لعل وعسى يتم إيجاد أثره ،لأن ابن المقفع يفهم هذه
الكائنات .وتأتي هذه الزيارة لابن المقفع في ظرفية
خاصة تتميز بالربيع العربي الذي زلزل عروش الحكام
العرب ،علما أن ابن المقفع قد ساهم في ثورة فكرية
مماثلة كان لها دورها الهام في نهوض الحركة العقلية
العباسية من كبوتها .ولعل هذه الثورة هي التي أدت إلى
قتله لأن ابن المقفع عاش في عصر أريد فيه للناس أن
يتخلوا عن إرادتهم وعقلهم تحت شعار “الاستسلام
للقضاء والقدر” في طاعة الحاكم .وفي المساء نقلت
القنوات التلفزية صور رجل يرتدي زيا قديما وهو
يدخل المجلس الحكومي مصحوبا بمجموعة من
الحيوانات يتحدث معها بلغة لم يفهمها أحد ملقيا اللوم
على الوزراء بخصوص استعمال الرموز الحيوانية في
أوراق الانتخابات المحلية والبرلمانية.
50
القلم والسيف
عندما أمسكت القلم لأكتب هذه القصة تدافعت الوقائع
وازدحمت الأفكار ،وتساءلت من أين أبدأ وكيف أتمم
في غياب الإلهام وتحت تهديد سيف دمقليس
الحكومي .وفجأة لاحظت تغييرا طرأ على تقاسيم وجه
القلم ،وانتابني قلق شديد ثم خرجت إلى شرفة المنزل.
وعند عودتي وجدت القلم مكبل اليدين وهو بين
شرطين ،وتبين لي جدية المؤامرة .احتوت المبراة القلم
بين ذراعيها في قسوة ،ودهش القلم حينما رأى حبيبته
المبراة ترفع إليه عينين دامعتين وهي تزداد شوقا
والتصاقا كلما أرادت الشرطة انتزاع القلم من يديها.
انتابني قدر كبير من الضيق في غياب القلم ،علما أنني
في بداية كتابة القصة .وغير بعيد مني سكب الفرجار
51
البنزين على نفسه وأشعل النار في جسمه احتجاجا
على اعتقال القلم وهو يردد هتافات ضد الظلم
والحكرة .وانطفأت الابتسامة من فوق شفتي الفرجار،
وأظلم وجهه .ودرت بنظراتي الحزينة في أرجاء الغرفة
ورأيت أن المقلمة قد أغمي عنها .أحس المقال أنه في
خطر وانتفضت الكلمات من غبارها وهرعت إلى
المطبخ وأمسكت سكاكين حادة وطعنت مضمون
القصة بالعديد من الطعنات لمحو آثار الرسائل الخفية
التي هي حجة ثابتة لإدانة القلم .وبعد ذلك ،قامت
قوات الآمن بقمع المشيعين لجثمان "المضمون" كما
قذفت بالغاز المسيل للدموع على حشود الكلمات .هذا
وقد وردت أنباء عن حالات دهس للمبراة وللمقلمة
وأطلقت عليهما قنابل مطاطية من أجل إلحاق الضرر
بهما كما تعرضتا لعدة حالات اختناق.
52
محاكمة
في المحكمة:
قال القلم للسيف:
«افتخرت بحيفك وعدوانك إبان الحكومات
المتعاقبة ،فملت إلى الظلم وذهب ضحيتك
مجموعة من الصحفيين الأحرار .تقمصت شخصية
دمقليس ونسيت عروبتك وشرفك .لماذا لم تعط
تلك الصورة الشريفة لذلك السيف الذي كان رمزا
للبطولات الإسلامية .ألم يعطنا خالد بن الوليد درسا
في دور السيوف في البطولة والتضحية وهو على
فراش الموت عندما قال لسعد ابن أبي وقاص" هلم
53
إلي بالسلاح (السيف) الذي استخدمه في ميدان
القتال ليشهد موتي"...
قال السيف للقلم:
"استسمح يا أخي القلم فالحكومة تحاول أن تنال
من صداقتنا ،كنت ضحية "سيستام" وأفند كل
الادعاءات بشأن ما ترفعه الحكومة من شعارات
واتهامات باطلة في حقك"
وبعد هذه المقابلة طلبت المحكمة الموقرة بالسماع
للشهود قصد البث نهائيا في هذه القضية .وتقدم
على التوالي كل من المبراة ،الفرجار المقلمة
والممحاة كشهود.
