عبد الحسين شعبان في قراءة الحسني البغدادي
مقاربة جريئة في الطرح والتناول والاغتناء
ا.د .عبد الكاظم العبودي
1
ليست هي المرة الأولى ان يقتحم الاستاذ د .عبد الحسين شعبان الكاتب والمفكر
العراقي الموسوعي صاحب العديد من المؤلفات الجريئة مواضيع شائكة ،غالبا ما
تكون بعيدة التناول في كتابات المحدثين ،وخاصة بالاقتراب الجريء في قراءة فكر
المرجعيات الدينية في العراق والتي توجها في مجموعة مقالات تحت عنوان
"مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتد ّين" كتبها في 12حلقة متواصلة نشرتها
صحيفة الزمان نهاية العام . .2112
نتفق مع الاستاذ عبد الحسين شعبان( :تبقى ظاهرة الإمام البغدادي وشخصيته
الإشكالية ،مسألة متميّزة في إطار اله ّوية الدينية التي حاول أن يعبّر عنها بوضوح
وجرأة واجتهاد) ،وقد عكست سيرة هذا الرجل وعائلته وخاصة حفيده السيد احمد
الحسني البغدادي أفعالا ومواقف امتدت على قرابة قرن كامل من تاريخ العراق،
تجاوزت في كثير من حيثياتها التوقف عند الزعم بالأقوال أو التنظير من خلال
قداسة الدين والاحتباس وراء النصوص اللاهوتية.
لقد كان الدكتور عبد الحسين شعبان موفقا كل التوفيق في مقاربته هذه ،تسعفه
ثقافته الموسوعية وحسن اطلاعه على تاريخ وعلماء مدينته النجف ،وبأن يختار منها
موقعا متقدما وقريبا لرصد حياة الإمام احمد الحسني البغدادي ليلج منها إلى المدخل
العلمي في التحليل الثقافي والاجتماعي لسوسيولوجية الدين والتدين لدى البغداديين
[البغدادي الجد والحفيد] ،ليكون منهما صورة متكاملة ،وضمن أكثر من بعد فكري
مجسداً في تناول ثلاثي الأبعاد ،متضمنا الإنساني والروحاني والأخلاقي ،وكلها
عناصر تشكل جوهر الدين أساساً ،وغاية التديّن .ومثلما هي الغاية نبيلة في الإيمان
عند الإنسان المؤمن؛ فالوسيلة السياسية لرجال الدين تتم ترجمتها بحكمتها وفي
ظروف مجتمعية أملت على البغداديين أن يكونا حيثما وقفا عبر جيلين يواجهان جملة
من المواقف التي استعرضتها مقالات الدكتور عبد الحسين شعبان ،ومداخلاته الشيقة
2
وردت في متن قراءته المتمعنة لكثير من المراجعات والوثائق والذاكرة الشخصية
الحية له ككاتب ومؤرخ وسياسي عاش جملة من أحداثها في العراق ومدينته النجف،
والتي حملت هي الأخرى إضاءات لقارئ شغوف يبحث بجد عن جوانب من ظلال
تلك الحقائق التي لم تكن متاحة لكثير من المتابعين ،وحتى لجمهور من المثقفين
والمؤرخين المعنيين بمتابعة شأن المرجعيات الشيعية في العراق ،لذا قدمها د .عبد
الحسين شعبان على نحو عضوي ومتلازم لا انفصام بينها.
وكما أصاب الاستاذ د .شعبان بتحديده ان المدرسة النجفية العريقة تتسم،
بتعدّديتها ،فهي متمايزة أيضا في اجتهاداتها ومواقفها من كثير من القضايا التي
عرضتها حلقات المقالات ألاثني عشر،حيث أغنى عبد الحسين شعبان بقراءته
المعمقة لها تأكيده لمكانتها العلمية والأدبية والثقافية والدينية ،حيث وصفها كمدينة
وحاضرة ثقافية ،كانت وستبقى ألأقرب إلى معهد عالمي أو مجموعة أكاديميات
ومدارس على شكل حوزات تتسم فيها حركة فكر وجدل فيما يخ ّص الدين والتاريخ
والحياة والسياسة والمجتمع.
وكما عرف عن الجد السيد أحمد الحسني البغدادي حرصه على النشاط من
خلال ندوته وهنا استعرض الدكتور عبد الحسين شعبان أسماء البعض من ترددوا
عليها ،ومنهم :السيد محمد سعيد ألحبوبي والشيخ علي ألخاقاني والشيخ محمد حسن ُك ّبه
والسيد عبد الرزاق الحلو وشيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ علي ألجواهري والشيخ
أحمد كاشف الغطاء والشيخ محمد جواد البلاغي والشيخ الميرزا محمد حسين النائيني
والسيد أبو الحسن الموسوي الأصبهاني والشيخ محمد رضا آل ياسين والشيخ محمد
حسين آل كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن المظفر والشيخ قاسم محي الدين والشيخ
محمد جواد الجزائري والسيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ عبد الكريم الجزائري
والسيد حسين البروجردي والشيخ مرتضى آل ياسين وآخرين ،وهؤلاء جميعهم من
الأعلام والشخصيات المتم ّيزة من رجال الدين في العراق والعالم الإسلامي.
3
وكذلك استمر الحال على خليفته وتلميذه وحفيده السيد احمد الحسني البغدادي
سواء بمجالسه ومحاضراته وندواته في العراق وسوريا ولبنان مباشرة أو باستخدامه
الذكي لتكنولوجيات التواصل المعلوماتي والاجتماعي وحرصه على إدارة موقعه
الالكتروني وبإصداراته المتواصلة من كتب ومؤلفات ومن دون انقطاع على مدى
نصف قرن من النشاط الديني والعلمي والاجتماعي والسياسي له.
وهكذا عكست الحلقات التي نشرتها صحيفة الزمان ،والتي نشرها د .عبد
الحسين شعبان مؤكدا بعناية بأن الحسني البغدادي الكبير كان الفقيه الموسوعي
الثقافة والمنشغل بالتاريخ ،مفهوماً ومنهجاً ورؤية فلسفية ،وخصوصاً في التاريخ
الإسلامي القديم ،ولاس ّيما مؤلفاته في " الرسالة المحمدية" ،وما بعدها في " الخلافة
الراشدية" ،وكذلك في أهم مؤلفاته بحثه الجامع الموسوم " التحصيل في أوقات
التعطيل" ،ويقع ذلك في 6أجزاء ،وكذلك الحال بما استمر به من نشر ومتابعة السيد
الحسني البغدادي (الحفيد) ،الذي يحرص على ان تكون مواقفه نهجا وامتدادا لمدرسة
السيد الحسني البغدادي الكبير.
ولعل إن من أهم ما توقفت به عديد الحلقات المنشورة هي المواقف من
الأحداث السياسية والاجتماعية التي مرت بالعراق والبلاد العربية والاسلامية على
مدى قرن من تاريخ العراق هو إصدار البغدادي الحفيد كتاب " وجوب النهضة "
الذي قدمها وعبر بها في صياغة متجددة عبر رؤية تأسيسية استباقية حول مفهوم "
الجهاد الدفاعي" اتسمت بها المدرسة الحسنية البغدادية ، ،جدا وحفيدا،
وكما عرف عن الحسني البغدادي ،الجد ،صلابة الموقف وشجاعة الرأي
والوضوح في التعبير ،إضافة إلى الوطنية العراقية والتو ّجه العروبي الوجداني،
استمر مثل هذا الموقف لدى حفيده أيضا وخاصة في موقفه من الاحتلال الأمريكي
للعراق 2113ودعوته إلى المقاومة حتى بات معروفا وموصوفا بأنه إمام المقاومة
وصاحب فتواها المتصلب بها سلوكا وممارسة حتى يومنا هذا.
4
لقد توفّي الإمام الحسني البغدادي في 2كانون الأول (ديسمبر) ،1723بعد
مسيرة طويلة حفلت بمواقف سياسية جريئة وطرح وجهات نظر دينية ذات إشكاليات
مفعمة بالحراك والاجتهاد المتميز ،استعرضتها الحلقات ،كانت غنية بالسرد
والتفصيل ،وفيها أيضا الكثير من الإيجاز الذكي المحكم واللماح ،ومن دون الخوض
ببعض التفاصيل ،المتروكة مستقبلا للبحث العلمي والتحقيق في كثير من إحالات
الهوامش المعهودة في كتابات ومؤلفات رجال الدين.
