The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.

النشرة الفصل الأوّل 2021: مؤمنون تحت الحصار

Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by editor, 2021-04-03 11:19:13

النشرة الفصل الأوّل 2021

النشرة الفصل الأوّل 2021: مؤمنون تحت الحصار

‫الفصل الاول‬

‫‪20‬‬
‫‪2‬‬
‫‪1‬‬

‫مؤمنون تحت الحصار‬

‫َف َمتىأم َس ْت َر َحى‬ ‫إلى متى تنساني؟‬
‫ال َب ْلوىت َدور‪...‬‬
‫من ذاكرة النشرة‪ :‬تدشين‬
‫كيف تعمل اللقاحات؟‬ ‫كنيسةطرابلسالإنجيلية‬

Design :: Carole Maroun

‫رئيس التحرير‬

‫القس ربيع طالب‬

‫هيئة التحرير‬

‫الشيخة إلهام أبو عبسي‬
‫القس بطرس زاعور‬
‫القس سليم فرح‬

‫القسيسة نجلا ق ّصاب‬
‫الواعظة هالة بيطار‬

‫المسؤولية أمام الجهات الرسم ّية‬

‫القس جورج ديب مراد‬

‫تدقيق لغوي‬
‫‪Horizons‬‬

‫مج ّلة إنجيل ّية جامعة‬
‫أولى المجلات العربية‪ ،‬تأ ّسست عام ‪1863‬يصدرها‬
‫السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان‬

‫الفصل الأول ‪2021‬‬
‫مؤمنون تحت الحصار‬

‫‪ 1‬كلمة التحرير‬
‫مؤمنون تحت الحصار ��������������������������������������������������� القس ربيع طالب ‪5‬‬

‫‪ 2‬عظات من المنبر‬
‫الصبر في وقت الضيق ��������������������������������������� القسيسة رولا سليمان ‪8‬‬

‫هويتي الإنجيلية ‪ :‬تعريف اللاهوت ‪ -‬اللاهوت ال ُمصلح ‪9 ..........................................‬‬
‫الله‪ :‬راعينا وحامينا ������������������������������������������ القس جورج جبرا القبطي ‪12‬‬
‫شذرات ‪ :‬المسيح يلهث من أجلك ‪.....................................‬القس يعقوب صباغ ‪17‬‬

‫ثبات الإيمان وسط الضيقات ����������������������������������������� الأخ يوسف خاشو ‪18‬‬

‫‪ 3‬مقالات من المكتب‬
‫إلى متى تنساني؟ ��������������������������������������������������� الأخ حسان ديرعطاني ‪25‬‬
‫هويتي الإنجيلية ‪ :‬اختبار الله ‪ -‬الوحي ‪30 ...............................................................‬‬
‫َف َمتى أم َس ْت َر َحى ال َب ْلوى ت َدور ������������������������������������� القس أديب عوض ‪31‬‬

‫‪ 4‬درس الكتاب المق ّدس‬
‫«العهد» في العهد القديم �������������������������������� االقس د‪ .‬هادي غنطوس ‪38‬‬

‫شذرات ‪ :‬لان الله لم يعطنا روح الفشل ‪................................‬القس سهيل س ّعود ‪60‬‬

‫تب فاغلب ���������������������������������������������������������� القس مفيد قره جيلي ‪61‬‬

‫‪ 5‬من ذاكرة النشرة‬
‫تدشين كنيسة طرابلس الإنجيلية (ك‪73 ....................................... )1949 2‬‬

‫كلمة القس رشيد أنطونيوس في خدمة التدشين ‪75 ..................................‬‬

‫ماذا علمتني الحياة ‪78 ...........................................................................‬‬

‫كان يا ما كان‬ ‫‪6‬‬
‫المحك �������������������������������������������������������������������� القس سليم فرح ‪80‬‬ ‫‪7‬‬

‫ص ّحتي‬
‫كيف تعمل اللقاحات؟ ‪84 .......................................................................‬‬

‫كلمةالتحرير‬

‫مؤمنون تحت الحصار‬

‫القس ربيع طالب‬

‫خروج ‪14-5 :14‬‬

‫«فقدنا السيطرة‪ ،‬والوباء يفتك بنا‪ .‬انتهت ُحلول الأرض‪ ،‬الأمر متروك للسماء»‬
‫عبارة قالها رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي خلال تص ّدي بلاده لوباء كورونا‪...‬‬

‫ما أصعب أن نصل لموقف لا نجد من المشاكل مخر ًجا‪ ،‬ولا مف ًّرا من الألم! في‬
‫الحقيقة رأيت هذه الحالة في وضع الناس الحالي‪َ ،‬ف َمع الإغلاق التام للبلاد خو ًفا‬
‫من ازدياد أعداد مرضى الكورونا‪ ،‬اصطدمنا بشبح الجوع‪ ،‬بعد إيقاف عمل الناس‪ .‬وها‬
‫نحن نقف في الوسط‪ ،‬إ ّما نعود أدراجنا فنواجه المرض‪ ،‬أو نمشي للأمام فنواجه‬

‫الجوع والفقر‪.‬‬

‫لطالما عاش الشعب هكذا اختبارات‪ ،‬أهمها في قصة الخروج من مصر‪ .‬فهرب‬
‫الشعب بقيادة موسى وهارون من أرض مصر فلحقهم فرعون ورجاله‪ ،‬حتى حوصروا‬

‫بين فرعون والبحر! كما نحن اليوم بين كورونا والجوع ‪...‬‬

‫ومن اختبار الشعب هذا نتع ّلم ‪ 3‬رسائل لاختبارنا الحالي‪:‬‬

‫‪ . 1‬لا نفقد السيطرة على أنفسنا‪ :‬فزع الشعب ج ّدا! والنتيجة كانت الندب‬
‫والكلام الفارغ الذي لا يق ّدم ولا يؤ ّخر‪ .‬فلاموا موسى ساخرين بشأن الموت في‬
‫البرية وكأنه لا قبور في مصر‪ .‬فقداننا السيطرة على أنفسنا لن يخ ّلصنا من المأزق‬
‫الذي نحن نعيشه‪ ،‬إنما سيزيد الأزمات ويض ّخمها‪ .‬عندما وصل المسيح للصليب‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي استجوبه هيرودس‪ ،‬فرأى المسيح الصليب والموت أمامه‪ ،‬وشعبه الذي‬

‫خانه وراءه‪ ،‬لم يفقد السيطرة على نفسه ولا على كلامه حتى‪ ،‬فر ّد على الملك‬

‫‪5‬‬

‫بالكلام الذي يجب أن ُيقال‪ .‬عندما يقع شخص في مشكلة و ُيلقى القبض عليه‪،‬‬
‫أولى الكلمات التي يقولها إنه لن يتك ّلم إ ّل بوجود محا ٍم‪ .‬لأ ّن كلامه الغير موزون‬

‫سيزيد الطين ب ّلة‪...‬‬

‫‪ .2‬ثقوا أ ّن الله سيتد ّخل‪ :‬في اختبار الشعب نرى نموذجين عن ر ّدة الفعل‪،‬‬
‫واحدة للشعب الذي استسلم للقدر‪ ،‬وبأنه سيموت في البرية‪ .‬وواحدة لموسى‬
‫الذي وثق أ ّن الله سيخ ّلص شعبه‪ .‬من السهل على موسى أن يرى خلاص الرب وقت‬
‫الضربات على المصريين‪ ،‬لكن كم يصعب أن نرى خلاص الرب وقت الحصار‪ ،‬وقت ُنحاط‬
‫بالموت! اليوم علينا أن نثق أ ّن الله سيتد ّخل‪ ،‬هذا هو الإيمان‪ ،‬أن نثق بما لا نرى‪،‬‬
‫لأننا نعرف الله جي ًّدا‪ .‬فمهما ظهر لنا أ ّنه لا مف ّر من الموت‪ ،‬فلنثق أ ّن الله سيتد ّخل‪.‬‬

‫‪ . 3‬بعد الحصار‪ ،‬عبور‪ :‬من أهم الرسائل التي قد نستخلصها من هذه القصة‪،‬‬
‫هي أ ّنه عندما نجد أنفسنا محاطين بالموت‪ ،‬حين نجد أ ّنه لا مف ّر‪ ،‬فقط هنا لدينا‬

‫الفرصة أن نختبر اختبار العبور للحياة‪ .‬فقط هنا نسمع عبارة «انكتبلي عمر جديد!»‬

‫لو أ ّن الشعب وجد طري ًقا آخر‪ ،‬لما اختب َر العبور وش ّق البحر‪ .‬لو المسيح وجد طريقة‬
‫للنزول من الصليب‪ ،‬لما اختبرنا القيامة‪...‬‬

‫في ك ّل مرة نرى الأزمات تحيط بنا من كل صوب وحدب‪ ،‬علينا أن نرى الفرصة‬
‫في العبور‪ .‬فالبحر الذي يرمز للموت عند الشعب‪ ،‬ش ّقه الرب ومشوا في قلب الموت‬

‫وعبروا للحياة‪ .‬فقط هنا اختبر الشعب الاختبار العظيم الذي غ ّيرهم للأبد‪.‬‬

‫يا أح ّبة‪ ،‬كتابنا المق ّدس ُك ِت َب في وقت الأزمات! اليوم ونحن ُمحاطون بالموت‪،‬‬
‫إ ّما أن نختار الاستسلام‪ ،‬أو نعبر إيمان ًّيا فنكتب اختباراتنا الخاصة‪ ،‬كيف أ ّن الله‪ ،‬في‬

‫الوقت حيث كان لا طريق‪ ،‬ش ّق الله لنا طري ًقا! آمين‬

‫‪2‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫الصبر في وقت الضيق‬
‫الله‪ :‬راعينا وحامينا‬

‫ثبات الإيمان وسط الضيقات‬

‫محتويات العدد‬

‫الصبر في وقت الضيق‬

‫القسيسة رولا سليمان*‬

‫‪ 2‬تسالونيكي ‪5 - 1 : 3‬‬

‫ُيع ّرف علم النفس‪ ،‬فضيلة‬
‫«الصبر» على أنها «حالة فاعلة‪،‬‬
‫وخيار ح ّر للثبات في وقت الضيق‪،‬‬
‫بانتظار حصول تغ ّير ما»‪ .‬قال‬
‫أحدهم‪ « ،‬الصبر‪ ،‬هو مهارة التأقلم‬
‫مع الأحداث والآلام المفاجئة التي‬
‫تصيبنا‪ ،‬لتجنب الاحباط والكآبة‬
‫والانهيار»‪ .‬فالصبر ليس حال ًة من‬
‫الجلوس الجامد‪ ،‬دون القيام بأ ّي‬
‫شيء‪ ،‬ولا يعني الصبر الاستسلام لواقعنا الصعب‪ ،‬لأنه عندما نستسلم‪ ،‬فاننا‬
‫ُنخ ِرج أن ُف َسنا من المعادلة‪ .‬الصبر في وقت الضيق‪ ،‬يعني طلب القوة والمعونة من‬
‫الله‪ ،‬للتم ّكن من الاستمرار وسط صعوباتنا‪ .‬قال الكاتب الروسي « ليو تولوستوي‪،‬‬

‫«الأقوى بين المحاربين‪ ،‬هما الوقت والصبر‪.‬‬

‫في الصبر‪ُ ،‬نع ِلن ايماننا بسيادة الله على كل ظروف حياتنا‪ ،‬مهما كانت صعبة‪.‬‬
‫الصبر يسمح لنا بمعونة الله‪ ،‬استعادة السيطرة على زمام الأمور‪ ،‬التي تف ُلت من‬
‫أيدينا‪ ،‬عندما ُنوا ِجه أوقات من الضيقات والأمراض‪ .‬بالرغم من أن الله لا ُيح ّقق‬
‫توقعاتنا‪ ،‬أو يستجيب لصلواتنا‪ ،‬لسبب ما مخبأ في سر حكمته الالهية‪ ،‬ال ّا أننا‬
‫مدعوون كمسيحيين لحياة الصبر وطول الأناة‪ .‬قال المصلح الانجيلي جون كلفن‪،‬‬

‫* راعية الكنيسة الإنجيلية الوطنية في طرابلس‬
‫‪8‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫«على المسيحي أن لا يتوقع تحقيق رضى وسعادة كاملين على الأرض‪ .‬لهذا يجب‬
‫أن ينظر الى تحقيقها في الحياة الأبدية‪ .‬فالايمان بالحياة الأبدية‪ ،‬هو أ ّم فضيلة‬

‫الصبر‪».‬‬

‫يخبرنا الرسول بولس‪ ،‬أن سمة الصبر كانت احدى سمات المسيح‪ ،‬لهذا يدعونا‬
‫للت ّمثل بصبره‪ ،‬قائلا « ‪َ 5‬وال َّر ُّب َي ْه ِدي ُق ُلو َب ُك ْم ِإ َلى َم َح َّب ِة الل ِه‪َ ،‬و ِإ َلى َص ْب ِر ا ْل َم ِسي ِح‪».‬‬
‫(‪ 2‬تسالونيكي ‪ .)5 : 3‬كما ان المسيح يسوع أوصى تلاميذه قائلا «بصب ِركم اق َت ُنوا‬
‫أنفسكم» (لوقا ‪ .)9 :21‬أي أن صبرنا في الأوقات الصعبة‪ ،‬يحمينا وينقذ أنفسنا من‬
‫الزل ّات والضلال‪ .‬مما لا شك فيه ان الأغلبية الساحقة منا لا تستطيع أن تصبر‪ ،‬لأ ّننا‬
‫نتوقع حلول ًا سريعة لمشاكلنا‪ ،‬وفر ًجا قري ًبا لضيقا ِتنا‪ ،‬ولا نريد أن ن ْن َتظر طويلا‪ .‬لكن‬
‫الصبر يعني ان ننتظر وقت الله برباطة جأش‪ ،‬وانتظار الله يمنحنا قوة أكبر لتح ّمل‬

‫ضيقنا‪.‬‬

‫فضيلة الصبر ليست‪ ،‬أحد خيارات الانسان المسيحي‪ ،‬بل ِسمة الانسان المسيحي‪.‬‬
‫قال الرسول بولس لكنيسة رومية‪« ،‬فرحين في الرجاء‪ ،‬صابرين في الضيق‪ ،‬مواظبين‬
‫على الصلاة» (رومية ‪ .)12 :12‬ع ّرف المف ّسر وليم باركلي فضيلة الصبر‪ ،‬على أنها‬
‫«سمة في الانسان‪ ،‬تجعله ليس فقط قاد ًرا على تحمل الألم ‪ ،‬ولكن أن ينتصر‬
‫على آلامه»‪ .‬فضيلة الصبر هي‪ :‬وصية‪ ،‬وعطية من الله‪ ،‬في آن معا‪ .‬انها وصية لأن‬
‫المسيح يوصينا بها‪ .‬لكنها أيضا عطية ‪ ،‬لأن طبيعتنا البشرية الساقطة‪ ،‬لا تملك‬
‫القدرة على الصبر في وقت الضيق‪ .‬لهذا‪ ،‬نحن نحتاج الى نعمة خاصة من الله كيما‬
‫ُيعطنا بروحه القدوس قوة الصبر‪ .‬لهذا علينا أن نلجأ الى الله بالصلاة بلجاجة ح ّتى‬

‫يمنحنا عطية الصبر»‪.‬‬

‫الصبر هو الجواب الحكيم للحياة في ظروفها وصعوباتها المفاجئة وغير‬
‫المتوقعة‪ ،‬التي تضعنا تحت ضغوطات هائلة‪ ،‬مثلما نعيش هذه الأيام‪ ،‬وتعيق‬
‫رغبتنا في التمتع بالحياة‪ .‬فنحن لا نستطيع تغيير ظروفنا الصعبة‪ ،‬لكن الشيء‬
‫الوحيد الذي نستطيع القيام به‪ ،‬هو تسليم نفوسنا لنعمة وقوة الله ‪ ،‬كيما نتغير‬

‫نحن‪ ،‬وسط الظروف الى تواجهنا‪ ،‬للرب كل المجد على الدوام‪ ،‬آمين‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫تعريف اللاهوت‬

‫عندما ُنف ِّكر بعلماء اللاهوت‪ ،‬نتص َّور أ َّنه ت َّمت إزالتهم من واقع الحياة الحقيق ّية وهم‬
‫يتف َّكرون بافتراضات غير واقع َّية‪ .‬في الواقع‪ ،‬تصبح لاهوت ًّيا في اللحظة التي فيها تطرح أ ًيا من‬
‫الأسئلة الأساس َّية عن الحياة ومعناها وع ّم إذا كان هناك أ َّية ق ّوة إله َّية معن َّية بها‪ .‬فط ْر ُحك‬
‫هذه الأسئلة وصياغة أفكارك ُهما عمل لاهوت ّي بح ِّد ذاته‪ .‬و ُيكن للآخرين الذين مضوا في هذه‬
‫الرحلة مساعدتنا في توسيع معتقداتنا وإيماننا‪ ،‬وفي نهاية المطاف تلمذتنا‪ .‬وعندما نقوم بتحديد‬

