتكبر ،وتمسك
بالوديعين فتطرحهم صرعى .
أيها الحب لولاك ،لولا وجودك لما خلق الله الاناث
والذكور ،لما ظلوا عبيدك المطيعين ،فكما إستعبدت
الأحياء البهيمة إستعبدت الانسان العاقل ،فما أحلى
عبوديتك فبها السلام والوئام .
أن قطرة الندى مهما كانت بعيدة عن البحر فهي
حتما اليه سوف تعود إن عاجلاً أو آجلاً .
127
فمهما تبتعدي يا عواطف القلوب فأنك في بحر
الحب ستصبي .
يوم جماهيري
في الصباح سمعت ضجيجًا مدوياً ،عواصف
من الهتافات مبعثها ساحة الطي ارن وحديقة الأمة ،
فت اركض القساوسة يتطلعون من الابواب والنوافذ ،
لكني لم أفقه شيئاً مما يدور خارجاً ،فارتقي ُت السلالم
المؤدية الى قبة أج ارس الكنيسة ،ومن الشرفة اطلل ُت
على ساحة الطي ارن ..فاذا البشر قد تقاطروا كالسيل
العرمرم ،فلا أرى سوى رؤوس كأنها أمواج بحر ثائر،
تحمل نعوشاً أربعة كأنها زوارق تشق عباب الموج
البشري .
تهادى الى سمعي صوت أحد القساوسة وهو
يخاطب قساً آخر قائلاً :
ـــــ أنهم يشيعون الشهداء .
128
كأني مسس ُت بتيار كهربي رّجني في الحال ،
دهش ُت لجلال هذا التشييع وروعة هذا الموكب ،
وأصابتني قشعريرة فالأصوات تضج علو السماء وترعد
المدينة بكاملها ..حقاً أن الشهداء يذكون روح الشعب
،بل أنا أشعر أن الشهيد هو الذي يقود هذه الجموع
في هذه اللحظة ،فما أريت ـــ منذ أن أحتل الصهاينة
أرضنا ــــ جموعاً مثل هذه الجموع ،تحمل روح الإ اردة
الفولاذية والعزيمة الحديدية ،إختنق قلبي وهبطت من
عيني شلالات الـدمـوع ،ملتهبة حارقة ،فما ازل
للبطولة رجال وللخلود شعب ،وما ازل العرب موجودين
يقدمون دماءهم قرباناً للوطن الحبيب .
أنت عملاق أيها الشعب الع ارقي ،فلم أكن أتصور
أن لي أملاً باسترجاع وطني المغتصب ،والانتقام من
الكلاب التي قتلت أهلي واستحلت أرضي وسمائي
ومياهي حتى أبصرت جموعك الهادرة ،جماهيرك
المحتشدة ،فآمنت بقوتك وا اردتك يا عملاق شعبي
والثأر قريب لا محال .
129
لقد كنت قبل الآن بلا عقل ولا هدف ،ولا أجد
مبر اًر للبحث عن ذاتي في ذاتي ،اذ أنا تائه والأرض
تضيق بي ،ونفسي يضعف ،آمالي تقتل آمالي ،
وبحثي في مستقبلي جامد كجمود الصمت ،الدنيا
تتحرك من حولي وأنا واقف أتفرج على مسرحها بألم ،
اذ ليس لي دور فيها ولا مكان ..ضائع ضياع التفاهة
،أترقب أملًا بعيداً لا يقترب ،وليس لي صبر على
ذلك ،اذ لا يوجد منفذ أنّفس به عما يجيش ويصطرع
في داخلي ..الابواب فى وجهي مغلقة ،واذا استدرت
فالحيطان تأكلني ،والزمان يعذبني ويسخر مني لا
أدري أين أمضي ولا أدري ممن أهرب ولا أدري لماذا
أتعذب بقية عمري .
لكن اليوم أشرق الأمل في نفسي ،وصرت أعرف
أن لا فرق بين من يضحي من أجل عائلته أو من
أجل وطنه ،ربما من اجل الوطن التضحية أعظم
والشهادة أروع لذا قررت أن أواجه عدو شعبي ..فأما
أن أكون وأما أن لا أكون ،فالع ارق بعث العزيمة في
130
نفسي من جديد ،وعرفت أن النصر يأتي من همم
الرجال ،وإيمانهم بقضيتهم .