المبراة:
54
" سيدي الرئيس ،السادة القضاة ،أمثل أمامكم لأقول
الحق كل الحق .في الحقيقة إن القلم بريء من كل
التهم الموجهة إليه ...كانت الحكومة تضع العصا في
عجلة الصحافة ،وتتهم دائما القلم بالمؤامرة ضدنا.
اسمحوا لي أيها السادة لقد اتهمتني الحكومة أكثر
من مرة بربط علاقة غير شرعية مع القلم ،وهذا
كذب وبهتان .ولهذا أطلب منكم رفع الضرر عني
وشكرا"
المقلمة:
"سيدي الرئيس ،السادة القضاة ...لقد هددتني
الحكومة أكثر من مرة بتصفيتي ،لا لشيء إلا لأنني
أهتم بالقلم وأمثل وعاءه وشكرا"
55
الفرجار:
"السيد الرئيس ،السادة القضاة ،إن عداوتي مع القلم
تدخل في إطار شخصي ،وأكن له كل الاحترام رغم
الحملة المسعورة التي شنها ضدي واتهامي بالرجعية
والانتهازية".
الممحاة:
"السيد الرئيس ،السادة القضاة ،ألتمس من حضرتكم
تشديد العقوبة على القلم بحكم الضرر الذي سببه لي
خاصة وأنني أتابع العلاج ضد مرض الكاربون
والرصاص من جراء مسح كل ما يكتب من طرف
القلم وشكرا"
وبعد المداولة والنقاش حكمت المحكمة على القلم
بالبراءة ،وبوضع السيف في المتحف الوطني
56
بالعاصمة ،في حين حكم على الممحاة بثلاثة أشهر
سجنا نافدا بسبب الادلاء بشهادة زور لصالح
الحكومة تحت ضغط هذه الأخيرة لتقديم هذه
الشهادة الكاذبة".
57
رسالة إلى أنا
رن جرس المنبه واستيقظت من النوم مرعوبا .تفقدت
نفسي جيدا ولم "أجدني" .أبلغت الشرطة بذلك،
فأجابوني بأن رجل الأمن لا يحمي المغفلين .قررت إذن
مراسلتي:
السلام علي ورحمة الله وبركاته
تحية وبعد،
يسرني أن أكتب إلي هـذه الرسالة والتي أعـبر من
خلالها عـن مـدى حزني العميق في فقداني واختفائي.
لقد أبلغت الجهات الأمنية عن تغيبي وانقطاع ُسبل
التواصل معي منذ يومين .أكتب إلي هذه الرسالة ولا
58
أنتظر جوابا عليها .أعرف جيدا أن عهد الاختطاف
والاختفاء القسري قد ولى .تحياتي
59
مراسم جنـــازتي
بعد أزمة قلبية نقلت إلى المستشفى .أعلن الأطباء
وفاتي رسميا وحرروا شهادة بذلك .وأعيد جثماني إلى
منزلنا حيث بدأت مراسم جنازتي .فلفوني في كفن ثم
وضعوا جسدي داخل النعش .وبعد الصلاة حمل
المشيعون نعشي في سيارة بيضاء ،وسار الموكب
الجنائزي الرهيب في اتجاه المقبرة ،متبوعا بمئات
الآلاف من الأصدقاء ،على طول الشارع ،مستحضرين
جلال الموت ورهبته ،خاشعين لهذا القدر الذي كتبه الله
على كل نفس ،مستبطنين سيرتي ومساري .فجأة رن
المنبه واستيقظت من النوم مرعوبا ...يا له من كابوس
حلم مزعج.
60
سيدي شمهروش
احتكم أحمد إلى الجن شمهروش لحل ما يعاني منه من
مشاكل مع الحكومة .يتبرك أحمد عادة من ضريح
"سيدي شمهروش" ،وهو يعلم أن هذا الأخير هو ملك
ملوك الجن يبث في القضايا العالقة بين الإنس وحكومة
العفاريت .وبمجرد دخول أحمد إلى مقام شمهروش
أصيب بالصرع وسقط أرضا ،وأصبح الجني الذي
يسكنه هو من يتكلم بلسانه :تسقط الحكومة.
