The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مجلة العروبة العدد 35 يناير 2023

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by nasserhariri6, 2023-03-04 15:43:42

مجلة العروبة العدد 35 يناير 2023

مجلة العروبة العدد 35 يناير 2023

العدد الخامس والثالثون يناير )كانون الثاني( 2023م جمادى اآلخرة ١٤٤4 هـ منرب للحوار املستنري الذي يثري الفكر والثقافة، ويعزز قيَم التقدم والحضارة، ويهتدي باملصلحة الوطنية والقومية، من هذا املنطلق فإن املقاالت املنشورة تعّب عن رأي كتابها وليست بالرضورة ً إنعكاسا ملوقف نادي العروبة الذي يؤمن بحرية الرأي اآلخر ... مجلة ثقافية دورية تصدر عن نادي العروبة رقم التسجيل : SAR022 أعضاء هيئة مجلة العروبة : األستاذ جليل جعفر زبر د. حسن عيل العايل األستاذ عبدعيل عبدالشهيد الغرسة األستاذ عبدالرضا إبراهيم طوق األستاذ سند محمد املاكنة عىل العنوان التايل ص.ب: 337 املنامة - مملكة البحرين هاتف: 17728882 @orubaclub [email protected] املراسالت باسم هيئة التحرير مثن العدد : دينار واحد أو ما يعادله تصميم وتنفيذ : أ. حسن املؤمن ّ قصيدة سجل أنا عربي للشاعر الفلسطيني محمود درويش املراجعة اللغوية : األستاذ عيىس آل طوق اللوحة للفنان األستاذ إبراهيم الغانم


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 3 الفهرس


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 5 هيئة التحرير يتزامن صدور هذا العدد من مجلة العروبة ً مع استقبالنا عام ً ا جديدا نتطلع فيه بإذن الله تعاىل إىل أن يكون عام خري وسعادة وسالم عىل بلدنا وشعبنا وعىل أمتنا العربية واإلنسانية جمعاء. وكما يالحظ القارئ الكريم فإن هذا االصدار الجديد الذي بني يديه قد تأخر عن موعد ًا أطول مما كنا نتوقعه يف هيئة صدوره زمن التحرير وذلك يعود إىل أسباب عديدة ال مجال ً هنا للخوض يف تفاصيلها. من هنا بات لزاما علينا أن نؤكد حرصنا الكبري عىل إنتظام صدور األعداد القادمة يف وقتها املحدد، وتجاوز كل العقبات التي يمكن أن تحول دون هذا الهدف املنشود يف املستقبل. نقول ذلك ألننا نرى أهمية أن تكون ”مجلة العروبة“ أولوية يف الربنامج الثقايف للنادي وصورة مكملة لألنشطة والفعاليات املختلفة التي بدأت تلمس طريقها من جديد بعد انقطاع دام أكثر من عامني بسبب جائحة ”كورونا“ التي اجتاحت العالم وأثرت عىل مختلف مناحي الحياة فيه. وها هو النادي يستعيد بعض أوجه نشاطاته الثقافية واالجتماعية ً والشطرنجية أيض ً ا، عاقدا العزم عىل مواصلة هذه الفعاليات التي تنظمها اللجنة الثقافية رحبًا كل الرتحيب بمشاركة أعضائه ِّ ُوم وأصدقائه وضيوفه الكرام، يف رفد املشهد الثقايف العام يف وطننا العزيز ... فهذا األمر يمثل لنا يف مجلس إدارة نادي العروبة أحد أهم الهواجس الذي يشغل تفكرينا ويدفعنا للبحث عن مسارات تنفيذها. ومع كل ذلك، وما يواجهنا من معوقات وعوائق، تبقى قلة مشاركة جيل الشباب، وحضورهم ملختلف الفعاليات، واملبادرة يف تقديم كل ما هو جديد ومبدع لهو الهاجس األكرب الذي يقلق إدارة ّ النادي ... من أجل التصدي وتحمل مسئولية قيادة هذا النادي العريق يف استكمال ُ رسالته ومسريته املضيئة ثقافيًا واجتماعيًا ووطنيً ً ا... حارضا ومستقبًل. هيئة التحرير االفتتاحية االفتتاحية هيئة التحرير


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 6 د. يوسف مكي توطئة : نستخدم مفهوم النظام الدويل، يف هذا الحديث، بشكل مجازي، ذلك أن مفهوم الدولة، هو مفهوم معارص، ارتبط بالثورات االجتماعية والتحوالت السياسية التي شهدتها القارة األوروبية، بعد الثورة الفرنسية عام 1789م. وما ساد قبلها هو امرباطوريات وممالك وإمارات وسلطنات، ال تستمد قوتها من عالقات تعاقدية، بل من عنرص القوة وحده، يفرض املنترص فيه سطوته داخليًا وخارجيًا. وكانت مفاهيم االستقالل والسيادة وعدم جواز التدخل يف الشؤون الداخلية للبلدان األخرى، غريبة، عىل النظم السياسية التي سادت قبل اقرار مبدأ التعاقد وتداول السلطة والفصل بني السلطات. مثلت اتفاقية ”ويستفاليا“ املوقعة يف 24 أكتوبر عام 1648م، انتقاًل رئيسيًا يف املفهوم األوروبي، حيث تبنت حق الشعوب يف االستقالل والسيادة وعدم جواز التدخل يف الشؤون الداخلية للبلدان األخرى. لكن تلك االتفاقية اقترصت عىل القارة األوروبية وحدها، ولم تشمل القارات القديمة األخرى. د. يوسف مكي النظام الدويل املرتقب والواقع العربي النظام الدولي المرتقب والواقع العربي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 7 وقد أسهمت اتفاقية ”ويستفاليا“ بشكل كبري، يف توقف الحروب املريرة والطويلة بأوروبا. ووضعت املقدمات لشيوع مبدأ إنساني عاملي، هو حق األمم يف االستقالل، ضمن حدود معرتف بها، وتقرير املصري، الذي أقرته عصبة األمم، بعد الحرب العاملية األوىل، عام 1919م، وأعيد التأكيد عليه بعد تأسيس هيئة األمم املتحدة، بعد الحرب العاملية الثانية عام 1945م. وال تزال الشعوب املقهورة تناضل من أجل تثبيت وترسيخ تلك املبادئ. كان الدافع لتوقيع اتفاقية ”ويستفاليا“، هو إدراك املوقعني عليها، أنه ليس من سبيل لوضع حد للحروب الطويلة التي عاشتها قارتهم، إال باالعرتاف بما يمكن وصفه باألمر الواقع. وهكذا فاملفهوم السائد لدينا اآلن للنظام الدويل، هو يف األصل، أوروبي النشأة، جرى بموجبه االعرتاف بالحدود القائمة بني الدول األوروبية وحق السيادة، وعدم جواز تدخل أي دولة يف الشؤون الداخلية للدول األخرى. النظام الدويل والحرب : يؤكد الرصد التاريخي، أن االمرباطوريات ً تصيغ سياساتها، استنادا عىل جملة من املعطيات الذاتية واملوضوعية، وينفذ السياسيون أجنداتهم، بكل ما هو ممكن، وكل يشء مباح. فالتلويح بالجزرة والعصا، أداة ال يرتدد القادة السياسيون يف استخدامها، بما يف ذلك شن الحروب متى ما مكنتهم من تنفيذ أهدافهم. والحروب تشن لتحقيق غايات سياسية، حيث يفرض الطرف املنترص رشوطه من خالل فوهات البنادق، بما يعني أن الحروب أدوات يف خدمة السياسة، وتشن يف العادة من أجل السيطرة عىل املواد الخام والتحكم يف املمرات واملعابر االسرتاتيجية. ويرى بعض املفكرين أن الحروب تشن مدفوعة بنوازع التوسع، أو بسبب ندرة املوارد أو األزمات الداخلية. وإن الحكومات التي تتعرض ألزمات داخلية حادة تلجأ لشن حروب خارجية من أجل تسعري املشاعر القومية، بإيجاد عدو خارجي يجتمع حول مواجهته جميع األفراد. وليس كافيًا أن تكون القوة العظمي هي األقوى اقتصاديًا، بل إن الحرب رشط الزم لتتويج هذه القوة عىل رأس صناعة القرارات األممية وتأسيس نظام عاملي جديد. فهذا النظام يصنعه يف الغالب املنترصون، كما حدث يف الحربني الكونيتني. بمعنى أخر إن النظم الدولية التي برزت حتى اآلن، قد خرجت من رحم حروب كربى عىل رأس قائمتها الحربان العامليتان. اإلمرباطوريات الفاشلة يتأكد فشلها بهزائم ماحقة تلحق بجيوشها. ويأتي الفشل يف الحرب إعالنا لنهاية وجودها، كما حدث مع االمرباطوريات القديمة، وكما هو مع سقوط السلطنة العثمانية، حيث أطلقت الحرب العاملية األوىل رصاصة الرحمة، التي أنهت النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 8 حقبة الرجل املريض باألستانة. ويف أحسن الحاالت، يكون عىل املهزومني أن يقبلوا بحالة االستتباع لألقوى، كما هو الحال مع دول أوروبا الغربية، التي باتت تحت املظلة النووية، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. يف االمرباطوريات القديمة، لم يكن هناك ً تعريف متفق عليه ملا بات يعترب نظاما دوليًا بالعرص الحديث. وسبب ذلك يعود لغياب املؤسسات الناظمة للعالقات الدولية، كما هو الحال مع عصبة األمم، وهيئة األمم املتحدة، املؤستتان اللتان تشكلتا يف القرن املايض. وكان التمدد والتوسع واالنكماش يف جغرافية االمرباطوريات القديمة، محكوم بالقوة، وليس هناك أي مانع قانوني أو أخالقي يحول دونه. وقد ظلت مرشوعية الهيمنة والتوسع، محكومة فقط بما عرف بحق الفتح. يف العرص الحديث، وتحديدا بنهاية العقد الثاني من القرن املايض، تأسس النظام العاملي، إثر انتهاء الحرب العاملية األوىل. وتمثلت مقدمة االفصاح عن شكل النظام الدويل املعارص، يف إعالن الرئيس األمريكي ”ويدرو ويلسون“ الوثيقة العاملية لحقوق اإلنسان، ببنودها األربعة عرشة. وقد أكد اإلعالن عىل حق األمم يف تقرير املصري، واحرتام سيادة الدول، واعتبار االستعمار ً ً ا وغري أخالقي. وأيضا عىل حق عمًل مقيت الشعوب يف الحرية، واحرتام حرية الرأي واالعتقاد. واعترب هذا اإلعالن، الذي صادقت عليه عصبة األمم فيما بعد، مرحلة جديدة ُ يف التاريخ اإلنساني، حيث ألغ َي حق الفتح، الذي كانت بموجبه االمرباطوريات تتوسع وتنكمش وفقا لقدراتها العسكرية، النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 9 دون أيَّمــا اعتبـار للمبـادئ والقـيم. النظام الدويل، الذي تشكل يف العرص الحديث، لم يخرج عمليًا عن قانون حق الفتح، وإنما تمت عقلنة هذا القانون، بما تم التوافق عليه باألطر الناظمة للعالقات بني الدول. وتغيري هذا النظام، مرتبط بتغيري الفاعلني الدوليني، والبيئة التي تتم فيها العالقات ً الدولية، وفقا ملصالح أصحاب القوة والنفوذ. وعىل هذا األساس، فإن تشكل النظام الدويل، ال يتحقق بالرتايض والقبول، بل يخرج من رحم الرصاعات والحروب، وعىل ضوء نتائج هذه الرصاعات، يفرض املنترص رشوطه، ويُحدد شكل النظام الجديد، وليس عىل أولئك الذين رفعوا راية االستسالم سوى القبول به. انتهت الحرب العاملية األوىل، بنشوء عصبة األمم التي تبنت وثيقة ويلسون، لكنها يف ذات الوقت استعاضت عن االستعمار الذي أدانته بمسميات الحماية والوصاية واالنتداب، َّ حيث أن الهدف املعلن هو األخذ يناصية شعوب العالم الثالث، نحو التقدم والنماء. ً بمعنى أن زمن االحتالل ليس مفتوحا، بل هو رهن لزمن محدد، ريثما تستكمل القوى الصاعدة الجديدة ممثلة يف اليانكي األمريكي قبضتها وتخلق الظروف املناسبة إلزاحة االستعمار التقليدي، والحلول محله. ّ وقد مكن وجود االنتداب الربيطاني لفلسيطني، لوضع ”وعد بلفور“ بإقامة وطن قومي لليهود فيها موضع التنفيذ. ولم يكن تشكيل عصبة األمم سوى مرحلة قصرية، بسبب ترنح االستعمار التقليدي، وثقل أزماته االقتصادية والسياسية. ومن جانب آخر، أدت اتفاقية ”سايكس- بيكو“ بني الربيطانيني والفرنسيني، إىل تقسيم املرشق العربي. لم يكن النظام العاملي الذي تأسس عقب الحرب العاملية األوىل، كما أرشنا، سوى محطة انتقال قصرية، ليتبعها تحوالت كربى يف موازين القوى الدولية، بدأت مؤرشاتها بعد الحرب مبارشة، فربيطانيا وفرنسا خرجتا من الحرب مثقلتني بالديون. وكان اليانكي األمريكي يستعد للخروج من املحيط إىل قلب العالم، وإزاحة االستعمار التقليدي وأخذ مكانه، فيما بات معروفا باالستعمار الجديد. وقد أكدت األزمة االقتصادية العاملية الحادة التي برزت منذ عام 1928م، أن العالم بأرسه، عىل أعتاب تحوالت سياسية كربى، وأن مسألة اندالع حرب عاملية أخرى، ليست سوى مسألة وقت. لقد شهد العرص الحديث انبثاق نظامني دوليني، األول بعد الحرب العاملية األوىل، حيث تأسست عصبة األمم، وكانت نتائج الحرب وما تمخض عنها من اختالل يف موازين القوى االقتصادية والعسكرية والسياسية لالستعمار التقليدي، قد أكدت بما ال يقبل الجدل أن النظام الدويل الذي انبثق عن الحرب هو نظام مؤقت، وقد عربت مبادئ ويلسون ودوره يف تأسيس النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 10 عصبة األمم وصياغة مبادئها بشكل رصيح، عن محدودية زمن هذا النظام. فيما بني الحربني تمدد النفوذ االقتصادي األمريكي ليشمل جميع قارات الكرة األرضية، يف شكل رشكات احتكارية، ومؤسسات متعددة الجنسية. وباملثل كان االتحاد السوفيتي يشق بقوة طريقه السيايس والعسكري، ويضم أرايض لم تكن ضمن األرايض الروسية أثناء الحقبة القيرصية. لم يكن غريبا، أن تبدأ نذر الحرب العاملية الثانية، قبل أقل من عقدين عىل انتهاء الحرب الكونية األوىل. لقد كان هناك ما يشبه اإلجماع الدويل عىل أن الحرب العاملية األوىل هي حرب لم تكتمل، ألنها لم تعكس حقائق القوة العاملية آنذاك، والتي مثلها خروج اليانكي من خلف املحيط، والصعود الكبري لدور االتحاد السوفيتي. انتهت الحرب العاملية الثانية، بهزيمة أملانيا عام 1945م، بعد اجتياح واسع للقوات السوفييتية من الرشق إىل الشطر الرشقي من برلني، ووصول القوات األمريكية إىل شطر املدينة الغربي، وباتت هذه