ُمذ َكّرا ُُت راه ُب ُ
تأليف
طلال عبد الجبار جاسم الع ازوي
الأردن ـــــ 2018
الطبعة الثانية منقحة
1
اسم الكتاب :مذك ارت ارهب
المؤلف :طلال عبد الجبار جاسم الع ازوي
تاريخ الطبع 2018 :
مكان الطبع :المملكة الاردنية الهاشمية /عمان
مطبعة :أرض ما بين النهرين ( – 0787865533
) 0795470309
E- mail : [email protected]
رقم الايداع لدى دائرة المكتبة الوطنية
( ) 2018 / 4 / 2028
الناشر :مكتبة انتيكا – مساحة ثقافية ( يعقوب البهبهاني )
عمان – شارع الملك الحسين بن طلال – السلط سابقا
2
توطئة الكتاب
جاءني ساعي البريد بمظروف مسجل ،معنون
باسمي ،فوقعت في دفتر الرسائل وتسلمت ذلك
الظرف الضخم ،وفضضته ،فبرز لي جلد مصفـر
كغـلاف كتاب قديم ،وقد ضَّم بين دفتيه مجموعة من
القصاصات الورقية السم ارء عدا الورقة الاولى فقد
كانت ناصعة البياض جديدة ،مما يدل على انها
كتبت حديثا فق أرتها بسرعة ..جاء فيها :
حضرة الأديب الفاضل ( طلال الع ازوي ) المحترم
تحية قديسة ،وابتهالات دينية أرفعها من أجلك ..
اما بعد ..هذه مجموعة يوميات كتبها رجل حكيم
عاش في كنيستنا بضعة أشهر ،ما عرفت له أهلاً ولا
أقارب ،بل جاءنا من فلسطين ومكث عندنا ق اربة
سنتين ورحل عنا عائداً الى بلاده ،عيناه حادتان
كعيني نسر لا تصمد أمام نظ ارتهما العيون ،ووجهه
مشرق بلحية فضية لامعة ..يعتمر الحرير الأزرق
3
فوق أرسه كانه شيخ من شيوخ العرب ،قليل الكلام
واذا تكلم جاءت كلماته عذبة ساحرة كانه يتكلم بلغة
القديسين ..كله حركة حتى يخال ــــ من ي اره ــــ انه
يرى شاباً نشطاً يعذب نفسه عملاً لا شيخاً بعمر
السبعين .
قلما أريته يبتسم وكثي ار ما لمحته خفية يبكي
بصمت ودموعه تخ ّضل لحيته البيضاء ،بسيط
كبساطة الرعيان ،وديع كوداعة الحملان ،يدخل
القلوب منذ الوهلة الاولى ،ت اره أيام الأحاد يستودعه
الآباء أطفالهم ليحضروا القّداس ،ويحتلق الاطفال
حوله في الحديقة فيعلمهم دون أن يشعروا فكأنه يلعب
معهم ،وبعد القّداس يخرج الآباء ويستمعون له بخشوع
كأنهم أمام بحر لا يعرف له ساحل.
وحينما كانت بغداد تقصف بصواريخ اي ارنية اثناء
الحرب الع ارقية مع اي ارن شدته رغبة الخروج من الع ارق
،والعودة الى فلسطين ..وكم حاولنا ثنيه عن عزيمته
دون جدوى .
4
وقد دون فى هذه اليوميات انفعالاته النفسية وآ ارءه
الفكرية في الحياة والمجتمع والأدب والفن ،وضمنها
الحوادث المهمة التي شاهدها خلال اقامته فى كنف
الكنيسة .
ولكنه ما أن سرد قصة حياته على الورق أخي ًار
وسلمني هذه الوريقات حتى ودعنا ــــ أنا وعروسي ــــ
بصمت ،وانطلق متجهاً الى محطة (العلاوي) ليركب
باصًا تتجه الى الأردن ومنها الى فلسطين .
كان ذلك فى ليلة زواجي ،اذ ما ان بعث الله لي
شريكة الحياة حتى برحنا ذلك الانسان الذي وجدت
عنده العطف الابوي اذ طالما افتقدته .
وهكذا عاشت مذك ارته عدة شهور بحوزتي ،أعود
لها بين حين وآخر عندما أحس بحاجة الى سلوى
تسليني ومتعة تمتع فكري ،وأكثرما كنت أتمثل باقواله
عندما أُلقي مواعظي وخطبي في قاعة الكنيسة ،فارى
المستمعين يخشعون لكل كلمة أرددها من كلماته ،
وسجلت كل ما كتبه على جد ارن قلبي ،وقلت مع
5
نفسي أن أبعث هذه الوريقات اليك فعسى أن تخرج
أفكاره بجسد أجمل ،وحلة أبهى ،فانها ــــ في نظري
ــــ نعم الش ارب الفكري إن أرتوى منه الناس .
وأخي اًر تقبل شكري وإبتهالاتي
ودمت لصديقك القديم
الأب شاول
كنيسة الارمن ـــ ساحة الطي ارن
بغداد ـــ الع ارق
6
البــدايــة
جئت من فلسطين الذبيحة أبحث عن أرض وعن
سماء ،بعد أن عصر الزمن من عمري السبعين سنة
،وكانت حياتي كأنها مد عظيم أعقبه جزر فظيع ،
فتبدلت السعادة الحلوة شقا ًء أبدياً .
خلت ما حدث لي من فعل القدر ،وظننته مرة من
عملي ومرة أخرى من فعل المجتمع البشري .
هيهات أن نرتشف العسل طيلة العمر ولا نشتاق
الى طعم العلقم ،وأن لم نشتق اليه فسيأتي عنوة
أوعلى غفلة منا ويملأ أفواهنا الى حد التخمة ،أنذاك
نفقه الحياة .
ولكني الآن في عيد ميلادي السبعين ،حيث لا
شموع أمامي لأطفئها بل الشموع في قلبي متألقة لا
تنطفىء ،تضيء ذكرياتي وتسعدني ،لأني أخي اًر قد
تخلصت من الناس ورددت هبـاتهم واسترجعت حريتي،
7
وهكذا تخلص المجتمع مني مادياً وفقدني معنوياً كما
أعتقد .
إن أفكاري تسّير روحي مثلما الريح تركب عربة
السحب وتلهب بسوطها أظهر الغيوم فتركض ،
وتسوقها في طريق السماء لتسبق الزمان وتتحرر من
المكان لانها ترى الفضاء واسعاً وتخال أنها ستصل
حدوده ،وتعرق الغيوم وتلهث الريح وينهكهما الطواف،
ويتحطمان سوية ،وتتناثر أشلاؤهما قط ارت مطر قبل
أن يبلغا النهاية ،لأن لا نهاية هناك سوى الصيرورة
تعانق العدم .
وهكذا بقيت مع الارض التي تدور ،أدور معها ..