وإذا كان الكتاب والباحثون في مجالات الفقه الشرعي من رجال الدين أنفسهم
قد منحوا لأنفسهم درجاتهم العلمية والاجتهادية من مدارسهم وحوزاتهم المعروفة
وفيها من التوصيفات والمسميات كالمرجعيات أو بما يطلق على البعض منهم بــ "
آيات الله العظمى " أو صفة " المرجع الديني الأعلى " أو حتى يجري التوحيد لهم
بشكل قدسي نعتا باسم " المرجعية" ؛ فان هناك إشارة ذكية لماحة فطن إليها الدكتور
عبد الحسين شعبان حول هذا الجانب تدحض مثل هذا التوصيف ،استنادا إلى كتابات
محمد مهدي شمس الدين (أنظر :محمد مهدي شمس الدين -الاجتهاد والتجديد في الفقه
الإسلامي ،بيروت 1777 ،ص 142وما بعدها) ،وكذلك بما ورد بتوسع أكثر في
مؤلفات الكاتب (عادل رؤوف :صناعة العقول بين "التقليد الفقهي" وثقافة التقليد،
الطبعة الثالثة2112 ،م ،المركز العراقي للإعلام والدراسات) .وخلاصتهما :إنهما
مصطلحان غير موجودين في أي نص شرعي ،وإنما هما مستحدثان ،وليس لهما
أساس من حيث كونهما تعبيرين يد ّلان على مؤسسة ما ،وهي مؤسسة التقليد
ومرجعية هي مرجعية التقليد ،وتضيف تلك المراجع لمحمد مهدي شمس الدين
وعادل رؤوف وحتى البغدادي نفسه :إلى أنه ليس لهما ذكر في الأخبار والآثار،
فضل ًا عن الكتاب الكريم.
ويق ّرر محمد مهدي شمس الدين ...( :نحن في الفكر الإسلامي ليس عندنا إتباع
للأشخاص ،الفقيه لا يتمتع بأية قداسة على الإطلاق ،وليس مؤهلاً لأن يكون متبوعاً
على الإطلاق ،ولذلك مفهوم التقليد ،مفهوم دخيل…) .،
5
وكان أحمد الحسني البغدادي الجد ،قد ذهب إلى ذلك مبكرا بقوله ...( :إن
التقليد السائد لم يرد له أصل في الشرع) .ويرى د .عبد الحسين شعبان أن محمد مهدي
شمس الدين والحسني البغدادي أعطيا الأولوية للعقل ،ولعلاقة الإنسان المباشرة
بالخالق .وسار على ذلك النهج حفيده السيد احمد الحسني البغدادي .
وفي هذا الصدد أتذكر ندوة صحفية عقدها السيد احمد الحسني البغدادي خلال
أعمال المؤتمر القومي العربي السادس عشر الذي انعقد في الجزائر ،2115وردا
على سؤال لصحفية جزائرية سألته لماذا تطلقون على أنفسكم لقب " آية الله"؟
فأجابها السيد أحمد الحسني البغدادي الحفيد وبأسلوبه المتسم أحيانا بالسخرية المرة،
وقبل ان يشرح لها الفكرة ومعنى هذه الدرجة العلمية التي ينالها رجال الدين الشيعة،
ولماذا تستغربين ذلك و كل منا ،بما فيهم أنت ،هو آية من آيات الله من خلقه ،وعقب
ساخرا ،قائلا لها ( :يا سيدتي حتى الحمار هو آية من آيات الله) ،ليبعد عن ظنها ان
هذا اللقب له قدسية عنده وعند غيره.
ان الجوانب الهامة التي عكستها حلقات مقالات الدراسة ألاثني عشرعن سيرة
ومواقف السيد احمد الحسني البغدادي الجد هو التعريف بمواقفه الراديكالية و
"جذّريته السياسية التي كانت متواصلة ومتصاعدة؛ خصوصاً إزاء القضايا
المصيرية التي ته ّم الأمتين العربية والإسلامية ،لدرجة أنه كان عالما ورجل دين،
أقرب إلى روح الشباب واندفاعاته حتى وهو شيخ كبير.
وإذا كان ذلك إحدى مواصفاته في الحقل السياسي ،فإنها في الحقل الديني
أيضاً ،وعلى الرغم من الانفصال بين الحقلين ومنطلقاتهما ،فقد كانا يتو ّحدان لديه
لدرجة الاندغام أحياناً.
فهذا الراديكالي الثوري في حقل السياسة ،هو نفسه المحافظ التقليدي في حقل
الدين ،وتلك واحدة من المفارقات التي تمتاز بها شخصيته الإشكالية ،ليس في الحقلين
6
المشار إليهما فحسب؛ بل في الحقل الاجتماعي أيضاً ،خصوصاً وقد ُعرف
بصراحته الشديدة ،وكان البعض يتجنّب الاصطدام أو حتى الاحتكاك به ،خشية من
ردود الأفعال الشديدة أحياناً وال ُمحرجة في أحيان أخرى لمقامات تريد أن تبقى
صورتها لدى "العامة" ،غير ما هي عليه حقيقتها ،لكن الحسني البغدادي يكشف
أحياناً عن مستورها ليضعها عارية أمام الملأ .
وهكذا بدا الحسني البغدادي أبعد عن رجل دين تقليدي ،وأقرب إلى "ثوري"،
راديكالي كلاسيكي ،يسعى للتغيير بجميع الوسائل لنصرة الحق ،وللوقوف إلى جانب
المظلوم ،سواء من خلال نقد السائد من السياسات والمواقف ،ولاس ّيما في العهد
الملكي وبعدها العهد الجمهوري الأول ،أو في معارضة الاتجاه الديني الذي قارب
السياسة من منظور محافظ ،ومتردّد في الكثير من الأحيان ،سواء بالممالئة أو
الموالاة أو بالممانعة والمعارضة ،على صعيد الداخل والخارج.
لقد وقف احمد الحسني البغدادي الأكبر ضد محاولات الهيمنة الأجنبية على
العراق والعالم العربي والإسلامي منذ نعومة أظافره ،وشارك في التصدّي للانكليز،
حين انخرط في المقاومة العراقية لمواجهة الاحتلال البريطاني (،)1711-1714
وفيما بعد بالثورة العراقية ، 1721وكان لديه الكثير من الملاحظات والانتقادات
على الحكم الملكي ورموزه منذ تنصيب الأمير فيصل الأول في 23آب (أغسطس)
1721ملكاً على العراق ،وعبّر عن آرائه بشجاعة في العديد من المواقف ،لع ّل
أبرزها تنديده بموقف الحكومة العراقية المتف ّرج إزاء العدوان الثلاثي على مصر
.1756كما وقف إلى جانب انتفاضة "خرداد" الإيرانية وندّد بحكم شاه إيران ،وكان
يعتبره عد ّواً للإسلام.
كما أ ّيد الثورة في 14تموز (يوليو) 1751وقد استبشر بها خيراً؛ إ ّلا أنه
اختلف مع بعض توجهاتها ،ولم ينخرط في معارضتها أو في معارضة الحكومات
التي أعقبتها من موقف طائفي؛ بل إنه كان قد ندّد بالطائفية ،سواء في بعض
2
تمظهراتها في الحكم أو في معارضتها بالوسيلة ذاتها ،وهذا ما ينطبق عليه قول عالم
الاجتماع العراقي علي الوردي من مرض " الطائفية المتفشي" ،والذي ع ّبر عن
تص ّرفات بعض أطرافها ،بأنهم "طائفيون بلا دين"
،وهؤلاء بينهم المتد ّين وغير المتد ّين؛ بل إن بعضهم غير معني بالدين أصلاً ،لكنه
متعصب طائفياً.
