ماذا يقولون عن
التبرك و تقبيل اليد
تأليف :
الشيخ داود الماحي
ماذا يقولون عن التبرك
و تقبيل اليد
تأليف
الشيخ داود الماحي
1
ح داود بن سليمان بن عبدالله الماحي 8649 ،هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الماحي ،داود بن سليمان بن عبدالله
ماذا يقولون عن التبرك و تقبيل اليد /داود بن سليمان بن عبدالله الماحي –
جدة 8649هـ
800ص ؛ 86 48سم
ردمك 809-8856-69-008-6 :
– 8البدع في الإسلام أ – العنوان
ديوي 466
رقم الإيداع 8649/ 0400 :
ردمك 809-8856-69-008-6 :
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
للتواصل مع المؤلف
جوال 66855665596900:
موقع اهل الذكر www.ahle-athekr.com:
2
بسم الله الرحمن الرحيم
3
4
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلـل فلا هادي له
،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبـده
ورسوله .
َ يا أَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا ا َّتقُوا ال َّلهَ َح َّق ُت َقاتِ ِه َولاَ َت ُمو ُت َّن إِلاَّ َوأَن ُتم ُّمسلِ ُمو َن 1
.
َ يا أَ ُّي َها ال َّنا ُس ا َّتقُوا َر َّب ُك ُم الَّ ِذي َخ َل َق ُكم ِّمن َّنفس َوا ِح َدة َو َخ َل َق ِمن َها
َت َساءلُو َن الَّ ِذي ال َّل َه َوا َّتقُوا ِر َجال ًا َزو َج َها َو َب َّث
بِ ِه َك ِثي ًرا َو ِن َساء َعلَي ُكم ِمن ُه َما َوال َأر َحا َم إِ َّن
َر ِقي ًبا .2 ال َّل َه َكا َن
َ يا أَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا ا َّتقُوا ال َّل َه َوقُولُوا َقولاً َس ِدي ًدا ُيص ِلح لَ ُكم أَع َمالَ ُكم
َو َيغ ِفر لَ ُكم ُذ ُنو َب ُكم َو َمن ُي ِطع ال َّل َه َو َر ُسولَ ُه َف َقد َفا َز َفو ًزا َع ِظي ًما . 3
أما بعد :فقد اطلعت على هذا الكتاب المسمى ( :الموسوعة اليوسفية
في بيان الأدلة الصوفية ) لمؤلفه :يوسف خطار محمد .
1سورة آل عمران آية . 102
2سورة النساء آية . 1
3سورة الأحزاب آية . 01-00
5
عندما وقع في يدي يوم السبت الموافق 6241/3/7هـ وقد ذكر مؤلفه
أن الناس قد وقع بينهم صراع ونزاع قال (( :ففكرت أن أحسم هذا
الأمر بشكل تام )) .
ونحن نعلم أن الله تعالى قد أمرنا بالاجتماع وحذرنا من الفرقة
والاختلاف فقال َ :واع َت ِص ُموا بِ َحب ِل ال َّل ِه َج ِمي ًعا َولاَ َت َف َّرقُوا ، 1ونعلم
يقيناً أن هذا الاجتماع الذي أمرنا الله تعالى به هو الاجتماع على الحق لا
الاجتماع على الباطل ،والحق الذي لاشك فيه هو الإسلام الذي رضيه
الله تعالى لنا :ال َيو َم أَك َمل ُت َل ُكم ِدي َن ُكم َوأَت َمم ُت َعلَي ُكم ِنع َمتِي َو َر ِضي ُت
َل ُك ُم الإِسل َا َم ِدي ًنا ، 2وهو طريق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال(( :
عليكم بسنتي )) 3والذي قال (( :وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم )).4
ونعلم يقيناً أن الله تعالى قد أخبرنا بوقوع التنازع بين الناس َ :و َلا
َي َزالُو َن ُمخ َتلِ ِفي َن ﴿ ﴾١١١إِ َّلا َمن َّر ِح َم َر ُّب َك ، 5وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (( :وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين :ثنتان
وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )). 6
1سورة آل عمران آية . 103
2سورة المائدة آية . 3
3أبو داود ( ، )4600والترمذي (. )2606
4البخاري (. )5065
5سورة هود آية . 111 – 111
6أبو داود (. )4510
6
ونعلم أن ربنا تبارك وتعالى أمرنا بالإصلاح بين المتنازعين وحثنا عليه
:لاَّ َخيــ َر ِفي َك ِثيـر ِّمن َّنجــ َوا ُهم إِلاَّ َمن أَ َمـ َر ِب َص َد َقة أَو َمعـ ُروف
أَوإِصل َاح بي َن ال َّنا ِس ، 1 وقال تعالى :إِ َّن َما ال ُمؤ ِم ُنو َن إِخ َوة َفأَصلِ ُحوا
َبي َن أَ َخ َوي ُكم .2
ونعلم يقيناً أن الإصلاح إنما هو الأمر بلزوم الصراط المستقيم الذي
جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .قال تعالى َ :فإِن َت َنا َزع ُتم فِي
َشيء َف ُر ُّدو ُه إِلَى ال َّل ِه َوال َّر ُسو ِل إِن ُكن ُتم ُتؤ ِم ُنو َن ِبال َّلهِ َوال َيو ِم الآ ِخ ِر3
فالرد إلى الله معناه :الرد إلى كتابه ،والرد إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم معناه :الرد إلى سنته ,كما قال ابن جرير الطبري وغيره.
فهذا هو المطلوب ممن أراد الإصلاح بين المتنازعين ،وسوف نقوم
بإذن الله تعالى بالنظر في موضوعين من المواضيع التي تكلم فيها
المؤلف وهو موضوع ( التبرك ) وموضوع ( تقبيل اليد ) بعد أن وقفنا
معه سابقاً في موضوع ( التوسل ) في كتاب ( ماذا يقولون عن التوسل
).
وفي موضوع ( المولد ) في كتاب ( هل تحب النبي صلى الله عليه
وسلم ؟ اقرأ ) .
وفي موضوع ( المدد والنظرة ) في كتاب (ماذا يقولون عن المدد
والنظرة ) .لننظر في حكمه الذي حكم به هل هو حكم وافق الحق وكان
على صراط مستقيم ؟ أم أنه حاد عنه فأخطأ الطريق ؟
1سورة النساء آية . 114
2سورة الحجرات آية . 10
3سورة النساء آية . 51
0
فإن كان الأول فالحمد لله أول ًا وآخراً على توفيقه ؛ سائلين الله تبارك
وتعالى للجميع الثبات على الحق .
وإن كان الثاني أعدناه إلى الطريق الصحيح مع تذكيرنا له بقوله صلى
الله عليه وسلم ((:كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )).1
وأوجه إلى المسلمين المحبين لدينهم والمحبين لسنة نبيهم محمد صلى
الله عليه وسلم دعوة إلى القراءة بتأمل وإنصاف ،لأننا لا نتنازع على
َع َرض من َع َرض الدنيا الفانية ،إنما التنازع في أمر من أمور الدين ،
وهذا الأمر لاشك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد بينه ووضحه ،
فنحن نقوم بتلمس هذا التوضيح والبيان ،من أجل تحقيق العمل به ،لأن
جميع من يرغب في رضـا الله تعالى ومحبتـه فلابد أن يعلم أن طريقه
هو قوله تعالى :قُل إِن ُكن ُتم ُت ِح ُّبو َن ال َّل َه َفا َّت ِب ُعونِي ُيح ِبب ُك ُم ال َّلهُ َو َيغفِر َل ُكم
ُذ ُنو َب ُكم .2
فنبدأ بما ذكره المؤلف مستعينين بالله مع سؤالنا له التوفيق
للصواب.
كتبه /داود بن سليمان الماحي
1الترمذي (. )2411
2سورة آل عمران آية . 31
1
معاني التبرك :
قال ابن خطار " :معاني البركة :للبركة معان شتى تختلف باختلاف
سياقها من الآية أو الحديث أو الأثر أو الموضوع ،ومن معانيها
الزيادة والنماء وهما يشملان المحسوسات والمعنويات جميعاً ،
والحقيقة أن البركة سر إلهي وفيض زاده الله تعالى ونمى به أعمال
البر بملازمة القربات الكريمة ،فكانت البركة بهذا ثمرة من ثمرات
العمل الصالح ،يحقق الله بها الآمال ،ويدفع السوء ،ويفتح بها
مغالق الخير من فضله ،فالبركة بهذا المعنى لون من الرحمة والفضل
الرباني ،والخير الشامل ،والفائدة واللطف الخفي الذي يحبو به الله
أعمال أوليائه وأحبابه الأبرار " .
نقول :هذه هي مقدمة ابن خطار للدخول في موضوع البركة اقرأها
أيها القارئ الكريم لننتقل إلى موضع آخر من كلامه .
