The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

مجموعة قصصية / Collection of short stories
تأليف: الحسين قيسامي / Author: El Houcine Kissami
الطبعة الأولى: 2015 / First printed: 2015
Berkane, Morocco

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by El Houcine Kissami, 2015-11-06 08:48:23

مرآة تبحث عن هوية

مجموعة قصصية / Collection of short stories
تأليف: الحسين قيسامي / Author: El Houcine Kissami
الطبعة الأولى: 2015 / First printed: 2015
Berkane, Morocco

‫لعل وعسى يتم إيجاد أثره‪ ،‬لأن ابن المقفع يفهم هذه‬
‫الكائنات‪ .‬وتأتي هذه الزيارة لابن المقفع في ظرفية‬
‫خاصة تتميز بالربيع العربي الذي زلزل عروش الحكام‬
‫العرب‪ ،‬علما أن ابن المقفع قد ساهم في ثورة فكرية‬
‫مماثلة كان لها دورها الهام في نهوض الحركة العقلية‬
‫العباسية من كبوتها‪ .‬ولعل هذه الثورة هي التي أدت إلى‬
‫قتله لأن ابن المقفع عاش في عصر أريد فيه للناس أن‬
‫يتخلوا عن إرادتهم وعقلهم تحت شعار “الاستسلام‬
‫للقضاء والقدر” في طاعة الحاكم‪ .‬وفي المساء نقلت‬
‫القنوات التلفزية صور رجل يرتدي زيا قديما وهو‬
‫يدخل المجلس الحكومي مصحوبا بمجموعة من‬
‫الحيوانات يتحدث معها بلغة لم يفهمها أحد ملقيا اللوم‬
‫على الوزراء بخصوص استعمال الرموز الحيوانية في‬

‫أوراق الانتخابات المحلية والبرلمانية‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫القلم والسيف‬

‫عندما أمسكت القلم لأكتب هذه القصة تدافعت الوقائع‬
‫وازدحمت الأفكار‪ ،‬وتساءلت من أين أبدأ وكيف أتمم‬
‫في غياب الإلهام وتحت تهديد سيف دمقليس‬
‫الحكومي‪ .‬وفجأة لاحظت تغييرا طرأ على تقاسيم وجه‬
‫القلم‪ ،‬وانتابني قلق شديد ثم خرجت إلى شرفة المنزل‪.‬‬
‫وعند عودتي وجدت القلم مكبل اليدين وهو بين‬
‫شرطين‪ ،‬وتبين لي جدية المؤامرة‪ .‬احتوت المبراة القلم‬
‫بين ذراعيها في قسوة‪ ،‬ودهش القلم حينما رأى حبيبته‬
‫المبراة ترفع إليه عينين دامعتين وهي تزداد شوقا‬
‫والتصاقا كلما أرادت الشرطة انتزاع القلم من يديها‪.‬‬
‫انتابني قدر كبير من الضيق في غياب القلم‪ ،‬علما أنني‬
‫في بداية كتابة القصة‪ .‬وغير بعيد مني سكب الفرجار‬

‫‪51‬‬

‫البنزين على نفسه وأشعل النار في جسمه احتجاجا‬
‫على اعتقال القلم وهو يردد هتافات ضد الظلم‬
‫والحكرة‪ .‬وانطفأت الابتسامة من فوق شفتي الفرجار‪،‬‬
‫وأظلم وجهه‪ .‬ودرت بنظراتي الحزينة في أرجاء الغرفة‬
‫ورأيت أن المقلمة قد أغمي عنها‪ .‬أحس المقال أنه في‬
‫خطر وانتفضت الكلمات من غبارها وهرعت إلى‬
‫المطبخ وأمسكت سكاكين حادة وطعنت مضمون‬
‫القصة بالعديد من الطعنات لمحو آثار الرسائل الخفية‬
‫التي هي حجة ثابتة لإدانة القلم‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬قامت‬
‫قوات الآمن بقمع المشيعين لجثمان "المضمون" كما‬
‫قذفت بالغاز المسيل للدموع على حشود الكلمات‪ .‬هذا‬
‫وقد وردت أنباء عن حالات دهس للمبراة وللمقلمة‬
‫وأطلقت عليهما قنابل مطاطية من أجل إلحاق الضرر‬

‫بهما كما تعرضتا لعدة حالات اختناق‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫محاكمة‬

‫في المحكمة‪:‬‬

‫قال القلم للسيف‪:‬‬

‫«افتخرت بحيفك وعدوانك إبان الحكومات‬
‫المتعاقبة‪ ،‬فملت إلى الظلم وذهب ضحيتك‬
‫مجموعة من الصحفيين الأحرار‪ .‬تقمصت شخصية‬
‫دمقليس ونسيت عروبتك وشرفك‪ .‬لماذا لم تعط‬
‫تلك الصورة الشريفة لذلك السيف الذي كان رمزا‬
‫للبطولات الإسلامية‪ .‬ألم يعطنا خالد بن الوليد درسا‬
‫في دور السيوف في البطولة والتضحية وهو على‬
‫فراش الموت عندما قال لسعد ابن أبي وقاص" هلم‬

‫‪53‬‬

‫إلي بالسلاح (السيف) الذي استخدمه في ميدان‬
‫القتال ليشهد موتي‪"...‬‬

‫قال السيف للقلم‪:‬‬

‫"استسمح يا أخي القلم فالحكومة تحاول أن تنال‬
‫من صداقتنا‪ ،‬كنت ضحية "سيستام" وأفند كل‬
‫الادعاءات بشأن ما ترفعه الحكومة من شعارات‬

‫واتهامات باطلة في حقك"‬
‫وبعد هذه المقابلة طلبت المحكمة الموقرة بالسماع‬
‫للشهود قصد البث نهائيا في هذه القضية‪ .‬وتقدم‬
‫على التوالي كل من المبراة‪ ،‬الفرجار المقلمة‬

