The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.
Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by manhal62000, 2018-08-03 04:30:44

مذكرات راهب 3

مذكرات راهب 3

‫ورفع أحدهم يده قائلا ‪:‬‬

‫ـــــ أنا أطلب يدها لابني ( آ ار ) وها هو معي ‪ ..‬يعمل‬
‫بيديه ويكسب رزقه بعرق جبينه ويستطيع اعالتها معنا‬

‫‪ ،‬ولعل الله يرزقه أكثر على حظها ‪.‬‬

‫ينهض شاب في مقتبل العمر قائلاً ‪:‬‬
‫ـــــ أنا أطيع أوامر أبي وأوافق على طلبه ‪.‬‬

‫فدعا الشماس (آ ار) و(جانيت) وأوقفهما أمامه‬
‫ووضع رباطاً على يديهما المتصافحتين وق أر عليهما‬
‫ترتيلة الرباط المقدس ‪ ،‬وباركهما على أن يتم زواجهما‬

‫يوم الاحد القادم بحضور جميع الناس ‪.‬‬

‫بعد ذلك خرج الجميع وآ ار متأبطاً يد جانيت ‪ ..‬كم‬
‫كانت فرحتي هذا الصباح وأنا أشم ارئحة قلب العنب‬
‫وهو يتبرعم ليظلل الع ارئش ‪ ،‬ولكني خرج ُت من قاعة‬
‫الكنيسة وكلي ك ارهية لروح العنب وما تسببه من تحطيم‬

‫للش ارئع ‪.‬‬

‫‪101‬‬

‫يوم مفزع‬

‫أيقظتني ــــ عند انبلاج الصبح ــــ طرقات مسرعة‬
‫على زجاج نافذتي ‪ ،‬ففتحت عيني لأرى من الطارق ‪،‬‬
‫فاذا بالأب شاول يطرق وقد إش أرب ب أرسه من شباكي‬
‫المفتوح ناظ اًر الى وجهي بامعان شديد‪ ،‬نهضت فزعًا‬
‫وفتحت له الباب بعد أن حياني وطمأنني بأن الامر‬

‫ليس له أهمية ‪ ،‬وقال بعد أن دلف الى الغرفة ‪:‬‬

‫ــــ لنجلس يا سيدي ال ارهب لكي أروى لك حلماً حلمته‬
‫قبل قليل وهو يخصك ‪.‬‬

‫جلسنا على حافة السرير‪ ،‬واستطرد يقول ‪:‬‬

‫ــــ قبل أن يداعب سلطان الاحلام أجفاني صليت ثم‬
‫طلبت من الرب أن أرى في شريط أحلامي الحوادث‬
‫التي مرت عليك وزعزعت حياتك ‪ ،‬وما أن صرعني‬
‫الوسن حتى بدأت ت ارودني الاحلام ‪ ،‬فشاهدت فيما ي اره‬
‫النائم أن فيضاناً كبي اًر قد عم البلاد ‪ ،‬وأبصرتك كأنك‬
‫النبي نوح تصنع سفينة فارهة لكي تقلك أنت وأطفالك‬

‫‪102‬‬

‫وزوجتك لتنجو من هول الفيضان وقد أتممت صنع‬
‫الفلك ‪ ،‬وحملت فيه عيالك ‪ ،‬وطلبت منك أن تحملني‬
‫معك ولكنك أبيت بحجة أن الرب لا يرضى ‪ ،‬فركبت‬
‫على حين غفلة منك ‪ ،‬وارتفعت المياه ‪ ،‬وحملت‬

‫الامواج سيفنتك ‪ ،‬وكنت تخاطب الله قائلًا ‪:‬‬

‫( رب أني سأنقذ خلقك من الفيضان ‪ ،‬فمجدني‬
‫وأنصرني )‬

‫وحين بلعت الارض عصير السماء وظهرت اليابسة‬
‫من جديد وحطت السفينة ونزلت أنت وبناتك وزوجتك ‪،‬‬

‫ومضيت تصلي وتبتهل الى الله وتقول ‪:‬‬

‫( ها أنا أيها الرب المقدس قد أبقيت ذرية أبينا آدم ‪،‬‬
‫فباركني ‪ ..‬فباركني )‪.‬‬

‫وما أن انتهيت من كلامك حتى أصاب أف ارد عائلتك‬
‫مرض قاتل ‪ ،‬و ارحوا يولولون ويئنون حتى لفظوا‬
‫أرواحهم واحداً بعد الآخر ‪ ،‬ولم يبق الا أنا وأنت ‪،‬‬
‫لكنك لم تبصرني لأنني بقيت منزوياً عن أنظارك ‪ ،‬لا‬

‫‪103‬‬

‫أدري هل رهبة منك أم احت ارماً لرفضك أياي في بادىء‬
‫الأمر‪ ،‬فما أن عرفت أنت بمـوت كل أهلك حتى طفقت‬
‫تـنتف شعـر أرسك ثم تذره للرياح وتخاطب السماء‬

‫بغيظ قائلاً ‪:‬‬

‫( رباه ماذا جنيت لكي تسلب مني أعز ما لروحي ؟ )‬

‫فاذا بصوت سماوي يجيبك قائلاً ‪:‬‬

‫ــــ أتظن أيها الانسان الصغير أن عملك هذا عظيم‬
‫ويجب أن يباركك عليه الرب ‪ ،‬ألم تعلم أن لله قدرة‬
‫على أي شيء غير موجود أن يقول له كن فيكون‬
‫موجوداً ‪ ،‬أوتخال أنك ذو فضل على ابقاء نسل آدم ‪،‬‬
‫ألم تعلم أن الفيضان لم يقض على الاحياء كافة لان‬
‫أحياء في جوف الماء ولا حياة لها الا فيه ‪ ،‬وان الله‬
‫قادر على ان يطورها الى مخلوقات برية ‪ ،‬فما‬
‫الحاجة لأهلك ‪ ،‬أما أنت فاستعد لملاقاة نهايتك فقد‬

‫دنت ‪.‬‬

‫وأجبت أنت مخاطباً السماء ببكاء جزع قائلاً ‪:‬‬

‫‪104‬‬

‫(واتعباه أيتها الا اردة العجيبة ألا الحقيني باهلي سريعاً‬
‫فلم يبق من روحي الا النفس الاخير) ‪.‬‬

‫فرد عليك الصوت مرة أخرى ‪:‬‬

‫ـــ ليس هنا بل سر بعيداً وقدم روحك من أجل‬
‫الآخرين ‪.‬‬

‫ورحت تعدو وتعدو مبتعداً ‪ ،‬وحاولت أن أصرخ‬
‫خلفلك مناديك للعودة ولكن دون جدوى فقد انعقد لساني‬
‫‪ ،‬وبح صوتي ‪ ،‬واستيقظت قبل قليل وجئت اركضاً الى‬

‫غرفتك لكي أطمئن عليك فقد ارودتني ظنون كثيرة ‪.‬‬

‫عجبت مما رواه الأب شاول عن حلمه فقد كان‬
‫يقارب قصتي من حيث المضمون ويشابهها من حيث‬
‫الشكل ‪ ،‬ولكن ما معنى أن نهايتي تتم بعيداً ومن أجل‬

‫الآخرين ؟ ‪.‬‬

‫وبعد أن خيمت علينا السكينة ووجم أحدنا في وجه‬
‫الآخر وقد شردت افكارنا تكلمت فقلت له ‪:‬‬

‫‪105‬‬

‫ــــ أنا أحس أن الهاتف محق فى تعيين نهايتي ‪،‬‬
‫وأخالها قد أوشكت أن تقترب ‪ ،‬فاتركني أيها الصديق‬
‫العزيز أفكر فيما رويت ‪ ،‬وساخبرك بحكايتي التي‬
‫تتلهف لسماعها عن قريب ‪ ،‬فما سرد الذكرى المؤلمة‬

‫بهينة علي الآن ‪.‬‬

‫اظلمت الدنيا في عيني واختفى كل ما هو جميل ‪،‬‬
‫وبان شبح الموت في كل ما أبصر وما أفكر وما أحس‬
‫حتى الشمس أمسى شعاعها أسود قاتماً ‪ ،‬وأن الطبيعة‬
‫الملونة صارت موشحة بالسواد الحالك ‪ ،‬والسماء‬
‫أبصرتها أغوا اًر من العدم ‪ ،‬حقاً أنه يوم صبغته أفكار‬

‫عقلي بلون القار ‪.‬‬

‫تمضي أزمنتي سارية في مهب الريح ‪ ،‬تقتات‬
‫لحمي وتقضم عظامي ‪ ،‬أتمسك في قشة ‪ ،‬أحس أني‬
‫أطير مع طيوري الصغار وكل العيون شاخصة نحوي‬
‫‪ ،‬تبحث عن سري ‪ ،‬تبحث عن أمري ‪ ،‬تبحث عن‬
‫مصيري ‪ ،‬كل قط ارت العمر تنساب فى محيط الزمن ‪،‬‬
‫فلا موج ولا تأريخ ولا إسطـورة ‪ ،‬تحقق ذاتي المقهورة ‪،‬‬