مواضع البركة :
قال ابن خطار " :ثم إن الله تعالى بارك القرآن في ذاته فقال :
َتَ:با َر ََكوقُالس ُمَّر َِّبر ِّبأَنَك ِزل ِذنِيي فقال إِ َلي َك ُم َبا َرك 1وبارك المنازل ِ ك َتاب أَن َزل َناهُ
: 2وبارك اسمه الكريم فقال ُمن َز ًلا ُّم َبا َر ًكا
من سيدنا إبراهيم الأسرة النبوية 3وبارك الله ال َج َلا ِل
وتبارك في نفسه أَه َل ال َبي ِت ،4 َو َب َر َكا ُت ُه َع َلي ُكم َوال َإِركح َرَما ِم ُت﴿ال١لَّـِ ٨ه﴾ فقال :
1سورة ص آية . 21
2سورة المؤمنون آية . 21
3سورة الرحمن آية . 01
4سورة هود آية . 03
1
تعالى فقال َ :ت َبا َر َك اللَّـ ُه َر ُّب ال َعا َل ِمي َن ﴿ 1 ﴾٤٥وبركاته كثيرة جد ًا
في جميع ما خلق . "
نقول :نحـن نعلم أن البركة من الله ,فإذا وضـعها في شيء سلمنا
لذلك وآمنا ,لأن الخلق خلقه ,والأمر أمره , وقد ثبت عن نبينا
صلى الله عليه وسلم أنه قال(( :البركة من الله)) ,2وإذا كانت البركة من
الله فلا بد أن يأتي دليل شرعي صحيح يدل على أن هذا المخلوق فيه
بركة ,وهذه مقدمة مهمة جداً في موضوع البركة لا بد أن نعتني بها
ونصحبها معنا عند نظرنا في كلام المؤلف .
معنى التبرك بآثار الصالحين :
قال ابن خطار " :ولما كان (التبرك بالشيء) هو طلب البركة بذلك
الشيء من الله تعالى ( ،والبركة) هي الزيادة والنماء كان معنى التبرك
بآثار الصالحين طلب الزيادة من الخير من الله بجاههم ومنزلتهم
عنده " .
نقول :ذكرنا أن البركة من الله فلا بد أن يثبت شرعاً السبب الذي
نطلب منه البركة أما أن نقيم أسباباً من عند أنفسنا ونزعم أن فيها بركة
فهذا لا يجوز .
فقوله( :التبرك بآثار الصالحين) من هم هؤلاء الصالحين ؟ وأين الدليل
الشرعي على جواز طلب البركة منهم ؟ .
وقوله( :بجاههم ومنزلتهم عنده) ما هو الدليل الشرعي على جواز
طلب البركة بجاه الصالحين ومنزلتهم عند الله ؟ .
سننظر في كلام ابن خطار لعله يذكر لنا الجواب على هذه الأسئلة قال
ابن خطار " :ولقد تكلم كثير من فقهاء المذاهب الأربعة في كتبهم
الفقهية عن التبرك في مناسبات عديدة وأق ُّروه بشرط أن لا يتجاوز
1سورة الأعراف آية . 54
2البخاري (. )5316
10
حدود الشريعة الإسلامية ،واستعمل هؤلاء الفقهاء أنفسهم التبرك
تأسياً بسلفهم الصالح من الصحابة والتابعين وعنا بجاههم " .
نقول :من المعلوم عند كل طالب علم أن العلماء هم ورثة الأنبياء
وهذا قد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال(( :إن الأنبياء لم
ُي َو ِّرثوا دينار ًا ولا درهماً ,إنما ورثوا العلم , 1))...وعلى هذا فوظيفة
العالم ومهمته هي إبلاغ ذلك الإرث وإيصاله إلى أهله وهم بقية هذه
الأمة ,فإن كان هؤلاء الفقهاء قد ورثوا مسألة التبرك من نبينا صلى الله
عليه وسلم فليظهروا لنا هذا الإرث ,أما أن يتكلموا أو يفعلوا بغير دليل
شرعي فلا ُيقبل منهم فهم لا ُيش ِّرعون وإنما ينقلون الشرع ,ولهذا
سننظر هل مع هؤلاء الفقهاء دليل على قولهم وفعلهم أم لا ؟ .
وقوله( :واستعمل هؤلاء الفقهاء أنفسهم التبرك تأسياً بسلفهم الصالح
من الصحابة والتابعين )هل ثبت عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا
يتبركون بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الباقية ؟
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الاعتصام ( ...(( :)471/4إلا
أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه ُ ,مش ِكل في تنزيله ,وهو
أن الصحابة بعد موته لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة
إلى من خلفه ,إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة
أفضل من أبي بكر الصديق فهو كان خليفته ولم ُيفعل به شيء من
ذلك ,ولا عمر , وكان أفضل الأمة بعده ,ثم كذلك عثمان ,ثم علي
,ثم سائر الصحـابة الذين لا أحـد أفضل منهم في الأمة ثم لم يثبت
1أبوداود ( , )3641والترمذي ( , )2612وابن ماجه (. )223
11
لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك
الوجوه أو نحوها ,بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال
والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو إذاً إجماع منهم
على ترك تلك الأشياء )) .
أيها القارئ الكريم :هل تأملت كلام الشاطبي رحمه الله تعالى ,ارجع
واقرأ كلام ابن خطار مرة أخرى .
أصبح عندك الآن من يزعم أن الصحابة كانوا يتبركون بالصالحين ,
ومن يزعم أنهم لم يفعلوا ذلك ,فبأي القولين تأخذ ؟
لا تتعجل أخي القارئ لأن الحكم بين المتنازعين يجب أن يكون بالشرع
لقوله تعالىِِ :فإن تنازعتم ..الاية , 1لذلك ننظر في حجة من زعم
ثبوت هذا عنهم ,ومنهم ابن خطار فإن أثبتوا هذا قلنا به وإلا فالحق أولى
بالاتباع .
وأما قوله( :وعنا بجاههم) فالسؤال بالجاه أي التوسل بجاه النبي صلى
الله عليه وسلم أو جاه الولي قد سبق مناقشة المؤلف (ابن خطار) فيها
عند مناقشته في موضوع التوسل في كتاب (ماذا يقولون عن التوسل)
وتبين لنا هناك أنه لا دليل على مشروعية التوسل بجاه الأنبياء ولا
الأولياء .
تـنـبـيـه :لا يشك مسلم في أن الصالحين فيهم بركة وخير ,وليس
في الأمة أصلح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ,فطلب البركة
من الصالحين يكون بمصاحبتم ومجالستهم والتعلم منهم ,فقد ورد في
1سورة النساء آية . 51
12
الأدلة الشرعية الحث على مصاحبة الأخيار ومجالستهم ,وحث الشرع
على احترام العالم والحرص على طلب العلم ,فهذا هو التبرك الذي
أجازه الشرع ,أما التمسح بهم وتقبيل الأقدام والركب والتمسح بنعالهم
والحرص على بقايا ثيابهم ,بل والحرص على ريقهم وما يتقطر من
وضوئهم ,ودعائهم وطلب البركة منهم ,فهذا من التبرك الممنوع الذي
لم يرد الدليل الشرعي بجوازه ,إذ لو كان مشروعاً لفعله الصحابة
مع بعضهم فهم أصلح الأمة وأفضلها كما هو معلوم عند كل مسلم ,
ولكونه لم يرد عنهم دل ذلك على عدم مشروعيته مع غير النبي صلى
الله عليه وسلم .
حقيقة التبرك :
قال ابن خطار " :والتبرك في الحقيقة ليس هو إلا توسل ًا إلى الله
بذلك المـتبـ َّرك به سواء أكان أثر ًا أو مكاناً أو شخصاً ،أما الأعيان
فلاعتقاد فضلها وقربها من الله مع اعتقاد عجزها عن جلب خير
أو دفع شر إلا بإذنه تعالى .
وأما الآثار والأماكن فلأنها منسوبة إلى تلك الأعيان فهي مشرفة
بشرفها ،ومكرمة ومعظمة ومحبوبة لأجلها " .
نقول :إذا كان التبرك كما زعم ابن خطار هو في الحقيقة من
التوسل ,فقد علمنا أن التوسل عبادة ,والعبادة لا بد أن تكون مشروعة
,فإذا زعمنا أن أثراً أو مكاناً أو شخصاً فيه بركة وأن المتمسح به تناله
تلك البركة فعلينا أن نثبت هذا بالدليل الشرعي الصحيح .
13
فإثبات البركة لموضع من المواضع لابد أن يكون بدليل شرعي ولذلك
نثبت البركة لمكة والمدينة النبوية والمساجد وغيرها مما ورد الدليل
بوجود البركة فيه ,لكننا لا نقول بمشروعية التبرك فيه إلا بالوسيلة
الشرعية ,فمثل ًا التبرك بالمساجد الثلاثة يكون بشد الرحال إليها
والصلاة فيها هذا هو الذي جاء الدليل به أما أن نستحدث وسائل للتبرك
بتلك الأماكن لم يرد بها الدليل الشرعي فهذا لا يصح .
ولهذا سنستمر بإذن الله تعالى مع ابن خطار لننظر ماذا عنده
التبرك بسور القرآن الكريم :
قال ابن خطار " :التبرك بسور القرآن الكريم :عن عائشة رضي
الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان ينفث على نفسه في
المرض الذي مات فيه بالمعوذات ،فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن
وأمسح بيده لبركتها ) .
وفي رواية :قالت ( :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض
أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات ) ".