حيث جئت الى بغداد مدينة الحرية بعد أكثر من
ثلاثين سنة مرت على حرق الصهاينة لداري وبداخله
عائلتي ،وسرقوا بستان أجدادي ،وخلال تلك الفترة
كنت أهيم في كهوف الأردن الجبلية .
وته ُت في مدينة بغداد ليس لي هدف سوى أن
أتمتع بالحرية التي طالما بحثت عنها منذ أن استولى
8
الصهاينة على مدينتي بيسان مدينة العرب الكنعانيين
..ولكن كيف لكليوبت ار أن تحتفظ بهدية انطونيوس . .
فما أسرع ما باعتها لهيرودس . .لقد بيعت المدينة ..
فيا لعار الم ازد .
يوم طيف
صحوت على زقزقة العصافير ،وكانت نجمة
الصباح تجر أذيال العرس الى مخدعها خلف الافق .
كانت هواجس الاحلام ما ازلت تضمخ عيوني
وتعطر أنفاسي فاحاول أن أعيشها مع نصفي الثاني ،
فمددت يدي الى جانبي لأتحسس زوجتي أما ت ازل ارقدة
أم أنها إستيقظت ،فحطت يدي على حشائش ندية
رطبة ،جفل ُت ،فقد كنت أتوقع جسدها الطري الدافىء
،وان ازلت آخر أطياف الاحلام من عيني وخيالي
واصطدم ُت بالواقع ،بوجهه الصفيق الغولي .
أجل فانا الآن لس ُت على ف ارش الزوجية الوثير بل
على ثيل احدى الحدائق العامة ،خف ُت من هذا الواقع
9
لأني أعرفه م اًر ،وأطبق ُت جفوني ثانية ،واسترسل ُت
في أحلامي الملونة العذبة ..وعـد ُت بذكرياتي الى
الماضي المضبب ،وتصورت سابق عهدي بزوجتي
الحبيبة يوم كانت تستيقظ على تسلل يدي نحوها مع
انطلاقة أول شعاع من الفجر الاشهب .
وتشرق من وجهها ابتسامة وردية ساحرة تنطلق منها
طيور الحب لتغيب فى أحداقي ،وما أن تشرب قهوة
الصباح حتى تقهقه بخفة وحلاوة وتجذب أرسي برفق
لتقرب شفتي من شفتيها ونرتوي من معين الحب
وسلسبيل الهوى .
هكذا بقيت مع نشـوة تلك القبلة حتى رشت
الشمس نورها عل َّي وفتح ُت أجفاني فاذا أنا ألثم حشائش
الحديقة وأرتشف من طّلها ،فكأن قلبي وضع في
مجمرة نار فاحترق رماداً .
نهضت لأهيم على وجهي في هذه الدنيا ،فأنا
أعلم أن لا مفر من واقعها المرير ،تملكني الضياع اذ
10
أعرف الناس ولا أحد منهم يعرفني لقد أنكروني
فأنكرتهم ،آه من الوحدانية .
و ارحت الاطياف تسبح في بحيرة قلبي وتت ارشق
بالعواطف فيشبك الحنان الحقد ،ويقّبل الألم السعادة ،
وتتعانق الأنانية مع الانسانية ،آنذاك ذب ُت فى عالم
الامواج العاتية مسحو اًر بالوان الشروق ،ولكن الاعداء
استغلوا تهويمتي وبرقعوا الشمس .
بعد أن هرب الفجر من فمي ،زرع ُت الموت في
دمي ،وطارت الاحقاد في سماء نفسي ،و ارحت
تقتات الخير والسلام وتقرع طبول الموت ..فيكشر
البشر كالذئاب يتلمضون ألسنتهم لشرب الدم ..ألف
د اريكولا عاد بعباءة سوداء ..الخنافس أضحت أغوالا
..وصارت الاشواك تحارب الاشجار ،والمكر يقارع
الخير ..والمجانين يتسنمون دفة الحكم يسبحون لاله
الحرب لكي يم َّن عليهم بادوات الابادة .
وطني العربي أينما أتنقل في أرجائك أجد الأعداء
يحيطون بك ،يا لعظمتلك .
11
يوم عسلي
ما أجمل السعادة في يوم عرسها ،ولكنها
كوميض سحري خلاب ش َّع وانطفأ ولم تبق سوى
الصور قد علقت على جد ارن الفكر ،فكلما أرد ُت أن
أهرب من واقعي الكالح أدخل الى متحف ذكرياتي
فاتجول فيه مسبل الاجفان أمُّر بالصور مرور
السائحين وأقف متأملاً الفلم الذي صورته ذاكرتي ،
تظهر فيه زوجتي واطفالي ،فاشهق مع كل صورة
اتخيلها وانصهر مع طيوفهم ..فها هو دارنا في بيسان
وخلفه بستاننا المطل على نهر الغور ،وكيف ركضنا
في الصباح الى البستان وضمنا الفردوس وحدنا لا من
رقيب سوى الله والشمس والاشجار والطيور وكانت
الاشجار حبلى بالثمار ..فقطفنا كفايتنا ،وافترشنا قرب
غدير مكركر يصب بوادي النهر بعد ان ينحدر كشلال
..وتنشغل ابنتاي باللعب مع الف ارشات القزحية الهائمة
..وألهو مع زوجتي أذبح لها الزهور وأطيب بها خديها
. .وأنحر لها الجنبد لأح ّمر به شفتيها ،ثم أعصر في
فمها رحيق الفاكهة فتأبى الا أن تزقني منه ثغ اًر بثغر
12
..وكم سبحت عيناي في عينيها ،وكم صرنا
كالاطفال ولعبنا مثل أطفالنا بحصا النهر ،وشعرنا أن
الملائكة ترفرف فوقنا ،وأن النسائم العطرة ما هي إلا
طيوبهم تضوعنا فكأن جنة الله قد تجسدت لحظتئذ . .
وكأن الأيام اجتمعت آنذاك ..وشعور في داخلي يقول
:تمتع بهذا اليوم الجنائني واملأ منه عيونك وعواطفك
فستأتي أيام الجفاف والم اررة عجلة ،فالكل باطل وحلم
قصير ..كنت لا أدع هنيهة تمر إلا وأطبعها في
ذاكرتي بأحلى أبعادها ..آه ايها القلب لا تخفق ولا
تسيلى أيتها الدموع ..ولا تلطمي أيتها الروح ..كفى
..كفى .
سأصنع من الكون الأحدب قارورة أملأها خم ًار
وشع اًر وأزين فيها أف ارحي وأت ارحي ،فإن غضب
الأحدب أسكرته من خمرتي وإن فرح الأحدب مدحته
بقصيدتي ،وستبكي الحياة فى مخدع عرسي وتصرخ
:أين عفتي ؟ فأجيبها بوابل المكر والخداع :أليس
الرجال قوامين على النساء ..وتبكي فأغتسل بشلال
دموعها حتى إذا جفت مآقيها وسال ثغرها شهداً محلباً
13
أمطرتها بوابل الحب والقبل فتزداد تبسماً في وجهي
وأظل أرتوي من معين شفتيها حتى إذا أتخم أُطّلقها
فتهيم في الطرقات من جديد لتعشق شاباً آخر شريداً.
