قلب
الاعترافات الممنوعة
لـ«شيخ الأزهر»الإمام
التغيب عن جنازة الشقيقة
كان لاف ًتا أن يغيب عن جنازة شقيقته.
حين اطلعت على الخبر كان التفسير الذى ارتكنت إليه أن المسافة من القاهرة -حيث يقيم -إلى
مدينة القرنة غرب الأقصر -مسقط رأسه -حرمته من أن يكون فى مقدمة مشيعى شقيقته ،غير
أن شهادة مستشاره الأقرب أسقطت هذا التفسير تما ًما.
الحديث هنا يقترب من الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب.
بعد 3أيام من وفاة السيدة سكينة محمد أحمد الطيب « 27يونيو الماضى» نشر محمد عبدالسلام،
مستشار شيخ الأزهر ،عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» ،ما وصفه
بـ«كواليس» تلقى الإمام الأكبر خبر وفاة شقيقته.
أنقل هنا ما قاله ن ًصا« :صباح الأربعاء الماضى ( 27يونيو) أيقظنى اتصال من أحد الزملاء يخبرنى
بوفاة الشقيقة الكبرى لسيدى الإمام الأكبر شيخ الأزهر -حفظه الله ورعاه -وسألت عما إذا
كان فضيلته عرف بالأمر فأخبرنى بأن الوفاة حدثت فى وقت متأخر من الليل ،وأن الأخ الأكبر
لفضيلته أوصى بالتريث فى إخبار فضيلته حتى يستيقظ من نومه ،وحين استيقظ الإمام وعرف
بالوفاة ردد متأث ًرا( :إنا لله وإنا إليه راجعون) ،وأخذ يدعو لشقيقته بالرحمة والمغفرة ،ويذكر
صبرها على تربية أبنائها بعد وفاة زوجها فى سن مبكرة ،وصبرها على المرض فى أواخر أيامها
رحمها الله» .ويضيف« :ومع كثرة المطالبين بضرورة إلغاء المواعيد المحددة مسب ًقا بالمشيخة،
وتأجيل موعد الانعقاد الدورى لاجتماع هيئة كبار العلماء ،حتى إن أصحاب المواعيد طلبوا تأجيل
الموعد تقدي ًرا للظروف -أصر فضيلته على أن تبقى الأمور كما هى وعلى طبيعتها ،قائلا :يجب أن
نكون قدوة ،فالموت ليس نهاية الكون ولا تتوقف عنده الحياة والأشغال ،يجب أن نمضى فى عملنا
ونكمل الطريق ..وفى نهاية اليوم سوف أسافر إلى الأقصر لأكون بجوار أسرتى وأبناء شقيقتى،
ووجه بسرعة الإعلان أن العزاء مقصور على الأسرة حتى يعفى السادة المسئولين والجميع من
الحرج وتبعات مشقة السفر مع اشتداد حرارة الجو ،وألا نشغلهم عن أعمالهم ومسئولياتهم أعانهم
الله عليها» .من زاوية أخرى يمكن أن نمسك بمفتاح رئيسى لفهم شخصية شيخ الأزهر ،إنه رجل لا
تسقطه الأحزان ،ولا تقدر عليه.
أما كيف أصبح شيخ الأزهر على هذه الحالة؟ ،فهذا ما نحاول الإجابة عنه هنا.
تزوجت دون حب ..ووالدى ر َّبانى
تربية قاسية ليس فيها حنان
نحن الآن فى عام .2003
كان الدكتور الطيب قد خرج لتوه من دار الإفتاء بعد أقل من عام ونصف العام قضاهما
مفتيا للديار المصرية ،وكان هو الذى طلب إعفاءه من مهام منصبه ،واختار رئاسة جامعة
الأزهر ،التى تولاها فى اليوم التالى مباشرة لخروجه من دار الإفتاء ،خل ًفا للدكتور أحمد
عمر هاشم ،ليخلفه فى دار الإفتاء الدكتور على جمعة .وقتها أجرى الكاتب والمحاور الراحل
محمود فوزى حوا ًرا مع رئيس جامعة الأزهر الجديد.
لم يهتم محمود فوزى فى حواره مع الدكتور الطيب بأسباب خروجه من دار الإفتاء ،ولا
بآرائه وأفكاره ،ولكن اهتم بحياته الخاصة والعائلية ،فقدم ما يشبه «البورتريه النفسى
الصادق».
ويبدو أن الشيخ الطيب استراح لمحمود فوزى ،الذى كان قاد ًرا على اقتحام أعتى الشخصيات
وأكثرها قدرة على إحاطة نفسها بسياج من السرية -ففتح له خزائن أسراره.
ما الذى قاله شيخ الأزهر؟
«تزوجت من ابنة عمى على طريقة الزواج فى جيلى ،فجيلى لم يكن يعرف الحب ،وكل منا
تزوج بطريقة معينة ،فكان مثلا الشاب يرى ابنة عمه ويهواها ويتزوجها ،وقد تزوجت بهذه
الطريقة وهو زواج والحمد لله أعتبره موف ًقا ،وساعدنى على التقدم فى حياتى العلمية.