نقول :هذان الحديثان وغيرهما مما ثبت عن نبينا صلى الله عليه
وسلم فيه دلالة واضحة على فضل القرآن وبركته وهذا لا إشكال عندنا
فيه فما ثبت بالدليل الشرعي أثبتناه وآمنا به ,لكن السؤال الذي ُيطرح
على ابن خطار ومن يسير على نهجه؛ هل في هذا دليل على جواز
التبرك بالصالحين ؟
14
فكلام الله صفة من صفاته والبركة إنما هي من الله تعالى,
وخلافنا مع ابن خطار في طلب البركـة من المخلوق الذي لم يرد الدليل
بمشروعية طلب البركة منه ,أو طلبها بوسيلة غير شرعية ,فهذا
نطالبه بالدليل الشرعي على صحة دعواه ,فإن أتى به قلنا سمعنا
وأطعنا ,وإن لم يأت به رددنا قوله ولم نقبله .
ثم قال ابن خطار " :وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى
الله عليه وسلم ( :فاسترقوا لها فإن بها نظرة ) أي اطلبوا لها من
يرقيها .
وعنها أيضاً رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (:بها
نظرة فاسترقوا لها ) يعني بوجهها صفرة ".
نقول :الرواية الثانية وقع فيها سقط يجعل القارئ يظن أن قوله :
(يعني بوجهها صفرة) هو معنى قوله( :بها نظرة فاسترقوا لها) وليس
الأمر كذلك ,فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رأى جارية في
وجهها َسف َعة والسفعة هي صفرة في الوجه.
وهذا أيضاً دليل على مشروعية طلب البركة بالرقى الشرعية من القرآن
والسنة النبوية ,فلا شك أن الرقية من الصالحين تكون أبلغ من رقية
غيرهم ,لكن لابد أن تكون الرقية شرعية وتكون الوسيلة التي يتبعها
هذا الصالح في الرقية وسيلة شرعية أيضاً .
وليس في هذا الدليل الذي ذكره ابن خطار ما يدل على مشروعية طلب
البركة من الصالحين بذاتهم ,فالصالح يقرأ الرقية من القرآن والسنة
وببركة هذه الرقية يشفى المريض ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
15
(استرقوا لها ) ولم يقل اذهبوا إلى عبد صالح يمسح عليها وببركة هذا
الصالح سوف تشفى ,وإنما حث على الذهاب إلى الصالح ليرقيها
فيذهب ما بها ببركة تلك الرقية .
التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم :
تبرك أبي أيوب الأنصاري بقبر النبي صلى الله عليه وسلم :
قال ابن خطار " :التبرك بقبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :
عن داود بن أبي صالح قال ( :أقبل مروان يوماً فوجد رجل ًا واضع ًا
وجهه على القبر فأخذ برقبته وقال :أتدري ما تصنع ؟ قال :نعم فأقبل
عليه ،فإذا هو أبو أيوب الأنصاري فقال :نعم جئت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم آت الحجر ،سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول ( :لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ،ولكن ابكوا عليه إذا
وليه غير أهله ) .
والحديث فيه التجاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتمسحه بقبره الشريف " .
نقول :هذا الحديث الذي ذكره ابن خطار أخرجه الإمام أحمد في
مسنده ( )43133عن داود بن أبي صالح والمراد به الحجازي,
وأخرجه الحاكم في المستدرك ( )1776وقال عنه :حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه .ووافقه الذهبي في التلخيص .
16
وأخرجه الطبراني في الأوسط ( ,)6311وفي الكبير ( )3161عن
طريق شيخه أحمد بن محمد بن أحمد بن رشدين ثنا سفيان بن بشر ثنا
حاتم بن إسماعيل عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال :قال أبو
أيوب لمروان بن الحكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر
الحديث ,وليس فيه ِذكر القصة .
وأخرجه الطبراني أيضاً في الأوسط في موضع آخر ( )412بنفس
السند السابق لكن شيخه فيه هو هارون بن سليمان أبو ذر وليس فيه
ِذكر القصة أيضاً .
وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ( )6474الحديث كما في المسند
والمستدرك وقال(( :رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وفيه
كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره وضعفه النسائي وغيره)) .
يتضح مما سبق أن قصة وضع أبي أيوب الأنصاري لوجهه على
القبر تفرد بذكرها داود بن أبي صالح الحجازي وهي عند أحمد في
مسنده وعند الحاكم في مستدركه .وداود بن أبي صالح هذا قال عنه ابن
حجر في تهذيب التهذيب ((( : )613/3قرأت بخط الذهبي :لا ُيعرف))
وإذا كان هذا حكم الذهبي فيه فكيف يصحح حديثه ؟ .
الجواب :أنه ذهول ونسيان منه رحمه الله تعالى فوافق الحاكم على
تصحيح الإسناد مع أن فيه من لا ُيعرف .
وقال عنه ابن حجر في التقريب ( (( : )66/6مقبول )) .
أي حيث يتابع وإلا فهو ضعيف ولم يتابعه أحد في ذكر القصة وعلى
هذا فهي قصة ضعيفة .
10
وقول الهيثمي(( :وفيه كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره وضعفه النسائي
وغيره)) تقصير أو ذهول منه رحمه الله تعالى لأنه علل الحديث بكثير
بن زيد ,وذهل عن داود بن أبي صالح .
وعلى كل حال فالقصة ضعيفة لا تثبت ,هذا من حيث السند .
أما من حيث المتن فمن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ُدفن
في حجرة عائشة ولم يكن قبره صلى الله عليه وسلم بارزاً وعائشة
رضي الله عنها كانت تسكن في بيتها فكيف دخل أبو أيوب بيتها
وفعل ذلك؟!
وكيف جاءه فجأة مروان بن الحكم وفعل معه ما فعل ؟!
فإن قيل :ربما حصل ذلك بعد وفاة عائشة رضي الله عنها .
نقول :حتى بعد وفاة عائشة رضي الله عنها لم يكن القبر ظاهراً حتى
يحصل ما حصل ,هذا هو الجواب المتبادر ,فإذا تأملت في التاريخ فلا
يصح ما قيل فقد قال ابن كثير في البداية والنهاية ( )62/1عن وفاة أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها(( :وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة
ثمان وخمسين ,وقيل :قبله بسنة ,وقيل :بعده بسنة)) .وذكر في نفس
المصدر ( )76/1أن وفاة أبي أيوب الأنصاري كانت في سنة ثنتين
وخمسين ,وقيل :خمس وخمسين ,وقيل :قبلها بسنة ,وقيل :ثنتين
وأربعين ,وقيل :غير ذلك .ورجح الواقدي وابن كثير وابن الجوزي
أنه توفي سنة ثنتين وخمسين .
فأنت ترى أيها القارئ الكريم أن أبا أيوب الأنصاري قد توفي قبل
وفاة عائشة رضي الله عنها .
11
وعلى هذا فهذا يدل على ضعف هذه القصة من حيث المتن أيضاً .
فالخلاصة :أن القصة ضعيفة سنداً ومتناً .
ومع هذا فقد سرنا مع المؤلف فيما سبق على طريقة وهي :الإجابة على
دليله ولو كان ضعيفاً ,فنستمر على ذلك فنقول :
لو قلنا بصحة ما ذكرته عن أبي أيوب الأنصاري , فهو َف َع َل هذا مع
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ,ولم يفعله مع قبور الخلفاء الأربعة
الراشدين فمن أين أخذت جواز فعل ذلك حتى مع قبور الأولياء ؟!
تأمل أيها القارئ الدليل الذي استدل به خاص بقبر النبي صلى الله عليه
وسلم وهو لا يقف عنده بل يتعداه ليثبت جواز التبرك بكل قبر قيل فيه:
إن صاحب هذا القبر ولي ,فما هو دليله على هذا التعميم ؟.
ثم نقول :الذي ورد أن أبا أيوب الأنصاري وضع وجهه على القبر
,والذي يفعله الناس الآن عند القبور التي يزعمون أنها لأولياء أشد من
هذا وأكثر فهم يسثغيثون بصاحب القبر ويدعونه من دون الله تعالى
ويذبحون عنده ويتمرغون بترابه وينذرون له ,وكل هذا لم يقع من أبي
أيوب الأنصاري .
ثم نقول :هل يمكن أن يفعل الناس اليوم ما فعله أبو أيوب وهو وضع
وجوههم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
الجواب :لا ,لا يمكن ذلك وعلى هذا فلا يمكن العمل بهذا الحديث .
فإن قيل :هل تقولون بجواز فعل هذا مع قبر النبي صلى الله عليه وسلم
؟
11
نقول :لعلك نسيت أنا ذكرنا لك ضعف هذا عن أبي أيوب الأنصاري
فكيف نجيز عبادة ونشرعها بحديث ضعيف ؟!
ولو قلنا بصحة ذلك عنه فهو اجتهاد منه لم يوافقه عليه الصحابة
فقبر النبي صلى الله عليه وسلم موجود في المدينة فلو كان هذا مشروع
فكيف يترك الصحابة العمل به وهم أهل الهمة والحرص على ما يقربهم
إلى ربهم وهم أشد الأمة محبة لنبيها صلى الله عليه وسلم فيتركه
الجميع ولا يفعله إلا أبو أيوب فقط من دونهم ؟! .
