The words you are searching are inside this book. To get more targeted content, please make full-text search by clicking here.
Discover the best professional documents and content resources in AnyFlip Document Base.
Search
Published by manhal62000, 2018-08-03 04:30:44

مذكرات راهب 3

مذكرات راهب 3

‫ُمذ َكّرا ُُت راه ُب ُ‬

‫تأليف‬
‫طلال عبد الجبار جاسم الع ازوي‬

‫الأردن ـــــ ‪2018‬‬
‫الطبعة الثانية منقحة‬

‫‪1‬‬

‫اسم الكتاب ‪ :‬مذك ارت ارهب‬
‫المؤلف ‪ :‬طلال عبد الجبار جاسم الع ازوي‬

‫تاريخ الطبع ‪2018 :‬‬
‫مكان الطبع ‪ :‬المملكة الاردنية الهاشمية ‪ /‬عمان‬
‫مطبعة ‪ :‬أرض ما بين النهرين ( ‪– 0787865533‬‬

‫‪) 0795470309‬‬
‫‪E- mail : [email protected]‬‬

‫رقم الايداع لدى دائرة المكتبة الوطنية‬
‫( ‪) 2018 / 4 / 2028‬‬
‫الناشر ‪ :‬مكتبة انتيكا – مساحة ثقافية ( يعقوب البهبهاني )‬
‫عمان – شارع الملك الحسين بن طلال – السلط سابقا‬

‫‪2‬‬

‫توطئة الكتاب‬

‫جاءني ساعي البريد بمظروف مسجل ‪ ،‬معنون‬
‫باسمي ‪ ،‬فوقعت في دفتر الرسائل وتسلمت ذلك‬
‫الظرف الضخم ‪ ،‬وفضضته‪ ،‬فبرز لي جلد مصفـر‬
‫كغـلاف كتاب قديم ‪ ،‬وقد ضَّم بين دفتيه مجموعة من‬
‫القصاصات الورقية السم ارء عدا الورقة الاولى فقد‬
‫كانت ناصعة البياض جديدة ‪ ،‬مما يدل على انها‬

‫كتبت حديثا فق أرتها بسرعة ‪ ..‬جاء فيها ‪:‬‬

‫حضرة الأديب الفاضل ( طلال الع ازوي ) المحترم‬

‫تحية قديسة ‪ ،‬وابتهالات دينية أرفعها من أجلك ‪..‬‬

‫اما بعد ‪ ..‬هذه مجموعة يوميات كتبها رجل حكيم‬
‫عاش في كنيستنا بضعة أشهر‪ ،‬ما عرفت له أهلاً ولا‬
‫أقارب ‪ ،‬بل جاءنا من فلسطين ومكث عندنا ق اربة‬
‫سنتين ورحل عنا عائداً الى بلاده ‪ ،‬عيناه حادتان‬
‫كعيني نسر لا تصمد أمام نظ ارتهما العيون ‪ ،‬ووجهه‬
‫مشرق بلحية فضية لامعة ‪ ..‬يعتمر الحرير الأزرق‬

‫‪3‬‬

‫فوق أرسه كانه شيخ من شيوخ العرب ‪ ،‬قليل الكلام‬
‫واذا تكلم جاءت كلماته عذبة ساحرة كانه يتكلم بلغة‬
‫القديسين ‪ ..‬كله حركة حتى يخال ــــ من ي اره ــــ انه‬
‫يرى شاباً نشطاً يعذب نفسه عملاً لا شيخاً بعمر‬

‫السبعين ‪.‬‬

‫قلما أريته يبتسم وكثي ار ما لمحته خفية يبكي‬
‫بصمت ودموعه تخ ّضل لحيته البيضاء ‪ ،‬بسيط‬
‫كبساطة الرعيان ‪ ،‬وديع كوداعة الحملان ‪ ،‬يدخل‬
‫القلوب منذ الوهلة الاولى ‪ ،‬ت اره أيام الأحاد يستودعه‬
‫الآباء أطفالهم ليحضروا القّداس ‪ ،‬ويحتلق الاطفال‬
‫حوله في الحديقة فيعلمهم دون أن يشعروا فكأنه يلعب‬
‫معهم ‪ ،‬وبعد القّداس يخرج الآباء ويستمعون له بخشوع‬

‫كأنهم أمام بحر لا يعرف له ساحل‪.‬‬

‫وحينما كانت بغداد تقصف بصواريخ اي ارنية اثناء‬
‫الحرب الع ارقية مع اي ارن شدته رغبة الخروج من الع ارق‬
‫‪ ،‬والعودة الى فلسطين ‪ ..‬وكم حاولنا ثنيه عن عزيمته‬

‫دون جدوى ‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫وقد دون فى هذه اليوميات انفعالاته النفسية وآ ارءه‬
‫الفكرية في الحياة والمجتمع والأدب والفن ‪ ،‬وضمنها‬
‫الحوادث المهمة التي شاهدها خلال اقامته فى كنف‬

‫الكنيسة ‪.‬‬

‫ولكنه ما أن سرد قصة حياته على الورق أخي ًار‬
‫وسلمني هذه الوريقات حتى ودعنا ــــ أنا وعروسي ــــ‬
‫بصمت ‪ ،‬وانطلق متجهاً الى محطة (العلاوي) ليركب‬

‫باصًا تتجه الى الأردن ومنها الى فلسطين ‪.‬‬

‫كان ذلك فى ليلة زواجي ‪ ،‬اذ ما ان بعث الله لي‬
‫شريكة الحياة حتى برحنا ذلك الانسان الذي وجدت‬

‫عنده العطف الابوي اذ طالما افتقدته ‪.‬‬

‫وهكذا عاشت مذك ارته عدة شهور بحوزتي ‪ ،‬أعود‬
‫لها بين حين وآخر عندما أحس بحاجة الى سلوى‬
‫تسليني ومتعة تمتع فكري ‪ ،‬وأكثرما كنت أتمثل باقواله‬
‫عندما أُلقي مواعظي وخطبي في قاعة الكنيسة ‪ ،‬فارى‬
‫المستمعين يخشعون لكل كلمة أرددها من كلماته ‪،‬‬
‫وسجلت كل ما كتبه على جد ارن قلبي ‪ ،‬وقلت مع‬

‫‪5‬‬

‫نفسي أن أبعث هذه الوريقات اليك فعسى أن تخرج‬
‫أفكاره بجسد أجمل ‪ ،‬وحلة أبهى ‪ ،‬فانها ــــ في نظري‬

‫ــــ نعم الش ارب الفكري إن أرتوى منه الناس ‪.‬‬
‫وأخي اًر تقبل شكري وإبتهالاتي‬

‫ودمت لصديقك القديم‬
‫الأب شاول‬

‫كنيسة الارمن ـــ ساحة الطي ارن‬
‫بغداد ـــ الع ارق‬

‫‪6‬‬

‫البــدايــة‬

‫جئت من فلسطين الذبيحة أبحث عن أرض وعن‬
‫سماء ‪ ،‬بعد أن عصر الزمن من عمري السبعين سنة‬
‫‪ ،‬وكانت حياتي كأنها مد عظيم أعقبه جزر فظيع ‪،‬‬

‫فتبدلت السعادة الحلوة شقا ًء أبدياً ‪.‬‬
‫خلت ما حدث لي من فعل القدر‪ ،‬وظننته مرة من‬

‫عملي ومرة أخرى من فعل المجتمع البشري ‪.‬‬

‫هيهات أن نرتشف العسل طيلة العمر ولا نشتاق‬
‫الى طعم العلقم ‪ ،‬وأن لم نشتق اليه فسيأتي عنوة‬
‫أوعلى غفلة منا ويملأ أفواهنا الى حد التخمة ‪ ،‬أنذاك‬

‫نفقه الحياة ‪.‬‬

‫ولكني الآن في عيد ميلادي السبعين ‪ ،‬حيث لا‬
‫شموع أمامي لأطفئها بل الشموع في قلبي متألقة لا‬
‫تنطفىء ‪ ،‬تضيء ذكرياتي وتسعدني ‪ ،‬لأني أخي اًر قد‬
‫تخلصت من الناس ورددت هبـاتهم واسترجعت حريتي‪،‬‬

‫‪7‬‬

‫وهكذا تخلص المجتمع مني مادياً وفقدني معنوياً كما‬
‫أعتقد ‪.‬‬

‫إن أفكاري تسّير روحي مثلما الريح تركب عربة‬
‫السحب وتلهب بسوطها أظهر الغيوم فتركض ‪،‬‬
‫وتسوقها في طريق السماء لتسبق الزمان وتتحرر من‬
‫المكان لانها ترى الفضاء واسعاً وتخال أنها ستصل‬
‫حدوده ‪ ،‬وتعرق الغيوم وتلهث الريح وينهكهما الطواف‪،‬‬
‫ويتحطمان سوية ‪ ،‬وتتناثر أشلاؤهما قط ارت مطر قبل‬
‫أن يبلغا النهاية ‪ ،‬لأن لا نهاية هناك سوى الصيرورة‬