وللسيد البغدادي مواقف متميّزة بشأن الدعوات الطائفية ،ففي العام 1765
أصدر بياناً بعنوان" لا طائفية ولا استكبار" ،وبقدر ما كان يقصد بذلك حكومة عبد
السلام عارف ،فإنه قصد أيضاً بعض معارضيه من الاتجاه الطائفي المعاكس،
والمتمثّل بالمرجعية الرسمية (الحكيمية)[.مرجعية السيد محسن الحكيم] .وقد استفسر
د .عبد الحسين شعبان خلال حواراته مع السيد احمد البغدادي الحفيد عن ذلك البيان
من الحسني البغدادي الجد فأجابه ...( :حاولنا طبع البيان في "مطبعة الغري" في
النجف ،لكن أصحابها كانوا يخشون طبعه تحاشياً من ملاحقة السلطات الرسمية
وبعض المتنفذين حينذاك ،وبعد أن علمت الأجهزة المختصة بوجود مثل هذا البيان،
قامت باقتطاع أجزاء منه مح ّرفة مضمونه؛ الأمر الذي دفع الحسني البغدادي الكبير
إلى المبادرة بإصدار بيان يحمل صيحات احتجاج على هذا النهج غير الشرعي.
ويمضي الحسني البغدادي "الحفيد" بعرض تفاصيل ما حدث فيقول( :أمرني
رضوان الله عليه أن أقوم بهذه المهمة الصعبة وأن يكون البيان باسمي شخصياً،
فلبيّت الطلب بكل اعتزاز .فذهبت إلى بغداد وكان برفقتي ابن ع ّمي صادق الحسني
البغدادي (الح ّجة) ،فذهبنا معاً إلى "مطبعة النجوم" ،وكان صاحبها صديق ابن العم
وشرحنا له الأمر ،فوافق على نشر البيان شريطة أن يتم تنفيذه بعد انصراف الع ّمال
كي لا ينكشف الأمر .وبالفعل تم طبع البيان في 21من شهر رمضان المبارك ،وجئنا
به إلى النجف الاشرف وو ّزعناه على علمائها ورجالها)( .انتهى كلام الحفيد).
1
وقد حاول الشيخ علي كاشف الغطاء إقناع البغدادي بالتخلّي عن البيان أو عدم
توزيعه؛ خصوصاً وإنه كان يقصد بالاستكبار "الحكومة العراقية" ،وبالطائفية
المجموعة الناشطة من التيار الإسلامي الشيعي ،الذي كان بينه وبينهم ،ما صنع
الحدّاد ،كما يُقال ،لكن الحسني البغدادي أبى ذلك ،وقد حاول أن يشرح موقفه في
بيت كاشف الغطاء لممثل رئيس الجمهورية عبد الجليل أحمد العبيدي الذي وصل إلى
النجف برفقة محمد بديع شريف رئيس الديوان والشيخ عبد الوهاب ألأعظمي ،أمين عام
المؤتمر الإسلامي الأول في بغداد ،لاس ّيما بتأكيده على الوحدة الوطنية ،في حين كان
الجانب الآخر يريد منه شيئاً آخر ،ول ّما شعر بأنه أدى المهمة قام بترك غرفة
الاستقبال وسارع بالخروج.
كما وقف البغدادي إلى جانب المقاومة الفلسطينية ،وأفتى بالانخراط فيها،
وأجاز التب ّرع بالحقوق الشرعية لها ،وكان شديد البأس في تنديده بالصهيونية
وحماتها على طول الخط؛ بل والدعوة إلى مقاطعة الدول التي تتعامل مع "إسرائيل"،
ومثل هذا الموقف يذ ّكر باقتراح الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء العام 1731في
المؤتمر العربي الذي انعقد في القدس ،حيث طالب فيه ( بتغيير الحج في ذلك العام
من م ّكة إلى القدس) ،دعماً لثورة البراق ،التي كانت قد انطلقت في العام ،1727
وتأييداً للشعب العربي الفلسطيني في مقاومة الصهيونية والاستعمار البريطاني.
لقد كان الحسني البغدادي أول الداعين لدعم ومساندة الثورة الفلسطينية "بالجند
والسلاح والمال" ،فلم يضع قيوداً على العمل الفدائي أو شروطاً لممارسة الكفاح
ضد الصهيونية ،كما فعل بعض رجال الدين الآخرين في فتواهم التي اتخذت طابع
المجاملة ،أو هكذا فُ ّسرت في ظل الحماسة السائدة ،وقد توافد عدد من القيادات
الفلسطينية لزيارة السيد البغدادي ،والتقى وفوداً من فتح والجبهة الشعبية ،وتبادل
بعض الرسائل مع ياسر عرفات وجورج حبش ،وكان عرفات (أبو عمار) قد زاره
في المستشفى حين كان يرقد في بغداد في مدينة الطب.
7
علماً بأنه وجه في حينها ندا ًء إلى ملوك ورؤساء الحكومات الإسلامية وشعوبها
حول مقاطعة الدول التي تساند إسرائيل جاء فيه …“ :فالواجب على المسلمين كافة
مقاطعة الاستعمار في كل أمر ،فيحرم عليكم مساعدة المستعمرين ،بل يحرم عليكم
كل ما يوجب ضعفكم وقوتهم”.
حين يكون الحديث عن المال ،فإن كل الناس على دين واحد.
وعلى الرغم من وضوح المواقف الوطنية والعروبية الصميمية والعراقية
الأصيلة للإمام الحسني البغدادي ،خصوصاً مقاومته لمحاولات الاستتباع الخارجي
ودعمه للمقاومة الفلسطينية ،بل وقوفه أيضا ضد بعض رجال الدين الشيعة ،من
منظور أقرب إلى الحكومة ،في إطار معادلة وضعها لنفسه لمواجهة التحديات
المختلفة.
وحيين انيدلع الخيلاف فيي العيام 1767بيين إييران والعيراق حيول شيط العيرب،
ألغت إيران من جانبها معاهدة العام 1732ميع العيراق ،مين طيرف واحيد ،علمياً بيأن
هذه المعاهدة كانت لصالحها ،مطالبة بحصولها على المزيد من التنيازلات مين جانيب
الحكومية العراقيية وطامعية فيي بسيط نفوذهيا عليى الخلييج ،وقيد أقيدمت لاحقياً عليى
احتلال الجزر العربية اليثلاث أبيو موسيى و طنيب الكبيرى و طنيب الصيغرى العائيدة
لدولة الإمارات العربية المتحدة العام .1721
وخلال اندلاع الأزمة بين العراق وإيران أرسل شاه إيران قوات بحرية لتفتيش
السفن المتوجهة إلى شط العرب ،وطالبها برفع العلم الإيرانيي ،فميا كيان مين الحسيني
البغدادي إ ّلا اتخاذ موقف شجاع وهو المعروف بعدائه لحكيم الشياه ،فيأعلن فيي مقابلية
أعيد نشرها في مجلة التيراث ألنجفيي ميؤخراً (العيدد )22-26العيام 2112نقيل ًا عين
مجلة العمل الشعبي (العدد 16 -15حزيران/يونيو 1767/أن ( لا فرق بين حكومتي
إيران وإسرائيل) ،مندّداً بالتعاون بينهما ،وأشار إلى وجوب مساعدة أبناء عربستان [
الاحواز].
11
وخلال وجوده في النجف منذ 1764ولغايية العيام ( 1723وفياة السييد الحسيني
البغدادي) كانت علاقاته ميع الخمينيي جيّيدة وحميمية ،والزييارات بينهميا قائمية .ولعي ّل
جيز ًءا مين ذليك يعيود إليى موقيف الحسيني البغيدادي اليداعم لانتفاضية "خيرداد" مين
أحداث الثورة ومن الخميني شخصياً ،وكانت الفاتحة قد أقيمت في النجف على أرواح
شهداء الانتفاضية ،وحضيرها الحسيني البغيدادي بنفسيه ،وكيان ليذلك تيأثير كبيير عليى
حركة التضامن مع الشعب الإيراني ،حيث كان بعض رجال الدين متردّداً أو أنه اتخذ
مواقف ذات سقف أدنى من موقف السيد البغدادي .وكان الحسني البغيدادي قيد أرسيل
برقية استنكار إلى الشياه ،وقيام بتوزيعهيا عليى شيكل منشيور ،وبيادرت إذاعية صيوت
العرب من القاهرة على إذاعتها والتعليق عليها ،كما نشرتها في وسائل إعلام مختلفة،
علماً بأن ذلك كان وقت هيمنة الحرس القومي على مقاليد الأمور ،لكنيه ليم يبيا مل بمثيل
هذا التح ّرك الشجاع .وكان د .الشيخ محمد هادي ألأميني قيد نقيل برقيية السييد البغيدادي
إلى شاه إيران محمد رضا بهلوي ،وهذا ن ّصها( :نص برقية الحسني البغيدادي إليى شياه
إييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييران):
عاهل المملكة الإيرانية محمد رضا بهلوي – طهران:
(انخييداعكم لأعييداء الإسييلام الييذين كييان مقصييدهم الوقيعيية فييي شييريعة سيييد
المرسلين صلى الله عليه وآله وس ّلم والقضاء على الإسلام والمسلمين ..هو الذي أدى
إليى سيوء صينيعكم بالشيعب الإيرانيي وعلمائيه الأبيرار قيتلاً وإرهابياً وحبسياً وتبعييداً.