‫والممحاة كشهود‪.‬‬

‫المبراة‪:‬‬

‫‪54‬‬

‫" سيدي الرئيس‪ ،‬السادة القضاة‪ ،‬أمثل أمامكم لأقول‬
‫الحق كل الحق‪ .‬في الحقيقة إن القلم بريء من كل‬
‫التهم الموجهة إليه‪ ...‬كانت الحكومة تضع العصا في‬
‫عجلة الصحافة‪ ،‬وتتهم دائما القلم بالمؤامرة ضدنا‪.‬‬
‫اسمحوا لي أيها السادة لقد اتهمتني الحكومة أكثر‬
‫من مرة بربط علاقة غير شرعية مع القلم‪ ،‬وهذا‬
‫كذب وبهتان‪ .‬ولهذا أطلب منكم رفع الضرر عني‬

‫وشكرا"‬

‫المقلمة‪:‬‬

‫"سيدي الرئيس‪ ،‬السادة القضاة‪ ...‬لقد هددتني‬
‫الحكومة أكثر من مرة بتصفيتي‪ ،‬لا لشيء إلا لأنني‬

‫أهتم بالقلم وأمثل وعاءه وشكرا"‬

‫‪55‬‬

‫الفرجار‪:‬‬

‫"السيد الرئيس‪ ،‬السادة القضاة‪ ،‬إن عداوتي مع القلم‬
‫تدخل في إطار شخصي‪ ،‬وأكن له كل الاحترام رغم‬
‫الحملة المسعورة التي شنها ضدي واتهامي بالرجعية‬

‫والانتهازية"‪.‬‬

‫الممحاة‪:‬‬

‫"السيد الرئيس‪ ،‬السادة القضاة‪ ،‬ألتمس من حضرتكم‬
‫تشديد العقوبة على القلم بحكم الضرر الذي سببه لي‬
‫خاصة وأنني أتابع العلاج ضد مرض الكاربون‬
‫والرصاص من جراء مسح كل ما يكتب من طرف‬

‫القلم وشكرا"‬
‫وبعد المداولة والنقاش حكمت المحكمة على القلم‬
‫بالبراءة‪ ،‬وبوضع السيف في المتحف الوطني‬

‫‪56‬‬

‫بالعاصمة‪ ،‬في حين حكم على الممحاة بثلاثة أشهر‬
‫سجنا نافدا بسبب الادلاء بشهادة زور لصالح‬
‫الحكومة تحت ضغط هذه الأخيرة لتقديم هذه‬

‫الشهادة الكاذبة"‪.‬‬

‫‪57‬‬

‫رسالة إلى أنا‬

‫رن جرس المنبه واستيقظت من النوم مرعوبا‪ .‬تفقدت‬
‫نفسي جيدا ولم "أجدني"‪ .‬أبلغت الشرطة بذلك‪،‬‬
‫فأجابوني بأن رجل الأمن لا يحمي المغفلين‪ .‬قررت إذن‬

‫مراسلتي‪:‬‬
‫السلام علي ورحمة الله وبركاته‬

‫تحية وبعد‪،‬‬
‫يسرني أن أكتب إلي هـذه الرسالة والتي أعـبر من‬
‫خلالها عـن مـدى حزني العميق في فقداني واختفائي‪.‬‬
‫لقد أبلغت الجهات الأمنية عن تغيبي وانقطاع ُسبل‬
‫التواصل معي منذ يومين‪ .‬أكتب إلي هذه الرسالة ولا‬

‫‪58‬‬

‫أنتظر جوابا عليها‪ .‬أعرف جيدا أن عهد الاختطاف‬
‫والاختفاء القسري قد ولى‪ .‬تحياتي‬

‫‪59‬‬

‫مراسم جنـــازتي‬

‫بعد أزمة قلبية نقلت إلى المستشفى‪ .‬أعلن الأطباء‬
‫وفاتي رسميا وحرروا شهادة بذلك‪ .‬وأعيد جثماني إلى‬
‫منزلنا حيث بدأت مراسم جنازتي‪ .‬فلفوني في كفن ثم‬
‫وضعوا جسدي داخل النعش‪ .‬وبعد الصلاة حمل‬
‫المشيعون نعشي في سيارة بيضاء‪ ،‬وسار الموكب‬
‫الجنائزي الرهيب في اتجاه المقبرة‪ ،‬متبوعا بمئات‬
‫الآلاف من الأصدقاء‪ ،‬على طول الشارع‪ ،‬مستحضرين‬
‫جلال الموت ورهبته‪ ،‬خاشعين لهذا القدر الذي كتبه الله‬
‫على كل نفس‪ ،‬مستبطنين سيرتي ومساري‪ .‬فجأة رن‬
‫المنبه واستيقظت من النوم مرعوبا‪ ...‬يا له من كابوس‬

‫حلم مزعج‪.‬‬

‫‪60‬‬

‫سيدي شمهروش‬

‫احتكم أحمد إلى الجن شمهروش لحل ما يعاني منه من‬
‫مشاكل مع الحكومة‪ .‬يتبرك أحمد عادة من ضريح‬
‫"سيدي شمهروش"‪ ،‬وهو يعلم أن هذا الأخير هو ملك‬
‫ملوك الجن يبث في القضايا العالقة بين الإنس وحكومة‬
‫العفاريت‪ .‬وبمجرد دخول أحمد إلى مقام شمهروش‬
‫أصيب بالصرع وسقط أرضا‪ ،‬وأصبح الجني الذي‬

‫يسكنه هو من يتكلم بلسانه‪ :‬تسقط الحكومة‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫الجاحظ يبيع البيتزا في سوق النخاسين‬
‫ببغداد‬