61
الجاحظ يبيع البيتزا في سوق النخاسين
ببغداد
يتزين سوق النخاسين بالمحلات التجارية ذات
الماركات العالمية التي تعرض آخر صيحاتها .هو سوق
الأناقة بامتياز وذلك لكثرة محلات التسوق الشهيرة
مثل جورجيو أرماني وفيرساتشي وغوتشي .يعرض
الجاحظ البيتزا على الرصيف في مشهد يسترعي
الأنظار ويغري النفوس ويثير الشهية ،آمل ًا ببيعها لأجل
الحصول على قوت يومه .بدا الجاحظ مجاورا لمحلات
التسوق الشهيرة ،وأقدم على تفريش بضاعته َع ّل ُه
يتمكن من بيعها كلها .وبدون أي سابق إنذار ،قامت
دوريات القوات العمومية بتمشيط السوق وإخلائه من
أي تواجد للباعة الجائلين .وقد عبر الجاحظ سريعا على
62
خطة كتاب حدد موضوعه" :نوادر البخلاء واحتجاج
الاشحاء" .
في ظل هذه الأجواء المشحونة ،وقعت عينا الجاحظ
على جارية جميلة ،على خدها خال أسود ،فاقترب منها،
وقال يا جارية :ما اسمك؟ ،قالت :مكة ،قال :الله أكبر،
أتأذنين لي أن أقبل الحجر الأسود ،يعني :الخال الأسود،
فقالت :إليك عني ،ألم تسمع قول الله تعالى (لم تكونوا
بالغيه إلا بشق الأنفس).
63
القصيدة المسكونة
بحثت عن الإلهام الشعري لكتابة قصيدة محاولا تصفية
وتنقية ذاكرتي من أصوات الآخرين .قبل أن أ ْق ِب َل على
قصيدتي ،بدأت أسمع أصوات ًا غريبة وحركات مريبة
تتناهى إلى أذني في الساعات المتقدمة من الليل،
وعندما أهرع لاستطلاع المصدر لا أعثر على أثر ،الأمر
الذي أثار في قلبي الخوف ودفعني إلى الاعتقاد أن
البيت صار مسكون ًا بالأرواح الشريرة .أردت الانزواء
لإيجاد الإلهام حتى أتنفس والهروب من الواقع المعاش.
حين تأملت في واقعي فكرت أن أكتب هذه القصيدة
وأطالب فيها بمعالجة هذا البلد الذي صار مسكون ًا
بالأرواح الشريرة ،ولكن بعض العفاريت التي تمثلت
64
أمامي في وضعيات مختلفة حالت دون ذلك .تمردت
إذن على بحور الشعر ولم أتمرد على الأرواح الشريرة.
65
لعبة الفقاعات
صنع الطفل فقاعة صابون .بدأ يجري وراءها ليفجرها.
حاول الإمساك بالفقاعة بيديه لكن دون جدوى .تأمل
في الكرة الشفافة الرقيقة التي تتلألأ بمزيج عجيب من
الألوان الساحرة .ركض وراءها حتى تح ّولت إلى شيء
يشبه السراب .تتناثر الفقاعات البيضاء هنا وهناك.
نظرت في وجه الطفل فرأيت في عينيه نظرة حسرة
وأحسست وكأن هذا الطفل نفخ فقاعة ليفجرها
وينخرط في لعبة الفقاعات.
66
ابن المقفع في جامع الفناء
حط ابن المقفع الرحال في ساحة جامع الفنا لمشاهدة
عروض مشوقة لمروضي الأفاعي ورواة الأحاجي
والقصص والموسيقيين .وهو يتابع بعض حلقات
الساحة أصيب بالصدمة عندما اكتشف أن قصص كليلة
ودمنة تحكى بالجملة :القرد والنجار ،الثعلب والطبل،
القملة والبرغوث ،القرود والطائر والر ُجل ،التاجر
المستو ِدع حديدا ،الرجل والذئب والقوس وابن آوى
والأسد والحمار.
67
قراءة الكف
وأنا جالس على شاطئ البحر استمتع بمشهد الأمواج،
حطت فراشة مزركشة على كف يدي اليمنى وبدأت في
قراءته .شرعت الفراشة في سرد بعض الصفات في
شخصي ووجدت رابطا واضحا بين أقسام كف يدي
وعوالم تنجيمية مثل تل القمر ،هضبة المريخ ،مرتفع
المشتري ومنعرج قرية عين حروردة.
68
كنز الحكومة
يتمتع أحمد بعلامة جسدية فريدة تميزه عن باقي
الناس العاديين .يتميز بخط مستقيم يقطع راحة يديه
مما جعله هدفا لدى السحرة الباحثين عن الكنوز
المخبأة في الأرض التي يحرسها الجن .في يوم من
الأيام تعرض أحمد لعملية اختطاف بعدما طاردته
سلحفاة صغيرة ولم يقو أن يتحكم بنفسه .حطت
السلحفاة على كف يده اليسرى وبدأ أحمد في دعكها
حتى خرج منها دخان سرعان ما تحول إلى عفريت،
وقال له :شبيك لبيك ،ما تريده آتي لك به .قال له أحمد:
أريد العثور على كنز الحكومة والأربعين حرامي.