‫‪106‬‬

‫كل الليالي السود تخنق أغنيتي ‪ ،‬وكل صور الماضي‬
‫تتساقط في جمجمتي ‪ ،‬تتوقف نبضات القلم من دهش‬
‫‪ ،‬وأحس الروح تنساب في أقبية العدم ‪ ،‬لا صمتي‬
‫يغني ‪ ،‬ولا صوتي يسعف ‪ ،‬لن ُيعّبر الهم عن معاناتي‬

‫‪ ،‬فأنا بالهم أعرف ‪.‬‬

‫يوم بخيل‬

‫ملأ الدمع عيني وجرى ‪ ،‬لا أدري هل فرحاً لأني‬
‫ذاهب الى بناتي وزوجتي عن قريب ‪ ،‬أم ألماً لأني‬
‫سوف أموت وأنا لا أعرف ما خفايا الموت ‪ ،‬هل أنها‬
‫عملية موت الروح والجسد ‪ ،‬أم هدأة الجسم الابدية‬
‫وانطلاقة الروح الى المجهول ‪ ،‬والأمر سيان فأنا‬
‫سأتحرر عن ا اردتي لأدلف ا اردة العقل الأعظم ‪،‬‬
‫والمهم أن تجربة الموت عملية لابد من دخولها بالنسبة‬
‫للشيوخ أمثالي بصرف النظر عن النتائج لأننا مللنا‬

‫الحياة الى أقصى حد ‪.‬‬

‫كان القساوسة يمرون من أمامي ويسلمون علي‬
‫حيث كنت جالساً تحت شجرة التين‪ ،‬وكنت في تفكير‬

‫‪107‬‬

‫عميق لا يسعني أن أرد عليهم سوى بنظرة وابتسامة‬
‫صغيرة مصطنعة ‪.‬‬

‫رنوت الى أعالي الشجرة حيث بدأت كواكب التين‬
‫منتفخة كنهود العذارى ‪ ،‬لامعة في أشعة الشمس‬

‫كالدرر‪ ،‬وانبرت نفسي تحدث التين قائلة ‪:‬‬

‫ــــ أيها التين ‪ ،‬أيها المقدس لدى الرب أنت والزيتون ‪،‬‬
‫لقد سقيتك من معين الحياة حتى ارتويت وتغذيت‬
‫ونموت ‪ ،‬وكم قتل ُت الطحالب لكي لا تسرق غذاءك ‪..‬‬
‫وها أنا أتمنى أن تهبني بعضاً مما وهبتك‪ ،‬وتسمح لي‬

‫أن أقطف تينة من بينك ؟ ‪.‬‬

‫نقلت بصري مفتشاً ‪ ,‬ولمحت أنضج تينة قد انفلقت‬
‫قليلا وسال الشهد المحلب يقطر من ثغرها ‪ ،‬وكانت‬
‫معترشة غصناً عالياً ‪ ،‬فهمم ُت أن أنهض وأرتقي‬
‫لقطفها ‪ ،‬فاذا ببلبل يحط على ذلك الغصن وينقر تلك‬
‫التينة بمنقاره الدقيق وينهشها نهشاً حتى أتى على‬
‫معظمها ‪ ،‬وقد كان شديد الجوع كما يبدو‪ ،‬وبقي ُت أنظر‬
‫اليه بغبطة بالغة ‪ ،‬وقبل أن يبرح الغصن ‪ ،‬غرد‬

‫‪108‬‬

‫أغرودة النصر ‪ ،‬خلتها مزمو اًر من م ازمير داود مسبحاً‬
‫للرب ‪ ..‬ثم سكت وطار محلقاً فى الفضاء ‪.‬‬

‫ولم أتمن بعدها أية تينة لأنني فهمت ما كل ما‬
‫نتعب فيه نجني ثمره ‪.‬‬

‫جاء بعد قليل جمع من القساوسة وأخذوا يجنون من‬
‫التين كل ما أيديهم تقربه وتصله‪ ،‬وأرد ُت أن أقطف لهم‬
‫بنفسي ‪ ،‬ولكنهم عارضوا ذلك بحجة أني شيخ متعب‬
‫وال ارحة لي أفضل ‪ ..‬وشعرت في قلبي ألماً وغبطة في‬
‫آن واحد ‪ ،‬لأني عرفت أيضاً أن هذه الحياة تأبى أن‬
‫أجني منها ثمار أتعابي ‪ ،‬حتى وأن كان الجني لغيري‬
‫‪ ،‬وهذا ما جعلني أستخف من نظام الحياة ‪ ،‬وأعمل بلا‬

‫عقل ولا قلب كآلة لا غير ‪.‬‬

‫وتذكرُت حينما كنت فى سوق من أسواق انكلت ار‬
‫و أري ُت يهودياً يبيع البرتقال وينادي أنه برتقال‬
‫«اس ارئيل» فكأنه طعنني في قلبي لأنني أشاهد البرتقال‬
‫الذي زرعه أبي العربي في فلسطين يجنيه الصهاينة‬

‫‪109‬‬

‫ويَّدعون أنهم زرعوه ‪ ،‬فيا لأتعابنا المسروقة والتي جنى‬
‫ثمرها أعداؤنا ‪.‬‬

‫وتذكرُت كيف سخر الناس مني حينما رح ُت أثب ُت‬
‫لهم زيف دعاء هذا اليهودي الذي سرق أرضنا ‪.‬‬

‫أه لماذا أفتح باب كهف مشاعري الدفينة ‪ ،‬لماذا لا‬
‫أوهم أحساسي بأن لا وجود لوجود ‪ ،‬ولكن هيهات فان‬

‫حزة السكين ما ازلت تخنقني ‪ ،‬وأ ارفس كطائر ذبيح ‪.‬‬

‫أأهرب من ظلي ‪ ،‬أأهرب من قلبي ‪ ،‬أأشرد من‬
‫مشاعري ‪ ،‬ربما يستطيع الانسان أن يهرب من أرضه‬

‫ومن سمائه ولكنه لن يستطيع أن يهرب من نفسه ‪.‬‬

‫وفجأة شعرت بباب كهف أعماقي يسقط ‪ ،‬فاذا‬
‫بدوامة سوداء تلفني وتصرعني فأتدحرج في أعماقها ‪،‬‬
‫واذا بي وجهاً لوجه مع ما كنت أخافه وأهرب منه ‪ ،‬أنه‬
‫شبح الانتقام الذي يطاردني ‪ ،‬وطالما ابتعدت عنه‬

‫مهرولاً الى حد الأفق ‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫ماذا يريد مني ‪ ..‬أنه يسحبني ويدفعني ‪ . .‬لكي‬
‫أذهب وأرجع ك ارمتي ‪ ..‬ك ارمة كل الفلسطينيين ‪.‬‬

‫يوم بطولي‬

‫صوتت صافرة الانذار‪ ،‬فجمدت الدماء في‬
‫الش اريين ‪ ،‬واختبأت الطيور في أوكارها‪ ،‬ومنها من فزع‬
‫شارداً تتلاطم أجنحته في الفضاء ‪ ،‬و ارن سكون سريع‬
‫‪ ،‬فلا أصوات لحركة سير السيا ارت ولا أصوات زقزقة‬
‫عصافير توجه معظم القساوسة الى قاعة الكنيسة‬
‫للصلاة ‪ ،‬أما أنا فأسرعت مرتقياً السلالم المؤدية الى‬

‫برج النواقيس ‪.‬‬

‫من الشرفة المطلة على المدينة أريت الناس فوق‬
‫سطوح المنازل ي ارقبون السماء ‪ ..‬ولعلع الرصاص بقوة‬
‫‪ ..‬واذا بسهام نارية تخترق جوف السماء ‪ ..‬مما‬
‫أجبرت الطائ ارت على عدم الدنو من أهدافها ‪ ،‬واذا‬
‫بصواريخ فضية يخرج منها ذنب دخان أبيض تلاحق‬
‫الطائ ارت وكل صاروخ يدخل طائرة يفجرها ‪ ،‬و ارح‬
‫الشعب يحسبها واحدة ‪ ،‬اثنتين ‪ ،‬خمس ‪ ..‬عجبت من‬

‫‪111‬‬

‫الشعب الع ارقي البطل ‪ ،‬وعظم في عيني وأعاد لي‬
‫الثقة بنفسي وبشعبي العربي ‪.‬‬

‫كنا في أرضنا الحبيبة ـــ من طائرة واحدة مهاجمة‬
‫ـــ نختبىء في كل الاماكن الحصينة ان وجدت ‪ ،‬أما‬
‫ما أ اره فهو مذهل ولم يحدث قطعاً لا في زمان ولا في‬
‫مكان‪ ،‬الشعب قاطبة ــــ من صغار وكبار ــــ شيوخًا‬
‫ورجالاً ونساء ‪ ،‬اعتلوا أعالي المنازل لكي ينظروا الى‬