‫يتزين سوق النخاسين بالمحلات التجارية ذات‬
‫الماركات العالمية التي تعرض آخر صيحاتها‪ .‬هو سوق‬
‫الأناقة بامتياز وذلك لكثرة محلات التسوق الشهيرة‬
‫مثل جورجيو أرماني وفيرساتشي وغوتشي‪ .‬يعرض‬
‫الجاحظ البيتزا على الرصيف في مشهد يسترعي‬
‫الأنظار ويغري النفوس ويثير الشهية‪ ،‬آمل ًا ببيعها لأجل‬
‫الحصول على قوت يومه‪ .‬بدا الجاحظ مجاورا لمحلات‬
‫التسوق الشهيرة‪ ،‬وأقدم على تفريش بضاعته َع ّل ُه‬
‫يتمكن من بيعها كلها‪ .‬وبدون أي سابق إنذار‪ ،‬قامت‬
‫دوريات القوات العمومية بتمشيط السوق وإخلائه من‬
‫أي تواجد للباعة الجائلين‪ .‬وقد عبر الجاحظ سريعا على‬

‫‪62‬‬

‫خطة كتاب حدد موضوعه‪" :‬نوادر البخلاء واحتجاج‬
‫الاشحاء‪" .‬‬

‫في ظل هذه الأجواء المشحونة‪ ،‬وقعت عينا الجاحظ‬
‫على جارية جميلة‪ ،‬على خدها خال أسود‪ ،‬فاقترب منها‪،‬‬
‫وقال يا جارية‪ :‬ما اسمك؟‪ ،‬قالت‪ :‬مكة‪ ،‬قال‪ :‬الله أكبر‪،‬‬
‫أتأذنين لي أن أقبل الحجر الأسود‪ ،‬يعني‪ :‬الخال الأسود‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬إليك عني‪ ،‬ألم تسمع قول الله تعالى (لم تكونوا‬

‫بالغيه إلا بشق الأنفس)‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫القصيدة المسكونة‬

‫بحثت عن الإلهام الشعري لكتابة قصيدة محاولا تصفية‬
‫وتنقية ذاكرتي من أصوات الآخرين‪ .‬قبل أن أ ْق ِب َل على‬
‫قصيدتي‪ ،‬بدأت أسمع أصوات ًا غريبة وحركات مريبة‬
‫تتناهى إلى أذني في الساعات المتقدمة من الليل‪،‬‬
‫وعندما أهرع لاستطلاع المصدر لا أعثر على أثر‪ ،‬الأمر‬
‫الذي أثار في قلبي الخوف ودفعني إلى الاعتقاد أن‬
‫البيت صار مسكون ًا بالأرواح الشريرة‪ .‬أردت الانزواء‬
‫لإيجاد الإلهام حتى أتنفس والهروب من الواقع المعاش‪.‬‬
‫حين تأملت في واقعي فكرت أن أكتب هذه القصيدة‬
‫وأطالب فيها بمعالجة هذا البلد الذي صار مسكون ًا‬
‫بالأرواح الشريرة‪ ،‬ولكن بعض العفاريت التي تمثلت‬

‫‪64‬‬

‫أمامي في وضعيات مختلفة حالت دون ذلك‪ .‬تمردت‬
‫إذن على بحور الشعر ولم أتمرد على الأرواح الشريرة‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫لعبة الفقاعات‬

‫صنع الطفل فقاعة صابون‪ .‬بدأ يجري وراءها ليفجرها‪.‬‬
‫حاول الإمساك بالفقاعة بيديه لكن دون جدوى‪ .‬تأمل‬
‫في الكرة الشفافة الرقيقة التي تتلألأ بمزيج عجيب من‬
‫الألوان الساحرة‪ .‬ركض وراءها حتى تح ّولت إلى شيء‬
‫يشبه السراب‪ .‬تتناثر الفقاعات البيضاء هنا وهناك‪.‬‬
‫نظرت في وجه الطفل فرأيت في عينيه نظرة حسرة‬
‫وأحسست وكأن هذا الطفل نفخ فقاعة ليفجرها‬

‫وينخرط في لعبة الفقاعات‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫ابن المقفع في جامع الفناء‬

‫حط ابن المقفع الرحال في ساحة جامع الفنا لمشاهدة‬
‫عروض مشوقة لمروضي الأفاعي ورواة الأحاجي‬
‫والقصص والموسيقيين‪ .‬وهو يتابع بعض حلقات‬
‫الساحة أصيب بالصدمة عندما اكتشف أن قصص كليلة‬
‫ودمنة تحكى بالجملة‪ :‬القرد والنجار‪ ،‬الثعلب والطبل‪،‬‬
‫القملة والبرغوث‪ ،‬القرود والطائر والر ُجل‪ ،‬التاجر‬
‫المستو ِدع حديدا‪ ،‬الرجل والذئب والقوس وابن آوى‬

‫والأسد والحمار‪.‬‬

‫‪67‬‬

‫قراءة الكف‬

‫وأنا جالس على شاطئ البحر استمتع بمشهد الأمواج‪،‬‬
‫حطت فراشة مزركشة على كف يدي اليمنى وبدأت في‬
‫قراءته‪ .‬شرعت الفراشة في سرد بعض الصفات في‬
‫شخصي ووجدت رابطا واضحا بين أقسام كف يدي‬
‫وعوالم تنجيمية مثل تل القمر‪ ،‬هضبة المريخ‪ ،‬مرتفع‬

‫المشتري ومنعرج قرية عين حروردة‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫كنز الحكومة‬