بل لو كان التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم من الدين فلماذا ُيدفن
صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ولا ُيبرز قبره ليسهل على الناس
التبرك به ؟!
فما سبق يدل على عدم مشروعية التبرك بقبره صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت عندنا أن هذا الذي ُذكر عن أبي أيوب لم يصح عنه ,فهو
على هذا يوافق بقية الصحابة في عدم مشروعية التبرك بقبره صلى
الله عليه وسلم .
أرأيت أيها القارئ تبين لك الآن أن ابن خطار استدل بأثر ضعيف ومع
هذا لم يقف عند ما دل عليه بل تعداه وقاس عليه .
فلا علم بالحديث رواية ولا علم بالحديث دراية
فكيف َي ْن ُص ُر السن َة من كان هذا حاله؟!
20
تبرك ابن عمر بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم :
ثم قال ابن خطار " :وقال القاضي عياض ( :رؤي ابن عمر رضي الله
عنهما واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر
ثم وضعها على وجهه ) " .
نقول :هذا الأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ( )472/6قال:
((أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال أخبرني ابن أبي ذئب عن
حمزة بن أبي جعفر عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه
نظر إلى ابن عمر وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من
المنبر ثم وضعها على وجهه )) .
وأخرجه ابن حبان في كتابه الثقات ( :)6/2بنفس الإسناد السابق بدون
ذكر محمد بن إسماعيل .
وذكره القاضي عياض في كتابه الشفا ( )76/4كما نقل عنه ابن خطار
.
وإبراهيم بن عبد الرحمن ذكره البخاري في كتابه التاريخ الكبير
( )467/6ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديل ًا ,وكذلك ذكره أبو حاتم
الرازي في الجرح والتعديل ( )666/4ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديل ًا ,
وذكره ابن حبان في الثقات (. )6/2
وحمزة بن أبي جعفر ذكره البخاري في كتابه التاريخ الكبير ()76/3
ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديل ًا ,وكذلك ذكره أبو حاتم الرازي في
21
الجرح والتعديل ( )406/3ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ,وذكره ابن
حبان في الثقات (.)447/1
فلو قلنا بثبوت هذا عن ابن عمر فماذا فعل ابن عمر ؟ .
وهل فعل هذا مع قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟.
الجواب :لا ,لم يفعل ذلك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ,وإنما فعله
بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم .
وهل فعل هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
الجواب :لا ,لم يفعل ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم .
إذاً الذي فعله ابن عمر أنه وضع يده على شيء من آثار النبي صلى الله
عليه وسلم ووضع يده على وجهه فلم يستغث بالنبي صلى الله عليه
وسلم ولم يدعه ,هذا كل الذي فعله ولم يفعل هذا مع أحد غير النبي
صلى الله عليه وسلم .
فنقول لابن خطار :قف عند النص ولا تتعداه ,لماذا تقيس غير النبي
صلى الله عليه وسلم عليه وتزعم جواز التبرك بكل ولي وبقبر كل ولي
؟!
فنحن نتفق معك على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ,
لكن هل يوجد شيء من آثاره صلى الله عليه وسلم اليوم ؟ .
الجواب :لا يوجد ذلك .
22
وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نخالفك في قولك بجواز
التبرك بهم التبرك الذي لم يرد الشرع بجوازه ونطالبك بالدليل الشرعي
على جواز ذلك .
تبرك الصحابة برمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم :
ثم قال ابن خطار " :وروى القاضي عياض عن أبي قسيط والعتبي
( :كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد ج ُّسوا
رمانة المنبر التي تلي القبر بميامينهم ثم يستقبلون القبلة يدعون) .
وقال الملا علي القاري شارح الشفا :رواه ابن سعد عن عبدالرحمن
بن عبدالقاري .
وروى ذلك الشيخ ابن تيمية أيضاً عن الإمام أحمد أنه رخص في
التمسح بالمنبر والرمانة ،وذكر أن ابن عمر وسعيد بن المسيب
ويحيى بن سعيد من فقهاء المدينة كانوا يفعلون ذلك " .
نقول :هو ليس (أبي قسيط) كما نقله ابن خطار وإنما هو (ابن قسيط)
كما في المصنف لابن أبي شيبة ( , )67116وطبقات ابن سعد
( , )472/6بل وحتى في كتاب الشفا للقاضي عياض ( )76/4الذي
أحال إليه ابن خطار فالذي يظهر أنه نقل ذلك من غيره دون أن يكلف
نفسه الرجوع للأصل .
وليس لـ(العتبي) ذكر في المصنف ولا في الطبقات وإنما هو عندهم عن
(ابن قسيط) ,والذي ذكر (العتبي) القاضي عياض ,وأما ابن تيمية في
الفتاوى ( )430/6فإنه قال( :القعنبي) بدلاً من (العتبي) .
23
وقوله ( :كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد) هكذا
ذكرها القاضي عياض وكذلك ابن تيمية ,وفي المصنف بلفظ( :رأيت
نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ,وفي الطبقات بلفظ:
(رأيت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ,ولا شك أن
هناك فرق بين اللفظين ,فالأول :حكاية عن كل من كان موجوداً من
الصحابة في ذلك الوقت ,وأما اللفظ الثاني :فهو حكاية عن البعض لا
الكل .
فاللفظ الأول أقوى من حيث المعنى ,لكن القاضي لم يذكر من أين جاء
به فإذا علمت أيها القارئ أن القاضي عياض قد ولد سنة ( )221وتوفي
سنة ( )722كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ( , )447/64فلا بد
أن تعلم أنه نقل هذا الأثر من المصنف أو من الطبقات ,وليس فيهما هذا
اللفظ ,فدل هذا على عدم ثبوته.
ومع هذا نقول :إن صح هذا الأثر ففيه أن بعض الصحابة كان يفعل
هذا مع أثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلوا ذلك مع قبره
صلى الله عليه وسلم ولا فعلوه مع غيره صلى الله عليه وسلم ونحن
ذكرنا سابقاً جواز التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآثاره الباقية
وهذا الدليل والذي قبله يدل على ذلك ,فمن أين جئت بجواز هذا مع
غير النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
لا زلنا نطالبك بالدليل على ذلك
وقول ابن خطار( :وقال الملا علي القاري شارح الشفا :رواه ابن
سعد عن عبدالرحمن بن عبدالقاري) هذه العبارة ذكرها ابن خطار بعد
أثر ابن قسيط ,فالقارئ يظن أنه متعلق به ,وأن ابن سعد روى عن
24
عبد الرحمن بن عبد القاري أن الصحابة كانوا إذا خلا المسجد جسوا
رمانة المنبر ,وليس الأمر كذلك ,بل هذه العبارة متعلقة بأثر ابن عمر
السابق .
وإنما أردت بذلك أن يتبين للقارئ أن ابن خطار ـ للأسف ـ ليس عنده
علم بالحديث رواية ولا دراية ,وإنما ينقل عن غيره دون أن يحيل إلى
هذا الغير ,فيظن القارئ أن ابن خطار هو الذي استخرج هذه
المعلومات من بطون الكتب ,والأمر ليس كذلك ,ولهذا ينقل عن غيره
الصواب والخطأ .
فلو اقتصر الأمر على الأخطاء المطبعية لكان الأمر أهون ,لكن
المصيبة أنه ينقل الخطأ ويتبناه لفظاً ومعنى ,دون أدنى نقاش للمعاني ,
فمن كان هذا حالُه فليس أهلاً للحكم بين المتخاصمين في قضايا عقائدية
مهمة ,لكن التعصب لهذا الرأي هو الذي جعله ينقل عن غيره ممن
يوافقه دون النظر إلى أقوال المخالفين له ,فكان ابن خطار بفعله هذا
كلابس ثوبي زور ,والمتشبع بما لم ُيعطه.
وأما قوله( :وروى ذلك الشيخ ابن تيمية أيضاً عن الإمام أحمد أنه
رخص في التمسح بالمنبر والرمانة ،وذكر أن ابن عمر وسعيد بن
المسيب ويحيى بن سعيد من فقهاء المدينة كانوا يفعلون ذلك) .
فنقول :نعم قد ذكر ذلك الشيخ ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط
المستقيم (ص )317فقال(( :فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر
والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده ولم
يرخصوا في التمسح بقبره)) .
25
وإذا كان ابن خطار يحتج بكلام ابن تيمية فقد قال الشيخ ابن تيمية في
نفس المصدر السابق (ص(( :)311فأما اليوم فقد احترق المنبر وما
بقيت الرمانة ,وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة ,فقد زال ما ُر ِخص
فيه لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده)) .
فإذا كان ما ورد عن السلف إنما هو التبرك بآثار النبي صلى الله عليه
وسلم لا بآثار غيره وأنت ترى جوازه مع كل ولي وتستدل بفعل السلف
فهل أنت أعلم بدين الله تعالى منهم ؟! .