‫مشاهد تفجير الطائ ارت الاي ارنية المغيرة على بغداد ‪.‬‬

‫عديدة الطائ ارت التي تساقطت ‪ ..‬أنها خسارة كبيرة‬
‫لاي ارن ‪ ،‬فقد جاءت باسطولها الجوي على مدينة وادعة‬
‫تظن أنها ستسيطر بقوتها الجوية من هجمة مكثفة ‪،‬‬
‫ولكنها مادرت أن بغداد ستكون مقبرة لطائ ارتها ‪..‬‬
‫الناس يهتفون ويصفقون فرحاً بعد كل طائرة تنفجر في‬
‫سماء بغداد ‪ ،‬كأنهم ينظرون الى لعبة كرة القدم لا الى‬
‫معركة حربية ‪ ..‬اذ ربما شظايا الانفجار تودي بحياتهم‬

‫‪ ،‬ولكنهم لا يبالون ولا يخشون ‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫ما أشجعهم ‪ ،‬لم أكن أخال حينما ارتقيت السلالم‬
‫أني سارى الناس مثلي لا يبالون بحياتهم ‪ ..‬أنا من‬

‫يأسي وهم من ايمانهم ‪.‬‬

‫ما أريته أدهشني فعلاً ‪ ،‬وأعاد لي الثقة بشعبي‬
‫العربي ‪ ،‬والايمان با اردة الشعوب التي تصنع مصيرها‬

‫‪ ..‬والا اردة عندما تبعث ستبعث الأمة من جديد ‪.‬‬

‫أي صيادين أرى ‪ ،‬وأية نسور تصاد ‪ ،‬وأية دقة‬
‫تصويب ‪ ،‬وما أجله من مشهد ‪ ،‬ما أريت مثله من قبل‬
‫الا في الألعاب النارية أيام الاعياد والاحتفالات حينما‬
‫تنطلق الصعادات الى السماء وتنفلق عن منظر‬
‫زخرفي يبعث الفرح في النفس ‪ ،‬أما هذا المنظر فهو‬
‫يبعث الفرح والرعب في آن واحد ‪ ،‬فما ألذ الرعب‬
‫والفرح ‪ ،‬لأن امت ازجهما هو البطولة ‪ ،‬فما أسماها من‬
‫لحظة حاسمة ‪ ،‬حيث يتعانق الانسان مع مصيره فأما‬
‫أن يزول وأما أن يكون ‪ ..‬أنها حقاً ا اردة الانسان‬

‫الع ارقي الجديد ‪.‬‬

‫‪113‬‬

‫يوم مادي‬

‫جاءنا نبأ رجل يحتضر ‪ ،‬وهو ممن كنزوا من كنوز‬
‫الارض القناطير المقنطرة ‪ ،‬فاسرع القساوسة الى قصر‬
‫ذلك الرجل ‪ ،‬وحضروا وفاته وصلوا على جثمانه ‪ ،‬ثم‬
‫نقلوه الى قاعة الكنيسة واقاموا له قداساً فخماً مشحونًا‬
‫بالعطور والزهور والاناشيد الح ازئنية والت ارتيل الدينية‬
‫والموسيقى الجنائزية ‪ ،‬حتى نقلوه الى مثواه الأخير‬
‫بافخر سيارة موتى مخصصة لذلك ‪ ،‬وقد نالت الكنيسة‬
‫من خي ارت الرجل الكثير مما جعل القساوسة‬
‫يتخاصمون حولها ‪ ،‬و ارحوا يتهامسون على تقسيمها‬
‫بينهم لولا وقوف الشماس والأب شاول لهم بالمرصاد ‪،‬‬

‫حيث وضعا كل شيء في خزينة الكنيسة ‪.‬‬

‫و مما حَّز في نفسي ما عملوه حين مات رجل آخر‬
‫في نفس اليوم ‪ ،‬وهو لا يملك من المال سوى أطماره‬
‫البالية ‪ ،‬فتماطلوا فى دفنه ‪ ،‬وترك القساوسة الأب‬
‫شارل يقوم بتلك الم ارسيم وحده ‪ ،‬وكانت حجتهم أنهم‬

‫متعبون من القداس السابق ‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫لتختلف مظاهر التشييع فالت ارب واحد ‪ ،‬والحساب‬
‫واحد ‪ ،‬ولن تنفع الأغاريد والطبول ‪.‬‬

‫ومما أثار موجـدتي مدن القبور عند المسيحيين‬
‫والمسلمين ‪ ،‬حيث أمست تتسع وتمتد‪ ،‬حتى أنها‬
‫ستشغل في المستقبل أرضاً أكثر من الارض التي‬
‫يسكنها الاحياء ‪ ،‬وما أكثر الموسرين المبالغين الذين‬
‫يجعلون من أضرحة موتاهم عما ارت فخمة وقصو ًار‬
‫فارهة ‪ ..‬ليقدسوها في المستقبل ويمسون لها عابدين‬

‫من حيث لا يشعرون ‪.‬‬

‫كم بدأت أحن الى عادات الهندوس الذين يفضلون‬
‫حرق الجسد ورمي رماده في النهر المقدس اذ أنه لن‬
‫يشغل مساحة من الارض ‪ ،‬ولن يكون له مكان ثابت‬
‫كي ي ازر ويقدس بل رماد الجسم يشغل الماء والسماء‬
‫والأرض والأحياء ‪ ،‬ونحس به قريباً منا ‪ ،‬وبعيداً عنا‬

‫في آ ٍن واحد ‪.‬‬

‫‪115‬‬

‫ألا ليتقدس احتفال الهندوس ‪ ،‬فهو يساوي بين‬
‫الفقير والغني على حٍد سواء ‪ ،‬والم ارسيم واحدة والمكان‬

‫واحد واللامكان واحد أيضاً ‪.‬‬
‫ألا لتحزني يا أرض والتطمي يا سماء والتصرخي يا‬
‫شريعة الله ‪ ،‬كم من أناس يعيشون على موت الآخرين‬

‫‪.‬‬

‫يوم حلاجي‬

‫هرب إسبوعان من محيط الزمن الأحدب ‪ ،‬وأنا على‬
‫المنوال ذاته ‪ ،‬أحمل بقايا ثياب الأشجار المتساقطة‬
‫من أكتاف التوت والعنب ‪ ،‬لأرميها في توابيت النفايات‬

‫‪ ،‬لأن الخريف جاء مهرولاً ‪ ،‬ويريد أن يفَّر مسرعاً ‪.‬‬
‫وهذا الصباح بدأ ُت بجز حشائش الحديقتين‬
‫الأمامية والخلفية بآلة الجز ‪ ،‬حتى تساوت بصورة‬

‫مستوية ‪ ،‬وأضحت كبساط سندسي يفترش الأرض ‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫حقاً أنها آلة عادلة فقد ساوت بين الحشائش في‬
‫الطول والاكتفاء بكمية الغذاء ‪ ،‬وجعلت الكل في عدالة‬

‫النمو والبقاء والحياة ‪.‬‬

‫وحينما أوت الأطيار في قصورها ‪ ،‬وعلا نعيق‬
‫الغربان ‪ ،‬طفقت سمفونية الحش ارت تعزف الحانها‬
‫النشاز ‪ ،‬وبين الصرصرة والدردرة صارت الأشجار‬

‫كأشباح تتكلم بعد الغسق ‪.‬‬

‫ف ّضل ُت أن أتوسد الأرض ‪ ،‬وأبقى طوال الليل ارقداً‬
‫هنا مفترشاً هذه الحشائش الندية الغضة الطرية ‪ ،‬التي‬

‫تعبق ب ارئحة زكية ‪.‬‬

‫وبعد أن إستلقيت ُخيل لي أن هذه الأشباح تلتف‬
‫حولي ثم تحملني وتصلبني على جذع الشجرة ‪ ،‬ثم‬
‫أتت الغربان تقطع يد َّي وقدم َّي ‪ ,‬وكأن صوت القص‬
‫هو صوت الحش ارت ‪ ،‬وسالت دمائي الى الأرض ‪،‬‬
‫واحتشد الناس أمامي يتطلعون ال َّي بعيون لامعة ‪،‬‬

‫صرخ ُت من شدة الألم قائلاً ‪:‬‬

‫‪117‬‬

‫ــــ لماذا تصلبوني ؟ لماذا ؟ ‪.‬‬
‫جاءني صوت كحفيف الرياح ‪:‬‬
‫ــــ لأنك تتصبر مع الله وتدعي بأن ألملك أكثر من‬

‫ألم المسيح فنل ج ازء الحلاج ‪.‬‬
‫انتبه ُت من هذا التخيل ‪ ..‬وكانت عيناي فائضتين‬