‫معتقداتنا ونختبرها في حياتنا اليوم َّية‪ ،‬يزداد َوع ُينا بالإيمان الذي نحاول التح ُّدث عنه‪.‬‬
‫ومن المه ّم لجميع المسيح ِّيين‪ ،‬وخصو ًصا لأولئك المنخرطين في التعاليم المسيح َّية والتنمية‬
‫القياد َّية‪َ ،‬فهم معنى المصطل َحين «اللاهوت المسيح ّي» و «اللاهوت المص َلح»‪ .‬لماذا نحن إ ًذا قلقون‬

‫بشأن صياغة إيماننا والتعريف عنه بطرق مختلفة؟‬

‫لنتو َّقف ونبحث عن كلمة «اللاهوت» في القاموس‪.‬‬

‫قارن هذا التعريف بما يلي‪:‬‬
‫اللاهوت‪« :‬السعي لإيجاد الحقيقة ال ُمط َلقة عن الله‪ ،‬وعن أنفسنا وعن‬
‫العالم الذي نعيش فيه» (العقيدة المسيح ّية‪ ،‬اس‪ .‬غوثري‪ ،‬مطبعة جون نوكس‪،‬‬

‫الطبعة المنقحة‪ ،1994 ،‬ص ‪(١‬‬

‫تعريف اللاهوت‪:‬‬

‫ما الذي يجعل اللاهوت صحي ًحا؟‬
‫ُيشير هارولد ويلز‪ ،‬في كتابه ‪(The Christic Center‬مارينول‪ ،‬نيويورك‪( 2004 :‬‬

‫كتب أوربيس إلى أ َّن اللاهوت يكون سلي ًم عندما ُيظهر ميز َتين‪:‬‬
‫• الانضباط في تفكي ٍر مركزه المسيح‪،‬‬

‫ • كما يجب أن يقودنا إلى تطبيق هذا الحق في حياتنا اليوم َّية‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫هويتي الإنجيلية‬

‫اللاهوت ال ُمص َلح‪:‬‬

‫هناك العديد من وجهات النظر بشأن الله والبشر َّية ولماذا نحن هنا على هذه الأرض‪ .‬إ َّن‬
‫هذا الجزء سوف يشمل بعض أساس ّيات لاهوت الطوائف داخل الأسرة ال ُمص َلحة المشيخ َّية‪.‬‬

‫يأتي ال ُمصطلح « ُمص َلح» من الحركة التي حصلت داخل الكنيسة في القرن السادس عشر‪،‬‬
‫عندما واجه مارتن لوثر (في ألمانيا) وزوينجلي وكالڤن (في سويسرا) العقائد وهيكل ّية الكنيسة في‬
‫ذلك الوقت‪ .‬وسبقهم قبل ذلك المصلحون المعروفون بالموراڤيين أتباع جون هوس‪ ،‬وهو أستاذ‬
‫ت ّم حرقه على الخشبة في عام ‪ ١٤١٥‬بسبب أفكاره‪ .‬نادى ال ُمص ِلحون بح ّق عا ّمة الناس بقراءة‬
‫الكتاب المق َّدس ودراسته‪ .‬وأ َّكدوا عقيدة «كهنوت جميع المؤمنين»‪ .‬أي أ َّنه يمكن لأي شخص‪،‬‬
‫وليس لقسيس مرسوم فقط‪ ،‬أن يصبح كاه ًنا أمام الله‪ .‬كما سعوا إلى إصلاح هيكل ّية الكنيسة‬

‫بحيث يتم َّكن الناس العاد ّيون من أن ُيقادوا من الروح القدس‪.‬‬
‫والكثير من التغيير في التفكير اللاهوت ّي ارتكز على مفهوم سيادة الله ونعمته‪ .‬اعتق َد ال ُمص ِلحون‬
‫أ َّن الخلاص هو هبة من الله‪ ،‬وليس أم ًرا يت ّم اكتسابه‪ .‬وقد دافع ال ُمص ِلحون السويسر ّيون بشك ٍل‬
‫خاص عن مزيد من التركيز على الوعظ وضرورة استمرار الإصلاح في الكنيسة‪ .‬وتتأ َّلف الأسرة‬
‫ال ُمص َلحة ‪ /‬المشيخ َّية من العديد من الطوائف التي انبثقت من هذه الحركة‪ُ .‬معظمها تشمل إ ّما‬
‫كلمة «ال ُمص َلح» وإ ّما «المشيخ َّية» في أسمائها‪ .‬والكلمة «ال ُمص َلح» ُتشير إلى لاهوتنا‪ ،‬أ ّما «المشيخ َّية»‬

‫فإلى إدارة الكنيسة‪.‬‬

‫من كتاب‪ :‬مدخل إلى التلمذة الإنجيلية‬
‫(إعداد لجنة الشؤون الكنسية والروحية في السينودس) ‪11‬‬

‫محتويات العدد‬

‫الله‪ :‬راعينا وحامينا‬

‫القس جورج جبرا القبطي*‬

‫ُيعت َبر المزمور الثالث والعشرون الأشهر بين المزامير والنصوص الكتاب ّية عمو ًما‪،‬‬
‫وعاد ًة ما نتع ّلمه ونحن أطفال صغار في البيت والمدرسة كمزمور حماية والتجاء‬
‫إلى الله الذي يرعانا ويحمينا‪ ،‬والبعض يتعامل معه كما يتعامل الناس مع "الخرزة‬
‫الزرقاء"‪ .‬وكأ ّن كتابة المزمور ووضعه في الجيب أو الحقيبة المدرس ّية هو "حرز"‬

‫لحام ِله‪ .‬وهذه ممارسة شعب ّية رائجة‪.‬‬

‫* قسيس خادم في مطران ّية القدس للكنيسة الاسقفية في القدس والشرق الأوسط‪ ،‬راعي كنيسة‬
‫القديس بولس الأسقف ّية في الأشرف ّية‪ -‬ع ّمان‬
‫‪12‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫والمزمور ‪ُ 23‬ي ْست ْخ َدم كثي ًرا في الأزمات والمواقف الصعبة والخوف ِمن المرض أو‬
‫الموت أو الخطر‪ ،‬و ُيق َرأ عاد ًة في الجنازات لأ ّنه يح ِمل في آ ِخر آيا ِته ُب ْع ًدا اسكاتولوج ًيا‬
‫في المفهوم المسيحي " ِإ َّن َما َخ ْي ٌر َو َر ْح َم ٌة َي ْت َب َعا ِن ِني ُك َّل َأ َّيا ِم َح َيا ِتي‪َ ،‬و َأ ْس ُك ُن ِفي َب ْي ِت‬

‫ال َّر ِّب (المنزل الأبدي) ِإ َلى َم َدى ال َأ َّيا ِم "‪.‬‬
‫ومع بداية جائحة كورونا أص َبح مزمور ‪ ،23‬مع مزامير أخرى لطلب العون والغوث‬
‫الإلهي مثل مزامير ‪ 27‬و ‪ 46‬و ‪ُ ،91‬ت ْس َت ْخ َدم بشك ٍل كبير ويوم ّي ِمن البعض وذلك‬
‫لأ ّن الإنسان في وقت ضي ِقه وخو ِفه ُيريد َمن يرعى نف َسه وحيا َته‪ ،‬و َمن مثل إلهنا‬
‫المح ّب والقدير يرعانا ويهت ّم بنا ويو ِر ُدنا إلى مياه الراحة والتعزية و ُيخ ّفف ِمن أل ِمنا‬

‫ويهدئ ِمن رو ِعنا وخو ِفنا في وسط الأزمات‪.‬‬

‫وكثير ٌة هي النظر ّيات حول جائحة كورونا ِمن الناحية الروح ّية والإيمان ّية ف ْضل ًا عن‬
‫الكثير ِمن نظر ّيات المؤامرة والخطط العالم ّية للسيطرة على البشر وأمور ليس لها‬
‫مجا ٌل هنا‪ .‬ولكن كثي ٌر ِمن المسيحيين ي َر ْو َن في المرض والألم تجربة أو اختبار إلهي‬
‫لإيما ِن ِهم‪ ،‬ومنهم َمن يعت ِقد أ ّن المؤ ِمن لا ُتصي ُبه الأوبئة والأمراض لأ ّنه محم ّي ِمن‬
‫الر ّب و ُيصيب البعض خيبة أمل كبيرة عندما ُيصاب بمر ٍض ُعضال أو بفيروس الكورونا‬
‫رغم طل ِبه العناية الإله ّية وصلوا ِته المستم ّرة‪ .‬وهناك َمن يعت ِقد أ ّن ك ّل مرض وألم‬

‫هو ش ٌّر ولك ّنه بسما ٍح ِمن الله لاختبار إيمان الشخص أو ح ّثه على التوبة والرجوع‪.‬‬

‫لس ُت بمعرض نقاش ك ّل هذه الأفكار والر ّد عليها‪ ،‬ولك ّني كمؤ ِم ٍن أعتقد أ ّن‬
‫المرض والألم والموت هي جز ٌء ِمن حياة البشر‪ ،‬وكثي ٌر ِمن هذه الأتعاب والآلام‬
‫يس ّب ُبها البشر أنف ُس ُهم ِلنف ِس ِهم ولغي ِر ِهم ِمن خلال العبث ّية وعدم المسؤول ّية‬
‫والفساد البشري‪ .‬كم ِمن إصاب ٍة بفيروس كورونا حص َل ْت بسبب عدم مسؤول ّية البعض‬
‫بالالتزام بالتعليمات الصح ّية والتك ّبر على وضع الك ّمامة أو التأ ّكد ِمن الإصابة عند‬
‫ظهور بعض الأعراض البسيطة ‪ ...‬وكم ِمن إنتشا ٍر للفيروس حصل بسبب تقصير‬
‫ِمن الجهات المعن ّية وفساد لدى المك ّلفين بمتابعة هذه التعليمات؟! وهناك أمثلة‬

‫كثيرة عن التل ّوث والعادات الصح ّية الس ّيئة ‪ ...‬الخ‬

‫‪13‬‬

‫المرض والموت جزء ِمن الحياة‪ ،‬جز ٌء ِمن الضعف البشر ّي الذي و ِر ْثناه عن آدم‬
‫وح ّواء‪ ،‬والكتاب المق ّدس لا يعطينا وع ًدا واح ًدا أ ّن المؤ ِمن لن يتع ّرض للألم أو‬
‫المرض أو الموت‪ ،‬بل بالعكس ر ّبما يتع ّرض المؤمنون لآلا ٍم لا يتع ّرض لها عاد ًة أهل‬
‫العالم ومنها آلام الإضطهاد والتعذيب والقتل والشهادة في سبيل إيما ِن ِهم‪ .‬فما‬

‫هو وع ُد الر ّب للمؤمنين في مزمور ‪23‬؟‬

‫في إحدى حلقات درس الكتاب المق ّدس في كنيسة الق ّديس بولس الإنجيل ّية‬
‫الأسقف ّية في ع ّمان حيث أخ ُدم‪ ،‬وفي شهر شباط ‪ 2020‬وقبل الإغلاقات بسبب‬
‫فيروس كورونا والجائحة‪ ،‬ك ّنا ندرس بعض المزامير المختارة‪ .‬وكان المزمور ‪ِ 23‬من‬
‫ِضمن المزامير التي تط ّر ْقنا ِلدرا َس ِتها‪ِ .‬اختا َر أحد الإخوة سؤال ًا عن العدد الخا ِمس‬
‫" ُت َر ِّت ُب ُق َّدا ِمي َما ِئ َد ًة ُت َجا َه ُم َضا ِي ِق َّي‪َ .‬م َس ْح َت ِبال ُّد ْه ِن َر ْأ ِسي‪َ .‬ك ْأ ِسي َر َّيا "‪ ،‬أثار‬
‫انتباهي عندما سأل‪"،‬لماذا ير ّتب الر ّب مائدة تجاه مضايق ّي؟ أليس بالأولى التخ ّلص‬

‫ِمن المضايقين والأعداء"؟‬

‫مزمور ‪ 23‬هو اختبار داود كاتب المزمور (بعض التفاسير تضع المزمور في مرحلة‬
‫لاحقة لداود وتعتقد أ ّن داود ليس بكاتبه) ويتك ّلم عن صورت ْين للعناية الإله ّية‬

‫بالمؤمنين‪:‬‬

‫الصورة الأولى هي صورة الراعي الأمين (‪ )4 - 1 :23‬الذي يقود خرافه و ًيس ّدد‬
‫احتياجهم ويرعى نفوسهم ويجبر كسرهم ويص ّحح مسارهم‪ .‬الراعي يقود خرافه إلى‬
‫المراعي الخضراء حيث الغذاء وإلى مياه الراحة والتعزية‪ ،‬ويترك التسعة والتسعين‬
‫في البر ّية ليذهب خلف الخروف الضال ليرجعه فر ًحا (لوقا ‪ )10‬ويسير أمام القطيع‬
‫ليرشده (يوحنا‪ )5 - 4 :10‬ويقودهم في وادي ظ ّل الموت ويع ُبر بهم إلى ب ّر الأمان‪،‬‬

‫يسندهم بعكازه ويرجعهم إلى المسار الصحيح‪.‬‬

‫أرسل لي صديق ِمن نيوزيلندا انطباعا ِته عن رعاة الأغنام في بلا ِدنا‪ .‬الجميل في‬
‫الرسالة أ ّنها وصل ْتني وكن ُت أتابع دراستي هناك وكان صديقي هذا في رحل ٍة ح ٍج‬
‫إلى الأراضي المق ّدسة‪ ،‬وكتب مشاهدا ِته ِمن منطقة بيت لحم وبيت ساحور حيث‬

‫‪14‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫يعتقد أ ّن الرعاة في حدث الميلاد كانوا يحرسون أغنا َمهم في تلك المنطقة‪ ،‬ولا‬
‫زال هناك حق ٌل في بيت ساحور الفلسطين ّية ُيس ّمى "حقل الرعاة"‪.‬‬

‫يقول صديقي " لقد فهم ُت النصوص الكتاب ّية عن الراعي بشك ٍل أفضل عندما‬
‫لاحظ ُت تص ّرف الرعاة في الأراضي المق ّدسة مع أغنا ِم ِهم‪ ،‬فهم ُت الطبيعة الوعرة‬
‫والمخاطر واهتمام الراعي ومعرف ِته بأغنا ِمه وسمع ُته يناديها‪ .‬وهذا ك ّله بعكس‬
‫الرعاة في نيوزيلندا (وهي بلد مرا ٍع كبيرة) حيث يعتمد الرعاة على السهول الخصبة‬
‫وكلاب مد ّر َبة ل ّلحاق بالأغنام وإرجا ِعها وأصوات صفير مع ّينة وأمور كثيرة تجعل‬

‫الراعي لا ًيقيم علاقة مع أغنا ِمه كما يفعل الراعي "في بلا ِد ُكم" مع خرا ِفه"‪.‬‬

‫والصورة الثانية هي صورة ال ُمضيف الذي ُيق ِبل الدخيل عليه‪ ،‬فيو ّفر له الحماية‬
‫والضيافة رغم ك ّل الظروف المحيطة به‪ .‬وهذه الصورة هي الإجابة على ما طرحه‬

‫أحد الإخوة عن موضوع بقاء ال ُمضايقين بدل فنائهم‪.‬‬

‫حسب العادات العرب ّية‪ ،‬البدو ّية خصو ًصا‪ُ ،‬يعطى الحماية ك ّل دخي ٍل على خيمة (أو‬
‫بيت) ال ُم ْستجار ويعتبر مستجير طال ًبا الحماية والأمان‪ .‬ويعت َبر لمس الخيمة والمناداة‬
‫على صاحب الخيمة أو البيت قائل ًا‪":‬أنا دخيل عليك‪ ،‬مستجي ٌر بالله وفيك" وجواب‬
‫صاحب البيت‪/‬الخيمة بالقبول هو عهد حماية يجعل صاحب الخيمة يستميت في‬
‫حماية ضي ِفه والدخيل عليه‪ ،‬وعاد ًة يطلب المستجير حماية شيخ العشيرة أو رئيس‬
‫القبيلة الذي يسكن عاد ًة في أكبر الخيم أو البيوت‪ .‬وكلمة الشيخ تجعل العشيرة‬
‫جميعها ملتزمة بعهد الحماية والضيافة‪ .‬وللعلم ليس مقبول ًا أن يسأل المضيف‬
‫ضي َفه لماذا جاء عليه دخيل ًا قبل أن يتب ّرع الدخيل بالكلام‪ ،‬ويح ّق للمضيف السؤال‬

‫بعد ثلاثة أ ّيام وثلث (أي بعد فطور اليوم الرابع)‪.‬‬
‫هكذا في المزمور ‪ 23‬نجد أ ّن الله هو ال ُم ْس َتجار وال ُمضيف الذي نلجأ إليه وندخل‬
‫إليه طالبين الحماية والرعاية‪ِ .‬من واجبات ال ُم ْس َتجار أن يو ّفر الحماية والضيافة‬
‫ِلضي ِفه أمام المتر ّبصين به من أعداء‪ .‬الأعداء فعل ًيا ينظرون إليه وينتظرون خرو َجه‬
‫ِمن عباءة ال ُمضيف لك ّنهم لا يستطيعون طالما الدخيل في حماية ال ُمضيف‪ .‬و ِلذا‬