املدينة منذ ذلك الحني حتى نهاية الحرب الباردة، نقطة فاصلة بني الرشق والغرب. فالدول الواقعة يف رشقها باتت من حصة االتحاد السوفيتي، مثلت الكتلة االشرتاكية، وعّب ”حلف وارسو“ عن حضورها العسكري، أما الجزء الغربي فعرف بالعالم الحر الرأسمايل وتجسدت قوته العسكرية يف ”حلف الناتو“. يف كال الحربني هناك مهزومون ومنترصون، واملنترصون وحدهم من حدد شكل النظام الدويل الجديد، املنبثق عن نتتائج الهزيمة، بمعنى أخر تأسس النظامان بعد الحربني العامليتني األوىل والثانية، ليس بالرتاكم السيايس واالقتصادي، ولكن بالرضبة القاضية. وكانت أهم مالمح هذا النظام العاملي، أن قوامه دولتان تتصارعان عقائديًا وسياسيًا وعسكريًا، وتختلف مناهجهما ُ االقتصادية وطرق ممارستهما يف الحكم. وقد أدى ذلك إىل اشتعال تنافس محموم، استمر قرابة أربعة عقود ونصف، وتسبب يف أزمات مستعصية بني البلدين بلغت قمتها بالحرب الكورية، وأزمة الصواريخ الكوبية، والحرب يف الهند الصينية، بفيتنام والوس وكمبوديا، وبلغت حدة الرصاع بني القطبني املتنافسني، حافة الحرب النووية عدة مرات. وتم توصيف العالقة بني البلدين طيلة تلك الحقبة بالحرب الباردة. والخالصة أن حقائق القوة الدولية الجديدة، فرضت يف نهاية املطاف لغتها، وأجربت الغرماء املهزومني عىل العودة إىل طاولة املفاوضات، وتشكيل خريطة العالم، عىل ضوء حقائق هذه القوة. وذلك ما أثبتته نتائج الحربني الكونيتني، يف القرن العرشين، كما يف ”معاهدة فرساي“ بعد الحرب العاملية األوىل، و“مؤتمر يالطا“ بعد النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 11 الحرب العاملية الثانية. وقد أقرتا وجود مناطق نفوذ للقوتني الرئيسيتني، يعترب ُ التعدي عليهما تجاوزا للخطوط الحمر. مرحلة ما بعد سقوط حائط برلني : وكما كانت برلني نقطة البداية يف التقسيم بني الرشق والغرب، كان سقوط حائط املدينة ًا يف نهاية الثمانينيات من القرن املايض، إعالن بانتهاء الحقبة السوفيتية، ونهاية للحرب الباردة، وتربع الواليات املتحدة عىل عرش الهيمنة الدولية. َّ بعد انتهاء الحرب الباردة، مر العالم بأرسه بمرحلة انفالت سيايس واقتصادي، وتأسست منظومات اقتصادية جديدة عىل رأسها ما ً بات معروفا بالعوملة، ومنتدى املستقبل، ومنظمة التجارة العاملية، وجميعها تعكس هيمنة القطب األوحد، لكن لحظة التتويج للواليات املتحدة كقطب عاملي أوحد، تحقق بعد هزيمة الجيش العراقي يف حرب الخليج الثانية بقيادة أمريكا، وبزعامة الرئيس جورج بوش األب، وكانت مرحلة استثنائية يف ّ التاريخ اإلنساني، لم تعمر طويال، فالعالقات الدولية حني تنفرد بالهيمنة عليها قوة وحيدة تعيد حضور قانون الغاب، ويختل فيها األمن ويسود فيها االنفالت، وتعبّد الطريق النتشار َّ ظواهر اإلرهاب والتطرف، وإن هيمنة قطب واحد عىل القرارات األممية، نشاز يف تاريخ البرشية. وقد كشفت نهاية الحرب الباردة، أن األزمات االقتصادية والسياسية قد تؤديان باإلمرباطوريات، كما حدث بالنسبة لالتحاد السوفيتي السابق، حيث مثل سقوط جدار النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 12 برلني اإلعالن عن نهاية الحرب الباردة، ُمعبدا الطريق للسقوط املدوي لالمرباطورية السوفيتية وللكتلة االشرتاكية، إال أن من الصعب تغييب دور الفشل العسكري لهذه االمرباطورية يف أفغانستان. ومنذ بداية التسعينيات من القرن املايض، انتهت فاعلية النظام الدويل الذي ساد مبارشة بعد نهاية الحرب العاملية الثانية، ولم ينبثق نظام دويل جديد بديل عنه، يعكس حقائق القوة يف حينه، وبسقوط االتحاد السوفيتي، والكتلة االشرتاكية، سادت حقبة مظلمة يف التاريخ اإلنساني، اتسمت بغياب التنافس الدويل، وهيمنة قطب صلف ومتغطرس أوحد عىل صناعة القرارات األممية. وألن الواقع الجديد لم يستند عىل تسويات تاريخية، بل يُ ً عترب نشازا يف التاريخ اإلنساني لم يكن له أن يستمر طويًل. لم يمض عىل هيمنة اليانكي، سوى ثالثة ً عرش عاما، حتى بدأت التحديات تواجهه من كل صوب، وكانت بداية التحدي قد جاءت من الغرب، ومن حليف ألمريكا وعضو يف حلف الناتو، حني هددت الحكومة الفرنسية باستخدام حق النقض يف مجلس األمن عام 2003م، إذا ما صدر قرار أممي يجيز الحرب عىل العراق واحتالله. ثم كرت السبحة وبدأت الصني يف تحدي القرارات األمريكية، وكان أشهر املواقف الصينية املتحدية للهيمنة األمريكية هو اإلنذار الصيني باحتالل ”فرموزا“، يف حال لم ِ توقف إدارة الرئيس ”بل كلينتون“ صفقة الطائرات املتطورة، التي أعلنت عن عزمها تزويدها للصني الوطنية، وكان ذلك سببا يف تراجع كلينتون عن تلك الصفقة وإلغائها. ً املحطة األكثر وضوحا، يف تحدي السياسة األمريكية، هي املوقفني الرويس والصيني، من األزمة السورية، واستخدامهما حق النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 13 النقض يف مجلس األمن الدويل عدة مرات إلبطال قرارات عن املجلس، تتعلق باألزمة وتقف خلفها اإلدارة األمريكية. امللمح اآلخر، لتحدي السياسة األمريكية ّ هو تغول ظاهرة اإلرهاب وانتشارها بشكل أفقي، يف عدد كبري من البلدان يف آسيا وأفريقيا وأوروبا ويف قلب الواليات املتحدة ذاتها، وكان ذلك هو التعويض العميل والطبيعي، عن تراجع حروب الوكالة، وعدم القدرة عىل املواجهة العسكرية املبارشة، بني القوى الكربى بسبب امتالكها لسالح الرعب النووي، ولم يكن لهذه الظاهرة أن تنترش إال يف ظل غياب التوافقات والتسويات السياسية بني الدول. تم استخدام منظمات اإلرهاب، من كثري من الدول رغم التناقض والتنافس يف سياساتها، وباتت جاهزة لإليجار لكل من ً هب ودب، وقد لعبت دورا كبريًا يف الدمار والخراب، الذي عم ليبيا وسوريا، فيما ً بات معروفا بالربيع العربي، ولم يكن لها أن تلعب هذا الدور، إال يف ظل االنفالت األمني الدويل الذي ساد بسبب تعطل دور املؤسسات الناظمة للعالقات الدولية. ويرجع كثري من املحليني التطور الذي طرأ عىل مجرى األحداث يف السياسة الدولية، الذي تمثل يف التحدي الرويس الصيني، املتكرر لسياسات واشنطن، إىل الصعود االقتصادي الكاسح للصني، وعودة روسيا بقوة للمرسح ً الدويل، وأيضا تأسيس منظومات اقتصادية وسياسية جديدة كمنظومة ”شنهغاي والربيكس“. لكن عودة التعددية القطبية ُ رغم وجود سالح الرعب النووي، لن تكون استثناء عن قوانني التاريخ، فهذه العودة لن تكون حقيقية ما لم تتوج بنرص عسكري حاسم تحققه روسيا أو الصني الشعبية، يف ميدان أو أكثر من ميادين الرصاع الدويل. ولعل هذه القراءة تفرس لنا أسباب عودة روسيا القوية لعدد من جمهورياتها السابقة، واستعادتها لشبه جزيرة القرم عام 2014م، والتدخل العسكري يف سوريا، للقضاء عىل اإلرهاب والحرب األوكرانية الراهنة. ومنذ أكثر من عقد من الزمن، تكرر الحديث من مسؤولني ومفكرين أمريكيني، ومحليني سياسيني آخرين عن بداية مرحلة تتسم بالتعددية القطبية، ومن ضمنهم ”صامويل هانتجتون“ صاحب فكرة رصاع الحضارات الذي أقر بنهاية حقبة األحادية القطبية، ُ لكنه أرص عىل أن العالم الجديد متعدد األقطار سيظل بقيادة أمريكية. الرصاعات املحتدمة حاليًا ال يحكمها منطق األيديولوجيات، بل الرصاع عىل النفوذ والثروات، واملواد الخام، ولن يتم حسمها من خالل التعاون والتنسيق بني الدول واملواثيق التي تؤكد عىل ضمان السلم، وعدم التدخل يف الشؤون الداخلية للدول املستقلة، بل برصاع االرادات واالختالل يف موازين القوة، واعراف النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 14 صناع القرارات األممية، بأن ما ساد بالعقود األربعة املنرصمة، لم يعد يملك قابلية ً االستمرار، وأن نظاما دوليً ً ا جديدا يعكس حقائق القوة الراهنة، بمختلف تشعباتها، يف طريقه لالنبثاق. املشهد الجيوسيايس الراهن، ييش بتحوالت كربى عىل مجرى السياسة الدولية، فروسيا عززت حضورها العسكري يف الجمهوريات السابقة لالتحاد السوفيتي يف ”جورجيا والشيشان وبيالروسيا وأرمينيا“ واستعادت شبه ”جزيرة القرم“، وتتجه لتحرير البقية الباقية ”إلقليم دونباس“، وقد عمقت تحالفها مع الصني الشعبية. والصني تسللت بقوة للقارة السوداء، وأمريكا وأوروبا ً الغربية تعمل جهارا عىل محارصة االتحاد الرويس. ويف املنطقة العربية رغم الخراب والدمار وفرض الحصار فشلت محاولة تنفيذ أجندات التفتيت املؤجلة منذ الحرب العاملية األوىل، واملستندة عىل تشكيل كيانات ما قبل تاريخية، إثنية وطائفية. إن الصعود الكبري لالقتصاد الصيني، والتعايف الرسيع لروسيا، ونمو القدرات العلمية الهندية، واألزمة االقتصادية التي يمر بها العالم، بسبب ”وباء كورونا“، تيش باقرتابنا من نهاية حقبة الفوىض واالنفالت الدويل، التي سادت خالل العقود الثالثة املاضية، بعد انهيار اإلتحاد السوفيتي، وعىل ً أنقاضها ستشهد البرشية فجر ً ا جديد ً ا واعدا. الحرب األوكرانية وتداعياتها : أحداث يف التاريخ اإلنساني، تكتسب أهميتها يف كونها تمثل انتقاًل مفصليًا يف توازن القوى الدولية. الحرب التي تدور رحاها يف أوكرانيا، يمكن وضعها بامتياز ضمن تلك األحداث ولم يجانب الرئيس األمريكي بايدن، وال الرئيس الرويس بوتني، وعدد آخر من القادة األوروبيني الصواب، حني أكدوا عىل أن العالقات الدولية فيما بعد هذه الحرب ستتغري جوهريًا، وأن ما بعد الحرب عىل أوكرانيا، ليس كما قبلها. وليس باملستبعد ّ أن تسطر نتائج الحرب شهادة الوفاة للنظام العاملي الذي ساد بعد نهاية الحرب الكونية الثانية ولينبثق من رحم أحداثها نظام دويل، يعكس الحقائق الجديدة لتوازنات القوة. فهذه الحرب رغم أنها تدور بني روسيا وأوكرانيا، لكنها تكاد تكون مبارشة بني الرشق والغرب. واالتحاد الرويس أشعلها للحيلولة دون إنضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ولعدم تمكينها من حيازة أسلحة نووية. انفرط عقد االتحاد السوفيتي يف مطالع التسعينيات من القرن املايض، وأعلنت جمهورياته االستقالل وتحمس الغرب لذلك، وكانت أوكرانيا ضمن الدول التي أعلنت استقاللها، وباملثل انفرطت الكتلة االشرتاكية، وفقد حلف وارسو الذي يجمعها مربرات وجوده. ومنذ ذلك الحني باتت العالقة بني أمريكا وروسيا توصف بالرشاكة، وتعهد النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 15 الرئيس األمريكي جورج بوش، ومن بعده ِبل كلينتون للرئيس الرويس بوريس يلتسون ً بعدم تمدد ”حلف الناتو“ رشقا، لكن لقانون القوة أحكامه، فالغرب املنترص مزق تعهده لروسيا وبدأ بضم بلدان الكتلة االشرتاكية والجمهوريات السوفيتية السابقة إىل حلف الناتو واالتحاد األوروبي. لم يكن بمقدور االتحاد الرويس املثقل لحظة تأسيسه بأزماته السياسية واالقتصادية، أن يواجه الطموحات األمريكية يف التوسع، ولم يكن بمقدور أمريكا مغالبة جموح القوة. األمور تغريت كثريًا منذ نهاية العقد األول من هذا القرن، فالدب القطبي استيقظ برسعة من سباته، وعاد بقوة للمرسح الدويل، يسعفه يف ذلك وجود قيادات شابة تعهدت باستعادة الكرامة الروسية التي طعنت بالصميم، بتفكيك االتحاد السوفيتيي، وتفرد أمريكا بالهيمنة عىل العالم. رفضت روسيا بوتني القبول بسياسة األمر الواقع وعارضت ضم جمهوريات االتحاد السوفييتي السابقة ً للناتو، ألن ذلك سيجعل منها سيف ً ا مسلطا فوق رقبة روسيا، وهددت بأنها ستستخدم كل الوسائل للحيلولة دون ذلك بما يف ذلك العمل العسكري. الحرب التي تدور رحاها اآلن، سببها تمسك أوكرانيا باالنضمام لحلف الناتو، ومطالبتها بنصب صواريخ برؤوس نووية فوق أراضيها، ً وأيضا بروز نزعة نازية عدائية أوكرانية لروسيا ولثقافتها ومواريثها التاريخية. وقد تسللت النزعة العنرصية ضد روسيا يف الفرتة األخرية لدول أخرى بالقارة األوروبية. ً والحرب وفقا لهذه القراءة، لم تكن مفاجئة للمتابعني ملجريات األحداث، وضمنها رفض إدارة الرئيس األمريكي بايدن تقديم ضمانات النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 16 لروسيا، بعدم التمدد العسكري، والتوقف عن تهديد مصالح روسيا االسرتاتيجية، ورفض االتفاق عىل تبني سياسة مشرتكة عىل قاعدة توازن األمن يف القارة األوروبية، وانتهاج سياسة يف التعامل مع روسيا، عمادها التكافؤ والندية واملساواة. روسيا تعترب الحرب، فرصة إلعادة تشكيل الخريطة األوكرانية، بانتزاع ”إقليم دونباس“ من أراضيها، وتسهيل حضورها بالبحر األسود، وتتطلع إىل أوكرانيا منزوعة السالح وإىل اسدال الستار نهائيًا عىل أي تطلع أوكراني مستقبيل لالنضمام لالتحاد األوروبي ولحلف الناتو. كان من املتوقع أن يحسم الروس هذه املعركة خالل األيام األوىل من