‫بالدموع وتواردت الى ذهني هذه القصيدة ‪:‬‬
‫وخيم الظلام‬

‫أغرق في الآلام‬
‫يا أيها الحلاج‬
‫أنك أني‬
‫أحس بالعذاب‬
‫يا أيها المسيح‬

‫الدم في الكون يصيح ‪:‬‬
‫الرمل يخنق الجمال‬

‫‪118‬‬

‫والقافلة تتيه والرجال‬
‫تدفنهم غب ارء‬
‫فت أزر الرياح‬
‫الدم قد ساح‬

‫وتخرق الخناجر العظام‬
‫أوردتي تسيح‬
‫فيغرق الزحام‬
‫وتعصف الريح‬
‫أيا مسيح‬

‫يسقط فوق الارض كفاي‬
‫كورقتين في الرياح‬

‫كنجمتين في الصباح‬
‫أح ُّس لذة الاله‬

‫‪119‬‬

‫ه َّب العجاج قائلا ‪:‬‬
‫الموت يا حلاج‬

‫تخصف تحتي قدماي‬
‫وترسم الدماء‬
‫الله يا الله‬
‫والفق ارء‬

‫قد سمعوا النداء‬
‫فاحتلقوا بالذكر والمواء‬

‫أيا خ ارف‬
‫الموت منكم يخاف ‪.‬‬

‫‪120‬‬

‫يوم مجرم‬

‫أيا يومي ما أنت يا يومي ‪ ،‬أغنوة نظمتها ورنمتها‬
‫فسحرتني أم دمية كونتها فاستعبدتني ‪ ،‬أضحكة‬
‫ضحكتها أم عبرة أرسلتها ‪ ،‬أسعادة أستعذبتها أم ألم‬
‫قاسيته ‪ ،‬قد خلتلك حلماً وردياً فاذا أنت واقع كالح‬

‫يطعنني بخنجره الصدىء ‪.‬‬

‫تباً لك يا يومي الممل ‪ ،‬فما عملي في ساعاتك الا‬
‫لكي أنسى دقائقك وثوانيك السامة ‪ ،‬فكم أمقتك يا يومي‬
‫الكريه ‪ ،‬وكم أتمنى أن تكون شيئاً لا بداية لك ولا‬
‫نهاية ‪ ،‬تحس بي أكثر مما أح ُّس بك ‪ ،‬أعصر عمرك‬

‫أسرع مما تعصر عمري ‪.‬‬

‫آه ما أكثر ما أريد ‪ ،‬أريد أن أتخلص منك في‬
‫القريب العاجل ‪ ،‬لقد مقتك أعمق مما مقتني ‪ ،‬وكل‬
‫شيء وصل حده انقلب ضده ‪ ،‬فأنا قد إجتزت حدودك‬
‫فلماذا لا تنقلب وتتغير الى يوم آخر ليس فيه سماء ولا‬
‫أرض ‪ ،‬وليس فيه شمس ولا قمر ‪ ،‬لا ولا نجوم عالية‬
‫بل نجوم قريبة تكونني وتحفني في آن واحد ‪ ،‬أتنفس‬

‫‪121‬‬

‫من نورها ‪ ،‬وأحس بأنها ف َّي وأنا فيها ‪ ،‬نجوم لا نهاية‬
‫لها ولا بداية ‪.‬‬

‫أواه منك يا نبع السنين ‪ ،‬يا نبع الني ارن والحمم ‪،‬‬
‫كنت أظن أن العزلة عن العالم طريق يوصلني الى‬
‫باب الهرب من وجهك البشع ‪ ،‬لكن طال الطريق‬

‫وتمدد الزمان ولم أصل ‪ ،‬ولم أهتد ‪.‬‬

‫خلت أن العمل سلوى تشغلني في بوتقتها عن‬
‫التفكير بظلك الكثيف الثقيل ‪ ،‬فخفق ُت لأنه كان بلوى‬

‫ولم أدر ‪.‬‬

‫وأخي اًر عرفتك حق المعرفة ‪ ،‬فأنت مخلوق لا ترى‬
‫والناس يدعونك الزمان ‪ ،‬والدهر‪ ،‬والوقت ‪ ،‬والليل‬
‫والنهار ‪ ،‬لذا أنت جبار موهوب ‪ ،‬ولو تجسدت لكنت‬

‫طوع البنان ‪ ،‬بل لفعل ُت بك مثلما قال المتنبي ‪:‬‬
‫ولو برز الزمان ال َّي شخصا‬

‫لخضب شعر مفرقه حسامي‬

‫‪122‬‬

‫لذا سوف أغيرك با اردتي ‪ ،‬أنا الانسان ساتمرد‬
‫عليك مثلما تمرد سيزيف على صخرته ‪ ،‬سأبدلك‬
‫بنفسي ولن أخضع لك أكثر مثلما خضع لك الزهاد‬
‫والمتصوفة ‪ ،‬لقد تعلمت من شعب الع ارق الدرس يجب‬
‫أن أكـون ‪ ،‬يجب أن أثبت كينونتي ‪ ،‬يجب أن أقطع‬
‫أيادي الاخطبوط الذي شردني وخنق أهلي وشعبي‬
‫الفلسطيني ‪ ..‬فأن أياديه تمتد على وطني العربي ‪..‬‬

‫فويل له من الفأس العربية ‪.‬‬
‫وبعد ذلك ليس مهماً أن أنتظر يومي أم ينتظرني ‪،‬‬
‫أن أحبه أم أبغضه ‪ ،‬المهم سيكون اليوم الذي يحلو‬

‫بعيني ‪.‬‬
‫حنانيك يارب خذ بيدي الى باب الخلاص من يومي‬

‫المجرم ‪.‬‬

‫‪123‬‬

‫يوم مرتجف‬

‫دنا مني الأب شاول عند الظهيرة ‪ ،‬و ارح يهمس‬
‫في ذهني ‪:‬‬

‫ـــــ يا أبتي أن الشمس أشرقت عل َّي من جديد فهل‬
‫أدخل في التجربة ؟ ‪.‬‬

‫ولم أفقه كلامه بادىء الأمر ‪ ،‬فقلت له ‪:‬‬

‫ـــــ أفصح عما ترمي اليه ‪ ،‬فأنا لم أفهم مقصدك ؟!‬

‫فاجاب بح اررة ‪:‬‬
‫ـــــ ألم تقل لي بأن الشمس سوف تشرق في قلبي من‬

‫جديد ! وتذيب نهر العواطف المنجمد ؟ ! ‪.‬‬

‫ــــ أوه لقد نسيت ‪ ،‬بالله أخبرني ما الذي جرى ؟‬

‫ـــــ أن التجربة قد فتحت أبوابها في وجهي ‪ ،‬وأنا الآن‬
‫بين أن أجتاز عتبتها وأدلف في جوفها أو أت ارجع الى‬
‫الو ارء مخافة الخطيئة التي أتوسل الى الرب في كل‬

‫مرة أن يبعدني عنها ‪ ،‬فماذا أفعل ؟ ‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫قل ُت وأنا أبتسم له بإخلاص ‪:‬‬
‫ــــ أن التجارب محك الانسان ‪ ،‬وأنا أخالف سيدنا‬
‫المسيح في دعائي (ربنا أدخلنا في التجربة) حتى‬
‫وصل ُت الى مكانة مرموقة ‪ ،‬وقبل المصيبة الكبرى‬
‫التي حلت بعائلتي تركت ذلك ومضيت أردد ما قاله‬

‫يسوع (ربنا لا تدخلنا فى التجربة)‪.‬‬

‫وذا به يضعني في تجربة بشعة مخيفة هزت‬
‫كياني وحطمتني تحطيماً كصخرة هشة انقضت عليها‬
‫صاعقة ففتتّها ‪ ،‬فما عليك الا أن تقول فى صلاتك‬
‫(ربنا أدخلنا في التجربة الأحلى والأجمل والأكثر لذة)‬

‫وسترى النتائج الجميلة بعون الله ‪.‬‬

‫ــــ لكن هذه التجربة ستجعلني أقع في حب فتاة‬
‫تجيئني أيام الغف ارن وتعترف لي عن خطاياها ‪ ..‬وبما‬
‫أني لم أجد لها خطيئة ‪ ،‬وأن ما تخاله خطيئة هو كبت‬

‫وحرمان عاطفي ‪ ..‬أعاني أنا منه مثلما هي تعاني ‪.‬‬

‫‪125‬‬

‫ــــ ذاك ما كنت اتوقعه فكلاكما محروم من الآخر ‪،‬‬
‫ألا نعم التجربة ‪.‬‬

‫ـــــ ولكني كما تعلم قد وضعت نفسي في خدمة الرب‬
‫والكنيسة من أجل إصلاح المجتمع ‪.‬‬