‫‪15‬‬

‫ُت َع ّد المائدة والطعام والشراب للض ْيف بعد أن يرتاح ويستح ّم و ُي ْد َهن رأ ُسه بالزيت‬
‫علام ًة على التكريم ويملأ كأ َسه علام ًة على الضيافة الكاملة (لوقا ‪ / 7:46‬جامعة‬
‫‪ 7 :9‬و ‪ِ )8‬لذا يقول المزمور " ُت َر ِّت ُب ُق َّدا ِمي َما ِئ َد ًة ُت َجا َه ُم َضا ِي ِق َّي‪َ .‬م َس ْح َت ِبال ُّد ْه ِن‬
‫َر ْأ ِسي‪َ .‬ك ْأ ِسي َر َّيا‪( ".‬مز ‪ )5 :23‬وبالتالي الإستغاثة بالله وال ّلجوء إليه هو ضمانة‬
‫للحماية وتسديد الإحتياج وعهد با ٍق بين الله وال ُملتجئ إليه‪ ،‬لأ ّن في بيت الر ّب‬
‫حماية إله ّية ورجاء للسكن في بيت الر ّب في الحياة الأبد ّية (يوح ّنا ‪ 4 - 1 :14‬و رؤيا ‪)21‬‬
‫مزمور ‪ 23‬هو ترنيمة إستغاثة وإيمان وثقة بحماية الر ّب الراعي الذي ًيس ّدد‬
‫احتياجات خرا ِفه المؤمنين به‪ .‬في هذا المزمور نخت ِبر رعاية الله وعنايته‪ ،‬كما نختبر‬
‫حماي َته وضياف َته ومح ّب َته رغم وجود الألم وال ُمضايقين والأعداء‪ .‬في الكتاب المق ّدس‬
‫لا يوجد وعد أ ّن المؤ ِمن لا يتأ ّلم‪ ،‬الوعد هو "الر ّب راع ّي ‪ ...‬أنت معي ‪ ....‬تر ًّد نفسي‬

‫‪ُ ....‬تع ّزيني ‪ ...‬تر ّتب مائد ًة أماي ‪ ....‬خي ٌر ورحمة يتبعا ِنني ‪ ...‬إلخ‬
‫في مزمور ‪ 23‬الوعد أن نختبر حضور الله وحمايته رغم الوباء والمرض والموت‪،‬‬
‫لأ ّننا أبناء الله وبنا ِته‪ ،‬وفي حماي ِته وضياف ِته‪ .‬وبال ّلجوء إلى الله نتق ّوى ونتع ّزى‬
‫و ُن ْشفى ونتبا َرك ونشعر بحاجتنا إلى التوبة والتطهير من خطايانا والرجوع عن طر ِقنا‬
‫الرد ّية‪ .‬في الألم ومواجهة الخطر والمرض نتذ ّكر أ ّننا تراب وإلى تراب (هدف فصل‬
‫الصوم) نعود وأ ّننا بحاجة إلى نعمة الله وغفرانه وخلا ِصه‪ ،‬وأ ّن لا حياة حاضرة أو‬

‫مستقبل ّية إل ّا بال ّلجوء إلى الر ّب والحياة معه ولأج ِله‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫شذرات‬

‫المسيح يلهث من أجلك‬

‫القس يعقوب صباغ‬

‫قراءة التأمل متى ‪33 -22 :14‬‬
‫كتب أحد علماء اللاهوت كتاباً بعنوان‪" :‬إن كنت تريد السير على الماء‪ ،‬فعليك الخروج من‬
‫القارب‪ ".‬وفحوى الكتاب أننا بحاجة إلى شجاعة بطرس في حياة الإيمان‪ ،‬وبحاجة إلى التركيز على شخص‬
‫يسوع المسيح‪ ،‬بغض النظر عن نوائب الدهر التي تلطم وجهنا كموج البحر‪ .‬الذي يريد أن يعطي‬
‫حياته ليسوع ليكون ملحاً ونوراً عليه الثقة بأن يسوع حاضر لخلاصه‪ ،‬مثلما كان يسوع لبطرس‪،‬‬

‫وبالتالي الخروج من القارب‪.‬‬
‫نستطيع أن ننظر إلى نص الـتأمل من هذه الزاوية‪ ،‬ننظر إلى زاوية بطرس الشجاع‪ .‬نستطيع أن‬
‫نقول أن النص يركز على مشي بطرس على الماء لأننا لا نقرأ كل يوم عن رجل مشى على الماء‪ .‬لكن هناك‬
‫زاوية أخرى‪ :‬يصور مت ّـى هذا الحد َث الفريد والأول من نوعه بطريقة تدعونا لنبحث أكثر في معنى‬
‫الكلمة لنرى ونتعلم درساً آخر غير شجاعة الإنسان‪ .‬أن نتعلم درساً آخر عن قصة الرب معنا‪...‬هذه‬
‫القصة التي تقول إن اعتمادنا في نهج حياتنا منوط بنعمة الله وليس بإيمان الإنسان الذي قد يتغير‬
‫وينتقل‪ .‬أعتقد أن مت ّـى مهتم أكثر بالحديث عن نعمة الله الخلاصية المصورة في ذراعي الرب الممدودة‬

‫التي تستطيع أن تنتشل المؤمن من الغرق‪.‬‬
‫تبدأ القصة بانتهاء معجزة إكثار الخبز والسمك‪ ،‬وصرف يسوع للجموع والتلاميذ أيضاً إلى البحر‪،‬‬
‫ليصعد إلى الجبل ويصلي‪ .‬فكان يصلي ويصلي منذ أن صرف الجموع في المساء وإلى حلول الليل‪ ،‬إلى‬
‫الهزيع الرابع‪ .‬أما التلاميذ في كل هذا الوقت كانوا منهمكين في النجاة من الموت غرقاً‪ .‬وهنا يكمن‬
‫السؤال‪ :‬كيف انتقل يسوع فجأة من الجبل إلى خضم البحر بهذه السرعة؟ نعمة الرب ومحبته تعكس‬

‫لنا وكأن يسوع نزل راكضاً ليصل إلى التلاميذ لاهثاً ليقول‪َ " :‬ت َش َّج ُعوا! أَ َنا ُه َو‪ .‬ل َا َت َخا ُفوا"‪.‬‬
‫قال الكاتب واللاهوتي (‪" :)C.S. Lewis‬يملك كل مسيحي أفضلية تميزه عن غيره من الناس‪:‬‬
‫ليس أنه أقل سقوطاً من الناس‪ ،‬وليس أنه أقل سقوطاً من الخليقة التي سقطت‪ ،‬بل أنه عارف أنه‬

‫سقط في وسط خليقة سقطت"‬
‫ما أحوجنا لأن نرى لهاث المسيح من أجل من سقط‪ ،‬وليس أننا نحن من يلهث من أجل التعلق‬
‫به‪ .‬ما أحوجنا للثقة به والتمسك به والتعلق بذراعيه وإسناد رؤوسنا على صدره الغارق بالعرق والدم‬

‫من أجلنا والقول " ِبا ْل َح ِقي َق ِة أَ ْن َت ا ْب ُن الل ِه"‪...‬المخلص‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫محتويات العدد‬

‫ثبات الإيمان‬
‫وسط الضيقات‬

‫الأخ يوسف خاشو*‬

‫انجيل متى ‪32-23 :21‬‬
‫لا يخفى على أح ٍد م ّنا حجم الضغوطات والآلام التي يمر بها العالم بالعموم‬
‫وشر ُقنا الحبيب بالخصوص‪ .‬ووسط التحديات الاقتصادية والصحية وغيرها نجد أنفسنا‬
‫نسأ ُل الكثير من الأسئلة عن إيماننا في وسط الضيق‪ .‬إ ّن الرب يسوع المسيح ُيخبرنا‬
‫عن سلامه الذي يفو ُق كل عقل في شهادات الانجيل‪ ،‬ولك ّننا نتجه اليوم تلقائ ًّي‬
‫لنتأمل بمفهوم سلامنا من قلب الاضطرابات‪ .‬فأين هو سلامنا ونحن مازلنا نعاني من‬
‫الحروب وويلاتها وآثارها الاقتصادية‪ ،‬وفوق هذا نعاني أي ًضا من جائحة الفيروس‬

‫* خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في دمشق ومركز جرمانا‬

‫‪18‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫التاجي والخوف المستمر من هذه الجائحة؟ وإذا ما فتشنا بالعمق ‪ -‬وك ُّل واح ٍد‬
‫م ّنا في ذاته ‪ -‬هل مازال سلامنا الداخلي ثاب ًتا ومستق ًرا أم أنه قد تقهقر أو حتى‬

‫تلاشى وسط هذه الضيقات؟‬

‫في الحقيقة أ ّيها الأح ّباء لسنا الوحيدين عب َر التاريخ الذين عانوا من الضيقات‬
‫والضغوطات الحادة لذلك دعونا نحمل تساؤلاتنا ونتأمل في نص الانجيل ونحن ندرسه‬
‫في ثلاث ِة مستويات زمن ّية‪ .‬المستوى الزمني الأول تدور أحداثه في ثلاثينيات القرن‬
‫الأول الميلادي عندما قابل الرب يسوع رؤساء الكهنة في الهيكل‪ .‬والمستوى‬
‫الزمني الثاني هو في ثمانينيات القرن الأول الميلادي عندما ُكتب لأول مرة انجيل‬
‫متى تقدير ًّيا‪ ،‬وفي هذا ال ُمستوى الزمني قد ُق ِرأ الانجيل لأول مرة من ِق َبل جماع ِة‬
‫إيما ٍن لها ظروفها وصفاتها‪ .‬وأما المستوى الزمني الثالث فهو عا ُمنا الحالي عا ُم‬

‫ألفين وواحد وعشرين لنقابل فيه حالة ودعوة كنيسة الرب‪.‬‬

‫بداي ًة إن الضيقات والتحديات كانت دائ ًما موجودة أما َم شخصيات الكتاب ال ُمقدس‪.‬‬
‫والرب يسوع المسيح قد واجه هذه التحديات أيض ًا‪ .‬ففي المستوى الأول من تأملنا‬
‫لليوم نرى رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب قد استشاطوا غض ًبا من الرب يسوع‬
‫المسيح خصوص ًا بعد دخوله الملوكي إلى مدينة أورشليم‪ ,‬وصراخ الأولاد له في‬
‫الهيكل قائلين‪" :‬أوصنا لابن داوود" بحسب الانجيل‪ .‬وأما وجود يسوع في الهيكل‬
‫تحدي ًدا يش ّك ُل تحد ًّيا مباش ًرا لمنظومة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب مما اقتادهم‬
‫تلقائ ًيا للتقدم إليه ليقاطعوا تعليمه ويحاججو ُه ويضغطوا عليه‪ .‬لقد حاولت هذه‬
‫الفئة الدينية أن تتحدى و ُتضايق الرب يسوع وتق ّوض من سلطانه ومرجعية هذا‬
‫السلطان‪ .‬ونعل ُم جمي ًعا كيف تتسارع الأحداث لاحق ًا لنرى سعي هذه الفئة للتخلص‬

‫من الرب يسوع‪.‬‬

‫وإذا ما انتقلنا إلى المستوى الثاني في ثمانينيات القرن الأول فإ ّننا سنرى‬
‫أن حالة الجماعات المؤمنة بالمسيح لم تكن أكثر سلا ًما واستقرا ًرا من حال ربها‬
‫ومعلمها‪ُ .‬يحاول علماء العهد الجديد دراسة الموارد المتوفرة واستنتاج خصائص‬
‫وظروف جماعة الإيمان التي قد كت َب لها كات ُب انجيل متى بالدرجة الأولى ُمقا ًدا‬

‫‪19‬‬

‫بال ّرو ِح القدس‪ .‬ومن خلال هذه الدراسات نعل ُم أن جماعة الإيمان هذه قد تزامن‬
‫وجودها مع قرا ٍر خطي ٍر قد اتخذه قادة اليهود وقتها‪ ،‬وذلك عندما أقاموا مجمع‬
‫جمانيا اليهودي‪ ،‬واتخذوا قرا ًرا فيه بعنوان (تحريم شيعة الناصريين)‪ .‬ومن محتويات‬
‫هذا القرار أن يت ّم التحريم لليهود من أن يتعاملوا مع المسيحيين‪ ،‬أو أن يقبلوهم‬
‫في مجامعهم بعد أن كان المسيحيون الأوائل قد اعتادوا على الصلاة في الهيكل‬
‫في أورشليم أو في المجامع خارجها‪ .‬إن جماعة الإيمان التي قد خاطبها متى‬
‫في انجيله قد واجهت ما واجهه الرب يسوع قبل عدة سنوات‪ .‬فكما قد واجه‬
‫المسيح التحدي في الهيكل من قبل قادة اليهود‪ ،‬كذلك قد واجهت جماعة الإيمان‬
‫ذات التحديات في المجامع اليهودية‪ .‬لقد رزحت هذه الجماعة تحت نير الضغوطات‬
‫والضيقات فهي لأول مرة من دون مكان عبادة‪ ،‬ومرفوضة من اليهود‪ ،‬و ُمسته َجنة‬

‫من الوثنيين‪ ،‬وغير ُمع ّرفة أمام ال ُحكام الرومان‪.‬‬

‫وأما في المستوى الزمني الثالث والموافق ليومنا هذا فإن الصعوبات والضيقات‬
‫تأخذ أشكال ًا مختلف ًة‪ ،‬ولكنها لا تنف ُك ضاغط ًة على جماعة الإيمان‪ .‬فكم من المرات‬
‫أعاقتنا جائحة الفيروس التاجي عن الاجتماع في شركة العبادة‪ ،‬ولا يزال ظلها يخ ّيم‬
‫على عائلاتنا في كل مكان‪ .‬وكم من المرات تكاثرت هموم الحياة علينا بضيقاتها‬
‫المادية وسط ش ّح الموارد الأساسية و ُنضبها‪ .‬إ ّن ك ّل هذه الصعوبات اليوم تتح ّدانا‬

‫جميعنا في استمرار حياتنا وثبات إيماننا‪.‬‬

‫فما هو الحل لمواجهة كل هذه الضيقات؟ وكيف نقابلها نحن جماعة الإيمان؟‬

‫أ ّيها الأح ّباء إ ّننا مدعوون أن نث ُبت من قلب تيارات العالم ولججه المتدافعة‪.‬‬
‫فدعوتنا هي أن نثبت في الإيمان‪ .‬ففي كل مستوى زمن ّي من هذه المستويات‬
‫التي تحققنا منها نرى أن الثبات بالإيمان هو القوة لمواجهة الصعوبات والاضطرابات‪.‬‬

‫حي ُث نرى في المستوى الزمني الأول أن المسيح قد واجه ضغوطات رؤساء‬
‫الكهنة وشيوخ الشعب بثباته بإيمانه‪ .‬كان المسيح ثابت ًا بإيمانه في ذاته وبرسالته‬
‫وبالآب الذي أرسله‪ ،‬وذلك قد َت َترج َم في عدم خوفه من هذه الضيقات ال ُمتهافتة‬

‫‪20‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫عليه‪ .‬علاو ًة على ذلك نرى أن يسوع قد تحدى هذه الفئة ال ُمضا ِيقة وأسئلتها‬
‫بسؤا ٍل يضعهم فيه على ال ِمحك عندما سألهم قائل ًا‪" :‬أن معمودية يوحنا من أين‬
‫كانت‪ .‬من السماء أم من الناس"‪ .‬وكذلك نرى ثبات المسيح في عدم تراجعه عن‬
‫موقفه في النقاش والسؤال بل بالحري هو قد أعطاهم مثل ًا عن الأب وابني ِه لكي‬
‫ُيبين لهم رغبة وإرادة الآب الح ّقة ال ُمعلنة من خلاله وال ُمث ّبتة بحسب شرحه في‬