فيا ترى هل أنا الذي طلق ُت الحياة أم هي
إنفصلت عني وتركتني ،أم إن بني البشر فرقوا بيننا
..لس ُت أدري ! .
يوم غريب
أرسلت الشمس خيوطاً من ذهب وأغرقت
الارض بنورها البرتقالي ،وبدأت الأحياء البشرية تد ُّب
على الارض لغاية في نفسها ،حثتني رغبتي فسرت
قاطعاً شارع الرشيد وتجنب ُت مسير السابلة فمشي ُت فى
جادة السيا ارت هرباً من الت ازحم بالمناكب ،كان المارة
يرمقونني ،قسم بازد ارء كأني كلب أجرب وقسم آخر
برثاء لأني لا أملك ملابس كملابسهم الجديدة المنتفخة
جيوبها نقوداً ..وليتهم علموا أن الله لا ينظر الى
الاشكال إن قبحت أو جملت إنما يبصر القلوب
14
الطاهرة ..وخير الناس من ملك نفسه والحمد لله فانا
لا املك سواها .
كنت أوزع الابتسامات بوجوه العابسين والمستخفين
والمزدرين وفي قلبي مناحة ،لأنني أشعر بصغر
نفسي أمامهم ،وأحس بسهام عيونهم تدينني لأني لم أستطع
أن أحافظ على أرضي .
أكثرُت من المسير حتى ضحكت الشمس مني
وبكت فوق أرسي ،ونستني عند المغيب ،وبذلك نل ُت
رياضة روحية تسمى لدى الهندوس بتهذيب الروح ،
ولكن كيف للجسد أن يصمد حتى النهاية ،وهو الذي
يخذل الروح في آخر المطاف أن الألم في الحياة
يتسلسل وفق منهاج الطبيعة الشريرة فمن يكن أقوى
إ اردة وأصفى نفساً ين ُج ،ومن يكن متضعضع الكيان
ضعيف النفس يسقط فى الهاوية وأنا بلا كيان ،وواهن
النفس .يقول غوركمان (أن إنحطاط العقل بالو ارثة) أما
أنا فانحطاط عقلي سيكون من ج ارء الحزن والالم.
15
ورح ُت تعلل بقول المتنبى ففيه وصف حقيقي لما أنا
فيه :
بم التعلل لا أهـ ٌل ولا وطن
ولا نديــٌم ولا كأ ٌس ولا سكن
أريــد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغـه من نفسه الزمن
لا تلق دهـرك الا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن ا
لكن كيف لا اكترث وكل شيء يباع في أسواق
النخاسة حتى العيون ،عين الميت بالف وعين الحي
بمليون ،فيأتي إبن يبيع عين أبيه ويأتي أب يبيع عين
إبنه ،المال وحده زينة الحياة الدنيا ،المال وحده كون
كبير ،وتخزن حتى الدماء ،وتجمع ليعيش عليها
الاغنياء لقاء حفنة من ت ارب تدفن عيون الرغاب . .
المجد للمال على الارض والموت للضعفاء .
16
يوم صح اروي
أن طعامي في أكثر الاحيان بعض حبات من
العنب اليابس يقول الرواة أن حبة زبيب أطعمت أربعين
إنساناً ،أما في جوفي فكل حبة تغذي ألآف الخلايا
الجسدية ،ولكني في هذا اليوم لم أجد تلك الزبيبة
لتطعمني ،بل أعطاني واحد من الناس رغيف خبز
وقال لي :أيها الشيخ إق أر سورة الفاتحة عند كل لقمة
على روح ..
وقاطعته مداعباً :
_ وهل يحتاج ميتكم الى هذه الفاتحة !!
نظر الى بدهشة ولم يجد جواباً وسار في طريقه
رحت أقطع الرغيف فتاتات صغيرة ..ورح ُت من
الصباح حتى المساء كل ساعة أحصيها في ظل
الشمس الممتد أأكل فتاتة منها وأمضغها جيداً وعند كل
مضغة أردد ( الحمد لله رب العالمين ) على الميت
17
المجهول عسى أن تنفع وتكون وسيطة لدى الرب لعتق
تلك الروح ان كانت في الجنة او النار .
أنا جائع والارض جائعة ،حياتنا تعايشية ،
الارض تهبني الطعام من جسدها ،وأنا أهبها الغذاء
غداً بكل جسمي بعد أن أمر بتنور الحياة كما مرت
حبات الحنطة بلهب التنور وأمست صالحة للأكل ،
الأرض وحش كبير يفد البشر الى جوفه رغماً عنهم
بعد ان يصلوا الحد الذي لا يتمكنوا فيه ان يستدينوا من
الارض ويماطلوها ،وهذه هي نهاية دفع الديون لأمنا
الارض المتوحشة .
فجأة أشرقت في فكري قصيدة ابن سينا
الفيلسوف التي مطلعها :
هبطت اليك من المحلل الارف ِع
ورقاء ذات تعزز وتمن ِع
وتذكرُت روحي اذ لم أتعَّرف عليها من قبل فقد
كانت هادئة وديعة صغيرة في عين ذاتها يعطى لها
18
القليل فتقنع عن طيبة قلب وعن رضى خاطر ،فما
أن يحادثها أحد حتى تنصت له بكل جوارحها ..فتتألم
لألمه ،وتفرح لفرحه ،وتنساب مع أهواء الاخرين لا
كما تريد أهواؤها وكانت تضحي بكل عزيز وغا ٍل في
سبيل الوطن حتى لتكاد تحسبها مثالا للتضحية ونك ارن
الذات ولكن كيف للدهر أن يترك مثل هذه المتفانية في
جنة النعيم في نعيم الحب البريء والسعادة القلبية
وال ارحة الفكرية ،فقد دارت عجلة الزمن باقصى
سرعتها او بالاحرى كرت الايام بدون حسبان ،وكانت
في غفلة عن أمور الوقت وما و ارؤه من طموح الشباب
ورغبة الرجولة وأحلام الكبر.
حتى هبت عاصفة هوجاء على المدينة بحيث
شردت سكانها من دورهم ومآويهم ،فهربت تلك العذ ارء
مع الهاربين وهي تنطلق لاول مرة من بوتقتها رغمًا
عنها .
تخبطت العذ ارء فى تلك الاونة محاولة أن تتكيف
كما يتطلب الموقف ،عجزت ،تعبت ،لهثت ،لأنها
19
غير قادرة على الخطب الجسيم ..فمن تكيف في بيئة
وأقتلع منها ونقل الى بيئة أخرى يصعب عليه التكيف
بها من جديد .