يوم جذل
تمني ُت أن أرى الأب شاول هذا اليوم فقد أضحيت
متفرغاً من عملي ،لكن مع الأسف والاسف لا ينفع ،
فقد كان هذا اليوم بالنسبة له أرهق الأيام ،فهو يوم
للبشر أكثر مما هو للرب ،اذ ينشر فيه شذى انسانيته
،ويبث فيه أمواج ابتساماته لتتكسر على شواطىء
الوجوه ،ويعصر رحيق فكره ليروي صحارى العقول ،
ويفتت جبال الجهل .
في الصباح عليه أن يبارك الوافدين والمغادرين بعد
أن يعظهم لانه اللولب الذي تعتمد عليه الكنيسة أيام
الاحاد خاصة .
أزمعت أن أنطلق الى البرية فالشوق الى رحابها قد
بَّرحني ،والحنين الى هوائها الطلق قد شَّفني ،وحب
طبيعتها العذ ارء قد ملك كياني ،وفضلت أن أتوجهه
131
شطر وادي دجلة حيث تحف روح الله فوق مياهه ،
كانت سماء بغداد قد استضافت قطعان السحب ..
وبمقدمها قدمت النوارس لاعبة في سماء دجلة ،
وكأنها ثلوج تطفو فوق مياه جارية ،او كأنها أرس سهم
يمرق في الفضاء ،القائد فى الأمام والبقية تـنتظم خلفه
،هندسة ارئعة .
ما أن وصلت الى أردان المياه المعسولة حتى
خطف فوق أرسي نورس صغير ،وزعق بشـدة أجفلتـني
بعض الشيء وأضحكتـني بعد ذلك ،ثم توجه الى
منتصف مياه الضفتين ونزل على صفحة المياه
الملساء والتقط سمكة وعاد بها بين منقاريه الجميلين،
وحط عند الشاطىء بالقرب من موقعي ،و ارح يرمقني
بارتباك ،وفجأة تجمهرت النوارس عليه ليسرقوا غنيمته
،وكانت أصواتها زعيقاً حلواً مّزق الهدوء الرطب ..
فأية موسيقى وأي غناء وأي منظر .
وما أن توسدت الأرض وأسندت ظهري لشجرة تقبع
قرب الجرف حتى عاد ذلك النورس من جديد مارقاً من
132
فوق أرسي رواحاً ومجيئاً كأنه يشعر بشيء يشده ال َّي ،
مما جعلني أخال أن روح احدى بناتي قد عادت
بتجسيد ثا ٍن وتقمصت جسم هذا الطائر المائي كي
تلطف المياه ما كابدته من حريق الني ارن ،ولكن العودة
والتقمص مجرد شعور فكري جميل إن صح ،وأكثر
الطيور تعاني من ضعفها أمام الطبيعة المتوحشة .
كنت أحمل رغيفاً من الخبز لاقتاته متى ما طلب
جسمي الديمومة ،ولكني قطعت الرغيف فتاتات
وطفقت انثرهاعلى وجه الماء ،فهجمت الاسماك تلتهم
ما أرميه ،وأسرعت النوارس بدورها تصطاد السمك
المخدوع ،وكان مشهداً حزنت له وفرحت في وقت
واحد ،فيا لتعاسة الص ارع من أجل البقاء .
بعد أن إستجمم ُت عد ُت الى حضيرتي مسا ًء ،
والنوارس غادرت الشاطىء بدورها متجهة صوب
الب ارري مبتعدة عن المدينة وعند دخولي الكنيسة التقيت
الأب شاول فحياني وحييته ،وبعد محاورة اعتيادية
أخبرني أنه القى موعظة بعنوان :
133
( ربنا أما تبالي ) فذكرني الموضوع بذكريات دفينة
حين كنت معلماً في مدرسة بيسان أدرس الوعظ الديني
فطلبت من الطلبة ان يكتبوا تحت نفس العنوان أمانيهم
وأمالهم وما يكابدونه من مشاق الحياة ويختموا
الموضوع ( بربنا أما تبالي ) .