‫يتمتع أحمد بعلامة جسدية فريدة تميزه عن باقي‬
‫الناس العاديين‪ .‬يتميز بخط مستقيم يقطع راحة يديه‬
‫مما جعله هدفا لدى السحرة الباحثين عن الكنوز‬
‫المخبأة في الأرض التي يحرسها الجن‪ .‬في يوم من‬
‫الأيام تعرض أحمد لعملية اختطاف بعدما طاردته‬
‫سلحفاة صغيرة ولم يقو أن يتحكم بنفسه‪ .‬حطت‬
‫السلحفاة على كف يده اليسرى وبدأ أحمد في دعكها‬
‫حتى خرج منها دخان سرعان ما تحول إلى عفريت‪،‬‬
‫وقال له‪ :‬شبيك لبيك‪ ،‬ما تريده آتي لك به‪ .‬قال له أحمد‪:‬‬

‫أريد العثور على كنز الحكومة والأربعين حرامي‪.‬‬

‫‪69‬‬

70

‫ربيع الفراشة‬

‫وقفت فراش ٌة مزركشة أمامي على زهرة البيانو‪.‬‬
‫أجنحتها تصدر ومضات مضيئة عند تنقلها‪ .‬طاب لها‬
‫امتصاص رحيق الأوتار وعزف نوتات على لوحة‬
‫المفاتيح‪ .‬عزفت الفراشة على أوتار قلبي وانهارت‬
‫أحاسيسي‪ .‬استلهمت قصيدتي من وحي ربيع الفراشة‬
‫ثم ثارت ثائرتي‪ .‬غرقت في بحور الشعر حتى خنقتني‬

‫التفعيلات‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫الشيطان والحكومة‬

‫وضع إبليس عرشه على الماء‪ ،‬وأسس جيشه من‬
‫شياطين الجن الذين التفوا حوله في مملكته‪ ،‬ينفون كل‬
‫ما يأمرهم به‪ .‬وأسس مجلس وزرائه الذي سيقود‬
‫مخططاته الشيطانية في عالم الإنس‪ .‬حاولت الحكومة‬
‫أن تذل الشيطان حتى يكون ضعيفا ولا يستطيع أن‬
‫يمنعها من الخير ولا أن يوقعها في الشر‪ .‬ولكن لكثرة‬
‫معاصي الوزراء نجح الشيطان في مساعدة الحكومة‬

‫على الباطل‪ ،‬وعلى تثبيطها عن الخير‪.‬‬

‫والغريب في الأمر أن الحكومة ألقت أسباب فشلها على‬
‫الشعب بعد عقد اجتماع المجلس الحكومي والذي‬
‫تناول بإسهاب مبررات هذا الفشل أثناء تقييمه لأعماله‬
‫في ولايته‪ .‬ومن المضحك أن أحد الوزراء ألقى اللوم‬
‫على "العين" التي تسببت في الاحباطات المختلفة‪ ،‬أما‬

‫‪72‬‬

‫آخر فتدخل قائلا‪'' :‬لعنو الشيطان'' ما دخل العين في‬
‫التنمية‪ ،‬وفجأة تدخل الشيطان صائحا بأنه بريء منهم‬
‫بعدما خلع "طاقية الإخفاء"‪ ،‬وأكد أن أزمتهم كانت‬
‫نتيجة ما كسبت أيديهم لأنهم لم يؤدوا الأمانة‪ .‬فانبهر‬
‫الجميع بموقف الشيطان لأنهم يعتقدون دائما أن إبليس‬
‫لا يسير إلا في تأزيم الأوضاع‪ ،‬وهم دائما في الاتجاه‬
‫الصحيح‪ .‬فصرخ أحد الوزراء «القوا القبض على‬
‫الشيطان"‪ .‬حاول الشاوش إلقاء القبض على إبليس لكن‬
‫هذا الأخير سرعان ما وضع طاقية الإخفاء فوق رأسه‬
‫واختفى‪ .‬وفي اليوم الموالي قدم الشيطان دعوى‬
‫قضائية ضد الحكومة موضوعها السب والقذف في‬
‫حقه‪ ،‬مع استعمال عبارات تحقير وازدراء‪ .‬اكتست هذه‬
‫الدعوى طابعا فريدا في تاريخ المحاكمات‪ ،‬إذ لأول مرة‬
‫طرحت إشكالية قانونية تتعلق بمحاكمة يتقاطع فيها‬
‫عالم بني آدم مع عالم الشياطين‪ ،‬تتنازع فيهما القوانين‪:‬‬
‫فأي قانون جنائي يطبق على هذه النازلة؟ في الأخير‬
‫اهتدى الجميع لإجراء عملية القرعة في ما يخص قانون‬

‫‪73‬‬

‫المتابعة‪ .‬فكان قانون الشياطين هو الذي سيطبق في‬
‫هذه القضية‪ .‬فاتجهت لهذه المحاكمة الفريدة أنظار‬
‫الإنس والجن لما تكتسيه من تشويق وإثارة‪ .‬وفي‬
‫الأخير صدر الحكم ببراءة الشيطان من جميع التهم‬
‫المنسوبة إليه والحكم على الحكومة بالاعتراف بالذنب‬

‫في حق الشعب‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫ثورة قصيرة جدا‬

‫تميزت الثورة بتكثيف ومفارقة وإدهاش وإيحاء‬
‫وخاتمة مباغتة وقفلة إخوانية‪...‬وفي بعض الدول كان‬
‫لمصيرها ولادة قيصرية طارئة لم يخطط لها قبل أن‬
‫يبدأ المخاض‪ .‬سقطت الثورة في النزعة الشعرية؛ مما‬
‫أفقدها الخاصية الحكائية ولم تنجح في تصوير‬
‫جوانب معينة من الواقع الإنساني‪ .‬فتعددت الحبكات‬
‫والعقد والحوافز المحركة للأحداث وتكررت النماذج‬
‫المتشابهة‪ ،‬الشيء الذي قادها إلى نوع من الترهل الذي‬