الحرب، لكن طول أمد استمرارها يحرج الدول الغربية كثريًا، ويجعلها يف نظر الجميع، رغم كل ما تقدمه من دعم عسكري متخاذلة يف نرصة حليف يقاوم الجيوش الروسية برشاسة، ولذلك وجدنا األمريكيني واألوروبيني يتدافعون حتى قبل اندالع الحرب لتقديم املعدات العسكرية ألوكرانيا التي تجاوزت قيمتها قرابة ترليون من الدوالرات. والخالصة أن العالم يف السنوات األخرية مر بمرحلة انتقال يف موازين القوة االفتصادية والعسكرية والسياسية الدولية، والرصاعات والحروب اإلقليمية واملحلية التي تأخذ مكانها يف عدد كبري من البلدان، يف هذه املرحلة ووقوف واحدة أو أكثر من القوى الكربى خلفها، هو ما يعكس حدة الرصاع بني هذه القوى عىل طريق صياغة مالمح النظام الدويل املرتقب. العرب والتغريات يف موازين القوى الدولية : ً ليس جديدا القول بأن منطقتنا العربية، بقيت دائما يف القلب من التحوالت السياسية واالسرتاتيجية، التي تجري فوق كوكبنا األريض، وكانت عوامل قوتها لألسف من أسباب ضعفها، والحديث عن عنارص القوة هو حديث عن ثقل الجغرافيا والتاريخ، وليس من أمة بني األمم عانت من ثقيل الجغرافيا والتاريخ كما عانت األمة العربية. والحديث عن الجغرافيا، هو حديث عن الثروات الطبيعية، واملواد الخام واإلمكانيات الزراعية، وهو حديث عن البحار، والثروات الكامنة فيها، وعن املمرات واملعابر االسرتاتجية، أما التاريخ فليس مجرد سجل راكد لرتاكم األحداث، بل إنه حكاية ما تختزنه األمة من تراكم حضاري وإبداعات وعطاء إنساني، وهو أيضا استيعاب موضوعي خّلق لقوانني حركته، ووضعها يف سياق الحارض واملستقبل. األمة العربية، مثقلة بجغرافيتها وتاريخها، وكالهما من الثراء بما يفوق كل تصور، فهي ملتقى القارات الثالث، وهي طريق الحرير، واملنطقة العازلة بني املياه الدافئة واملياه املتجمدة، وهي صحارى ووديان وواحات النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 17 وجبال وخلجان ومحيطات، وبها أكرب مخزون يف العالم لعصب الصناعة الحديثة، ومضائقها وممراتها البحرية اختزلت املسافات بني الرشق والغرب. أما تاريخها فقد ظل منذ سقوط الدولة العباسية ثقال كبريًا عليها، وتكفي اإلشارة إىل أن جميع األديان السماوية انطلقت من أرضها. لذلك كله كان العرب يف القلب من كل التغريات يف موازين القوة الدولية. وألنهم يف حال ضعف وعجز، لم يتمكنوا من تقرير أقدارهم يف كل التسويات والقسمة التي جرت بني صناع القرار الكبار، منذ سقوط السلطنة العثمانية حتى يومنا هذا. مرت أكثر من مائة عام عىل توقيع اتفاقية ”سايكس – بيكو“ التي قسم بموجبها املرشق العربي، وصدور وعد بلفور للصهاينة بتأسيس وطن قومي لليهود فوق فلسطني، ومنذ ذلك الحني حتى يومنا هذا والخرائط السياسية العربية تكتسب مرشوعيتها من ً خرائط لم تكن من صنعها، ولم تتم وفقا إلرادتها، بل إن رسم تلك الخرائط لم يأخذ بعني االعتبار حقائق الجغرافيا، والتاريخ، بل خضع ألطماع ومصالح املنترصين. ً لقد قبلنا جميعا بتلك الخرائط التي رسمت كياناتنا الوطنية وحددت شكل عاملنا ...قبلنا عىل مضض بالحدود املصطنعة، لكن قوى النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 18 الهيمنة لم تكتف بذلك، لقد ركزت الخرائط ّ التي فصلها االستعمار التقليدي للمرشق العربي بعد الحرب العاملية األوىل عىل املصالح والطريق لدرة التاج الربيطاني، وعىل املعابر واملمرات االسرتاتيجية، وعىل الثروات، ولكنها تجاوزت البرش، فقد تم النظر للسكان األصليني ككتل هالمية مهملة، لكن تجارب ما بعد الحرب الكونية األوىل أكدت رغم الواقع املأساوي الذي أحدق باألمة أن هؤالء البرش لديهم من املحفزات واإلرث الحضاري ما يجعلهم عصيني عىل رفع الرايات البيضاء، فكان االعرتاف بوجودهم ضمن واقع التجزئة هو املقدمة الالزمة للقضاء عىل أية محاولة مستقبلية لالنعتاق والتحرر، فبعد التفتيت والتمكن من الجغرافيا كان ال بد من تدمري التاريخ واسقاط املخزون الحضاري أو تشويهه، ولم تكن من وسيلة ناجعة لتحقيق ذلك أكثر من تدمري عنارص الوحدة والتماهي واستثمار التنوع الديني واملذهبي واإلثني، الذي يفرتض فيه أن يكون عامل إثراء وتخصيب حضاري لألمة ًا يف خارصتها، من خالل بعث ليكون إسفين الهويات ما قبل التاريخية، من هنا كان ترصيح الرئيس األمريكي هاري ترومان إثر نهاية الحرب العاملية الثانية بأن خرائط ”سايكس- بيكو“ تجاهلت حقوق املظلومني من األقليات الدينية واإلثنية، وأنه حان الوقت إلعادة تشكيل الرشق االوسط عىل أساس القسمة الطائفية واإلثنية، لكن ظروف ما بعد الحرب الكونية الثانية واشتعال الحرب الباردة، عطلت مرشوع ترومان. وكان سقوط حائط برلني، وتذرر االتحاد السوفيتي والكتلة االشرتاكية، وانتهاء الحرب الباردة، فرصة الستعادة مرشوع ترومان يف بعث الهويات الطائفية، وكان العراق البلد الذي يضم مقومات دينية ومذهبية وإثنية، هو البلد املثايل الختبار هذه التجربة وتحقق ذلك عمليا، منذ عام 2003م، حني سقطت عاصمة العباسيني بغداد، وكانت الهجمة كما جرت تداعياتها هجمة موجهة وبشكل مبارش ضد الجغرافيا والتاريخ، من خالل الفساد والنهب ومصادرة الثروات، وتدمري صيغة االندماج بني مكونات املجتمع الواحد، ليتحول العراق العظيم إىل موطن لكانتونات الطوائف واإلثنيات املتصارعة مع بعضها البعض، لم يكن ذلك ليحدث لو لم تتغري موازين القوة الدولية، وينفرد اليانكي األمريكي بالهيمنة عىل مفاتيح صناعة القوة ومؤسساتها، بما يف ذلك الهيئات واملؤسسات الناظمة للعالقات الدولية، ومن ضمنها هيئة األمم املتحدة ومجلس األمن الدويل. وهكذا رأينا أن أي تحول يف موازين القوة الدولية هو استثمار لثقل جغرافيتنا وتاريخنا بالضد من مصالحنا وحقنا يف تقرير املصري، وهكذا باتت نتائج الحرب العاملية األوىل بالنسبة لنا هي سايكس- بيكو ووعد بلفور، النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 19 واالنتداب والحماية والوصاية، كما كانت نتائج الحرب العاملية الثانية تعني بالنسبة لنا، ًا يف خارصة تشكيل الكيان الصهيوني، إسفين األمة يحول دون حقها يف التقدم والوحدة والنماء، والتقاء العرب يف مرشقهم ومغربهم. وقد عنت نهاية الحرب الباردة بالنسبة لنا احتالل العراق وتدمري قوته العسكرية، وتوسع الصهاينة يف االستيالء عىل الثروة املائية من بحرية طربية ونهر الريموك، ومضاعفة بناء املستوطنات والجدران العازلة، واالستيالء بالقوة عىل املزيد من األرايض الفلسطينية، كما عنت انطالق ً ما بات معروفا ”بالربيع العربي“ لتصادر أوطان ولتبعث هويات التطرف والتكفري، وليُعاد ملرشوع ترومان الذي برش به قبل أكثر ً من سبعني عاما من اآلن ألقه وحضوره. والسؤال الجوهري بالنسبة لنا كعرب هو أين موقعنا فيما يجري من حولنا من تحوالت سياسية كربى؟ وهل قدرنا أن نظل خارج حركة التاريخ؟! كيف ألمم أخرى مثل أملانيا واليابان مرت بهزائم مريرة ورفعت راية االستسالم ومن ثم تنهض من كبوتها بشكل رسيع؟ بل إن تركيا التي توحد العرب مع الغرب النهاء سلطنتها العثمانية والتي ألحقت الهزيمة الكاملة بها، نهضت من جديد حـني تكون املقاربة معها بواقـع العرب ... أسئلة ال يُقصد منها التيئيس، بل املساعدة عىل التفكري والفهم وتقديم أجوبة تساعدنا عىل الخروج من النفق الراهن. إن ما نحن بحاجة إليه هو وعي أهمية الرتاكم ِببُعديه الحضارى والكمي، وما عانينا منه يف املنطقة العربية هو انعدام الرتاكم، فأملانيا ً كانت بلدا قويًا قبل الحرب العاملية األوىل، وجرت هزيمتها، لكنها تمكنت من استعادة عافيتها عسكريًا واقتصاديًا برسعة فائقة، جعلتها تحاول االنتصار لكرامتها التي هدرت يف الحرب الكونية األوىل، وحني جرت هزيمتها لم تكن الهزيمة نهاية املطاف، فقد ظلت خرباتها كامنة فيها، وجاء األمريكيون بمرشوع ”مارشال وحلف الناتو“ لينتشلوها من الهزيمة، ولتعيد بناء قوتها االقتصادية برسعة قل لها نظري. والحال هذا ال يختلف كثريًا عن اليابان، التي كانت قوة استعمارية قبل الحرب، تمكنت من احتالل بلدان يف آسيا أضعاف مساحتها وسكانها، لم تفقد خرباتها وال ً مصادر ثروتها وال إرثها، وعادت مجددا قوة اقتصادية عاملية رائدة. وحتى حني نأتي ً إىل تركيا، فإن الزمن قصري جدا بني هزيمة السلطنة وسقوطها وبني بروز جمهورية ”مصطفى كمال أتاتورك“ التي ألحقت تركيا حضاريًا وسياسيًا، وعسكريًا بالغرب. وبالتأكيد فإن أي مقاربة موضوعية بيننا وبني هذه األمم ليست يف صالحنا، فاألمة العربية عانت من انقطاع طويل بعد سقوط بغداد، ألكثر من ألف عام تفتت األمة إىل النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 20 إمارات وممالك صغرية، وتعطلت سبلها عن مواصلة دورها الحضاري، وحني بدأت يقظتها العربية الجديدة يف منتصف القرن التاسع عرش لم تتمكن من تحقيق الرتاكم يف هذه اليقظة، فقد زج بها يف خضم أحداث الحرب الكونية األوىل وهي لم تزل غضة بعد، ناهيك عن تنافسها مع استعمار فتي، ً يفوقها قوة وعدد ً ا وتراكما حضاريًا. لذا؛ لم تتمكن األمة من وقف الزحف االقتصادي الغربي الذي بدأ مع مطالع القرن الثامن عرش نحو املتوسط، وجاءت االكتشافات الجغرافية كاكتشاف ”رأس الرجاء الصالح“ عىل حساب موانئها التجارية العريقة يف بريوت واالسكندية والالذقية، ثم جاء الزحف السيايس والعسكري واألمة لم تكن مستعدة له. وبسبب عوامل الضعف هذه ضاعت فرص كبرية علينا، لم نتمكن من اقتناص نتائج هزيمة السلطنة العثمانية، بعد الحرب العاملية األوىل وأضعنا فرص بناء الدولة الحديثة بعد تمكننا من انتزاع االستقالل بعد الحرب العاملية الثانية وهزيمة االستعمار التقليدي، وكانت نهاية الحرب الباردة ً بالنسبة لنا أيضا، تعني احتالل العراق وتدمري قوته العسكرية، وتوسع الصهاينة يف االستيالء عىل الثروة املائية، ومضاعفة بناء املستوطنات، والجدران العازلة، واالستيالء بالقوة عىل املزيد من األرايض الفلسطينية. كلمة أخرية: الواقع العربي الراهن، ال يسمح للعرب، أن يكونوا رشكاء يف تغيري مجريات الرصاع الدويل. وكل ما يمكن فعله هو اقتناص الفرص التي تتيحها التحوالت الكونية، بما يَخدم املصالح القومية والوطنية. وذلك يتطلب وجود الحد األدنى من التنسيق بني البلدان العربية. والتقرير هذا ليس رجما بالغيب، بل هو وعي بأن عوامل الغضب عىل حالة الرتدي قد بدأت نذرها. وذلك ما نشهده واقعا يف عدد من األقطار العربية. ليس أمام العرب، بديًل عن قراءة واقع الرصاع الدويل الدائرة رحاه اآلن، والذي يعرب عنه يف هذه اللحظة بـ ”الرصاع الرويس – الغربي“ عىل أوكرانيا. واستثماره لتحسني مواقعنا، من أجل النهوض وتحقيق التنمية والتقدم واألزدهار، وبما يتسق مع مصالحنا القومية، ومن خالل تحقيق التكامل يف مختلف املجاالت. وما لم نستثمر مرحلة االنفالت والخلل الراهن يف العالقات الدولية لتحسني مواقعنا، فإننا سنضيف خيبة أخرى، إىل خيباتنا األخرى، وفرصنا الضائعة. النظام الدويل املرتقب والواقع العربي د. يوسف مكي ***