‫تعانق العدم ‪.‬‬

‫وهكذا بقيت مع الارض التي تدور ‪ ،‬أدور معها ‪..‬‬
‫حيث جئت الى بغداد مدينة الحرية بعد أكثر من‬
‫ثلاثين سنة مرت على حرق الصهاينة لداري وبداخله‬
‫عائلتي ‪ ،‬وسرقوا بستان أجدادي ‪ ،‬وخلال تلك الفترة‬

‫كنت أهيم في كهوف الأردن الجبلية ‪.‬‬

‫وته ُت في مدينة بغداد ليس لي هدف سوى أن‬
‫أتمتع بالحرية التي طالما بحثت عنها منذ أن استولى‬

‫‪8‬‬

‫الصهاينة على مدينتي بيسان مدينة العرب الكنعانيين‬
‫‪ ..‬ولكن كيف لكليوبت ار أن تحتفظ بهدية انطونيوس ‪. .‬‬
‫فما أسرع ما باعتها لهيرودس ‪ . .‬لقد بيعت المدينة ‪..‬‬

‫فيا لعار الم ازد ‪.‬‬

‫يوم طيف‬

‫صحوت على زقزقة العصافير‪ ،‬وكانت نجمة‬
‫الصباح تجر أذيال العرس الى مخدعها خلف الافق ‪.‬‬

‫كانت هواجس الاحلام ما ازلت تضمخ عيوني‬
‫وتعطر أنفاسي فاحاول أن أعيشها مع نصفي الثاني ‪،‬‬
‫فمددت يدي الى جانبي لأتحسس زوجتي أما ت ازل ارقدة‬
‫أم أنها إستيقظت ‪ ،‬فحطت يدي على حشائش ندية‬
‫رطبة ‪ ،‬جفل ُت ‪ ،‬فقد كنت أتوقع جسدها الطري الدافىء‬
‫‪ ،‬وان ازلت آخر أطياف الاحلام من عيني وخيالي‬

‫واصطدم ُت بالواقع ‪ ،‬بوجهه الصفيق الغولي ‪.‬‬

‫أجل فانا الآن لس ُت على ف ارش الزوجية الوثير بل‬
‫على ثيل احدى الحدائق العامة ‪ ،‬خف ُت من هذا الواقع‬

‫‪9‬‬

‫لأني أعرفه م اًر ‪ ،‬وأطبق ُت جفوني ثانية ‪ ،‬واسترسل ُت‬
‫في أحلامي الملونة العذبة ‪ ..‬وعـد ُت بذكرياتي الى‬
‫الماضي المضبب ‪ ،‬وتصورت سابق عهدي بزوجتي‬
‫الحبيبة يوم كانت تستيقظ على تسلل يدي نحوها مع‬

‫انطلاقة أول شعاع من الفجر الاشهب ‪.‬‬

‫وتشرق من وجهها ابتسامة وردية ساحرة تنطلق منها‬
‫طيور الحب لتغيب فى أحداقي‪ ،‬وما أن تشرب قهوة‬
‫الصباح حتى تقهقه بخفة وحلاوة وتجذب أرسي برفق‬
‫لتقرب شفتي من شفتيها ونرتوي من معين الحب‬

‫وسلسبيل الهوى ‪.‬‬

‫هكذا بقيت مع نشـوة تلك القبلة حتى رشت‬
‫الشمس نورها عل َّي وفتح ُت أجفاني فاذا أنا ألثم حشائش‬
‫الحديقة وأرتشف من طّلها ‪ ،‬فكأن قلبي وضع في‬

‫مجمرة نار فاحترق رماداً ‪.‬‬

‫نهضت لأهيم على وجهي في هذه الدنيا ‪ ،‬فأنا‬
‫أعلم أن لا مفر من واقعها المرير ‪ ،‬تملكني الضياع اذ‬

‫‪10‬‬

‫أعرف الناس ولا أحد منهم يعرفني لقد أنكروني‬
‫فأنكرتهم ‪ ،‬آه من الوحدانية ‪.‬‬

‫و ارحت الاطياف تسبح في بحيرة قلبي وتت ارشق‬
‫بالعواطف فيشبك الحنان الحقد ‪ ،‬ويقّبل الألم السعادة ‪،‬‬
‫وتتعانق الأنانية مع الانسانية ‪ ،‬آنذاك ذب ُت فى عالم‬
‫الامواج العاتية مسحو اًر بالوان الشروق ‪ ،‬ولكن الاعداء‬

‫استغلوا تهويمتي وبرقعوا الشمس ‪.‬‬

‫بعد أن هرب الفجر من فمي ‪ ،‬زرع ُت الموت في‬
‫دمي ‪ ،‬وطارت الاحقاد في سماء نفسي ‪ ،‬و ارحت‬
‫تقتات الخير والسلام وتقرع طبول الموت ‪ ..‬فيكشر‬
‫البشر كالذئاب يتلمضون ألسنتهم لشرب الدم ‪ ..‬ألف‬
‫د اريكولا عاد بعباءة سوداء ‪ ..‬الخنافس أضحت أغوالا‬
‫‪ ..‬وصارت الاشواك تحارب الاشجار ‪ ،‬والمكر يقارع‬
‫الخير‪ ..‬والمجانين يتسنمون دفة الحكم يسبحون لاله‬

‫الحرب لكي يم َّن عليهم بادوات الابادة ‪.‬‬

‫وطني العربي أينما أتنقل في أرجائك أجد الأعداء‬
‫يحيطون بك ‪ ،‬يا لعظمتلك ‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫يوم عسلي‬

‫ما أجمل السعادة في يوم عرسها ‪ ،‬ولكنها‬
‫كوميض سحري خلاب ش َّع وانطفأ ولم تبق سوى‬
‫الصور قد علقت على جد ارن الفكر ‪ ،‬فكلما أرد ُت أن‬
‫أهرب من واقعي الكالح أدخل الى متحف ذكرياتي‬
‫فاتجول فيه مسبل الاجفان أمُّر بالصور مرور‬
‫السائحين وأقف متأملاً الفلم الذي صورته ذاكرتي ‪،‬‬
‫تظهر فيه زوجتي واطفالي ‪ ،‬فاشهق مع كل صورة‬
‫اتخيلها وانصهر مع طيوفهم ‪ ..‬فها هو دارنا في بيسان‬
‫وخلفه بستاننا المطل على نهر الغور ‪ ،‬وكيف ركضنا‬
‫في الصباح الى البستان وضمنا الفردوس وحدنا لا من‬
‫رقيب سوى الله والشمس والاشجار والطيور وكانت‬
‫الاشجار حبلى بالثمار‪ ..‬فقطفنا كفايتنا ‪ ،‬وافترشنا قرب‬
‫غدير مكركر يصب بوادي النهر بعد ان ينحدر كشلال‬
‫‪ ..‬وتنشغل ابنتاي باللعب مع الف ارشات القزحية الهائمة‬
‫‪ ..‬وألهو مع زوجتي أذبح لها الزهور وأطيب بها خديها‬
‫‪ . .‬وأنحر لها الجنبد لأح ّمر به شفتيها ‪ ،‬ثم أعصر في‬
‫فمها رحيق الفاكهة فتأبى الا أن تزقني منه ثغ اًر بثغر‬

‫‪12‬‬

‫‪ ..‬وكم سبحت عيناي في عينيها ‪ ،‬وكم صرنا‬
‫كالاطفال ولعبنا مثل أطفالنا بحصا النهر ‪ ،‬وشعرنا أن‬
‫الملائكة ترفرف فوقنا ‪ ،‬وأن النسائم العطرة ما هي إلا‬
‫طيوبهم تضوعنا فكأن جنة الله قد تجسدت لحظتئذ ‪. .‬‬
‫وكأن الأيام اجتمعت آنذاك ‪ ..‬وشعور في داخلي يقول‬
‫‪ :‬تمتع بهذا اليوم الجنائني واملأ منه عيونك وعواطفك‬
‫فستأتي أيام الجفاف والم اررة عجلة ‪ ،‬فالكل باطل وحلم‬
‫قصير ‪ ..‬كنت لا أدع هنيهة تمر إلا وأطبعها في‬
‫ذاكرتي بأحلى أبعادها ‪ ..‬آه ايها القلب لا تخفق ولا‬
‫تسيلى أيتها الدموع ‪ ..‬ولا تلطمي أيتها الروح ‪ ..‬كفى‬