وعند إنتهاء الطلبة من الكتابة ،بدأت أدقق أو ارقهم
ورقة ورقة ،فلفتت إنتباهي إحدى الأو ارق وعجب ُت من
كاتبها فقد غير الكلمة تبالي ،والتي معناها تهتم ،
واسترسل يكتبها « ،تبلى » وقال في النهاية ( ربنا أما
تبلى فقد بليت ) وكانت عبا ارته تقطر الماً وتـنزف
تعاسة ،وجحوده على الحياة وتبرمه من المعيشة لا
يوصفان ..وكلمة يبلى قاصدها بالمعنى القاموسي :
رَّث وته أر من القدم ..وكان الوحيد الذي لم تـنفعه
كلماتي ونصائحي ،لأن جرحه أعمق من أن تداويه
أدوية الكلام .
لكني كتبت على ورقته هذه العبارة التي أذكرها :
134
ــــ أنك حينما تموت ستـنظر روحك من عليائها الى
هذه الاحياء التي تحيا فوق الكرة الأرضية ،فترثي في
ذاتك حياتهم القاسية ،وتتمنى أن يجدوا طريقاً يجعل
معيشتهم كمعيشة الإله ،وتتحسر لو أنك تعود اليهم
لتفهمهم معنى الوجود ،وتدَّلهم على خير السبل لجعل
حياتهم سعادة وهناء .
يوم عاشق
نشرت الشمس شعرها الذهبي على الأفق الممتد
فوق رؤوس الاشجار ،كانت روحي تتأرجح بين الظلام
والنور ،آه بدأت شيخوختي تحن الى السكون والظلام
وتتكاسل عن حيوية الشمس ،لقد آن الأوان لأرمي
آخر طاقتي من أجل عمل عظيم ينفع شعبي ..وأظن
العودة الى أرض الآلام أرض الجلجلة هي خير مكان
لأنهاء وجودي ،سافكر بوسيلة للذهاب الى هناك من
جديد .
برحت غرفتي وعقلي يرغم جسمي ارغاماً ،لأن ما
أعمله تافه وقبض الريح ..اذ لم يكن عملي اليوم سوى
135
فتح الحنفية ليتدفق الماء هارباً من الانبوب ويروي
الأرض ويتغلغل في الطبيعة التي هو روحها وهي
جسده .
بينما أنا أقوم بالسقي ،لفتت أنظاري ظلال
تتحرك و ارء الأشجار ،وإسترعت إنتباهي همسات
إنثوية رقيقة تميزت عن صوت آخر لصفائها ،وكان
الصوتين خلف شجرة الرمان التي تألقت خضرتها
وتدلى ثمرها .
وقدرت أن موقفهما فى هذا المكان لا بَّد أن يكون
من أجل غاية ،فاغ ارني شيطان الفضول ،وإقتربت
من الشجرة من حيث لا يبص ارني ،وطرق سمعي
صوت الأب شاول وهو يقول :
ــــ قلت لك أن حبنا ليس خطيئة ،وأنها سنة الرب
والبشر من أقاصي الأرض الى أدانيها يعشقون
ويحبون ثم يتزوجون وينجبون ،وأن حبنا قد جبله
الرب وساقته الأقدار الى قلوبنا ،وليس هو من صنعنا
بل هو من صنع موجه أرواحنا ووقلوبنا .
136
أجابه صوت إنثوي دافىء النغمة قائلًا :
ــــ لكن شعو اًر يخالجني بأني أدخل تجربة من
تجارب الشيطان ،تجربة أخالها أم ًار فظيعاً وأحس من
ج ارئها بأني عارية بين الناس .
فرد عليها الأب شاول :
ـــــ أنك تهولين الأمر في مخيلتك ،لأن الحب يمُّر
عليك لاول مرة فى حياتك لذا تخالينه تجربة صعبة
مخيفة .
ـــــ ولكن ماذا سيقول القساوسة أو الناس علينا ؟ حتى
الكنيسة ستغضب علينا ! .
ــــ إن كانت الكنيسة ترضى على المجتمع أوتغضب
منه فالأحرى بها أن تغلق أبوابها لأنها لم تقم من أجل
ذلك بل أنها دار عبادة المجتمع لتعظيم الرب ،وأن
زواجنا هو مجا ارة للعرف السائد ولسنة الحياة ،فمالنا
والقساوسة والناس ،نحن نرضي الرب بعملنا وليذهب
الى الجحيم كل من يعارض مشيئة الرب .
137
لحظتـئذ اقتحمت موقعهما وبرزت أمامهما ،فجفلت
الفتاة لظهوري المفاجىء ،لكني بددت تأثير المفاجأة
وقل ُت بسرعة لهما :
ــــ أنا أول الموافقين وأول المباركين وأرجو المعذرة
لتطفلي .