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 21 د. محمد عيىس الكويتي تسعى الدول اىل تحقيق مستويات مقبولة من الرخاء والرفاه االجتماعي يستفيد منه معظم أفراد املجتمع إن لم يكن جيمعهم. وقد وضعت املنظمات األممية بعض املعايري العامة لتقييم هذا الرفاه ونتائجه عىل جودة الحياة. وتكاد وتتفق املنظمات الدولية ضمنيًا بان الناتج املحيل اإلجمايل ليس أفضل املؤرشات لتقييم الرفاه االقتصادي والتقدم املجتمعي. يؤكد ذلك ما يُنرش من تقارير احصائية عن التنمية البرشية والشفافية واملشاركة السياسية ومدركات الفساد والتلوث البيئي وغريه مما تعتربه هذه املنظمات عوامل اساسية يف التنمية. غري أن الدول ما زالت تستخدم وبشكل كبري مؤرش الناتج املحيل اإلجمايل وكأنه مؤرش معّب عن الرفاه واالزدهار االقتصادي والتقدم االجتماعي، بالرغم من انه حديث نسبيًا وحذر واضعوه من إساءة استخدامه. بدأ االهتمام بقياس النشاط االقتصادي يف ثالثينات القرن املايض، حني كان العالم يمر بمرحلة الكساد الكبري والحاجة إىل الخروج من االزمة بوضع مؤرش لقياس د. محمد عيىس الكويتي خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 22 الدخل القومي األمريكي يف محاولة لفهم تأثري الكساد الكبري عىل النشاط االقتصادي. ما نتج عن هذا املؤرش سمي بـ ”الناتج الوطني االجمايل“ واستند عىل الدخل املتولد من نشاط املواطنني األمريكان والرشكات اإلمريكية داخليًا وحول العالم )يستثنى من ذلك إنتاج الرشكات األجنبية العاملة يف أمريكا(. وبذلك أصبح باإلمكان وضع قيمة إلنتاج جميع املواطنني والرشكات الستخدامه ملقارنته بالسنوات السابقة، ً واعتبار الزيادة أنها نمو ً ا والنقص انكماشا. عىل أثر ذلك وضعت أمريكا سياسات ملواجهة أزمة الكساد وانقاذ الشعب من آثاره. كما ساعد هذ املؤرش يف اتخاذ قرار دخول أمريكا يف الحرب العاملية الثانية من خالل معرفة حجم اإلنتاج املمكن من معدات وتسليح للحرب وسلع وخدمات لالستهالك املحيل. وبحلول الخمسينات أصبح هذا املؤرش األكثر ً استخدام ً ا وشيوعا حول العالم. تحمست له املنظمات الدولية ومنها ”منظمة التعاون االقتصادي والتنمية“ فكان همها زيادة النمو، وتم وضع جداول ملقارنة أداء الدول وفق هذا املؤرش. ويف نهاية التسعينات تم اعتماد التسمية الحالية الناتج املحيل اإلجمايل )GDP )بدًل من الناتج الوطني مع تعديل يف تعريفه ليشمل ”مجموع قيمة السلع والخدمات التي ينتجها االقتصاد خالل مدة معينة“ )عام واحد(. ويستثني من ذلك إنتاج الرشكات األمريكية خارج الدولة. وفق هذا التعريف يحتسب الناتج املحيل بجمع االستهالك املنزيل او الشخيص من سلع وخدمات، واالنفاق الحكومي عىل السلع والخدمات والبنى التحتية ودفع الديون، مع االستثمار وصايف امليزان التجاري )الفرق بني الصادرات والواردات( وصايف تكوين رأس املال. وبالتايل فهو يُقيس النشاط االقتصادي وليس الرفاه االقتصادي. ويقول جهاز التحليل االقتصادي األمريكي ان الغاية من قياس الناتج املحيل هو لإلجابة عىل األسئلة التالية : ماهي رسعة نمو االقتصاد؟ وما هو نمط االنفاق عىل السلع والخدمات؟ وكم نسبة تاثري التضخم يف الناتج املحيل؟ وما مقدار الدخل الذي يُستخدم لالستهالك مقابل االدخار واالستثمار؟ هذا يعني أن املؤرش يُ ً قدم خدمة ويؤدي غرضا، ولكن املشكلة يف سوء استخدامه لغرض لم يُصمم ً من أجله، وهو اعتباره مؤرشا للتنمية والرخاء االجتماعي. كما أنه ال يُقيس التأثريات السلبية للنشاط االقتصادي من تلوث وافراط يف استهالك املوارد الطبيعية ورأس املال املادي من بنى تحتية، أو التأثري الصحي عىل املواطنني جراء التلوث وتكلفتها. وال يُ ً قيس األعمال غري املالية التي تعترب جزءا من رفاهية املجتمع مثل األعمال الخريية والخدمة التطوعية وأعمال ربات البيوت. األهم من ذلك كله، أنه ال يعرب عن كيف يتم خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي د. محمد عيىس الكويتي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 23 توزيع الدخل واالستهالك بني املواطنني. فمثًل - يقول ”سيمون كوزنيت - واضع املؤرش“ )رضورة تضمني قياس مستوى الثروة وتوزيعها، وأن يُوضع يف االعتبار التمييز بني كمية النمو وجودته، وبني تكلفة النمو ومردوده، وبني تاثريه عىل املدى القصري واملدى الطويل. لكن بالرغم من االعرتاضات إال أن استخدامه استمر يف االنتشار لتعتربه الحكومات عىل أنه مؤرش لنجاح سياساتها ُق منه مؤرش االقتصادية واملالية. كما اشت متوسط الناتج املحيل للفرد. أي تقسيم املجمل عىل عدد السكان، وألنه متوسط فأنه يتاثر بارتفاع عدد السكان وال يُعرب عن عدم املساواة وال مستوى الرفاه االجتماعي. أدى هذا االهتمام املفرط بمؤرش الناتج املحيل اإلجمايل إىل الخلط بني النشاط االقتصادي ً النافع والضار واعتبار االثنني تقدما اقتصاديًا. فمثًل ــ اقتالع أشجار الغابات وتدمري البيئة البحرية لصالح التوسع ً العمراني يعترب نموا اقتصاديًا، بالرغم من تأثريه السلبي عىل الثروة الزراعية والبحرية وتآكل رأس املال الطبيعي ونضوبه. ُظهر التطورات أن هناك حاجة باختصار ت لقياس التقدم الحقيقي للمجتمعات بشكل أكثر دقة وشمولية، وعىل جميع األصعدة وليس فقط عىل الصعيد االقتصادي، بحيث يُجيب عن أسئلة املجتمع. كما تبني الدراسات أن القياس له قدرة عىل تركيز الجهود واالهتمام، ويُ ِّمكن القيادات االقتصادية من وضع سياسات تحقق ما هو مهم لرفاه وتقدم املجتمع وتحقيق األمن االجتماعي ِ والسلم االهيل. كما تساهم يف خلق بيئة صحية تسمح بازدهار اإلنسان يف مختلف الجوانب، وتمكنه من تحقيق طموحاته وفق خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي د. محمد عيىس الكويتي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 24 ما يتمتع به من قدرات فكرية ومهارات فنية وقيم أخالقية تساهم يف خلق روح االجتهاد يف العمل واالبتكار واإلبداع، وتقبل قدر من املخاطرة يف سبيل تحقيق أهدافه. بناء عىل هذا االدراك، ولضعف مؤرش الناتج املحيل اإلجمايل يف هذا الجانب، وضعت عدد من املنظمات الدولية نظم قياس التنمية الشاملة املستدامة، تبعتها دول وضعت مؤرشات ”جودة الحياة“، ومؤرش ”أهداف التنمية األلفية“. أي أن األصوات التي تنادي برضورة معالجة هذا االستمرار لحل سوء استخدام مؤرش الناتج املحيل اإلجمايل قد كثرت، وترى هذه األصوات الحاجة إىل حملة منظمة وقوية لتغيري هذا االستخدام يف وضع السياسات وتقييم التقدم. وأن الحاجة تقتيض استخدام مؤرشات تدعم التنمية حسن من جودة ِّ ُ املستدامة، وتحقيق تنمية ت الحياة ضمن متطلبات البيئة )األيكولوجي( وقدرتها االستيعابية. بعد األزمة املالية يف عام 2008م أصبحت الحاجة الصالح طريقة قياس األداء ً االقتصادي واالجتماعي أكثر الحاحا، الضافة مؤرشات أخرى لتقييم وقياس التنمية والتقدم املجتمعي الحقيقي. أعطت األزمة ً زخم ُ ا لألصوات املطالبة بالتغيري، ودفعت ً باستعجاله، خصوصا وأن األزمة فاجأت الكثريين، ولم تقدم منظومة مؤرشات األداء ُ االقتصادي املعتمدة أي تحذيرات مسبقة. واتضح أنه لم يكن هناك إبراز للقصور املوجود يف منظومة القياس القائمة عىل الناتج املحيل اإلجمايل. ووفق عدد من االقتصاديني، ال تتوافر معلومات عن حسابات الثروات، وال ميزانية عامة لالقتصاد تقدم صورة واضحة وشاملة عن املوارد واألصول والديون ُظهر التأثريات وااللتزامات واملرصوفات. وال ت السلبية البيئية واالجتماعية الناجمة عن السعي لزيادة معدالت النمو اإلجمايل التي تعتربه كثري من الدول مؤرشها األهم ويف بعض الحاالت الوحيد. تصدرت فرنسا حملة التغيري، حيث شكل الرئيس الفرنيس ”ساركوزي“ يف 2009م لجنة قياس االقتصادي والتقدم االجتماعي برئاسة االقتصادي ”جوزيف ستيجلتز“. عىل إثر تقرير هذه اللجنة، شكلت ”منظمة التعاون االقتصادي والتنمية“ هيئة يف 2013م من خرباء مستقلني، كذلك برآسة ”جوزيف ستيجلتز“، عملت عىل مدار خمس سنوات لتقديم دعم وتوجيه للمبادرا ت العديدة املعنية بقياس الرفاهية والتقدم االجتماعي. توصل تقرير هذه اللجنة إىل دعوة الدول إىل عدم الرتكيز عىل مؤرشات النمو االقتصادي القائمة عىل قياس الناتج املحيل اإلجمايل ومتوسطات الدخل يف قياس الرفاه والتقدم االقتصادي. ويؤكد التقرير عىل أهمية وضع منظومة قياس أداء للتنمية املستدامة التي ُقيم حياة الناس وما يؤثر عليها ليس يف ت خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي د. محمد عيىس الكويتي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 25 املجال االقتصادي فحسب ولكن يف مختلف مجاالت الحياة، بحيث توفر )منظومة قياس االداء( معلومات تمكن القيادات يف الدول من تحديد طبيعة السياسات التنموية املطلوب وضعها لتحسني جودة الحياة ومستوى الرفاه والتقدم االجتماعي. من أهم ما ورد يف تقرير اللجنة، الذي تبنته عدد من الدول، هو رضورة الدخول يف مناقشات واسعة لتحديد ما الذي ينبغي اضافته وعرضه ضمن املؤرشات، وهل املؤرشات الحالية كافية للتعبري عن متطلبات التنمية. القت هذه التوصيات استجابة من دول كثرية لوضع مثل هذه املنظومة معتمدين مبدأ املشاركة والنقاش والتداول مجتمعيًا للتوصل إىل أفضل املؤرشات. من الجوانب الهامة األخرى للتقرير أنه يرى عدم قدرة أي مؤرش واحد عىل توصيل صورة سليمة عن أداء أي دولة حتى وإن كان ذلك ً مقترصا عىل الوضع االقتصادي البد من استخدام مجموعة من املؤرشات للتعبري عن حالة املجتمع املادية وجودة الحياة بشكل عام. فمثًل - يف 2011م تبنت ”منظمة التعاون االقتصادي والتنمية“ )OECD )إطار قياس وتقييم مستقى من توصيات اللجان ُصور الرفاه عىل ومبادرات وطنية وعاملية ت ُ أنه مفهوم متعدد األبعاد يُميز بني مستوى الرفاه الكيل وإمكانية استدامته. وكذلك يُميز بني الرفاه املادي وجودة الحياة بشكل عام. لذلك هناك دعوات عىل مستوى العالم تطالب بمؤرشات مناسبة وأكثر شمولية لقياس الرفاه واالزدهار. تجادل هذه األصوات بأنه ينبغي أن تستخدم مؤرشات تعرب عن تحقيق أهداف املجتمع، مثل - االستدامة يف توفري االحتياجات املادية واالجتماعية الرضورية لإلنسان، مثل - الغذاء والسكن وغريهما. أما مؤرش الناتج املحيل فهو يُقيس النشاط االقتصادي يف السوق فقط، وهو أحد األهداف وليس الهدف األهم يف جميع مراحل التنمية. واعترب ”امارتيا سن - االقتصادي َّ البنغالدييش“ أن خيارات الناس مثل التعليم والصحة هي مصدر النمو وأنها األهم، وأن النمو الحقيقي يكون يف املحافظة عىل رأس املال )االجتماعي والطبيعي والبرشي واملنشآت( والعيش من عائداته وليس استهالك موارده. فمثًل - يف مؤتمر ”دافوس“ تقول رئيسة صندوق النقد الدويل ”كريستني الغارد“ )بأن الناتج املحيل هو مؤرش ضعيف لقياس مستوى املعيشة وصحة االقتصاد(. هناك عدد من البدائل وضعت ملعالجة هذا القصور، مثل املقرتح الصيني ”الناتج املحيل اإلجمايل األخرض“ الذي يأخذ يف االعتبار التأثري البيئي. كذلك هناك املقرتح االوروبي مثل ”الرفاه االقتصادي املستدام“ الذي يأخذ يف االعتبار املساواة يف توزيع الدخل باإلضافة اىل ”التلوث البيئي“، ومؤرش ”التقدم الحقيقي“ الذي يأخذ يف االعتبار األعمال خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي د. محمد عيىس الكويتي


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 26 التطوعية واألعمال املنزلية وتوزيع الدخل مخصوم منه تكلفة الجرائم والتلوث. وكذلك هناك مؤرشات أخرى مثل ”الكوكب السعيد“ و“السعادة الوطنية اإلجمالية“ و“حساب الرفاه الوطني“. املؤرشات املقرتحة ال تعالج قضية التكنولوجيا التي طرحها مؤتمر ”دافوس“ 2010م. يف طرح السؤال : كيف نقيس تأثري التكنولوجيا )املجانية( عىل حياتنا؟ كيف نحسب الفوائد التي تضيفها التكنولوجيا عىل مستوانا املعييش؟ ماذا حدث لوقت الفراغ، هل زاد ام تقلص؟ وكيف تم توزيع الزيادة يف الناتج املحيل اإلجمايل عىل افراد املجتمع؟ وماذا كان تأثريه عىل حياتهم وقدرتهم الرشائية وسعادتهم؟ كثري من الدول وضعت لنفسها )باإلضافة إىل الناتج املحيل( مؤرش مركب من عدة أبعاد مثل أوروبا وبرنامج األمم املتحدة اإلنمائي، واعتماد ”والية مريي لند“ األمريكية مؤرش ”إجمايل السعادة الوطنية“، ومؤرش ”وزارة اإلسكان وشئون املدن“ يف الهند لقياس جودة حياة املواطنني يف املدن الهندية، وكذلك القدرات االقتصادية واالستدامة. تستند هذه املؤرشات عىل فرضية أن املؤرشات الشمولية هذه توفر دقة أكرب يف فهم حالة التنمية يف الدولة. الهدف النهائي، وفق مقدمي هذه املؤرشات، هو تحقيق مجتمع أكثر مساواة وتقدم وازدهار اقتصادي يقدم للمواطنني حياة ذات قيمة وقدرة أكرب عىل تقييم سياسات تنمية. إضافة مثل هذه املؤرشات عىل مؤرش الناتج املحيل يُقدم للدولة واملجتمع أدوات أفضل لتصميم سياسات تمكنها من تحقيق نمـو متـوازن. ويصبح االهتمام أكثر بما يؤثر يف الرفاه للجميع وجودة الحياة وتقدم املجتمع، بدًل من الرتكيز املفرط عىل معدالت الناتج املحيل اإلجمايل ونصيب الفرد من الناتج املحيل. خيارات تقييم التنمية والتقدم االجتماعي د. محمد عيىس الكويتي ***