قصة طلب عمر أن يدفن بجوار صاحبيه :
ثم قال ابن خطار " :ولما حضرت الوفاة أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب قال لابنه عبدالله (:انطلق إلى أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها ،فقل :يقرأ عليك عمر السلام ،ولا تقل :
أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين ،وقل يستأذن عمر بن
الخطاب أن يدفن مع صاحبيه ،قال :فاستأذن وسلم ،ثم دخل عليها
وهي تبكي فقال :يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع
صاحبيه فقالت :كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما
أقبل ,قيل :هذا عبدالله بن عمر قد جاء ،فقال :ارفعوا فأسنده رجل
إليه ،فقال :ما لديك ؟ قال :الذي تحب ياأمير المؤمنين أذنت فقال :
الحمد لله ما كان شيء أهم إل َّي من ذلك فإذا أنا قبضت فاحملوني ،ثم
سلم وقل يستأذن عمر فإن أذنت لي فأدخلوني ،وإن ردتني فردوني
إلى مقابر المسلمين " .
26
نقول :لم يذكر ابن خطار وجه الاستدلال بهذه القصة في موضوع
التبرك ,والقصة تدل على ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
عندما دفن عثمان بن مظعون وعلَّم قبره بحجر قال(( :أتعلَّم بها قبر
أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)) , 1ففيه استحباب الدفن في مقابر
الصالحين كما استحب في الدنيا مصاحبتهم ,وفيه استحباب دفن
الأقارب بجوار بعضهم لتسهل زيارتهم والدعاء لهم ,فهل في هذا تمسح
وتبرك بذواتهم ؟.
تأمل أيها القارئ الكريم :حث الشرع على مصاحبة الصالحين,
وعلى اختيار الزوجة ذات الدين ,وعلى الحرص على تزويج صاحب
الخلق والدين ,وعلى طلب الذرية الصالحة ,فنقول لابن خطار :ماذا
تسمي هذا ؟ هل تسميه تبرك ؟ وهل هو من نوع التبرك الذي تدعو إليه
؟
إن كنت تسميه ( :تبرك ) فهو من التبرك المشروع الذي دل الدليل على
مشروعيته ,وإن كنت لا تسميه ( :تبرك ) فلا يصلح استدلالك بهذه
القصة .
1أبو داود (. )3206
20
نقل ابن خطار لقول بعض من يرى استحباب تقبيل حجرة النبي
صلى الله عليه وسلم ولمس قبره:
ثم قال ابن خطار " :وقال إبراهيم الحربي (:يستحب تقبيل حجرة
النبي صلى الله عليه وسلم ) وقال صاحب غاية المنتهى الشيخ مرعي
بن يوسف الحنبلي ما نصه (:ولا بأس بمس قبر بيد لا سيما من
ترجى بركته ) وقال المرداوي في الإنصاف ما نصه (:يجوز لمس
القبر من غير كراهية ) " .
نقول :هل قول إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى هو دليل شرعي أم أنه
يحتاج إلى دليل شرعي ؟
الجواب :أن كل عالم من العلماء لا تقوم الحجة بقوله ,وإنما تقوم
الحجة بما يذكره من الأدلة ,ومن المعلوم أن الاستحباب حكم شرعي لا
بد فيه من دليل ,فما هو دليل إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى على
استحباب هذا ؟ .
أيها القارئ الكريم :اعلم أن إبرهيم الحربي رحمه الله تعالى قد توفي
سنة ( )411كما قال ابن كثير في تاريخه ( )76/66أي أنه مضى
قرنان من الزمان لم يذكر أحد من الأمة ذلك ولم يفعله أحد ,فهل كان
إبراهيم الحربي على جلالته وعلمه أعلم من الصحابة والتابعين ؟ .
ونقول في قول الشيخ مرعي والمرداوي ما قلناه سابقاً :أن قولهم لا بد
له من دليل يدل عليه فما هو دليلهم على أنه يجوز مس قبر من ترجى
بركته ؟
21
تأمـل أيها المسلم :إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء
وسيد الأولياء لم تأت آية ولا حديث صحيح يدل على الحث على مس
قبره صلى الله عليه وسلم فكيف ُيقال هذا مع قبر غيره؟!
ولو كان هذا ُيف َهم من النصوص التي تجيز التبرك بآثاره صلى الله عليه
وسلم ,فلماذا لم يفهم الصحابة هذا ويعملوا به أم أن ابن خطار
وعصابته أعلم بالدين من أصحاب سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة
وأتم التسليم ؟! .
وتأمل الآن أيها المسلم قول النووي رحمه الله تعالى في مسألة مس قبر
النبي صلى الله عليه وسلم والتمسح به في كتابه الإيضاح (ص:)616
((يكره مسحه باليد وتقبيله ,بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد لو حضر
في حياته صلى الله عليه وسلم ,هذا هو الصواب ,وهو الذي قاله
العلماء وأطبقوا عليه ,وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم
ذلك ,فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء ولا يلتفت إلى
محدثات العوام وجهالاتهم ... ,ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه
أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته ,لأن البركة إنما هي في ما وافق
الشرع وأقوال العلماء ,وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب)) .
تمرغ بلال بقبر النبي صلى الله عليه وسلم :
ثم قال ابن خطار " :وقال السمهودي في وفاء الوفاء ما نصه ( :
لما قدم بلال من الشام لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أتى القبر
فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ) " .
21
نقول :قد تقول أيها القارئ :هذا هو الدليل الذي طلبته يدل على أن من
الصحابة من مرغ وجهه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أعظم
من مجرد المس .
أقول :وهل ثبت هذا ,ابن خطار ينقل هذا الأثر عن السمهودي فهل
هذا السمهودي من التابعين ,هل رأى بلالاً ونقل ذلك عنه أم أنه
نقله عن غيره؟
فإن زعمت أنه من التابعين فهذه مصيبة لأن السمهودي ولد سنة
( , )122فلماذا ينقل ابن خطار هذا الخبر عن السمهودي الذي عاش
في القرن التاسع ويحتج به ,دون أن يرجع إلى مصدره ليتأكد من
صحته ,هل ُيقبل هذا التصرف عند طلاب العلم ؟!
وإن قلت :بل نقله عن غيره .
نقول :من هو هذا الغير حتى ننظر هل يصح هذا الخبر أم لا ؟ .
وأقول لك أيها القارئ :لا تنتظر من ابن خطار أن يخبرك عن ذلك ,
لأنه يجمع ما يؤيد اعتقاده ورأيه بدون علم ,وإن أردت مثالاً أبرهن لك
فيه صحة ما أقول يضاف إلى ما سبق :تحدث ابن خطار عن موضوع
تقبيل اليد ثم قال(( :الأحاديث المعارضة للتقبيل والجواب عليها)) وذكر
هذه الأحاديث ثم قال(( :فالجواب على هذه الأحاديث :أنها ضعيفة لا
تصلح للمعارضة)) .
تأمل أيها القارئ لقد استشهد ابن خطار بأحاديث كثيرة ضعيفة عندما
تكلم عن التوسل وكذلك فعل عندما تكلم عن المولد ,فلماذا يحتج بها
وهي ضعيفة والضعيف لا يصلح للمعارضة كما قال ؟
30
الجواب :لأنها توافق هواه ,فإن خالفت هواه فهي ضعيفة .
وهذا فيه رد عليهم بأنكم تضعفون أحاديث كما يضعف غيركم فلماذا
تنكرون على من خالفكم بقولكم :يضعفون بهواهم .
فها أنتم وقعتم فيما تنكرونه على غيركم ,مع الفرق الكبير بينكم وبينهم
فأنتم تضعفون بالهوى وأهدرتم القواعد التي قعدها أهل الحديث ,وأما
هم فيضعفون ويصححون بالنظر إلى كلام أهل العلم بالحديث .
ثم قال ابن خطار في تمام كلامه السابق(( :أما الحديث الثاني فقد أورده
ابن الجوزي في الموضوعات ,وعن الدارقطني أنه قال في الإفراد:
الحمل فيه على يوسف بن زياد لأنه مشهور بالأباطيل ,ولم يروه عن
الإفريقي غيره ,وعن ابن حبان أنه قال في الإفريقي :يروي
الموضوعات عن الأثبات)) قرأت أيها المسلم كلام ابن خطار في سبب
تضعيف الحديث اقرأ الآن ما ذكره سابقاً في موضوع التوسل محتجاً
به ((:ومنها حديث سيدنا أبي أمامة عندما مر به سعيد الأودي ،أو
الأزدي ،وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فقال له :يا سعيد إذا م ُت فاصنعوا
بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (( :إذا مات أحدكم
فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل :يا فلان بن
فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ـ أي لا يستطيع الجواب ـ ثم ليقل :يا فلان
بن فلانة المرة الثانية فإنه يستوي قاع ًدا ،ثم ليقل يا فلان بن فلانة المرة
الثالثة فإنه يقول :أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون )) ..وقال
الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ما نصه (( :قوله :ويستحب أن
يلقن الميت بعد الــدفن ،وحديث التلقــين إسناده صالح وقد قـواه الضياء
في أحكامه )))).