إبتسم الأب شاول ،و ارن صمت غريب ،بدده
الأب شاول مقدماً الفتاة لي ،ومقدمني للفتاة ،وعرفت
اسمها (كلودا) وهي فتاة هادئة خجول ..طويلة القوام
،ذات وجه أبيض مشرق دقيق التقاسيم عدا عينيها
الزرقاوتين الكبيرتين ،فتكاد الحلاوة والنور أن يسح ار
الناظر اليها ..وكنت قد أريتها سابقاً بكياستها
ورصانتها حينما كانت تمر مع عائلتها مجتازة الحديقة
فتسبقهم بالتحية علي ،وما أن سمعت ما قل ُت حتى
أطرقت الى الارض بحياء وأسبلت أجفانها الطويلة .
وأضف ُت الى قولي لهما :
138
ــــ يا أبنائي أن الحياة قد فتحت ذ ارعيها لكما
لتحتضنكما أيها المتقوقعين تحت جسديكما ،ولتريكما
معالمها ،فاسرعا اليها قبل أن يعتريكما الندم مدى
العمر ،ولات ساعة مندم .
إستأذنت الفتاة وغادرت المكان متذرعة بذهابها الى
مكتبة الكنيسة ،ونظرُت للأب شاول وشاهدت شروده
وق أرت أفكاره فقل ُت له :
ــــ أيها الأب الشجاع لم لا تسرع في الزواج بعد أن
علمت بحبها لك في أشده وحبك لها في اقواه .
ـــــ هذا ما نرمي اليه قبل قليل ،ولكننا لا نعرف
كيف نبدأ فهي خائفة .
ـــــ لم لا تذهب الى صديقك المط ارن وتخبره الأمر
الواقع بص ارحة ،فهو انسان طيب متحرر الفكر ،
فسيبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما تصبو اليه .
ـــــ سأجازف يا سيدي ال ارهب فهو الحل الوحيد .
139
تركني و أريته يتوجه صوب مكتب المط ارن ويدلف
فيه ،وتمضي مدة ويخرج ليعود بالفتاة كلودا الى
المكتب ،و ارحت الانفعالات تصطرع في داخلي ،وأنا
أدعو مخلصًا أن يساعدهما الله ويمهد لهما طريق
الزواج والسعادة .
وحين خرجا كانت تنطلق من وجهيهما ف ارشات
البشارة واش ارقة الفرح .
وبعد أن وَّدع الأب شاول الفتاة كلودا التي
غادرت الكنيسة ..جاءني وهو يحمد الله ،ثم طبع
قبلة على جبيني وهو يقول :
ــــ أنك قديس ،أنت النور الذي هداني الى نور الله ،
ولن أنسى لك ذلك .
ثم ذهب وأنا أستغفر الجليل والدموع تترقرق في
عيني من كثرة الفرح بسعادتهما المرتقبة .
140
يوم ذهبي
ما أسرع إنسكاب الأف ارح في النفس البشرية حتى
ليكاد المرء أن يحلق بأجنحة طير للوصول الى غايته
،فعندما إستيقظت عذ ارء السماء ،برح الأب شاول
الكنيسة متوجهاً صوب عائلة خطيبته (كلودا) للحصول
على الوثائق الرسمية لعقد القرآن ،ذهب عاجلاً وجاء
بعد ساعة ،وقدم الأو ارق لمقر الأبرشية ،وطلب مني
أن أشهد عرسهما الذهبي عصر هذا اليوم .
ولج ُت القاعة وقد سبقني الجميع باشعال شموع
الفرح ،وإنتظرنا حتى حضر الكاهن ومعه مط ارن
الأبرشية ،وتقدم الأب شاول مع الفتاة وبجانبهما والد
الفتاة وأمها ووقف الجميع أمام الكاهن الذي وضع
رباطاً على يديهما المتصافحتين وباركهما بالصليب ،
وبعد أن أعلن وكيلا الخطيبين رضاهما التام بحضورنا
،تلا الكاهن صلاة البركة على الخاتمين ،ووطلب
من العريس والعروس أن ُيلبس كل منهما الآخر خاتم
الزواج ،وباركهما بالدعاء .