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 27 د. حسن العايل إذا كانت مسرية التحوالت املادية عىل صعيد العمران واالقتصاد وبرامج التنمية التي شهدتها األقطار العربية واضحة التشخيص، فإن تحوالت املجتمع واإلنسان العربي عىل صعيد القيم والثقافة والهوية والعادات والتقاليد وتفاعالتها مع البيئة والطبيعة والتاريخ والجغرافيا واملوروث والواقع الراهن والتطلعات خالل العقود املاضية وما أنتجته بدورها من نظائرها ولكن بمضامني ممتزجة بني املايض والحارض بحاجة حقيقية وملحة وتاريخية إىل فهم أعمق وأوسع وأشمل يف وقتنا الراهن. لقد شهدت األوضاع السياسية يف الوطن ًا وتطورات كربى منذ مطلع العربي أحداث تسعينات القرن املايض. وبالرغم مما طغى عىل سطح تلك األحداث والتطورات من مشاهد سياسية كربى دشنت عامليا بتفكك االتحاد السوفيتي عام 1991م وصعود تيار العوملة وأحداث 11 سبتمرب وما تالها من غزو افغانستان وصعود قوى عاملية جديدة مثل الصني وعربيا بسنوات حصار العراق وتوقيع اتفاقية أوسلو وغزو العراق عام 2003م ثم التحركات الجماهريية يف عدد من األقطار العربية أو ما سمي بثورات الربيع د. حسن العايل نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 28 العربي، نقول عىل الرغم من أن هذه األحداث السياسية طغت عىل السطح، فإن مما ال شك فيه إن جميع هذه األحداث كانت لها جذورها االقتصادية واالجتماعية العميقة أيضا والتي تفاوتت أهمية دورها يف كل من هذه األقطار، ولكن لعبت بشكل أو بآخر ً دورا مؤثرا فيها. وإذا قرصنا الحديث عىل أقطار الوطن العربي، يمكن القول إن فشل خطط وبرامج وتجارب التنمية االقتصادية واالجتماعية بعد إنجاز االستقالل السيايس يف األربعينات والخمسينات من القرن املايض فتح أبوابًا مرشعة أمام اخرتاقات معادية خطرية ملصالح األمة سواء كان مصدرها قوى رجعية محلية أم قوى إقليمية وعاملية طامعة يف ثروات األمة. ونحن هنا ال نقلل من خطورة عامل املؤامرات املتوالية واملتصاعدة عىل األمة، لكن عوامل الضعف الداخلية كانت يف حاالت كثرية القنطرة التي تعرب من خاللها تلك املؤامرات، باستثناء حاالت محدودة. لقد أفىض تبني النموذج الغربي للتنمية الذي يرتكز عىل ما يحققه من نمو سنوي عىل مستوى معظم إن لم نقل كل األقطار العربية إىل بروز تشوهات يف االقتصاد واملجتمع. فقد شهدت االقتصادات العربية نموا بمعدالت جيدة عىل مدار العقود املاضية )إىل الغالب بسبب ارتفاع سعر املواد األولية التي تصدرها(، لكن ذلك لم يمنع من تعثر عملية تنمية املجتمع مع عدم حصول أي تبدالت جوهرية، من تكنولوجية واقتصادية واجتماعية ومؤسسية وسياسية، التي تواكب التنمية او التي ال تنطلق عملية التنمية دونها . بل شهدنا تزايد الخلل يف التوازنات االجتماعية واالقتصادية مثل تزايد اهمية احد القطاعات الرئيسية، وتغييب قطاعات االنتاج مقابل التوسع يف قطاعات الخدمات والتطوير العقاري وتفاقم عدم التكافؤ يف نمط توزيع االهتمام بني املناطق الجغرافية وخاصة بني األرياف واملدن وازدياد التفاوت يف توزيع الثروة والدخل بني الرشائح العليا والرشائح الدنيا يف معظم األقطار العربية باستثناءات قليلة جدا، وتفاقم مشاكل البطالة وانخفاض الدخل الحقيقي لألرسة حتى مع تحقيق معدالت النمو االقتصادي. ولم يتم تبني هذا النهج عبثا. لقد أدركت ّ َّن ٍ أي تبن لنهج حقيقي الحكومات العربية أ للتنمية مرتبط بالديمقراطية والعدالة االجتماعية والوحدة يعني الوقوف بالضد من مصالحها يف التسلط عىل الحكم والتفرد يف القرار ونهب الثروات وبناء شبكة مصالح اقتصادية واجتماعية من الفئات الرأسمالية املرتبطة بمصالح الرشكات املتعددة الجنسيات. كما يعني بناء طبقة عاملة وفئات مثقفة وواعية سوف تطالب بتحقيق كامل حقوقها املعيشية والديمقراطية. لذلك، فقد ارتبط نهج السادات عند تراجعه نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 29 عن منجزات عهد عبد النارص وتدشني نهج اقتصادي انفتاحي بالرتاجع عن الدور القومي الطليعي ملرص بقيادة الراحل جمال عبدالنارص وتوريط مرص يف معاهدات السالم املشؤومة مع الكيان الصهيوني وذلك برعاية وتشجيع الواليات املتحدة والغرب واملؤسسات الدولية ويف مقدمتها صندوق النقد الدويل. لقد أدت هذه السياسات إىل انفتاح مرص عىل االستثمارات االجنبية التي تحالفت مع الرأسمال املحيل الطفييل، حيث تم الرتكيز عىل الدخول يف أنشطة رسيعة وعالية املردود، وزيادة هيمنة النفوذ األجنبي عىل االقتصاد املرصي من خالل الواردات االستثمارات. وقد أدى ذلك إىل تزايد املديونية وبروز أنشطة املضاربات واملقاوالت مع تفيش ظاهرة الفساد والرشاوى ونهب املال العام وتآكل دور وحجم الطبقة الوسطى، عالوة عىل اإلرضار باملواطنني الفقراء ومحدودي الدخل بسبب رفع األسعار وخاصة أسعار السلع واملواد الغذائية. كما تبنت العديد من الدول مثل هذا النهج مثل املغرب وتونس واألردن ودول الخليج العربي، كما تواصل يف مرص هذا النهج تحت غطاء تحديث البنية التحتية واملرشوعات الكربى، بينما تراجعت الحياة املعيشية للمواطن املرصي بشكل كبري بعد تحرير سعر رصف الجنيه املرصي ورفع الدعم عن العديد من املواد الغذائية، إىل جانب التضخم وغالء املعيشة، وارتفعت نسبة الفقر لتصل إىل 32 يف املائة، أي نحو 30 مليون مرصي. ونفس الحديث ينطبق عىل بقية االقطار العربية غري النفطية. أما بالنسبة لدول الخليج العربية الغنية بالنفط، فقد تبنت هي األخرى منهج االقتصاد نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 30 الليربايل املنفتح اقتصاديا وماليا وتجاريا، لكن اإلمكانيات املالية الضخمة لديها ساعدها عىل توفري شبكة حماية جيدة للمواطنني وخاصة يف الكويت وقطر، وإىل حد ما السعودية واالمارات، بينما تراجعت البحرين وسلطنة عمان يف شبكات الحماية بسبب ضعف إمكانياتهما املالية وعبء املديونية. ويجب التوقف هنا أمام مفهوم الحماية االجتماعية، فهو مفهوم غربي تم تطويره لكي يعطي الحق للحكومات إطالق العنان آلليات االقتصاد الحر والسياسات النيوليربالية مقابل توفري حزم من الدعم املايل أو العيني املبارش أو غري املبارش للفئات األكثر ترضرا من تطبيق هذه االليات والسياسات. وهذا أمر مرفوض من وجهة نظر التنمية بفهومها الوطني التحرري، حيث يجب أن تكفل آلياتها وسياساتها ذاتها العدالة االجتماعية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم عىل أسس مستدامة. ونتيجة لتخيل الحكومات العربية عن التنمية بمفهومها الوطني والرتويج ألنماط التنمية بمفهومها الدويل الذي يركز عىل النمو االقتصادي، فقد أفىض ذلك إىل جملة من االحباطات الخطرية لدى الجماهري العريضة من املواطنني الذين يرون أن ارتفاع معدالت النمو االقتصادي ومتوسط الدخل الفردي ال يرتجم يف تحسني مستواهم املعييش الحقيقي، أو يف زيادة األرايض الزراعية املتاحة او فرص العمل املجزي او املدارس او املياه النظيفة الجارية او غري ذلك من املطالب والتوقعات. وخالل األعوام العرشة األخرية لحق بعدد من االقتصادات العربية مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا تدمري البنية التحتية واملنجزات التنموية التي تحققت، ال سيما يف العراق بعد غزوه، وهيمنة األمريكان والفرس والعمالء عىل مقدراته، كذلك الحروب التدمريية التي اجتاحت البالد الثالث األخرية. واليوم، تعاني االقتصادات العربية إجماال من اختالالت بنيوية يجعل منها عاجزة عن تحقيق التنمية الحقيقية والحياة املعيشية الكريمة للغالبية الساحقة من الجماهري، فضال عن عجزها عن التخلص من مظاهر التبعية والتخلف، والتحول إىل اقتصادات قائمة عىل خدمة مصالح األمة وأهدافها التحررية. إن املشهد االقتصادي الراهن ييش بأن اقتصادات االقطار العربية ال تزال بعيدة عن تحقيق التنمية بمعناها الحقيقي املستدام سواء األقطار الغنية بالنفط أو باملوارد األخرى، فما بالنا باألقطار املحدودة املوارد. ً صحيح إن صناعة النفط لعبت دورا محوريًا يف التاريخ الحديث لألقطار العربية سواء املصدرة أو املستوردة، حيث كانت عماد التنمية يف الدول املصدرة وبنيت عليها ما أطلق عليه ”دولة الرفاهية“ بينما استفادت الدول املستوردة من املساعدات اإلنمائيةالتي كانت تقدم إليها، عالوة عىل أعداد كبرية من نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 31 العمالة التي انتقلت إىل األقطارالنفطية للعمل فيها. لكن بعد خمسني عاما منذ الطفرة النفطية إثر حرب أكتوبر 1973م لم تنجح الدول الغنية بالنفط يف االستثمار الصحيح لهذه الثروة يف بناء نماذج تنموية مستدامة. ويف أوقات تراجع اإليرادات النفطية عانت هذه الدول كغريها من الدول من شحة املوارد واالقرتاض املتزايد والتخيل التدريجي لكافة أشكال ”دولة الرفاهية“ أو الرعاية االجتماعية، وتم فرض الرسوم والرضائب. الحصيلة ملسرية هذه االقتصادات أنها باتت معوملة وتتكامل مع االقتصاد العاملي أكثر منه العربي، كما تمارس سياسات نيوليربالية ضارة باألمن االقتصادي واالجتماعي، وال تزال تعتمد عىل النفط ليس فقط يف تمويل ميزانياتها، بل باتت تستخدم األموال املتأتية يف بناء قوة عسكرية وأمنية ملمارسة أدوار إقليمية أكرب من حجمها، بل ويف التطبيع مع العدو الصهيوني. ً لقد بات واضحا أن من يتحكم يف السوق النفطي هم املستوردون وليس املصدرين، أي أن حجم الطلب هو من يقرر السعر العاملي للنفط، هذا عالوة عىل تنامي أهمية النفط الصخري والتحوالت التكنولوجية املتسارعة التي سوف تقرر بدورها حجم الطلب وأنواع النفط املفضلة، وهي عوامل سوف تعرض االقتصادات القائمة عىل النفط للمزيد من الضغوط يف املستقبل، عدا عن حقيقة أن النفط هو ثروة ناضبة. أما األقطار العربية غري النفطية والغنية نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 32 باملوارد الزراعية أو الصناعية أو االستخراجية، فهي األخرى لم تنجح يف بناء نماذج تنمية مستدامة نتيجة لتسلط وفساد األنظمة التي حكمتها، وغياب الرؤية التنموية والعدالة االجتماعية والديمقراطية عن هذه النماذج، بل وإخضاعها للتبعية للفئات الربجوازية والطفيلية املتحالفة مع الرأسمال األجنبي والرشكات املتعددة الجنسيات. وإذا انتقلنا للوقـوف أمام أبرز تحوالت اإلنسان واملجتمع العربيني يف وقتنا َّ الراهن، نالحظ أن أعداء األمة لم يجدوا طريقا للحيلولة دون نهوضهما سوى رضب املقومات التي تقوم عليها الوحدة العربية، بل اليـوم دخلـنا فـي مرحلة رضب مقومات الدولـة الوطنية نفسها. إن عوامل القوة يف األمة وهي التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة واملصري املشرتك ِ تعرض كل منها عىل حَده للتضعيف، بل وتحويله إىل عامل تفتيت تعاني األمة من إشكاالته وتحريفاته ليقف حائال دون تحقيق االنقالب املنشود. ولن يكون بوسعنا هنا استيعاب الدخول يف مسرية طويلة من املخططات لرضب مقومات األمة العربية ِ والدولة الوطنية كل عىل حَده. ولكن بقدر تعلق األمر باملحاور الرئيسية، يمكن القول : 1 .كان هناك عمل منظم وممنهج لتحويل التاريخ العربي واإلسالمي املجيد إىل عامل فرقة وتقسيم للمجتمع من خالل دعم وتشجيع الحركات املتطرفة التي ارتكبت املجازر باسم اإلسالم وبثت الدعوات نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 33 التكفريية والنعرات والتقسيمات الطائفية واملذهبية. كما تم تفريغ اإلسالم مما جاء به من قيم وعقائد ومعامالت تعيل املجتمعات واإلنسان مقابل الرتكيز عىل العبادات لكي يتم تضعيف دور اإلسالم يف استنهاض األمة. كذلك الدور البارز الذي قام به النظام اإليراني بأنشاء أذرع موالية له يف عدد من األقطار بحجة الدفاع عن املذهب. 2 .كما تم العمل عىل تضعيف عامل الجغرافيا من خالل طرح جغرافية بديلة معادية لجغرافيا توحيد األمة وهي جغرافية الرشق األوسط الكبري التي يشارك يف الحفاظ عىل أمنها واسرتاتيجياتها املستقبلية العدو الصهيوني والنظامان اإليراني والرتكي. وهناك خطوات واضحة تجري حاليا عىل هذا الصعيد بمشاركة العديد من األقطار العربية. كذلك خلق العداءات والفتن بني األنظمة العربية من أجل النفوذ واملصالح والسلطة. 3 .وكانت اللغة هي مستهدف رئييس ومحوري من قبل األعداء، وهي لغة القران الكريم، والعامل األقوى يف جمع كلمة األمة ومصريها املشرتك، وهي التي تحمل يف أحشائها القيم وثقافة األمة وتاريخها املجيد. إن تيارات التغريب واالستالب والعوملة والجهل والتخلف جميعها تستهدف تضعيف دور اللغة يف استنهاض األمة، كذلك الرتويج بأنها غري صالحة ومواكبة للعلوم والتقنيات الحديثة التي يحتاجها املجتمع، إىل جانب تضعيف وتخريب مناهج تدريس اللغة العربية سواء يف املدارس الحكومية أو الخاصة. 4 .أما الثقافة العربية ومحموالتها من عادات وتقاليد وقيم ولغة، فهي تعد من أغنى ثقافات العالم، وهي التي جاءت من نتاج طويل من العلوم واالنتاج الفلسفي والديني والحضاري واألدبي، فقد تكالبت عليها القوى الرجعية والسلطوية وقوى التبعية واالستعمار لحرفها وإخراجها عن مسارها التاريخي وأبرزت أحداث وقيم وعاظ السالطني كممثل للتاريخ والحضارة العربيتني واالسالميتني. وعدا عن تيارات التغريب والعوملة التي استثمرت وسائل التواصل الحديثة وتطبيقات الهاتف النقال إلعادة تشكيل الرأي العام وتوجيهه يف مسارات مستهدفة ومحرفة وخلق اهتمامات مزيفة وسطحية لديه، فقد تم تسخري الكتاب والتلفزيون واإلذاعة واالنرتنت واملرسح والسينما والقصائد ومناهج التعليم يف خلق ثقافات مزيفة ومحرفة. 5 .وكحصيلة لذلك، تم تضعيف عامل املصري املشرتك لألمة، حيث انصبت جهود األنظمة عىل تقوية روابطها مع الواليات املتحدة والغرب وأخريا الكيان الصهيوني لحماية مصريها من خالل النفوذ السيايس واألمني والعسكري املبارش وغري املبارش، كذلك فعلت عىل املستوى االقتصادي. لقد أخضعت قيم املصري املشرتك للمصالح االقتصادية البحتة نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 34 َّ ولحماية األنظمة نفسها، أي أن حماية املصري املشرتك بات لألنظمة وليس لألمة. وأبرز مثال هو خيانة بعض األنظمة يف الحرب عىل العراق والدور التخريبي الذي لعبته يف سوريا واليمن وليبيا وغريها. 6 .وكما ذكرنا، فقد شهدت األعوام العرشة ً األخرية تأمرا عىل مقومات الدولة الوطنية وليس األمة فحسب، حيث باتت أقطار عربية عديدة مهددة يف وحدة أراضيها والتقسيم، وهيمنة الطوائف والعشائر والقبائل، بل وتقنيني ومأسسة هذه التقسيمات لكي ً تكون جزءا من األمر الواقع. وألجل تحقيق هذه األهداف تم التآمر عىل العراق كونه قلعة الدفاع عن القومية والعروبة. وقد مهد غزو العراق ألعداء األمة االنخراط يف التآمر عىل بقية األقطار العربية، وقد استثمروا غضبة الجماهري وانتفاضاتها مطلع العقد املايض لكي ينفذوا هذا التآمر. كثـرية هـي املتغريات التـي شهدناهـا خـالل العقد املايض، وكلهـا تنـم عـن تبدالت عميقة فـي املجتمع العربي فـي قيمه وعاداته وتقاليده وثقافته وطريقة تفكريه وعقليته وعواطفه، يف تفاعلها مع املشهد السيايس واالقتصادي واالجتماعي فنحن بحاجة للتوقف أمامها ودراستها بصورة معمقـة. نحو فهم أوضح للوضع العربي الراهن د. حسن العايل ***