31
هذا الحديث قال عنه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ( (( : )613/3رواه
الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم )) ،وقال النووي في
المجموع ( (( : )302/7إسناده ضعيف )) ،وضعفه الحافظ العراقي
في تخريج الإحياء ( ، )461/2وقال ابن القيم في زاد المعاد ()704/6
(( :لا يصح رفعه )) ،وقال الصنعاني في سبل السلام ((( : )74/6
ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا
يغتر بكثرة من يفعله )) .وقال العجلوني في ( كشف الخفاء )
( (( : )377/4وضعفه ابن الصلاح ثم النووي وابن القيم والعراقي
والحافظ ابن حجر في بعض تصانيفه وآخرون ))
فالحديث ضعيف لا يحتج به ولا يجوز العمل به فهو بدعـة كما قال
الصنعاني ـ رحمه الله تعالى ـ ،وأما قول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ
(( :إسناده صالح )) فهو مردود فالراوي عن أبي أمامة :سعيد بن عبد
الله الأودي أو الأزدي لم يترجم له الحافظ بجرح ولا تعديل و كذلك
الذهبي فهو رجل مجهول ،ولاحظ أيها القارئ الكريم قول الهيثمي (( :
وفي إسناده جماعة لم أعرفهم )) فكيف يكون إسناده صالح وفيه رواة لا
ُيعرفون ؟ .
ثم إن الحافظ ابن حجر نفسه قد ضعفه في بعض كتبه كما قال العجلوني
،وقول ابن الحجر بتضعيف الحديث هو الموافق للصواب .
أرأيت أيها القارئ هـؤلاء كلهم ضعفـوا الحديث ولم يلتفت ابن خطار
إلى قولهم ـ إن كان يعلم ذلك ـ لأنه قول لا يوافق هواه .
ثم بعد الذي ذكرناه نرجع إلى الأثر المروي عن بلال وهو أثر
طويل اختصره السمهودي وذكر منه هذا القدر فقط ,وهذا الأثر ذكره
32
ابن عساكر في تاريخ دمشق ( )631/7وقد ذكره ابن عبد الهادي في
الصارم المنكي (ص )437وبين ضعفه بياناً شافياً ,وابن عبد الهادي
هذا توفي سنة ( )722أي قبل أن يولد السمهودي بقرن وابن خطار
يعرف جيداً كتاب (الصارم المنكي في الرد على السبكي) ومع ذلك
أغفل كلامه وتعامى عنه لأنه لا يوافق هواه .
ولذلك أحيل القارئ إلى ذلك الكتاب وأنقل له قول ابن عبد الهادي
(ص(( :)426والحاصل أن مثل هذا الإسناد لا يصلح الاعتماد عليه
ولا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن)) .
وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان ((( :)607/6إبراهيم بن محمد
بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء فيه جهالة ..ترجم له ابن عساكر ثم
ساق من روايته عن أبيه عن جده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء في
قصة رحيل بلال إلى الشام وفي قصة مجيئه إلى المدينة وأذانه بها
وارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك وهي قصة بينة الوضع)) .
أرأيت أيها القارئ هذا الحافظ ابن حجر يحكم على القصة بأنها
موضوعة ,فهل سيرجع ابن خطار عن كلامه واحتجاجه بهذه القصة ؟.
بهذا تبين أن القصة ضعيفة من حيث السند .
أما من حيث المتن فنقول كما قلنا عند الرد على استدلاله بحديث أبي
أيوب الأنصاري كما مر في (ص :)61أن القصة ضعيفة المتن
أيضاً ,لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بارزاً حتى يأتي بلال
فيمرغ وجهه فيه ,بل ُدفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة
رضي الله عنها وقد كانت تسكن بيتها ,وقد ذكرنا متى توفيت,وأما بلال
33
فقد توفي قبلها بكثير حيث توفي سنة عشرين كما ذكر ابن كثير في
تاريخه (. )332/7
ومن المعلوم أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مرتفعاً ـ ولا زال
كذلك ـ فلو مرغ وجهه في التراب فسوف يحتاج إلى البروك على
الركب كهيئة الساجد فهل يصح السجود على القبر ؟! .
ومع كل ما ذكرناه نقول :لو قلنا بثبوت القصة فإنها خاصة بقبر النبي
صلى الله عليه وسلم وابن خطار يقول بجواز هذا مع قبور الأولياء كلهم
فمن أين جاء بهذا ؟ .
زعم ابن خطار أن ابن عمر وضع يده على قبر النبي صلى الله
عليه وسلم :
ثم قال ابن خطار " :وقد ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما
كان يضع اليمنى على القبر ,وأن بلال ًا وضع خديه عليه ".
نقول :أما ما ورد عن بلال فقد ذكرنا أنه لا يصح عنه .
وأما ما ورد عن ابن عمر فأين ورد ذلك ؟ .
لم يبين ابن خطار المصدر الذي ذكر ذلك عن ابن عمر ,فلماذا يذكر
أثراً من غير النظر إلى مصدره ؟
الجواب :لأنه يؤيد رأيه فهو حجة ولو حكم كل المحدثين بضعفه .
34
تأمل أيها القارئ ابن خطار كحاطب ليل يجمع من هنا وهناك ونحن
نتحمل البحث عن المصادر والبحث عن كلام العلماء فيه ,هل هذا هو
الأسلوب العلمي في نقاش المسائل الشرعية ؟! .إذا كان يحتج بهذا
الأثر فيجب عليه أن يتـثـبـت أول ًا من صحته ,ثم بعد ذلك يقول به ,
لأن هذا دين والمسلم يحرص على دينه ,ويتبع ما ثبت من الحق ,ولا
يجوز أن ينتصر لرأيه وهواه ,كما يفعل ابن خطار ومن معه .
هذا الأثر ـ أي أثر ابن عمر ـ أخرجه الإمام مالك في الموطأ ()367
برواية يحي الليثي ,و( )627برواية محمد بن الحسن ,وأخرجه
البيهقي ( , )60076وابن سعد في الطبقات ( , )671/2وابن أبي
شيبة ( , )66763وعبد الرزاق الصنعاني ( , )1742وابن حجر في
المطالب العالية ( , )6316وابن عبد البر في الاستذكار
( , )612/6كل هؤلاء الذين ذكروا هذا الأثر لم يذكروا فيه أن ابن
عمر كان يضع يده اليمنى على القبر ,بل جاء في السنن الصغير
للبيهقي ( )6374بعد أن ذكر الأثر باللفظ السابق قال(( :وفي رواية
أخرى :بدأ بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه وسلم ودعا
ولا يمس القبر)) ففيها التصريح بعدم مسه للقبر .
وأخرج هذا الأثر أيضاً إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم ( )600بنفس اللفظ السابق ثم أورد بعده ()606
أثراً عن إسحاق بن محمد قال حدثنا عبد الله بن عمر ـ أي العمري ـ عن
نافع (( :أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر ,صلى سجدتين في المسجد ,
ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيضع يده اليمنى على قبر النبي
35
صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم ثم على أبي بكر وعمر )) .
أرأيت أيها القارئ لم ترد هذه اللفظة التي استدل بها ابن خطار نقل ًا عن
غيره إلا عن طريق عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم ال ُع َمري
ال ُم َكـ َّبر قال عنه النسائي في الضعفاء والمتروكين ((( :)16/6ليس
بالقوي)) ,وذكره العقيلي في الضعفاء ( , )410/4وقد لخص الحافظ
ابن حجر القول فيه في التقريب (ص )362فقال(( :ضعيف عابد)) فإذا
كان هذا حاله وانفرد عن غيره من الثقات بلفظ كان هذا اللفظ منكر لا
يحتج به .
والأثر واضح الضعف أيضاً من حيث المتن كما ذكرنا سابقاً :أن قبر
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بارزاً حتى يستطيع ابن عمر أن يفعل
ذلك ,ولو كان هذا من الدين فلماذا يتفق الصحابة كلهم على عدم إظهار
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليتمكن المسلمون من التبرك به ,بل
يستمر قبره صلى الله عليه وسلم على مر العصور مستوراً عن الناس لا
يستطيعون الوصول إليه ,فلماذا يحصل هذا لو كان هذا من الدين ؟ .
فما استدل به ابن خطار لا يصح سنداً ولا متناً .
وبعد الذي سبق نقول :لو ثبت هذا الأثر فهو خاص بقبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلماذا تعمم الحكم بكل قبر ؟! .
36
استدلال ابن خطار بقول لابن حجر :
ثم قال ابن خطار " :وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (:استنبط
بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل يد الآدمي ) ".
نقول :لم يذكر ابن خطار مصدر هذه المعلومة .
ومع هذا نقول :من هم هؤلاء البعض الذين استنبطوا هذا ؟ .
وهل قولهم هذا من باب الاحترام والتقدير كما يقبل الإنسان يد والديه أم
هو من باب التبرك ؟ وماهو دليلهم على جواز التبرك بتقبيل يد هؤلاء ؟
.
أيها القارئ :ينقل طالب العلم كلام العلماء في المسائل الشرعية
ليؤيد صحة فهمه لنصوص شرعية وردت في المسألة ,ولا ينقل
كلامهم على أنه حجة في ذاته
ولذلك نحن نطالب من زعم جواز التبرك بتقبيل يد الآدمي بالدليل .
فإن قلت :هم أتوا بالدليل وهو القياس على مشروعية تقبيل الحجر
الأسود .