‫المثل‪.‬‬

‫وكذلك الأمر في المرحلة الزمنية الثانية إذ نرى أن كاتب انجيل متى قد رك َّز‬
‫على قص ٍص مشجع ٍة للإيمان يقوي فيها جماعة الإيمان التي قد كت َب إليها تحت‬
‫معاناتها من الضيق والطرد من المجامع‪ .‬وفي هذا السياق ُيخبرنا الانجيل ّي في‬
‫سرده لإنجيل متى كيف أن المسيح قد تكلم في مثله عن ابنين لأ ٍب يمل ُك كر ًما‪.‬‬
‫رفض الابن الأول الاستجابة بالذهاب للعمل في الكرم‪ ،‬ولك ّنه لاح ًقا ذهب وحقق‬
‫مشيئة أبيه‪ ،‬وأما الابن الثاني فقد قال أنه سيذهب للكرم‪ ،‬ولكنه لم ُيحقق ذلك‪.‬‬
‫ومن خلال هذا المثل وشرح المسيح له أيض ًا ُنلاحظ وجود فئتين فيه‪ .‬الفئة الأولى‬
‫تتمثل بالعشارين والزواني الذين كانوا مرفوضين و ُمستن َكرين من المجتمع‪ ،‬وهذه‬
‫الفئة هي الس ّباقة إلى الملكوت وتحقيقه‪ ،‬والصانعة بالإيمان إرادة الأب في المثل‪.‬‬
‫أما الفئة الثانية فهي متمثلة برؤساء الكهنة وشيوخ الشعب‪ ،‬وهم ال ُمنتفخون‬
‫بحكمتهم وب ّرهم الذاتي‪ ،‬وال ُمعتمدون على أنفسهم في محاكمة الأمور وتبعاتها‪.‬‬
‫وهؤلاء نراهم يلجأون للتفكير باحتمالات الإجابة على سؤال المسيح لهم معتمدين‬
‫على ذكائهم وفطنتهم فحسب عوض ًا عن إيمانهم بشخصه‪ .‬وذلك يتض ُح عندما‬
‫فكروا بأجوبة للسؤال حول معمودية يوحنا المعمدان‪ .‬إن الانجيلي وفي نقله لهذه‬
‫الحادثة وحواراتها يسعى لطمأنة جماعة الإيمان المضطربة‪ .‬فكان الخب ُر السار لتلك‬
‫الجماعة المؤمنة أنه وإن كان هناك صعوبات قادمة من ُأنا ٍس مثل رؤوساء الكهنة‬
‫وشيوخ الشعب فإن الفئة ال ُمز ّكاة من الله هي فئة المؤمنين والمؤمنات الذين‬
‫يثبتون في إيمانهم‪ .‬إذ قال يسوع في المقطع لهؤلاء ال ُمضا ِيقين‪" :‬ل َأ َّن ُيو َح َّنا‬
‫َجا َء ُك ْم ِفي َط ِري ِق ا ْل َح ِّق َف َل ْم ُت ْؤ ِم ُنوا ِب ِه‪َ ،‬و َأ َّما ا ْل َع َّشا ُرو َن َوال َّز َواني َفآ َم ُنوا ِب ِه"‪ .‬وهذا‬

‫‪21‬‬

‫ينسجم مع المقطع السابق مباشر ًة لمقطعنا‪ ،‬والذي يقول فيه يسوع أ ّنه إن كان‬
‫هناك إيما ٌن عندنا فإننا نقول للجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون‪.‬‬

‫وأما في المستوى الزمني الثالث الذي ُيمثل واقعنا اليوم فإننا أي ًضا مدعوون‬
‫لمواجهة ك ّل الضيقات والصعوبات بالثبات بالإيمان‪ .‬على هذا الأساس ومنذ ال ِقدم‬
‫واجه داوود الملك عندما كان صغي ًرا ذاك ال ُمقاتل الشرس جوليات الج ّبار الذي كان‬
‫ُيم ّثل أحد أقسى وأش ّد الضيقات وأصعبها على الشعب‪ .‬ولكن وبثبات داوود في‬
‫إيمانه تق ّدم هذا الصغير قائل ًا في وجه جوليات‪َ «" :‬أ ْن َت َت ْأ ِتي ِإ َل َّي ِب َس ْي ٍف َو ِب ُر ْم ٍح‬

‫َو ِب ُت ْر ٍس‪َ ،‬و َأ َنا آ ِتي ِإ َل ْي َك ِبا ْس ِم َر ِّب ا ْل ُج ُنو ِد ِإل ِه ُص ُفو ِف ِإ ْس َرا ِئي َل ا َّل ِذي َن َع َّي ْر َت ُه ْم‪" .‬‬

‫وعلى هذا الأساس أيض ًا قد ع ِل َم واختبر كاتب رسالة بطرس الأولى تلك‬
‫الضعوطات الج ّمة الحاصلة وال ُمقبلة على كنيسة المسيح‪ .‬فيص ُف الكات ُب تلك‬
‫الضغوطات بالحيوان ال ُمفترس الذي سينق ُّض على الفريسة‪ .‬لذلك نرا ُه في الرسالة‬
‫ُمش ّج ًعا وحا ًّضا الكنيسة على مواجهة هذه التحديات بالثبات بالإيمان أي ًضا‪ .‬إذ قال‪:‬‬

‫" َف َقا ِو ُمو ُه‪َ ،‬را ِس ِخي َن ِفي ال ِإي َما ِن‪." ،‬‬

‫وعلى ذات المبدأ واجه عالم اللاهوت الانجيل ّي (كارل بارت) تحديات و ُمضايقات‬
‫ال ُملحدين وآثار كتاباتهم من الفلاسفة وغيرهم في مطلع القرن العشرين‪ .‬واصطدم‬
‫مع قول الفيلسوف والعالم (ديكارت) في العبارة الشهيرة القائلة‪" :‬أنا ُأفك ُر إذ ًا أنا‬
‫موجود"‪ .‬واجه (بارت) هذا التحدي الفلسفي الزخم بقوله‪" :‬أنا أؤمن" كأساس ومعنى‬
‫للوجود‪ .‬وهذا ما نردده مع (بارت) منذ مئات السنين‪ .‬إذ نقو ُل كأفراد في مطلع‬
‫قانون إيمان الرسل‪" :‬أنا أؤمن بالله"‪ .‬كما نقول في مطلع قانون الإيمان النيقاوي‬

‫القسطنطيني‪" :‬نح ُن نؤمن بإل ٍه واح ٍد"‪.‬‬

‫وهذا الثبات بالإيمان وسط الضيقات يجب أن يتف ّعل في حياتنا اليومية بأن‬
‫يكون إيماننا إيما ًنا ح ًيا وفاعل ًا فينا ومن خلالنا ح ّتى في ساعات الغ ّم واليأس‪ .‬وفي‬
‫هذا السياق تحكي قصة حد ّث ْت في خدمة جنازة أحد شيوخ كنائسنا الأفاضل‪ .‬أنه‬
‫في تلك الجنازة كان اب ُن هذا الشيخ مقي ًما في بلاد الإغتراب‪ ،‬ولا مجال لحضوره‬

‫‪22‬‬

‫عظات من المنبر‬

‫في هذه الخدمة‪ .‬فأرسل هذا الابن رسال َة تعزي ٍة للعائلة والكنيسة‪ ،‬وشار َك فيها‬
‫موقفه تجاه والده الراقد في الرب‪ .‬ومن ش ّدة ثباته في احترامه وتقديره لوالده‪،‬‬
‫قال في الرسالة التالي‪" :‬إنك يا والدي العزيز سترافقني دائ ًما‪ ،‬وستكو ُن حاض ًرافي‬

‫ك ّل قراراتي"‪.‬‬
‫لم َيقل هذا الابن أن والده سيكو ُن حاضر ًا في ذهنه وقلبه فحسب‪ ،‬بل قال أن‬
‫هذا الوالد سيكو ُن حاضر ًا في قراراته أي ًضا‪ .‬فكم بالحري لنا عند الحديث عن الثبات‬
‫بالإيمان ألا نعامل إيماننا كأ ّنه شي ٌء منفص ٌل عن حياتنا اليومية وسط صعوباتها‪،‬‬
‫بل بالحري دعوتنا أن يكون إيماننا حاض ًرا ك ّل يو ٍم معنا وفي قراراتنا ليكون معيا ًرا‬
‫لأخلاقياتنا ومواقفنا حتى من قلب معاناتنا‪ .‬عندها وفقط عندها يكتم ُل عنوان هذا‬
‫التأمل ليكون الخبر السار لنا أنه بالثبات بالإيمان وسط الضيقات ننال السلام القلبي‬

‫والداخلي‪.‬‬
‫نعم أ ّيها الأح ّباء‪ ،‬عندما ُنقابل كل تفاصيل يومنا العصيبة ‪ -‬وهي كثير ٌة ‪ -‬بعين‬
‫الإيمان فإن ذلك قد لا ُينجينا من هذه التفاصيل‪ ،‬ولك ّننا سنكون في سلا ٍم حقيقي‬
‫أساسه الإيمان بالله‪ .‬هذا السلام مبن ٌي على صخر الدهور ربنا يسوع المسيح‪ ،‬ولا‬
‫تستطيع تحديات هذا العالم أن تنزع سلامنا المبني على الإيمان الراسخ‪ .‬وهذا ما‬
‫اعتدنا أن نر ّدده بثقة في كلمات الترنيمة قائلين‪" :‬إن تط ُم حولي النائبات كاللج‬
‫وسط البحر‪َ /‬يدم سلامي في ثبات أساسه في الصخر"‪ .‬ليت الله يث ّبت فينا هذا‬
‫الإيمان في كل الأحوال لنكون في سلا ٍم مستقر ويفوق كل عقل في المسيح‬

‫يسوع ربنا‪.‬‬
‫والله المجد والإكرام‬

‫على الدوام‬

‫آمين‬

‫‪23‬‬

‫‪2‬‬

‫مقالاتمن المكتب‬

‫إلى متى تنساني؟‬
‫َف َمتى أم َس ْت َر َحى ال َب ْلوى ت َدور‪...‬‬

‫مقالات من المكتب‬ ‫محتويات العدد‬
‫الأخ حسان ديرعطاني*‬
‫إلى متى تنساني؟‬

‫َأ( ِإْ َجل َعى ُ َلم َت ُهى ُمَياو َر ًم ُّاب ِ َفت ْني َ َنس ْاف ِن ِيس ُكي َّ َلو ٱُحلْ ِّزن ًناْ ِسفَياي ِنَق؟ْلإِِبَليى ُكَم ََّتل َىي ْ َتو ْحٍم ُ؟ج) ُب َو ْج َه َك َع ِّني؟ إِ َلى َم َتى‬
‫بهذه الكلمات‪ ،‬التي كانت ذات يو ٍم ثور ّي ًة‪ ،‬يختصر كاتب المزمور ‪ 13‬التساؤلات‬
‫الايمانية التي تواجهنا اليوم‪ ،‬كيف لا ونحن نتساءل بتذ ّمر أين انت يارب؟ أين انت‬
‫يالله من جميع التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بنا؟ لماذا تسمح بهذا‬

‫الألم؟ ولماذا هذا الظلم الجماعي الذي نختبره يوم ًّيا؟‬

‫لربما كانت التساؤلات عن الألم وكيفية مقاربته قديم ًة ِق َد َم وجود الانسان نفسه‪،‬‬
‫ولطالما حاولت الانسانية إيجاد الأجوبة عن معضلة الألم‪ .‬الكنيسة عبر تاريخها لم‬

‫*خادم ديني في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في حلب‬
‫‪25‬‬

‫ت ْن َأ عن هذا الصراع اللاهوتي والفكري‪ ،‬كيف لا ونحن نؤمن بإله المحبة‪ ،‬إله لا يترك‬
‫خليقته بل يعطيها المعنى‪ُ ،‬متر ّجين خلا ًصا ذا طابع إلهي‪ ،‬في ومن‪ ،‬هذا التاريخ إلى‬

‫ان يملك الله على الك ّل وفي الك ّل‪.‬‬

‫يشهد تاريخ الكنيسة لمحاولات لاهوت ّية مقاربة الألم الإنساني بجانبيه العام‬
‫والخاص المتع ّلق بالمؤمنين‪ .‬كيف نستطيع أن نقارب ك ّ ًل من محبة الله وسلطانه مع‬
‫ما تختبره الخليقة من ألم وويلات عبر التاريخ؟ بالحقيقية هناك عدة إجابات وطروحات‬

‫لكيفية مقاربة معضلة الألم ولست بصدد نقاشها في هذا التأمل‪.‬‬

‫أريد اليوم أن انطلق من حقيقة عمل ّية وبسيطة يعرفها الجميع‪ ،‬وهي ان الألم‬
‫جزء لا يتجزأ من الوجود الانساني‪ .‬بعي ًدا عن جدل ّية أصل الألم وفيما إذا كان ش ًّرا‬
‫مطل ًقا أم لا‪ُ ،‬يعتبر الألم سمة من سمات حركة الخليقة بدرجات متفاوتة‪ .‬بالرغم من‬
‫أ ّننا قد نحصل على بضعة أجوبة وتفسيرات لشكل من أشكال الألم هنا او هناك‪،‬‬
‫لكنها برأيي تبقى وقتية مؤقتة لا ترقى لمستوى الاجابة عن كافة خصوصيات الألم‬
‫في كل زمان ومكان‪ .‬ما قد يل ّبي فضول الانسان في مرحلة زمنية قد يعجز عن ذلك‬

‫في مرحلة لاحقة‪.‬‬

‫الألم حقيقة عمل ّية تختبرها الخليقة باستمرار‪ ،‬وعليه فإن للألم ُبع ًدا وجود ًّيا لا‬
‫يمكن للانسان إنكاره أو حتى سبر أغواره واستيعابه بثقة‪ .‬قد نستطيع التأمل بالألم‬
‫وإطلاق العنان لأنفسنا للتعبير عن اختباراتنا معه من خلال الأدب والشعر والرسم‬

‫وحتى بالصلاة‪.‬‬

‫لاهوتنا المسيحي‪ ،‬في هذا الإطار‪ ،‬يتم ّيز بواقعية مقاربته لمسألة الألم في‬
‫الخليقة من خلال رحلة الصليب‪ .‬فطالما أن الرب يسوع اختبر ألم الخليقة في حياته‬
‫الأرضية‪ ،‬ليس علينا أن نفهم الايمان كلقاح ضد الألم‪ .‬بهذا المعنى لايهم ان كنت‬
‫مؤم ًنا او غير مؤم ٍن‪ ،‬فالجميع معرضون في الحياة لاختبار شكل من أشكال الألم‬
‫(مرض‪ -‬خسارات‪ -‬موت‪ .)...‬ايماننا لا يعني اننا لن نشارك الخليقة مخاضها‪ ،‬بل أننا‬

‫كمؤمنين مدعوون ان نستجيب بطريقة مختلفة‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫مقالات من المكتب‬

‫مشكلتنا مع الألم تبدأ من افتراضاتنا الفكرية‪ ،‬من منطلقاتنا وتوقعاتنا‬
‫عن الحياة والألم‪ .‬كل انسان يك ّون مفاهيمه الخاصة في الحياة بحسب تجاربه‬
‫ومعتقداته التي يكتسب بعضها ويط ّور بعضها الآخر‪ .‬ولكن عندما ُيباغتنا الألم‬
‫فإنه لا يأبه بمس ّلماتنا المنطقية‪ .‬الألم يغ ّير فينا دون أن ندرك‪ .‬الانسان بعد الألم‬
‫ليس كما قبله‪ ،‬الشعوب والمجتمعات بعد الألم ليست كما قبله‪ .‬من هنا أعتقد‬

‫بأن الألم يغ ّيرنا قبل أن ُيع ّلمنا‪.‬‬
‫ُنخطئ الاعتقاد عندما نغالي بعقلانيتنا‪ .‬صحيح ان الانسان كائن عقلاني وذو‬
‫ارادة‪ ،‬لك ّنه أي ًضا وبدرجة لا يجب الاستهانة بها‪ ،‬كائن العاطفة والغرائز‪ .‬تح ُضرني‬
‫في هذا السياق القاعدة التسويقية التي تقول‪ :‬الانسان يشتري بالعاطفة ويبرر‬

‫بالمنطق!‬
‫الألم يغ ّيرنا قبل ان يع ّلمنا‪ ،‬يحاكي عمق انسانيتنا قبل أن يستأذن منطقنا‪.‬‬
‫الألم يحاكي انساننا الداخلي‪ ،‬متوج ًها لعواطفه ومكنوناته‪ ،‬مبعث ًرا خلفه مس ّلماتنا‬
‫ومفاهيمنا السابقة‪ ،‬التي لطالما جعلنا منها ملاذ راحة وأمان‪ .‬الألم يغ ّيرنا ثم‬
‫يتركنا في رحلة بحث عن أجوبة وجود ّية وايمانية جديدة‪ ،‬بعد أن يثبت لنا هزالة‬
‫أكواخنا الفكرية التي اعتدنا الاحتماء في داخلها‪ .‬مشكلتنا اليوم ليست فقط في‬
‫كثرة التحديات الاجتماعية والاقتصادية بقدر ماهي في سرعة تواترها التي لم‬
‫تفسح المجال امامنا ان نمضي في رحلة استيعاب وبحث جديدة نحو بداية جديدة‪.‬‬
‫لا ُيخفى على أحد أن الضبابية والانتظار يخ ّيمان على واقع منطقتنا اليوم‪.‬‬
‫فهل الحل أن ننتظر كما ينتظر الكثيرون خلا ًصا بالمعنى التقليدي الذي ينطوي‬
‫على خروج ما؟ خروج من أرض الهموم والأزمات المعيشية إلى أرض بعيدة أرحب!‬

‫أو هل يل ّبي الاحتجاج على الله بكلمات المزمور اعلاه تطلعاتنا نحو الخلاص؟‬
‫باعتقادي ليس َث ّمة حل اليوم يمكن ان يروي الظمأ الانساني نحو المعنى‬
‫سوى علاقة روحية حية مع الله‪ .‬تحدياتنا الحالية على تنوعها ليست بالجديدة‬
‫نسب ًّيا‪ .‬يمكن للعودة إلى التاريخ ان تساعدنا في ادراك ان جائحة الكوفيد ‪ 19‬لم‬

‫‪27‬‬

‫تكن أولى الجائحات ولن تكون الأخيرة‪ .‬ليست الحروب والصراعات البشرية جديدة‬
‫العهد وإن تتب ّدى اليوم بأقبح أشكالها‪ .‬التاريخ يشهد على ديمومة التغيير التي‬

