المنبر الثقافي العربي الدولي
تولَ أن َت جميع أمرك
المفكر العربي
الأستاذ الدكتور مسارع حسن الراوي
رئيس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سابقا
الثورة ..والانسان ..والحضارة ..كلّ يكمل بعضه بعضا
رب سائل يسأل :أين أنت والعراق ينتفض ،والبلاد العربية كلها في
خطر؟! وأنت تتكلم عن ظاهرة فلسفية احتار المفكرون وعلماء
الاجتماع في تحديد ماهيتها ،مفهوما ومحتوى.
أقول له :رفقا ،لعلك تجد لي عذرا وأنت تلوم.
فالثورة والانسان والحضارة ..كلّ يكمل بعضه بعضا .وقيمة الثورة
تكون اعظم عندما تتفجر في شعب متجذر الحضارة.
فالحضارة مفهوما :هي ذلك النظام الشمولي الكلي بجانبيه المادي وغير
المادي (المعنوي) للحياة.
1
والجانب المادي :يشمل الإنجازات العلمية والتكنولوجية ،وهذا الجانب
يطلق عليه (المدنية)
اما الجانب المعنوي :فهو النظام القيمي الأخلاقي ،من لغة وآداب وفنون
وديانة وتقاليد واعراف وفضائل ،وهذا الجانب يطلق عليه (الثقافة).
فالمدنية ذات طابع منطقي عقلاني ،أما الثقافة بصورة عامة ،فهي ذات
طابع عاطفي وجداني .وهذا الجانب يمثل لب الحضارة ""core
وجوهرها الذي يحدد هوية الأمة وروحها ومقوماتها الأساسية ،من
حيث الثبات والرسوخ إلى حد ما.
إن هذا يعني أن الحضارة البشرية ترتكز على قدمين ،هما :الجانب
المادي العقلاني والجانب المعنوي العاطفي الوجداني .فكلما تقاربت
المسافة بين الجانبين تكون الحضارة متوازنة ذات سمات إنسانية
سامية ،اما اذا كانت المسافة واسعة بين الجانبين يحدث الخلل والتأخر
وهو ما يطلق عليه بالتخلف الاجتماعي.
فالغرب الأوروبي وأميركا يغلب على حضارتهم الجانب المادي في
سرعة التقدم ،فهم أكثر مدنية من المجتمعات الأخرى ،ولكن هناك بطء
وتأخر في الجانب المعنوي ومنظومة القيم والأخلاق .
أما الشرق فهو متخلف في الجانب المادي للحضارة ،إلا أنه لا يزال
متمسكا ومحافظا على نظامه القيمي والأخلاقي .وهذا يعني ان الغرب
ذو مدنية عالية متقدمة ،بينما الشرق لا يزال بصورة عامة متخلفا
ومتأخرا في المدنية ،وبالتالي فان الحضارة البشرية في جانبيها
المادي العقلاني ،والمعنوي العاطفي الوجداني نتاج كل الأمم وجميع
الشعوب ،وأنه لا يوجد عرق أو جنس بشري متفوقا في قيام الحضارة
على غيره.
دلالات التحضر في الثورة من اجل المبادئ السامية
للحضارة رموز تعرف بها وركائز يقاس عليها .ولعل أولها وأهمها:
نظرة الحضارة إلى الإنسان ومكانته في إطارها العام .فلقد كرم الله
سبحانه وتعالى الإنسان ،وخلقه في أحسن تقويم وصورة ،وفضله على
كثير من خلقه بسمو عقله وقدرته على التفكير والابداع .فالإنسان في
2
الحضارة الانسانية المتوازنة عزيز ومكرم فهو بانيها ،والمفروض أن
يكون هو أول من ينتفع بها ويوظفها لخدمته ،كما عبر عن ذلك ول
ديورانت في قصة الحضارة.
كما ان للحضارة مظاهر سياسية واقتصادية واجتماعية وفنية ودينية.
وان كل هذه المظاهر عوامل تعين الإنسان في بنائها وتقدمها نوعا
وكما ،ولعل المظهر السياسي ونوع النظام والحكومة ومؤسساتها هي
من أكثر المظاهر التي تحدد مقومات الحضارة ومدى مشاركة الشعب
في توظيفها والتمتع بإنجازاتها.
لذا فعندما يواجه الانسان ذو الجذور الحضارية الراسخة ظروفا تنعدم
فيها كل المظاهر الحضارية فانه ينتفض ثائرا دفاعا عن حقه في التمتع
بتلك القيم والمقومات الاساسية للحياة الحرة الكريمة التي هي جوهر
الحضارة وغايتها في نفس الوقت.
واليوم و قد أصبح العالم بفضل الثورة الإعلامية التي نتجت عن تعدد
وسائل التواصل الاجتماعي ،يعيش وكأنه في قرية عصرية واحدة ،كل
يتأثر بالآخر ،ازدادت سيطرة فلسفة النظام الرأسمالي الليبرالي اقتصاديا
واجتماعيا على وسائل الاعلام والتواصل بدعوى الديمقراطية والحرية.
حيث تعزز ارتكاز الرأسمالية وهيمنتها على الاقتصاد والسياسة والمال
والتجارة لصالح القطاع الخاص والشركات .وكذلك امتلاك وسائل
الإنتاج والثورة المادية والبشرية من قبل كبار الشخصيات أصحاب
رؤوس الاموال والشركات الخاصة الكبرى.