وأعظم من ذلك بغيكم على علمياء اليدين،وعلى رأسيهم الإميام آيية الله الخمينيي ،اليذين
بهم تقام الدولة ،وتنظم الرعية .كيف لا وهم حجج الله وآياته ،وأعلام اليدين ودعاتيه؟
… وقد يؤدي سوء صنيعكم إلى سوء عاقبتكم في الدارين هوانياً وخسيراناً ،وصيريح
القرآن في كثير من آياته هو البطش والانتقام من الجبابرة والطغاة .وأن فاجعة إييران
لم تكن خاصة بهم ،بل ع ّمت كافية المسيلمين ،فيإنهم مينكم نياقمون ،وعلييكم سياقطون،
والأمر يحدث بعده الأمر)( .محمد الحسني البغدادي).
11
تلك هي برقية الحسني البغدادي ،التي عبرت عن موقف ثابت إزاء قضايا
الاستبداد سواء في ايران أو غيرها من بلدان المسلمين ،وإذا كان الشيء بالشيء
يُذكر ،ففي حين كان التنديد شديداً بالمجازر التي حصلت في إيران ،كان محسن
الحكيم يستقبل وزير خارجية إيران " عباس آرام" ،حيث نقلت الأخبار حينها ...( :
أنه حثّه على تغيير سياسته إزاء المعارضة الإسلامية الإيرانية) ،وهو موقف لا
يرتقي إلى التضامن المطلوب والمواقف التي اتخذها الحسني البغدادي وعدد من
رجال الدين الآخرين.
وكان آية الله الحكيم قد أرسل برقية إلى آية الله محمد البهبهاني تحثه فيها على
التد ّخل لدى السلطات الإيرانية لإيقاف التطاول على مقام الروحانيين .ومما جاء في
نص البرقية ...( :إن إصرار المسئولين على تشريع القوانين غير المشروعة
موجب للارتباك … ويسبب نقمة الشعب المسلم واستفزازه ،وحيث أن المؤمنين
يستفتونني في واجبهم ،رأيت لزاماً عليكم وعلى العلماء الأعلام أن تبلغوا المسئولين
،إن الشعب الإيراني المسلم إنما انتخب أولياء الأمور للقيادة في سبيل تنفيذ قوانين
الإسلام المقدسة والدفاع عن نواميس الدين الحنيف…) [ ،نقلاً عن عادل رؤوف-
العمل الإسلامي في العراق -بين المرجعية والحزبية ،المركز العراقي للإعلام
والدراسات ،دمشق ،ط ،2116 ،4ص .]37
من الانتقادات الأخرى التي تو ّجه إلى السيد الحسني البغدادي أنه اتّخذ موقفاً
أقرب إلى موقف الحكومة العراقية حين تع ّرض السيد مهدي الحكيم نجل الإمام
الحكيم الكبير إلى الاتهام بالجاسوسية ،وكانت تصريحاته تلميحاً فيها نوع من
"الإدانة" ،وإن لم يأ مت على ذكر الاسم ،لكنها في الشارع فُهمت على أنها اصطفاف
مع الحكومة ضد خصمه اللدود الحكيم .وحسب تدقيقات الدكتور عبد الحسين شعبان
التي أشار اليها بهذا الصدد في مقالاته هذه ...( :فإن موقف الإمام الحسني البغدادي
وتصريحاته بشأن الجواسيس كان قبل اتهام السيد مهدي الحكيم بالتجسس بنحو ثلاثة
أشهر ،لكن الحكومة أبرزته واستغلته بعد توجيه الاتهام إلى السيد مهدي الحكيم).
12
[انظر :عادل رؤوف – أنبياء وأصنام – حوزة الأرض والوطن وحوزة الوافدين إلى
الوطن ،فقرة :جاسوسية مهدي الحكيم نقاشات مجتزأة ..واشتباكات مرجعية ،ص:
،141ط :الثانية2117 ،م ،المركز العراقي للإعلام والدراسات] .والهدف منه كما
هو معروف ...( :تعميق الخلافات بين رجال الدين لإضعاف الطرفين ،وإبقاء روح
المنافسة غير المبدئية أحياناً قائمة بينهما ،فضلاً عن الكراهية والتشفي والحسد ،وهي
كثيراً ما تكون موجودة ،بل ومتفشية بين أبناء المراجع وحاشياتهم ،التي هي
المتح ّكمة أحياناً بأمور المرجع ،خصوصاً مع تقدّم السن ،ومع الرغبة في عدم
المواجهة المباشرة ،فيترك أمر إدارة شؤون المرجع للمقربين منه من الأبناء
والأنسباء والأقرباء والبطانات).
ولعل في استذكار حكاية اللقاء بالسفير الأمريكي فيها من الغرابة ،وكما يرويها
د .عبد الحسين شعبان ،استنادا إلى شهادات ووقائع وحوارات استقاها شعبان
وأوجزها ،يقول عنها ...( :استغربنا حين سمعنا لقاء السيد البغدادي مع السفير
الأمريكي في بغداد ،وحين استفسرنا ،علمنا كيف حصل اللقاء ،علماً بأن هناك الكثير
من الإشاعات التي كانت رائجة بشأن علاقة بعض رجال الدين بالسفارات الأجنبية،
البريطانية والأمريكية وغيرها ،ولأننا نعرف الحسني البغدادي ،فقد كان الأمر
محيّراً .وقد نقل لنا صادق الحسني البغدادي (الح ّجة) ،إن الحسني الكبير كان ضيفاً
على أحد أصدقائه في بغداد (المقصود عبد الباقي الطيار) ،وكان هناك من ينتظر
لمقابلته ،وهو في قيلولة ،وإذا بالسفير الأمريكي يطرق الباب ويطلب مقابلة السيد.
(ويبدو أن ثمة من دعاه واتفق معه ،وإلا من أين له أن يعرف بحضور السيد
البغدادي؟ وكيف يس ّوغ لنفسه مثل هذا التص ّرف غير الدبلوماسي؟).
وقد فوجئ السيد بعد أن استيقظ من النوم ،وكان رد فعله الأول هو الاعتذار عن
اللقاء ،ولكن المضيفين أقنعوه بذلك ،بأن السفير جاء يستفسر عن صحتكم ،ولأنه
ضيف ،فالتعاليم الإسلامية والتقاليد العربية تقضي بإكرام الضيف ،فأذن له بالدخول
عليه ،ناقلاً له تح ّيات رئيس الولايات المتحدة ليندون جونسون.
13
وهناك من يرتاب بصحة هذه الرواية معتبراً إن اللقاء جاء بترتيب واتفاق،
لكنني أميل إلى هذا الرأي ،وأعتقد أن الاتفاق لم يكن مع الإمام الحسني البغدادي؛ بل
مع بعض الحاشية التي كانت تريد استغلال اسمه وتليين موقفه ،خصوصاً وإن
وضعه في مثل تلك الأجواء قد تضطره إلى المجاملة ،وبذلك تكون خطوة أولى
للتنازل ،لكن السيد خ ّيب مثل هذا الظن وأفشل مثل هذا التقدير أو الاعتقاد ،حين عبّر
عن موقفه الحاد إزاء الصهيونية و"إسرائيل" والولايات المتحدة.
وكان الحسني البغدادي قد بادر السفير الأمريكي بالسؤال :ماذا تطلبون م ّنا وأنتم من
يدعم الصهيونية العالمية ويساند "إسرائيل"؟ .هل تريدون السلام فعلاً أم تريدوننا أن
نستسلم؟ ،وكان ذلك بمثابة مفاجأة غير دبلوماسية ،لكنها لغة الحسني البغدادي
المعروفة بفصاحتها ووضوحها ولغة العراقيين السائدة آنذاك ،وهم عرفوا وخبروا
كيف تمارس "إسرائيل" عدوانها ،وكيف يت ّم تعطيل التنمية والتقدم ،بحجة مواجهتها
وتبديد الأموال لشراء السلاح.