‫لا تخلو من الألم‪.‬‬
‫إن كنا َنن ُشد سلاما وسط العاصفة‪ ،‬ان كنا نبحث عن المعنى لحياتنا وسط‬
‫الفوضى والانهيار‪ ،‬فهناك أمل! أمل ليس في الشرق ولا في الغرب‪ ،‬ليس هو‬
‫َه ُهنا او ُه َناك‪ ،‬بل إنه في جوهر ايماننا المسيحي! قد ننسى‪ ،‬في ظل قلقنا‬
‫وهمومنا اليومية‪ ،‬حقيقة ان ايماننا المسيحي هو ايمان الرجاء‪ ،‬ايمان يرجو حتى‬
‫أمام النهايات البشرية‪ .‬ايماننا ايمان يرجو ليس لأنه يملك أفضل الأجوبة وال ُحجج‬
‫التي تلبي فضول الانسان‪ ،‬بل لأنه يثق بمحبة ونعمة الله كما اختبرناها في‬

‫المسيح يسوع‪.‬‬

‫في َمعرض حديثه الأخير مع التلاميذ‪َ ،‬ع ّرف الرب يسوع عن ذاته بأ ّنه "الطريق‬
‫والحق والحياة" (يوحنا ‪ .)6 :14‬أمام حيرة وتساؤلات التلاميذ القلقين‪ ،‬ما كان من‬
‫المسيح إ ّل أن أ ّكد لهم أ ّنه هو الطريق‪ .‬لم يق ّدم الرب يسوع للتلاميذ نوع الاجابات‬
‫الذي كانوا يتوقعونها عند سؤالهم عن الطريق (بالمعنى الجغرافي)‪ .‬عمل ًّيا اجابة‬

‫‪28‬‬

‫مقالات من المكتب‬

‫المسيح هي دعوة للثبات في المسيح‪ .‬هذه الدعوة التي تتكرر لاح ًقا بوضوح في‬
‫اعلان المسيح عن ذاته بوصفه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة والاستمرارية‬

‫للكنيسة‪.‬‬
‫الايمان ليس مح ّرك بحث ديني نق ّلب صفحا َته بح ًثا عن اجابات نبني على أساس‬
‫منطق ّيتها علاقتنا بالله‪ .‬الإيمان يقوم على بعض المعرفة وكثير من الثقة‪ .‬لذلك‬
‫يؤكد المسيح لكنيسته اليوم كما الأمس انه هو "الطريق والحق والحياة"‪ .‬الرب‬
‫يسوع هو الطريق الى علاقة ح ّية مع الله تتمركز حول مجد الله‪ .‬هو الحق‬
‫والاعلان الحقيقي عن الله وجوهره‪ .‬هو الحياة بتطلعاتها الجديدة ومفاعيلها‬
‫الابدية كما لم نعرفها من قبل‪ .‬لم يعط المسيح سلسلة من الاجابات التفصيلية‬
‫للتلاميذ في ساعاته الأخيرة معهم‪ ،‬لك ّنه دعاهم‪ ،‬بإعلانه ذاك‪ ،‬الى الثبات بعلاقة‬

‫حية مع الله في وسط العاصفة‪.‬‬
‫قد لا نجد في إيماننا المسيحي جميع الأجوبة والشروحات عن سبب الألم بكل‬
‫وقت وزمان‪ ،‬لكن لايمكن لإيماننا سوى ان يكون ايمان الرجاء والأمل رغم كل‬
‫شيء‪ .‬ايماننا المسيحي يقوم بأساسه على الثقة باله المحبة قبل أي اجابات‬
‫منطقية‪ .‬الله كما شهدناه في المسيح هو إله قريب‪ ،‬إله يدعونا من قلب العاصفة‬
‫ومن قلب الألم ان نمضي في رحلة الايمان والثقة بالله‪ ،‬وذلك بما لدينا الآن من‬
‫"بعض المعرفة" (بحسب توصيف الرسول بولس)‪ .‬دعوتنا ونحن نواجه الألم الحالي‪،‬‬

‫ا ّل نفقد الرجاء‪ ،‬بل أن نتج ّذر بعمق في حياة الايمان التي تعطي مج ًّدا لله‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫هويتي الإنجيلية‬

‫اختبار الله ‪ -‬الوحي‬

‫هل ف َّكرت بكيف َّية معرفتك بوجود الله في حيا ِتك وإن كان الله جز ًءا منها؟‬

‫الوحي العام‪:‬‬ ‫‪ .١‬‬

‫تنعكس طبيعة الله من خلال النظام الأسا س ّي للكون وأنماطه‪ ،‬وفي خليقته‪ ،‬وفي أحداث‬
‫التاريخ‪ ،‬حيث ُتظهر جميعها أعمال الله‪ .‬إضاف ًة إلى ذلك‪ ،‬يتوق البشر بشك ٍل فطر ّي إلى معرفة‬
‫الله والقدرة على تقدير أ َّن هناك أكثر م ّم نراه أو نقيسه في هذه الحياة‪ .‬ومن خلال سعي‬
‫البشر لمعرفة الله‪ ،‬كثيرون يرونه‪ ،‬وكما ع َّب القديس أوغسطين‪« :‬أنت (الله) ُتعطينا البهجة عندما‬
‫ُنس ِّبحك‪ ،‬لأ َّنك ك َّونتنا لنفسك‪ ،‬ولن تهدأ قلوبنا حتى تجد الراحة فيك‪( ».‬اعترافات‪ ،‬كتاب ‪.)١‬‬
‫وبالمثل‪ ،‬قال الرسول بولس متح ِّد ًثا إلى الأثين ّيين‪« :‬صنع من دم واحد ك ّل أمة من الناس‪ ،‬يسكنون‬
‫على ك ّل وجه الأرض‪ ...‬لكي يطلبوا الله لع ّلهم يلتمسونه فيجدونه‪ ،‬مع أنه عن كل واحد منا ليس‬

‫بعي ًدا‪ ،‬لأ َّننا به نحيا ونتح َّرك ونوجد‪( »...‬أعمال ‪)٢٨ – ٢٦ :١٧‬‬

‫الوحي الخا ّص‪:‬‬ ‫‪. ٢‬‬

‫نحن أي ًضا نتع َّرف على الله من خلال ق َّصة الكتاب المق َّدس التي تصف رغبة الله بأن ُيح َّبنا‬
‫ويتواصل معنا بطرق مح َّددة‪ .‬اختار الله شع ًبا خا ًصا ليكشفوا عن شريعته‪ .‬وجاء الله في يسوع‬
‫المسيح وفي الروح القدس ل ُيظهر لنا الطريق إليه‪ .‬اختا َر الله العمل من خلال الكنيسة‪ ،‬على الرغم‬
‫من عيوبها‪ ،‬للكشف عن مح ّبة الله ومقاصده للعالم‪ .‬و ُيعلن الكتاب المق َّدس أ َّن كشف الله عن‬

‫نفسه لم ينت ِه بعد‪ ،‬ونحن نتو َّقع إعلان كمال ملكوته في الأيام الأخيرة‪.‬‬

‫هناك فرق بين معرفة الله بشك ٍل عام أو معرفته شخص ًّيا‪ .‬كثير من الناس راضون بمعرفة الله‬
‫بشك ٍل عام‪ ،‬ولكن عندما يكشف الله عن نفسه‪ ،‬حينئ ٍذ نختبر طبيعة الله الحقيق َّية وأعماله‪ .‬ف ِّكر‬
‫في إيمانك الشخص ّي‪ .‬ماذا تعرف عن الله عندما يكشف عن نفسه من خلال الإعلان العام وعندما‬

‫يكشف عن نفسه من خلال الإعلان الخاص؟‬

‫‪30‬‬

‫مقالات من المكتب‬ ‫محتويات العدد‬

‫َف َمتى أم َس ْت َر َحى‬
‫ال َب ْلوى ت َدور ‪...‬‬

‫القس أديب عوض*‬

‫ِفي‬ ‫ُم ْن َب ِطح ًا‬ ‫َو ِإ ْن ُك ْن َت‬ ‫إ ْن َج َر ْي َت َم َع ا ْل ُم َشا ِة َف َأ ْت َع ُبو َك‪َ ،‬ف َك ْي َف ُت َبا ِري ا ْل َخ ْي َل؟‬
‫‪)5 :12‬‬ ‫َأ ْر ِض ال َّس َلا ِم‪َ ،‬ف َك ْي َف َت ْع َم ُل ِفي ِك ْب ِر َيا ِء ا ُلأ ْر ُد ِّن؟ (إرميا‬

‫َح ْس ُبكم إنسا ٌن مسيحي يتأ ّمل ِب ِحيرة وذهول في ارتباكات الحياة وقسو ِتها‪،‬‬
‫فينفجر غضب ًا في وجه الله‪" :‬ليس من العدل ‪ ...‬أين العدل في هذه الحياة؟"‬
‫ينظر في وجه الله عابس ًا‪ ،‬ويكاد يصرخ "أين مح ّب ُتك‪ ،‬وأين عد ُلك؟"؛ لكنه لا يفعل‪.‬‬
‫يشعر بقشعريرة باردة في قلبه‪ ،‬ث ّم تسري في كل أنحاء جسمه‪ .‬يسأل نفسه‪،‬‬
‫ما الداعي إلى تذ ّمري وغضبي! ما أعانيه يعانيه معظم البشر؛ ما أشكو منه‬

‫* رئيس سابق لتحرير النشرة‪ ،‬المُ ّدة‪2017-2008 :‬‬
‫‪31‬‬

‫يشكو منه معظم البشر‪ .‬هل ستح ّطم هذه نفسي‪ ،‬وتزعزع إيماني‪ ،‬وتخ ّرب علاقتي‬
‫بإلهي؟؟‬

‫يا إنسان؛ إذا اختنق َت في المياه الضحلة‪ ،‬فكيف تنجو عندما تنفجر ضفاف الأردن‪،‬‬
‫وتثور ميا ُهه‪ ،‬وتتد ّفق كالشلال العاتي؟! لنفرض أنك‪ ،‬كما حدث ِليوب‪ ،‬تفيق فجأة‬
‫على مصيبة كبيرة‪ ،‬كأن تفقد رصيدك ‪ -‬جنى عمرك‪ ،‬وترى نف َسك في خض ِّم جائحة‬
‫تأكل الأخض َر واليابس؛ هل ستثب ُت كما ثب َت وتقول‪ ،‬الر ُّب أعطى والرب أخذ‪ ،‬فليكن‬
‫اس ُم الر ّب مبارك ًا؟ لنفرض أ ْن جاءك إخطا ٌر كئيب كذاك الذي جاء إلى النبي ال ِمقدام‬
‫حزقيال‪َ " ،‬يا ا ْب َن آ َد َم‪ ،‬ه َأ َن َذا آ ُخ ُذ َع ْن َك َش ْه َو َة َع ْي َن ْي َك ِب َض ْر َب ٍة‪َ ،‬فل َا َت ُن ْح َول َا َت ْب ِك َول َا َت ْن ِز ْل‬
‫ُد ُمو ُع َك" (‪ .)16 :24‬لنفرض أ ّنه ا ّتضح لك‪ ،‬كما ا ّتضح للشاب يسوع‪ ،‬أ ّن الحياة لا تعطيك‬
‫ك َّل ما تتو ّقعه منها‪ ،‬وأ ّن أحلا َمك لن تتح ّقق‪ ،‬وأ ّن دربك سيكون مو ِحش ًا وشا ّق ًا‪،‬‬
‫وبأنك ُمطا َل ٌب بتضحيا ٍت كبيرة مو ِجعة‪ .‬من الطبيعي جد ًا أن تكون قد مررت‪ ،‬أو ستم ّر‪،‬‬

‫بظروف كهذه‪ .‬في أغلب الأحيان تأتي من حيث لا ندري ولا نتو ّقع‪.‬‬

‫سن ًة بعد سنة عاي ّنا ‪ -‬أنت وأنا ‪ -‬أ ّيام ًا حلوة وذكريا ٍت غ ّضة؛ كانت شائعا ُت الرعب‬
‫ته ُّب صو َبنا خافت ًة كأن من مكا ٍن بعي ٍد بعيد‪ ،‬ف ِخ ْلنا أنف َسنا بمنأى عنها وحصينين‬
‫منها‪ .‬فجأ ًة ‪ ...‬لم تعد شائعا ٍت‪ ،‬لم تعد مج ّرد أخبار؛ صارت الشائعة حقيقة‪ ،‬وطمت‬
‫فوقنا الويلات ‪ ...‬تب ّخر جنى العمر‪ ،‬وعصفت بنا الفاقة‪ ،‬وضعضع المو ُت بأسانا‪.‬‬

‫اختفى التباكي‪ ،‬وف َّر النشيج‪ ،‬فقد لفحتنا المصيب ُة ك َّلنا‪ ،‬وتذاكرنا قول المتنبي‪:‬‬

‫فؤادي في غشا ٍء من ِنبا ِل‬ ‫رماني الده ُر بالأرزا ِء ح ّتى‬
‫تك ّسر ِت ال ِّنصا ُل على ال ِّنصا ِل‬
‫فص ْر ُت إذا أصابتني ِسها ٌم‬
‫لأ ّني ما انتف ْع ُت بأن أبالي‬ ‫وها َن فما ُأبالي بالرزايا‬

‫هل ينفع الندم على عدم "تأمين" المنزل عندما تأكل النيرا ُن المنز َل بكامله‪ ،‬وتح ّول‬
‫المقتنيات المتوارثة والتذكارات والكتب والنفائس والصور واللوحات وهدايا العمر‬
‫الجميل إلى َهباء منثو ٍر في طرفة عين!؟! وأ ّنى لنا ‪ -‬أنا وأنت المتب ّرمين الل ّوامين‬
‫عند أتفه الهموم ‪ -‬أن ننه َض في جرود الأرد ّن والق ُّر يحبس أنفا َسنا والدم ينزف من‬

‫ُث ُل ِم أقدامنا!؟!‬

‫‪32‬‬

‫مقالات من المكتب‬

‫نعم‪ ،‬قال ُغو ِته إن كل الديانات ُص ِّممت ل ُتعي َننا على تح ُّمل ما لا ُيحت َمل‪ ،‬لمواجهة‬
‫المستحيل‪ ،‬لنعب َر أيا َمنا بالح ّد الأدنى من الكرامة‪.‬‬

‫المشكلة التي لم يفطن لها غو ِته هي أ ّن ديانة السواد الأعظم من الناس ترتبط‬
‫بالمزاجات؛ قليل من المطر فيتهاوى ك ُّل شيء؛ لحظة تو ّتر فيصاب الإيمان بالشلل‪.‬‬
‫هكذا هي ديان ُة كثيرين من "المؤمنين"‪ .‬طالما تسير إراد ُة الله متوازية مع إرادتنا‬
‫فنحن من أهل الإيمان المغبوطين‪ .‬لكن‪ ،‬لو تقاطعت الإرادتان‪ ،‬أو تضاربتا‪ ،‬تص ّدع‬
‫الإيمان وتلاشى‪ .‬هل تذكرون الق ّصة التي رواها ر ُّبنا عن الرجلين اللذين عاشا في‬
‫القرية ذا ِتها‪ ،‬وتر ّددا إلى الكنيسة ذا ِتها‪ ،‬وجلسا على المقعد ذا ِته‪ ،‬واشتركا في‬
‫العبادة ذا ِتها‪ ،‬وسمعا العظ َة ذا َتها؛ كيف عصف ذا َت يو ٍم في حياتهما إعصا ٌر شديد‬
‫وضربتهما زوبع ٌة هوجاء!؟ في إحدى الحالتين انهار ك ُّل شيء‪ ،‬وتناثرت المقتنيات‬
‫والصناديق والأ ِس َّر ُة‪ ،‬وجرفها السيل العارم‪ ،‬ولم يب َق لتلك الحياة أث ٌر؛ هذه النفس‬
‫المسكينة ُبنيت على رمل‪ ،‬وفي يوم امتحانها تق ّوض ك ُّل شيء واختفى‪ .‬في الحالة‬
‫الأخرى‪ ،‬أيض ًا ضرب إعصا ُر ال َوحشة وال َوحدة والألم والمعاناة هذه النفس‪ ،‬لك ّنها‬
‫خرجت أقوى وأجرأ وأينع وأقرب إلى الله‪ ،‬لأنها ُبنيت على صخر‪ .‬والآن‪ ،‬ماذا عنك‬
‫وع ّني؟ لقد اعتدنا السي َر مع المشاة‪ ،‬فكيف نلحق الخ ّيالة؟ إن أنهكت وعك ٌة صغيرة‬

‫إيما َننا ومزا َجنا‪ ،‬فماذا نفعل عندما يثور الأرد ُّن و ُيزبد؟!‬

‫من المفترض والفرض أن نسمع ليسوع‪ ،‬لأنه تك ّلم من ِظ ِّل وظلم ِة الصليب‪ .‬قد‬
‫لا نفهمه‪ ،‬أو ن ّتفق معه‪ ،‬أو نطيعه؛ لكن لا يح ّق لأ ٍّي كان أن ُينكر عليه ح َّقه في‬

‫الكلام‪ :‬لقد ن ّبه " ُه َو َذا َب ْي ُت ُك ْم ُي ْت َر ُك َل ُك ْم َخ َراب ًا!" (لوقا ‪ ،)35 :13‬فماذا نقول وق َتها؟‬