141
خرج العروسان ونهالت عليهما حبات الرز والورود
من قبل الحاضرين ،وركبا السيارة الى الشقة التي
أعدها الأب شاول ،وهكذا عدت الى صديقتي الحديقة
وأنا أحس بسعادة تغمرني لأني ساعد ُت في إتحاد
روحين لطيفين إكتملا أمام الله .
حقاً أن الهوى خميرة كروم معتقة يثمل بها
المحبون كلما ملأوا قلوبهم بها ،فتـنفتح لهم أبواب
الخلود عن جنائن الفيروز ولحظة القوس قزح ،
فيهيمون في سحب اللذة .
الحب كالنبات ينمو ويترعرع تحت أشعة الشمس
ولا يعيش في الظلام ،وإن عاش في الظلام فقد لونه
ومات تدريجيًا ،وشمس المجتمع المتحجر تحرق هذا
الحب بلهيب تخاله مبيداً له ،وهو مغذ جيد للحب ،
مثلما النار الممتدة على القصب تزيد من إنتشار
القصب من جديد .
يا شمس المجتمع أشرقي وافضحي غ ارم المحبين ،
فأن شعاعك الذهبي خيوط تلف قلوب المحبين
142
كالشرنقة ،وعند الاكتمال تتمزق وتتقطع هذه الخيوط
وتنطلق ف ارشة الرباط المقدس ازهية بألوانها ،ساحرة
برفيفها ،وأن ف ارشة الزواج لا تطير إلا بجناحين
كبيرين هما المحب والمحبوب ..ولتتقدس شمس
المجتمع إذن .
يوم الق ارر
أمست سيدتي الحديقة مكتفية لا تحتاج بعد الآن
الى أية مساعدة ،فبعض أشجارها قد تعرت من ثيابها
و ارحت تستحم عند كل زخة مطر ،وبعضها الاخر
يغتسل ليجلو ثيابه ،وقد قَّلم ُت وشَّذب ُت ما طال ،فلا
عمل لي بعد الآن ،لأن السماء بدأت تخدم الارض ،
يا لهول الملل الذي دب في نفسي ،و ارح الضجر
يعصف في كياني ،ففكرت أن أودع الكنيسة فلم يعد
لي عمل بها ،فما وجودي طيلة هذه المدة بين
أحضانها الا لم ارجعة النفس وانتظار المقدور .وبما أن
الوطن العربي صار مهدداً كله فلا وقت للتفكير
143
بخصوصيتي بعد اليوم وقضيتي صارت قضية كل
العرب لذا قررت أن أعود الى أرضي .
وقررت أيضاً أن أكتب قصتي في أواخر المذك ارت
في نفس الوقت الذي غادرنا به الأب شاول ،لأنني
أزمعت أن أسلم هذ المذك ارت ــــ قبل أن أغادر الكنيسة
ــــ الى الأب شاول حين يعـــــــود الى الكنيسة بعد ان
ينتهي من عقد الاكليل فهو أحق بها ،وفيها سيعرف
حكاية حياتي التي طالما اشتاق لسماعها ،وبذلك
سيعرف مشاعري نحوه ،ويتذكرني كلما يق أر هذه
المذك ارت ،وربما لن تسيل من عينيه دمعة عل َّي ،وأنا
لا أريد ذلك منه ،ولكني على يقين أن خفقة من
خفقات قلبه ستنهصر شوقاً وحنيناً حينما يتذكرني .
ما وداعي للكنيسة الا وداعي للحياة التي مللتها
أخي اًر الى الحد الذي ساحمل روحي على كفي وأرميها
بوجوه قتلة أهلي وشعبي كما الاطفال حينما يرمونهم
بالحجارة .
144
وليعلموا أن سلبهم لأرضي ستكون مقبرتهم فيها ،وإن
أنا أخفق ُت فالأجيال القادمة ستنجح في إستردادها بعون
الله .
145
ُق ـصـ ـةُح ـي ـاتـ ـي ُ
ليكن لك قلب حتى تق أر هذا القلب
146
مرحلة الطفولة
تمخض رحم الطبيعة ،وتهادت دقات نواقيس
الكنيسة ،واختلطت مع آذان المؤذنين عند أول خيط
من شعاع الفجر إعلاناً عن إنتصار الحياة على
الموت وبقاء ديمومتها الأبدية .