‫‪ ..‬كفى ‪.‬‬

‫سأصنع من الكون الأحدب قارورة أملأها خم ًار‬
‫وشع اًر وأزين فيها أف ارحي وأت ارحي ‪ ،‬فإن غضب‬
‫الأحدب أسكرته من خمرتي وإن فرح الأحدب مدحته‬
‫بقصيدتي ‪ ،‬وستبكي الحياة فى مخدع عرسي وتصرخ‬
‫‪ :‬أين عفتي ؟ فأجيبها بوابل المكر والخداع ‪ :‬أليس‬
‫الرجال قوامين على النساء ‪ ..‬وتبكي فأغتسل بشلال‬
‫دموعها حتى إذا جفت مآقيها وسال ثغرها شهداً محلباً‬

‫‪13‬‬

‫أمطرتها بوابل الحب والقبل فتزداد تبسماً في وجهي‬
‫وأظل أرتوي من معين شفتيها حتى إذا أتخم أُطّلقها‬

‫فتهيم في الطرقات من جديد لتعشق شاباً آخر شريداً‪.‬‬

‫فيا ترى هل أنا الذي طلق ُت الحياة أم هي‬
‫إنفصلت عني وتركتني ‪ ،‬أم إن بني البشر فرقوا بيننا‬

‫‪ ..‬لس ُت أدري ! ‪.‬‬

‫يوم غريب‬

‫أرسلت الشمس خيوطاً من ذهب وأغرقت‬
‫الارض بنورها البرتقالي ‪ ،‬وبدأت الأحياء البشرية تد ُّب‬
‫على الارض لغاية في نفسها ‪ ،‬حثتني رغبتي فسرت‬
‫قاطعاً شارع الرشيد وتجنب ُت مسير السابلة فمشي ُت فى‬
‫جادة السيا ارت هرباً من الت ازحم بالمناكب ‪ ،‬كان المارة‬
‫يرمقونني ‪ ،‬قسم بازد ارء كأني كلب أجرب وقسم آخر‬
‫برثاء لأني لا أملك ملابس كملابسهم الجديدة المنتفخة‬
‫جيوبها نقوداً ‪ ..‬وليتهم علموا أن الله لا ينظر الى‬
‫الاشكال إن قبحت أو جملت إنما يبصر القلوب‬

‫‪14‬‬

‫الطاهرة ‪ ..‬وخير الناس من ملك نفسه والحمد لله فانا‬
‫لا املك سواها ‪.‬‬

‫كنت أوزع الابتسامات بوجوه العابسين والمستخفين‬
‫والمزدرين وفي قلبي مناحة ‪ ،‬لأنني أشعر بصغر‬
‫نفسي أمامهم ‪ ،‬وأحس بسهام عيونهم تدينني لأني لم أستطع‬

‫أن أحافظ على أرضي ‪.‬‬

‫أكثرُت من المسير حتى ضحكت الشمس مني‬
‫وبكت فوق أرسي ‪ ،‬ونستني عند المغيب ‪ ،‬وبذلك نل ُت‬
‫رياضة روحية تسمى لدى الهندوس بتهذيب الروح ‪،‬‬
‫ولكن كيف للجسد أن يصمد حتى النهاية ‪ ،‬وهو الذي‬
‫يخذل الروح في آخر المطاف أن الألم في الحياة‬
‫يتسلسل وفق منهاج الطبيعة الشريرة فمن يكن أقوى‬
‫إ اردة وأصفى نفساً ين ُج ‪ ،‬ومن يكن متضعضع الكيان‬
‫ضعيف النفس يسقط فى الهاوية وأنا بلا كيان ‪ ،‬وواهن‬
‫النفس‪ .‬يقول غوركمان (أن إنحطاط العقل بالو ارثة) أما‬

‫أنا فانحطاط عقلي سيكون من ج ارء الحزن والالم‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫ورح ُت تعلل بقول المتنبى ففيه وصف حقيقي لما أنا‬
‫فيه ‪:‬‬

‫بم التعلل لا أهـ ٌل ولا وطن‬
‫ولا نديــٌم ولا كأ ٌس ولا سكن‬

‫أريــد من زمني ذا أن يبلغني‬

‫ما ليس يبلغـه من نفسه الزمن‬

‫لا تلق دهـرك الا غير مكترث‬

‫ما دام يصحب فيه روحك البدن‬ ‫ا‬

‫لكن كيف لا اكترث وكل شيء يباع في أسواق‬
‫النخاسة حتى العيون ‪ ،‬عين الميت بالف وعين الحي‬
‫بمليون ‪ ،‬فيأتي إبن يبيع عين أبيه ويأتي أب يبيع عين‬
‫إبنه ‪ ،‬المال وحده زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬المال وحده كون‬
‫كبير ‪ ،‬وتخزن حتى الدماء ‪ ،‬وتجمع ليعيش عليها‬
‫الاغنياء لقاء حفنة من ت ارب تدفن عيون الرغاب ‪. .‬‬

‫المجد للمال على الارض والموت للضعفاء ‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫يوم صح اروي‬

‫أن طعامي في أكثر الاحيان بعض حبات من‬
‫العنب اليابس يقول الرواة أن حبة زبيب أطعمت أربعين‬
‫إنساناً ‪ ،‬أما في جوفي فكل حبة تغذي ألآف الخلايا‬
‫الجسدية ‪ ،‬ولكني في هذا اليوم لم أجد تلك الزبيبة‬
‫لتطعمني ‪ ،‬بل أعطاني واحد من الناس رغيف خبز‬
‫وقال لي ‪ :‬أيها الشيخ إق أر سورة الفاتحة عند كل لقمة‬

‫على روح ‪..‬‬

‫وقاطعته مداعباً ‪:‬‬

‫_ وهل يحتاج ميتكم الى هذه الفاتحة !!‬

‫نظر الى بدهشة ولم يجد جواباً وسار في طريقه‬
‫رحت أقطع الرغيف فتاتات صغيرة ‪ ..‬ورح ُت من‬
‫الصباح حتى المساء كل ساعة أحصيها في ظل‬
‫الشمس الممتد أأكل فتاتة منها وأمضغها جيداً وعند كل‬
‫مضغة أردد ( الحمد لله رب العالمين ) على الميت‬

‫‪17‬‬

‫المجهول عسى أن تنفع وتكون وسيطة لدى الرب لعتق‬
‫تلك الروح ان كانت في الجنة او النار ‪.‬‬

‫أنا جائع والارض جائعة ‪ ،‬حياتنا تعايشية ‪،‬‬
‫الارض تهبني الطعام من جسدها ‪ ،‬وأنا أهبها الغذاء‬
‫غداً بكل جسمي بعد أن أمر بتنور الحياة كما مرت‬
‫حبات الحنطة بلهب التنور وأمست صالحة للأكل ‪،‬‬
‫الأرض وحش كبير يفد البشر الى جوفه رغماً عنهم‬
‫بعد ان يصلوا الحد الذي لا يتمكنوا فيه ان يستدينوا من‬
‫الارض ويماطلوها ‪ ،‬وهذه هي نهاية دفع الديون لأمنا‬

‫الارض المتوحشة ‪.‬‬

‫فجأة أشرقت في فكري قصيدة ابن سينا‬
‫الفيلسوف التي مطلعها ‪:‬‬

‫هبطت اليك من المحلل الارف ِع‬

‫ورقاء ذات تعزز وتمن ِع‬

‫وتذكرُت روحي اذ لم أتعَّرف عليها من قبل فقد‬
‫كانت هادئة وديعة صغيرة في عين ذاتها يعطى لها‬

‫‪18‬‬

‫القليل فتقنع عن طيبة قلب وعن رضى خاطر ‪ ،‬فما‬
‫أن يحادثها أحد حتى تنصت له بكل جوارحها ‪ ..‬فتتألم‬
‫لألمه ‪ ،‬وتفرح لفرحه ‪ ،‬وتنساب مع أهواء الاخرين لا‬
‫كما تريد أهواؤها وكانت تضحي بكل عزيز وغا ٍل في‬
‫سبيل الوطن حتى لتكاد تحسبها مثالا للتضحية ونك ارن‬
‫الذات ولكن كيف للدهر أن يترك مثل هذه المتفانية في‬
‫جنة النعيم في نعيم الحب البريء والسعادة القلبية‬
‫وال ارحة الفكرية ‪ ،‬فقد دارت عجلة الزمن باقصى‬
‫سرعتها او بالاحرى كرت الايام بدون حسبان ‪ ،‬وكانت‬
‫في غفلة عن أمور الوقت وما و ارؤه من طموح الشباب‬

‫ورغبة الرجولة وأحلام الكبر‪.‬‬

‫حتى هبت عاصفة هوجاء على المدينة بحيث‬
‫شردت سكانها من دورهم ومآويهم ‪ ،‬فهربت تلك العذ ارء‬
‫مع الهاربين وهي تنطلق لاول مرة من بوتقتها رغمًا‬

‫عنها ‪.‬‬

‫تخبطت العذ ارء فى تلك الاونة محاولة أن تتكيف‬
‫كما يتطلب الموقف ‪ ،‬عجزت ‪ ،‬تعبت ‪ ،‬لهثت ‪ ،‬لأنها‬