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 35 د. محمد الصياد بدعوة كريمة من االخوة األعزاء يف نادي العروبة العريق، ألقيت محارضة يف إحدى ُ قاعات النادي التي تفوح منها رائحة عبق العراقة واألصالة والحداثة الفكرية. فلطاملا استقبلت هذه القاعات قامات رفيعة من رجاالت الفكر والسياسة من البحرين والعالم العربي. لذلك لم أتحرج يف نقل احسايس باملهابة يف مقدمة املحارضة اىل جمهور املحارضة ومنهم قيادات النادي األجالء. كان موضوع املحارضة عن كتاب ”السقوط ُ املدوي .. األسواق الحرة وغرق االقتصاد العاملي“، الذي ألفه االقتصادي األمريكي املعروف، الحائز عىل جائزة نوبل يف االقتصاد ”جوزيف ستيجليتز“، والذي ترشفت برتجمة كتابه اىل اللغة العربية، وصدر عن ”دار نرش الدار العربية“ نارشون يف بريوت يف تموز/ يوليو 2021م. يُناقش ”جوزيف ستيجليتز“ يف كتابه األزمة ً يف الواليات املتحدة يف املالية التي اندلعت بداية عام 2008م، ويُعرض لكيفية تصنيع األزمة وأسبابها، وما أسماه بالسقوط وتبعاته وتداعياته. كما يُناقش الحلول واإلجراءات ُخذت من قبل الحكومة األمريكية التي ات ملعالجة األزمة والتي اعتربها حلوال ناقصة وترقيعية. وبعد أن يفرد فصوًل ملناقشة ما أسماه بـالرهن العقاري االحتيايل )الذي أطلق رشارة األزمة(، وما أسماه أيضا بأكرب عملية رسقة يف التاريخ األمريكي، ويقصد بها عمليات االنقاذ املايل الضخمة التي نفذتها الحكومة إلبعاد كربيات البنوك والرشكات د. محمد الصياد العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية العالم بعد خمسة عشر عاما من األزمة العالمية


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 36 عن شبح اإلفالس؛ ينتقل للحديث عن نظام رأسمايل جديد يتسم برتاجع الثقة العاملية يف الدوالر االمريكي بسبب حجم الدين األمريكي منسوبًا إلجمايل الناتج املحيل، وعن انتهاء عهد مجموعة الثماني الكربى وحلول مجموعة العرشين محلها، وعن َ صعود الصني ومنافستها للواليات املتحدة عىل تصدر املشهد االقتصادي العاملي. وأخريًا يطرح ”ستيجليتز“ مرئياته وتصوراته بشأن االصالحات االقتصادية الجذرية التي ينبغي عىل األرسة الدولية إحداثها إلقامة نظام اقتصادي عاملي ومجتمع عاملي جديدين. النسخة األوىل من الكتاب صدرت عن دار .W. W. Norton & Company, Inc نرش األمريكية يف عام 2010م، أي ــ بعد مرور عام ونيف عىل اندالع األزمة املالية العاملية. َّ والكتاب بهذا املعنى لم يتسن ملؤلفه مواكبة متواليات األزمة وطرق معالجاتها يف مختلف البلدان، والوقوف عىل نجاحاتها واخفاقاتها. ومع ذلك فإن الكتاب ينطوي عىل أهمية كربى بالنسبة لتشخيصه الدقيق للعلل األساسية التي تعرتي االقتصاد األمريكي وبمعيته بقية االقتصادات الرأسمالية. كما أنه يُقدم رؤية معمقة وواسعة لالقتصاد العاملي ملا بعد هذه األزمة. ُ ولعيل أزعم أن ”جوزيف ستيجليتز“، يف كتابه هذا، قد أعاد االعتبار لعلم االقتصاد، بقيامه بإعادة االعتبار للثوابت األساسية التي يقوم عليها هذا العلم، من قوانني ونظريات ومفاهيم مبدئية وأساسية، ال تصبح مادة ً االقتصاد علما من دونها. كما قام بتأصيل التعليم والتطبيق العلميني للنقاش والجدل الواسع الدائر منذ انتصار الكالسيكية الجديدة عىل الكينزية، حول القضايا الجوهرية لتطبيقات علم االقتصاد يف سياق خضوعه املوضوعي للتطورات االقتصادية واالجتماعية التي شهدها العالم عىل مدار العقود الخمسة األخرية، السيما منها تلك التي شهدها العقدان األخريان من األلفية الثالثة. وتنبع أهمية هذا الكتاب من إضاءته الواضحة والرصيحة عىل القضايا الرئيسية التي لطاملا شكلت محور الرصاع الفكري بني مدرستي التحرير غري املقيَّد لألسواق، ومدرسة التدخل الحكومي املدروس والناعم، الهادف اىل ضبط عمل األسواق وتصويب أية انحرافات وتشوهات قد تطرأ عىل أنشطة َّروادها. وأبرز هذه القضايا وأهمها عىل االطالق، والتي حاول ”ستيجليتز“ أن يعيد األمور بشأنها اىل نصابها الصحيح؛ وقد نجح يف مسعاه هذا اىل حد كبري، هي : مدى فعالية السوق ومدى قدرته عىل تصحيح نفسه بنفسه ومن تلقاء نفسه. بحسب مذهب مدرسة شيكاغو )املذهب النقدي ”Monetarism )”الذي أسسه ”ميلتون فريدمان“، عالم االقتصاد األمريكي الحائز عىل جائزة نوبل يف االقتصاد عام العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 37 1976م، والذي أطلقه يف قسم االقتصاد بجامعة شيكاغو قبل أن يتبناه، بدفع منه، العديد من الطالب واألساتذة الشباب الذين ّتمت التوصية بشأنهم من قبل ”فريدمان“ ليكونوا خرباء اقتصاديني بارزين، بمن فيهم Becker Stanley Gary ] وهو اقتصادي حائز عىل جائزة نوبل يف عام 1992م، و Robert Fogel William ]وهو مؤرخ وعالم اقتصادي حائز عىل جائزة نوبل يف عام 1993م، و Sowell Thomas ]وهو عالم اقتصاد أمريكي ِّ ومنظر اجتماعي، و]Emerson Robert Jr Lucas ]وهو اقتصادي حائز عىل جائزة نوبل يف العلوم االقتصادية عام 1995م. وذلك قبالة مقاربات أنصار املذهب الكينزي )الذي يعتنقه ستيجليتز(، والتي أعاد املؤلف طرحها كبديل للنموذج االقتصادي األمريكي الذي فرض سيادته منذ مطلع ثمانينيات القرن املايض مع وصول الرئيس الجمهوري ”رونالد ريغان“ اىل البيت األبيض، وذلك يف ضوء اخفاقات تطبيقاته التي تكشفت لالقتصاديني األمريكيني بمختلف اتجاهاتهم يف األزمة املالية ”االقتصادية لعام 2008م“ أو أزمة الركود العظيم كما صارت تسمى(، التي اندلعت يف الواليات املتحدة قبل أن تنتقل اىل بقية بلدان العالم. ً فلقد بذل ”ستيجليتز“ جهدا فكريًا وتطبيقيًا ً واضحا إلثبات األخطاء النظرية والتطبيقية لهذا املذهب )مذهب مدرسة شيكاغو(، ً وقدم عددا من األدلة والرباهني، من داخل الواليات املتحدة وخارجها، التي تثبت، ليس فقط، خطأ التأويل املنحرف ملفهوم حرية األسواق وفاعليتها، ومقولة تصحيح األسواق لنفسها بنفسها، وإنما االشارة اىل الكوارث االقتصادية واالجتماعية التي قادت اليها تلك التطبيقات. ومن هذه النقطة املركزية، ينطلق املؤلف يف التفرع والتوسع يف طرح رؤيته إلصالح األبنية املنحرفة ألسواق املال وللنظام املايل بمجمله، ليس عىل الصعيد الوطني األمريكي وحسب، ً وإنما عىل الصعيد العاملي أيضا. فيشدد عىل القضايا الجوهرية ذات الصلة، ويف مقدمتها ما أسماه بالبنوك الضخمة غري املحتمل فشلها أو تفكيكها، وتورط املؤسسات البنكية واملرصفية يف انتاج منتجات مالية تعمدت أن تكون معقدة، بالرتافق مع تعمد عدم حصول األسواق وروادها عىل املعلومات الكاملة وبصورة متوازنة ومنصفة، ومع غلبة انعدام الشفافية يف أنشطة وكاالت التصنيف، وتورطها يف التسرت عىل حقيقة األوضاع املالية للبنوك واملؤسسات املالية املسجلة عىل الئحة زبائنها. كما أضاء بصورة جيدة عىل االختالالت الهيكلية التي انتهى اليها االقتصاد األمريكي بتحوله من اقتصاد إنتاجي اىل اقتصاد خدماتي، بالرتافق مع تغذية القطاع املرصيف واملايل لنزعات االستهالك املفرط واالقرتاض عىل حساب العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 38 االدخار لتمويل استمرارية هذا النموذج االستهالكي الذي أسهم يف تراكم الديون. وقد أوىل ”ستيجليتز“ اهتماما خاصا بالـ ”اللعبة الكربى“ التي اخرتعتها البنوك واملؤسسات املالية األمريكية، باسم االبتكار، يف مجال الرهون العقارية، والتي أدت اىل كارثة انهيار سوق العقار السكني وخسارة ماليني األمريكيني ملنازلهم ووظائفهم ومدخرات حياتهم، باعتبارها القشة التي قصمت ظهر الفقاعة العقارية التي أطلقت رشارة األزمة عىل نطاقها الواسع والكاسح. هوليوود تؤرخ بدورها لألزمة : ألن ما حدث عشية اندالع األزمة )أزمة الركود كما“، The Great Recession“ العظيم وصفها مؤلف الكتاب جوزيف ستيجليتز(، من انهيارات متتالية، من بينها : قيام وزارة الخزانة األمريكية يوم 7 سبتمرب 2008م بوضع املجموعتني العقاريتني الحكوميتني العمالقتني يف مجال تسليفات الرهن العقاري، رشكة )فريدي ماك )Home Federal The Loan Mortgage Corporation - Freddie Mac ،))ورشكة )فاني ماي )Federal The National Mortgage Association – Fan- Mae nie ،)تحت الوصاية، وكفالة ديونهما حتى )200 )مليار دوالر لحني انتهاء عملية إعادة هيكلتهما ماليا؛ واعالن افالس بنك ليمان براذرز يف 15 سبتمرب؛ وقيام الحكومة األمريكية يف 16 سبتمرب 2008م، بتأميم رشكة التأمني األمريكية العمالقة ” Ameri Group Insurance can ”بعد أن شارفت عىل اإلفالس...اىل آخره من االنهيارات البنكية ً واملالية املعروفة التي تساقطت تباعا، وكان َّ مقدرا لها االختفاء من السوق كليًا، لوال عمليات اإلسعاف الطارئة واملتوالية التي توالت إلنقاذها عىل يد الحكومة األمريكية عرب حزم انقاذ مايل فلكية. نقول، ألن ما حدث، كان فضيحة إدارية اقتصادية أمريكية بامتياز، فقد ألهمت َّاع ُ أحداثها الكارثية ومالبساتها الجرمية، صن السينما يف هوليوود، حيث قام الكاتب واملنتج واملخرج األمريكي تشارلز فريغوسون ”Ferguson Charles ،”بإنتاج وإخراج فيلم وثائقي يف عام 2010م، أي يف ذات العام الذي نرش فيه ”جوزيف ستيجليتز“ ُ كتابه )السقوط الحر(. وقد حمل الفيلم اسم ”عملية من الداخل )Job Inside )وهو ٍ اسم موح بحد ذاته ويحيل عىل عمليات مشبوهة شابت العمل اإلداري االقتصادي الذي أنتج أزمة السقوط. حيث نجح مخرج الفيلم، الذي حصد جائزة األوسكار لعام 2010م عن أفضل فيلم وثائقي، يف تسليط األضواء عىل مدار )108 )دقائق، مليئة بالتشويق واإلثارة، عىل الفساد املمنهج الذي يسم الصناعة املرصفية وصناعة الخدمات املالية يف الواليات املتحدة، ومخاطر العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 39 ذلك عىل مستقبل البالد وأجيالها القادمة. يغوص الفيلم، بأجزائه الخمسة املتكاملة، عرب مقابالت شخصية، وباقتفاء طريق الصحافة االستقصائية، يف خبايا ومالبسات تورط السلطتني التنفيذية والترشيعية يف إزالة وتحييد الضوابط التنظيمية للسوق، ويعرض للسياسات واملمارسات البنكية التي تسببت يف خلق الفقاعات وانفجارها يف صورة أزمة محلية رسعان ما امتد لهيبها ليصيب دول العالم قاطبة. ومن ذلك ما أصاب ”جمهورية آيسلندا“ الواقعة يف شمال املحيط األطليس، تلك الدولة ذات املساحة البالغة )000,103 )كيلومرت مربع، وعدد سكانها البالغ )320 )ألف نسمة. حتى أن مخرج الفيلم بدأ رسديته بعرض تداعيات األزمة يف آيسلندا بالذات، للداللة ّ عىل نموذج فاشل بصورة ضاجة للتطبيقات االقتصادية ”النيوليربالية“ التي أخذت بها بلدان العالم، صغريها وكبريها، يف تقليد أعمى للنموذج ”النيوليربايل“ األمريكي. فآيسلندا، ّبة والشعب هذه الدولة ذات الطبيعة الخال الوديع، واقتصادها الصغري الذي كان اجمايل ً ناتجه املحيل يبلغ قبل األزمة، وتحديدا يف عام 2007م )5.21 )مليار دوالر )اليوم، ونحن يف ديسمرب 2021م، أي بعد مرور )14 )سنة عىل األزمة، ارتفع اجمايل ناتجها املحيل اىل )5.25 ) مليار دوالر؛ أي بنسبة )%3.1 )سنويًا. أي َ أن البالد لم تتعاف ً تماما من األزمة بعد(. هنا يرينا املخرج - كيف أن ثقافة التحلل االقتصادي التي عمت العالم يف السنني التي سبقت األزمة، والتي وجدت تطبيقاتها يف نيوزيلندا - كمثال - يف إعادة صياغة قوانني البنوك لتسهيل االقرتاض، ودخول الرشكات املتعددة الجنسيات وتوغلها يف النظام املايل واملرصيف للبالد - انتهى بها األمر لتحطيم اقتصاد البالد وتوريطه يف ديون فاقت املائة مليار دوالر أي ما يقارب خمسة أضعاف اجمايل ناتجها املحيل. ويُغطى الفيلم جانبًا يف غاية األهمية من توثيقه املادي وامللموس لتسلسل وتداعي األحداث التي قادت اىل األزمة، وذلك من خالل اجراء مقابالت واستنطاق شخصيات كربى سابقة يف دوائر مؤسسة الحكم التي كانت تقع ضمن مسؤوليتها السهر عىل ضمان سالمة السوق واملعامالت الجارية فيه، وشخصيات أخرى من ”وول سرتيت“، تورطت جميعها، بصورة أو بأخرى، يف لعبة الفساد الكربى التي أفضت اىل الفقاعة وانفجارها. ويف حني تجاوب بعضها مع تحقيقات الفيلم الوثائقية، عىل مضض وبمخاتلة واضحة، آثر بعض تلك الشخصيات الصمت والتوقف عن اإلجابة عىل األسئلة التي كانت إجاباتها ستدينها وتقدم دليًل، يف صورة اعرتاف بالصوت والصورة، للقضاء لفتح تحقيقات معها. هنا تدور الكامريا لتكشف عن الجوانب االجرامية البالغة الخطورة التي العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 40 تخطاها القضاء واالعالم السائد يف الواليات ً املتحدة. الفيلم أيض َ ا، لم ينس تسليط بعض الضوء عىل الكارثة اإلنسانية التي حلت بماليني األمريكيني الذين وجدوا أنفسهم فجأة يف الشارع بعد أن انتزعت البنوك منهم منازلهم نتيجة إلعساراتهم املالية واخفاقهم يف تسديد رهون عقاراتهم؛ وماليني آخرين قذفت بهم األزمة عىل قارعة الطريق بعد فقدانهم لوظائفهم. ومع أن مخرج الفيلم، ألسباب ال نعلمها، لم يشمل ”جوزيف ستيجليتز“، بمقابالته الشخصية الوثائقية، إال أن الفيلم يكاد يتطابق مع الكتاب يف تغطية املحاور األساسية والفرعية لألزمة، واشرتاكهما يف الخالصة التي تمثلت يف تسليط األضواء عىل خطورة الدور الذي يلعبه وول سرتيت، بما هو سوق مال وقطاع مرصيف، يف تصنيع وفربكة النمو الخادع ومراكمة الثروات يف جانب، والفقر يف جانب آخر. وألن موضوع الفيلم هو موضوع الكتاب، وألنه، بما هو أزمة مختمرة ومتحركة، بقي من دون معالجة جدية حاسمة حتى بعد مرور أكثر من عقد عىل اندالعها، وهو ما كان قد طالب وألح عليه ”ستيجليتز“ بصورة متكررة، يف الكتاب، وفيما بعد نرشه للكتاب، فهو الزال يشكل حالة فقاعية خطرية، ربما فاقت خطورتها تلك التي شهدناها عام 2008م. ولهذا، فإن الفيلم، الذي جسد بصورة مرئية أحداث الكتاب وتداعياتها، ال ينفك يُعرض عىل الشاشات الصغرية منذ عرضه ألول مرة بعد األزمة. اليوم، ومع حلول الذكرى العارشة لألزمة العاصفة التي هزت الكيانات املالية واملرصفية واالقتصادية األمريكية، ووصل لهيبها اىل بقية أنحاء املعمورة، فإن هذا ً بجدته، كما الكتاب، الزال صقيًل ً محتفظا لو أنه صدر يوم أمس. فكل االختالالت التي العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 41 شخصها املؤلف يف كتابه، وكل املرئيات التي أدىل بدلوه بشأنها، الزالت كما هي تقريبًا، رغم ما قامت به إدارتا جورج بوش االبن وباراك أوباما، من محاوالت إلدخال بعض التحسينات عىل أنظمة االرشاف والضبط الخاصة بعمل األسواق. نحن اليوم عىل مشارف عام 2023م. ورغم تغري اإلدارات عىل مدار السنوات التي تلت األزمة، من باراك أوباما اىل دونالد ترامب اىل جو بايدن، فإن األمور بقيت عىل حالها، كما كانت إبان ويف أعقاب األزمة. بما يف ذلك املمارسات التي تحدث وحذر منها ”ستيجليتز“ يف كتابه. حيث أعادت الدولة ووول سرتيت العمل بها بذات األساليب املعيبة )وفقا للتعبري الدارج واملحبب لدى ستيجليتز(، وبنفس الزخم، بل وأكثر من ذلك. ما أعاد انتاج الفقاعة يف السنوات التالية، يف سوقي األوراق املالية والعقار األمريكيني. وهو ما أغرى الكثريين من االقتصاديني لوضع تنبؤاتهم بشأن موعد اندالع األزمة املالية واالقتصادية الجديدة. ومن األمثلة عىل ذلك التسيب واالستهتار، واملمارسات الفاسدة لكبار مجلس االحتياطي الفدرايل، التي تم التسرت عليها، وتناقلتها كواليس قطاع املال واألعمال يف الواليات املتحدة، حول تورط رئيس مجلس االحتياطي الفيدرايل ”جريوم باول - Powell Jerome ،”وعضو مجلس اإلدارة ونائب رئيس مجلس االحتياطي السابق لإلرشاف عىل مجلس املحافظني االتحادي منذ أكتوبر 2017م، ”راندال كوارلز - Quarles Randal ،”فيما شخصته قواعد الحوكمة يف حينها عىل أنه تضارب يف املصالح ”interest of Conflict ،”تمثل يف ُ قيام الرجلني اللذين وضعت تحت أيديهما، حزمة صندوق االنقاذ املايل التي وصل اجماليها اىل )54.4 )تريليون دوالر، بجمع ثروتهما الشخصية من إحدى أكرب رشكات ”Private equity firms“ الخاصة األسهم يف العالم، وهي مجموعة كاراليل ”Carlyle Group .”وقد ارشفا، بصفتهما الرسمية، عىل استخدام )454 )مليار دوالر تمت وتتم جبايتها من دافعي الرضائب األمريكيني، إلطفاء خسائر بنوك ورشكات وول سرتيت، وبضمنها مجموعة كاراليل. فقد كان رئيس مجلس االحتياطي الفيدرايل ”جريوم ً باول“ رشيكا يف مجموعة كاراليل خالل الفرتة من 1997م إىل 2005م. أما ”راندال كوارلز“، الرجل املسؤول عن اإلرشاف عىل أكرب بنوك وول سرتيت الحافلة بالخروقات القانونية، والذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس االحتياطي الفيدرايل لإلرشاف، فقد كان يعمل مديرا تنفيذيا يف &Carlyle ،Global Financial Services Partners خالل الفرتة من عام 2007م إىل 2013م. جدير ذكره، أنه يُطلق عىل صناديق العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 42 )رشكات( األسهم الخاصة، مثل مجموعة ”Carlyle ،”تسميات موحية مثل تجار الديون النسور، أو غزاة الرشكات بسبب طبيعة نشاطها املتمثل يف رشاء الرشكات بعد اغراق ميزانياتها العمومية يف الديون، وبيع األصول عالية القيمة مثل العقارات، واستدرار أرباح ضخمة لرشكاء صناديق األسهم الخاصة من عمليات محاسبية يتم فيها مناقلة بنود امليزانية عىل حساب ّم األجور ُ النفقات الجارية السيما بنود سل واملرتبات، بما يفيض، يف كثري من األحيان، النهيار الرشكة وإحالتها لإلفالس وترسيح جزء من العاملني فيها، أو حتى تصفيتها بالكامل إذا تطلب األمر ذلك، لتأتي بعد ذلك خطوة إعادة التملك. وقد حفلت الصحافة األمريكية بقصص سلسلة االفالسات املريبة التي تعلنها مجموعة ”Carlyle ،”لعدد من رشكاتها املتعثرة، ومن ذلك ما سبق وكشفت عنه وكالة أنباء رويرتز يف يناير 2018م، بشأن فساد إدارة استثماراتها يف رشكة التي“، Philadelphia Energy Solutions“ أعلنت افالسها، وما كشفت عنه واشنطن بوست يف نوفمرب 2018م بشأن كيفية إدارة املجموعة الستثماراتها يف رشكة ”HCR ُ َشبّه الصحافة األمريكية ManorCare .”وت مجموعة ”Carlyle ”ببنك االستثمار الشهري ”Stearns Bear ،”الذي انهار يوم السادس عرش من مارس 2008م، تحت وطأة الديون املسمومة ”debts Toxic ،”أي الديون املشكوك يف تحصيلها؛ والذي سبق بنك يمان براذرز يف اعالن افالسه )ليمان براذرز تقدم بطلب اعالن االفالس يف 15 سبتمرب 2008م(. ً أيض ُ ا، كما كشف النقاب عن وجود عالقة مشرتكة أخرى مثرية لكل من جريوم باول وراندال كوارلز مع عمالق االستثمارات الدولية ”BlackRock ،”الذي يدير لهما ماليني الدوالرات. وبحسب نموذج اإلفصاح املايل لجريوم باول لعام 2019م، فإن لديه )6.11 )مليون دوالر يف ”iShares ،”وهي رشكة متفرعة من ”BlackRock( ،”تعترب رشكة عاملية رائدة يف الصناديق املتداولة يف البورصات(، ولديه استثمارات أخرى يف ”BlackRock .”ولدى كوارلز استثمارات بقيمة )6.19 )مليون دوالر يف ”iShares ” ً وفقا لنموذج اإلفصاح املايل الخاص به املؤرخ يف 21 يوليو 2019م. وجميعها مصنفة ضمن استثمارات األسهم املمتازة، أي التي تحظى بأفضلية يف أولوية توزيع األرباح، وكذلك يف ً حالة اإلفالس، إذ تحظى هنا أيضا بأفضلية مقارنة باألسهم العادية من حيث حقوقها يف أرباح الرشكة وأصولها. كانت وزارة الخزانة األمريكية قد نجحت يف اقناع الكونجرس بتخصيص )454 )مليار دوالر من أموال دافعي الرضائب من حزمة قانون التحفيز املسمى قانون ”CARES ،” إلطفاء الخسائر يف صندوق إنقاذ رشكات العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 43 وول سرتيت. وبموجب هذا القانون، يقوم الصندوق، كما فعلت حزم االنقاذ املايل يف أزمة 2008م، برشاء ديون مسمومة من وول سرتيت، بعد أن يقوم أصحابها بـتجميلها قبل عرضها للبيع. وهو ما كان أقر به حرفيًا رئيس االحتياطي الفيدرايل يف مقابلة أجرتها معه محطة ”NBC ،”يف 26 مارس 2021م. وباحتفاظ باول وكوارلز باستثمارات يف بالك روك فإن هذا يُ ّعد بالتأكيد تضاربًا كبريًا يف املصالح. ذلك أن الرجلني سمحا ملجلس االحتياطي الفيدرايل يف نيويورك بإنشاء مرفقني إلنقاذ سندات الرشكات بقيمة اجمالية تبلغ )750 )مليار دوالر أمريكي، وسوف تستخدمان رشكة الك روك كمدير الستثمار هذا املبلغ. ولسوف يستخدم )75 ) مليار دوالر من حصيلة دافعي الرضائب التي أنشأها قانون كريز لتمويل الربنامجني املعروفني باسم تسهيل ائتمان الرشكات يف Primary Market Cor } األسايس السوق ائتمان تسهيالت{، porate Credit Facility الرشكات يف السوق الثانوية }Secondary ،}Market Corporate Credit Facility خص للمرفقني ُ لتعويض الخسائر. ويف حني ر ِّ االستثماريني، القيام برشاء األصول عالية التصنيف، باإلضافة إىل السندات التي تحمل تصنيف أصول النفايات; )assets Junk ) رشيطة أن تكون درجتها االستثمارية عالية يف 22 مارس 2020م، فإن رشكة بالك روك، ُمنحت امتياز رشاء صناديقها املتداولة الخاصة بها، بما يف ذلك تلك التي تمتلك سندات مصنفة كنفايات. والحال، انه لم يسبق لالحتياطي الفيدرايل رشاء ثالثة أرباع تريليون دوالر من سندات الرشكات. إنه ألمر غري مسبوق أن يقوم برشاء سندات نفايات )bonds Junk )وأن يسمح لـ ”BlackRock ،”التي ستستفيد نفسها من الصفقات، بإدارة الربامج. واألكثر إثارة، انه عندما يحدث يشء غري مسبوق، وبرعاية رجلني مؤتمنني حكوميًا وبرملانيًا عىل سالمة النظام النقدي واملايل، فيما هما ينحدران من عائلة كاراليل، تصبح جلسات االستماع يف الكونغرس بهذا الخصوص، مجرد دردشة عائلية. وهكذا، فبعد مرور عرش سنوات ونيف عىل األزمة املالية / االقتصادية العاملية التي رضبت االقتصاد العاملي يف عام 2008م، ُراوح بني الهشاشة ) Vul بقيت وضعيته ت nerability )والنمو املتواضع. وزاد تكالب املنجمني االقتصاديني ليس بشأن ما إذا كان االقتصاد العاملي سيدخل يف غياهب األزمة من جديد وإنما بشأن موعد اندالع هذه األزمة. ومع أن كل توقعات هؤالء املنجمني، ومنهم خصوصا رجل األعمال األمريكي املعروف وكبري مضاربي البورصات العاملية، الرشيك السابق لجورج سوروس )Soros George ،)األمريكي جيم روجرز العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 44 )Rogers Jim ،)الذي ظل يوزع توقعاته كل سنة تقريبًا منذ عام 2015م، عىل محطات التلفزة األمريكية، حول حتمية وقوع األزمة هذا العام ــ ذهبت جميعها أدراج الرياح - إال أن هذه األزمة أبت اال أن تطل ببشائرها فعليًا عىل االقتصاد العاملي، من حيث لم يتوقعها أحد، من صوب فريوس 19-Covid ،) كورونا(، كما هي شهرته العاملية الشعبية. ُصيبت الصني بشلل اقتصادي شبه تام فقد أ منذ مطلع عام 2020م، كما أظهر بعض عالمات الركود الصناعي يف الواليات املتحدة، ً وسجل االقتصاد األملاني نموا صفريًا، فيما انكمش االقتصاد الياباني بنسبة )%4.1)؛ وأرسل قطاع التكنولوجيا األمريكي إشارات قوية عىل قرب انفجار فقاعته. ولم يكد االقتصاد العاملي يعود لالقالع بعد سنتني من الشلل الذي رضب معظم مفاصله الحيوية، السيما سالسل التوريد )Supply chain ،) ُ حتى صدم باندالع الحرب األطلسية الروسية عىل األرايض األوكرانية يف شهر فرباير 2022م، والتي مازال سعري نريانها يلهب قطاعي الطاقة والغذاء العامليني، ما أنشأ معضلة جديدة هي خليط بني التضخم الجامح والركود الالئح يف األفق، ما قد يعيد انتاج ظاهرة الركود التضخمي )Stagflation ) ملنتصف سبعينيات القرن املايض. وما يعقد األزمة الحالية، أن السياسة صارت هي التي تقود