وأذكر أن والدى ربانى تربية قاسية ليس فيها حنان ،وقد ربيت أولادى تربية فيها شىء من
هذا ،فلم يحدث أن ق ّبلت ابنى ،لقد ربيت محمود وزينب على احترام الأب والأم ،ولكنهما
يجلسان معى ويناقشان أمورهما ،ولم أحتج يوما أن أعاملهما بالضرب أو العنف مطل ًقا.
كل مسارات حياتى لم يكن لى
يد فيها بل كنت مدفو ًعا إليها
يقول الطيب« :أول محطة فى حياتى حين حاولت دخول المدرسة الابتدائية واشتريت الطربوش والمريلة ،ولكن
فجأة قال لى والدى :لا تذهب إلى المدرسة واذهب إلى الكتاب .وكان هذا أول منعطف خطير فى حياتى ،ثم
حفظت القرآن الكريم ،ودخلت مع أبناء جيلى الأزهر الشريف فى سن مبكرة ،وحصلت على الابتدائية الأزهرية
من معهد إسنا ،ثم انتقلت إلى مدينة قنا فى المرحلة الثانوية ،وكان نظام التقسيم إلى الأدبى والعلمى جدي ًدا،
فرغبت فى دخول القسم العلمى لكى أكون طيا ًرا ،فقد بنى الإنجليز مطا ًرا على مقربة من قريتنا (القرنة) فى
البر الغربى للأقصر ،ويكاد يكون هو المطار الوحيد بعد مطار القاهرة ،فلم يكن هناك بعد مطار أسوان أو مطار
أسيوط ،وكانت الطائرات قبل نزولها تهبط بأجنحتها على بيوتنا ،فتكون الطائرة بكل تفاصيلها الدقيقة
واضحة أمامى أكاد ألامسها بأجنحتها الكبيرة ،مشهد مبهر استولى على كل خيالى المبكر ،ولكن والدى ،رحمه
الله ،وقف لى بالمرصاد ،وتبخرت كل هذه الطموحات.
حصلت على مجموع فى الثانوية العامة يتيح لى الالتحاق بكلية اللغات والترجمة وكلية التجارة ،ولكن والدى
لم يقبل ذلك ودفع بى إلى كلية أصول الدين ،وهكذا تلاحظ أن كل مسارات حياتى لم يكن لى يد فيها ،بل كنت
مدفو ًعا إليها ،ولكن كنت إذا ما دخلت مسا ًرا مه ًما كان لا بد أن أكون من الطلاب المتقدمين ،من منطلق أن هذه
قسمة الله سبحانه وتعالى».
انتهى كلام شيخ الأزهر هنا.
يقولون إذا أردت أن تعرف لماذا يتصرف إنسان ما على وجه معين ،فلا تبحث عن دوافعه فقط ،ولكن تأمل كثي ًرا
فى تكوينه النفسى ،ارجع به إلى مرحلة طفولته ،إلى التربية التى تربى على أساسها ،يمكننا وقتها أن نعرف
حقيقته ،أو على الأقل ندرك أسباب بعض ما يفعله .التاريخ الذى يحمله الدكتور أحمد الطيب على كتفيه،
لا يمكن أن يفسر لنا الكثير مما نجده عليه الآن ،غير أن ما قاله لمحمود فوزى يفسر الكثير من تصرفات الإمام
الأكبر .لم يعرف الدكتور الطيب الحب ،ولا أكشف س ًرا إذا قلت إنه يعيش وحي ًدا فى القاهرة ،بينما قرينته فى
الأقصر .لقد كانت تربيته قاسية -على الأقل بمعايير هذا الزمان -فكان طبيع ًيا ألا تهزه الأحزان ظاهر ًيا ،وإن
هزمته من الداخل .وتستطيع الآن أن تتفهم حالة التجهم الدائمة التى يبدو عليها الشيخ ،فهو لا يكاد يظهر
مبتس ًما أب ًدا ،وأعتقد أنه لا يكون مبته ًجا على الإطلاق.
الطيب فى
«السوربون»
كان موضوع رسالة الدكتوراه التى حصل عليها الدكتور أحمد الطيب ،من جامعة
السوربون فى باريس ،هو «الجانب النقدى فى فلسفة أبى البركات البغدادى» ،وكان
أبوالبركات فيلسو ًفا يهود ًيا لكنه أسلم .ومن بين ما يذكره الدكتور الطيب أنه كان سب ًبا
فى إسلام أسرة عندما كان يدرس فى السوربون .يقول« :كنت أثناء العبور من أمام
غرفهم لا يتطرق نظرى إلى حجرات النوم المفتوحة على مصراعيها ،وكنت أمر عليها
فى طريقى إلى حجرتى ،ولم يحدث مرة واحدة أن جرحتهم بنظرة واحدة على مدى
عشرة أشهر أقمتها معهم ،فانبهرت الأسرة كلها واعتنقت الإسلام ،وقالوا لى :إننا لم نرك
ولو مرة واحدة تدخل بفتاة إلى حجرتك ،رغم أنه كان مسمو ًحا بهذا ،ونراك تبعد عن
السهرات حتى فى الكريسماس ،ونراك تقرأ القرآن فى الصباح الباكر ولا تشرب الخمر
ولا تجلس على مائدة فيها خمور ،وفى أدب شديد دون أن تنهانا عن شىء من ذلك ،وهو
ما ك ّون لدينا عاطفة جيدة نحو الإسلام ،وانتهى الأمر بأن أعلنت هذه الأسرة إسلامها».