‫‪19‬‬

‫غير قادرة على الخطب الجسيم ‪ ..‬فمن تكيف في بيئة‬
‫وأقتلع منها ونقل الى بيئة أخرى يصعب عليه التكيف‬

‫بها من جديد ‪.‬‬

‫حاولت هي أن تهرب من الصح ارء المحرقة التي‬
‫أح َّست فجأة أنها مرمية فيها قس اًر ولكن أين المهرب ؟‬
‫وأينما شطرت وجهها ترى الصح ارء تكبر وتمتد ‪،‬‬
‫و ارحت الاتربة والرمال تت اركم عليها حينئذ رضخت‬
‫للأمر الواقع بعد أن تبرقعت بالسواد‪ ..‬وسايرت الركب‬

‫الشاق طريقه في الصح ارء ‪.‬‬

‫بدأ العطش يأخذ مأخذه ‪ ،‬عطشت ‪ ،‬تقلت ‪،‬‬
‫وانتظرت قليلاً من الغيث لتروي ظمأها ولكن دون‬
‫جدوى من الانتظار ‪ ،‬ترّجت الأصدقاء والأقارب فلم‬
‫يمدوا لها يد العون ‪ ،‬والتفتت صوب المجتمع ف أرته‬
‫يكرع كؤوس السعادة بعد أن ي اروغ ويخادع ويسلب‬

‫وينهب نصيبها ونصيب أمثالها ‪.‬‬

‫آنذاك تعلمت كيف تتحايل كي تكسب حصتها‬
‫لارواء غليلها ( ولكن الصح ارء تطول وتتسع ) هكذا‬

‫‪20‬‬

‫حادثت العذ ارء ضميرها (فكيف لها ان تبقى بهذا‬
‫الاطار هذا الضيق بهذه الانانية التي تقمصت بها‬
‫رغماً عنها ‪ ،‬وهي التي فطرت على حب الخير للجميع‬
‫‪ ،‬وترعرعت في جنان العمل من أجل الاخرين ‪ ،‬فكيف‬
‫لها أن تعمل مرغمة من أجل ذاتها وارواء شهواتها ‪،‬‬
‫من أجل أن تنال أكثر من غيرها ‪ ،‬وأن تسلب حقوقها‬

‫من الافواه الشرهة بالقوة والمكر) ‪.‬‬

‫طاش تفكيرها وكادت أن تذرف الدموع سخية‬
‫حارة لعلها تخفف مما تكابده ‪ ،‬ولكن الدمع انحبس في‬
‫مآقيها فبكت بصم ٍت وسحت الدماء من قلبها بدل‬
‫الدموع ‪ ،‬وحاولت أن تغسل الاد ارن العالقة بها ولكن‬

‫دون جدوى ‪.‬‬

‫أين أنت يا طريق العودة ‪ ،‬بعد أن تاهت عذ ارئي‬
‫« تلك هي نفسي » في صح ارء المشردين المحرقة من‬

‫سيعيدها الى الجنة‪ ..‬جنة بيسان‪ ..‬من ياترى ‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫يوم ملائكي‬

‫أحببت الاطفال لأني أبصر فيهم الب ارءة‬
‫كأنهم عصافير صغيرة داخل الغابة ‪ ،‬وأرى الوداعة‬
‫تطل منهم كأنها زهرة بيضاء تداعبها النسائم ‪ ،‬أحببتهم‬
‫لأني أشاهد في عين ذاتي الملائكة قد تقمصت هيئة‬
‫الاطفال ‪ ،‬فكن ُت أرنو إليهم من بعيد أو قريب ‪ ،‬فأفرح‬
‫مع فرحهم وأحزن لحزنهم وأدنو من الحمائم البشرية‬
‫فأمسد شعرها الناعم بيدي فاحس بنعومة أمواج البحر‬
‫‪ ،‬وحين كنت أتمشى في حديقة «الأمة» اذا بطفل‬
‫يترك يد والدته فجأة ويركض نحوي ويتعلق بلحيتي‬
‫البيضاء وضحكت من عمله ولو إنه آلمني بعض‬
‫الشيء ولكني فرحت به وبتعلقه ولكن هذا العمل‬
‫أغضب والدته وجاءت توبخه وتعنفه وهو يقول لها‬
‫«انه بابا نوئيل » ولكن مع الاسف الشديد لم أكنه‬
‫لأنني لا أملك أية هدية أقدمها له ‪ ،‬يومها عرفت أن‬
‫الاطفال يتذوقون الجمال أكثر من الكبار فهم ما ازلوا‬
‫على ب ارءة الطبيعة وهذا ما حداني أن أكون دوما‬

‫‪22‬‬

‫نظيف الجسد والملابس لأني أغتسل في المساجد أو‬
‫الكنائس أو الشواطىء أو تحت شلال الشمس ‪.‬‬

‫وما الدنيا الا أن يعيش المرء مع الاطفال ويكون‬
‫كطفل ساٍه لاٍه كملاك فى السماء ولكن تباً للمقدور‬
‫الذي سلب مني أطفالي وجعلني أنظر الى باقي‬

‫الأطفال بقلب مكسور وطرف محسور ‪.‬‬

‫عندما هطل الليل ولّفع المدينة بالظلام ‪ ،‬إستيقظ‬
‫حنيني للمجهول ورح ُت في غفوة سحرية تت ارءى فيها‬
‫الاطياف والملائكة وانجذل قلبي لحظة صياح الديكة‬
‫‪ ..‬وخفقت الآمال في نفسي لحظتئذ تلتقي الافكار‬
‫تتعانق الهواجس بيني وبين من أحبهم أجل فالموعد‬

‫المحدود قد أزف ‪.‬‬

‫ها أنا لا أنال سوى الذكرى السارية والخيال العابر‬
‫ولكن بهما سلوتي وسعادتي اذ أين من أحبهم وهم‬
‫بعيدون ‪ ،‬بيني وبينهم جسم وأرض ‪ ..‬فيا ترى متى‬

‫سألتقي بهم ‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫وأخذ ُت أكتب ‪:‬‬

‫أحبتي سنلتقي عندما يحتدم الص ارع بين قلبي‬
‫وقلوبكم فيغرس الشوك مخالبه بخدود الصبير ‪ ،‬وتطل‬
‫أنياب الذئاب لتطحن عظام الحجر‪ ..‬فتصرخ قلوبكم‬
‫على وقع سياط الألم ‪ ..‬وترقص نفوسكم طرباً ونشوة‬
‫لأن عالم الافاق الملونة قد فتح صدره وضمنا بعنف ‪..‬‬

‫وطارت عواطفنا فى سمائه ‪.‬‬

‫عندئذ سأصيح بقوة ‪ ..‬ولكن فمي بلا لسان‬
‫فيخرج كعواء ذئب فى ليلة كبر فيها القمر ‪ ..‬تسمعه‬
‫زوجتي وتسقط تحت جسري بلا وعي جثة باردة يتفصد‬
‫منها الثلج فتهطل أمطاري الدافئة وتغرقها في بحر بلا‬
‫ساحل وتقهقه بكبرياء الانوثة وتمزق ثيابي الرقيقة‬
‫باظافرها المدببة ‪ ..‬عندئذ تعود سفني الى م ارفئها ‪..‬‬
‫فتثور كالبحر وتمزق أشرعتي ‪ ..‬ولكن سفني لدى‬
‫المرفأ بأمان قد عادت بحمولة السندباد من حرير‬
‫ولآلىء ‪ . .‬فترتد أمواجها كسلى تنتظر متى يح ُّن‬
‫السندباد للرحيل ولكن سفني لن تقلع مرة أخرى فالبحار‬

‫‪24‬‬

‫أمست صحارى ‪ ..‬فكيف لسفن ان تسير وسطها بلا‬
‫موج بلا ريح بلا هدف ‪.‬‬

‫يوم عذب‬

‫في هذا اليوم الصيفي سبح ُت في نهر دجلة ‪،‬‬
‫غص ُت الى الأعماق ‪ ،‬وسبرت أغوار اللاكيان ‪،‬‬
‫وشعرت أني أندمج في ذات كثيفة ولطيفة ‪ ،‬وخرجت‬
‫بعدها فرشقتني الشمس النارية بسهامها المتوهجة ‪،‬‬
‫وعند الاصيل توسدت حشائش الحديقة العامة ثَّم نمت‬
‫الليل الطويل بعد أن تعبت عيناي من رصد النجوم‬
‫والقمر ‪ ،‬ما شرب ُت ما أكلت لا أشهى ولا أطيب فهي‬
‫كل أنواع الاطعمة على مائدة العشاء الرباني ‪ ،‬قد‬
‫نزلت من الرب لأجلي أنا المصلوب على الارض‬