ولأن الرأسمالية الليبرالية ونظامها الاقتصادي والسياسي نظام
استعماري عدواني يتجاهل المفاهيم الشعبية – الوطنية والقومية –
فهو لا يعيش إلا على إشعال الحروب العالمية والمحلية وإثارة النعرات
الدينية والمذهبية والعنصرية ،سياسته سياسة ميكافيلي -الغاية تبرر
الوسيلة -للبحث عن الربح واشباع نزعة التملك والاستحواذ .لذا فانه
من الطبيعي ان تتجاهل حاجات الشعوب وتتجاوز حقها في الحياة الحرة
الكريمة وحقها للعيش في ظروف حضارية تتناسب مع تلك المتجذرة
فيها .
3
علما بان هذه الفلسفة الراسمالية هي ليست فلسفة آدم سميث الأخلاقية
الإنسانية .وقد جاء في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية ما يدل على ذلك.
فقد دعا الى التعاطف والمشاركة الوجدانية وإلى التوازن بين المصلحة
الشخصية ومصلحة الجماعة – بين الأنا والنحن – والاهتمام بالنفس
وعمل الخير للآخرين وتكوين الضمير الحي على مستوى الفرد
والجماعة لكبح الأنانية والأثرة.
لا نريد في هذا المقام أن نذكر بالتفصيل الأحداث الإجرامية الكثيرة التي
ارتكبتها قيادات معسكر الرأسمالية الليبرالية في ارجاء العالم ،وسنكتفي
بنموذج ومثال ما حدث على الوطن العربي والأمة العربية وشعبها
المقهور من أحداث تاريخية يندى لها جبين البشرية ،وليكن ذلك على
هيئة تساؤلات:
-من قسم الوطن العربي إلى دويلات ذات استقلال رمزي (معاهدة
سايكس بيكو)؟
-من قدم فلسطين العربية هدية للصهاينة وطرد سكانها العرب
الأصليين؟
-من تبنى إقامة دولة إسرائيل الكبرى وعاصمتها القدس العربية
وبناء هيكل سليمان؟
-من تآمر على الوحدة العربية ،أمل العرب ،بين سوريا ومصر
وأسقطها؟
-من أفشل كل محاولات الوحدة بين الأقطار العربية؟
-من قاد الحملة العالمية المجهزة بأحدث الأسلحة الفتاكة وحتى
المحرمة لغزو العراق واحتلاله بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل؟
-ومن فسح المجال لإيران الصفوية وإسرائيل الصهيونية لدمار
العراق وتخريبه أرضا وشعبا ،حاضرا وتاريخا وهكذا فعلو في
سوريا وليبيا واليمن؟
-من الذي أدخل داعش إلى المنطقة العربية فطغت في العراق
واكثرت فيه الدمار والفساد؟
-من أثار النعرات الدينية والطائفية والعنصرية في أقطار الوطن
العربي؟
4
-من دمر خصوصيات الثقافة العربية باسم الديمقراطية والتعددية
والمحاصصة؟
-من أدخل الفوضى " الخلاقة "؟
وهذا غيض من فيض ...
الجواب على كل هذه التساؤلات بلا شك الغرب الاستعماري ،أوروبا
وأميركا .
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا ناصب الغرب الاستعماري ونظامه
الرأسمالي الليبرالي العرب العداء وجعلهم يعيشون واقع التجزئة
والتخلف والعبودية؟ ولماذا يسلبون المواطن العربي في العراق ولبنان
وغيره ابسط مقومات الحياة الحضارية تحت مرأى ومسمع الديمقراطية
الامريكية بشعاراتها البراقة ؟ .ولعلنا نجد الجواب الشافي في العودة
الى مؤتمر لندن ٧٠٩١برئاسة رئيس وزراء بريطانيا الذي طرح على
المؤتمرين قضية انهيار الحضارة الغربية والحضارة المؤهلة محلها؟
وكان الجواب هو أن الحضارة العربية الإسلامية هي المرشحة الأولى
ولقد توصل المؤتمر الذي ضم نخبة من السياسيين والاقتصاديين
والمفكرين والمثقفين ورجال الأعمال إلى قرارات مهمة منها:
-الحيلولة دون توحيد الأمة العربية .
-إثارة النعرات الدينية والطائفية والعنصرية .
-احياء الشعوبية.
-إشاعة الفرقة والصراع بين العروبة والإسلام.
-تشجيع الأنظمة الديكتاتورية الفردية الفاسدة في البلاد العربية.
إذن ما العمل؟ لمواجهة ظلم الإنسان للإنسان؟ والحكومات للشعوب؟
واستحكام الفساد وضياع الاوطان؟ .
هنا يبرز دورالجيل الصاعد من أحرار الشباب ومحبي السلام ،فالدعوة
موجهة لهم للانتصار لجذورهم الحضارية والدفاع عن حقهم في العيش
5
بواقع يتناسب مع عمق مجتمعهم الحضاري ،والوقوف في مواجهة هذا
الجبروت الظالم صفا واحدا متحدا ،قلبا وقالبا ،فكرا وعقلا.
فإلى متى نثق بالخارج وتحالفاته بعد هذه التجارب المرة وتداعياتها من
استعباد واستبداد وظلم وفقدان أمن وسلام؟ فلا إطعام من جوع وفقر
وجهل ولا أمن من خوف وإرهاب!
إنه لا خلاص من هذا الواقع المأسوي الذي تعيشه الأقطار العربية ،بعد
عون الله وتوفيقه ،إلا برص الصفوف والتوحد بتجاوز الخلافات
والصراعات والانتفاض على الظلم والتعسف والفساد لاسترجاع
الاوطان من سالبيها ،كي تعود مقومات الحضارة المتجذرة في الانسان
العربي عموما والعراقي خصوصا لتصبح حقيقة حية يعيشها كل يوم.
فلا حماية للأمن والسلام في الوطن العربي إلا بأيد عربية مؤمنة
مخلصة ،ف {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }...و
{ الإنسان على نفسه بصيرة}.
فما حك جلدك مثل ظفرك ..
فتولَ أن َت جميع أمرك.
6