مواقف الحسنيين من الاحتلال البريطاني 9191إلى الاحتلال الأمريكي
3002
يكاد أن يكون موقف الحسني الجد والحسني الحفيد واحدا إزاء قضية الاحتلال
الأجنبي ومقاومته .تبنّى الحسني البغدادي الجد فكرة "الجهاد الدفاعي" منذ أمد بعيد،
وقد حاول الكتابة فيه ،حيث أعدّ عنه مخطوطة كبيرة ،لكنها ظلّت تقبع في مكتبته
عقوداً من الزمان ،حتى سنحت الفرصة بصدورها في كتاب بعنوان "وجوب
النهضة".
وجاء موضوع نشره وتوقيته مناسباً جداً ،خصوصاً بعد العدوان "الإسرائيلي"
على الأمة العربية في 5حزيران (يونيو) العام ?1762فجرى طبعه وتوزيعه في
حينها ،واحتفلت فيه الأوساط السياسية والثقافية ،الوطنية والعروبية واليسارية،
14
خصوصاً لما حمله من رؤية ثاقبة بخصوص مقاومة العدوان ورد كيد المعتدين
والمتخاذلين.
وإذا كان الكتاب قد أعيدّ أييام حكيم الدولية العثمانيية وفيي مواجهية الإنكلييز ،فيإن
أحكاميه امتيدّت ،بيل أصيبحت أكثير ضيرورة حيويية لمواجهية "العيدوان الإسيرائيلي"
باعتباره ( فرض عين وليس فرض كفاية) ،كما يقال .وهي نفيس الفكيرة التيي حياول
آيية الله عليي السيسيتاني استحضيارها فيي أطروحتيه عين "الجهياد الكفيائي" لمواجهية
داعش بعد احتلال الموصل في 11حزيران (يونيو).2114
ان أهيم خيلاف يطرحيه السييد احميد الحسيني البغيدادي الحفييد مين مرجعيية
السيستاني هو تخليها عين مجابهية الغيزو الاحيتلال الأمريكيي 2113والتغاضيي عين
حليول الغيزو فيي العيراق بالسيكوت المطليق؛ بيل فيي تعطييل فتيوى الجهياد ،فيي حيين
كانت مرجعية السيد الحسني البغدادي قد تمسيكت بخييار المقاومية ومواجهية الغيزاة ،
كما حرص البغدادي "الحفيد" ،عليى مسياهمته فيي التيرويج لفكيرة مقاومية الاحيتلال
الأمريكي ،ونشر ثقافة الدفاع عن الوطن والقيم ،التي تبنّاها منذ العام 2113ولاس ّيما
"الحق في مقاومة الاحتلال" وكان الحسني "الحفيد" قد أ ّسس منذ أواسيط التسيعينات
(حركة الإسلاميين الأحرار) ،وكان لها بعض الامتدادات في أهواز الجنوب ،إضافة
إليى النجيف وبغيداد وبعيض الميدن العراقيية مين المؤييدين لآيية الله البغيدادي ،وحيين
انكشف أمرها بعد تر ّصد من جانيب السيلطة العراقيية البعثيية ،التيي لاحقتيه ،فاضيط ّر
الهيروب إلييى إيييران فييي العييام 1771ومنهييا انتقيل بعييد بضييعة أشييهر إلييى دمشييق،
وتع ّرض بعض أعضاء الحركة إلى التنكيل ،بما فيها إعدام بعض من قياداتها.
ويعد كتاب "وجوب النهضة" هيو درس فيي الكفياح اليوطني والقيومي مين أجيل
الحقوق وضدّ المعتدي والمحتل ،مثلما هو درس في فقه المقاومة والدفاع عن الوطن.
وعلييى الييرغم ميين أنييه كييان قييد ُكتييب إبّييان الحييرب العالمييية الأولييى ،لكيين حيثياتييه
واسيتنتاجاته لا تيزال راهنية وحيويية ،وفيهيا إعيادة قيراءة مع ّمقية لفقيه المقاومية فيي
15
مواجهية الاسيتكبار العيالمي ،وخصوصياً بعيد اتّفاقيية سيايكس – بيكيو لتمزييق البليدان
العربية ،العام 1716وحتى اليوم.
وكلنا نتذكر ان للبغدادي الحفيد خطابا جريئاً له بهذا الصدد ،حين أبدى استعداده
للتعاون حتى مع "عاهرة" إذا كانت ضد مشروع الاحتلال الأمريكي ،وهو مستعد أن
يتسامح معها على عهرها ،لكنيه ييرى فيي رجيل ديين يفتيي بجيواز الاحيتلال ،وكأنيه
يزني بأمه عنيد جيار الكعبية،لا يمكين مسيامحته ،وليم يتيو ّرع الحسيني البغيدادي مين
قول ذلك ،وهو بز ّيه الديني وعمامته السوداء ولحيته البيضياء ،فيي كلمتيه التيي ألقاهيا
إمام جمهور كبير من الحاضرين في المؤتمر القومي العربي 2115فيي قاعية فنيدق
الاوراسيي بيالجزائر ،وبيالطبع فيإن مثيل هيذا القيول مجيازي عليى صيعيد "التشيبيه
والدلالة" كما يقول علماء البلاغة ،قصد منه البغدادي الحفيد ،الدعوة إلى تعبئة جميع
القيوى ضيد المحتيل ،وإبعياد ميا هيو ثيانوي وطيارئ ومؤقيت ،عليى حسياب ميا هيو
استراتيجي وثابت وطويل الأمد ،لاسيّما بإذكاء روح الوطنية العراقية وتحفيزها على
مقاومة المحتل الأمريكي.
ولأن البغدادي الكبير ،امتليك شخصيية كاريزميية ومكانية علميية ،فقيد نظير إليى
جميع المحاولات التي حاولت كسيبه ،سيواء عين طرييق الميال أم بيالإغراء ،أو سيوا ًء
كانت تلك المحاولات خارجية أم داخلية ،بعين الاستصغار والازدراء ،خصوصاً فيي
ظل نزاهته الشخصية ونظافة يده ،حيث عاش حياة زهد وعفّة نفيس وكبريياء ،فضيل ًا
عين صيراحته المعهيودة ،لاسييّما فيي اتخياذ المواقيف ،فقيد كيان جريئياً وليم يحياول
الاقتيراب مين الحكيام ،بيل إنهيم اقتربيوا منيه ،وإن اسيتجاب إليى بعضيهم ،فقيد وضيع
مسيافة بينيه وبيينهم ،كميا هيو فيي عهيد الرئيسيين عبيد السيلام عيارف وعبيد اليرحمن
عارف والرئيس أحمد حسن البكر .وكان هؤلاء معجبيين بمواقفيه الوطنيية والعروبيية
العامة ،وهو ما حاول خصومه إثارة إشاعات حوله.
فيي اليذكرى الأوليى لثيورة 14تميوز 1757أرسيل البغيدادي الجيد برقيية إليى
الزعيم عبد الكريم قاسم ،يستنكر فيها إقامة المهرجانات التي صادفت ذكرى استشهاد
16
الحسين ،وكانت قد حدثت بعض المصادمات في المسيب والديوانية والحيي وغيرهيا،
وعلى إثر ذلك أرسل الزعيم ،السيد حميد الحصونة ،قائد الفرقة الأولى ،لينقل رسالة
شفوية منه ،وكان وقتها البغدادي بالكوفة ،وقيد تيذ ّرع بيالمرض ،وطليب منيه إذا كيان
لديه شيئاً يقوله فليقله لمرافقيه ،لاس ّيما بخصيوص احتفيالات الشييوعيين التيي كيان قيد
اعترض عليها .وقد قال الحصونة :إن الزعيم ق ّرر تقديم مخصصات شيهرية للسي ّيد (
ليسيتعين بهيا فيي شيؤونه الخاصية والعامية) ،وهنيا بيادر السييد حسيام اليدين الهيادي
الحسني بقوله( :إن مقام السيد لا يسمح له بقبض مخصصات من أي حاكم مهما كانت
صيفته) .ولكين ممثييل اليزعيم قييال ليه إن زميلاءه ميين علمياء النجييف يسيتلمون هييذه
المخصصات ،بل إن بعضهم هو من طالبهم بها.