‫المسمر بعظام بناتي في قلبي وصدري ‪.‬‬

‫صرت أحلم بأحلام الجنة العذبة وملائكتها‬
‫الفضية فداخلني إحساس غريب كأن أكثر روحي هناك‬
‫وتمني ُت أن تذهب كلها الى الجنة ‪ ..‬ولكني أخاف‬

‫السأم ‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫كان الله يحفني وعلى وجهه اش ارقة نو ارنية لم أره‬
‫حقيقة ولكنه خيل لي في عقلي الباطن فى أعماق‬

‫بحيرة الجمجمة ‪.‬‬

‫آه رباه ‪ ،‬أحن اليك كحنيني الى الجنة ‪ ،‬أحن‬
‫اليك كلما ضمني سأم واعترتني ضجة الألم ‪ ،‬فما حبي‬
‫لك الا معرفتي ببعض صفاتك ‪ ،‬وما شوقي اليك الا‬
‫أملي في السكينة تحت ظلالك الوارفة ‪ ،‬فقد أتعبتـني‬
‫الحياة وب ُت لا أستعذب أيامها ‪ ،‬حتى كدت أن أم َّل‬

‫نفسي إن لن تمَّلني هي وتهرب ‪.‬‬

‫ولكن أين المهرب وسيف الحياة مسلط بوجهي‬
‫أينما يممته ؟‬

‫حنانيك يا بح اًر بلا الوان فالعاصفة في جناني تجتاح‬
‫أبعادي ‪ ،‬تغمرني تطمرني ‪ ،‬تعصرني كخرقة بالية‬

‫كسمكة صغيرة ضائعة وسط المحيط ‪.‬‬

‫ايه يا بنات اللسان ما أنت الا كيان محدود فكيف‬
‫أُعّبر بك عن أعمق أعماق مشاعري حيث أج ارس الألم‬

‫‪26‬‬

‫ما ازلت تد ّق بشدة في أغوار قلبي وما ي ازل الرنين‬
‫المدوي يضعضع كياني يرجني ‪ ،‬يقتلني ‪ ..‬آه يا للهول‬

‫‪.‬‬
‫هدأ الاعصار في قلبي بعد ذلك وتلاشت ألحان‬
‫السماء وطارت في الصباح الباكر قوافل النوارس‬
‫متجهة صوب البحار الزرق للاوقيانوس العظيم ‪..‬‬
‫تحمل رحيق أفكاري فوق أجنحتها البيضاء ‪ ..‬وعندما‬
‫تستحم فى المياه تتناثر الافكار وتغور في المياه فتسرع‬
‫صوبها الاسماك تخالها طعاما من نثار مائدة الرب ‪..‬‬
‫فتلتهم منها الصغيرة والكبيرة وما تشبع لأن كل ما‬
‫تأكله رغوة من رغاوي الفكر‪ ..‬طعماً بلا سنارة ‪،‬‬
‫وتهجم النوارس ازعقة وتلتقط من المياه كل سمكة‬

‫مغرورة مخدوعة ‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫يوم مشرق‬

‫التقيت في الصباح بصديق قديم ما أن‬
‫أبصرني حتى طار فرحاً و ارح يستفسر عن أحوالي وأنا‬
‫أجيبه باقتضاب ‪ ،‬فما أن علم إني وحيد في بغداد حتى‬
‫رجاني أن التحق بالكنيسة التي يشرف على خدمتها ‪..‬‬
‫كان صديق طفولتي ‪ ،‬عرفته منذ أن كنا معاً في‬
‫مدرسة بيسان ‪ ،‬كان متعمقاً بأمور الدين ويقوم بم ارسيم‬
‫الديانة على خير وجه ‪ ،‬أما أنا فكنت أفكر وأخال‬
‫نفسي تتصل مع الفكر الاعظم ‪ ،‬أما هو فكان يعذب‬

‫جسده لكي يفكر ويقتل قلبه لكي يحب الرب ‪.‬‬

‫وعدني بأنهم سيوفرون لي المأكل والمشرب‬
‫والملبس والمنام على شرط أن انظف الكنيسة كل يوم‬
‫خاصة يوم الأحد قبل مجيء المصلين وبعد خروجهم‬
‫‪ ،‬فرفض ُت وبعد مداولات وجد لي عملاً مع رغبتي وهو‬

‫أن أخدم حديقة الكنيسة ‪ ،‬أجملها نظافة وتنسيقاً ‪.‬‬

‫كنت أبحث عن بعض السلوى والمهرب لنفسي‬
‫الضالة فجاءني العمل ساعياً على قدميه يقدم لي هذا‬

‫‪28‬‬

‫المجال الذي هو باب خلاص كعين الابرة حين تكون‬
‫مم اًر لجمل ‪.‬‬

‫وافق ُت بعد أن إشترط ُت بدوري عليه بأن يتركني‬
‫ح اًر وشأني في طريقة عبادتي وسلوكي الديني ولا‬

‫يقيدني بطقوس عبادتهم ‪.‬‬

‫رضى بذلك الشرط ورحب بي أحسن ترحيب ‪ ،‬ثم‬
‫إتجهنا صوب الكنيسة ‪ ..‬وكانت قابعة فى الجهة‬
‫الشرقية من بغداد ‪ ..‬بيضاء ‪ ،‬ضخمة البنيان ‪ ،‬ذات‬

‫قبب عالية ونواقيس كبيرة ‪.‬‬

‫استرسلت في العمل بعد خمول أكثر من ثلاثين‬
‫سنة ‪ ،‬وعاد عملي مع الشمس الطائرة حتى سقوطها‬

‫خلف الافق مسا ًء ‪.‬‬
‫كانت الشمس قبل ذلك في نظري شمس الخمول‬

‫والكسل واللاهدف ‪.‬‬

‫ما ي ازل لي قلب يخفق فسوف أوقفه سرعة ‪ ،‬وما‬
‫ي ازل لي جسم قوي فلسوف أشنقه عملًا ‪ ،‬وما فتأت‬

‫‪29‬‬

‫روحي الكسولة تعيش في س ارب الجنون فلأطلقها الى‬
‫الحياة العقلانية‪.‬‬

‫لك الله يا قلبي فكم مرة بقي ُت أشكوك همومي كأنك‬
‫إله ثا ٍن يجلس فى كرسي الجسد وبيده مطرقة الحكم ‪،‬‬
‫فاذا علت ضوضاء الحنين واختلطت اسواق الماضى‬
‫بالحاضر‪ ،‬ارح يطرق على منضدة الحب بمطرقته ‪،‬‬
‫فيعم السكون الأربد ‪ ،‬ويبدأ في اصدار الحكم‪ ،‬ما‬
‫أحلى كلماتك أيها الحاكم ‪ ،‬بل ما أعذبها وأرقها‬
‫وأنغمها ‪ ،‬فقد بثت الطمأنينة في كيان محكمة الجسم‬
‫‪ ..‬فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته ‪ ،‬والبريء متهم‬

‫حتى تثبت ب ارءته‪ ..‬وأنا متهم وبريء في آ ٍن واحد ‪.‬‬
‫ويبقى قلبي يفتتح الجلسة تلو الجلسة دون ق ارر حكم‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫يوم فجائي‬

‫إرتدي ُت مسوح الرهبان ‪ ،‬وكانت أجمل من‬
‫ملابسي بعض الشيء ‪ ،‬وبقيت أغطي أرسي بـ(عمرة )‬

‫زرقاء كلون السماء المليئة بالغيوم ‪.‬‬

‫صرُت أعمل في الجنينة بصمت ‪ ،‬أقلم ما طال‬
‫ونفر ‪ ،‬وأفتح السواقي ‪ ،‬وأبث المياه لتروي الارض ‪،‬‬
‫وتنتعش النباتات الوادعة ‪ ،‬كانت كل شجرة في الحديقة‬

‫تذكرني ببستاني في بيسان ‪ ،‬فها هي شجرة الزيتون‬
‫التى كانت تعطينا ثمرها بوفرة ‪ ،‬وكيف كنا نجمعه‬
‫وتجتمع كل العائلة من أجل تجريحه زيتونة زيتونة لكي‬
‫ننقعه في الماء حتى يرمي م اررته ونغّير الماء كل يوم‪.‬‬

‫وها هي أشجار البرتقال ‪ ،‬تسكر الانفاس بأريجها ‪،‬‬
‫وأشجار التفاح بعطرها وظلها‪ ..‬ولكن أين كل ذلك وقد‬

‫استولى عليه الصهاينة وصاروا يَّدعون أنهم زرعوه‬
‫ويصدرونه للخارج باسمهم ‪ ..‬وبينما أنا أفتح السواقي‬

‫لفت نظري أحد القساوسة يرمقني خلسة بين حين‬
‫وآخر عبر زجاج أحد شبابيك الكنيسة ولا أدري ما‬

‫‪31‬‬

‫الذي كان يفكر فيه ‪ ،‬فهو يمعن النظر في الرفش الذي‬
‫تحركه يدي على بشرة الحديقة ‪.‬‬