‫لم يسبق أن ا ّدعيت أنني أفهم كثير ًا معار َج حياتنا هذه المح ِّيرة والـ ُمربكة؛ فلا‬
‫شك أ ّن الإقرار بمح ّبة الله يثير معضلا ٍت جديدة‪ :‬إن كان الله مح ّبة‪ ،‬فلماذا ‪ ...‬ولماذا‬
‫‪ ...‬ولماذا ‪!...‬؟ جوه ُر الإيمان‪ ،‬كما فهم ُته منذ انطلاقتي الإيمان ّية الأولى‪ ،‬هو ولا ٌء‬
‫َجسو ٌر قاد ٌر على تأكيد ذاته في أحلك الظروف‪ ،‬وثق ٌة بالله لا تتزعزع حتى عندما‬
‫تبدو الب ّينا ُت واهي ًة‪ .‬هل تظ ّنون أن المسيح كان دائم ًا يفهم ما يدور حوله ولا يأبه‬

‫‪33‬‬

‫لشيء؟ م ّر ًة تناول مشيئ َة الله له بيديه‪ ،‬وق ّلبها من جهة إلى أخرى‪ ،‬وسأل‪ :‬هل‬
‫هذا ما تريده مني‪ ،‬يا أبتاه؟ وشاحت للحظ ٍة بع ُض نظرات الش ّك في عينيه؛ في‬
‫يوم آخر‪ ،‬في حير ٍة والتباس‪ ،‬سأل الآ َب السماوي‪ :‬هل ح ّق ًا هذا ما تطلبه م ّني؟‬
‫هل تطلب أن أكون ك ّفارة ‪ -‬أنا الذي لم أعرف خطيئة ولم أقترف ذنب ًا ‪ -‬عن الخطاة‬
‫الأشرار؟ أيض ًا أخرى عندما أزبد ال ُعبا ُب في قلبه واخترق إلى أعماق نفسه ‪ ...‬لم‬
‫يتراجع‪ ،‬بل ش َّق در ّبه‪ُ ،‬مث َخن ًا بالجراح والسياط والبصق وال ُهزء والإنكار‪ ،‬إلى الضفة‬
‫الأخرى ‪ -‬إلى الصليب والكفارة‪ ،‬ومات مؤمن ًا ك َّل الإيمان بالله الذي بدا وكأ ّنه قد‬
‫تخ ّلى عنه ‪ -‬إلهي‪ ،‬إلهي‪ ،‬لماذا تركتني؟! لذلك ُأ ْع ِط َي ا ْسم ًا َف ْو َق ُك ِّل ا ْس ٍم‪ِ ،‬ل َك ْي‬
‫َت ْج ُث َو ِبا ْس ِم َي ُسو َع ُك ُّل ُر ْك َب ٍة ِم َّم ْن ِفي ال َّس َما ِء َو َم ْن َع َلى ال َأ ْر ِض َو َم ْن َت ْح َت ال َأ ْر ِض‪،‬‬

‫َو َي ْع َت ِر َف ُك ُّل ِل َسا ٍن َأ َّن َي ُسو َع ا ْل َم ِسي َح ُه َو َر ٌّب ِل َم ْج ِد الل ِه الآ ِب (في ‪.)11-9 :2‬‬

‫أنا لا أفهم حيا َتنا هذه ك َّل الفهم‪ ،‬لكنني لا أفهم مط َلق ًا كيف ‪ -‬بصفراوية ‪-‬‬
‫ُيط ِّوح بع ُض أهل الإيمان إيما َنهم عند أ ّي اضطراب أو بل ّي ٍة أو حز ٍن!! قولوا لي‪ ،‬باسم‬
‫يسوع‪ ،‬نط ّوح إيماننا ‪ ...‬لماذا؟ ألا يكفي ما فقدناه حتى نفقد إيما َننا أيض ًا!! إذا‬
‫كان المسيح هو الطريق والحق والحياة‪ ،‬ورجا ُء الأبد ّية التي وع َدنا بها حقيق ًة نصبو‬
‫إليها‪ ،‬فمن الطبيعي والواجب أن نتع ّلق به وبصليبه؛ أ ّما إذا كانت الحقيقة غي َر هذا‪،‬‬

‫ولا رجاء في حياتنا‪ ،‬فكم هي حالك ٌة َف ْح َم ُة الظلام!‬

‫في كلمة الله قو ٌل َمهي ٌب جد ًا ورصين‪َ " ،‬ن ْط ُل ُب َأ ْن ل َا َت ْق َب ُلوا ِن ْع َم َة الل ِه َبا ِطل ًا"‬
‫(‪2‬كو‪ .)1 :6‬أن يضطر المسيح لأن يموت بدل ًا منا‪ ،‬أن ُيغدق الل ُه ألطا َفه علينا بغن ًى‪،‬‬
‫أن نتجاهل هذا وندير له القفا‪ ،‬فهذا ق ّم ُة الشقاوة‪ .‬أ َوليس أمر ًا مؤسف ًا و ُمخ ِجل ًا‬
‫أن نقبل طري َق الحياة باطل ًا بعد الثمن الباهظ الذي دفعته السماء في شخص الابن‬

‫الأزلي؟ أنا أعلم أ ّن الحزن الشديد يزعزع الوعي‪ ،‬و ُيخ ِّد ُر الفؤاد فلا ي ُعد يشعر الإنسان‬
‫بيد الله‪.‬‬

‫َأ َل ْي َس في الليل‪ ،‬لا في النهار‪ ،‬تظهر النجو ُم واحدة تلو الأخرى‪ ،‬ومج ّر ٌة بعد‬
‫مج ّرة‪ ،‬فينبل ُج لعيون أذهاننا الـ ُم َتما ِحية ُش ُسو ُع هذا الكون المح ِّير‪ .‬ها في الظلام‬

‫‪34‬‬

‫مقالات من المكتب‬

‫يصير الإيما ُن أكب َر وأجرأ‪ ،‬ويزدا ُد َد َه ُشه يوم ًا بعد يوم‪ .‬قال ذلك الواعظ الشهير‪،‬‬
‫رجل الله روذرفورد‪" :‬إنما النعم ُة تنمو أفض َل ما يكون في الشتاء" (يقصد في‬
‫عواصف الحياة وأنوائها)‪.‬‬

‫لا ُأبالي بالظلا ْم‬ ‫في طريق الر ِّب أسري‬
‫وارتيا ٌح وسلا ْم‬ ‫فطري ُق الر ِّب نو ٌر‬
‫فيسو ُع لي رفي ْق‬ ‫أينما و ّجه ُت دربي‬
‫ك َّل خي ٍر في الطري ْق‬ ‫حين أدعو ُه ُيريني‬

‫الإيمان ينجح‪ ،‬ويك ِّمل ذاته ‪ -‬هذه حقيقة‪ ،‬وكذا أج َس ُر وعو ِده! تأكيدا ُت الإنجيل‬
‫العظيمة ليست فرض ّيا ٍت أو تخمينات‪ ،‬ولا وجود لكلمة "ر ّبما" في مفرداتها‪ .‬هذه‬
‫الحقائق الساطعة ورو ٌد قطفتها أي ٍد كأيادينا من بستان اختباراتها الحقيق ّية‪ .‬أ ّنى‬
‫للنبي أن يعرف يقين ًا أ ّنه َك ِإ ْن َسا ٍن ُت َع ِّزي ِه ُأ ُّم ُه ه َك َذا يع ّزي الر ُّب قلو َبنا المنسحقة‬
‫(إش‪)13 :66‬؟! بل كيف عرف النبي أن الر َّب‪ ،‬تعالى اس ُمه‪ ،‬يشفي أصحا َب القلوب‬
‫المنكسرة والنفوس المنسحقة؟ الجواب الأكيد هو لأنهم‪" ،‬في شديد الحز ِن والغ ِّم‬

‫المذيب‪ ،‬وسقا ِم الجس ِم والعجز المريب‪ ،‬وظلا ِم اليأس والهول المشيب‪ ،‬وليالي‬
‫الفقر واله ِّم الأليم‪ ،‬وزمان الضيق والخو ِف العظيم‪ ،‬واضطرا ِم ال ُبغ ِض وال َجور الذميم"‬
‫اختبروا حضو َر الله الحقيقي والشديد وعو َنه الأكيد ولَـ ْم َس َته العجيبة معهم‪ .‬عندما‬
‫نجد أنفسنا وقد ط ّوحتنا عوادي الأيام في أتو ٍن ُح ِّم َي سبع َة أضعاف‪ ،‬لن نكو َن وحدنا‬
‫أبد ًا‪ ،‬لأ ّن "شبي َه اب ِن الآلهة" (دا ‪ )25 :3‬سيكون برفقتنا‪ .‬إذا ز ّلت قد ُمنا فوق الصخور‬

‫الملساء في كبرياء الأرد ّن‪ ،‬س َت ِث ُب ي ٌد أمين ٌة قادرة و ُتن ِه ُضنا من جديد؛ قال الرب‬
‫يسوع‪" :‬ل َا َأ ْت ُر ُك ُك ْم َي َتا َمى‪ِ .‬إ ِّني آ ِتي ِإ َل ْي ُك ْم" (يو ‪ .)18 :14‬هو حاضر دائم ًا معنا‪َ " ،‬ها َأ َنا‬
‫َم َع ُك ْم ُك َّل ال َأ َّيا ِم ِإ َلى ا ْن ِق َضا ِء ال َّد ْه ِر" (مت‪ ،)20 :28‬ليع ّزينا و َي ِع َّزنا ويق ّوينا ويهدينا من‬
‫ساع ٍة إلى ساعة ومن يوم إلى يوم‪ .‬عندما هامت أفكار المر ِّنم قديم ًا في صلاح‬
‫الله ورأفته اختلج ِت الكلما ُت على لسانه‪َ " :‬ك َما َي َت َر َأ ُف ال َأ ُب َع َلى ا ْل َب ِني َن َي َت َر َأ ُف ال َّر ُّب‬

‫َع َلى َخا ِئ ِفي ِه" (مز‪.)13 :103‬‬

‫‪35‬‬

‫أتظن أنك تؤمن بالحياة بعد الموت ؟! اسأل الذين أودعوا بط َن الأرض حبيب ًا غالي ًا‪،‬‬
‫وسيخبرونك ماذا يعني الإيمان‪ .‬لطالما تف ّرس ُت بإعجا ٍب شديد في بولس أمام القبر‬
‫الرهيب‪ ،‬وقد ك َّور أصاب َع يده على شكل علامة استفهام‪ ،‬وهو يتح ّدى بعنفوان‬
‫وازدراء‪َ " ،‬أ ْي َن َش ْو َك ُت َك َيا َم ْو ُت؟ َأ ْي َن َغ َل َب ُت ِك َيا َها ِو َي ُة؟" (‪1‬كو‪ .)55 :15‬ك ٌّلنا نستطيع‬
‫أن نقول لبولس أين هي شوكة الموت؛ إنها الشعور بالافتقاد الذي لا يكبو ولا‬
‫يستكين‪ .‬إنها فكر ُة انحلا ِل أجسادنا إلى أديم الأرض التي نطأ بأقدامنا ‪ -‬عاجل ًا أم‬
‫آجل ًا‪ .‬لكنني أشكر الله أنني "أؤمن بشركة القديسين‪ ،‬وبمغفرة الخطايا‪ ،‬وبقيامة‬
‫الموتى‪ ،‬وبالحياة الأبد ّية"‪ُ .‬عرف الشاعر العبقري دانتي بشخص ّيته الف َّظة؛ نعم‪ ،‬بينما‬
‫كان يصعد ت ّل ًة قيل إنها تط ِّهر ك َّل من يصع ُدها‪ ،‬إذ بالأرض تهت ُّز تحت قدميه وتميد‪.‬‬
‫صرخ دانتي مذعور ًا‪" ،‬ما هذا؟" فابتسم الدليل‪ ،‬وقال‪" :‬نف ٌس سعيدة ف ّجرت القبر‬
‫وصعدت منتصرة نحو العلاء‪ ،‬وك ُّل سكان الجبل يس ّبحون الله من أجل هذا ‪ ...‬لذلك‬

‫اهت ّزت الت ّل ُة وتر ّنحت" (رواها هو)‪.‬‬
‫لا أعتقد أننا يجب أن نخاف من الحياة‪ .‬صحيح قلوبنا ضعيفة جد ًا‪ ،‬وأن بع َض دروب‬
‫الحياة شديد ُة الانحدار ووعرة‪ ،‬لك ّن إلهنا عظيم فلا يعوزنا شيء‪ ،‬في مرا ٍع خضر‬
‫يربضنا‪ ،‬وإلى مياه الراحة يوردنا؛ ير ّد أنفسنا‪ ،‬يهدينا إلى س ُبل البر ‪ ...‬من أجل اسمه‪.‬‬

‫هل انتبهتم؟ من أجل اسمه‪.‬‬
‫وكما صاغ بولس يقين ّياته‪ ،‬ل َا َم ْو َت َول َا َح َيا َة‪َ ،‬ول َا َمل َا ِئ َك َة َول َا ُر َؤ َسا َء َول َا ُق َّوا ِت‪،‬‬
‫َول َا ُأ ُمو َر َحا ِض َر ًة َول َا ُم ْس َت ْق َب َل ًة‪َ ،‬ول َا ُع ْل َو َول َا ُع ْم َق‪َ ،‬ول َا َخ ِلي َق َة ُأ ْخ َرى‪َ ،‬ت ْق ِد ُر َأ ْن َت ْف ِص َل َنا َع ْن‬

‫َم َح َّب ِة الل ِه ا َّل ِتي ِفي ا ْل َم ِسي ِح َي ُسو َع َر ِّب َنا (رومية ‪.)8‬‬

‫‪36‬‬

‫‪4‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫«العهد» في العهد القديم‬
‫من سفر الرؤيا‬

‫محتويات العدد‬

‫مواضيع لاهوتية في العهد القديم‬
‫الحلقة الرابعة‬

‫«العهد» في‬
‫العهد القديم‬

‫القس د‪ .‬هادي غنطوس*‬

‫مقدمة‬

‫"العهد" أو "الميثاق" هو‪ ،‬بالمبدأ‪ ،‬اتفاق بين طرفين‪ ،‬حيث َي ِع ُد أحدهما أو كلاهما‪،‬‬
‫تحت القسم‪ ،‬بالالتزام بتنفيذ أو الامتناع عن القيام بأمور معينة‪ .‬ومما لا شك فيه‬
‫بأن مفهوم العهد هو أحد أهم المفاهيم اللاهوتية في الكتاب المقدس بعهديه‪،‬‬
‫القديم والجديد‪ ،‬واللذين ندعو كل منهما بـ"عهد"‪ .‬فالعلاقة بين الله والإنسان في‬
‫كلا العهدين هي علاقة عهد‪ ،‬ومفهوم "العهد" هو صورة أساسية تستخدم في‬

‫وصف العلاقة بين الله وشعبه‪.‬‬

‫التعبير العبري الأهم الذي يرد في العهد القديم بمعنى "عهد" هو " ُبريط"‬
‫ويظهر ‪ 286‬مرة في العهد القديم‪ .‬لكن أي ًضا يتضمن العهد القديم العديد من‬
‫التعابير الأخرى التي تشير إلى العهد وإلى علاقة العهد دون استعمال تعبير‬
‫العهد ( ُبريط) نفسه‪ ،‬حيث يتضمن العهد القديم تعابير عديدة تشير إلى العهد أو‬

‫إلى العلاقة التي يؤسسها العهد‪ ،‬بما في ذلك الالتزام بالعهد أو كسره‪.‬‬

‫ويحمل تعبير " ُبريط" في اللغة العبرية‪ ،‬وكما هو الحال مع تعبير "عهد" في‬
‫اللغة العربية‪ ،‬أكثر من معنى‪ ،‬ويترجم بأكثر من تعبير باللغات المرتبطة باللاتينية‪.‬‬

‫دكتور‬ ‫منيارة‪،‬‬ ‫في‬ ‫الوطن ّية‬ ‫الإنجيل ّية‬ ‫الكنيسة‬ ‫راعي‬ ‫والروح ّية‪،‬‬ ‫فليجناةلعاهلدشالؤقودنيمالكنس ّية‬ ‫*أمين سر‬
‫متخصص‬

‫‪38‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫فـ" ُبريط" (ومثله "عهد") يترجم كـ "‪ ،"covenant‬والتي تعطي معنى معاهدة أو‬
‫ميثاق متبادل‪ ،‬وكـ "‪ ،"testament‬وهو التعبير المستخدم لجزأي الكتاب المقدس‪،‬‬
‫العهد القديم "‪ "Old Testament‬والعهد الجديد "‪ ،"New Testament‬ويشير إلى‬

‫مبادرة نعمة يتخذها الله بملء حريته‪.‬‬

‫وإذا كان تعبير " ُبريط" يترجم بمعنى "عهد"‪ ،‬فمن الصعب تحديد المعنى الدقيق‬
‫له‪ .‬ولك ّن الاحتمالات الأكبر لمصدر الكلمة هي‪ )1( :‬إما الفعل العبري "بارا"‪ ،‬والذي‬
‫يعني "أكل خبز مع"؛ أو (‪ )2‬الاسم الآكادي " ِبريطو"‪ ،‬والذي يعني "السلسة التي تربط‬