‫ــــ أن كل شخص من لمجتمع يحاول أن يصلح غيره‬
‫وكم بالأحرى أن يصلح نفسه ويكتمل أمام الله ‪ ،‬وأرجو‬
‫المعذرة فأن نبي المسلمين يقول (الزواج نصف الدين)‬
‫معنى ذلك أصلاح المجتمع لا يتم بيد انسان ناقص‬
‫الدين ‪ ..‬أما الكنيسة فما أجبرت أحدًا في يوم من‬
‫الايام على التقوقع في هيكلها ومح اربها لتكون له قب اًر‬

‫بل بنيت للعبادة ونشر الخير على المجتمع ‪.‬‬

‫صمت الأب شاول كأنـه غرق فى تفكير عميق ‪،‬‬
‫تركني دون أن ينبس بكلمة ‪ ،‬ورح ُت أنقل طرفي بين‬
‫الأزهار ‪ ،‬فأ ارها ازهية نضرة مبتسمة الحياة ‪ ..‬عندها‬
‫شعرُت أن الكآبة بدأت تنقشع غيومها عن سماء روحي‬

‫واذا بسلطان القلوب يهدر في نفسىي قائلاً‪:‬‬

‫‪126‬‬

‫ــــ إيه أيها الحب المقدس ‪ ،‬يا من ملكت الكيان في‬
‫أقل سويعات العشق ‪ ،‬يا من جعلت الطيور تصدح‬
‫بنشيدك الساحري ‪ ،‬يا من إنتشت الطبيعة بظلالك‬
‫الملونة ‪ ،‬وأصبحت الورود محمرة الخدود ‪ ،‬خجلة منك‬

‫أيها الحب ‪.‬‬

‫الاف ارح والاهازيج ‪ ،‬والموسيقى والاغاريد ‪ ،‬والقصائد‬
‫والاناشيد جميعها غلاف شفاف ينُّم عما بجوفك من‬
‫سعادة متنوعة ‪ ،‬فالاضواء تنير ما بداخل القصور‬
‫والمنازل ‪ ،‬أما أنت فتنير النفوس المظلمة بشعاع من‬
‫العاطفة ‪ ،‬فتجذل المحزون ‪ ،‬وتقهقر المتكبر‪ ،‬وتمسك‬

‫بالوديعين فتطرحهم صرعى ‪.‬‬

‫أيها الحب لولاك ‪ ،‬لولا وجودك لما خلق الله الاناث‬
‫والذكور ‪ ،‬لما ظلوا عبيدك المطيعين ‪ ،‬فكما إستعبدت‬
‫الأحياء البهيمة إستعبدت الانسان العاقل ‪ ،‬فما أحلى‬

‫عبوديتك فبها السلام والوئام ‪.‬‬

‫أن قطرة الندى مهما كانت بعيدة عن البحر فهي‬
‫حتما اليه سوف تعود إن عاجلاً أو آجلاً ‪.‬‬

‫‪127‬‬

‫فمهما تبتعدي يا عواطف القلوب فأنك في بحر‬
‫الحب ستصبي ‪.‬‬

‫يوم جماهيري‬

‫في الصباح سمعت ضجيجًا مدوياً ‪ ،‬عواصف‬
‫من الهتافات مبعثها ساحة الطي ارن وحديقة الأمة ‪،‬‬
‫فت اركض القساوسة يتطلعون من الابواب والنوافذ ‪،‬‬
‫لكني لم أفقه شيئاً مما يدور خارجاً ‪ ،‬فارتقي ُت السلالم‬
‫المؤدية الى قبة أج ارس الكنيسة ‪ ،‬ومن الشرفة اطلل ُت‬
‫على ساحة الطي ارن ‪ ..‬فاذا البشر قد تقاطروا كالسيل‬
‫العرمرم ‪ ،‬فلا أرى سوى رؤوس كأنها أمواج بحر ثائر‪،‬‬
‫تحمل نعوشاً أربعة كأنها زوارق تشق عباب الموج‬

‫البشري ‪.‬‬

‫تهادى الى سمعي صوت أحد القساوسة وهو‬
‫يخاطب قساً آخر قائلاً ‪:‬‬

‫ـــــ أنهم يشيعون الشهداء ‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫كأني مسس ُت بتيار كهربي رّجني في الحال ‪،‬‬
‫دهش ُت لجلال هذا التشييع وروعة هذا الموكب ‪،‬‬
‫وأصابتني قشعريرة فالأصوات تضج علو السماء وترعد‬
‫المدينة بكاملها ‪ ..‬حقاً أن الشهداء يذكون روح الشعب‬
‫‪ ،‬بل أنا أشعر أن الشهيد هو الذي يقود هذه الجموع‬
‫في هذه اللحظة ‪ ،‬فما أريت ـــ منذ أن أحتل الصهاينة‬
‫أرضنا ــــ جموعاً مثل هذه الجموع ‪ ،‬تحمل روح الإ اردة‬
‫الفولاذية والعزيمة الحديدية ‪ ،‬إختنق قلبي وهبطت من‬
‫عيني شلالات الـدمـوع ‪ ،‬ملتهبة حارقة ‪ ،‬فما ازل‬
‫للبطولة رجال وللخلود شعب ‪ ،‬وما ازل العرب موجودين‬

‫يقدمون دماءهم قرباناً للوطن الحبيب ‪.‬‬

‫أنت عملاق أيها الشعب الع ارقي ‪ ،‬فلم أكن أتصور‬
‫أن لي أملاً باسترجاع وطني المغتصب ‪ ،‬والانتقام من‬
‫الكلاب التي قتلت أهلي واستحلت أرضي وسمائي‬
‫ومياهي حتى أبصرت جموعك الهادرة ‪ ،‬جماهيرك‬
‫المحتشدة ‪ ،‬فآمنت بقوتك وا اردتك يا عملاق شعبي‬

‫والثأر قريب لا محال ‪.‬‬

‫‪129‬‬

‫لقد كنت قبل الآن بلا عقل ولا هدف ‪ ،‬ولا أجد‬
‫مبر اًر للبحث عن ذاتي في ذاتي ‪ ،‬اذ أنا تائه والأرض‬
‫تضيق بي ‪ ،‬ونفسي يضعف ‪ ،‬آمالي تقتل آمالي ‪،‬‬
‫وبحثي في مستقبلي جامد كجمود الصمت ‪ ،‬الدنيا‬
‫تتحرك من حولي وأنا واقف أتفرج على مسرحها بألم ‪،‬‬
‫اذ ليس لي دور فيها ولا مكان ‪ ..‬ضائع ضياع التفاهة‬
‫‪ ،‬أترقب أملًا بعيداً لا يقترب ‪ ،‬وليس لي صبر على‬
‫ذلك ‪ ،‬اذ لا يوجد منفذ أنّفس به عما يجيش ويصطرع‬
‫في داخلي ‪ ..‬الابواب فى وجهي مغلقة ‪ ،‬واذا استدرت‬
‫فالحيطان تأكلني ‪ ،‬والزمان يعذبني ويسخر مني لا‬
‫أدري أين أمضي ولا أدري ممن أهرب ولا أدري لماذا‬

‫أتعذب بقية عمري ‪.‬‬

‫لكن اليوم أشرق الأمل في نفسي ‪ ،‬وصرت أعرف‬
‫أن لا فرق بين من يضحي من أجل عائلته أو من‬
‫أجل وطنه ‪ ،‬ربما من اجل الوطن التضحية أعظم‬
‫والشهادة أروع لذا قررت أن أواجه عدو شعبي ‪ ..‬فأما‬
‫أن أكون وأما أن لا أكون ‪ ،‬فالع ارق بعث العزيمة في‬

‫‪130‬‬

‫نفسي من جديد ‪ ،‬وعرفت أن النصر يأتي من همم‬
‫الرجال ‪ ،‬وإيمانهم بقضيتهم ‪.‬‬

‫يوم جذل‬

‫تمني ُت أن أرى الأب شاول هذا اليوم فقد أضحيت‬
‫متفرغاً من عملي ‪ ،‬لكن مع الأسف والاسف لا ينفع ‪،‬‬
‫فقد كان هذا اليوم بالنسبة له أرهق الأيام ‪ ،‬فهو يوم‬
‫للبشر أكثر مما هو للرب ‪ ،‬اذ ينشر فيه شذى انسانيته‬
‫‪ ،‬ويبث فيه أمواج ابتساماته لتتكسر على شواطىء‬
‫الوجوه ‪ ،‬ويعصر رحيق فكره ليروي صحارى العقول ‪،‬‬

‫ويفتت جبال الجهل ‪.‬‬

‫في الصباح عليه أن يبارك الوافدين والمغادرين بعد‬
‫أن يعظهم لانه اللولب الذي تعتمد عليه الكنيسة أيام‬

‫الاحاد خاصة ‪.‬‬

‫أزمعت أن أنطلق الى البرية فالشوق الى رحابها قد‬
‫بَّرحني ‪ ،‬والحنين الى هوائها الطلق قد شَّفني ‪ ،‬وحب‬
‫طبيعتها العذ ارء قد ملك كياني ‪ ،‬وفضلت أن أتوجهه‬