‫وحينما كن ُت أحفر في منطقة قد أعاقت جريان‬
‫الماء الى باقي السواقي ‪ ،‬شعرُت بيد تمتد وتجذبنى‬
‫بشدة الى الو ارء ‪ ،‬وأدرُت أرسي لأرى ‪ ،‬فاذا بنفس‬

‫القسيس المتلصص قبل قليل وهو يقول لي ‪:‬‬

‫ـــ لماذا تشوه حديقة الرب وتحفر هنا وهناك بلا ترٍو‬
‫وتنظيم ؟ ‪.‬‬

‫فقلت له بهدوء ‪:‬‬

‫ـــ إذا لم يعجبك عملي ‪ ،‬فاتركني وشأني وسوف أدع‬
‫لك حديقة الرب كما هي يأكل شرها خيرها ‪.‬‬

‫وكادت أن تنشب مشادة بيننا لولا قدوم صديقي‬
‫الشماس الذي أنهى حديثنا غير الودي بسرعة ‪ ،‬وطلب‬
‫من أخيه في الديانة أن يتركني ح اًر ‪ ،‬وذهب كاظماً في‬

‫نفسه أم اًر خفياً ‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫وآصلت عملي بهدوء وبعد برهة اصطدم الرفش‬
‫بشيء صلب ‪ ،‬فحفرُت حوله حتى ظهر للعيان‬
‫صندوق حديد صغير ‪ ،‬ولم أأبه به ‪ ،‬ولكن تذكرت‬
‫ممانعة القس لي من الحفر هنا ‪ ،‬فدفعني حب‬
‫الاستطلاع الى فتحه بسرعة ‪ ،‬فقد كان بلا قفل ‪ ،‬وما‬
‫أن رفعت الغطاء حتى أري ُت في جوفه رزمة من‬
‫الاو ارق والصور وانبعث منها عطر هندي ضوع الجو‬
‫‪ ،‬ارتبك ُت وأغلقته بسرعة لأسلمه الى إدارة الكنيسة ‪..‬‬
‫وأنتشلني من قلقي مقدم القس الطويل الاشقر الذي‬
‫منعني عن الحفر قبل برهة كان قادماً كالطلقة ‪ ،‬وحمل‬

‫الصندوق من أمامي وانطلق مبتعداً وهو يردد ‪:‬‬

‫ــــ تباً للشيطان ألا نجد مخبأً نحفظ فيه ودائعنا عن‬
‫المتطفلين ‪.‬‬

‫وتوارى عن انظاري وتركني كالمشدوه ‪ ،‬وبعدها‬
‫واصلت فلاحتي والافكار تمر بي مسرعة كأس ارب‬

‫السنونو السوداء ‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫وهاجت بي العواطف وخالجني شعور من ارتكب‬
‫جريمة بحق انسان فما أنا والصندوق ‪ ،‬وفتحه ‪ ،‬ولكن‬
‫هي المفاجآت تريد أن تعكر صفوي المتبقي وصفو‬
‫غيري ‪ ،‬آه منها فقد قلبت حياتي أرساً على عقب‬
‫وضعضعت كياني وقلقلت عقلي ودفنت آمالي ووارت‬
‫مستقبلي اللحود فما الذي تخبئه بعدئذ في طيات‬

‫ثوانيها ودقائقها ؟ ! ‪.‬‬

‫يوم وّدي‬

‫عندما رشقت الشمس سهامها على الاشجار‬
‫والمباني ‪ ،‬وألهبت صليب قبة الكنيسة‪ ،‬فأشرق قم اًر‬
‫فضياً ‪ ،‬خرج ُت من غرفتي القابعة خلف البناء الضخم‬
‫ـــ كالمعتاد ـــ الى الحديقة الخلفية لا تمم ما بدأت به‬
‫أمس ‪ ،‬بعد أن قضي ُت ليلة مؤرقة تلبدت فيها نفسي‬
‫بأضغاث الذكريات المؤلمة التي وخزت فؤادي‬
‫كالاشواك ‪ ،‬ولكني نمت بعدها دامي القلب ‪ ،‬مكدود‬
‫الجسم ‪ ،‬فانا الآن أعمل وأشعر بقوتي تستيقظ من‬

‫‪34‬‬

‫جديد بعد تلك السبات التي مرت فى سماء دنياي‬
‫كالسحاب ‪.‬‬

‫ومررُت أمام باب القاعة الكبيرة شعرُت بالقس‬
‫الاشقر خلفي ‪ ،‬وكان قد أتم صلاته وبرح القاعة لتوه‬
‫وعندما تجاوزني بادرته بالسلام ‪ ،‬وأسرع ُت أعتذر منه‬
‫لسوء تصرفي ‪ ،‬وطلب ُت منه أن يسامحني لعدم علمي‬
‫بما سيحدث من ج ارء الحفر فرد علي وهو يبتسم‬

‫وعيناه تلمعان ‪:‬‬

‫ــــ انك لم تخطىء يا سيدي ال ارهب ‪ ،‬بل أنا‬
‫المخطىء فقد ظننت إن الامانة تحفظها الارض ‪ ،‬ولم‬
‫أخل إنها لن تقدر ‪ ،‬فلا مندوحة ‪ ،‬سأحملها أنا الانسان‬
‫‪ ،‬فان ضعفي هو القوة ‪ ،‬وان عقلي هو الشيطان ‪ ،‬فلا‬
‫تحزن من أجل خطأ أنا قم ُت به ‪ ،‬وأرجو أن تغفر لي‬

‫بدورك لما سببته لك من عذاب نفسي ‪.‬‬

‫وتركني واجماً وذهب ‪ ،‬وسرُت بخطوات وئيدة الى‬
‫حديقتي عفواً الى سيدتي الحديقة حيث أقوم على‬

‫خدمتها ‪.‬‬

‫‪35‬‬

‫ما أبعد الفرق بين السيد والمسود ‪ ،‬ولكن هذا الفرق‬
‫والبعد يضمحلان عند السعادة التي يوفرها ك ّل للآخر ‪.‬‬
‫ولكني أحول الارض جنة وهمية ‪ ،‬جنة ازئلة ‪،‬‬
‫وكل شيء فيها أما سيكون وقوداً لنار الشمس أو حطبًا‬
‫لنار الانسان ‪ ..‬فما أشبهها باحت ارقي التدريجي ‪..‬‬
‫فالقلب قد إحترق مبك اًر ‪ ،‬وإحترقت الاحشاء بعده وأخي ًار‬
‫سيحترق الجسد ‪ ..‬الكل تدُّرج والتدُّرج انسجام البداية‬

‫مع النهاية ‪.‬‬

‫نهرب من النار وتلحقنا النار منذ الولادة حتى‬
‫الممات فالحب نار وفقدانه ني ارن ‪ ..‬والالم نار‬
‫والذكريات ني ارن والحرمان نار والعيش ني ارن ‪،‬‬
‫والشيخوخة نار والموت ني ارن ‪ .‬ــــ الهي أين الجنة ؟‬
‫حنانيك يالطيف اللهيب يجتاح أبعادي ‪ ..‬أرني الجنة ‪،‬‬
‫خفف هذه الني ارن ‪ ..‬أرسل زوابعك وامطارك وأرو‬
‫الجفاف ‪ ..‬وح ّل هذا السباخ من فيض حلاوتك‪ .‬فان‬

‫نيتشة قد مات ‪ ..‬والايمان بك ما مات ‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫يوم نسوي‬

‫ناداني منذ اليوم الاول بال ارهب معظم الرهبان‬
‫والقساوسة وال ارهبات حتى حارس البوابة ‪ ..‬وكانوا كلهم‬
‫يوزعون الابتسامات عدا حارس البوابة ‪ ..‬فقد كانت لا‬
‫تحط على فمه ف ارشة الابتسامة ‪ ،‬وحين أحييه لا يجيب‬

‫الا بكلمة (أهلا) المقتضبة ‪.‬‬

‫وفي وقت غذاء الظهيرة يجلس قبالتي على‬
‫المائدة في مطعم الدير الملاصق للكنيسة ولا يتكلم‬
‫بشيء بعد أن نكون قد أخذنا أطباقاً فى صوا ٍن‬
‫مستطيلة ‪ ،‬كنت لا استسيغ تك ارر العملية ثلاث م ارت‬
‫في اليوم بل أتناول من الطعام وجبة واحدة أتقوت‬
‫عليها طيلة يومي ‪ ،‬مما جعل ارعية المطعم أن‬
‫تشكوني لصديقي الشماس ‪ ،‬ورغم الحاحه عل َّي لم‬
‫أجديه نفعاً ‪ ،‬وخالني ازهداً في الطعام وما درى أن‬
‫العرب قالت ‪( :‬بيت الداء المعدة) ومنذ وقت بعيد وأنا‬
‫أتناول وجبة واحدة في اليوم ‪ ،‬وصار شعاري صحة‬