كانت ولادتي ـــ كما أخبرني جدي ــــ في اليوم
الذي ظهر فيه مذنب إقترب من الأرض وأفزع العالم
وكل المخلوقات عام ،1910وجاءت ولادتي من أبوين
فلسطينيين عربيين في مدينة بيسان الواقعة على
الغور.
عرفت أن ألم المخاض ما هو الا تنفيذ حك ٍم على
ما جنته الم أرة من لذة .
هاجر والدي الى أمريكا بعد أن أغروه اليهود بذلك
،وأودع والدتي لدى أهلها في قرية (الاشرفية) وهي
حامل بي ،وانقطعت أخباره عنا ،مما أدى الى مرض
147
والدتي واصابتها بالذبحة الصدرية ،وودعت الحياة ،
وأنا في الخامسة من عمري .
عرفت توها أن الموت هو تحرر الروح من الجسد .
كان ذلك في شتاء بارد كثير الثلج والضباب ،حتى
أني مازلت أذكر ذلك الضباب المعتم ووجه والدتي
يخرج من خلاله كلما أشاهد مثله في الواقع وفي
الاحلام ،أتألم لأن الدهر طعنني منذ صباي ،منذ أن
وعت عيناي الدنيا ،وشعرت أني صرت عارياً لا أجد
الدفء والحنان منذ أن فقد ُت والدتي ،وكنت أفكر أنها
هربت مني وتركتـني وحيداً في هذه الدنيا .
أحسست أن السماء إختفت زرقتها وخيم الظلام في
كل مكان ،ولا أرى سوى الليل والكآبة والدموع ،
والضياع ،فأية طفولة طفولتي .
علم ُت أن لي جدا قالوا عنه أنه رجل دين يعيش في
مدينة بيسان حيث تقع على بضعة أميال بالشمال
الشرقي لقريتي ..وسوف أكون بعهدته عن قريب كما
148
أخبرني خالي ..رفض ُت ذلك ولكن زوجة خالي
أصرت ولم أكن أودها ..فوافق ُت على الذهاب .
تعلم ُت أن ق اربة الأب أقوى خيمة من ق اربة الأم
وهي البديل الحقيقي للحنين الى الرحم العائلي ..كانت
الطرق انذاك غير صالحة للتـنقل ،فبقيت في بيت
خالي يواسيني ولكن كيف يكون للمواساة فائدة وأنا كلي
احساس بالضياع .
مرت أيام الإنتظار كدهر ثقيل على صدري حتى
ذاب الثلج وأصبحت الطرق صالحة للتـنقل ،فحملني
خالي على حمار مع بعض أمتعتي و ارح يقود الحمار
في طرق وعرة متسعة حيناً وضيقة أحياناً ،وتعلو
وتهبط بين أرض خض ارء حيناً وحم ارء أكثر الاحيان.
خرجنا عند الفجر ووصلنا مدينة بيسان ظه اًر ،بعد
أن أنجزنا عملية تعذيب ذلك الحيوان الذي لا يمت
لمشاكلنا بأدنى صلة ولكننا استضعفناه فعذبناه .
149
وما أن سألنا أول شخص صادفناه حتى قادنا الى
بيت جدي ،أريناه رجلاً وقو اًر مهابًا جميل الطلعة
نو ارنيها ،وما أن أبصرنا ندلف بيته حتى قام لنا هاشًا
باشاً ،و ارح يوسعني ضماً ولثماً بعد أن لمح في
تقاسيمي صورة أبي ،وحملني بين يديه كأني سعفة
صغيرة يلوح بها في الفضاء قال :
ــــ أنا أنتظر قدومك منذ أن سمعت بوفاة والدتك ،
الله يرحمها ،لكني ألع ُن اليوم الذي أنجب ُت فيه إبنًا
عاقاً كأبيك .
بعد يومين أنست به ،وتركني خالي ــ ـوالدموع
تقطر من عينيه ـــ في عهدة جدي ورحل بكيت خلفه
دون شعور .
كن ُت كمطر نزل على أرض قاحلة فاحياها ،اذ
بعد أيام قلائل عم الخير بيت جدي الشيخ ( الحاج
كما ينادونه اك ارمٍا لمنزلته الدينية) فقد انهالت عليه
العطايا والهدايا أكثر من أية سنة مرت ،وعرفت أن
هذه السنة كانت تعبر عن قوة الانسان في إستخ ارج
150