حاولت هي أن تهرب من الصح ارء المحرقة التي
أح َّست فجأة أنها مرمية فيها قس اًر ولكن أين المهرب ؟
وأينما شطرت وجهها ترى الصح ارء تكبر وتمتد ،
و ارحت الاتربة والرمال تت اركم عليها حينئذ رضخت
للأمر الواقع بعد أن تبرقعت بالسواد ..وسايرت الركب
الشاق طريقه في الصح ارء .
بدأ العطش يأخذ مأخذه ،عطشت ،تقلت ،
وانتظرت قليلاً من الغيث لتروي ظمأها ولكن دون
جدوى من الانتظار ،ترّجت الأصدقاء والأقارب فلم
يمدوا لها يد العون ،والتفتت صوب المجتمع ف أرته
يكرع كؤوس السعادة بعد أن ي اروغ ويخادع ويسلب
وينهب نصيبها ونصيب أمثالها .
آنذاك تعلمت كيف تتحايل كي تكسب حصتها
لارواء غليلها ( ولكن الصح ارء تطول وتتسع ) هكذا
20
حادثت العذ ارء ضميرها (فكيف لها ان تبقى بهذا
الاطار هذا الضيق بهذه الانانية التي تقمصت بها
رغماً عنها ،وهي التي فطرت على حب الخير للجميع
،وترعرعت في جنان العمل من أجل الاخرين ،فكيف
لها أن تعمل مرغمة من أجل ذاتها وارواء شهواتها ،
من أجل أن تنال أكثر من غيرها ،وأن تسلب حقوقها
من الافواه الشرهة بالقوة والمكر) .
طاش تفكيرها وكادت أن تذرف الدموع سخية
حارة لعلها تخفف مما تكابده ،ولكن الدمع انحبس في
مآقيها فبكت بصم ٍت وسحت الدماء من قلبها بدل
الدموع ،وحاولت أن تغسل الاد ارن العالقة بها ولكن
دون جدوى .
أين أنت يا طريق العودة ،بعد أن تاهت عذ ارئي
« تلك هي نفسي » في صح ارء المشردين المحرقة من
سيعيدها الى الجنة ..جنة بيسان ..من ياترى .
21
يوم ملائكي
أحببت الاطفال لأني أبصر فيهم الب ارءة
كأنهم عصافير صغيرة داخل الغابة ،وأرى الوداعة
تطل منهم كأنها زهرة بيضاء تداعبها النسائم ،أحببتهم
لأني أشاهد في عين ذاتي الملائكة قد تقمصت هيئة
الاطفال ،فكن ُت أرنو إليهم من بعيد أو قريب ،فأفرح
مع فرحهم وأحزن لحزنهم وأدنو من الحمائم البشرية
فأمسد شعرها الناعم بيدي فاحس بنعومة أمواج البحر
،وحين كنت أتمشى في حديقة «الأمة» اذا بطفل
يترك يد والدته فجأة ويركض نحوي ويتعلق بلحيتي
البيضاء وضحكت من عمله ولو إنه آلمني بعض
الشيء ولكني فرحت به وبتعلقه ولكن هذا العمل
أغضب والدته وجاءت توبخه وتعنفه وهو يقول لها
«انه بابا نوئيل » ولكن مع الاسف الشديد لم أكنه
لأنني لا أملك أية هدية أقدمها له ،يومها عرفت أن
الاطفال يتذوقون الجمال أكثر من الكبار فهم ما ازلوا
على ب ارءة الطبيعة وهذا ما حداني أن أكون دوما
22
نظيف الجسد والملابس لأني أغتسل في المساجد أو
الكنائس أو الشواطىء أو تحت شلال الشمس .
وما الدنيا الا أن يعيش المرء مع الاطفال ويكون
كطفل ساٍه لاٍه كملاك فى السماء ولكن تباً للمقدور
الذي سلب مني أطفالي وجعلني أنظر الى باقي
الأطفال بقلب مكسور وطرف محسور .
عندما هطل الليل ولّفع المدينة بالظلام ،إستيقظ
حنيني للمجهول ورح ُت في غفوة سحرية تت ارءى فيها
الاطياف والملائكة وانجذل قلبي لحظة صياح الديكة
..وخفقت الآمال في نفسي لحظتئذ تلتقي الافكار
تتعانق الهواجس بيني وبين من أحبهم أجل فالموعد
المحدود قد أزف .
ها أنا لا أنال سوى الذكرى السارية والخيال العابر
ولكن بهما سلوتي وسعادتي اذ أين من أحبهم وهم
بعيدون ،بيني وبينهم جسم وأرض ..فيا ترى متى
سألتقي بهم .
23
وأخذ ُت أكتب :
أحبتي سنلتقي عندما يحتدم الص ارع بين قلبي
وقلوبكم فيغرس الشوك مخالبه بخدود الصبير ،وتطل
أنياب الذئاب لتطحن عظام الحجر ..فتصرخ قلوبكم
على وقع سياط الألم ..وترقص نفوسكم طرباً ونشوة
لأن عالم الافاق الملونة قد فتح صدره وضمنا بعنف ..
وطارت عواطفنا فى سمائه .
عندئذ سأصيح بقوة ..ولكن فمي بلا لسان
فيخرج كعواء ذئب فى ليلة كبر فيها القمر ..تسمعه
زوجتي وتسقط تحت جسري بلا وعي جثة باردة يتفصد
منها الثلج فتهطل أمطاري الدافئة وتغرقها في بحر بلا
ساحل وتقهقه بكبرياء الانوثة وتمزق ثيابي الرقيقة
باظافرها المدببة ..عندئذ تعود سفني الى م ارفئها ..
فتثور كالبحر وتمزق أشرعتي ..ولكن سفني لدى
المرفأ بأمان قد عادت بحمولة السندباد من حرير
ولآلىء . .فترتد أمواجها كسلى تنتظر متى يح ُّن
السندباد للرحيل ولكن سفني لن تقلع مرة أخرى فالبحار
24
أمست صحارى ..فكيف لسفن ان تسير وسطها بلا
موج بلا ريح بلا هدف .
يوم عذب
في هذا اليوم الصيفي سبح ُت في نهر دجلة ،
غص ُت الى الأعماق ،وسبرت أغوار اللاكيان ،
وشعرت أني أندمج في ذات كثيفة ولطيفة ،وخرجت
بعدها فرشقتني الشمس النارية بسهامها المتوهجة ،
وعند الاصيل توسدت حشائش الحديقة العامة ثَّم نمت
الليل الطويل بعد أن تعبت عيناي من رصد النجوم
والقمر ،ما شرب ُت ما أكلت لا أشهى ولا أطيب فهي
كل أنواع الاطعمة على مائدة العشاء الرباني ،قد
نزلت من الرب لأجلي أنا المصلوب على الارض
المسمر بعظام بناتي في قلبي وصدري .