69
70
ربيع الفراشة
وقفت فراش ٌة مزركشة أمامي على زهرة البيانو.
أجنحتها تصدر ومضات مضيئة عند تنقلها .طاب لها
امتصاص رحيق الأوتار وعزف نوتات على لوحة
المفاتيح .عزفت الفراشة على أوتار قلبي وانهارت
أحاسيسي .استلهمت قصيدتي من وحي ربيع الفراشة
ثم ثارت ثائرتي .غرقت في بحور الشعر حتى خنقتني
التفعيلات.
71
الشيطان والحكومة
وضع إبليس عرشه على الماء ،وأسس جيشه من
شياطين الجن الذين التفوا حوله في مملكته ،ينفون كل
ما يأمرهم به .وأسس مجلس وزرائه الذي سيقود
مخططاته الشيطانية في عالم الإنس .حاولت الحكومة
أن تذل الشيطان حتى يكون ضعيفا ولا يستطيع أن
يمنعها من الخير ولا أن يوقعها في الشر .ولكن لكثرة
معاصي الوزراء نجح الشيطان في مساعدة الحكومة
على الباطل ،وعلى تثبيطها عن الخير.
والغريب في الأمر أن الحكومة ألقت أسباب فشلها على
الشعب بعد عقد اجتماع المجلس الحكومي والذي
تناول بإسهاب مبررات هذا الفشل أثناء تقييمه لأعماله
في ولايته .ومن المضحك أن أحد الوزراء ألقى اللوم
على "العين" التي تسببت في الاحباطات المختلفة ،أما
72
آخر فتدخل قائلا'' :لعنو الشيطان'' ما دخل العين في
التنمية ،وفجأة تدخل الشيطان صائحا بأنه بريء منهم
بعدما خلع "طاقية الإخفاء" ،وأكد أن أزمتهم كانت
نتيجة ما كسبت أيديهم لأنهم لم يؤدوا الأمانة .فانبهر
الجميع بموقف الشيطان لأنهم يعتقدون دائما أن إبليس
لا يسير إلا في تأزيم الأوضاع ،وهم دائما في الاتجاه
الصحيح .فصرخ أحد الوزراء «القوا القبض على
الشيطان" .حاول الشاوش إلقاء القبض على إبليس لكن
هذا الأخير سرعان ما وضع طاقية الإخفاء فوق رأسه
واختفى .وفي اليوم الموالي قدم الشيطان دعوى
قضائية ضد الحكومة موضوعها السب والقذف في
حقه ،مع استعمال عبارات تحقير وازدراء .اكتست هذه
الدعوى طابعا فريدا في تاريخ المحاكمات ،إذ لأول مرة
طرحت إشكالية قانونية تتعلق بمحاكمة يتقاطع فيها
عالم بني آدم مع عالم الشياطين ،تتنازع فيهما القوانين:
فأي قانون جنائي يطبق على هذه النازلة؟ في الأخير
اهتدى الجميع لإجراء عملية القرعة في ما يخص قانون
73
المتابعة .فكان قانون الشياطين هو الذي سيطبق في
هذه القضية .فاتجهت لهذه المحاكمة الفريدة أنظار
الإنس والجن لما تكتسيه من تشويق وإثارة .وفي
الأخير صدر الحكم ببراءة الشيطان من جميع التهم
المنسوبة إليه والحكم على الحكومة بالاعتراف بالذنب
في حق الشعب.
74
ثورة قصيرة جدا
تميزت الثورة بتكثيف ومفارقة وإدهاش وإيحاء
وخاتمة مباغتة وقفلة إخوانية...وفي بعض الدول كان
لمصيرها ولادة قيصرية طارئة لم يخطط لها قبل أن
يبدأ المخاض .سقطت الثورة في النزعة الشعرية؛ مما
أفقدها الخاصية الحكائية ولم تنجح في تصوير
جوانب معينة من الواقع الإنساني .فتعددت الحبكات
والعقد والحوافز المحركة للأحداث وتكررت النماذج
المتشابهة ،الشيء الذي قادها إلى نوع من الترهل الذي
يفقد الثورة تمركزها.