‫على كاحل السجين"؛ أو (‪ )3‬الضمير الآكادي " ِبريط"‪ ،‬والذي يعني "بين"‪.‬‬

‫في كل الأحوال‪ ،‬تعبير " ُبريط"‪ ،‬وكما تشير جميع التعابير المكافئة والمشابهة‬
‫له في الشرق الأدنى القديم‪ ،‬لا يعني مجرد اتفاق‪ ،‬ولكنه يعني التزام أو تع ّهد‪.‬‬
‫فالتعبير السومري "إنيم كا ِكش" والتعبير الآكادي "ريكسو" والتعبير الحثي "إشحيول"‬

‫والتعبير العربي "عقد" جميعها تحمل معنى الارتباط بتع ّهد أو قسم‪.‬‬

‫"العهد" في الشرق الأدنى القديم‬

‫المفهوم الديني للعهد كارتباط بين الإنسان والإله يعود إلى الألف الثالث قبل‬
‫الميلاد في الشرق الأدنى القديم‪ ،‬كما في حالة العهد بين المك "أورو‪-‬إنيمغا" ملك‬
‫لاغاش في شمال الرافدين وإلهه "نينغيرسو"‪ .‬ويظهر تعبير " ُبريط" مرتبط ًا باسم‬
‫الإله "إيل" في مخطوطات أوغاريت التي تعود إلى القرنين ‪ 14-13‬ق‪.‬م‪ ،‬ولكن في‬

‫سياق وجود إيل كشاهد على المعاهدة وليس كمشارك فيها‪.‬‬

‫ولكن المفهوم الأهم للعهد في الشرق الأدنى القديم يعود إلى سياق‬
‫المعاهدات المختلفة التي كانت تتم بين الممالك والأفراد‪ ،‬والتي كانت تشكل إحدى‬
‫أهم أسس مجتمعات الشرق الأدنى القديم‪ .‬فلحوالي ثلاثة آلاف سنة‪ ،‬كان الناس‬
‫في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم يجرون "عهو ًدا" و"معاهدات" تمت ّد من الزواج‬
‫إلى العلاقات الدولية‪ ،‬ولقد عثرنا على عدد كبير من تلك "العهود" و"المعاهدات"‪،‬‬
‫بحيث أن فكرة العقود ولغة المعاهدات وتعابيرها كانت تشكل بع ًدا أساس ًيا في‬

‫‪39‬‬

‫المجتمع وبنيته في الشرق الأدنى القديم‪.‬‬

‫و ُت َش ّكل تلك العهود والمعاهدات الدينية والمعاهدات والاتفاقات السياسية‬

‫والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة في الشرق الأدنى القديم وما يرتبط‬
‫بها‪ ،‬وبالتحديد "معاهدات الخضوع" بين الملوك‪ ،‬والتي عثرنا على عدد كبير منها‪،‬‬

‫الخلفية التي يجب أن نفهم على أساسها مفهوم "العهد" في العهد القديم‪.‬‬

‫ومن الملفت للنظر أن تعبير " ُبريط" نفسه يظهر بمعنى سياسي في معاهدة‬
‫خضوع في السجلات المصرية الخاصة بالملك رمسيس الثالث في الجزء الخاص‬
‫بالليبيين المهزومين (حوالي سنة ‪ 1170‬ق‪.‬م)؛ في إشارة واضحة إلى أن استعارة‬
‫هذا التعبير من كنعان وتحوله إلى تعبير شائع في هذا النوع من المعاهدات في‬

‫ذلك الوقت‪ ،‬بعد أن كان في الفترة التي تسبق ذلك يستخدم بشكل متكرر في نوع‬
‫خاص من الاتفاقات من النوع الاقتصادي أو الاجتماعي‪.‬‬

‫ومن المهم أن نشير هنا إلى أن تلك المعاهدات المختلفة السياسية والاقتصادية‬

‫والاجتماعية‪ ،‬وبالتالي العهود التي تشير إليها تتضمن عدة أبعاد نرى انعكا ًسا لها‬
‫في "عهود" العهد القديم‪ ،‬من أهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬مقدمة تعطي أسماء وألقاب الأطراف المتعاهدة‪ ،‬والتي غالب ًا‪ ،‬وإن يكن‬
‫ليس دائم ًا‪ ،‬غير متكافئين‪.‬‬

‫‪ .2‬حدث أو أحداث "تاريخية" تضع الأرضية للعلاقة السابقة بين الطرفين‪.‬‬
‫‪ .3‬تحديد سبب الحاجة إلى علاقة جديدة أو نوع جديد من العلاقة لم يكن‬

‫موجود بين الطرفين‪ ،‬مع تحديد ممارسات وإلتزامات معينة للمستقبل‪.‬‬
‫‪ . 4‬لائحة بشهود "إلهيين"‪.‬‬
‫‪ . 5‬إعلان بركات ولعنات‪.‬‬

‫وتترافق تلك المعاهدات عادة بما يلي‪:‬‬
‫‪ . 6‬عادات وممارسات ومفاهيم اجتماعية ودينية متشابهة بين الطرفين‪.‬‬

‫‪ . 7‬صيغ محددة لتسجيل المعاهدات‪.‬‬
‫‪ .8‬ودائ ًما تقري ًبا ما يترافق ذلك مع طقوس محددة لإعلان وتثبيت المعاهدة‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬
‫وتتميز تلك "العهود" بأنها عادة ما تكون مشروطة‪ ،‬حيث تتضمن شرو ًطا‬

‫لاستمرارها وتعهدات على الطرفين الالتزام بها‪.‬‬
‫ورغم عثورنا في ذلك السياق على عدة معاهدات بين ملوك متكافئين‪ ،‬كما‬
‫في معاهدة السلام في قادش (الصورة ‪ 1‬و‪ .)2‬وتلك المعاهدة‪ ،‬التي تعرف بأقدم‬
‫معاهدة سلام معروفة في التاريخ‪ ،‬وهي المعاهدة التي قام بإبرامها "رمسيس‬
‫الثاني" ملك مصر مع الملك الحثي "موواتاليس" بعد معركتهما الشهيرة في قادش‬
‫قرب نهر العاصي‪ ،‬جنوب حمص اليوم‪ ،‬في سنة ‪ 1275‬ق‪.‬م‪ ،‬هي نموذج مثالي‬
‫للمعاهدات بين مملكتين متكافئتين في الشرق الأدنى القديم‪ ،‬حيث يقف كلا‬
‫الملكين على قدم المساواة مع بعضهما البعض في تعهداتهما والتزاماتهما‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فليس من المفاجئ العثور على نسختين مختلفتين لها‪ ،‬نسخة مصرية‬

‫باللغة الهيروغليفية‪ ،‬ونسخة حثية باللغة الآكادية المسمارية‪.‬‬

‫الصورة ‪ :1‬معاهدة سلام قادش ‪ -‬النسخة المصرية الصورة ‪ :2‬معاهدة سلام قادش ‪ -‬النسخة الحثية‬

‫‪41‬‬

‫لكن الشكل الأكثر شيو ًعا للمعاهدات الذي تم العثور عليه في الشرق الأدنى‬
‫القديم هو من نوع "معاهدات الخضوع"‪ .‬وهذا النوع من المعاهدات‪ ،‬والذي هو‬
‫الأكثر تأثير ًا في "عهود" العهد القديم‪ ،‬كان يتم بين ملك مسيطر وملوك خاضعين‬
‫له‪ ،‬بحيث يتعهد الملك الخاضع بطاعة الملك المسيطر والخضوع لسلطانه والولاء‬
‫له ودفع الجزية له والمحاربة إلى جانبه‪ ،‬في مقابل تعهد الملك المسيطر بـ"حماية"‬
‫الملك الخاضع له وتثبيت ملكه‪ .‬وتتبنى تلك المعاهدات صي ًغا َت َك ُّرم الملك المسيطر‬
‫بعلاقة "نعمة" ورعاية وحماية على الملوك الخاضعين له‪ ،‬مقابل تعهدهم بالخضوع‬

‫له وحده واعترافهم والتزامهم بسلطانه عليهم وتقديم الطاعة له‪.‬‬
‫وتسجل "معاهدات الخضوع" البركات التي يحصل عليها الملك الخاضع نتيجة‬
‫لالتزامه بالمعاهدة‪ .‬كما تعلن تلك المعاهدات خضوع الملوك الخاضعين لعقاب‬
‫الملك المسيطر كما وللعنة الآلهة في حال كسرهم لتعهداتهم‪ ،‬وتسجل اللعنات‬
‫والعقوبات التي تنتج عن كسر الملك الخاضع للمعاهدة‪ .‬حيث كان كسر أي بند من‬
‫بنود المعاهدة يعتبر بمثابة الخيانة التي يعاقب عليها الملوك الخاضعين بشدة‪،‬‬
‫فيتم غزو ممالكهم وانهاء ملكهم واستبدالهم بملوك آخرين يخضعون لبنود‬

‫الاتفاق المفروض وفرض جزية كبيرة عليهم‪.‬‬
‫وكما ذكرنا أعلاه‪ ،‬عادة ما كان تثبيت تلك المعاهدات يترافق بطقوس وممارسات‬
‫ذات طابع ديني‪ .‬ويشكل ذلك النوع من المعاهدات الخلفية التي نستطيع أن نفهم‬
‫"عهود" العهد القديم على أساسها وفي ضوئها (الصورة ‪ ،9 ،8 ،7 ،6 ،5 ،4 ،3‬و‪.)10‬‬

‫‪42‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫الصورة ‪« :4‬معاهدة حلب»بين الملك الحثي‬ ‫الصورة ‪ :3‬المعاهدة بين الملك الحثي «توذحاليا‬
‫«مورسيلي الثاني» و»تالمي‪-‬شاروما»‪ ،‬ملك حلب‪،‬‬ ‫الرابع» (‪ 1260-1240‬ق‪.‬م) و»كورونتا»‪ ،‬ملك‬

‫والتي يعلن فيها الملك الحثي عقابه لمملكة‬ ‫تارحونتاشا (في آسيا الصغرى)‪ ،‬والتي تمثل‬
‫نموذج ًا لـ»معاهدات الخضوع»‪ ،‬حيث يعلن كورونتا‬
‫حلب وتوزيع أراضيها على ممالك أخرى معادية‬
‫لها‪ ،‬وذلك بسبب معارضتها ومحاربتها له (حوالي‬ ‫ولائه الكامل لتوذحاليا‪ ،‬الذي يبارك كورونتا بتثبيت‬

‫سنة ‪ 1300‬ق‪.‬م)‪.‬‬ ‫ملكه‪ ،‬مع ختم المعاهدة بختم الإلهة‪-‬الشمس‬
‫والإله‪-‬العاصفة‪.‬‬

‫‪ :6‬رسالة من «ويديا»‪ ،‬حاكم أشقلون‪ ،‬يعلم‬ ‫الصورة ‪ :5‬رسالة من «لابايو»‪ ،‬ملك شكيم‪،‬‬
‫الفرعون بأنه يتمم واجباته بحسب المعاهدة‬ ‫يبرر فيها تصرفه العنيف بأنه كان فقط لضبط‬
‫بينهما من خلال حماية مدنه ودفع «الضرائب»‬ ‫الاضطرابات ضمن مدينته وليس تمرد ًا على سلطة‬

‫المتوجبة عليه‬ ‫مصرالصورة‬

‫‪43‬‬

‫الصورة ‪ :8‬رسالة من «أزيرو»‪ ،‬ملك أمورو (لبنان‬ ‫الصورة ‪ :7‬رسالة من «سوارداتا»‪ ،‬ملك حبرون‪،‬‬
‫اليوم)‪ ،‬إلى الفرعون وهي واحدة من ‪ 13‬مراسلة‬ ‫يطالب فيها أخناتون‪ ،‬كالملك الحامي له‪ ،‬بالتدخل‬
‫متبادلة بين أزيرو وأخناتون‪ .‬ويبرر أزيرو في هذه‬
‫سريع ًا لنجدته‬
‫الرسالة تصرفاته مؤكد ًا ولائه للفرعون‬

‫الصور ‪ :8 ،7 ،6 ،5‬مجموعة من رسائل (مخطوطات) تل العمارنة‪ ،‬موجهة إلى الفرعون أخناتون (‪1353-‬‬

‫‪ 1336‬ق‪.‬م) من قبل ملوك خاضعين له‪.‬‬

‫الصورة ‪ :10‬القسم الخاص بياهو ملك إسرائيل في المسلة‬ ‫الصورة ‪ :9‬المسلة السوداء للملك‬
‫السوداء حيث يظهر ياهو وهو يجثو أمام شلمناصر الثالث‪،‬‬
‫الآشوري شلمناصر الثالث (‪859-‬‬
‫في حين يسجل الشرح الموجود فوقها أن شلمناصر الثالث قد‬
‫‪ 824‬ق‪ .‬م)‪.‬‬
‫حصل من ياهو على فضة وذهب وصولجان ملكي‪ ،‬في إشارة‬
‫واضحة إلى خضوع ياهو لسلطان شلمناصر‪ ،‬وإلى «عهد» الملك‬

‫المسيطر‪-‬الملك الخاضع الذي يجمعهما‬

‫‪44‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫ويتضمن العهد القديم عدة أمثلة لـعهود من نمط "معاهدات خضوع" بين الملوك‬
‫وعقوبة كسرها في كتاب الملوك وكتاب أخبار الأيام (‪ 1‬مل ‪28-25 :14‬؛ ‪21-18 :15‬؛ ‪:20‬‬
‫‪4-1‬؛ ‪ 2‬مل ‪18-17 :12‬؛ ‪ .)16-13 :18‬فمثل ًا‪ 1 ،‬مل ‪4-1 :22‬؛ ‪ 2‬مل ‪ ،7-4 :3‬واللذان يقدمان‬
‫ملك يهوذا يعلن ولائه والتزامه بمرافقة ملك إسرائيل إلى الحرب‪ ،‬يمثلان نصين‬
‫نموذجيين للعلاقة بين ملك خاضع ملك مسيطر في عهد خضوع في الشرق الأدنى‬
‫القديم‪ .‬ففي كلا النصين‪ ،‬ملك إسرائيل يطالب ملك يهوذا بمرافقته؛ وكلا النصين‬
‫يستخدمان تعابير تفترض وجود معاهدة بين الطرفين‪ ،‬تمثل فيها يهوذا الطرف‬
‫الخاضع‪ ،‬كما تظهر المقارنة مع نصوص مشابهة في المعاهدات في الشرق الأدنى‬
‫القديم‪ .‬كما هو الحال مثل ًا في إعلان الملك نيقمادو للملك الحثي شوبيلوليوما‪،‬‬
‫"مع أعداء سيدي‪ ،‬أنا عدو‪ ،‬ومع حلفائه‪ ،‬أنا حليف"‪ .‬ولكن التأثير الأهم لـ"معاهدات‬

‫الخضوع" في العهد القديم هو على مفهوم "العهد" بين الله وشعبه‪.‬‬

‫"عهود" العهد القديم‬
‫كما ذكرنا أعلاه‪ ،‬مفهوم "العهد" هو أحد أهم المفاهيم اللاهوتية للعهد‬
‫القديم‪ ،‬حيث العلاقة بين الله والإنسان هي علاقة عهد يقيمه الله مع الإنسان‪،‬‬
‫وحيث يرد تعبير " ُبريط"‪ ،‬كما ذكرنا أعلاه‪ 286 ،‬مرة بالإضافة إلى تعابير أخرى مرتبطة‬

‫بمفهوم العهد في العهد القديم‪.‬‬
‫وإذا كانت آلهة شعوب الشرق الأدنى القديم تلعب دو ًرا أساس ًيا في العهود‬
‫والمعاهدات المختلفة‪ ،‬فإن دورها ذاك كان ُيح َصر بكونها شاهدة عليها‪ ،‬وليس‬
‫طر ًفا فيها‪ .‬وهذا ما يمثل التغيير الراديكالي الذي يصنعه العهد القديم‪ ،‬حيث يأخذ‬
‫الله دو ًرا كان حك ًرا على البشر في المعاهدات ويصبح شخصي ًا طر ًفا في العهد‪.‬‬
‫فعلى العكس من العهود التي كانت موجودة في الشرق الأدنى القديم‪" ،‬العهد"‬
‫في العهد القديم هو ليس عه ًدا يشهد عليه الله‪ ،‬ولكنه عهد يقيمه الله مع‬

‫الإنسان ويلعب فيه الله أحد طرفي العهد‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫فعلى طول صفحات العهد القديم‪ ،‬تعبير "كارات ُبريط"‪" ،‬قطع عه ًدا"‪ ،‬يستخدم‬
‫بشكل متكرر في إطار عهد يقيمه الله مع شعبه (تك ‪18 :15‬؛ خر ‪8 :24‬؛ تث ‪23 :4‬؛‬
‫‪2 :5‬؛ ‪ 2‬مل ‪15 :17‬؛ إر ‪10 :11‬؛ حز ‪ .)25 :34‬كما ويستخدم العهد القديم أي ًضا تعابير‬
‫أخرى تشدد على أخذ الله للمبادرة في إقامة العهد‪ ،‬كالفعل "هقيم (أقام‪/‬أقيم)"‬
‫(تك ‪18 :6‬؛ ‪11 :9‬؛ ‪ ،)...7 :17‬والفعل "ناثان (أعطى‪ ،‬وضع‪ ،‬جعل)" (تك ‪12 :9‬؛ ‪2 :17‬؛ عد‬