‫يفقد الثورة تمركزها‪.‬‬

‫‪75‬‬

‫المرآة السحرية‬

‫تتبع الحكومة آثار البلاد وأخبار العباد من خلال نصب‬
‫مرآة في مدخل كل مدينة‪ .‬فإذا غاب مواطن عن أهله‬
‫وبلاده‪ ،‬يأتي المسؤول بالمرآة ويضع امامها اسم الغائب‬
‫ويتعرف على أحواله‪ .‬وتعريض شخص لانعكاس المرآة‬
‫يجعله مهددا بالخطر والموت‪ .‬أصبحت الحكومة تظهر‬
‫في شكل شبح شرير يطارد الناس في المرايا‪ .‬يحاول‬
‫المواطن كل مرة تعتيم المرآة إذا نظر فيها لأنها كانت‬
‫تأخذ الأرواح من أجسام المواطنين‪ .‬إذا نظر المواطن‬
‫مدة طويلة من الليل في المرآة فإنه يرى الشيطان‪ .‬فكم‬
‫من المرايا يجب أن تكون معتمة في زمن حكومة‬

‫الشياطين؟‬

‫‪76‬‬

‫سيلفي‬

‫التقط نارسيس صورة سيلفي باستخدام هاتف ذكي‬
‫ُمجهز بكاميرا رقمية قبل أن يتجه إلى غدير ليروي‬
‫عطشه‪ .‬شاهد صورته وتخيل حورية فاتنة على صفحة‬
‫الماء‪ .‬ظل يتردد على الغدير وفي كل مرة كان يرى‬
‫وجهه في صفحة ماء الغدير فيجن جنونه‪ .‬كان يقوم‬
‫كل ليلة بنشر قصص حبه بالحورية الفاتنة على صفحته‬
‫في الفايسبوك‪ .‬وزاد من هوسه كلما مد يده إلى هاتفه‬
‫ليتحسس صورته سيلفي‪ .‬حازت صورة سيلفي‬
‫لنارسيس على إعجاب أكثر من ‪ 8‬ملايين متابع على‬
‫صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي‬

‫"فيس بوك‪" .‬‬

‫وظهر نارسيس في الصورة وهو يقود سيارته ويرتدي‬
‫جاكيت أسود ونظارة شمسية‪ ،‬وكتب تعليقا على‬

‫‪77‬‬

‫الصورة قائلا‪" :‬صباح الفل‪ ،‬في طريقي إلى الغدير‪" .‬‬
‫وانهالت تعليقات المتابعين على الصورة والتي تجاوزت‬
‫مليون تعليق‪ ،‬مبدين إعجابهم بالصورة وباللوك الذي‬
‫يظهر به نارسيس وهو يتغزل بالحورية الفاتنة على‬

‫صفحة الماء‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫جسد طائش‬

‫تعرضت رصاصة للقتل بعد إصابتها بجسد طائش خلال‬
‫مصادمات بين متظاهرين وقوات الأمن‪ .‬واحتشد‬
‫المئات من المحتجين من قوات النظام في مسيرات‬
‫مناهضة للشعب‪ .‬استخدم الشعب مدافع المياه والغاز‬
‫المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق‬
‫المتظاهرين‪ .‬وألقى الشعب القبض على عدد من قوات‬
‫الأمن‪ .‬كما أمر الشعب جميع زبائن إحدى الحانات التي‬
‫لجأ متظاهرون إليها‪ ،‬بالخروج وألقى القبض على‬
‫العديد من الجنرالات‪ .‬ونصح الصحفيين بمغادرة‬
‫المنطقة‪ .‬في حين فوجئ المحتشدون في ساحة‬
‫الإعدام بالحلاج وهو ينادي بإسقاط نظام الخليفة‬
‫العباسي المقتدر‪ .‬وحكم عليه بألف جلدة‪ ،‬ثم تقطيع‬

‫يديه ورجليه‪ ،‬قبل أن تقطع رقبته‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫محطة النسيان‬

‫كانت شابة جميلة تنتظر قطارها في المحطة‪ .‬بدأت‬
‫تشعر بالوحدة وهي تدري أن القطارات لا تصل دائما في‬
‫الموعد‪ .‬رأت شابا وسيما واقفا يسترق النظرات إليها‬
‫ويحدق بها متعجب ًا‪ .‬إنه حب من أول نظرة على غرار‬
‫حب المرايا السحرية بين الأميرة توكان والأمير‬
‫كهرمان‪ .‬كانت الفتاة شاردة الفكر‪ ،‬تتزين أمام مرآة‬
‫محدبة كبيرة معلقة على واجهة المحطة‪ ،‬لكن ذهلت‬
‫لانعكاس صورتها البشعة في المرآة‪ .‬نظرت‬
‫في المرآة بتوتر وتأملت نفسها ووجهها المتغ ّضن‬
‫المرهق وعينين غائرتين لم تصدقا المشهد‪ .‬أعلن صوت‬
‫صفارة القطار عن إغلاق الأبواب‪ ،‬وانزلقت‬
‫عجلات القطار ليشرع في السير ببطء قبل أن تزداد‬
‫سرعته‪ .‬غرقت الفتاة في محطة النسيان حتى فاتها‬

‫‪80‬‬

‫قطار الأمل‪ ،‬ونسيت وجهتها بالسفر‪ .‬أصيبت بالذعر‬
‫وتملكتها حالة هستيرية جعلتها تطارد القطار على طول‬
‫خط السكة الحديدية وأجبرت القطارات القادمة على‬