وكيان قيد سيبق للحسيني البغيدادي أن رفيض اسيتلام راتيب شيهري مين عائيدات
الأوقاف الهندية ،لما كان يحوم حولها من صيلات بيالانكليز ،وكيان مين عيرض علييه
ذلك هو محميود آغيا الهنيدي ،وهيو ضيابط ارتبياط بالسييد محمد كياظم الييزدي وحكومية
الاحتلال ،وهو ممن يسي ّمون “علمياء الحفييز” أي اليـ ( officeعين اللغية الانكليزيية)
التي ح ّرفت لتصبح "الحفيز" ،وعلماء الحفيز هم رجال الدين الرسميين.
كما رفض تخصيص راتب له من اليرئيس عبيد السيلام محمد عيارف ،حيين جياءه
نجيم اليدين ألنعيميي ،مميثل ًا ليه برفقية عبيد الوهياب ألأعظميي ،بهيدف دق المزييد مين
الأسيافين بينيه وبيين السييد محسين الحكييم مين جهية (اليذي تح ّركيه إييران كميا تقيول
الروايية الحكوميية) ،وضيد المي ّلا مصيطفى البيارزاني مين جهية أخيرى ،حييث كانيت
الحركية الكرديية قيد عيادت إليى العميل المسيلّح قبيل الوصيول إليى بييان 31حزييران
(يونييييييو) العيييييام 1766واليييييذي لبّيييييى جيييييز ًءا مييييين مطاليييييب الشيييييعب الكيييييردي.
وكان الرئيس عارف كما تقول “الرواية” التي تم تداولها في حينه ،قد ق ّرر تخصيص
مبلغ 11آلاف دينار لإدارة شؤون "الحوزة العربية" وتغطية نشاطاتها .لكن الحسيني
البغدادي اعتذر عن ذلك بلا حوار أو نقاش ،وترك الجلسة قائل ًا (لا حول ولا قيوة إلا
بياا العليي العظييم ،)..وقيد نقيل هيذا عبيد الحمييد الراضيي فيي حيواره ميع الحسيني
12
البغدادي (الحفيد) في كتابه :محمد الحسيني البغيدادي – المسييرة الجهاديية والفكريية فيي
قيراءة حواريية ووثائقيية خيلال سيبعة عقيود مين اليزمن – 1111 / 1372 – 1271
?1723منشورات مكتبة الإمام المجاهد السيد البغدادي العامة.2112 ،
ويبدو أن عبد السلام عارف أراد مكافأة البغدادي على فتواه بتحيريم الشييوعية،
لكن البغدادي اليذي ع ّبير عين قناعاتيه ،ليم يكين يسيعى للحصيول عليى مكافيأة ماليية أو
غير مالية له ،بل كانت تلك قناعاته ،بل واحدة من "شطحاته" التي أشار إليها د .عبيد
الحسين شعبان في حلقات من مقالاته ،خلال سرده بالتفصيل قضايا الفتياوى بتحيريم
وتكفير الشيوعية التي روج لها السيد محسن الحكيم وغيره فيي ،1757وامتنيع عنهيا
السيد البغدادي ولكنه عاد فكتب شيئا ما بهذا الخصوص خلال فترة حكم الرئيس عبد
السلام عارف ، 1764حيث يرى شعبان انه ( ...لم جد لهيا أي مبي ّرر سياسيي ،لكين
رأيه يبقى محترماً ،طالماً كان نزيهاً حتى وإن كان "خاطئاً") .
بعييد انقييلاب 12تمييوز (يوليييو) العييام 1761الييذي أعيياد حييزب البعييث إلييى
السلطة،اجتمع الدكتور عبد المجيد الرافعي عضو القيادة القومية لحزب البعث والوفد
المرافق له مع الحسني البغدادي الذي زاره في داره (أواخر العام ،)1767وتم تبادل
الأخبار والمعلومات عما يجري في الساحة اللبنانيية ،التيي كانيت تنيذر بحيرب أهليية،
وخصوصاً في الموقف إزاء الوجود الفلسطيني المسلّح ،وكان السيد شبيب المالكي قد
حضر اللقاء بوصفه متصي ّرفاً لليواء كيربلاء (محافظياً) ،وكانيت النجيف قضيا ًء حينهيا
تتبيع لكيربلاء ،ولفيت الرافعيي انتبياه الميالكي بعيد خروجهميا إليى حيياة التقشيف التيي
يعيشها البغدادي ،قياساً بأقرانه في لبنان ،وطلب مفاتحة القيادة بدعمه مادياً ،فكيان رد
المالكي ...( :إن البغدادي رجل زاهد وتؤكد المعلومات التيي ليدينا أنيه ييرفض الهيدايا
وأية مساعدات من الجهات الرسمية) .وهو ميا أ ّكيده ليي الميالكي شخصيياً إضيافة إليى
رسالته المؤرخة يوم .2112/7/21وكان قد زاره مين لبنيان خيلال تليك الفتيرة أيضياً
طلال سلمان (رئيس تحرير جريدة السفير لاحقا) والسييد جعفير شيرف اليدين والسييد
موسى الصدر وأديب الفرزلي وكامل الأسعد رئيس البرلمان اللبناني الأسبق.
11
وكان خير الله طلفياح قيد طليب مين اليرئيس أحميد حسين البكير تقيديم المسياعدة
للحسني البغدادي ،طالما يحصل آخرون على مساعدات إيرانية تأتيهم باسيم الحقيوق،
وكيان ردّ اليرئيس البكير (،إن الحسيني البغيدادي رفيض أكثير مين عيرض م ّنيي ومين
الدولة ،وهذا هو تاريخه ،فكيف يقبل أن يأخذ المخصصيات مين الشياه عيد ّوه الليدود).
وقد وثقت هذه المعلومة مع منذر المطلك سكرتير مكتب البكر حينها والسيفير لاحقياً،
الذي أ ّكد لي أنه سمعها من الرئيس البكر ،مع إشارة إلى مرجعيته العربيية الشيجاعة،
وهو ما يؤكد ترفّعه ووطنيته ونزاهته.
ولعيل أهيم ميا فيي حلقيات المقيالات التيي نشيرها اليدكتور عبيد الحسيين شيعبان
توثيقها الدقيق ومن شاهد نجفي وشيوعي سابق قد عاشها عن كثب ،وفيهيا مين القيمية
التاريخية والسياسية جوانب هامة من تياريخ العيراق المعاصير ،بميا يتعليق بمواقيف
بعض " المرجعيات" والتي ظلت غامضة أميام الأجييال بميا يسيمى قضيية "فتياوى
تحريم الشيوعية" ،التي كثر حولها الجدل في السنوات 1757وما بعدها بعيد احتيدام
الصيراع السياسيي فيي العيراق اثير انتكاسية ثيورة 14تميوز واشيتداد الصيراع بيين
معسيكري القيوميين والشييوعيين ،مميا شيجع بعيض رجيال اليدين ودفعهيم فيي إقحيام
مؤسساتهم وعناوينهم الدينية بما سيمي [ إصيدار فتياوى مين المراجيع الكبيار لتحيريم
الشيوعية] ،حيث أصدر السيد محسن الحكيم في شباط/فبراير 1757فتوى لتحيريم
الشيوعية جاء فيـيـها ... ( :لا يجيوز الانتمياء إليى الحيزب الشييوعي ،فيإن ذليك كفير
وإلحاد ،وترويج للكفر والإلحاد ،أعاذكم الله وجميع المسلمين عن ذلك ،وزادكم إيمانياً
وتسليماً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتيه…) .وفتيوى عبيد الكيريم الجزائيري التيي
جاء فيها…( :الشيوعية هدم للدين وكفر وضلال ،فلا يجوز الانتماء إليها بوجيه مين
الوجوه ،كفى المسلمين ش ّرها) .وفتوى مرتضى آل ياسين التي أ ّكدت على ... ( :أن
مساعدة الشيوعيين أو الانتماء إليهم يعدّ ذنباً كبيراً).