صرت أحلم بأحلام الجنة العذبة وملائكتها
الفضية فداخلني إحساس غريب كأن أكثر روحي هناك
وتمني ُت أن تذهب كلها الى الجنة ..ولكني أخاف
السأم .
25
كان الله يحفني وعلى وجهه اش ارقة نو ارنية لم أره
حقيقة ولكنه خيل لي في عقلي الباطن فى أعماق
بحيرة الجمجمة .
آه رباه ،أحن اليك كحنيني الى الجنة ،أحن
اليك كلما ضمني سأم واعترتني ضجة الألم ،فما حبي
لك الا معرفتي ببعض صفاتك ،وما شوقي اليك الا
أملي في السكينة تحت ظلالك الوارفة ،فقد أتعبتـني
الحياة وب ُت لا أستعذب أيامها ،حتى كدت أن أم َّل
نفسي إن لن تمَّلني هي وتهرب .
ولكن أين المهرب وسيف الحياة مسلط بوجهي
أينما يممته ؟
حنانيك يا بح اًر بلا الوان فالعاصفة في جناني تجتاح
أبعادي ،تغمرني تطمرني ،تعصرني كخرقة بالية
كسمكة صغيرة ضائعة وسط المحيط .
ايه يا بنات اللسان ما أنت الا كيان محدود فكيف
أُعّبر بك عن أعمق أعماق مشاعري حيث أج ارس الألم
26
ما ازلت تد ّق بشدة في أغوار قلبي وما ي ازل الرنين
المدوي يضعضع كياني يرجني ،يقتلني ..آه يا للهول
.
هدأ الاعصار في قلبي بعد ذلك وتلاشت ألحان
السماء وطارت في الصباح الباكر قوافل النوارس
متجهة صوب البحار الزرق للاوقيانوس العظيم ..
تحمل رحيق أفكاري فوق أجنحتها البيضاء ..وعندما
تستحم فى المياه تتناثر الافكار وتغور في المياه فتسرع
صوبها الاسماك تخالها طعاما من نثار مائدة الرب ..
فتلتهم منها الصغيرة والكبيرة وما تشبع لأن كل ما
تأكله رغوة من رغاوي الفكر ..طعماً بلا سنارة ،
وتهجم النوارس ازعقة وتلتقط من المياه كل سمكة
مغرورة مخدوعة .
27
يوم مشرق
التقيت في الصباح بصديق قديم ما أن
أبصرني حتى طار فرحاً و ارح يستفسر عن أحوالي وأنا
أجيبه باقتضاب ،فما أن علم إني وحيد في بغداد حتى
رجاني أن التحق بالكنيسة التي يشرف على خدمتها ..
كان صديق طفولتي ،عرفته منذ أن كنا معاً في
مدرسة بيسان ،كان متعمقاً بأمور الدين ويقوم بم ارسيم
الديانة على خير وجه ،أما أنا فكنت أفكر وأخال
نفسي تتصل مع الفكر الاعظم ،أما هو فكان يعذب
جسده لكي يفكر ويقتل قلبه لكي يحب الرب .
وعدني بأنهم سيوفرون لي المأكل والمشرب
والملبس والمنام على شرط أن انظف الكنيسة كل يوم
خاصة يوم الأحد قبل مجيء المصلين وبعد خروجهم
،فرفض ُت وبعد مداولات وجد لي عملاً مع رغبتي وهو
أن أخدم حديقة الكنيسة ،أجملها نظافة وتنسيقاً .
كنت أبحث عن بعض السلوى والمهرب لنفسي
الضالة فجاءني العمل ساعياً على قدميه يقدم لي هذا
28
المجال الذي هو باب خلاص كعين الابرة حين تكون
مم اًر لجمل .
وافق ُت بعد أن إشترط ُت بدوري عليه بأن يتركني
ح اًر وشأني في طريقة عبادتي وسلوكي الديني ولا
يقيدني بطقوس عبادتهم .
رضى بذلك الشرط ورحب بي أحسن ترحيب ،ثم
إتجهنا صوب الكنيسة ..وكانت قابعة فى الجهة
الشرقية من بغداد ..بيضاء ،ضخمة البنيان ،ذات
قبب عالية ونواقيس كبيرة .
استرسلت في العمل بعد خمول أكثر من ثلاثين
سنة ،وعاد عملي مع الشمس الطائرة حتى سقوطها
خلف الافق مسا ًء .
كانت الشمس قبل ذلك في نظري شمس الخمول
والكسل واللاهدف .
ما ي ازل لي قلب يخفق فسوف أوقفه سرعة ،وما
ي ازل لي جسم قوي فلسوف أشنقه عملًا ،وما فتأت
29
روحي الكسولة تعيش في س ارب الجنون فلأطلقها الى
الحياة العقلانية.
لك الله يا قلبي فكم مرة بقي ُت أشكوك همومي كأنك
إله ثا ٍن يجلس فى كرسي الجسد وبيده مطرقة الحكم ،
فاذا علت ضوضاء الحنين واختلطت اسواق الماضى
بالحاضر ،ارح يطرق على منضدة الحب بمطرقته ،
فيعم السكون الأربد ،ويبدأ في اصدار الحكم ،ما
أحلى كلماتك أيها الحاكم ،بل ما أعذبها وأرقها
وأنغمها ،فقد بثت الطمأنينة في كيان محكمة الجسم
..فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته ،والبريء متهم
حتى تثبت ب ارءته ..وأنا متهم وبريء في آ ٍن واحد .
ويبقى قلبي يفتتح الجلسة تلو الجلسة دون ق ارر حكم.
30
يوم فجائي
إرتدي ُت مسوح الرهبان ،وكانت أجمل من
ملابسي بعض الشيء ،وبقيت أغطي أرسي بـ(عمرة )
زرقاء كلون السماء المليئة بالغيوم .
صرُت أعمل في الجنينة بصمت ،أقلم ما طال
ونفر ،وأفتح السواقي ،وأبث المياه لتروي الارض ،
وتنتعش النباتات الوادعة ،كانت كل شجرة في الحديقة
تذكرني ببستاني في بيسان ،فها هي شجرة الزيتون
التى كانت تعطينا ثمرها بوفرة ،وكيف كنا نجمعه
وتجتمع كل العائلة من أجل تجريحه زيتونة زيتونة لكي
ننقعه في الماء حتى يرمي م اررته ونغّير الماء كل يوم.
وها هي أشجار البرتقال ،تسكر الانفاس بأريجها ،
وأشجار التفاح بعطرها وظلها ..ولكن أين كل ذلك وقد
استولى عليه الصهاينة وصاروا يَّدعون أنهم زرعوه
ويصدرونه للخارج باسمهم ..وبينما أنا أفتح السواقي
لفت نظري أحد القساوسة يرمقني خلسة بين حين
وآخر عبر زجاج أحد شبابيك الكنيسة ولا أدري ما
31
الذي كان يفكر فيه ،فهو يمعن النظر في الرفش الذي
تحركه يدي على بشرة الحديقة .