‫‪131‬‬

‫شطر وادي دجلة حيث تحف روح الله فوق مياهه ‪،‬‬
‫كانت سماء بغداد قد استضافت قطعان السحب ‪..‬‬
‫وبمقدمها قدمت النوارس لاعبة في سماء دجلة ‪،‬‬
‫وكأنها ثلوج تطفو فوق مياه جارية‪ ،‬او كأنها أرس سهم‬
‫يمرق في الفضاء ‪ ،‬القائد فى الأمام والبقية تـنتظم خلفه‬

‫‪ ،‬هندسة ارئعة ‪.‬‬

‫ما أن وصلت الى أردان المياه المعسولة حتى‬
‫خطف فوق أرسي نورس صغير‪ ،‬وزعق بشـدة أجفلتـني‬
‫بعض الشيء وأضحكتـني بعد ذلك ‪ ،‬ثم توجه الى‬
‫منتصف مياه الضفتين ونزل على صفحة المياه‬
‫الملساء والتقط سمكة وعاد بها بين منقاريه الجميلين‪،‬‬
‫وحط عند الشاطىء بالقرب من موقعي ‪ ،‬و ارح يرمقني‬
‫بارتباك ‪ ،‬وفجأة تجمهرت النوارس عليه ليسرقوا غنيمته‬
‫‪ ،‬وكانت أصواتها زعيقاً حلواً مّزق الهدوء الرطب ‪..‬‬

‫فأية موسيقى وأي غناء وأي منظر ‪.‬‬

‫وما أن توسدت الأرض وأسندت ظهري لشجرة تقبع‬
‫قرب الجرف حتى عاد ذلك النورس من جديد مارقاً من‬

‫‪132‬‬

‫فوق أرسي رواحاً ومجيئاً كأنه يشعر بشيء يشده ال َّي ‪،‬‬
‫مما جعلني أخال أن روح احدى بناتي قد عادت‬
‫بتجسيد ثا ٍن وتقمصت جسم هذا الطائر المائي كي‬
‫تلطف المياه ما كابدته من حريق الني ارن ‪ ،‬ولكن العودة‬
‫والتقمص مجرد شعور فكري جميل إن صح ‪ ،‬وأكثر‬

‫الطيور تعاني من ضعفها أمام الطبيعة المتوحشة ‪.‬‬

‫كنت أحمل رغيفاً من الخبز لاقتاته متى ما طلب‬
‫جسمي الديمومة ‪ ،‬ولكني قطعت الرغيف فتاتات‬
‫وطفقت انثرهاعلى وجه الماء ‪ ،‬فهجمت الاسماك تلتهم‬
‫ما أرميه ‪ ،‬وأسرعت النوارس بدورها تصطاد السمك‬
‫المخدوع ‪ ،‬وكان مشهداً حزنت له وفرحت في وقت‬

‫واحد ‪ ،‬فيا لتعاسة الص ارع من أجل البقاء ‪.‬‬

‫بعد أن إستجمم ُت عد ُت الى حضيرتي مسا ًء ‪،‬‬
‫والنوارس غادرت الشاطىء بدورها متجهة صوب‬
‫الب ارري مبتعدة عن المدينة وعند دخولي الكنيسة التقيت‬
‫الأب شاول فحياني وحييته ‪ ،‬وبعد محاورة اعتيادية‬

‫أخبرني أنه القى موعظة بعنوان ‪:‬‬

‫‪133‬‬

‫( ربنا أما تبالي ) فذكرني الموضوع بذكريات دفينة‬
‫حين كنت معلماً في مدرسة بيسان أدرس الوعظ الديني‬
‫فطلبت من الطلبة ان يكتبوا تحت نفس العنوان أمانيهم‬
‫وأمالهم وما يكابدونه من مشاق الحياة ويختموا‬

‫الموضوع ( بربنا أما تبالي ) ‪.‬‬

‫وعند إنتهاء الطلبة من الكتابة ‪ ،‬بدأت أدقق أو ارقهم‬
‫ورقة ورقة ‪ ،‬فلفتت إنتباهي إحدى الأو ارق وعجب ُت من‬
‫كاتبها فقد غير الكلمة تبالي ‪ ،‬والتي معناها تهتم ‪،‬‬
‫واسترسل يكتبها‪ « ،‬تبلى » وقال في النهاية ( ربنا أما‬
‫تبلى فقد بليت ) وكانت عبا ارته تقطر الماً وتـنزف‬
‫تعاسة ‪ ،‬وجحوده على الحياة وتبرمه من المعيشة لا‬
‫يوصفان ‪ ..‬وكلمة يبلى قاصدها بالمعنى القاموسي ‪:‬‬
‫رَّث وته أر من القدم ‪ ..‬وكان الوحيد الذي لم تـنفعه‬
‫كلماتي ونصائحي ‪ ،‬لأن جرحه أعمق من أن تداويه‬

‫أدوية الكلام ‪.‬‬

‫لكني كتبت على ورقته هذه العبارة التي أذكرها ‪:‬‬

‫‪134‬‬

‫ــــ أنك حينما تموت ستـنظر روحك من عليائها الى‬
‫هذه الاحياء التي تحيا فوق الكرة الأرضية ‪ ،‬فترثي في‬
‫ذاتك حياتهم القاسية ‪ ،‬وتتمنى أن يجدوا طريقاً يجعل‬
‫معيشتهم كمعيشة الإله ‪ ،‬وتتحسر لو أنك تعود اليهم‬
‫لتفهمهم معنى الوجود ‪ ،‬وتدَّلهم على خير السبل لجعل‬

‫حياتهم سعادة وهناء ‪.‬‬

‫يوم عاشق‬

‫نشرت الشمس شعرها الذهبي على الأفق الممتد‬
‫فوق رؤوس الاشجار‪ ،‬كانت روحي تتأرجح بين الظلام‬
‫والنور‪ ،‬آه بدأت شيخوختي تحن الى السكون والظلام‬
‫وتتكاسل عن حيوية الشمس ‪ ،‬لقد آن الأوان لأرمي‬
‫آخر طاقتي من أجل عمل عظيم ينفع شعبي‪ ..‬وأظن‬
‫العودة الى أرض الآلام أرض الجلجلة هي خير مكان‬
‫لأنهاء وجودي ‪ ،‬سافكر بوسيلة للذهاب الى هناك من‬

‫جديد ‪.‬‬

‫برحت غرفتي وعقلي يرغم جسمي ارغاماً ‪ ،‬لأن ما‬
‫أعمله تافه وقبض الريح ‪ ..‬اذ لم يكن عملي اليوم سوى‬

‫‪135‬‬

‫فتح الحنفية ليتدفق الماء هارباً من الانبوب ويروي‬
‫الأرض ويتغلغل في الطبيعة التي هو روحها وهي‬

‫جسده ‪.‬‬

‫بينما أنا أقوم بالسقي ‪ ،‬لفتت أنظاري ظلال‬
‫تتحرك و ارء الأشجار‪ ،‬وإسترعت إنتباهي همسات‬
‫إنثوية رقيقة تميزت عن صوت آخر لصفائها ‪ ،‬وكان‬
‫الصوتين خلف شجرة الرمان التي تألقت خضرتها‬

‫وتدلى ثمرها ‪.‬‬

‫وقدرت أن موقفهما فى هذا المكان لا بَّد أن يكون‬
‫من أجل غاية ‪ ،‬فاغ ارني شيطان الفضول ‪ ،‬وإقتربت‬
‫من الشجرة من حيث لا يبص ارني ‪ ،‬وطرق سمعي‬

‫صوت الأب شاول وهو يقول ‪:‬‬

‫ــــ قلت لك أن حبنا ليس خطيئة ‪ ،‬وأنها سنة الرب‬
‫والبشر من أقاصي الأرض الى أدانيها يعشقون‬
‫ويحبون ثم يتزوجون وينجبون ‪ ،‬وأن حبنا قد جبله‬
‫الرب وساقته الأقدار الى قلوبنا ‪ ،‬وليس هو من صنعنا‬

‫بل هو من صنع موجه أرواحنا ووقلوبنا ‪.‬‬

‫‪136‬‬

‫أجابه صوت إنثوي دافىء النغمة قائلًا ‪:‬‬

‫ــــ لكن شعو اًر يخالجني بأني أدخل تجربة من‬
‫تجارب الشيطان ‪ ،‬تجربة أخالها أم ًار فظيعاً وأحس من‬

‫ج ارئها بأني عارية بين الناس ‪.‬‬

‫فرد عليها الأب شاول ‪:‬‬

‫ـــــ أنك تهولين الأمر في مخيلتك ‪ ،‬لأن الحب يمُّر‬
‫عليك لاول مرة فى حياتك لذا تخالينه تجربة صعبة‬