75
المرآة السحرية
تتبع الحكومة آثار البلاد وأخبار العباد من خلال نصب
مرآة في مدخل كل مدينة .فإذا غاب مواطن عن أهله
وبلاده ،يأتي المسؤول بالمرآة ويضع امامها اسم الغائب
ويتعرف على أحواله .وتعريض شخص لانعكاس المرآة
يجعله مهددا بالخطر والموت .أصبحت الحكومة تظهر
في شكل شبح شرير يطارد الناس في المرايا .يحاول
المواطن كل مرة تعتيم المرآة إذا نظر فيها لأنها كانت
تأخذ الأرواح من أجسام المواطنين .إذا نظر المواطن
مدة طويلة من الليل في المرآة فإنه يرى الشيطان .فكم
من المرايا يجب أن تكون معتمة في زمن حكومة
الشياطين؟
76
سيلفي
التقط نارسيس صورة سيلفي باستخدام هاتف ذكي
ُمجهز بكاميرا رقمية قبل أن يتجه إلى غدير ليروي
عطشه .شاهد صورته وتخيل حورية فاتنة على صفحة
الماء .ظل يتردد على الغدير وفي كل مرة كان يرى
وجهه في صفحة ماء الغدير فيجن جنونه .كان يقوم
كل ليلة بنشر قصص حبه بالحورية الفاتنة على صفحته
في الفايسبوك .وزاد من هوسه كلما مد يده إلى هاتفه
ليتحسس صورته سيلفي .حازت صورة سيلفي
لنارسيس على إعجاب أكثر من 8ملايين متابع على
صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي
"فيس بوك" .
وظهر نارسيس في الصورة وهو يقود سيارته ويرتدي
جاكيت أسود ونظارة شمسية ،وكتب تعليقا على
77
الصورة قائلا" :صباح الفل ،في طريقي إلى الغدير" .
وانهالت تعليقات المتابعين على الصورة والتي تجاوزت
مليون تعليق ،مبدين إعجابهم بالصورة وباللوك الذي
يظهر به نارسيس وهو يتغزل بالحورية الفاتنة على
صفحة الماء.
78
جسد طائش
تعرضت رصاصة للقتل بعد إصابتها بجسد طائش خلال
مصادمات بين متظاهرين وقوات الأمن .واحتشد
المئات من المحتجين من قوات النظام في مسيرات
مناهضة للشعب .استخدم الشعب مدافع المياه والغاز
المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق
المتظاهرين .وألقى الشعب القبض على عدد من قوات
الأمن .كما أمر الشعب جميع زبائن إحدى الحانات التي
لجأ متظاهرون إليها ،بالخروج وألقى القبض على
العديد من الجنرالات .ونصح الصحفيين بمغادرة
المنطقة .في حين فوجئ المحتشدون في ساحة
الإعدام بالحلاج وهو ينادي بإسقاط نظام الخليفة
العباسي المقتدر .وحكم عليه بألف جلدة ،ثم تقطيع
يديه ورجليه ،قبل أن تقطع رقبته.
79
محطة النسيان
كانت شابة جميلة تنتظر قطارها في المحطة .بدأت
تشعر بالوحدة وهي تدري أن القطارات لا تصل دائما في
الموعد .رأت شابا وسيما واقفا يسترق النظرات إليها
ويحدق بها متعجب ًا .إنه حب من أول نظرة على غرار
حب المرايا السحرية بين الأميرة توكان والأمير
كهرمان .كانت الفتاة شاردة الفكر ،تتزين أمام مرآة
محدبة كبيرة معلقة على واجهة المحطة ،لكن ذهلت
لانعكاس صورتها البشعة في المرآة .نظرت
في المرآة بتوتر وتأملت نفسها ووجهها المتغ ّضن
المرهق وعينين غائرتين لم تصدقا المشهد .أعلن صوت
صفارة القطار عن إغلاق الأبواب ،وانزلقت
عجلات القطار ليشرع في السير ببطء قبل أن تزداد
سرعته .غرقت الفتاة في محطة النسيان حتى فاتها
80
قطار الأمل ،ونسيت وجهتها بالسفر .أصيبت بالذعر
وتملكتها حالة هستيرية جعلتها تطارد القطار على طول
خط السكة الحديدية وأجبرت القطارات القادمة على
تغيير مسارها .