‫البدن بوجبة واحدة ‪.‬‬

‫‪37‬‬

‫أدهشني عمل ال ارهبات فقد ك َّن يعمل َّن بطاقة هائلة‬
‫اذ يقمن بكل شيء ‪ ،‬نظافة الكنيسة والدير ‪ ،‬وتنظيف‬
‫ملابس القساوسة والرهبان ‪ ،‬واعداد الطعام للجميع ‪،‬‬
‫فهذه اعمال قد فطرت عليها الم أرة ولا أعلم هل إن‬
‫الرجل استساغ أن يترك لها كل هذه الاعمال وركن‬

‫للدعة ‪.‬‬

‫وفي الريف تقوم الم أرة أيضاً بكل شيء في الدار‬
‫والمزرعة وليس على الرجل سوى ان يعقد صفقات‬
‫البيع والش ارء ويركن في أحد المقاهي يتسلى مع رفاقه‬
‫‪ ،‬وليس هذا فقط بل صارت الم أرة تشارك الرجل أعماله‬
‫فى المدينة ‪ ..‬حتى أضحى الرجل يختص بالجندية‬
‫تقريباً ‪ ،‬وأنا لا أشك إنها ستتسلم أدوات العسكرية منه‬
‫في يوم من الايام ‪ ،‬فهي طاقة كبيرة متواصلة فى‬

‫ديمومة الحياة والحفاظ عليها‪.‬‬

‫وألح على ذهني سؤال ‪ ،‬لماذا يترهب الانسان ؟‬
‫في حين انه يعمل كل شيء خدمة للاخرين ‪ ..‬فال ارهبة‬
‫تخدم ‪ ،‬وال ارهب يخدم ‪ ،‬تذكرت قول السيد المسيح ‪:‬‬

‫‪38‬‬

‫(أنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون‬
‫كملائكة الله في السماء) ‪.‬‬

‫فقلت مع نفسي لعلهم ا اردوا ان يبقوا في الدنيا‬
‫ملائكة لكي يكونوا فى الآخرة ملائكة ‪ ،‬ولكن هذا قتل‬
‫للجنس البشري فلو صار كل أهل الارض رهباناً لما‬

‫د َّب على الارض انسان بعد حين ‪.‬‬
‫تقاطرت الاسئلة تلو الاسئلة حتى تحولت الى‬
‫خلايا أكول فحينما تأكل الافكار العقل ‪ ،‬تبقى‬
‫الجمجمة بلا معنى ويبحث الجسم عمن يقـوده فلا يجد‬
‫سوى أجسام بلا رؤوس ‪ ..‬الايادي تعطي الطعام " للفم‬
‫‪ ،‬والرقبة توصله الى المعدة ويسير الجسم بهذا الغذاء‪،‬‬
‫وتكثر الاجسام ‪ ،‬يبنون ينجبون ‪ ،‬يموتون بلا عين ترى‬
‫ولا أذن تسمع ولا عقل يفكر ‪ ..‬وتكبر المدينة إنها‬

‫ستكون مدينة بلا رؤوس ‪.‬‬

‫‪39‬‬

‫يوم عاطفي‬

‫إنبثقت أول زهرة من أزهار الارجوان ‪ ،‬فشعت‬
‫خلال الاو ارق الخض ارء بريقاً لم أعهده من قبل ‪ ،‬جعل‬
‫عالمي كله مهرجاناً أحمر‪ ،‬وجذبني جمالها فرحت‬
‫أطيل النظر في محياها ‪ ،‬رقتها ‪ ،‬قط ارت الندى‬
‫المتزحلقة على خدودها الشفافة ‪ ،‬كأن في أعماق‬
‫حمرتها عالماً من البهجة ‪ ،‬دنيا تحلق في سمائها انواع‬

‫الطيور الملونة ‪.‬‬

‫إن كان العالم الذي يحيطني بهيجاً فهذا دليل على‬
‫أن طبول الحزن تد ُّق في قلبي وأُحاول أن أتناسى ‪،‬‬
‫ولكن هيهات فالواقع كالح مغبر كوجه الحرب اللعينة ‪.‬‬

‫عند العصر رنمت ال ارهبات مقاطع من نشيد‬
‫الانشاد لا أدرى لماذا لم أستسغها فقد كانت غزلية‬
‫تتشبب بالم أرة بجسمها لفارع ‪ ،‬بجسدها البض كعنقود‬
‫عنب ‪ ،‬يشتهيه رجل الصح ارء ‪ ،‬وأنا فى خريف العمر‬
‫ومحال ان تطربني كلمات الشباب والنزق ‪ ،‬وهيهات‬
‫ان تأز عاطفتي عقلي وتجعله يفكر بالجنس الآخر ‪،‬‬

‫‪40‬‬

‫فلقد سكنت الرياح ‪ ،‬وانطفأت النار‪ ،‬وتلاشت الغيوم‬
‫الممطرة ‪ ،‬وهرمت الاشجار فلن تلد ثما اًر أبداً أبداً ‪.‬‬

‫نسيت أن سليمان الحكيم لا يقصد الم أرة بل‬
‫فلسطين الحبيبة ‪ ..‬فلسطين العرب التي حرض‬
‫بكلمـاتـه الصهاينة على اغتصابها منا ‪ ..‬فويل‬

‫للصهاينة من أهل كنعان ‪.‬‬

‫واذا بي أرى عبر زهرة الارجوان وجه زوجتي‬
‫البريء محترقاً صارخاً مستغيثاً ‪ ..‬فويل للصهاينة‬
‫المجرمين مما اقترفوه بحقها وعصف غضبي يكيل‬
‫اللعنات على تجار الحروب س ارق الشعوب والاوطان‬
‫الذين بثوا علينا الجرذان لتقرض من أ ارضينا وتحيلها‬
‫مآ ٍس ‪ ..‬الويل لكم يا جرذان من غضب الاحفاد ومن‬

‫جحافل خيول العرب ‪.‬‬

‫ولم تهدأ نفسي الا بمقدم قس لطيف نحيف‬
‫القسمات يتميز بعينين واسعتين ثاقبتي البصر ‪،‬‬
‫عرفني بنفسه وكان إسمه كلبرت وله هواية علمية وهي‬
‫البحث عن سر وردة الافيون فقد جلبوا له بذورها ‪،‬‬

‫‪41‬‬

‫وطلب مني أن أزرعها له ليرى كيف يتحول تويجها‬
‫الى جوزة وعند تجريحها يسيل منها سائل مستحلب‬
‫يحول عقل الانسان الى شيطان ‪ ،‬فلذلك يريد ان يختبر‬
‫هذا المستحلب ويحوله الى سائل رحماني يشفي‬
‫مرضى الصداع النصفي فلم أستطع أن أقتل الأمل‬
‫الذي ي اروده ‪ ..‬وفضلت أن لا أخبره أن هذه الزهرة ليس‬
‫موطنها الع ارق بلد الخير والمحبة بل موطنها بلاد‬

‫الاعداء الذين لا يعرفون غير الشر‪.‬‬

‫لذلك أخذت الحبوب منه وزرعتها فى مكان خاص‬
‫معين ‪ ،‬شكرني وذهب ‪.‬‬

‫يوم عميق‬

‫تكونت صداقة بيني وبين القس الفارع الاشقر‪،‬‬
‫وعرفت اسمه فقد نادوه بـ (الأب شاول) وكان هادىء‬
‫الطبع يحب السكينة والهدوء‪ ،‬وتغرورق عيناه بالدموع‬

‫كلما أنصت الى نوح الحمام المطوق ‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫كان الأب شاول يتمشى في الحديقة الخلفية وقت‬
‫الاصيل بعد أن شعر بتحسنها وجمال ثيلها ‪ ،‬وكان في‬
‫حديثه معي يعتذر عن تصرفه الاول حول الصندوق‬
‫بما يسعه الاعتذار ‪ ،‬و ارح يبدي لي اط ارًء على حسن‬
‫تنظيمي للحديقة بحيث تحولت الى وسيلة لاغ ارء العباد‬
‫كي يسبحوا للواحد الاحد ‪ ..‬فكنت أرد عليه بتواضع ‪،‬‬
‫ارح يحدثني عن الحياة وما تحويه من أحداث تافهة‬
‫وعجيبة ‪ ،‬مسيرة ومؤلمة ‪ .‬وكنت أرد عليه بجمل‬
‫موجزة بحيث عجب من ذكائي وسرعة بديهتي‬
‫وتعابيري ‪ ،‬فاحسسنا بتقارب آ ارئنا ‪ ،‬وتحاببت قلوبنا‬

‫وتلفعت بغطاء الصداقة ‪.‬‬

‫قبل أن يبرح المكان ليذهب الى المكتبة قال لي ‪:‬‬

‫ــــ إني أشعر بأن حادثة الصندوق ما ت ازل فى‬
‫مخيلتك كشيء غريب وتريد أن تفهم كنهه وتفك سره‬