والمفارقة التي توقف عندها الدكتور شيعبان وأوضيحها بشيكل جليي :كييف ان
الحسني البغدادي الجد ،قد مورست عليه ضغوطاً كبيرة لإصدار فتوى متزامنة مع
17
فتوى السيد محسن الحكيم ،لكنيه رفيض ذليك بعنياد وإصيرار ،وحسيب الكاتيب عيادل
رؤوف ،وكذلك بما توصل إليه ودقّقه الباحث د .عبد الحسين شعبان في حواراتيه ميع
السيد الحسني البغدادي (الحفيد) قد أزال الغموض حول حقيقة وموقف السيد الحسني
البغيدادي الجيد ،ورفضيه إصيدار فتيوى بتحيريم الشييوعية فيي زمين اتسيم بالصيراع
اليدموي واسيتغلال مثيل تليك الفتياوى انيه كيان ييرى ...( :إن هيذه الفتياوى سييكون
ضيحيتها الأوليى والأخييرة شييعة العيراق)؛ و ( ...لأن الشييوعيين العيراقيين كيانوا
أغلبهم من الطائفة الشيعية ،وإذا كان ولا بدّ من إصدار فتاوى فلا بدّ من إقنياع علمياء
أهل السنة بإصدار مثل هذه الفتاوى).
لقد فشلت محاولات عديدة لإقناعه ،ولكن دون جدوى ،فهو وهو وآيية الله السييد
محسين الحكييم خصيمان ليدودان ،ولأن الأول كيان قيد أعطيى مثيل تليك الفتيوى ،فليم
يرغب البغدادي أن يكون مقلداً أو ثانياً ،لأنه كان يعتقد وظ ّل هكذا حتى آخر أيامه إنه
رائد وأول ،ولاس ّيما بالمقارنة مع السيّد الحكيم ،إضيافة إليى عيدم رغبتيه فيي التعمييم،
حتى وإن عارض الفكرة الشيوعية ،فإنه في الوقت نفسه حاول التمييز بيين الشييوعية
وبين أتباعها من غير المتب ّحرين فيها.
وكما يروي الحسني البغدادي (الحفيد) :انه زار البغدادي الكبير ثلاثة من علماء
الشيعة لإقناعه بإصدار فتوى ضد الشيوعية ،وكان الوفد يتيألف مين الشييخ مرتضيى
آل ياسين والسيد اسماعيل الصدر والسيد محمد جميال الهاشيمي وبحضيور عبيد الهيادي
العصامي وناشدوه بقولهم ( :إن خطر الإلحاد أصبح واضحاً وإن الشيوعيين يسحلون
النياس بالحبيال وهيم ييدعون إليى الإباحيية ،ولا بيد مين إصيدار فتيوى ضيدهم) ،فكيان
جوابيه ...( :إذا كيان العنيوان الأول صيحيحاً ،فيإن نتائجيه سيتؤدي إليى ذبيح الشييعة،
وهيذا خطيأ فيادح) ،ثيم أضياف ( :أيين كنيتم طيوال هيذه السينين عين الشييوعية؟ )،
والمقصود مواجهتها الفكرية.
وهكذا كانت حكمة الحسني البغدادي الكبير ... ( :ومع أنه كان مقتنعاً بإلحادية
الأفكار الشيوعية ،لكنه كان رافضياً إصيدار الفتيوى متزامنية ميع الأربعية ومين تيبعهم
21
لاحقياً ،وفيي محاولية لاسيتمالته) ،رغيم أن قيال ليه الهاشيمي ...( :سيتكون صيورتك
وفتواك مقدّمة على صورة وفتوى السيد الحكييم ،ولكين البغيدادي الكبيير نهيره بقوليه:
"لسنا أطفال ًا" ) ،كما أفاد بذلك البغدادي (الحفيد) ،إذ لم يعبئ بمثل تلك الت ّرهات.
ان إحدى الحلقات وضحت جوانب أخرى من هذا الموضوع الحساس من خلال
ميا أشيار إلييه اليدكتور عبيد الحسيين شيعبان فيي بحثيه و مين سيؤال وجهيه إليى السييد
الحسني البغدادي الحفيد خلال إعداده لحلقات تلك المقالات :
[ ...بعد أن كان جدّه قد تأ ّسف لذبح الشيوعيين وإصدار البيان رقم [ 13بعد
انقلاب 1شباط ،]1763القاضي بإبادتهم واستغلال الفتاوى الأربع في ذلك ،فلماذا
إذاً أصدر السيد الحسني البغدادي الكبير الفتوى متأخرة في العام 1764؛ في حين
ظل آية الله حسين الح ّمامي وآية الله عبد الكريم الزنجاني وآية الله الشيخ محمد فاضل
القائيني ،قد استم ّروا في رفضهم إصدار مثل هذه الفتاوى ،وتح ّملوا بسببها الكثير من
الاتهامات والإساءات ،وكذلك السيد البغدادي نفسه؟ ].
وكان جواب السيد احمد الحسني البغدادي الحفيد :لقد كان واضحا في هذا
الموقف هو الحكمة والتروي ،خصوصا ان القوى السياسية المتصارعة أرادت
استغلال المرجعيات وجمهورها وتابعيها في لجة الصراع الدموي الذي كان محتدما
في العراق ،ولهذا رأى البغدادي وبقية المراجع بمواقفهم لاعتبارات فكرية وعملية،
فضل ًا عن ما قد تس ّببه تلك الفتاوى من زيادة الانقسامات المجتمعية ،إذ أن على فكرة
التكفير ستترتب إجراءات وردود فعل وتبعات أخرى ،ناهيك عن كونه يثير التباسات
قانونية ،مثلما يثير خلافات وح ّساسيات سياسية واجتماعية وحتى شخصية وعائلية،
فمن يستطيع أن يفتي بذلك وهو مرتاح الضمير أو يتح ّمل تلك النتائج ،خصوصاً،
وإنه شاهد بأم عينيه كيف ت ّم استغلال فتوى السيد الحكيم في العام 1763عقب
الانقلاب ألبعثي الأول وحتى قبله؟ ،وما جرى من استغلالها العديد من الاغتيالات
21
ومبررات الاعتقالات التي شملت شيوعيين وغير الشيوعيين خلال سنوات الستينيات
من القرن الماضي.
لقد تعرض الممتنعين عن الفتوى من المراجع لشتى المضايقات والشبهات
وحتى حملات التسقيط بين المراجع ،فقد اتّهم القائيني بالشيوعية ،وت ّم ت ّسفيره إلى
إيران في العام ،1763والتهمة ذاتها ت ّم ترويجها ضد الح ّمامي ،أ ّما الزنجاني فقد
اتّهم بأنه عميل بريطاني؛ في حين كانت تهمة كاشف الغطاء بأنه "سلطوي"
و"مداهن للحكام" ،علماً بأن أوساطاً من المرجعية الرسمية كانت تر ّوج لمثل هذه
الإشاعات ،في ظ ّل صراعات خرجت عن حدودها في الشارع ألنجفي وسبّبت
باحتداماته ،وخصوصاً بارتفاع درجة حرارة الجو السياسي.
تبقى إجابة السيد الحسني البغدادي (الحفيد) على سؤال الدكتور عبد الحسين
شعبا ذات قيمة فكرية وتاريخية تستحق التنويه والتوثيق بقوله ...( :إ ّن الفتوى من
جانب البغدادي الكبير كانت حيطة وحذراً ،وقد حاول فيها التفريق بين بعض قيادات
الشيوعيين المؤمنة بالإلحاد وبين القواعد البسيطة) .ونقل نصاً عن جدّه يقول فيه:
( ...وقد ابتلى بها أبرياء من المؤمنين بأنواع القذف والتكفير ونحوهما) ،ويقول
الدكتور عبد الحسين شعبان بهذا الصدد ....( :ناقشته بذلك طويل ًا ،فقد كان الأمر
بالنسبة لي ولا زال على نحو أشد وضوحاً ،هو أنني غير مقتنع على الإطلاق
للتبريرات ،وأعتبره مجاراة ومجاملة للتيار الديني السائد ،ممثّل ًا بالحكيم والجماعات
التي تلت ّف حوله ،إضافة إلى مداهنة للسلطة الحاكمة أيام عبد السلام محمد عارف ،وأية
دفوعات غير ذلك إنما هي تبريرات لا تستند إلى حجج واقعية أو مقنعة . ...وعلى
افتراض حسن النية ،فمثل تلك الذرائع أقرب إلى السذاجة السياسية في حين أن السيد
البغدادي يدرك المسالك الوعرة والطرق الملتوية ،التي تتخذها المسارات السياسية،
وما كان عليه الإقدام على ذلك).