81
المرايا الأخرى غير المح ّدبة في "مرآة
تبحث عن هوية"
الشاعر والكاتب التونسي منصف الوهايبي
مساهمة الشاعر والكاتب التونسي منصف الوهايبي
بمقال "المرايا الأخرى غير المح ّدبة" في المجموعة
القصصية للكاتب الحسين قيسامي ،معتمدا على
المبالغة والتضخيم ارتباطا بموضوعي الغرور
والتواضع وفق سخرية ترتفع إلى مستوى
"الغروتيسك" المضحك المبكي .هذه المرآة التي ترانا،
وتضحك م ّنا وعلينا على غرار قصص "مرآة تبحث عن
هوية" ابتداء بهوس النرجسية في قصة "حين سرقت
المرآة وجهي" ،مرورا بذلك المسؤول الغارق في زهوه
المستور خلف ألف قناع "في انتظار زيارة الحاكم" ،ثم
82
المهرج المتواضع الذي يعاني في صمت أو ذلك الحاكم
المستبد المتعجرف الذي يجهض الثورة بإتقان .بالنسبة
لكاتبنا ،هذه مرآة لا تج ّسم الوجود الح ّق أو الأصل ،إ ّنما
هي مرآة توهم الشبيه وتعكس الصورة :ظل الكوفية،
فرويد في ضيافة هارون الرشيد ،محاكمة السلمون،
وجوه وأقنعة ،رسالة إلى أنا ،القصيدة المسكونة...
تروي أسطورة عرب ّية قديمة أ ّن أحد ملوك الجان ،نصب
مرآة كبيرة (عملاقة) على الطريق المفضية إلى قصره.
ث ّم جلس في الشرفة ،وطفق يراقب السابلة العابرين.
أ ّما لماذا فعل هذا الملك ما فعل ،فلأ ّن الأسطورة ،وأنا
أنقلها عن الكاتب علي أدهم ،وهو أحد ك ّتاب النهضة
الذين قرأناهم يافعين ،بشيء من التص ّرف؛ تقول إ ّن
الملك ُعرف بتواضعه ،وكان يكره غرور المزه ّوين
الكلفين بأنفسهم الذين يد ّلون بـ" مواهبهم" وفرط
تد ّلههم بها ،بمناسبة وغير مناسبة؛ وترى أ ّيا منهم يمشي
في الناس مختالا مزه ّوا؛ صورة من ذلك المهج ّو:
83
أقبل يختا ُل على ظ ّله
يذه ُب في الأدنى وفي الأبع ِد
فأراد الملك بهذا الصنيع أن يختبر هؤلاء .وأعلن في
الناس ـ عفوا في الجان ،والح ّق أ ّنني مثل كثيرين ،لا
أجد فرقا بين إنس ّي وج ّن ّي ـ أ ّنه لن يز ّوج ابنته ـ ولا ب ّد
أ ّنها كانت حسناء مثل ك ّل بنات الملوك في الأساطير
القديمة ـ إلاّ من أبعدهم عن الزهو والغرور والخيلاء،
وأ ّنه سيسعد ح ّقا إذا وجد مثل هذا الشخص ،وسيجعله
يشاركه عرشه وم ْلكه .وبدأ الطامعون يتوافدون على
القصر ،ولا أحد منهم أدرك الس ّر في هذه المرآة الكبيرة
المنصوبة على الطريق .كان ك ّل من يم ّر ،ي ّتجه ببصره
إلى المرآة ،ويتو ّقف أمامها ـ كما يفعل أكثرنا خلسة في
شوارع المدن العصر ّية ،حيث تنهض الواجهات الب ّلور ّية
بوظيفة المرآة .وقد يطيل هذا العابر "الخاطب"
الوقوف ،وهو يتم ّلى صورته ،ويصلح من هيئته؛ إذ لاب ّد
أن يكون لمنظره وقع حسن ،حتى يحوز ابنة الحسب
84
والنسب .وطال الزمن ،والملك جالس في شرفته ،ولا
أحد من السابلة العابرين أشاح عن المرآة .وم ّل الملك،
وبدأ اليأس يد ّب إليه .وه ّم ذات صباح بأن يأمر بقلع
المرآة ،ويحظر ابنته الزواج ،فذلك هو نصيبها وقدرها؛
لولا أ ّنه فطن بغتة إلى شخص عاد ّي ،في هيئة عاد ّية؛
يم ّر بالمرآة ،دون أن يلقي عليها ولو نظرة عجلى .كان
هذا الرجل ـ والملك يراقبه من ع ٍل ـ يسير ذاهلا كالغائب
عن رشده ،مستغرقا في التفكير ،لا يحفل بمن حوله ولا
يكترث .وفرح الملك ،فها هو يظفر أخيرا ،بضا ّلته .وأمر