وحينما كن ُت أحفر في منطقة قد أعاقت جريان
الماء الى باقي السواقي ،شعرُت بيد تمتد وتجذبنى
بشدة الى الو ارء ،وأدرُت أرسي لأرى ،فاذا بنفس
القسيس المتلصص قبل قليل وهو يقول لي :
ـــ لماذا تشوه حديقة الرب وتحفر هنا وهناك بلا ترٍو
وتنظيم ؟ .
فقلت له بهدوء :
ـــ إذا لم يعجبك عملي ،فاتركني وشأني وسوف أدع
لك حديقة الرب كما هي يأكل شرها خيرها .
وكادت أن تنشب مشادة بيننا لولا قدوم صديقي
الشماس الذي أنهى حديثنا غير الودي بسرعة ،وطلب
من أخيه في الديانة أن يتركني ح اًر ،وذهب كاظماً في
نفسه أم اًر خفياً .
32
وآصلت عملي بهدوء وبعد برهة اصطدم الرفش
بشيء صلب ،فحفرُت حوله حتى ظهر للعيان
صندوق حديد صغير ،ولم أأبه به ،ولكن تذكرت
ممانعة القس لي من الحفر هنا ،فدفعني حب
الاستطلاع الى فتحه بسرعة ،فقد كان بلا قفل ،وما
أن رفعت الغطاء حتى أري ُت في جوفه رزمة من
الاو ارق والصور وانبعث منها عطر هندي ضوع الجو
،ارتبك ُت وأغلقته بسرعة لأسلمه الى إدارة الكنيسة ..
وأنتشلني من قلقي مقدم القس الطويل الاشقر الذي
منعني عن الحفر قبل برهة كان قادماً كالطلقة ،وحمل
الصندوق من أمامي وانطلق مبتعداً وهو يردد :
ــــ تباً للشيطان ألا نجد مخبأً نحفظ فيه ودائعنا عن
المتطفلين .
وتوارى عن انظاري وتركني كالمشدوه ،وبعدها
واصلت فلاحتي والافكار تمر بي مسرعة كأس ارب
السنونو السوداء .
33
وهاجت بي العواطف وخالجني شعور من ارتكب
جريمة بحق انسان فما أنا والصندوق ،وفتحه ،ولكن
هي المفاجآت تريد أن تعكر صفوي المتبقي وصفو
غيري ،آه منها فقد قلبت حياتي أرساً على عقب
وضعضعت كياني وقلقلت عقلي ودفنت آمالي ووارت
مستقبلي اللحود فما الذي تخبئه بعدئذ في طيات
ثوانيها ودقائقها ؟ ! .
يوم وّدي
عندما رشقت الشمس سهامها على الاشجار
والمباني ،وألهبت صليب قبة الكنيسة ،فأشرق قم اًر
فضياً ،خرج ُت من غرفتي القابعة خلف البناء الضخم
ـــ كالمعتاد ـــ الى الحديقة الخلفية لا تمم ما بدأت به
أمس ،بعد أن قضي ُت ليلة مؤرقة تلبدت فيها نفسي
بأضغاث الذكريات المؤلمة التي وخزت فؤادي
كالاشواك ،ولكني نمت بعدها دامي القلب ،مكدود
الجسم ،فانا الآن أعمل وأشعر بقوتي تستيقظ من
34
جديد بعد تلك السبات التي مرت فى سماء دنياي
كالسحاب .
ومررُت أمام باب القاعة الكبيرة شعرُت بالقس
الاشقر خلفي ،وكان قد أتم صلاته وبرح القاعة لتوه
وعندما تجاوزني بادرته بالسلام ،وأسرع ُت أعتذر منه
لسوء تصرفي ،وطلب ُت منه أن يسامحني لعدم علمي
بما سيحدث من ج ارء الحفر فرد علي وهو يبتسم
وعيناه تلمعان :
ــــ انك لم تخطىء يا سيدي ال ارهب ،بل أنا
المخطىء فقد ظننت إن الامانة تحفظها الارض ،ولم
أخل إنها لن تقدر ،فلا مندوحة ،سأحملها أنا الانسان
،فان ضعفي هو القوة ،وان عقلي هو الشيطان ،فلا
تحزن من أجل خطأ أنا قم ُت به ،وأرجو أن تغفر لي
بدورك لما سببته لك من عذاب نفسي .
وتركني واجماً وذهب ،وسرُت بخطوات وئيدة الى
حديقتي عفواً الى سيدتي الحديقة حيث أقوم على
خدمتها .
35
ما أبعد الفرق بين السيد والمسود ،ولكن هذا الفرق
والبعد يضمحلان عند السعادة التي يوفرها ك ّل للآخر .
ولكني أحول الارض جنة وهمية ،جنة ازئلة ،
وكل شيء فيها أما سيكون وقوداً لنار الشمس أو حطبًا
لنار الانسان ..فما أشبهها باحت ارقي التدريجي ..
فالقلب قد إحترق مبك اًر ،وإحترقت الاحشاء بعده وأخي ًار
سيحترق الجسد ..الكل تدُّرج والتدُّرج انسجام البداية
مع النهاية .
نهرب من النار وتلحقنا النار منذ الولادة حتى
الممات فالحب نار وفقدانه ني ارن ..والالم نار
والذكريات ني ارن والحرمان نار والعيش ني ارن ،
والشيخوخة نار والموت ني ارن .ــــ الهي أين الجنة ؟
حنانيك يالطيف اللهيب يجتاح أبعادي ..أرني الجنة ،
خفف هذه الني ارن ..أرسل زوابعك وامطارك وأرو
الجفاف ..وح ّل هذا السباخ من فيض حلاوتك .فان
نيتشة قد مات ..والايمان بك ما مات .
36
يوم نسوي
ناداني منذ اليوم الاول بال ارهب معظم الرهبان
والقساوسة وال ارهبات حتى حارس البوابة ..وكانوا كلهم
يوزعون الابتسامات عدا حارس البوابة ..فقد كانت لا
تحط على فمه ف ارشة الابتسامة ،وحين أحييه لا يجيب
الا بكلمة (أهلا) المقتضبة .
وفي وقت غذاء الظهيرة يجلس قبالتي على
المائدة في مطعم الدير الملاصق للكنيسة ولا يتكلم
بشيء بعد أن نكون قد أخذنا أطباقاً فى صوا ٍن
مستطيلة ،كنت لا استسيغ تك ارر العملية ثلاث م ارت
في اليوم بل أتناول من الطعام وجبة واحدة أتقوت
عليها طيلة يومي ،مما جعل ارعية المطعم أن
تشكوني لصديقي الشماس ،ورغم الحاحه عل َّي لم
أجديه نفعاً ،وخالني ازهداً في الطعام وما درى أن
العرب قالت ( :بيت الداء المعدة) ومنذ وقت بعيد وأنا
أتناول وجبة واحدة في اليوم ،وصار شعاري صحة
البدن بوجبة واحدة .