‫مخيفة ‪.‬‬

‫ـــــ ولكن ماذا سيقول القساوسة أو الناس علينا ؟ حتى‬
‫الكنيسة ستغضب علينا ! ‪.‬‬

‫ــــ إن كانت الكنيسة ترضى على المجتمع أوتغضب‬
‫منه فالأحرى بها أن تغلق أبوابها لأنها لم تقم من أجل‬
‫ذلك بل أنها دار عبادة المجتمع لتعظيم الرب ‪ ،‬وأن‬
‫زواجنا هو مجا ارة للعرف السائد ولسنة الحياة ‪ ،‬فمالنا‬
‫والقساوسة والناس ‪ ،‬نحن نرضي الرب بعملنا وليذهب‬

‫الى الجحيم كل من يعارض مشيئة الرب ‪.‬‬

‫‪137‬‬

‫لحظتـئذ اقتحمت موقعهما وبرزت أمامهما ‪ ،‬فجفلت‬
‫الفتاة لظهوري المفاجىء ‪ ،‬لكني بددت تأثير المفاجأة‬

‫وقل ُت بسرعة لهما ‪:‬‬
‫ــــ أنا أول الموافقين وأول المباركين وأرجو المعذرة‬

‫لتطفلي ‪.‬‬

‫إبتسم الأب شاول ‪ ،‬و ارن صمت غريب ‪ ،‬بدده‬
‫الأب شاول مقدماً الفتاة لي ‪ ،‬ومقدمني للفتاة ‪ ،‬وعرفت‬
‫اسمها (كلودا) وهي فتاة هادئة خجول ‪ ..‬طويلة القوام‬
‫‪ ،‬ذات وجه أبيض مشرق دقيق التقاسيم عدا عينيها‬
‫الزرقاوتين الكبيرتين ‪ ،‬فتكاد الحلاوة والنور أن يسح ار‬
‫الناظر اليها ‪ ..‬وكنت قد أريتها سابقاً بكياستها‬
‫ورصانتها حينما كانت تمر مع عائلتها مجتازة الحديقة‬
‫فتسبقهم بالتحية علي ‪ ،‬وما أن سمعت ما قل ُت حتى‬

‫أطرقت الى الارض بحياء وأسبلت أجفانها الطويلة ‪.‬‬

‫وأضف ُت الى قولي لهما ‪:‬‬

‫‪138‬‬

‫ــــ يا أبنائي أن الحياة قد فتحت ذ ارعيها لكما‬
‫لتحتضنكما أيها المتقوقعين تحت جسديكما ‪ ،‬ولتريكما‬
‫معالمها ‪ ،‬فاسرعا اليها قبل أن يعتريكما الندم مدى‬

‫العمر‪ ،‬ولات ساعة مندم ‪.‬‬

‫إستأذنت الفتاة وغادرت المكان متذرعة بذهابها الى‬
‫مكتبة الكنيسة ‪ ،‬ونظرُت للأب شاول وشاهدت شروده‬

‫وق أرت أفكاره فقل ُت له ‪:‬‬
‫ــــ أيها الأب الشجاع لم لا تسرع في الزواج بعد أن‬

‫علمت بحبها لك في أشده وحبك لها في اقواه ‪.‬‬

‫ـــــ هذا ما نرمي اليه قبل قليل ‪ ،‬ولكننا لا نعرف‬
‫كيف نبدأ فهي خائفة ‪.‬‬

‫ـــــ لم لا تذهب الى صديقك المط ارن وتخبره الأمر‬
‫الواقع بص ارحة‪ ،‬فهو انسان طيب متحرر الفكر ‪،‬‬
‫فسيبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما تصبو اليه ‪.‬‬

‫ـــــ سأجازف يا سيدي ال ارهب فهو الحل الوحيد ‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫تركني و أريته يتوجه صوب مكتب المط ارن ويدلف‬
‫فيه ‪ ،‬وتمضي مدة ويخرج ليعود بالفتاة كلودا الى‬
‫المكتب ‪ ،‬و ارحت الانفعالات تصطرع في داخلي ‪ ،‬وأنا‬
‫أدعو مخلصًا أن يساعدهما الله ويمهد لهما طريق‬

‫الزواج والسعادة ‪.‬‬
‫وحين خرجا كانت تنطلق من وجهيهما ف ارشات‬

‫البشارة واش ارقة الفرح ‪.‬‬
‫وبعد أن وَّدع الأب شاول الفتاة كلودا التي‬
‫غادرت الكنيسة ‪ ..‬جاءني وهو يحمد الله ‪ ،‬ثم طبع‬

‫قبلة على جبيني وهو يقول ‪:‬‬
‫ــــ أنك قديس ‪ ،‬أنت النور الذي هداني الى نور الله ‪،‬‬

‫ولن أنسى لك ذلك ‪.‬‬
‫ثم ذهب وأنا أستغفر الجليل والدموع تترقرق في‬

‫عيني من كثرة الفرح بسعادتهما المرتقبة ‪.‬‬

‫‪140‬‬

‫يوم ذهبي‬

‫ما أسرع إنسكاب الأف ارح في النفس البشرية حتى‬
‫ليكاد المرء أن يحلق بأجنحة طير للوصول الى غايته‬
‫‪ ،‬فعندما إستيقظت عذ ارء السماء ‪ ،‬برح الأب شاول‬
‫الكنيسة متوجهاً صوب عائلة خطيبته (كلودا) للحصول‬
‫على الوثائق الرسمية لعقد القرآن ‪ ،‬ذهب عاجلاً وجاء‬
‫بعد ساعة ‪ ،‬وقدم الأو ارق لمقر الأبرشية ‪ ،‬وطلب مني‬

‫أن أشهد عرسهما الذهبي عصر هذا اليوم ‪.‬‬

‫ولج ُت القاعة وقد سبقني الجميع باشعال شموع‬
‫الفرح ‪ ،‬وإنتظرنا حتى حضر الكاهن ومعه مط ارن‬
‫الأبرشية ‪ ،‬وتقدم الأب شاول مع الفتاة وبجانبهما والد‬
‫الفتاة وأمها ووقف الجميع أمام الكاهن الذي وضع‬
‫رباطاً على يديهما المتصافحتين وباركهما بالصليب ‪،‬‬
‫وبعد أن أعلن وكيلا الخطيبين رضاهما التام بحضورنا‬
‫‪ ،‬تلا الكاهن صلاة البركة على الخاتمين ‪ ،‬ووطلب‬
‫من العريس والعروس أن ُيلبس كل منهما الآخر خاتم‬

‫الزواج ‪ ،‬وباركهما بالدعاء ‪.‬‬

‫‪141‬‬

‫خرج العروسان ونهالت عليهما حبات الرز والورود‬
‫من قبل الحاضرين ‪ ،‬وركبا السيارة الى الشقة التي‬
‫أعدها الأب شاول ‪ ،‬وهكذا عدت الى صديقتي الحديقة‬
‫وأنا أحس بسعادة تغمرني لأني ساعد ُت في إتحاد‬

‫روحين لطيفين إكتملا أمام الله ‪.‬‬

‫حقاً أن الهوى خميرة كروم معتقة يثمل بها‬
‫المحبون كلما ملأوا قلوبهم بها ‪ ،‬فتـنفتح لهم أبواب‬
‫الخلود عن جنائن الفيروز ولحظة القوس قزح ‪،‬‬

‫فيهيمون في سحب اللذة ‪.‬‬

‫الحب كالنبات ينمو ويترعرع تحت أشعة الشمس‬
‫ولا يعيش في الظلام ‪ ،‬وإن عاش في الظلام فقد لونه‬
‫ومات تدريجيًا ‪ ،‬وشمس المجتمع المتحجر تحرق هذا‬
‫الحب بلهيب تخاله مبيداً له ‪ ،‬وهو مغذ جيد للحب ‪،‬‬
‫مثلما النار الممتدة على القصب تزيد من إنتشار‬

‫القصب من جديد ‪.‬‬

‫يا شمس المجتمع أشرقي وافضحي غ ارم المحبين ‪،‬‬
‫فأن شعاعك الذهبي خيوط تلف قلوب المحبين‬

‫‪142‬‬

‫كالشرنقة ‪ ،‬وعند الاكتمال تتمزق وتتقطع هذه الخيوط‬
‫وتنطلق ف ارشة الرباط المقدس ازهية بألوانها ‪ ،‬ساحرة‬
‫برفيفها ‪ ،‬وأن ف ارشة الزواج لا تطير إلا بجناحين‬
‫كبيرين هما المحب والمحبوب ‪ ..‬ولتتقدس شمس‬