بأن ُيحمل إليه الرجل (أو الج ّن ّي إذا راعينا منطق
الأسطورة) .وكان أن أنعم عليه الملك بابنته وعرشه،
ووراثة ملكه وجاهه .تقول الأسطورة إ ّن هذا الرجل
"الج ّني" كان شاعرا ،وقد صادف أثناء مروره بالمرآة أ ّنه
كان يدير في ذهنه بيتا من الشعر ،استعصت عليه
قافيته؛ فشغله ذلك عن النظر إلى المرآة .ولا ندري ما
إذا كان رآها ،وم ّر بها غير حافل؛ أو هو لم يرها بسبب
القافية النابية التي لم تستق ّر في مكانها .وللأسطورة
85
س ّرها ومنطقها غير المألوف ،وهي ف ّن؛ والف ّن لا يعرف
الهذيان ،كما يقول رولان بارت .وعلى بساطة هذه
الأسطورة ،فهي ذات سياق مض ّلل مراوغ .ومهما يك ْن،
فليس لنا إلاّ أن نفترض عليها بعض الافتراضات ،حتى
لا نظلم شاعرنا المسكين ،وليس له أصابعنا ولا ملامس
حواسيبنا .أ ّما إذا كان قد رأى المرآة ،وم ّر بها ،دون أن
يكترث؛ فهو إ ّما أن يكون من عباد الله أو من الج ّن
المتواضعين ح ّقا ،أو من الذين يخفون زهوهم،
ويتظاهرون بالتواضع؛ أو هو يعرف ح ّق المعرفة أ ّن
صورته قبيحة ـ وهذا افتراض ثالث ـ فكرهها ،ولم يعد
يحفل بأن يراها؛ بالرغم من أ ّن الجمال نسب ّي ،خا ّصة
بعد أن ق ّوضت السريال ّية والتكعيب ّية مفهومه؛ وصار
بوسع أ ّي م ّنا أن ي ّدعي أ ّنه وسيم ،حتى لو كان يحمل
وجه الحطيئة .والفضل في ذلك لبيكاسو ومريديه
الذين أعادوا صياغة الجسد الإنساني ،فصرنا نرى أنفا
مكان العين ،وساقا مكان الأذن… وللرسم في أشيائه
ومخلوقاته شؤون .ب ْيد أ ّن شاعرنا في هذه الأسطورة
86
التي نحن بها ،لا يعرف بيكاسو ولا بروتون وبل
شاغال… فلع ّله لم يكترث بالمرآة ـ وهذا افتراض رابع
ـ لأ ّنه وف ّي في نظرته إلى الطبيعة الإنسان ّية ،أو هو
يدرك أ ّن الجسد الذي نحمله أو هو يحملنا ،هو أسرع
شيء إلى العطب والزوال .ومن ث ّمة جاز له أن يتم ّثل
بقول المع ّري ،وكان على جلال قدره وعلمه ،في غاية
التواضع وخفض الجناح:
ولو كن ُت مل ًقى بظهر الطري ِق
ل ْم يلتق ْط مثل َي اللاق ُط
أ ّما إذا كان شاعرنا قد م ّر بالمرآة ،ولم يرها؛ فليس لنا إلاّ
أن نص ّدق الأسطورة .فلع ّل بيت الشعر الذي كان يديره
في ذهنه ،والقافية التي كان يقلبها ظهرا لبطن ،أو بطنا
لظهر؛ م ّما ألهاه عن النظر إلى المرآة .ويعرف الذين
يمارسون الكتابة ،ويعانون محنة اللفظ ،أ ّن الكلمة يمكن
أن تفلت وتتم ّلص وتهرب ،إذا لم نضعها في مكانها،
87
فنضط ّر إلى البحث عنها؛ وهي تضحك م ّنا في زاوية ما
من الن ّص ،أو هي ترمقنا بنظرة ساخرة؛ فنمسك بها من
ذيلها ،ونعيدها إلى موضعها ،وقد نغلق عليها بنقطة أو
بهلالين أو مزدوجتين .ولكن حذار من الأساطير ،فهي
ذات سياق مض ّلل كما سلفت الإشارة .فلع ّل شاعرنا لم
ير المرآة ،لأ ّنه كان مشغولا عنها بمرآة أخرى داخل ّية؛
يتم ّلى فيها خيلاءه المتوارية ،أو زهوه المستور خلف
ألف قناع وقناع.
ليس المقصود المرآة أ ّيا كان نوعها ولا المرآة من حيث
هي جسم يعكس الأجساد والأجسام والظلال ،أي
المرئيات التي تمت ّص الجزء الأكبر من الضوء الواقع
عليها ،وتلفظ البقية في صورة الظل .فهذه مرآة لا
تج ّسم الوجود الح ّق أو الأصل .إ ّنما هي مرآة توهم
الشبيه وتعكس الصورة.