‫‪ ،)...12 :25‬والفعل "أمر" (يش ‪11 :7‬؛ ‪16 :23‬؛ ‪ 1‬مل ‪.)...11 :11‬‬

‫ويؤكد العهد القديم مرا ًرا على الطبيعة المتميزة لكل من الله واسرائيل نتيجة‬
‫للعهد بينهما‪ ،‬كما في تثنية ‪:34-32 :4‬‬

‫"‪َ 32‬فا ْس َأ ْل َع ِن ال َأ َّيا ِم ال ُأو َلى ا َّل ِتي َكا َن ْت َق ْب َل َك‪ِ ،‬م َن ا ْل َي ْو ِم ا َّل ِذي َخ َل َق الل ُه ِفي ِه‬
‫ال ِإ ْن َسا َن َع َلى ال َأ ْر ِض‪َ ،‬و ِم ْن َأ ْق َصا ِء ال َّس َما ِء ِإ َلى َأ ْق َصا ِئ َها‪َ .‬ه ْل َج َرى ِم ْث ُل ه َذا ال َأ ْم ِر‬
‫ا ْل َع ِظي ِم‪َ ،‬أ ْو َه ْل ُس ِم َع َن ِظي ُر ُه؟‪َ ...‬ه ْل َش َر َع الل ُه َأ ْن َي ْأ ِت َي َو َي ْأ ُخ َذ ِل َن ْف ِس ِه َش ْع ًبا ِم ْن َو َس ِط‬
‫َش ْع ٍب‪ِ ،‬ب َت َجا ِر َب َوآ َيا ٍت َو َع َجا ِئ َب َو َح ْر ٍب َو َي ٍد َش ِدي َد ٍة َو ِذ َرا ٍع َر ِفي َع ٍة َو َم َخا ِو َف َع ِظي َم ٍة‪ِ ،‬م ْث َل‬

‫ُك ِّل َما َف َع َل َل ُك ُم ال َّر ُّب ِإل ُه ُك ْم ِفي ِم ْص َر َأ َما َم َأ ْع ُي ِن ُك ْم؟"‬

‫هذا التعديل الجوهري‪ ،‬أو الدور الجديد لله‪ ،‬في العهد القديم يرسم هوية‬
‫علاقاتية لطرفي العهد‪ ،‬الله والإنسان‪ .‬فهو ينقل الله من بعد المسيطر العشوائي‬
‫ويضعه ضمن حدود علاقة محددة مع الإنسان‪ ،‬كما ويحدد حياة الإنسان ضمن نظام‬

‫علاقة محددة مع الله‪.‬‬

‫وإعلان "تكونون شع ًبا لي‪ ،‬وأنا أكون لكم إل ًها" هو إعلان يتكرر بشكل كبير في‬
‫العهد القديم‪ ،‬وبشكل يأخذ فيه شكل "القرار" للعهد بين الله وشعبه (تك ‪7 :17‬؛‬
‫خر ‪7 :6‬؛ ‪45 :29‬؛ لا ‪12 :26‬؛ عدد ‪41 :15‬؛ تث ‪6 :7‬؛ ‪2 :14‬؛ ‪13-12 :29‬؛ ‪ 2‬صم ‪24 :7‬؛ ‪ 1‬كو‬

‫‪22 :17‬؛ إر ‪.)...23 :7‬‬

‫لكن من المهم أن ندرك بأن العهد القديم لا يشير إلى عهد واحد‪ ،‬ولكن إلى‬
‫عدة "عهود" بين الله والإنسان‪ .‬ودعونا نشير هنا إلى أن تلك هي النظرة الذي‬

‫‪46‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫يتبناها العهد الجديد في تعامله مع العهد القديم‪ ،‬حيث يشير بولس في رو‬
‫‪ ،4 :9‬إلى "العهود" مع إسرائيل‪ ،‬وفي غل ‪ 31-21 :4‬إلى "عهدين" يتمثلان بهاجر‬
‫وسارة وابنيهما اسماعيل واسحاق‪ .‬ويشير الباحثون إلى العهود التالية في العهد‬

‫القديم‪:‬‬

‫العهد مع نوح (تك ‪)17-8 :9‬‬ ‫‪. 1‬‬
‫العهد مع ابراهيم (تك ‪3-1 :12‬؛ ‪21-1 :15‬؛ ‪14-3 :17‬؛ ‪)19-14 :22‬‬ ‫‪ .2‬‬
‫العهد مع موسى (العهد في سيناء) (خر ‪19-24‬؛ عد ‪13-10 :25‬؛ تث ‪)٣٠-27‬‬ ‫‪ .3‬‬
‫‪. 4‬‬
‫العهد مع داود (‪ 2‬صم ‪)16-8 :7‬‬ ‫‪. 5‬‬
‫العهد الجديد (إر ‪)40-27 :31‬‬ ‫‪. 6‬‬

‫عهود أخرى (‪ 1‬صم ‪35 :2‬؛ حز ‪15-10 :44‬؛ مل ‪)4 :2‬‬

‫وإدراك وجود عدة "عهود" في العهد القديم يسمح لنا بالإجابة على السؤال‬
‫الذي يختلف حوله الباحثون والمؤمنون حول ما إذا كان "العهد" في العهد القديم‬
‫أحادي الجانب‪ ،‬يرتبط بالله وحده‪ ،‬أم ثنائي الجانب‪ ،‬يدخل فيه الله والإنسان في‬
‫اتفاق متبادل‪ .‬وجواب ذلك السؤال ببساطة هو كلا الأمرين م ًعا‪ .‬فالعهد "ال ُبريط"‬
‫الذي يقطعه الله مع الآباء ومع داود يأخذ شكل التزام من طرف واحد هو الله‪،‬‬

‫الذي لا يطالب الإنسان بالتعهد‪ ،‬ولكنه هو من يأخذ التعهد على نفسه بأن ينفذ أو‬
‫يحقق شيئا ما‪ ،‬ويثبت هذا التعهد بقسم‪ .‬في حين أن العهد "ال ُبريط" في سيناء‬
‫يحدد التزامات الشعب بحسب العهد ويجعل ذلك الالتزام شرط ًا لاستمرار العهد‬
‫ونجاحه‪ .‬وسنقوم فيما يلي بالقاء نظرة سريعة على بعض "عهود" العهد القديم‪،‬‬

‫مبتدئين بالعهد الأشهر‪ ،‬العهد في سيناء‪.‬‬

‫العهد في سيناء‬ ‫‪ .1‬‬

‫لا شك بأن العهد الذي يقيمه الله مع شعبه في سيناء هو العهد الأشهر بين‬
‫جميع "عهود" العهد القديم‪ .‬لا بل وكثي ًرا ما يشكل العهد في سيناء العهد الوحيد‬
‫الذي يتعامل معه المؤمنون عند تعاملهم مع مفهوم العهد في العهد القديم‪،‬‬

‫حين يشيرون إلى العهد القديم كعهد شرطي في مقابل نعمة العهد الجديد‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫وإن حصر "العهد" في العهد القديم بالعهد في سيناء قد يكون أم ًرا مفهو ًما‪،‬‬
‫بما أن التقاليد المرتبطة بسيناء والشريعة (خر ‪1– :19‬عد ‪10 :10‬؛ سفر التثنية) تشكل‬
‫حوالي ‪ %70‬من نص التوراة‪ ،‬التي تشكل قلب العهد القديم‪ ،‬ولكنه أمر يتنافى‬

‫وطبيعة العهد القديم ويهمل أبعاد ًا هامة لمفهوم العهد في العهد القديم‪.‬‬

‫في نفس الوقت‪ ،‬فإن فهم العهد في سيناء كعهد شرطي هو فهم صحيح‬

‫إلى حد كبير‪ ،‬بما أن العهد في سيناء يأخذ شكل المعاهدات بين الملوك في‬

‫الشرق الأدنى القديم‪ ،‬حيث يأخذ الرب شكل الملك المسيطر‪ ،‬والشعب شكل الملوك‬
‫الخاضعين له‪ .‬حيث أن العهد فيها يتضمن النقاط التالية‪( :‬أ) عنوان؛ (ب) تمهيد‬
‫تاريخي؛ (ج) وصايا أساسية مع قوانين مفصلة؛ (د) تسليم النص وقراءته للشعب؛‬
‫(هـ) الشهود وتثبيت العهد وتأكيده (خر ‪8-3 :24‬؛ يش ‪)27-22 :24‬؛ (و) البركات‬

‫واللعنات (لا ‪26‬؛ تث ‪)28‬؛ (ز) خاتمة‪.‬‬

‫وبالتالي‪ ،‬فالعهد في سيناء يأخذ شكل المعاهدات في الشرق الأدنى القديم‬
‫(انظر بنية المعاهدات في الشرق الأدنى أعلاه)‪ .‬كما أن ذلك التشابه يمتد ليشمل‬
‫الصيغ المختلفة التي يستخدمها العهد في سيناء‪ .‬كما هو الحال مثل ًا في التشابه‬
‫بين اللعنات في تث ‪ 68-15 :28‬واللعنات التي تتضمنها المعاهدات الآشورية‪ .‬وكما‬
‫هو الحال مثل ًا في افتتاحية العهد في خروج ‪ 20‬وافتتاحيات معاهدات الخضوع في‬

‫الشرق الأدنى القديم‪.‬‬

‫معاهدة الملك الحثي ُمرسيلي الثاني مع‬ ‫خروج ‪20‬‬
‫نيقميبا ملك أوغاريت‬

‫‪« -‬هذا ما يقوله الشمس‪ ،‬الملك العظيم‪،‬‬ ‫‪« -‬ثم تكلم الله بحميع هذه الكلمات‪ ،‬قائل ًا» (آ ‪)1‬‬
‫ُمرسيلي‪ ،‬ملك أرض حث»‬
‫‪« -‬أنا الرب ألهك الذي أخرجك من أرض مصر‪ ،‬من‬
‫‪« -‬بالنسبة لك يا نيقميبا‪ ،‬فقد صالحتك مع‬ ‫بيت العبودية» (آ ‪)2‬‬
‫أقرانك‪ ،‬وسعيت لتثبيتك كملك على عرش أبيك‪،‬‬

‫وبالتالي‪ ،‬فأنت وشعبك أصبحتم عبيد ًا لي»‬

‫افتتاحية العهد في سيناء وافتتاحية المعاهدات في الشرق الأدنى القديم‬

‫‪48‬‬

‫درسالكتابالمق ّدس‬

‫ونحن نجد في سفر التثنية الكثير من اللوائح التي تحمل مختلف التعليمات‬
‫والواجبات التي يجب أن يحفظها شعب الله بشدة ليرضوا الله ويتجنبوا نار غضبه‬
‫الحارقة‪ .‬ويمثل العهد التثنوي (تث ‪ )٣٠–27‬مثال ًا واض ًحا لذلك الفهم لعلاقة العهد‬
‫المشروط بين الله وشعبه‪ ،‬والذي يتعهد فيه الشعب بالخضوع لله وطاعته في حين‬

‫يتعهد الله بحماية إسرائيل وازدهارها‪.‬‬

‫وفي ذلك السياق‪ ،‬كثي ًرا ما تشير الأسفار النبوية إلى العهد في سيناء لتبرير‬
‫الدمار الذي أصاب إسرائيل‪ ،‬بسبب كسرها لـ"تعهداتها" في ذلك العهد‪ ،‬الذي تأخذ‬
‫فيه صورة الملك الخاضع‪ ،‬مقابل التزام الرب بما تعهد به‪ ،‬وهو يأخذ صورة "الملك‬
‫المسيطر"؛ الأمر الذي جلب على إسرائيل "لعنات" عدم الالتزام بالعهد‪ ،‬وتسبب‬

‫بالتالي في كسر وعد الرب لداود‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬هذا الفهم للعهد في سيناء يفشل في فهم الغنى‬
‫والتنوع الكبيرين للعهد في سيناء‪ .‬فالعهد القديم يقدم‪ ،‬كما رأينا في استعراضنا‬
‫لبنية العهد أعلاه‪ ،‬ثلاث نسخ‪ ،‬وليس نسخة واخدة فقط للعهد في سيناء‪)1( :‬‬

‫خروج–لاويين؛ (‪ )2‬تثنية؛ و(‪ )3‬يشوع ‪.24‬‬
‫كما العهد في سيناء يعطي أهمية كبرى لمركزية "المحبة" في العهد‪ .‬فبحسب‬
‫تثنية ‪ ،19-12 :10‬المحبة هي منطلق العهد والتجاوب المناسب معه؛ محبة الله هي‬
‫مصدر العهد (تث ‪ ،)15 :10‬وإسرائيل مدعوة لتتجاوب مع العهد بمحبة الله فوق كل‬
‫شيء (‪ )12 :10‬ومحبة الغريب (‪ .)19 :10‬ولذلك الوصية الذهبية التي يتلخص فيها كل‬
‫الناموس (التوراة) والأنبياء هي المحبة (مت ‪ ،)40 :22‬محبة الله (تث ‪ ،)5-4 :6‬ومحبة‬

‫القريب (والغريب) (لا ‪.)34 ،18 :19‬‬

‫كما أن البركات واللعنات المرتبطة بالعهد في سيناء والمقدمة في نهاية‬
‫سفر التثنية ترتبط ارتبا ًطا وثي ًقا بمكانة وصورة إسرائيل بين الأمم‪ ،‬ومنحها الرفعة‬
‫والشرف أو المذلة والعار بين الأمم‪ ،‬اعتما ًدا على التزامها أو عدم التزامها بوصايا‬
‫الرب‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬البركات واللعنات هنا ترتبط بـ"صورة" شعب الله وشهادته بين‬

‫‪49‬‬

‫الأمم‪ ،‬اعتماد ًا على مدى التزامه بعلاقته بالله‪ ،‬حيث أن العهد في سيناء يؤكد أن‬
‫الشعب مدعو‪ ،‬نتيجة للعهد الذي يقيمه الله معه‪ ،‬ليكون شع ًبا مقد ًسا (تث ‪)6 :7‬‬

‫وشع ًبا حكي ًما وفطن ًا أمام أعين كل الأمم (تث ‪ ،)6 :4‬وليطلب العدالة (تث ‪.)20 :16‬‬

‫بالإضافة إلى ذلك‪ ،‬فالسبت‪ ،‬أي الراحة والتمتع بملء الحياة‪ ،‬هو الهدف النهائي‬
‫للعهد (خر ‪ ،)17-16 :31‬كما كان هو قمة الخليقة (تك ‪.)3-1 :2‬‬

‫وبالتالي‪ ،‬فالعهد في سيناء‪ ،‬هو عهد يتبع نموذج "معاهدات الخضوع" في‬
‫الشرق الأدنى القديم‪ ،‬وبالتالي فهو عهد "شرطي"‪ .‬لكن حتى هذا العهد الشرطي‬
‫هو أيض ًا عهد نعمة يضع المحبة والشهادة في قلب علاقة الله بشعبه‪ .‬في نفس‬
‫الوقت‪ ،‬يتضمن العهد القديم عهود ًا أخرى‪ ،‬هي في مجملها عهود نعمة صارخة‪.‬‬

‫‪ . 2‬العهد مع نوح‬
‫تنتهي قصة طوفان نوح (تك ‪ )٩–6‬بإعلان الله لعهده "البوريط" الأول مع الخليقة‬
‫وبإعطائه لعلامة ذلك البوريط‪ ،‬الذي لا يأخذ شكل اتفا ٍق بين طرفين متكافئين‬
‫بالمعنى الذي كان سائد ًا في الشرق الأدنى القديم‪ ،‬ولكنه عهد ذو طبيعة مختلفة‬
‫تما ًما عن ذلك؛ فهو عهد غير مشروط‪ ،‬لا يضع فيه الله شرو ًطاعلى شعبه ولا يحدد‬

‫واجبات وتعليمات لنوح وللخليقة‪.‬‬

‫ولكن الله يقوم في هذا البوريط وعو ًضا عن ذلك بوضع كل المسؤولية والواجبات‬
‫على نفسه هو ويضع التعهد الوحيد في العهد عليه هو بأنه لن يخرب الأرض مرة‬
‫أخرى‪ ،‬دون أي تعهد مقابل من الإنسان أو الخليقة‪ .‬حيث يتعهد الله بأ ّل يسمح‬
‫للعنف بأن يغمر الأرض يقضي على الحياة عليها‪ ،‬دون أن يضع في المقابل أي شرط‬
‫على الإنسان أو الخليقة‪ .‬وهذا "البوريط" الذي يقطعه الله مع نوح يتمتع بثلاث‬
‫صفات لا تصدق؛ فهو عهد نعمة لا مشروط‪ ،‬أبدي‪ ،‬وعالمي أي لكل الكون‪ ،‬لكل‬

‫الخليقة‪ ،‬لكل الأرض‪ ،‬ولكل الشعوب‪.‬‬

‫ومن المثير للاهتمام أن العلامة التي يضعها الله لذلك العهد الذي يقطعه‬

‫‪50‬‬


Click to View FlipBook Version