االقتصاد. فاالمربياليون العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 45 ُ األمريكيون وأتباع ُهم األوروبيون، وقد أصابتهم لوثة عداء مجنون لروسيا، القوا بكل ذخريتهم االقتصادية يف معركة املصري التي يخوضونها من أجل املحافظة عىل نظام االمتيازات الذي تنعموا بخرياته عىل مدار السنوات السبع والسبعني املاضية )منذ انتهاء الحرب العاملية الثانية(. فلم يعدموا وسيلة ضغط اقتصادي اال واستخدموها ضد روسيا، حتى تحولت حزم العقوبات ً االقتصادية التي تتواىل تباعا اىل جدار برلني ٍ ثان أقامه هذه املرة االمربياليون وسط حالة هياج غري معهودة، ربما بسبب تلقف الغالبية العظمى من بلدان الجنوب يف آسيا وافريقيا وأمريكا الالتينية، هذه السانحة لفك أرسها من قبضة نظام االستغالل االمربيايل الذي كبلها طويًل ومنعها من احراز أي تقدم اقتصادي واجتماعي، وهو ما تبدى يف مواقفها املضمرة املؤيدة للمبادرة الروسية الصينية الجسورة السقاط نظام األحادية القطبية وإقامة نظام التعددية القطبية عىل أنقاضه، بحيث يكون لكل دولة من دول العالم فسحة لعكس مصالحها الوطنية يف أفيائه. لقد أصبح هنالك شبه اجماع بني كبار االقتصاديني يف العالم، بغربه ورشقه، بأن األوضاع االقتصادية واالجتماعية الراهنة، التي خلفتها االغالقات الطويلة لالقتصادات، والتداعيات االقتصادية واالجتماعية للحرب األطلسية الروسية عىل األرايض األوكرانية، ً تختلف هذه املرة تماما عن تلك التي نجمت عن أزمة 2008م. وهي لذلك تحتاج اىل مقاربات عالج مختلفة، وسياسات ً اقتصادية تطبيقية أيضا مختلفة عن تلك ُّبعت يف معالجة األزمات السابقة. التي ات هذه املرة لم تكن األزمة نتيجة انفجار فقاعة من فقاعات األصول التي تنفخ فيها يوميًا املضاربات املحمومة، كما هي فقاعة الدوت كوم )bubble com-Dot ،)لرشكات ُ ً فخ فيها ابتداء تكنولوجيا املعلومات، التي ن من عام 1995م، وانفجرت يف عام 2000م؛ أو فقاعة الرهن العقاري )bubble Housing ،) ً التي بدأ النفخ فيها اعتبارا من عام 2004م، وانفجرت يف عام 2008م، نتيجة تضخيم قيمة املستندات الورقية لألصول العقارية السكنية وتوريقها يف صورة ما صار يعرف باملشتقات )Derivatives - )فهذه األزمة التي أشعلت فتيلها، جائحة ”كوفيد – 19 ،” وفاقمتها الحرب األطلسية الروسية، هي حصيلة رزمة من االستحقاقات املرتاكمة، الواجب سدادها، والتي ترتبت عىل سنوات من الغرف من كافة مصادر نمو الثروة، بوترية بالغة الرسعة لم تحفل بمواعيد استحقاقات دفع فواتري هذا الغرف الالمعقول. ليست جائحة ”كوفيد – 19 ”والحرب األطلسية الروسية، وحدهما من حفز مثل ِّرة من عواقب تكرار تلك النقاشات املحذ املمارسات الفقاعية لألصول، وإنما كانت العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 46 قد سبقتها حوادث أثارت الخوف والقلق يف ً، اندالع ً األسواق العاملية، ونعني بها تحديدا الحروب التجارية، خصوصا بني الكبار، الواليات املتحدة والصني، واللجوء لسالح الحمائية )Protectionism ،)واالنفالت املجنون لسالح العقوبات االقتصادية الغربية، ما أطلق العنان لكثري من الكتابات والترصيحات التي راحت تنعي عرص العوملة، وعرص األحادية القطبية، وتتحدث عن مرحلة مبهمة من التحوالت السلبية يف العالقات االقتصادية الدولية، تبدو والدتها عسرية، وان كانت األغلبية الساحقة، باستثناء حفنة من الدول الغربية. وقد لوحظت غزارة الكتابات واالجتهادات التي راحت تتحدث عن أن جائحة كورونا قد تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى بعد اسدال الستار عىل النظام االقتصادي العاملي الذي ظل يحكم مسار التنمية العاملية منذ انتهاء الحرب العاملية الثانية. وذهب بعضها اآلخر للحديث عن بداية أفول مرحلة تطبيقات الـ ”ـنيوليربالية“ )Neoliberalism .)من ذلك، عىل سبيل املثال، املقال الذي نرشه موقع ”املركز الوطني ملعلومات التكنولوجية الحيوية“ األمريكي يوم 29 مايو املايض، لالقتصادي املكسيكي ”الفريدو فيلهو ــ Filho-Saad Alfredo ،”والذي قال فيه لقد وجه الوباء رضبة قاصمة للنيوليربالية التي استفادت طوال العقود األربعة املاضية من العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 47 طاقات الدولة، وسخرتها لخدمة مسحور الربحية القصرية األجل؛ حيث أفضت جائحة كورونا اىل انكشاف كربى االقتصادات ً النيوليربالية األكثر ثراء، يف الواليات املتحدة وبريطانيا، وافتضاح عجزها عن توفري ما يكفي من أقنعة الوجه ومعدات الحماية الشخصية للعاملني يف الحقل الصحي، ناهيك عن عمليات القرصنة التي تورطت فيها ً، من أجل االستحواذ عىل دول كربى عالنية أجهزة التنفس الصناعي للحفاظ عىل مرىض املستشفيات عىل قيد الحياة، ويضيف- إن هذا كان كافيا بحد ذاته إلظهار فداحة أخطاء النيوليربالية، ومنها قيامها بتفكيك األنظمة الصحية وتجزئتها وخصخصتها )كليًا أو جزئيًا( يف العديد من البلدان، ما أفىض اىل عدم قدرتها عىل أداء أبسط وظائف الحكم املتمثلة يف حماية األرواح، وتأمني سبل العيش عىل املدى الطويل. واستدل عىل زعمه بقرب أفول النيوليربالية، باالختفاء الرسيع وغري املتوقع لإلعالنات األيديولوجية النيوليربالية الداعية للتقشف املايل، والقائلة بحدود السياسات الحكومية يف االقتصاد؛ وانسحاب أنصار املدرسة االقتصادية النمساوية املتعصبني وأطياف النيوليرباليني من مواقعهم )مؤقتا(، وهروعهم اىل ما ني ِّ ُ يمكن توصيفه بنصف الكينزية، م َول ُوجوههم صوب وزارة الخزانة ومجلس االحتياطي، أي الدولة، للفوز بنصيب وافر من حزم اإلنقاذ املايل. يف تلك اللحظات ما عاد ٌ أحد منهم يتحدث عن فضائل وسحر السوق ُ الحرة، وإنما صار حديثهم وحديث رشكات القطاع الخاص واإلعالم السائد الناطق ً باسمهم، مركزا عىل االنفاق الحكومي غري املحدود، واملطلوب بإلحاح من قبل رشكات وبنوك القطاع الخاص. وهو ما يفعلونه عىل أية حال، عىل الدوام، إبان األزمات. ولذلك، ما أن تنتهي األزمة فإنهم سوف يعودون مرة أخرى لتوجيه سهامهم للدولة ونعتها بالسيئة وستصبح الخدمات العامة جاهزة لجولة أخرى من اإلعدامات لم تكن أوجه القصور واالخفاقات يف األداء يف الواليات املتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ناتجة فقط عن نقص القدرة اإلنتاجية بسبب التغريات التكنولوجية أو السياسات ً التجارية الصينية، ولكن أيضا بسبب السياسات املتبعة عىل مدار العقود األربعة املاضية. فلقد عملت النيوليربالية طوال هذه الفرتة عىل تفكيك وتجزئة أنظمة بأكملها، من الجامعات، إىل املختربات، إىل التصنيع، وذلك من أجل تحفيز الرشكات الفردية عىل تحقيق أرباح قصرية األجل. فتوالت وتفاقمت أوجه القصور التي تلت ذلك، ومنها تدمري القدرة التخطيطية للدولة، متجسدة يف شل قدرتها عىل استخدام كافة الوسائل الالزمة لتعبئة الصناعة ورفع رأس املال الخاص لتحقيق هدف مشرتك خالل الوباء. العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 48 قد يكون تعدي اإلنسان عىل الطبيعة، يف املقام األول، هو السبب يف تفيش الوباء، ولكن ليس هناك شك يف أن تدمري الجماعية )Collectivism )يف ظل النيوليربالية قد فاقم من تأثري الوباء. فقد أبانت الجائحة كيفية تقليل النيوليربالية من قيمة حياة ٌ البرش إىل الحد الذي أهدر فيه وقت ٌ ثمني يف العديد من البلدان، ال سيما يف تلك التي تطبق بغلو فاقع، النيوليربالية، مثل الواليات املتحدة األمريكية واململكة املتحدة والربازيل يف ظل حكم الرئيس املهزوم يف االنتخابات األخرية، ”جايري بولسونارو“، وهي تحاول ًا فرض اسرتاتيجية ما تسمى مناعة حثيث القطيع )وهو مصطلح ظل حتى وقت قريب ً مقصورا استخدامه عىل إدارة حيوانات املزرعة ال عىل األوبئة البرشية(؛ بحيث تفيض هذه االسرتاتيجية بصورة ال لبس فيها، اىل القضاء عىل كبار السن وأصحاب البنية الجسمانية الضعيفة، وذوي الصحة الهشة. يف عام بدء الجائحة )2019م(، نرش االقتصادي األمريكي لنوبيل، جوزيف ستيجليتز، عدة مقاالت يف صحف ومجالت ومنصات مختلفة، تركزت عىل توقعه بانتهاء عرص النيوليربالية، يف مقال بصحيفة الغارديان الربيطانية نرشه بتاريخ 30 مايو 2019م تحت عنوان ”يجب اعالن موت الليربالية الجديدة ودفنها“، وذلك بعد ً ما اعتربه عقودا من تطبيق الواليات املتحدة ُ ودول أخرى ألجندة السوق الحرة التي فشلت فشًل ذريعا، خالصته أن ثمار النمو ذهبت إىل القلة يف القمة، وبدت آثار تحرير أسواق رأس املال سيئة للغاية، لدرجة أنه إذا حدث ّ وأن ترشح للرئاسة يف أحد بلدان االقتصادات الناشئة من ال يلقى قبوًل لدى وول سرتيت، فإن البنوك تسحب أموالها من ذلك البلد، ً ً ورصيحا، إما ً فيواجه الناخبون خيار ُ ا م ّرا االستسالم لوول سرتيت أو مواجهة أزمة مالية حادة. كما لو أن وول سرتيت يتمتع )1( بسلطة سياسية أكرب من مواطني البالد. كما نرش يف الخامس من نوفمرب 2019م، يف نفس الصحيفة، مقال آخر تحت عنوان ”عقود من أرثوذكسية السوق الحرة أرضت بالديمقراطية“. ويف 26 نوفمرب 2019م نرش مقال آخر مماثال، عىل منصة ” Eu Social ropee ،”املعروفة سابقا باسم ” Eu Social Journal rope ،”وهي نارش وسائط رقمية أوروبي رائد ومنتدى للنقاش والتفكري ًا اإلبداعي. وقد حمل املقال هذه املرة عنوان ًرصيحا وموحيًا )نهاية النيوليربالية ووالدة التاريخ(، ولكأنه أراد بذلك الرد عىل كتاب املفكر األمريكي ”فرانسيس فوكوياما“ )نهاية التاريخ واالنسان األخري( الذي نرشه عام 1992م. وهذا بالضبط ما ً علميًا قصده ”ستيجليتز“؛ فقد أراده ردا عىل نبوءة فوكوياما. يف صدارة مقالته، كتب ”ستيجليتز“ : }عىل مدى 40 ً عاما، العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


العروبة - العدد الخامس والثالثون جمادى اآلخرة 1444 هـ - يناير - كانون الثاني 2023م 49 ظلت النخب يف البلدان الغنية والفقرية، توزع الوعود عىل الناس بأن السياسات النيوليربالية ستؤدي إىل نمو أرسع، واىل انهمار عوائدها عىل الجميع ليكونوا يف أوضاع معيشية أفضل مما هم عليه(. ويف نهاية الحرب الباردة، كتب عالم السياسة ”فرانسيس فوكوياما“ مقاًل ذائع الشهرة بعنوان )نهاية التاريخ(، وقال إن انهيار الشيوعية سيزيل العقبة األخرية التي تفصل العالم بأرسه عن مصري الديمقراطية الليربالية واقتصاديات السوق. حينها وافق الكثري من الناس عىل تلك الوعود. واليوم، بينما نواجه ً تراجعا عن النظام العاملي الليربايل القائم عىل القواعد والضوابط، مع وجود حكام استبداديني وديماغوجيني يقودون البلدان التي تضم أكثر من نصف سكان العالم، تبدو فكرة فوكوياما غريبة وساذجة. لكنها عززت العقيدة االقتصادية النيوليربالية التي سادت عىل مدى السنوات األربعني املاضية. لكن، بعد 40 عاما ظهرت األرقام، لقد تباطأ النمو وذهبت ثمار هذا النمو بشكل ساحق إىل عدد قليل جدا ممن هم يف القمة. ويف ظل تجمد األجور وارتفاع سوق األسهم، واصلت ً الثروة تدفقها عىل أهل القمة عوضا عن ُصيبت التجربة النيوليربالية تراجعها. لقد أ املتمثلة يف خفض الرضائب عىل األغنياء، وإلغاء الضوابط التنظيمية ألسواق العمل واملنتجات، والتمويل، والعوملة – بالفشل الذريع؛ فقد أضحى النمو أقل مما كان عليه يف ربع القرن الذي تال الحرب العاملية الثانية، )2( وتراكـم معظمه يف أعىل سلم املداخيل . يف هذا االتجاه صبت، أخريًا، رؤية االقتصادي الرتكي ”داني رودريك“ )Rodrik Dani ،) األستاذ بمؤسسة فورد لالقتصاد السيايس الدويل يف كلية جون إف. كينيدي لإلدارة الحكومية يف جامعة هارفارد – وهو من أنصار األسواق املفتوحة عىل مرصاعيها - فقد أكد بأن نوع العوملة الذي حددته النيوليربالية، والذي أطلق عليه تسمية العوملة املفرطة )hyperglobalization ،) ً قد ترك أفرادا ومجتمعات بأكملها، غريقادرين عىل )3( السيطرة عىل جزء مهم من مصريهم. ّق تقرير صدر يف عام يف السياق، فقد وث 2018م عن ”معهد الرضائب والسياسة Institute on Taxation and“ ”االقتصادية Policy Economic ”األمريكي، التخفيضات الرضيبية املجمعة إلدارات الرؤساء األمريكيني، بوش وأوباما وترامب، من عام 2000م إىل وقت تنفيذها بالكامل يف عام 2025م، بأكثر من )10 )تريليون دوالر. ووجد التقرير أنه من أصل )10 )تريليون دوالر، سيتم تخصيص )2 )تريليون دوالر حرصيا لرشيحة الـ )%1 ) ً األكثر ثراء. كما أن هذه الرشيحة من العائالت األوليغارشية، دفعت )111 )مليار دوالر أقل يف ذلك العام وحده )2018م( من الرضائب الفيدرالية العالم بعد خمسة عرش عاما من األزمة العاملية د. محمد الصياد


Click to View FlipBook Version