37
أدهشني عمل ال ارهبات فقد ك َّن يعمل َّن بطاقة هائلة
اذ يقمن بكل شيء ،نظافة الكنيسة والدير ،وتنظيف
ملابس القساوسة والرهبان ،واعداد الطعام للجميع ،
فهذه اعمال قد فطرت عليها الم أرة ولا أعلم هل إن
الرجل استساغ أن يترك لها كل هذه الاعمال وركن
للدعة .
وفي الريف تقوم الم أرة أيضاً بكل شيء في الدار
والمزرعة وليس على الرجل سوى ان يعقد صفقات
البيع والش ارء ويركن في أحد المقاهي يتسلى مع رفاقه
،وليس هذا فقط بل صارت الم أرة تشارك الرجل أعماله
فى المدينة ..حتى أضحى الرجل يختص بالجندية
تقريباً ،وأنا لا أشك إنها ستتسلم أدوات العسكرية منه
في يوم من الايام ،فهي طاقة كبيرة متواصلة فى
ديمومة الحياة والحفاظ عليها.
وألح على ذهني سؤال ،لماذا يترهب الانسان ؟
في حين انه يعمل كل شيء خدمة للاخرين ..فال ارهبة
تخدم ،وال ارهب يخدم ،تذكرت قول السيد المسيح :
38
(أنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون
كملائكة الله في السماء) .
فقلت مع نفسي لعلهم ا اردوا ان يبقوا في الدنيا
ملائكة لكي يكونوا فى الآخرة ملائكة ،ولكن هذا قتل
للجنس البشري فلو صار كل أهل الارض رهباناً لما
د َّب على الارض انسان بعد حين .
تقاطرت الاسئلة تلو الاسئلة حتى تحولت الى
خلايا أكول فحينما تأكل الافكار العقل ،تبقى
الجمجمة بلا معنى ويبحث الجسم عمن يقـوده فلا يجد
سوى أجسام بلا رؤوس ..الايادي تعطي الطعام " للفم
،والرقبة توصله الى المعدة ويسير الجسم بهذا الغذاء،
وتكثر الاجسام ،يبنون ينجبون ،يموتون بلا عين ترى
ولا أذن تسمع ولا عقل يفكر ..وتكبر المدينة إنها
ستكون مدينة بلا رؤوس .
39
يوم عاطفي
إنبثقت أول زهرة من أزهار الارجوان ،فشعت
خلال الاو ارق الخض ارء بريقاً لم أعهده من قبل ،جعل
عالمي كله مهرجاناً أحمر ،وجذبني جمالها فرحت
أطيل النظر في محياها ،رقتها ،قط ارت الندى
المتزحلقة على خدودها الشفافة ،كأن في أعماق
حمرتها عالماً من البهجة ،دنيا تحلق في سمائها انواع
الطيور الملونة .
إن كان العالم الذي يحيطني بهيجاً فهذا دليل على
أن طبول الحزن تد ُّق في قلبي وأُحاول أن أتناسى ،
ولكن هيهات فالواقع كالح مغبر كوجه الحرب اللعينة .
عند العصر رنمت ال ارهبات مقاطع من نشيد
الانشاد لا أدرى لماذا لم أستسغها فقد كانت غزلية
تتشبب بالم أرة بجسمها لفارع ،بجسدها البض كعنقود
عنب ،يشتهيه رجل الصح ارء ،وأنا فى خريف العمر
ومحال ان تطربني كلمات الشباب والنزق ،وهيهات
ان تأز عاطفتي عقلي وتجعله يفكر بالجنس الآخر ،
40
فلقد سكنت الرياح ،وانطفأت النار ،وتلاشت الغيوم
الممطرة ،وهرمت الاشجار فلن تلد ثما اًر أبداً أبداً .
نسيت أن سليمان الحكيم لا يقصد الم أرة بل
فلسطين الحبيبة ..فلسطين العرب التي حرض
بكلمـاتـه الصهاينة على اغتصابها منا ..فويل
للصهاينة من أهل كنعان .
واذا بي أرى عبر زهرة الارجوان وجه زوجتي
البريء محترقاً صارخاً مستغيثاً ..فويل للصهاينة
المجرمين مما اقترفوه بحقها وعصف غضبي يكيل
اللعنات على تجار الحروب س ارق الشعوب والاوطان
الذين بثوا علينا الجرذان لتقرض من أ ارضينا وتحيلها
مآ ٍس ..الويل لكم يا جرذان من غضب الاحفاد ومن
جحافل خيول العرب .
ولم تهدأ نفسي الا بمقدم قس لطيف نحيف
القسمات يتميز بعينين واسعتين ثاقبتي البصر ،
عرفني بنفسه وكان إسمه كلبرت وله هواية علمية وهي
البحث عن سر وردة الافيون فقد جلبوا له بذورها ،
41
وطلب مني أن أزرعها له ليرى كيف يتحول تويجها
الى جوزة وعند تجريحها يسيل منها سائل مستحلب
يحول عقل الانسان الى شيطان ،فلذلك يريد ان يختبر
هذا المستحلب ويحوله الى سائل رحماني يشفي
مرضى الصداع النصفي فلم أستطع أن أقتل الأمل
الذي ي اروده ..وفضلت أن لا أخبره أن هذه الزهرة ليس
موطنها الع ارق بلد الخير والمحبة بل موطنها بلاد
الاعداء الذين لا يعرفون غير الشر.
لذلك أخذت الحبوب منه وزرعتها فى مكان خاص
معين ،شكرني وذهب .
يوم عميق
تكونت صداقة بيني وبين القس الفارع الاشقر،
وعرفت اسمه فقد نادوه بـ (الأب شاول) وكان هادىء
الطبع يحب السكينة والهدوء ،وتغرورق عيناه بالدموع
كلما أنصت الى نوح الحمام المطوق .
42
كان الأب شاول يتمشى في الحديقة الخلفية وقت
الاصيل بعد أن شعر بتحسنها وجمال ثيلها ،وكان في
حديثه معي يعتذر عن تصرفه الاول حول الصندوق
بما يسعه الاعتذار ،و ارح يبدي لي اط ارًء على حسن
تنظيمي للحديقة بحيث تحولت الى وسيلة لاغ ارء العباد
كي يسبحوا للواحد الاحد ..فكنت أرد عليه بتواضع ،
ارح يحدثني عن الحياة وما تحويه من أحداث تافهة
وعجيبة ،مسيرة ومؤلمة .وكنت أرد عليه بجمل
موجزة بحيث عجب من ذكائي وسرعة بديهتي
وتعابيري ،فاحسسنا بتقارب آ ارئنا ،وتحاببت قلوبنا
وتلفعت بغطاء الصداقة .