نقول :تقبيل الحجر الأسود قد جاء الدليل بمشروعيته ,فهل قاس عليه
السلف من الصحابة والتابعين هذا القياس مع وجود المقتضي لذلك وهو
وجود كبار الصحابة بينهم ؟ فإذا كانوا لم يقيسوا هذا القياس فهل الخلف
أعلم منهم بالنصوص وما ُيقاس عليها ؟!.
30
استدلاله بقول للإمام أحمد :
ثم قال ابن خطار " :وسئل الإمام أحمد عن تقبيل منبر النبي صلى الله
عليه وسلم وقبره فلم ير به بأساً " .
نقول :أيها القارئ ذكر ابن خطار أن المصدر الذي أخذ منه هذا
القول هو كتاب البداية والنهاية لابن كثير ( )1/4ولقد اجتهدت في
البحث عنها في الكتاب المذكور فلم أجدها ,ولا أظنه صدق في نقله فإن
هذا القول وقول ابن حجر السابق وما يأتي من قول ابن أبي الصيف قد
قاله ابن حجر في الفتح ( )277/3قال (( :استنبط بعضهم من
مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي
وغيره ,فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب ,وأما غيره فنقل
عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم
وتقبيل قبره فلم ير به بأساً ,واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك ,ونقل
عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل
المصحف ,وأجزاء الحديث وقبور الصالحين )) .
فليس هو من كلام ابن كثير كما نقل ابن خطار .
ومع هذا نقول :لو ثبت أن ابن كثير قاله فمن أين نقله ؟
إذا كان من هو أعلم منه بمذهب الإمام أحمد نقل خلاف ذلك فهذا ابن
قدامة الحنبلي في كتابه المغني ( )766/3يقول(( :ولا يستحب التمسح
بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله ,قال أحمد :ما أعرف
هذا قال الأثرم :رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي
31
صلى الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلمون قال أبو عبد الله :هكذا
كان ابن عمر يفعل قال :أما المنبر فقد جاء فيه)) ,فهذا ابن قدامة ينقل
عن الإمام أحمد أنه ما كان يرى مشروعية تقبيل القبر أما المنبر فإنه
يرى أنه لا بأس من تقبيله محتجاً بما ورد عن ابن عمر في ذلك .
وقال ابن تيمية في الفتاوى ((( :)76/47واتفق العلماء على أن من زار
قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين ـ
الصحابة وأهل البيت وغيرهم ـ أنه لا يتمسح به ولا يقبله بل ليس في
الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود ,وقد ثبت في
الصحيحين :أن عمر قال :والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا
تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت ـ اللذين
يليان الحجر ـ ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت
المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين حتى تنازع الفقهاء في
وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان
موجوداً ,فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة ,و ُذكر أن مالكاً لما رأى
عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ,ورخص فيه أحمد وغيره لأن ابن
عمر فعله ,وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله
فكلهم كره ذلك ونهى عنه)) أيها القارئ الكريم تأمل قول عمر :
((…ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك))
الذي يدل على كمال الاتباع والمحبة فهل َقبـَّل النبي صلى الله عليه وسلم
شيئاً من قبور الأنبياء لنفعل مثله صلى الله عليه وسلم ؟
31
وتأمل قول ابن تيمية(( :فكلهم كره ذلك ونهى عنه)) لو ثبت هذا عن
الإمام أحمد لكان ابن تيمية ـ وهو حنبلي المذهب مطلع عليه وعلى
غيره من المذاهب ـ أخبر به كما أخبر برأيه ـ أي برأي الإمام أحمد ـ
في وضع اليد على المنبر .
ولاحظ أيها القارئ أن ابن حجر ـ أو ابن كثير على زعم ابن خطار ـ
قالُ ( :نقل) من هذا الذي نقل عن الإمام أحمد هذا القول ؟
ومع هذا نقول :لو ثبت هذا عن الإمام أحمد فمن المعلوم أن الإمام
أحمد متمسك بالمأثور وحريص عليه ولا يتكلم في شيء إلا إذا ثبت عن
السلف ,فإن كان يرى مشروعية تقبيل المنبر فقد علمنا دليله ,فما هو
دليله على جواز تقبيل القبر ؟ .
استدلاله بقول ابن أبي الصيف :
ثم قال ابن خطار " :ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء
مكة من الشافعية :جواز تقبيل المصحف ,وأجزاء الحديث وقبور
الصالحين " .
نقول :ما هو دليله على ما يقول ؟
وهل كون العالم من أهل مكة يخول له أن يتكلم في الدين بغير حجة ولا
برهان؟!
وإن كان ابن أبي الصيف من الشافعية فقد سبق أن ذكرنا قول إمام من
أئمة الشافعية وهو النووي حيث قال في قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
40
((((يكره مسحه باليد وتقبيله ,بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد لو حضر
في حياته صلى الله عليه وسلم ,هذا هو الصواب ,وهو الذي قاله
العلماء وأطبقوا عليه)) فإذا كان هذا قوله مع قبر النبي صلى الله عليه
وسلم فما بالك بقبر غيره ؟ .
وإذا كن َت يا ابن خطار لم تستطع أن تأتي بدليل صحيح صريح يجيز
تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فمن أين ستأتي بدليل على جواز
تقبيل قبر غيره ؟ .
وهل كان الصحابة يقـ ِّبلون قبور من مات منهم كشهداء أحد ؟ .
وهل كان التابعون يقـ ِّبلون قبور الصحابة ؟ .
وهل كان الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقـ ِّبلون
قبور الصالحين ؟ .
فعلماء مكة والمدينة بل كل الحجاز والشام واليمن وغيرها في عهد
الصحابة والتابعين لم يفعلوا ذلك ولم يأمروا به وقد مر معنا قريباً قول
ابن تيمية(( :وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله فكلهم
كره ذلك ونهى عنه)) .
استدلاله بقول للمحب الطبري :
ثم قال ابن خطار " :ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه
يجوز تقبيل القبر ومسه ،وقال :وعليه عمل العلماء الصالحين " .
41
نقول :من هم هؤلاء العلماء الصالحون ؟ هل هم من الصحابة ؟ أم
هم من التابعين ؟ أم من الأئمة المتبوعين ؟
هذه الدعوى التي ُيفهم منها نقل إجماع العلماء على جواز تقبيل القبر
ومسه تحتاج إلى دليل لإثباتها .
ثم نحتاج أن نعلم هل هو نقل لإجماعهم على فعل ذلك مع قبر النبي
صلى الله عليه وسلم فقط ,أم مع قبر كل ولي كما هو ظاهر اللفظ ؟
فإن قيل :هو خاص بقبر النبي صلى الله عليه وسلم .
قلنا :هذا الإجماع المزعوم لا ُيقبل ,إذ كيف ُيقبل وقد انتهى عصر
الصحابة والتابعين وهم لا يفعلون ذلك ولا يرونه من الدين ,فكيف
يصح إجماع يخالف
ما كان عليه السلف ؟!
وإن قيل :هو عام بقبر كل ولي .
نقول :كيف ُيجمعون على إحداث عبادة لم يرد بها دليل من القرآن ولا
من السنة ولا من فعل الصحابة ,وإذا كان هذا لا يفعل مع قبر نبينا
صلى الله عليه وسلم ,فكيف يصح فعله مع غيره ؟!
ولو تأملت أيها القارئ تجد أن الناشري عاش في القرن التاسع والمحب
الطبري في القرن الثامن فمن أين أخذ الناشري هذا القول ؟
ومع هذا نقول :اجتمع عندنا نقل إجـماعين أو اتفاقين متعارضين فهذا
الطـبري ينقل الجواز ـ مع أن قوله هذا يحتاج أن نتحقق من ثبوته عنه ـ
42
,وابن تيمية ـ كما سبق ـ ينقل المنع ,وكذلك النووي ينقل المنع كما مر
معنا (ص , )46فأي الإجماعين نقدم وبأي الرأيين نأخذ ؟
لا يجوز لنا أن نتعصب لأحدهما ونقدم قوله بغير دليل ,ولذلك سنطرح
القولين ونبحث في الأدلة هل هناك ما يدل على جواز ذلك ؟
إلى الآن لم يثبت شيء شرعي يدل على جواز ذلك فالأصل المنع حتى
يأتي الدليل بالجواز لأن هذا من العبادة والعبادة لا تثبت إلا بدليل .
إلى هنا انتهى كلام ابن خطار على مسألة التبرك بقبر النبي صلى الله
عليه وسلم ولم يأت بدليل شرعي أو بنقل صحيح عن الأئمة من
الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين بجواز ذلك بل الذي ثبت لنا من
خلال ما سبق أنه لا يجوز ذلك لعدم الدليل عليه ويدل على ذلك أن القبر
منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا وهو في حجرة عائشة رضي الله عنها
غير ظاهر للناس فلو كان التبرك به من الدين لأظهره الصحابة حتى
يتمكن الناس من التبرك به ,فلما أجمع الصحابة على عدم إظهار قبره
صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه لا يجوز التبرك به ,فكيف يجوز
التبرك بغيره ؟!
التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم :
قال ابن خطار " :التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم :ومن حديث
أنس (: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة
فرماها ،ثم أتى منزله بمنى ونحر ،وقال للحلاق :خذ ،وأشار إلى
جانبه الأيمن ثم الأيسر ،ثم جعل يعطيه الناس ) .