‫المجتمع إذن ‪.‬‬

‫يوم الق ارر‬

‫أمست سيدتي الحديقة مكتفية لا تحتاج بعد الآن‬
‫الى أية مساعدة ‪ ،‬فبعض أشجارها قد تعرت من ثيابها‬
‫و ارحت تستحم عند كل زخة مطر‪ ،‬وبعضها الاخر‬
‫يغتسل ليجلو ثيابه ‪ ،‬وقد قَّلم ُت وشَّذب ُت ما طال ‪ ،‬فلا‬
‫عمل لي بعد الآن ‪ ،‬لأن السماء بدأت تخدم الارض ‪،‬‬
‫يا لهول الملل الذي دب في نفسي ‪ ،‬و ارح الضجر‬
‫يعصف في كياني ‪ ،‬ففكرت أن أودع الكنيسة فلم يعد‬
‫لي عمل بها ‪ ،‬فما وجودي طيلة هذه المدة بين‬
‫أحضانها الا لم ارجعة النفس وانتظار المقدور‪ .‬وبما أن‬
‫الوطن العربي صار مهدداً كله فلا وقت للتفكير‬

‫‪143‬‬

‫بخصوصيتي بعد اليوم وقضيتي صارت قضية كل‬
‫العرب لذا قررت أن أعود الى أرضي ‪.‬‬

‫وقررت أيضاً أن أكتب قصتي في أواخر المذك ارت‬
‫في نفس الوقت الذي غادرنا به الأب شاول ‪ ،‬لأنني‬
‫أزمعت أن أسلم هذ المذك ارت ــــ قبل أن أغادر الكنيسة‬
‫ــــ الى الأب شاول حين يعـــــــود الى الكنيسة بعد ان‬
‫ينتهي من عقد الاكليل فهو أحق بها ‪ ،‬وفيها سيعرف‬
‫حكاية حياتي التي طالما اشتاق لسماعها ‪ ،‬وبذلك‬
‫سيعرف مشاعري نحوه ‪ ،‬ويتذكرني كلما يق أر هذه‬
‫المذك ارت ‪ ،‬وربما لن تسيل من عينيه دمعة عل َّي ‪ ،‬وأنا‬
‫لا أريد ذلك منه ‪ ،‬ولكني على يقين أن خفقة من‬

‫خفقات قلبه ستنهصر شوقاً وحنيناً حينما يتذكرني ‪.‬‬

‫ما وداعي للكنيسة الا وداعي للحياة التي مللتها‬
‫أخي اًر الى الحد الذي ساحمل روحي على كفي وأرميها‬
‫بوجوه قتلة أهلي وشعبي كما الاطفال حينما يرمونهم‬

‫بالحجارة ‪.‬‬

‫‪144‬‬

‫وليعلموا أن سلبهم لأرضي ستكون مقبرتهم فيها‪ ،‬وإن‬
‫أنا أخفق ُت فالأجيال القادمة ستنجح في إستردادها بعون‬

‫الله ‪.‬‬

‫‪145‬‬

‫ُق ـصـ ـةُح ـي ـاتـ ـي ُ‬

‫ليكن لك قلب حتى تق أر هذا القلب‬

‫‪146‬‬

‫مرحلة الطفولة‬

‫تمخض رحم الطبيعة ‪ ،‬وتهادت دقات نواقيس‬
‫الكنيسة ‪ ،‬واختلطت مع آذان المؤذنين عند أول خيط‬
‫من شعاع الفجر إعلاناً عن إنتصار الحياة على‬

‫الموت وبقاء ديمومتها الأبدية ‪.‬‬

‫كانت ولادتي ـــ كما أخبرني جدي ــــ في اليوم‬
‫الذي ظهر فيه مذنب إقترب من الأرض وأفزع العالم‬
‫وكل المخلوقات عام ‪ ،1910‬وجاءت ولادتي من أبوين‬
‫فلسطينيين عربيين في مدينة بيسان الواقعة على‬

‫الغور‪.‬‬

‫عرفت أن ألم المخاض ما هو الا تنفيذ حك ٍم على‬
‫ما جنته الم أرة من لذة ‪.‬‬

‫هاجر والدي الى أمريكا بعد أن أغروه اليهود بذلك‬
‫‪ ،‬وأودع والدتي لدى أهلها في قرية (الاشرفية) وهي‬
‫حامل بي ‪ ،‬وانقطعت أخباره عنا ‪ ،‬مما أدى الى مرض‬

‫‪147‬‬

‫والدتي واصابتها بالذبحة الصدرية ‪ ،‬وودعت الحياة ‪،‬‬
‫وأنا في الخامسة من عمري ‪.‬‬

‫عرفت توها أن الموت هو تحرر الروح من الجسد ‪.‬‬

‫كان ذلك في شتاء بارد كثير الثلج والضباب ‪ ،‬حتى‬
‫أني مازلت أذكر ذلك الضباب المعتم ووجه والدتي‬
‫يخرج من خلاله كلما أشاهد مثله في الواقع وفي‬
‫الاحلام ‪ ،‬أتألم لأن الدهر طعنني منذ صباي ‪ ،‬منذ أن‬
‫وعت عيناي الدنيا ‪ ،‬وشعرت أني صرت عارياً لا أجد‬
‫الدفء والحنان منذ أن فقد ُت والدتي ‪ ،‬وكنت أفكر أنها‬

‫هربت مني وتركتـني وحيداً في هذه الدنيا ‪.‬‬

‫أحسست أن السماء إختفت زرقتها وخيم الظلام في‬
‫كل مكان ‪ ،‬ولا أرى سوى الليل والكآبة والدموع ‪،‬‬

‫والضياع ‪ ،‬فأية طفولة طفولتي ‪.‬‬

‫علم ُت أن لي جدا قالوا عنه أنه رجل دين يعيش في‬
‫مدينة بيسان حيث تقع على بضعة أميال بالشمال‬
‫الشرقي لقريتي ‪ ..‬وسوف أكون بعهدته عن قريب كما‬

‫‪148‬‬

‫أخبرني خالي ‪ ..‬رفض ُت ذلك ولكن زوجة خالي‬
‫أصرت ولم أكن أودها ‪ ..‬فوافق ُت على الذهاب ‪.‬‬

‫تعلم ُت أن ق اربة الأب أقوى خيمة من ق اربة الأم‬
‫وهي البديل الحقيقي للحنين الى الرحم العائلي ‪ ..‬كانت‬
‫الطرق انذاك غير صالحة للتـنقل ‪ ،‬فبقيت في بيت‬
‫خالي يواسيني ولكن كيف يكون للمواساة فائدة وأنا كلي‬

‫احساس بالضياع ‪.‬‬

‫مرت أيام الإنتظار كدهر ثقيل على صدري حتى‬
‫ذاب الثلج وأصبحت الطرق صالحة للتـنقل ‪ ،‬فحملني‬
‫خالي على حمار مع بعض أمتعتي و ارح يقود الحمار‬
‫في طرق وعرة متسعة حيناً وضيقة أحياناً ‪ ،‬وتعلو‬

‫وتهبط بين أرض خض ارء حيناً وحم ارء أكثر الاحيان‪.‬‬

‫خرجنا عند الفجر ووصلنا مدينة بيسان ظه اًر ‪ ،‬بعد‬
‫أن أنجزنا عملية تعذيب ذلك الحيوان الذي لا يمت‬

‫لمشاكلنا بأدنى صلة ولكننا استضعفناه فعذبناه ‪.‬‬

‫‪149‬‬

‫وما أن سألنا أول شخص صادفناه حتى قادنا الى‬
‫بيت جدي ‪ ،‬أريناه رجلاً وقو اًر مهابًا جميل الطلعة‬
‫نو ارنيها ‪ ،‬وما أن أبصرنا ندلف بيته حتى قام لنا هاشًا‬
‫باشاً ‪ ،‬و ارح يوسعني ضماً ولثماً بعد أن لمح في‬
‫تقاسيمي صورة أبي ‪ ،‬وحملني بين يديه كأني سعفة‬

‫صغيرة يلوح بها في الفضاء قال ‪:‬‬

‫ــــ أنا أنتظر قدومك منذ أن سمعت بوفاة والدتك ‪،‬‬
‫الله يرحمها ‪ ،‬لكني ألع ُن اليوم الذي أنجب ُت فيه إبنًا‬

‫عاقاً كأبيك ‪.‬‬

‫بعد يومين أنست به ‪ ،‬وتركني خالي ــ ـوالدموع‬
‫تقطر من عينيه ـــ في عهدة جدي ورحل بكيت خلفه‬

‫دون شعور ‪.‬‬

‫كن ُت كمطر نزل على أرض قاحلة فاحياها ‪ ،‬اذ‬
‫بعد أيام قلائل عم الخير بيت جدي الشيخ ( الحاج‬
‫كما ينادونه اك ارمٍا لمنزلته الدينية) فقد انهالت عليه‬
‫العطايا والهدايا أكثر من أية سنة مرت ‪ ،‬وعرفت أن‬
‫هذه السنة كانت تعبر عن قوة الانسان في إستخ ارج‬

‫‪150‬‬


Click to View FlipBook Version