22
ويصل الدكتور عبد الحسين شعبان إلى خلاصة مفادها ...( :أظن أن الإمام
الحسني البغدادي كان قد استدرج إليها ،ولم يكن يرغب في إصدارها وتوزيعها؛
وإنما كان ذلك بمثابة "رأي" منه ،أورده الشيخ الأميني ،منقول ًا عن مخطوطة في
مكتبته ،ولكن ما إن نشر الأميني ذلك ،حتى تم استغلال ما ورد فيه باعتباره
"فتوى”" ضد الشيوعية .وبالطبع فإن هناك اختلاف بين إصدار فتوى تحريضية
تعبوية إلغائية ،وبين رأي واجتهاد بخصوص فكرة ،بهدف دحضها وتفنيدها وإثبات
ضررها ،سواء كان مثل هذا الرأي صائباً أم خاطئاً ،لأن سياقاته ستكون مختلفة) .قد
جاء في فتوى الحسني البغدادي التي نشرها الدكتور عبد الحسين شعبان ،ضمن احد
الحلقات نصاً جاء فيه ( :وسواء كانت فتوى أم رأياً) :
[ ...الشيوعية فئة ملحدة ،صريحة الإلحاد ،في كتبهم المنشورة وسائر
كلماتهم الشائعة التي لا يمكن تأويلها ويكفي في ذلك هجر اسم الجلالة ،وتعقيب من
نطق به بأنواع الأذى… حتّى أ ّنهم بهذا المبدأ قد قضوا على عبادة الله في أديانهم؛ بل
حجزوا عليهم في جميع ما يعود إليهم خدائع كثيرة ،وقد أشرنا إلى جملة منها وقد
سرت هذه الفتنة إلى بلادنا ،وقد اغت ّر بها أناس كثيرون حتّى أصبحوا من أكبر
دعاتها وهم لا يشعرون ،فاشتدّ الاختلاف وع ّمت الفوضى وأريقت الدماء وهتكت
الأعراض واستهين بالحرمات وتو ّسع الفساد بأنواعه ،وكان لهؤلاء أعظم تأثير على
المستضعفين وقد ابتلى الأبرياء من المؤمنين بأنواع القذف والتكفير ونحوهما بذلك
نسأله تعالى تحسين الحال .إ ّن الشيوعية فتنة وقعت في زماننا جاءتنا من أعدائنا وهي
أكبر فتنة قاضية على الدين والنظام فالواجب على جميع المسلمين ولاس ّيما حكوماتهم
مقاومتها والقضاء عليها فعليكم أيها المسلمون أخذ تمام الحزم لهذا الأمر بك ّل طريق
حاسم لها].
لقد أسس الحسني البغدادي الكبير لمدرسة فكرية حول الموقف مع الرأي الآخر
واستمالته للعمل معه عند اشتداد الخطوب وحاجة الأمة إلى الوحدة حافظ عليها بدقة
23
الخطاب المعاصر للسيد الحسني البغدادي الحفيد ،الذي يرى في الشيوعية وحملة
أفكارها منظورا آخر يرى فيه :
( ...ان الموقف المعاصر من الشيوعية اليوم بات مختلفا جدا ،فهو لا يح ّرم
عمل الشيوعيين أو يج ّرمهم؛ بل يعارض الفكرة الشيوعية المادية ،لكنه مستعد
للتعاون معهم لأهداف سياسية ومطلبيه تخص حياة الناس ومستقبل وطنهم) ،وقد جاء
ذلك في مقابلة له مع جريدة "قاسيون" ،التي يصدرها الحزب الشيوعي السوري،
وأعيد نشرها في كتاب [ " فتاوى أحمد الحسني البغدادي في فقه المقاومة وثقافة
الاستسلام" ،إعداد وتحقيق علي الحسني 1/24الطبعة الرسمية الأولى ،نيسان ،
.]2111
ورداً على سؤال حول مقولة ماركس ) الدين أفيون الشعوب) وإلحادية
الماركسيين :يجيب الحسنى البغدادي الحفيد ...[ :إن كارل ماركس قرأ الدين
المسيحي المنحرف (ويقصد الكنيسة وبعض رجالها وخصوصاً في القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر) من خلال أسطورة الخطيئة الموروثة التقليدية ،التي يقام عليها
ركام هائل من الطقوس والتشكيلات ومن الأساطير والخرافات ،ويعني بذلك إعطاء
"صكوك غفران" للبسطاء من الناس في سبيل الخلاص الأبدي من العذاب
الآخروي… من هنا جاءت مقولة ماركس " الدين أفيون الشعوب" ،علماً بأنه لم يقرأ
الدين المحمدي الأصيل ،الذي لا يرضى بالخنوع والذل والعبودية واستغلال الإنسان
للإنسان].
ويف ّرق السيد احمد الحسني البغدادي" الحفيد" ...( :بين من آمن بالتعاليم
“الماركسية – اللينينية” ،كانتماء سياسي وبين من كفر بالأديان السماوية في معناها،
وهو ما استغلته القوى الرجعية ضدهم كما يقول واعتبرتهم جميعهم " ملاحدة" بلا
استثناء ،في حين إن الانتماء السياسي مع البقاء على العقيدة وعدم إنكار أصول الدين
وفروعه شيء ،والكفر والإلحاد شيء آخر ،فمن آمن بالشيوعية كانتماء سياسي
24
وآيديولوجي وظ ّل على دينه فهؤلاء ” مسلمون لا ملحدون” حتى لو كانوا
ماركسيين).
نتفق مع الدكتور عبد الحسين شعبان بان مناقشة موضوع الفتوى من الشيوعية
ومواقف الإمام الحسني البغدادي من الحكام في العراق وايران ومن الخميني نفسه،
لازالت قضايا شائكة ولازال الخوض بمثل هذه الكتابات تشكل (موضوعا شائكا
يحتاج إلى صبر وقدرة النفاذ إلى حقل يظن الكثيرون انه حقل ألغام يتناول بعض
المحظورات المعاصرة بين الدين والسياسة .وهناك من حاول ان يفض الاشتباك،
وهناك من اقتحم ليطلع ويكتشف ويعرض الحقائق بموضوعية البحث السياسي
والتاريخي والفكري الناضج البعيد عن اهتمامات القصد العادي) .ولكنا قرأنا مراجعة
فكرية وعميقة لكل تلك النقاط والمواقف تمكن منها الدكتور شعبان ببراعة وذكاء
وحكمة وبموضوعية أيضا.
وإذا كانت تلك الفتاوى وغيرها من المواقف قد أثارت كفتوى الحكيم احتكاكات
في الشارع وتقاطعات حادة وأحداثاً صاخبة ،فإن فتوى الحسني البغدادي ،قياساً
لفتوى الحكيم ،ظلت حبيسة الأدراج ،وجاءت باهتة ومتأخرة التوقيت ،وكأنها
وصلت في غير وقتها،؛الأمر الذي لم تثر أي ردود فعل بشأنها .وقد يعود الأمر إلى
عدم رغبة الحسني البغدادي توظيفها على نحو دعائي واستفزازي ،فقام بوضعها
بصفتها " رأي" في مكتبته ،ولولا الأميني ،فقد يكون مثل ذلك الرأي أو تلك الفتوى
في الأدراج إلى يومنا هذا ،وقد يكون الزمن قد طواها ،ويا حبّذا… لأنها كانت في
غير سياق منهج البغدادي .وحسب معرفتي بنهج " رجال الدين" ،فقد يكون البغدادي
كتبها تقيّة ،حتى إذا ما ُسئل عن رأيه ،فسيقول إنه كتبه منذ حين ،وهذا ما حصل
حسب تقديري ،وأرجو ألاّ أكون مخطئاً في ذلك.
وإذا كان الحسني البغدادي " الحفيد" الذي سار على خطى الجد في راديكاليته
ومواقفه السياسية الوطنية والعروبية ،ولاس ّيما في موقفه المتم ّيز الرافض للاحتلال
25
الأمريكي ،وكان من أبرز رجال الدين الذين دعوا لمقاومته والوقوف ضده بجميع
الوسائل المتاحة وأبدى استعداده للتعاون مع جميع القوى لتحقيق هذه المهمة النبيلة،
فتلك أمانة حفظتها عائلة السيد الحسني البغدادي وخاصة من قبل حفيده وخليفته الثائر
المقاوم.
– 31كانون الاول 2112 -
26