‫تغيير مسارها ‪.‬‬

‫‪81‬‬

‫المرايا الأخرى غير المح ّدبة في "مرآة‬
‫تبحث عن هوية"‬

‫الشاعر والكاتب التونسي منصف الوهايبي‬

‫مساهمة الشاعر والكاتب التونسي منصف الوهايبي‬
‫بمقال "المرايا الأخرى غير المح ّدبة" في المجموعة‬
‫القصصية للكاتب الحسين قيسامي‪ ،‬معتمدا على‬
‫المبالغة والتضخيم ارتباطا بموضوعي الغرور‬
‫والتواضع وفق سخرية ترتفع إلى مستوى‬
‫"الغروتيسك" المضحك المبكي‪ .‬هذه المرآة التي ترانا‪،‬‬
‫وتضحك م ّنا وعلينا على غرار قصص "مرآة تبحث عن‬
‫هوية" ابتداء بهوس النرجسية في قصة "حين سرقت‬
‫المرآة وجهي"‪ ،‬مرورا بذلك المسؤول الغارق في زهوه‬
‫المستور خلف ألف قناع "في انتظار زيارة الحاكم"‪ ،‬ثم‬

‫‪82‬‬

‫المهرج المتواضع الذي يعاني في صمت أو ذلك الحاكم‬
‫المستبد المتعجرف الذي يجهض الثورة بإتقان‪ .‬بالنسبة‬
‫لكاتبنا‪ ،‬هذه مرآة لا تج ّسم الوجود الح ّق أو الأصل‪ ،‬إ ّنما‬
‫هي مرآة توهم الشبيه وتعكس الصورة‪ :‬ظل الكوفية‪،‬‬
‫فرويد في ضيافة هارون الرشيد‪ ،‬محاكمة السلمون‪،‬‬

‫وجوه وأقنعة‪ ،‬رسالة إلى أنا‪ ،‬القصيدة المسكونة‪...‬‬

‫تروي أسطورة عرب ّية قديمة أ ّن أحد ملوك الجان‪ ،‬نصب‬
‫مرآة كبيرة (عملاقة) على الطريق المفضية إلى قصره‪.‬‬
‫ث ّم جلس في الشرفة‪ ،‬وطفق يراقب السابلة العابرين‪.‬‬
‫أ ّما لماذا فعل هذا الملك ما فعل‪ ،‬فلأ ّن الأسطورة‪ ،‬وأنا‬
‫أنقلها عن الكاتب علي أدهم‪ ،‬وهو أحد ك ّتاب النهضة‬
‫الذين قرأناهم يافعين‪ ،‬بشيء من التص ّرف؛ تقول إ ّن‬
‫الملك ُعرف بتواضعه‪ ،‬وكان يكره غرور المزه ّوين‬
‫الكلفين بأنفسهم الذين يد ّلون بـ" مواهبهم" وفرط‬
‫تد ّلههم بها‪ ،‬بمناسبة وغير مناسبة؛ وترى أ ّيا منهم يمشي‬

‫في الناس مختالا مزه ّوا؛ صورة من ذلك المهج ّو‪:‬‬

‫‪83‬‬

‫أقبل يختا ُل على ظ ّله‬
‫يذه ُب في الأدنى وفي الأبع ِد‬

‫فأراد الملك بهذا الصنيع أن يختبر هؤلاء‪ .‬وأعلن في‬
‫الناس ـ عفوا في الجان‪ ،‬والح ّق أ ّنني مثل كثيرين‪ ،‬لا‬
‫أجد فرقا بين إنس ّي وج ّن ّي ـ أ ّنه لن يز ّوج ابنته ـ ولا ب ّد‬
‫أ ّنها كانت حسناء مثل ك ّل بنات الملوك في الأساطير‬
‫القديمة ـ إلاّ من أبعدهم عن الزهو والغرور والخيلاء‪،‬‬
‫وأ ّنه سيسعد ح ّقا إذا وجد مثل هذا الشخص‪ ،‬وسيجعله‬
‫يشاركه عرشه وم ْلكه‪ .‬وبدأ الطامعون يتوافدون على‬
‫القصر‪ ،‬ولا أحد منهم أدرك الس ّر في هذه المرآة الكبيرة‬
‫المنصوبة على الطريق‪ .‬كان ك ّل من يم ّر‪ ،‬ي ّتجه ببصره‬
‫إلى المرآة‪ ،‬ويتو ّقف أمامها ـ كما يفعل أكثرنا خلسة في‬
‫شوارع المدن العصر ّية‪ ،‬حيث تنهض الواجهات الب ّلور ّية‬
‫بوظيفة المرآة‪ .‬وقد يطيل هذا العابر "الخاطب"‬
‫الوقوف‪ ،‬وهو يتم ّلى صورته‪ ،‬ويصلح من هيئته؛ إذ لاب ّد‬
‫أن يكون لمنظره وقع حسن‪ ،‬حتى يحوز ابنة الحسب‬

‫‪84‬‬

‫والنسب‪ .‬وطال الزمن‪ ،‬والملك جالس في شرفته‪ ،‬ولا‬
‫أحد من السابلة العابرين أشاح عن المرآة‪ .‬وم ّل الملك‪،‬‬
‫وبدأ اليأس يد ّب إليه‪ .‬وه ّم ذات صباح بأن يأمر بقلع‬
‫المرآة‪ ،‬ويحظر ابنته الزواج‪ ،‬فذلك هو نصيبها وقدرها؛‬
‫لولا أ ّنه فطن بغتة إلى شخص عاد ّي‪ ،‬في هيئة عاد ّية؛‬
‫يم ّر بالمرآة‪ ،‬دون أن يلقي عليها ولو نظرة عجلى‪ .‬كان‬
‫هذا الرجل ـ والملك يراقبه من ع ٍل ـ يسير ذاهلا كالغائب‬
‫عن رشده‪ ،‬مستغرقا في التفكير‪ ،‬لا يحفل بمن حوله ولا‬
‫يكترث‪ .‬وفرح الملك‪ ،‬فها هو يظفر أخيرا‪ ،‬بضا ّلته‪ .‬وأمر‬
‫بأن ُيحمل إليه الرجل (أو الج ّن ّي إذا راعينا منطق‬
‫الأسطورة)‪ .‬وكان أن أنعم عليه الملك بابنته وعرشه‪،‬‬
‫ووراثة ملكه وجاهه‪ .‬تقول الأسطورة إ ّن هذا الرجل‬
‫"الج ّني" كان شاعرا‪ ،‬وقد صادف أثناء مروره بالمرآة أ ّنه‬
‫كان يدير في ذهنه بيتا من الشعر‪ ،‬استعصت عليه‬
‫قافيته؛ فشغله ذلك عن النظر إلى المرآة‪ .‬ولا ندري ما‬
‫إذا كان رآها‪ ،‬وم ّر بها غير حافل؛ أو هو لم يرها بسبب‬
‫القافية النابية التي لم تستق ّر في مكانها‪ .‬وللأسطورة‬