‫فسوف أطلعك عليه عن قريب‪.‬‬

‫تركني جالساً تحت شجرة الزيتون المظللة أقارن‬
‫بين وجودي والاشجار‪ ،‬فابسط شجرة تقدم ثمارها‬

‫‪43‬‬

‫بصمت ‪ ،‬وأنا مثلها الآن أقدم قلبي للآخرين بصمت ‪،‬‬
‫وفي الليل سمعت القس شاول يردد قصيدة باللغة‬

‫الانكليزية ‪:‬‬
‫ــــــــ سأصنع من جسمي سفينة البحار‬
‫ومن ثيابي أشرعة تسير في الاعصار‬

‫أشق بها أمواج الحياة العاتية‬
‫فان تأرجحت سفينتي‬

‫رميت ما بها الى العباب‬
‫وإن تمزق ْت مع الضباب اشرعتي‬

‫سلخت جلدي كش ارع المتباري‬
‫أرفعه فوق الصواري‬

‫وإن طفح ْت سفينتي موجا الى حد الغرق‬
‫أحمل جسم البحر من دون قلق‬

‫وإن ينوء مركبي من ذلك الحمل المقيت‬

‫‪44‬‬

‫أدفنه فى القاع ‪ ...‬لعل أمره يشاع‬

‫لدى الق ارصنة ‪.‬‬

‫أي شعر هذا وأي شاعر هذا إنه حقاً يحمل صليبه ! ؟‬
‫يوم لاهب‬

‫عند أول شعاع من أشعة الفجر الذهبي بدأت‬
‫نواقيس الكنيسة تدق دقاتها المهيبة برنين مموسق‬
‫عذب بحيث جعلتني أشعر بأن الملائكة تسبح للعقل‬

‫الاعظم وتهلهل لقوته وعظمته ‪.‬‬

‫خرج ُت من غرفتي لأشاهد طيور النور البيضاء‬
‫وهي تحط على قبة الظلام وتطرد الظل الثقيل ‪،‬‬

‫وصار الشفق الشرقي جم اًر من لهيب قرمزي ‪.‬‬
‫وإنطلقت أنواع الطيور تجوب السماء وتشارك بعزف‬

‫سمفونية الصباح ‪..‬‬

‫أي يوم مشرق كوجه حسناء دامية الخدود ‪ ،‬وأي نسيم‬
‫عذب كانفاس الزهور لطافة ‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫هذا اليوم هو ارحة المسيحيين وفيه ارحتي أو‬
‫بالاحرى حرية نفسي من نفسي ‪.‬‬

‫تجولت في الحديقة الأمامية أتطلع الى الازهار‬
‫المتفتحة وأُ ارقب الوافدين الى الكنيسة وهم يدخلون من‬
‫البوابة الرئيسة رجالاً ونسا ًء واطفالاً ‪ ..‬مرتدين أجمل‬
‫الملابس ‪ ،‬يدلفون الى قاعة الكنيسة وكانوا بين الحين‬
‫والحين يحيونني فأرفع يدي محيياً وأطلق لساني‬
‫مصبحًا‪ ،‬دقت أج ارس قلبي لاول مرة بعد مضي نصف‬
‫قرن ‪ ،‬فقد أريت من هفت لها نفسي أيام الشباب تسير‬
‫أمام أولادها الكبار متأبطة ذ ارع زوجها البدين ‪ ،‬وكأني‬
‫أبصرها ما فتأت على سالف عهدي بها من شباب‬
‫وحيوية وإنوثة ‪ ،‬رمقتني بنظرة لا أعلم هل عرفتني أم‬
‫لا ‪ ،‬لكنها تبسمت في وجهي وهي تواصل سيرها بتغنج‬

‫محتشم ‪.‬‬

‫عجبت من نفسي ومن قلبي ‪ ،‬كيف سولت لهما‬
‫ذاتهما أن يعاودا حنين الصبا وهما بهذا الكبر‬
‫والشيخوخة ‪ ،‬فتركت الكنيسة هارباً من خيال الماضي‬

‫‪46‬‬

‫السحيق ومن قلبي المتهور‪ ،‬لئلا أدنس الحب الاعظم‬
‫‪ ،‬الحب الزوجي المقدس ‪ ،‬وانطلق ُت خارج المدينة‬

‫متجهاً الى قناة الجيش وأنا أردد مع نفسي ‪:‬‬

‫( سأصلبك يا قلب على جذع حبيب واحد ‪ ،‬وكفى ‪،‬‬
‫فطالما صلبتك على الأغصان ‪ ،‬فما أعذب مسامير‬
‫الحب ‪ ،‬ساغرز الكثير منها فيك ‪ ،‬لأربطك في الشجرة‬
‫‪ ،‬وتنمو أنت وهي معاً ‪ ،‬وتروي دماؤك جذور الحبيب‬
‫‪ ،‬فالم أرة خلقت لك لتبثها الكثير من العطف والحنان‪..‬‬
‫وأنت قد فاض بك هذان ‪ ،‬واستقطرت وسكبت وغرقت‬
‫وأغرقت ‪ ..‬واذا إستخف بك الناس فأحمل صليبك‬
‫وارحل بعيداً عن الأنظار ‪ ،‬ليقال بعد ذلك إنك مجنون‬
‫فما أحلى الجنون بمن تحب حتى وان لم يكن على قيد‬

‫الحياة ) ‪.‬‬

‫عد ُت في المساء بعد أن أطفأ ُت الجذوة المتبقية‬
‫تحت الرماد ‪ ،‬وأطلقت قلبي مرفرفاً بين أرض وسماء‬
‫فوق الضفاف الواسعة الخض ارء لمنبسطة كبساط‬

‫‪47‬‬

‫مطرز‪ ،‬حيث أحسست إني ذرة متناهية فى الصغر في‬
‫كيان الكون ‪.‬‬

‫يوم أبيض‬

‫منذ الصباح حتى المساء ويدي في الحديقة‬
‫تشذب وتسقي وترتب وتنقل النباتات من مكان الى‬
‫آخر وتقتلع الادغال الضارة فقد آليت على نفسي أن‬
‫أقتل هذا الجسد عملاً ‪ ،‬وحين خارت قواي إغتسلت‬
‫وصعد ُت الى برج الناقوس حيث أستمع الى صوت‬
‫الحمام وهو يستكين الى أعشاشه وما دريت إني ساطل‬
‫على حديقة ال ارهبات ‪ ،‬فلا ادري هل الحمام انقلب الى‬
‫فتيات يلبسن المسوح الابيض أم أني أرى حقيقة منظ اًر‬
‫تخشع له القلوب ‪ ،‬فكأنهن مصابيح بيضاء تتحرك‬

‫وتغني بت ارتيل ربانية ‪.‬‬

‫وكأن الزمان توقف ونبضات قلبي توقفت حتى‬
‫عيني توقفت أهدابهما عن الرمش ‪ ،‬فالمنظر قلما يرى‬
‫ويتكرر ‪ ،‬طيور تتحرك برقصة لم يرقصها بشر الا فى‬

‫الف ليلة وليلة وأصوات سحرية تفتت قلب الحجر ‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫هلوليا للجمال ‪ ..‬فهو غابة سحرية يحط في‬
‫أعشاشها النظر ‪ ،‬فيلقى السكينة المعطرة ‪ ،‬والاحلام‬
‫الهانئة ‪ ،‬والوداعة الطفولية ‪ ،‬والب ارءة الشاعرية ‪ ،‬فيخال‬
‫أن الجنة ملموسة لديه وإن ما لا يعرفه بدأ يفهمه ‪،‬‬
‫ويرسم صوره ‪ ،‬ويشيد هيكله واعمدته في قلبه حيث‬
‫الدنيا تتسع وتت ارمى في أُفق الخيال ‪ ،‬أنذاك يذوب في‬
‫الجمال ويذوب الجمال في نفسه‪ ..‬وبينما أنا في هذه‬

‫التهويمة سمعت كلاما حفظته بسرعة يقول ‪:‬‬

‫تغنجي‬

‫تغنجي‬

‫هوادج النساء‬

‫ثم أرقصي‬

‫كرقصة الحمام‬

‫علام ذا الشقاء‬

‫يا قلبي علام‬

‫‪49‬‬

‫سماء ‪ ..‬يا سماء‬
‫القبة الزرقاء للعطور‬

‫والأرض للأجسام‬
‫ما أن ِت يا حديقة الطيور‬
‫يا موطن الاحلام في أواخر الدهور‬

‫لئالىء الليل قواف‬
‫مجاهل الفكر سور‬

‫أين العبور‬
‫أين العبور‬
‫والجسر هاوية الحطام ‪.‬‬
‫وبعد أن دونت هذا نم ُت قرب شباك غرفتي هانئاً ‪.‬‬

‫‪50‬‬


Click to View FlipBook Version