43
وقد جاء في رواية حفص بلفظ (:فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة
والشعرتين بين الناس ثم بالأيسر فصنع مثل ذلك )ومن حديث أنس
أيضاً قال (:لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة نحر
نسكه ثم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ،فأعطاه أبو طلحة لأم سليم
بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه ،فقال
:اقسم بين الناس ) ".
نقول :التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم أمر جاء به النص
الشرعي ولذلك نحن نسلم بذلك ونقول سمعنا وأطعنا ,فالدين دين الله
يشرع ما يشاء ويمنع ما يشاء ونحن عبيده نسمع ونطيع .
فهل ثبت عندكم بدليل شرعي صحيح كهذا جواز التبرك بشعر غيره
عليه الصلاة والسلام ؟
ثم قال ابن خطار " :وعن محمد بن سيرين قال :قلت لعبيدة :عندنا
من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قبل أنس ـ أو من قبل
أهل أنس ـ ،فقال ( :لأن تكون عندي شعرة منه أحب إل َّي من الدنيا
وما فيها ) " .
نقول :كما قلنا سابقاً أنهم ما فعلوا ذلك بشعر غيره فهذا ابن سيرين
يفتخر بوجود شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وعبيدة يغبطه
على ذلك ولم يذكر أحد منهما شعر أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي
أوغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ,فهل في الأمة من هو
أفضل من الصحابة ؟ .
44
ثم قال ابن خطار " :وعن عثمان بن عبدالله بن موهب قال :أرسلني
أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء ،فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر
من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وكان إذا أصاب الإنسان عين أو
شيء بعث إليها ِمـ ْخـ َضبة .قال فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات
حمراء ) قال الإمام الحافظ ابن حجر في الفتح :وقد بينه وكيع في
مصنفه فقال (:كان جلجل ًا من فضة صيغ صوناً لشعرات النبي صلى
الله عليه وسلم التي كانت عند أم سلمة ،والجلجل ـ هو شبه الجرس
يتخذ من الفضة أو الصفر أو النحاس ،وقد تنزع منه الحصاة التي
تتحرك فيه فيوضع فيه ـ ما يحتاج إلى صيانته) .
وقال الإمام العيني :وبيان ذلك على التحرير :
أن أم سلمة رضي الله عنها كان عندها شعرات من شعر النبي صلى
الله عليه وسلم حمر في شيء مثل الجلجل ،وكان الناس عند مرضهم
يتبركون بها ،ويستشفون من بركتها ،ويأخذون من شعره ويجعلونه
في قدح من الماء ،فيشربون الماء الذي فيه الشعر ،فيحصل لهم
الشفاء ،وكان أهل عثمان أخذوا منها شيئاً وجعلوه في قدح من فضة
فشربوا الماء الذي فيه فحصل لهم الشفاء ثم أرسلوا عثمان بذلك
القدح إلى أم سلمة ،ووضعته في الجلجل ،فاطلع عثمان في الجلجل ،
فرأى فيه شعرات حمراء .
قوله (:وكان إذا أصاب الإنسان إلى آخره ) كلام عثمان بن عبدالله بن
موهب :أي كان أهلي كذا فسره الكرماني ،وقال بعضهم :وكان إذا
أصاب الإنسان :أي منهم ،والذي قاله الكرماني أصوب يبين به أن
الإنسان إذا أصابه عين أو شيء من الأمراض بعث أهله إليها .أي
45
إلى أم سلمة ،مخضبة ـ بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح
الضاد المعجمة والباء الموحدة ـ وهي الإجانة ويجعل فيها ماء وشيئاً
من الشعر المبارك ،ويجلس فيها فيحصل له الشفاء ،ثم يرد الشعر
إلى الجلجل ) " .
نقول :وهذا ـ كما سبق ـ خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن
الصحابة أقروا ذلك مع شعر النبي صلى الله عليه وسلم ,ولم يفعلوا
ذلك مع غيره ولم يحثوا على فعل ذلك مع غيره فنحن نقف مع الدليل
وندور حيث دار ونتجه حيث اتجه فهل تفعلون ذلك أنتم أم تتقدمون على
الدليل وتفعلون ما يمليه عليكم الهوى ؟ .
ثم قال ابن خطار " :وعن جعفر بن عبدالله بن الحكم أن خالد بن
الوليد قد فقد قلنسوة له يوم اليرموك .فقال :اطلبوها فلم يجدوها
فقال :اطلبوها فوجدوها فإذا هي قلنسوة خلقة ـ أي ليست بجديدة ـ
فقال خالد :اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر
الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة
فلم أشهد قتال ًاوهي معي إلا رزقت النصر " .
نقول :لا زالت الأدلة تتحدث عن شعر النبي صلى الله عليه وسلم
وليس فيها ذكر لشعر غيره فنحن متفقون على جواز التبرك بشعره عليه
الصلاة والسلام .
هذا على القول بثبوت هذا الأثر عن خالد فقد أخرجه الطبراني في
الكبير ( , )3102وأبو يعلى ( , )7613والحاكم في المستدرك
( )7466وقال الذهبي معلقاً عليه في التلخيص (( :منقطع )) ,
والمنقطع من قسم الحديث الضعيف .وأخرجه الهيثمي في مجمع
46
الزوائد ( )67114ثم قال(( :رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما
رجال الصحيح ,وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فلا أدري سمع
من خالد أم لا ؟ )) وهذا الأثر مداره على جعفر بن عبد الله .
فالذهبي أثبت عدم سماع جعفر من خالد , والهيثمي يقول(( :فلا
أدري سمع من خالد أم لا)) .ومن علم حجة على من لم يعلم وعلى هذا
فهذا الأثر ضعيف بسبب الانقطاع كما قال الذهبي رحمه الله تعالى .
ثم قال ابن خطار " :وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ما نصه :
( قال عبدالله بن أحمد :رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله
عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها ،وأحسب أني رأيته يضعها على
عينيه ،ويغمسها في الماء البارد ويشربه ويستشفي به ،ورأيته
يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه .وقد ثبت
أن عبدالله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم
ويمس الحجرة النبوية ،فقال :لا أرى بذلك بأساً ) .
وفي البداية والنهاية لابن كثير ما نصه (:قال أحمد :فعند ذلك قال لي
:يعني قال له المعتصم حين طالبه بالقول بخلق القرآن فامتنع أحمد:
لعنك الله ،طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني ،ثم قال :خذوه واخلعوه
واسحبوه ،قال أحمد :فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين
والسياط وأنا أنظر ،وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه
وسلم مصرورة في ثوبي فجروني منه وصرت بين العاقبين ) " .
40
نقول :ما نقله عبد الله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد وكذلك ما نقله
ابن كثير ليس فيه جديد إنما فيه التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا لا خلاف بيننا فيه .
وقد مر معنا أن الإمام أحمد أجاز التبرك برمانة منبر النبي صلى الله
عليه وسلم ,ولم يرد فيه ذكر للحجرة النبوية وقد ذكرنا قول ابن قدامة
في المغني(( :ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ولا تقبيله ,قال أحمد :ما أعرف هذا)) .
وقول ابن تيمية(( :ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم
ركني البيت ـ اللذين يليان الحجر ـ ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم
ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين حتى تنازع
الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما كان موجوداً ,فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة ,و ُذكر أن مالكاً لما
رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ,ورخص فيه أحمد وغيره لأن
ابن عمر فعله ,وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله
فكلهم كره ذلك ونهى عنه)) .
ويؤيد قول الشيخين ما صح في مسند الإمام أحمد ( )6177وغيره (( :
أن ابن عباس رضي الله عنهما طاف مع معاوية بالبيت فجعل
معاوية يستلم الأركان كلها ,فقال له ابن عباسِ :لـ َم تستلم هذين الركنين
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما فقال معاوية :ليس
41
شيء من البيت مهجوراً ,فقال ابن عباس :لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة ,1فقال معاوية :صدقت )) .
فهل يقول الإمام أحمد بمشروعية مس حائط الحجرة النبوية وهو ممن
أخرج هذا الحديث ؟!
ثم تأمل أيها القارئ الكريم ُينكر ابن عباس على معاوية استلامه أركان
الكعبة كلها لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فما هو رد
معاوية ؟
قال :صدقت .انظر كمال الاتباع شيء لم يرد عن النبي صلى الله عليه
وسلم فكيف يكون من الدين ؟!
ولذلك سنقول لابن خطار ومن معه هل مس رسول صلى الله عليه وسلم
قبور الأنبياء أوقـ َّبلها ؟ هل حثنا على فعل ذلك ؟ هل فعله الصحابة مع
قبره صلى الله عليه وسلم ؟ .
أليس لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ؟ .
فليت ابن خطار ومن معه يقتدون بالصحابة الكرام في وقوفهم مع
الأدلة وحرصهم على تطبيق السنة فيكفوا عن الأقوال والأعمال التي لم
يعملها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحث عليها .
ثم قال ابن خطار " :وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في
طهارة الشعر ( :إن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره بين
أصحابه .قال أنس :لما رمى النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبه
1
41