‫‪85‬‬

‫س ّرها ومنطقها غير المألوف‪ ،‬وهي ف ّن؛ والف ّن لا يعرف‬
‫الهذيان‪ ،‬كما يقول رولان بارت‪ .‬وعلى بساطة هذه‬
‫الأسطورة‪ ،‬فهي ذات سياق مض ّلل مراوغ‪ .‬ومهما يك ْن‪،‬‬
‫فليس لنا إلاّ أن نفترض عليها بعض الافتراضات‪ ،‬حتى‬
‫لا نظلم شاعرنا المسكين‪ ،‬وليس له أصابعنا ولا ملامس‬
‫حواسيبنا‪ .‬أ ّما إذا كان قد رأى المرآة‪ ،‬وم ّر بها‪ ،‬دون أن‬
‫يكترث؛ فهو إ ّما أن يكون من عباد الله أو من الج ّن‬
‫المتواضعين ح ّقا‪ ،‬أو من الذين يخفون زهوهم‪،‬‬
‫ويتظاهرون بالتواضع؛ أو هو يعرف ح ّق المعرفة أ ّن‬
‫صورته قبيحة ـ وهذا افتراض ثالث ـ فكرهها‪ ،‬ولم يعد‬
‫يحفل بأن يراها؛ بالرغم من أ ّن الجمال نسب ّي‪ ،‬خا ّصة‬
‫بعد أن ق ّوضت السريال ّية والتكعيب ّية مفهومه؛ وصار‬
‫بوسع أ ّي م ّنا أن ي ّدعي أ ّنه وسيم‪ ،‬حتى لو كان يحمل‬
‫وجه الحطيئة‪ .‬والفضل في ذلك لبيكاسو ومريديه‬
‫الذين أعادوا صياغة الجسد الإنساني‪ ،‬فصرنا نرى أنفا‬
‫مكان العين‪ ،‬وساقا مكان الأذن… وللرسم في أشيائه‬
‫ومخلوقاته شؤون‪ .‬ب ْيد أ ّن شاعرنا في هذه الأسطورة‬

‫‪86‬‬

‫التي نحن بها‪ ،‬لا يعرف بيكاسو ولا بروتون وبل‬
‫شاغال… فلع ّله لم يكترث بالمرآة ـ وهذا افتراض رابع‬
‫ـ لأ ّنه وف ّي في نظرته إلى الطبيعة الإنسان ّية‪ ،‬أو هو‬
‫يدرك أ ّن الجسد الذي نحمله أو هو يحملنا‪ ،‬هو أسرع‬
‫شيء إلى العطب والزوال‪ .‬ومن ث ّمة جاز له أن يتم ّثل‬
‫بقول المع ّري‪ ،‬وكان على جلال قدره وعلمه‪ ،‬في غاية‬

‫التواضع وخفض الجناح‪:‬‬

‫ولو كن ُت مل ًقى بظهر الطري ِق‬
‫ل ْم يلتق ْط مثل َي اللاق ُط‬

‫أ ّما إذا كان شاعرنا قد م ّر بالمرآة‪ ،‬ولم يرها؛ فليس لنا إلاّ‬
‫أن نص ّدق الأسطورة‪ .‬فلع ّل بيت الشعر الذي كان يديره‬
‫في ذهنه‪ ،‬والقافية التي كان يقلبها ظهرا لبطن‪ ،‬أو بطنا‬
‫لظهر؛ م ّما ألهاه عن النظر إلى المرآة‪ .‬ويعرف الذين‬
‫يمارسون الكتابة‪ ،‬ويعانون محنة اللفظ‪ ،‬أ ّن الكلمة يمكن‬
‫أن تفلت وتتم ّلص وتهرب‪ ،‬إذا لم نضعها في مكانها‪،‬‬

‫‪87‬‬

‫فنضط ّر إلى البحث عنها؛ وهي تضحك م ّنا في زاوية ما‬
‫من الن ّص‪ ،‬أو هي ترمقنا بنظرة ساخرة؛ فنمسك بها من‬
‫ذيلها‪ ،‬ونعيدها إلى موضعها‪ ،‬وقد نغلق عليها بنقطة أو‬
‫بهلالين أو مزدوجتين‪ .‬ولكن حذار من الأساطير‪ ،‬فهي‬
‫ذات سياق مض ّلل كما سلفت الإشارة‪ .‬فلع ّل شاعرنا لم‬
‫ير المرآة‪ ،‬لأ ّنه كان مشغولا عنها بمرآة أخرى داخل ّية؛‬
‫يتم ّلى فيها خيلاءه المتوارية‪ ،‬أو زهوه المستور خلف‬

‫ألف قناع وقناع‪.‬‬

‫ليس المقصود المرآة أ ّيا كان نوعها ولا المرآة من حيث‬
‫هي جسم يعكس الأجساد والأجسام والظلال‪ ،‬أي‬
‫المرئيات التي تمت ّص الجزء الأكبر من الضوء الواقع‬
‫عليها‪ ،‬وتلفظ البقية في صورة الظل‪ .‬فهذه مرآة لا‬
‫تج ّسم الوجود الح ّق أو الأصل‪ .‬إ ّنما هي مرآة توهم‬