قبل أن يبرح المكان ليذهب الى المكتبة قال لي :
ــــ إني أشعر بأن حادثة الصندوق ما ت ازل فى
مخيلتك كشيء غريب وتريد أن تفهم كنهه وتفك سره
فسوف أطلعك عليه عن قريب.
تركني جالساً تحت شجرة الزيتون المظللة أقارن
بين وجودي والاشجار ،فابسط شجرة تقدم ثمارها
43
بصمت ،وأنا مثلها الآن أقدم قلبي للآخرين بصمت ،
وفي الليل سمعت القس شاول يردد قصيدة باللغة
الانكليزية :
ــــــــ سأصنع من جسمي سفينة البحار
ومن ثيابي أشرعة تسير في الاعصار
أشق بها أمواج الحياة العاتية
فان تأرجحت سفينتي
رميت ما بها الى العباب
وإن تمزق ْت مع الضباب اشرعتي
سلخت جلدي كش ارع المتباري
أرفعه فوق الصواري
وإن طفح ْت سفينتي موجا الى حد الغرق
أحمل جسم البحر من دون قلق
وإن ينوء مركبي من ذلك الحمل المقيت
44
أدفنه فى القاع ...لعل أمره يشاع
لدى الق ارصنة .
أي شعر هذا وأي شاعر هذا إنه حقاً يحمل صليبه ! ؟
يوم لاهب
عند أول شعاع من أشعة الفجر الذهبي بدأت
نواقيس الكنيسة تدق دقاتها المهيبة برنين مموسق
عذب بحيث جعلتني أشعر بأن الملائكة تسبح للعقل
الاعظم وتهلهل لقوته وعظمته .
خرج ُت من غرفتي لأشاهد طيور النور البيضاء
وهي تحط على قبة الظلام وتطرد الظل الثقيل ،
وصار الشفق الشرقي جم اًر من لهيب قرمزي .
وإنطلقت أنواع الطيور تجوب السماء وتشارك بعزف
سمفونية الصباح ..
أي يوم مشرق كوجه حسناء دامية الخدود ،وأي نسيم
عذب كانفاس الزهور لطافة .
45
هذا اليوم هو ارحة المسيحيين وفيه ارحتي أو
بالاحرى حرية نفسي من نفسي .
تجولت في الحديقة الأمامية أتطلع الى الازهار
المتفتحة وأُ ارقب الوافدين الى الكنيسة وهم يدخلون من
البوابة الرئيسة رجالاً ونسا ًء واطفالاً ..مرتدين أجمل
الملابس ،يدلفون الى قاعة الكنيسة وكانوا بين الحين
والحين يحيونني فأرفع يدي محيياً وأطلق لساني
مصبحًا ،دقت أج ارس قلبي لاول مرة بعد مضي نصف
قرن ،فقد أريت من هفت لها نفسي أيام الشباب تسير
أمام أولادها الكبار متأبطة ذ ارع زوجها البدين ،وكأني
أبصرها ما فتأت على سالف عهدي بها من شباب
وحيوية وإنوثة ،رمقتني بنظرة لا أعلم هل عرفتني أم
لا ،لكنها تبسمت في وجهي وهي تواصل سيرها بتغنج
محتشم .
عجبت من نفسي ومن قلبي ،كيف سولت لهما
ذاتهما أن يعاودا حنين الصبا وهما بهذا الكبر
والشيخوخة ،فتركت الكنيسة هارباً من خيال الماضي
46
السحيق ومن قلبي المتهور ،لئلا أدنس الحب الاعظم
،الحب الزوجي المقدس ،وانطلق ُت خارج المدينة
متجهاً الى قناة الجيش وأنا أردد مع نفسي :
( سأصلبك يا قلب على جذع حبيب واحد ،وكفى ،
فطالما صلبتك على الأغصان ،فما أعذب مسامير
الحب ،ساغرز الكثير منها فيك ،لأربطك في الشجرة
،وتنمو أنت وهي معاً ،وتروي دماؤك جذور الحبيب
،فالم أرة خلقت لك لتبثها الكثير من العطف والحنان..
وأنت قد فاض بك هذان ،واستقطرت وسكبت وغرقت
وأغرقت ..واذا إستخف بك الناس فأحمل صليبك
وارحل بعيداً عن الأنظار ،ليقال بعد ذلك إنك مجنون
فما أحلى الجنون بمن تحب حتى وان لم يكن على قيد
الحياة ) .
عد ُت في المساء بعد أن أطفأ ُت الجذوة المتبقية
تحت الرماد ،وأطلقت قلبي مرفرفاً بين أرض وسماء
فوق الضفاف الواسعة الخض ارء لمنبسطة كبساط
47
مطرز ،حيث أحسست إني ذرة متناهية فى الصغر في
كيان الكون .
يوم أبيض
منذ الصباح حتى المساء ويدي في الحديقة
تشذب وتسقي وترتب وتنقل النباتات من مكان الى
آخر وتقتلع الادغال الضارة فقد آليت على نفسي أن
أقتل هذا الجسد عملاً ،وحين خارت قواي إغتسلت
وصعد ُت الى برج الناقوس حيث أستمع الى صوت
الحمام وهو يستكين الى أعشاشه وما دريت إني ساطل
على حديقة ال ارهبات ،فلا ادري هل الحمام انقلب الى
فتيات يلبسن المسوح الابيض أم أني أرى حقيقة منظ اًر
تخشع له القلوب ،فكأنهن مصابيح بيضاء تتحرك
وتغني بت ارتيل ربانية .
وكأن الزمان توقف ونبضات قلبي توقفت حتى
عيني توقفت أهدابهما عن الرمش ،فالمنظر قلما يرى
ويتكرر ،طيور تتحرك برقصة لم يرقصها بشر الا فى
الف ليلة وليلة وأصوات سحرية تفتت قلب الحجر .
48
هلوليا للجمال ..فهو غابة سحرية يحط في
أعشاشها النظر ،فيلقى السكينة المعطرة ،والاحلام
الهانئة ،والوداعة الطفولية ،والب ارءة الشاعرية ،فيخال
أن الجنة ملموسة لديه وإن ما لا يعرفه بدأ يفهمه ،
ويرسم صوره ،ويشيد هيكله واعمدته في قلبه حيث
الدنيا تتسع وتت ارمى في أُفق الخيال ،أنذاك يذوب في
الجمال ويذوب الجمال في نفسه ..وبينما أنا في هذه
التهويمة سمعت كلاما حفظته بسرعة يقول :
تغنجي
تغنجي
هوادج النساء
ثم أرقصي
كرقصة الحمام
علام ذا الشقاء
يا قلبي علام
49
سماء ..يا سماء
القبة الزرقاء للعطور
والأرض للأجسام
ما أن ِت يا حديقة الطيور
يا موطن الاحلام في أواخر الدهور
لئالىء الليل قواف
مجاهل الفكر سور
أين العبور
أين العبور
والجسر هاوية الحطام .
وبعد أن دونت هذا نم ُت قرب شباك غرفتي هانئاً .
50