المرآة ذات طبيعة ض ّدية فهي تجمع بين التجسيم
والتجريد ،بين الافصاح والكتمان .إ ّنها مرآة المجاز
والتورية التي تلتقط الجسد في تح ّولاته وتناسخاته
88
من عنصر إلى آخر ،ومن حالة إلى أخرى ،في دورات
فيضية ،يتخذ فيها الجسد صورة تح ّول هابط حينا،
وصورة تحول صاعد حينا آخر .على أن ّهذه المرآة
المجاز ّية لا تلتقط من الجسد صورته الشمس ّية وهيئته
النوران ّية المج ّردة المفارقة عن الما ّدة فحسب؛ إ ّنما
تلتقط أيضا صورته السمع ّية ـ البصر ّية.
فالطفل يسلم أمام المرآة بأ ّن لجسده صورتين أصل ّيتين
ترت ّدان إلى ذات واحدة :صورته الزئبق ّية الساكنة في
فراغ المرآة المسطح ،وصورته الواقعية التي تشغل
حيزا من المكان من حيث هو امتداد للأشياء ،ومن هنا
تنشأ حيرته ويتح ّفز خياله؛ فهو بإزاء صورتين
متفارقتين متآخذتين في آن :صورة ح ّس ّية بصر ّية
لك ّنها غير واقع ّية ،وصورة واقع ّية لك ّنه يعجز عن
إخضاعها للمعرفة الح ّس ّية .وهو يسارع إلى الأولى
تحفزه رغبة عجيبة في الا ّتحاد بها ،وكأنها «أناه»
المثالي ،بتعبير جاك لا كان ،إ ّلا أ ّنه يصطدم بعجزه عن
امتلاكها .وينقل ناظريه بالتناوب من صورته في المرآة
89
إلى صورته ذاتها ،ليرى بعين الخيال «لألاء أكثر ومادة
اقل م ّما تراه المرآة ،فالمرآة تحملق بثبات ومجابهة،
بينما البصيرة تمرق وتلتف وتح ّلق كشيء ح ّي .وكذلك
الشاعر لم يلتقط في مرآته سوى الخيال .ولكن لماذا لا
يكون هذا الجسد اللامرئي جسد الحلم أيضا؟ فهو
ينسلخ من صاحبه مثلما ينسلخ الإنسان من جسده في
الحلم ،فلا سلطان الا سلطان الجسد منسل ّا من نقطة ما
في غياهب اللاشعور ،متحررا من قيود الظاهر والعادة.
فهو ليس جسدا من لحم ودم ،وإنما جسد «حاكته
«قوى وميول نفسية لم تجد متن ّفسا لها في اليقظة
وفي نظام الحياة الذي يأخذ به الفرد نفسه ،فتآزرت
لتبني جسدا مضا ّدا يشي بانفصام الشخص ّية
وازدواجية الذات ،جسدا لا مرئ ّيا أو لا منظورا ،لك ّنه
ينهض في صميم المرئي أو المنظور .أليس هذا الجسد
اللامرئي هو المرآة التي يتعرف فيها الفرد نفسه ويحدد
موقع «أناة» قبل ان تمتد إليه يد المجتمع فتصنفه
وتسمه بميسمها؟ قد يتساءل القارئ ِل َم سق ُت هذه
90
الأسطورة ،وما المغزى من ذلك؟ الح ّق أ ّنني أعود إليها،
وقد تع ّرفت خلال أسفاري ورحلاتي ،إلى ك ّتاب وشعراء
عرب ،وآخرين من العالم الآخر الذي تفصلنا عنه سنوات
ضوئ ّية .وكنت ك ّل م ّرة ،أعود بذات الانطباع ،وأتساءل
ِل َم يتواضع مبدع ،وير ّحب بالنقد ،ويتق ّبل الملاحظة؛
في حين يغضب آخر حتى من الملاحظة اليسيرة ،ور ّبما
وقع في ظ ّنه أ ّنه محور الوجود؟ لا جواب سوى هذه
المرآة التي ترانا ،وتضحك م ّنا وعلينا.
فكل مرآة هي ذاتنا المعبرة عن حالتنا النفسية الآنية أو
الظرفية سواء كانت محدبة ،مقعرة أو مستوية .هذا ما
نجح فيه الحسين قيسامي في المجموعة من خلال
المرايا التي تج ّسد حالة فيزيائية من حالات مراقبة
الذات.
91