‫الشبيه وتعكس الصورة‪.‬‬

‫المرآة ذات طبيعة ض ّدية فهي تجمع بين التجسيم‬
‫والتجريد‪ ،‬بين الافصاح والكتمان‪ .‬إ ّنها مرآة المجاز‬
‫والتورية التي تلتقط الجسد في تح ّولاته وتناسخاته‬

‫‪88‬‬

‫من عنصر إلى آخر‪ ،‬ومن حالة إلى أخرى‪ ،‬في دورات‬
‫فيضية‪ ،‬يتخذ فيها الجسد صورة تح ّول هابط حينا‪،‬‬
‫وصورة تحول صاعد حينا آخر‪ .‬على أن ّهذه المرآة‬
‫المجاز ّية لا تلتقط من الجسد صورته الشمس ّية وهيئته‬
‫النوران ّية المج ّردة المفارقة عن الما ّدة فحسب؛ إ ّنما‬
‫تلتقط أيضا صورته السمع ّية ـ البصر ّية‪.‬‬
‫فالطفل يسلم أمام المرآة بأ ّن لجسده صورتين أصل ّيتين‬
‫ترت ّدان إلى ذات واحدة‪ :‬صورته الزئبق ّية الساكنة في‬
‫فراغ المرآة المسطح‪ ،‬وصورته الواقعية التي تشغل‬
‫حيزا من المكان من حيث هو امتداد للأشياء‪ ،‬ومن هنا‬
‫تنشأ حيرته ويتح ّفز خياله؛ فهو بإزاء صورتين‬
‫متفارقتين متآخذتين في آن‪ :‬صورة ح ّس ّية بصر ّية‬
‫لك ّنها غير واقع ّية‪ ،‬وصورة واقع ّية لك ّنه يعجز عن‬
‫إخضاعها للمعرفة الح ّس ّية‪ .‬وهو يسارع إلى الأولى‬
‫تحفزه رغبة عجيبة في الا ّتحاد بها‪ ،‬وكأنها «أناه»‬
‫المثالي‪ ،‬بتعبير جاك لا كان‪ ،‬إ ّلا أ ّنه يصطدم بعجزه عن‬
‫امتلاكها‪ .‬وينقل ناظريه بالتناوب من صورته في المرآة‬

‫‪89‬‬

‫إلى صورته ذاتها‪ ،‬ليرى بعين الخيال «لألاء أكثر ومادة‬
‫اقل م ّما تراه المرآة‪ ،‬فالمرآة تحملق بثبات ومجابهة‪،‬‬
‫بينما البصيرة تمرق وتلتف وتح ّلق كشيء ح ّي‪ .‬وكذلك‬
‫الشاعر لم يلتقط في مرآته سوى الخيال‪ .‬ولكن لماذا لا‬
‫يكون هذا الجسد اللامرئي جسد الحلم أيضا؟ فهو‬
‫ينسلخ من صاحبه مثلما ينسلخ الإنسان من جسده في‬
‫الحلم‪ ،‬فلا سلطان الا سلطان الجسد منسل ّا من نقطة ما‬
‫في غياهب اللاشعور‪ ،‬متحررا من قيود الظاهر والعادة‪.‬‬
‫فهو ليس جسدا من لحم ودم‪ ،‬وإنما جسد «حاكته‬
‫«قوى وميول نفسية لم تجد متن ّفسا لها في اليقظة‬
‫وفي نظام الحياة الذي يأخذ به الفرد نفسه‪ ،‬فتآزرت‬
‫لتبني جسدا مضا ّدا يشي بانفصام الشخص ّية‬
‫وازدواجية الذات‪ ،‬جسدا لا مرئ ّيا أو لا منظورا‪ ،‬لك ّنه‬
‫ينهض في صميم المرئي أو المنظور‪ .‬أليس هذا الجسد‬
‫اللامرئي هو المرآة التي يتعرف فيها الفرد نفسه ويحدد‬
‫موقع «أناة» قبل ان تمتد إليه يد المجتمع فتصنفه‬
‫وتسمه بميسمها؟ قد يتساءل القارئ ِل َم سق ُت هذه‬

‫‪90‬‬

‫الأسطورة‪ ،‬وما المغزى من ذلك؟ الح ّق أ ّنني أعود إليها‪،‬‬
‫وقد تع ّرفت خلال أسفاري ورحلاتي‪ ،‬إلى ك ّتاب وشعراء‬
‫عرب‪ ،‬وآخرين من العالم الآخر الذي تفصلنا عنه سنوات‬
‫ضوئ ّية‪ .‬وكنت ك ّل م ّرة‪ ،‬أعود بذات الانطباع‪ ،‬وأتساءل‬
‫ِل َم يتواضع مبدع‪ ،‬وير ّحب بالنقد‪ ،‬ويتق ّبل الملاحظة؛‬
‫في حين يغضب آخر حتى من الملاحظة اليسيرة‪ ،‬ور ّبما‬
‫وقع في ظ ّنه أ ّنه محور الوجود؟ لا جواب سوى هذه‬

‫المرآة التي ترانا‪ ،‬وتضحك م ّنا وعلينا‪.‬‬
‫فكل مرآة هي ذاتنا المعبرة عن حالتنا النفسية الآنية أو‬
‫الظرفية سواء كانت محدبة‪ ،‬مقعرة أو مستوية‪ .‬هذا ما‬
‫نجح فيه الحسين قيسامي في المجموعة من خلال‬
‫المرايا التي تج ّسد حالة فيزيائية من حالات مراقبة‬

‫الذات‪.‬‬

‫‪91‬‬












Click to View FlipBook Version